من الصعب أن تجد في التاريخ شخصية تعرضت للافتراء أكثر مما تعرض له فلاديمير إيليتش لينين. فقد تم اتهامه بأنه دكتاتوري وقاتل وكلبي وغير أخلاقي، وأي تهمة أخرى قد تتبادر لذهنك. وهذا ما تفعله كل التيارات السياسية تقريبا، من اليمين المحافظ إلى الليبراليين والإصلاحيين واللاسلطويين. ولسوء الحظ، فقد ساهمت عقود من الدكتاتورية الستالينية في الاتحاد السوفياتي في انتشار هذا الصورة المشوهة.
[نشرت المقالة في الأصل على موقع marxist.ca]
لا شيء من تلك الاتهامات ينطبق على لينين الحقيقي. فلينين هو مؤسس الحزب الأكثر ثورية في التاريخ، والمنظر الماركسي المتميز، وزعيم أول ثورة عمالية منتصرة في العالم، إن مساهمة لينين في الحركة الشيوعية عظيمة جدا. وهذا هو بالضبط سبب كره الطبقة السائدة له اليوم.
إن معرفة أفكار لينين الحقيقية أمر ضروري لأي شخص يرغب في رؤية ثورة شيوعية منتصرة اليوم. في عام 2024، الذي يمثل الذكرى المائوية لوفاة هذا الثوري العظيم، سنوفر مساحة في صفحات جريدتنا “الثورة الشيوعية” [جريدة الفرع الكندي للتيار الماركسي الأممي] لكتاباته، ولتعريف قرائنا بالأفكار التي يمكن أن تغير العالم. وعلى الرغم من الافتراءات والأكاذيب والتشويهات الكاريكاتورية، فقد صمدت اللينينية أمام اختبار الزمن.
حزب ثوري مكافح
كانت أعظم مساهمة للينين في الحركة الشيوعية هي إصراره على ضرورة الحزب الثوري من أجل النجاح في الإطاحة بالرأسمالية. وهذا هو ما نهدف، نحن منظمة الثورة الشيوعية، إلى بنائه اليوم.
في عام 1900، أسس لينين صحيفة إيسكرا، والتي سيتم بناء الحزب الثوري حول رايتها. وعند إعلان إصدارها قال إنه يجب علينا «توحيد وتوجيه كل جهودنا نحو تشكيل حزب قوي يجب أن يناضل تحت الراية الواحدة للاشتراكية الديمقراطية الثورية» (كان مصطلح “الاشتراكية الديمقراطية الثورية” هو المصطلح السائد آنذاك للحديث عن الماركسية).
لا يمكن لمثل هذه المنظمة الماركسية أن يتم ارتجال بناءها في زمن الثورة؛ يجب أن يتم بناؤها مسبقا. يشرح لينين ذلك في مقاله “من أين نبدأ؟”، قائلا:
«إن بناء منظمة كفاحية والقيام بالتحريض السياسي أمران ضروريان في ظل أي ظروف “سلمية رتيبة”، في ظل أي فترة، بغض النظر عن مدى تميزها “بتراجع الروح الثورية”؛ وعلاوة على ذلك، فإنه في مثل هذه الفترات بالتحديد، وفي مثل هذه الظروف بالتحديد، يكون هذا النوع من العمل ضروريا بشكل خاص، لأنه سيكون قد فات الأوان لتشكيل المنظمة في أوقات الانفجارات والهبات؛ يجب أن يكون الحزب في حالة استعداد لبدء النشاط في أي لحظة».
لقد تم تأكيد فكرة لينين من خلال أكثر من مائة عام من الثورات.
الطبقة العاملة هي طبقة خلقتها الرأسمالية. وهي الطبقة التي، من خلال قوتها العددية المطلقة ومكانتها في الإنتاج، لديها القدرة على الإطاحة بالنظام الرأسمالي، وإقامة مجتمع خال من الاستغلال: المجتمع الشيوعي. وقد نهضت للنضال مرات لا تحصى في التاريخ، في مختلف البلدان الواحد منها تلو الآخر. لكن التاريخ يظهر أن الثورة لا يمكنها الإطاحة بالرأسمالية بشكل عفوي. لتحقيق النصر لا بد من حزب ثوري، وهو ما لا يمكن ارتجاله في خضم المعركة.
قبل عشر سنوات من الثورة الروسية عام 1917، أكد لينين على أهمية السنوات الأولى من جهود البناء، حيث قال:
«لقد ناضلت إيسكرا من أجل منظمة من الثوريين المحترفين… وحافظت عليها في مواجهة الانقسام اللاحق في صفوف إيسكرا وكل التشنجات التي حدثت خلال فترة العاصفة والتوتر؛ وحافظت عليها طوال الثورة الروسية [الثورة المهزومة عام 1905]؛ لقد حافظت عليها سليمة من 1901-1902 إلى 1907».
فقط إنشاء مثل ذلك الحزب الثوري هو ما جعل انتصار عام 1917 ممكنا. وبفضل خبرة 20 عاما في بناء الحزب، وتطوير المنظورات والتكتيكات لكسب العمال لقضيتهم، نجح البلاشفة في إيصال الطبقة العاملة إلى السلطة.
مهمتنا هي نفسها. فعاجلا أم آجلا، سوف تكون هناك انتفاضات ثورية في كندا. لذا يجب أن يوجد حزب شيوعي ثوري بشكل مسبق إذا كنا نريد تحقيق النصر. ما زلنا الآن قوة صغيرة، لكن العمل الذي نقوم به اليوم هو ما سيضمن النصر غدا.
الكوادر الماركسية
مهمة بناء الحزب لا يمكن تركها للصدفة. لن يتم ذلك بشكل عفوي، أو بدون احترافية وجدية وتضحية. لقد أكد لينين على ضرورة إنشاء منظمة كفاحية من “الثوريين المحترفين”، المتمكنين من النظرية الماركسية والمستعدين لتكريس أنفسهم بالكامل للنضال، أي من نسميهم اليوم: الكوادر الماركسية.
في السنوات الأولى للحركة الماركسية الروسية، اندلع جدل بين لينين وبين من يسمون بـ”الاقتصادويين”. اعتقد هؤلاء الأخيرون أن دور المناضلين الشيوعيين هو ببساطة مرافقة العمال في نضالاتهم اليومية المباشرة. لقد حولوا النضال الاقتصادي “العفوي” للعمال إلى صنم، وقللوا من أهمية “السياسة”. ونظروا إلى النضال النظري بازدراء.
ما تزال هذه التيارات موجودة إلى حد كبير اليوم. فالعديد من المجموعات “الاشتراكية” و”الشيوعية” تنظر إلى دراسة النظرية الماركسية بازدراء تام. يزعمون أنه ليس من واجبنا “تعليم” العمال، وأن المسائل النظرية لا تهم العمال على أي حال. إنهم لا يدركون أن هذا الموقف موقف يحتقر العمال بشكل لا يصدق. إن اللينينية هي نقيض هذه التحيزات البغيضة.
وفي كتابه “ما العمل؟” أكد لينين على ضرورة قيام الشيوعيين ليس فقط بدعم العمال في نضالاتهم، بل بالعمل على توسيع آفاقهم، وربط نضالاتهم المباشرة بنضال أوسع ضد الرأسمالية.
وللقيام بذلك يكون من الضروري القيام بدراسة النظرية الماركسية وتطبيقها على الصراع الطبقي. وكما قال لينين في عبارته الشهيرة: “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية”.
إن البرنامج الشيوعي هو نتيجة تعميمات مستمدة من تاريخ النضال العمالي. إن منظوراتنا مبنية على فهم ديناميات الاقتصاد الرأسمالي، والصراعات بين الإمبرياليات، وتاريخ الصراع الطبقي بشكل عام. نحن لا شيء بدون أساس النظرية الماركسية ودراستها الدقيقة.
من واجب كل شيوعي أن يقوم بدراسة جادة لهذه الأفكار. هذه هي الطريقة التي سننشئ بها حزبا من الكوادر القادرة على تنسيق جميع جهود الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة.
وفي مواجهة هذا الإصرار على النظرية الماركسية، كثيرا ما نسمع الفكرة التالية: لماذا لا يعمل “اليسار” ببساطة على توحيد صفوفه؟ ألا يمكننا أن نترك خلافاتنا “الصغيرة” جانبا؟ والحقيقة هي أن المجموعات أو المنظمات التي “تتوحد” من خلال تنحية الخلافات جانبا، إما أن تفعل ذلك استنادا إلى أدنى قاسم مشترك، أو أن الخلافات الجوهرية الموجودة بينها تعود إلى الظهور عند كل خطوة وتتسبب في شل العمل. وقد رد لينين على هذا الموقف بما يلي:
«قبل أن نتحد، ولكي نتمكن من الاتحاد، يجب علينا أولا أن نرسم خطوطا ثابتة ومحددة. وإلا فإن وحدتنا ستكون وهمية بحتة، وسوف تخفي الارتباك السائد وتعرقل القضاء عليه بشكل جذري».
وفي حين أننا نحن اللينينيين مستعدون دائما للعمل مع التيارات الأخرى الموجودة داخل الحركة، فإننا نتمسك بأفكارنا وهويتنا الشيوعية المستقلة، واثقين من قدرتنا على كسب الشباب والعمال.
ليست للشيوعيين أية أوهام. ففي الأوقات العادية نحن أقلية. الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة السائدة. فإذا اخترت أن تكون شيوعيا فهذا يعني أن تكون مستعدا لأن تكون أقلية طيلة جزء كبير من حياتك. لكن الرأسمالية تخلق باستمرار ظروف الأزمة التي تدفع العمال إلى رفض النظام القائم والبحث عن بديل. ونحن نعيش في مثل هذا الوقت الآن. فبعد مرحلة تاريخية من العزلة، صار التيار الآن يصب في اتجاه الشيوعيين. صار الملايين من الشباب في جميع البلدان ينفتحون على الشيوعية.
إن الظروف التي ستجد فيها أفكار ماركس ولينين صدى هائلا، تزهر أمام أعيننا. فإذا بنينا أنفسنا ككوادر ماركسية، واتحدنا في منظمة واحدة، فإن المستقبل لنا.
الأممية
الاشتراكية إما أن تكون أممية وإلا فهي لا شيء. وبدون انتصار الطبقة العاملة في بعض البلدان، على الأقل، سيكون من المستحيل بناء الاشتراكية. وقد أظهرت تجربة الاتحاد السوفياتي ذلك بوضوح. فحتى في منطقة تغطي مساحتها سدس الكوكب، تبين أن فكرة ستالين عن “الاشتراكية في بلد واحد” كانت مجرد وهم.
كان لينين طوال حياته يرى نفسه ليس كمناضل روسي، بل كان يرى نفسه جنديا في الحركة العمالية العالمية. وقد كان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي كان يبنيه هو الفرع الروسي للأممية الاشتراكية، التي أسسها إنجلز في عام 1889.
ومع تركيزه على روسيا، لم يغفل لينين أبدا عن حقيقة أن النضال في روسيا كان مرتبطا بنضال العمال في جميع أنحاء العالم. لقد توقع لينين إمكانية أن تبدأ الثورة في روسيا، لكن ولكي تنتصر، لا بد أن تمتد الثورة إلى جميع أنحاء العالم.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وجد لينين نفسه، باعتباره أمميا، في عزلة. وبينما كان البلاشفة قد صلبوا أنفسهم في النضال ضد الدولة القيصرية والطبقة السائدة الروسية، فقد كانت الأحزاب “الاشتراكية” الأخرى في جميع أنحاء أوروبا معتادة على نحو متزايد على عقد الصفقات والتسويات مع طبقاتها السائدة.
والتعاون الطبقي، الذي كان يتم في وقت السلم، امتد إلى وقت الحرب، وفي وقت قصير استسلمت غالبية الاشتراكيين في العالم للشوفينية الوطنية. وباستثناء الفرعين الروسي والصربي، فقد دعمت جميع الفروع الوطنية للأممية الاشتراكية برجوازيتها في الحرب. وهكذا فقد انهارت “الأممية الاشتراكية” بشكل مخزي.
كان لينين من بين الأقلية الصغيرة التي قاومت الشوفينية، ودعت إلى بناء أممية جديدة. في شتنبر 1915، اجتمعت تلك المجموعة الصغيرة في زيمروالد، سويسرا، لحضور مؤتمر للأمميين الأوروبيين. وفي إطار التحضير للمؤتمر، كتب لينين:
«من المفهوم تماما أنه لإنشاء منظمة ماركسية أممية، يجب أن يكون هناك استعداد لتشكيل أحزاب ماركسية مستقلة في مختلف البلدان. […] لا نعلم، ولا نستطيع أن نعلم، ما هي التطورات التي ستحدث على الساحة الأممية خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن هناك شيء واحد نعرفه على وجه اليقين، ونحن مقتنعون به بشكل لا يتزعزع، وهو أن حزبنا، في بلدنا، بين البروليتاريا لدينا، سيعمل بلا كلل في الاتجاه المذكور أعلاه، وسيبني بكل أنشطته اليومية الفرع الروسي للأممية الماركسية».
ورغم أن تلك “الأممية الماركسية” لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فإن لينين رأى نفسه عضوا في مثل تلك المنظمة! كانت الروح الأممية تتخلل كل حياة لينين وأعماله.
وبعد عامين من زيمروالد، في عام 1917، كان البلاشفة قد استولوا على السلطة، وغيروا اسمهم إلى الحزب الشيوعي، وأعلنوا بصوت عال أن الثورة الاشتراكية العالمية قد بدأت. وفي مارس 1919، تأسست الأممية الشيوعية، وظهرت الأحزاب الشيوعية في كل البلدان. تلك الأممية جعلت البرجوازية ترتعد في كل مكان.
إذا كان هناك شيء واحد لطخته الستالينية، فهو هذا التقليد الأممي الذي تفتخر به. لقد قام ستالين بنفسه بحل الأممية الشيوعية، في عام 1943، كبادرة صداقة مع الإمبرياليين الغربيين.
أما الأحزاب الشيوعية المتبقية اليوم فقد تشبعت بالتحيزات القومية للطبقات البرجوازية السائدة في بلدانها. والمثال النموذجي عن هذه الظاهرة هو الحزب الشيوعي البريطاني، الذي يتبنى بشكل مخزي “الوطنية التقدمية”. لا تنتمي تلك الأحزاب إلى أممية مشتركة، ناهيك عن أن العديد منها لم يعودوا يتحدثون إلا بين الحين والآخر عن النضال ضد الرأسمالية.
إن المناضلين المنتظمين داخل منظمة الثورة الشيوعية لا يشكلون مجرد منظمة وطنية. نحن أعضاء التيار الماركسي الأممي في كندا. وفي حين أن اليسار في كل مكان لا يستطيع أن يرى أبعد من أنفه، فإننا ننتمي بكل فخر إلى منظمة أممية حقيقية.
إن الانضمام إلى صفوف الثورة الشيوعية يعني أولا وقبل كل شيء الانضمام إلى صفوف منظمة شيوعية عالمية تضم آلاف الأعضاء. إننا نناضل في بلداننا ببرنامج وأفكار مشتركة مع رفاقنا في جميع أنحاء العالم، والتي نشأت نتيجة لعقود من الخبرة المتراكمة. وهذا يمنحنا جميعا الثقة بأننا سننتصر.
التغلب على كافة العقبات
من المستحيل إعطاء اللينينية حقها الكامل في هذا المقال القصير. لا توجد طريقة للتعرف على لينين أفضل من قراءة النصوص التي لا تعد التي تركها وراءه حول جميع المواضيع التي يمكنكم تصورها. إنها إرث ثمين. نحن نخطط هذا العام لإعادة إصدار نصوص للينين، والتي نأمل أن تساعد في تثقيف مئات الشيوعيين في جميع أنحاء كندا.
وإذا كان هناك شيء واحد يميز اللينينية، فهو الإرادة الحديدية للتغلب على جميع العقبات التي تواجهنا، والثقة التي لا تتزعزع في الطبقة العاملة والشباب.
لقد كان لينين طوال حياته هو الصوت الذي يهز رفاقه، ويحثهم على مضاعفة طاقتهم لبناء الحزب الثوري. وفي خضم ثورة 1905، كان غاضبا من سلبية البلاشفة أمام التجذر الجماهيري. وقد كتب في رسالة إلى أحد الرفاق:
«الناس في روسيا كثيرون؛ كل ما يتعين علينا القيام به هو كسب الشباب على نطاق أوسع وبجرأة أكبر، بجرأة أكبر وعلى نطاق أوسع، ومرة أخرى على نطاق أوسع ومرة أخرى بجرأة أكبر، دون خوف منهم. هذا وقت الحرب. إن الشباب -الطلاب، وخاصة العمال الشباب- سوف يقررون نتيجة النضال برمته. تخلصوا من كل العادات القديمة المتمثلة في عدم الحركة، واحترام الرتب، وما إلى ذلك. قوموا بتكوين مئات الحلقات من الفبريوديين بين الشباب وشجعوهم على العمل بأقصى طاقتهم […] يجب علينا أن نعمل، بسرعة شديدة، على توحيد جميع الأشخاص ذوي المبادرات الثورية وندفعهم إلى العمل».
هذه السطور مشبعة بحس الاستعجال بشأن تنظيم الشباب والعمال. ويتوجب علينا اليوم، كما في السابق، أن نتشبع بهذا الاحساس، وأن نعمل جاهدين لبناء منظمة شيوعية. لن يقوم أحد بذلك من أجلنا.
إن النظام الرأسمالي يجرنا إلى الهاوية. لم يسبق لنا منذ أجيال أن شهدنا مثل هذا الخراب الاجتماعي، أو مثل هذا الارتفاع في معدلات الفقر، أو مثل هذا البؤس واللامساواة. لكن أزمة الرأسمالية تمهد الطريق لمرحلة ثورية، حتى هنا في كيبيك وكندا.
إن انتصار الثورة سيعتمد على قدرتنا على إنشاء حزب شيوعي ثوري في الوقت المناسب، كما فعل لينين والبلاشفة في الماضي. إذا كنتم متفقين معنا حول هذا المشروع فلا تنتظروا، انضموا إلى مناضلي ومناضلات الثورة الشيوعية اليوم!
جوليان أرسينو
21 يناير/كانون الثاني 2024