يوم الأحد، 07 يناير، تعرض الصحفيان الفلسطينيان حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا، للقتل على إثر غارة جوية إسرائيلية على جنوب قطاع غزة، بينما كانا يقودان سيارتهما لإجراء مقابلات مع ضحايا قصف سابق. وبمقتل هؤلاء الصحفيين يرتفع العدد الإجمالي للصحفيين الذين قتلوا خلال ثلاثة أشهر من الحرب التي تشنها إسرائيل إلى 79 صحفيا على الأقل، وهو أعلى رقم سجل في أي عام من الصراع في بلد واحد، وأكثر من كل الصحفيين الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية.
إن حملة القتل الواسعة للصحفيين يشكل جريمة حرب وقحة، يتم تنفيذها دون أي رد فعل من جانب حلفاء إسرائيل الإمبرياليين “الديمقراطيين”.
تسعى إسرائيل إلى إسكات أولئك الذين ينشرون تقارير عن فظائعها في غزة، وذلك لكي تتمكن من الاستمرار في تنفيذ نكبتها الجديدة تحت جنح الظلام. وهي تشعر بالجرأة لعلمها أنها تستطيع التصرف دون عقاب، ودون أي عواقب في ظل ما يسمى بالنظام العالمي القائم على قواعد الشرعية البرجوازية.
عمليات القتل المتعمد
في البداية، وكما هي العادة دائما، حاولت إسرائيل أن تتبرأ من هذه الجرائم. قال مارك ريجيف، الذي هو أحد كبار مستشاري رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ردا على عمليات القتل الأخيرة:
“إن القول بأن إسرائيل تستهدف الصحافة عمدا هو أمر مثير للسخرية، فنحن الدولة الوحيدة [في الشرق الأوسط] التي تكرس حرية الصحافة”.
لقد اتبعت تصرفات إسرائيل نمطا يمكن التنبؤ به. ففي البداية حاولوا تبرير جريمة القتل، زاعمين أن الضربة الصاروخية القاتلة على السيارة التي كانت تقل حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا كانت تقل “مشغل طائرات إرهابي”.
وبسبب عدم قدرتهم على تقديم أي دليل على مزاعمهم، تراجعوا بعد ذلك إلى القول إن الصحفيين كانوا ببساطة يشبهون الإرهابيين لأنهم سبق لهم تشغيل كاميرا طائرة مسيرة. وقد كانت هذه وظيفة الدحدوح وثريا، لكونهما مصوري فيديو ومشغلي كاميرات.
وبنفس الطريقة تقريبا، سبق لإسرائيل أن بررت جرائم قتل الصحفيين السابقة بالقول إنهم كانوا “مسلحين بكاميرات“. ما الذي يمكن قوله عن النظام والجيش الذي يعتبر الكاميرا، المصممة لتوثيق الحقيقة، سلاحا؟
يبدو أن هذه العمليات هي حملة اغتيال متعمدة لصحفيين بارزين. خاصة وأن حمزة هو الابن الأكبر لمدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح. وقد سبق لوائل نفسه أن أصيب في غارة جوية أثناء تغطيته لقصف مدرسة حيفا. كما سبق له أن فقد زوجته و13 من أقاربه في الهجمات الإسرائيلية، بما في ذلك ابنته البالغة من العمر سبع سنوات وحفيده البالغ من العمر سنة واحدة. كما أنه ليس الصحفي الوحيد الذي تم استهداف عائلته.
وبالإضافة إلى عمليات القتل الصريحة، أصيب 16 صحفيا، وتم الإبلاغ عن ثلاثة في عداد المفقودين، واعتقال 21 آخرين، وتدمير 50 مكتبا إعلاميا مختلفا.
ولتكملة عمل القنابل، يتم إخضاع الصحافة أيضا للرقابة من خلال وسائل أكثر تقليدية. ففي أكتوبر، أصدرت الحكومة الإسرائيلية قانونا يسمح لها بإغلاق القنوات الإخبارية التي “تضر بالروح المعنوية الوطنية“. ويُمنع الصحفيون الأجانب من دخول القطاع إلا بمرافقة الجيش الإسرائيلي وإذا وافقوا على فحص الجيش لصورهم قبل نشرها. حتى أن وزير الاتصالات الإسرائيلي وضع لوائح تستهدف ثالث أكبر صحيفة في إسرائيل -صحيفة هآرتس- بسبب “دعايتها الانهزامية والكاذبة“، على الرغم من أن مجلس الوزراء لم يوافق على ذلك.
وفي إسرائيل وغزة والضفة الغربية، واجه المراسلون اعتداءات وهجمات إلكترونية وتهديدات. وفي تل أبيب، اضطر أحد الصحفيين، الذي أعرب عن تضامنه مع الفلسطينيين، إلى الاختباء بعد أن تعرض منزله لهجوم من قبل حشد من اليمينين المتطرفين.
هذه هي حقيقة معقل “الديمقراطية” و”حرية التعبير”. لدى إسرائيل تاريخ طويل ودموي في التعامل مع منتقدي احتلالها المستمر منذ 75 عاما. فبين عامي 2000 و2021، قُتل 30 صحفيا على يد الجيش الإسرائيلي، بمن في ذلك شيرين أبو عقلة، التي قُتلت في عام 2021 على يد قناص من الجيش الإسرائيلي. وفي الأسبوع التالي، تعرضت جنازتها لهجوم من قبل الشرطة الإسرائيلية.
عندها، ومثلما كان الحال مع عمليات القتل الأخيرة، نفى الجيش الإسرائيلي في البداية مسؤوليته، مدعيا أن أبو عقلة قُتلت على يد مسلحين فلسطينيين؛ قبل أن يزعم أنها أصيبت “عن طريق الخطأ” برصاص قناص إسرائيلي. ورفضت إسرائيل إجراء تحقيق مستقل في ملابسات مقتل أبو عاقلة، ولا نتوقع شيئا مختلفا في قضية الدحدوح وثريا.
ولم تتم مساءلة أي شخص على الإطلاق عن هذه القائمة التي لا نهاية لها من الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، والتي بلغت أبعادا مقززة تماشيا مع المذبحة العشوائية الحالية.
دموع التماسيح الإمبرياليين
لقد وضعت هذه الفظائع المتصاعدة الأميركيين في موقف محرج. وذلك ليس لأي أسباب أخلاقية إذ أن الولايات المتحدة هي التي وضعت المثال بقتل الصحفيين في العراق، بل لأن تهور إسرائيل يثير معارضة كبرى من جانب الجماهير في مختلف أنحاء العالم، ويحمل في طياته خطر إشعال صراع أوسع نطاقا. كما أن تجاهل إسرائيل للقوانين الدولية يفضح طبيعة قوانين المؤسسة الرأسمالية باعتبارها مجرد خدعة.
إن حقيقة وجود وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في قطر للمشاركة في مفاوضات تهدف إلى تهدئة التوترات وقت مقتل الصحفيين في هيئة الإذاعة القطرية الرئيسية كانت مفيدة للغاية للإسرائيليين. لقد كانوا يعرفون بالضبط من كانوا يستهدفون. ومن المحتمل أن تكون هذه جريمة قتل كلبية تهدف إلى بعث رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها: “عندما تتفاوضون، تذكروا أنكم تحتاجون إلينا، وسوف تستمر هذه الحرب إلى أن نقرر نحن إيقافها”.
ولحفظ ماء الوجه، قال بلينكن إن وفاة حمزة الدحدوح كانت “مأساة لا يمكن تصورها”، وأضاف أن “عددا كبيرا جدا من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء” قد لقوا حتفهم في هذه الحرب. ومع ذلك فإنه لن يتم اتخاذ أي إجراء وسيستمر المال والسلاح والدعم السياسي في التدفق على إسرائيل.
ورغم أن الأميركيين قد لا يوافقون على الطريقة التي تنفذ بها إسرائيل المذبحة، فإن إسرائيل تمثل حليفا رئيسيا لمصالحهم في الشرق الأوسط، مما يعني أنه يمكن تبرير أي تجاوزات من جانبها.
وعلى حد تعبير جو بايدن في عام 1986 فإن:
“ثلاثة مليارات دولار سنويا لإسرائيل هي أفضل استثمار تقوم به أمريكا. ولو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان على أمريكا أن تخترع إسرائيل لحماية مصالح أمريكا في المنطقة”.
ولتسهيل خدمة تلك المصالح، تم فرض السيطرة على “الصحافة الحرة” في العالم الغربي. لقد بثت وسائل الإعلام البرجوازية كل أنواع الأكاذيب من أجل إخفاء الحقيقة، وانهالت حملة غير مسبوقة من التشهير والرقابة على النشطاء والصحفيين المؤيدين للفلسطينيين، بمن في ذلك رفاقنا في بريطانيا.
فلنقارن ذلك بحرب أوكرانيا، التي تم خلالها رفع العلم الأصفر والأزرق فوق كل المباني الحكومية في الغرب! كما ذرفت الطبقات السائدة الغربية الدموع بغزارة على الصحفيين السبعة عشر الذين قتلوا في أوكرانيا. وتصدرت كل جرائم الحرب التي ارتكبها بوتين (سواء الحقيقية أو المتخيلة) عناوين الأخبار في الصفحات الأولى.
واليوم، ترتكب إسرائيل مجزرة واسعة النطاق، وتحطم الأرقام القياسية في قتل الصحفيين، في حين تقف إلى جانبها بشكل كامل تلك التي تسمى “أرض الأحرار”. كما أن هؤلاء المنافقين الوقحين في هيئات التحرير في الصحافة الغربية قد التزموا الصمت بشكل كامل بشأن مقتل زملائهم في فلسطين.
الحل؟
وردا على عمليات القتل الأخيرة، نشرت قناة الجزيرة بيانا جاء فيه:
“إن اغتيال الزميلين مصطفى وحمزة اللذين كانا في طريقهما لتأدية عملهما في القطاع، يؤكد من جديد ضرورة اتخاذ كافة الإجراءات القانونية الفورية واللازمة بحق قوات الاحتلال لضمان عدم الإفلات من العقاب”.
لكن من سينفذ تلك الإجراءات القانونية في حالة ما إذا تم اتخاذها؟ بالتأكيد ليست هيئة بلا أسنان مثل الأمم المتحدة. خلال الخمسين سنة الماضية، عرقلت الولايات المتحدة 53 قرارا من قرارات الأمم المتحدة التي تدين إسرائيل.
إسرائيل قوة إمبريالية، تدعمها وتمولها أكثر القوى رجعية وتسليحا على هذا الكوكب. ولن يغير ذلك أي قدر من الإدانات الأخلاقية أو القانونية.
إن القوة الوحيدة القوية بما يكفي لمحاسبة هؤلاء المجرمين المسلحين هي الطبقة العاملة العالمية، من خلال نضالها الموحد من أجل الإطاحة بالنظام الرأسمالي الفاسد الذي يسعى لإخفاء جرائمه تحت كومة من الجثث.
جوناثان هينكلي
12 يناير/كانون الثاني 2024
ترجم عن موقع “الدفاع عن الماركسية”:
Israel murders ‘record-breaking’ number of journalists in Gaza