الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الحروب والثورات / مصر: الذكري العاشرة للاطاحة بالإخوان المسلمين، محاولة لفهم ما جرى

مصر: الذكري العاشرة للاطاحة بالإخوان المسلمين، محاولة لفهم ما جرى

تمر علينا اليوم الذكرى العاشرة للإطاحة بالإخوان المسلمين من الحكم، بعد أن نزل عشرات الملايين من المصريين إلى الشوارع في كل مدن مصر تقريبًا، فيما أصبح يعرف بثورة 30 يونيو.

تمر علينا تلك الذكرى بكثير من التشوش والتخبط، نظرًا إلى ما آلت إليه الأحداث بعدها من ترسيخ دعائم ديكتاتورية عسكرية شرسة هي الأكثر انحطاطًا على الإطلاق، حيث يجري التنكر منها وتمني لو إنها لم تحدث من قبل البعض، وحيث يجري تذيلها والتغني بأسى على الماضي المجيد المُفترض الذي ولى من قبل البعض الأخر، وهؤلاء هم -في غالبيتهم- الذين باعوا الجماهير في صفقات قذرة مع البيروقراطية العسكرية وكانوا يطمحون أن يحصلوا على نصيب من ترتيبات مع بعد الإطاحة بالإخوان المسلمين، لكن كالعادة جرى التخلص منهم بمجرد انتهاء الحاجة إليهم. وتقع الجماهير ما بين هذا وذاك.

نحن بحاجة لتناول تلك الأحداث المهمة والفاصلة من منظور ماركسي لكي نبدد الغيوم الكثيفة، أن نميز بشكل واضح بين ما هو تقدميًا وما هو رجعيًا فيها، وأن نفهم كيف آلت الأمور إلى ما آلت إليه، وهذا ليس للبكاء على الأطلال وجلد الذات وإنما لنفهم الماضي ونتعلم من أخطائه ونستوعب دروسه ونحن ننظر للمستقبل.

الموقف من الإخوان المسلمين

يحدد الماركسيون موقفهم من القوى المختلفة على أساس طبقي، لا على أساس مَن في المعارضة ومَن في الحكم، ولا على أساس مَن يجتذب الجماهير في اللحظة المعينة ومَن لا، ولا على أساس الانطباعات والتخمينات، ولا على أساس مَن يضطهَد ويقمَع مَن في هذه اللحظة، بل على أساس أي المصالح الطبقية التي تمثلها وتدفع من أجلها القوى المختلفة، على أساس مصالح الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية. هذا فقط هو أساس السياسة الماركسية.

الإخوان المسلمون يدافعون عن اقتصاد السوق، هم جزءً من النظام الرأسمالي، وحتى حدود الصدام الكبير الذي حدث في 2013 كانوا جزءً من الطبقة السائدة المصرية، حيث جرى مصادرة جزء كبير من أملاكهم الاقتصادية بعد الإطاحة بهم، جزء كبير من قادتهم كانوا رجال اعمال وتجار كبار، مثل حسن مالك وخيرت الشاطر وغيرهما، كونوا تلك الثروات من الخليج، عملوا ضمن دولة مبارك وكانوا يستحوذون على حصة من السوق المصري، وبشكل خاص في القطاع التجاري.

الحقيقة أن كل ما كان يزعج الإخوان المسلمين من نظام مبارك هو أنهم كانوا يريدون حصة أكبر من السوق، بصفتهم جزءً من الطبقة السائدة، كخطوة لتلبية طموحهم السياسي بأن يكون لهم السوق كله في التوقيت المناسب وعندما تحين الفرصة لذلك، وهو ما كان دائمًا يؤدي لصدام بينهم وبين أغلبية الطبقة السائدة التي كانت ومازالت حتى الآن ترتضي بالدولة وبيروقراطيتها العسكرية ضابطًا لها. وقد بدأوا يضيقون ذرعًا بتلك الضبطية العسكرية.

وهو ما عبر عنه حسن مالك، أحد أكبر رجال أعمال الإخوان المسلمين، بعد الثورة في 2011 حينما صرح إن: “سياسات مبارك الاقتصادية صحيحة لكن شابها الفساد“، أي أن مشكلتهم هو عدم إشراكهم بالقدر الكافي وإشراك رجال الأعمال أصدقاء السلطة أكثر، وليس في السياسات الاقتصادية والمصالح الطبقية التي تبناها ودافع عنها نظام مبارك والتي كانت على الضد من مصالح أغلبية الجماهير، وفاقمت الفقر والبطالة والتهميش، وأدت لاندلاع الثورة في النهاية.

وهذا ما ظهر أيضًا في الاتفاقات العديدة التي كانت بين دولة مبارك والإخوان المسلمين، وعدم دعمهم لثورة 25 يناير في البداية، ومحاولة التفاوض مع عمر سليمان، ثم الاتفاق مع المجلس العسكري، وهي كلها تعبيرات عن مصالح طبقية لفئة رأسمالية تريد الوصول للسلطة، أو على الأقل أن تكون جزءً منها.

لقد استطاع الإخوان المسلمين أن يحصدوا رصيدًا شعبيًا معينًا بين الجماهير في فترة حكم حسني مبارك لعدة أسباب: تمدد الجماعة عن طريق مؤسساتها الاقتصادية وجمعياتها الخيرية في كل القرى والمدن والجامعات، وبالسيطرة على المساجد، وبتبني دعاية شعبوية دينية مناهضة للغرب ولإسرائيل، واستنادها على الدعاية الدينية المؤثرة في شرائح عديدة في المجتمع، يتم السيطرة عليهم بمزيج من المعارك والوعود الدينية بتطبيق الشريعة وسيادة العالم والفوز بالجنة، وبعض الروشاي الحياتية -المعنوية والمادية- الأخرى، هذا في ظل إفلاس اليسار وانهياره.

بالفعل خلال عقود كان الإخوان المسلمين يحتفظون لأنفسهم بهالة من “النضالية” الممزوجة ب”القداسة”، حيث يعارضون نظام حسني مبارك وفساده بشكل علني، ويصارعون في الانتخابات البرلمانية ويزاحمون الحزب الوطني ورجال أعماله، وفي نفس الوقت يرفعون شعار “الله غياتنا.. الرسول قدوتنا .. القرأن دستورنا .. الجهاد سبيلنا .. الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، وهو ما سمح لها أن تصور نفسها أنها المعارضة الوحيدة في البلد. لكن في النهاية التجربة هي المحك، والتجربة أظهرت أنهم لا يهتمون إلا بما يحقق مصالحهم الضيقة في السيطرة على زمام الأمور، بصفتهم جزءً من الطبقة السائدة.

وهذا ما تجلى حينما تولوا السلطة، حيث دافعوا عن كل سياسات مبارك الاقتصادية واستمروا على نفس النهج، من الانحياز لمصلحة رجال الأعمال، وبشكل أكبر رجال أعمالهم، وتحميل الفقراء ثمن أزمة النظام الرأسمالي، والتوجه لصندوق النقد الدولي، وغيرها من الإجراءات الاقتصادية الرأسمالية. وبالطبع تم اعتماد نفس السياسات الخارجية التي كان يعتمدها مبارك مع بعض التنويعات، لأنه في النهاية السياسة الخارجية هي امتدادًا للسياسة الداخلية، وهو ما كان امتدادًا للعلاقة القديمة والوثيقة بين الإخوان المسلمين والإمبريالية.

ومن المهم أن نتذكر أن تيار الإخوان المسلمين أمميًا يرتبط بالرأسمالية العالمية عن طريق رأسمال الخليجي والتركي وغيره، ويمتلك شركات واستثمارات عديدة، هذا بخلاف الأموال الطائلة في الملاذات الضريبية والبنوك الإسلامية. وسوف يستخدم الإخوان المسلمين في مصر تلك الإمكانات الاقتصادية الهائلة بالطبع في التوقيت المناسب لإعادة مركزة أنفسهم اقتصاديًا وماليًا وسياسيًا.

الإخوان المسلمون ليسوا تيارًا إصلاحيًا، هم ليسوا مثل الإصلاحيين اليساريين في حزب العيش والحرية أو حتى الإصلاحيين التقليديين في التحالف الشعبي الاشتراكي وغيرهم، هؤلاء هم الإصلاحيين الذين لا يرون أفق وإمكانية لإسقاط النظام الرأسمالي فأصبحوا يهدفون فقط لإدخال بعض الإصلاحات والتحسينات عليه دون تجاوزه، إنما الإخوان المسلمين لا يهدفون لإدخال إصلاحات على النظام الاقتصادي والسياسي اصلاً، وإنما يهدفون للسيطرة عليه، وإدخال الصبغة الإسلامية الخاصة بهم عليه وعلى المجتمع كله.

هذا على المستوى الاقتصادي والطبقي، أما على المستوى الاجتماعي فهم تيارًا دينيًا محافظًا ورجعيًا، لديه وجهات نظر رجعية فيما يخص النساء والأقليات الدينية والحريات الشخصية…الخ، أنه ليس حتى تيارًا ديمقراطيًا، فهم يستخدمون الديمقراطية بانتهازية ولا يؤمنون بها حقًا، إن هدفهم في النهاية هو هدف أصولي بتطبيق الشريعة الإسلامية، ودخلوا في صدام مجتمعي مع جماهير لم تكن دينية الهوى بالشكل والمستوى الذي أعتقده الكثيرون، ولم تتقبل الصبغة الإسلامية التي جاءوا بها.

ولهذا من غير المستغرب أنهم أثاروا حفيظة الجماهير، التي كانت ثقتها في نفسها في أوجهها حينها. والحقيقة أن أيًا كان من تولى السلطة حينها كان سيتعرض للاختبار القاسي والسريع من قِبل الجماهير، وهو ما حدث مع الإخوان المسلمين، حيث أثاروا استياء الجماهير منذ بداية حكمهم، ودُفعت الجماهير للتحرك بشكل تلقائي ضدهم.

ولأن الإخوان المسلمين لا يمثلون الجماهير ومصالحها فقد اعتمدوا على جهاز الدولة لقمع الجماهير، وهو ما أدي لمقتل 470 شهيدًا في عام حكم محمد مرسي، متفوقين بذلك على شهداء عهد المجلس العسكري الذين بلغوا 438 شهيدًا. ثم هل علينا السيسي وتفوق على الجميع في القمع والقتل، حتى على الخيال، بعدد مهول من القتلى من المستحيل حصرهم، ومازال عداد القتلى والمضطهَدين لم يتوقف حتى الآن.

إعتماد الإخوان المسلمين على جهاز الدولة لقمع الجماهير ليس خطئًا عارضًا منهم، بل هو ناتج عن المصالح الطبقية التي يمثلونها والتي هي على الضد من مصالح الجماهير، بجانب مشروعهم الإجتماعي الديني، فلم يكن أمامهم سوى القمع، لا سواء بيد الدولة أو بيد مليشياتهم ومليشيات أصدقائهم الإسلاميين الأكثر رجعية ووحشية منهم.

باختصار، الإخوان المسلمين هم تيارًا رأسماليًا رجعيًا لا يمكن أن يكون حليفًا للطبقة العاملة والجماهير، تيارًا مناهضًا للثورة، تيارًا دينيًا مناهضًا للأخوة بين العمال، مناهضًا لقيم التقدم والحداثة، وبالطبع مناهضًا للاشتراكية.

خيانة اليسار

لقد عانت الثورة المصرية منذ بدايتها من ضعف قوى اليسار بكل أشكاله وتلويناته، ولأن السياسة لا تقبل الفراغ، فقد كان هذا الضعف والغياب دائمًا ما يتم ملأه بقوى معادية للثورة والطبقة العاملة، حتى وإن كانت تتمسح فيها أحيانًا كثيرة.

لقد انقسم اليسار في مصر إلي معسكرين كبيرين رئيسيين: معسكر داعم للدولة والجنرالات، بدعوى مواجهة الإخوان المسلمين وحكمهم الظلامي والدفاع عن مدنية الدولة، ومعسكر آخر داعم للإخوان المسلمين، وإن بشكل مسترر، بدعوى الدفاع عن الديمقراطية ومواجهة الجنرالات.

المعسكر الأول، المعسكر الداعم للجنرالات، هم الستالينيون، في الحزب الشيوعي وحزب التجمع، تابعين الدولة دائمًا، والإصلاحيون والناصريون، من أمثال حمدين صباحي وكمال أبو عطية وغيرهم، الذين وضعوا أيديهم في أيدي الإخوان المسلمين لحمايتهم من بطش دولة مبارك، ثم وضعوا أيديهم جميعًا في أيدي الليبراليين وفلول دولة مبارك والجنرالات في مواجهة الإخوان المسلمين، وفي وسط ذلك خانوا الجماهير التي كانت تثق فيهم.

هؤلاء هم الخونة الذين خانوا الثورة والجماهير وسلموها على طبق من فضة للسيسي، الذين كانوا ينسقون مع الأجهزة الأمنية من خلال جبهة الإنقاذ، وهي كانت جبهة لإنقاذ النظام، جبهة للتحكم في الجماهير وكبح حركتها، هؤلاء هم الذين استدعوا الجيش للتدخل ظنًا منهم أنه سوف يطيح بالإخوان المسلمين ويسلم لهم السلطة بعدها عن طيب خاطر. والآن ها هم منزون في بيوتهم يلهثون وراء أي قطعة لحم تقدمها لهم السلطة، فاقدين للشريعة والتأثير والمصداقية والشرف.

والمعسكر الثاني، معسكر دعم الإخوان المسلمين في مواجهة الجنرالات، وهو المعسكر الذي يتزعمه الاشتراكيين الثوريين في مصر، الذين ارتكبوا واحدة من الكبائر في النظرية الماركسية بدعمهم للإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية في 2012، بدعوى أهون الشرين، وهو ما يمهد الطريق دائمًا لظهور شر أعظم، وهذا ما حدث بالفعل، حيث إن دعم الإخوان المسلمين ووصلهم للحكم هو الذي مهد الطريق لصعود السيسي في النهاية.

أكبر خطأ يمكن أن يرتكبه أي ماركسي هو أن يخلط بين راية الثورة وراية الثورة المضادة، وهو ما ارتكبه قادة الاشتراكيين الثوريين حينها، وما يزالون يرون أنه صحيح، بدعوى محاربة أحمد شفيق. كان أحمد شفيق هو المرشح المفضل للطبقة السائدة التقليدية في مصر بالطبع حينها، لكن محمد مرسي لم يكن يمثل الثورة إلا في أعين الوعي المشوش، وبالطبع لم يكن يمثل مصالح الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية. هذا خطأ لا يجب أن يقع أي شخص يدعي تبنيه للماركسية فيه.

تحجج حينها قادة الاشتراكيين الثوريين، كما يفعلون دائمًا، لتبرير ذلك الدعم وتلك النظرة الخاطئة تمامًا، بأن الإخوان المسلمين لديهم عمال وفقراء في صفوفهم ولابد من التواصل معهم لتبرير دعمهم لهم. وهذا صحيح لابد من كسب العمال والفقراء من صفوف الإخوان المسلمين لصف الراية العمالية والثورة الاشتراكية، ولكن هذا ليس عن طريق التحالف مع قادتهم وتذيلهم، وإنما بالاشتباك المضني في الصراع الطبقي اليومي وإتباع نصيحة لينين “اشرح بصبر”، والتقدم يدًا بيد مع الجماهير المتأثرة بالإخوان المسلمين حينها وهي تتعلم من مدرسة الأحداث رجعية الجماعة، وهو ما حدث بالفعل ولكن بمعزل عن قوى اليسار. إن الطريق الوحيد لكسب الفقراء والعمال من الإخوان المسلمين، كان ولا يزال، هو ببناء البديل اليساري العمالي.

وحتى بعد وصول الإخوان المسلمين للسلطة لم يعمد قادة الاشتراكيين الثوريين لإتباع أي سياسة طبقية مستقلة، وتذيلوا الحركة ضد محمد مرسي، مع بعض الإشارات لوجود الفلول فيها بدون العمل على محاولة جادة لخلق البديل الثوري العمالي، وساعد في ذلك جزئيًا خيانة قوى اليسار الأخرى التي تذيلت الجنرالات، فوجد قادة الاشتراكيين الثوريين أنفسهم معزولين وراحوا يبحثون عن أي منفذ يحاولون به الوصول للجماهير التي أصبحت كارهة للإخوان المسلمين، لدرجة أنهم تذيلوا حركة تمرد التي كانوا على علم تمامًا بتنسيق قادتها مع الأجهزة الأمنية وقتها، لدرجة وصف أحد قادة الاشتراكيين الثوريين وقتها، وهو وسيم وجدي، بتاريخ 20 يونيو 2013، أي قبل 10 أيام فقط من 30 يونيو، حركة تمرد بأنها “ثورة داخل الثورة“، وأن “هذه الحملة حلقة من حلقات الثورة وتعمقها”، ويمكن أن نجد في تلك المقالة مدائح أخرى لا تنتهي للحملة.

وبعدما أتت الرياح بما لم تشتهي سفنهم، راح قادة الاشتراكيين الثوريين يعلنون توبتهم عن الاشتراك في الثورة ضد الإخوان المسلمين، وهو ما ظهر في مقال سامح نجيب، أحد قادة الاشتراكيين الثوريين، الذي كتب في عام 2014:

وهنا يأتي يوم 30\6 ليس كتتويجاً لموجة ثورية في نفس اتجاه ثورة يناير 2011، بل في واقع الأمر كتمهيداً وتفويضاً جماهيرياً للثورة المضادة بإنقلابها العسكري ومجازرها واعتقالاتها.

ويكمل بعدها في نفس المقال:

الأمور كانت شديدة التعقيد. فقد شاركنا في 30\6 مع غيرنا من القوى الثورية على أساس أن تعبئة جماهيرية بهذا الحجم وفي سياق موجة من الاحتجاجات والإضرابات التي سبقتها، ستتمكن من تطهير صفوفها من الخونة ومؤيدي الجيش والشرطة. أو على الأقل من خلق درجة من الاستقلالية لقطاع من الجماهير يريد التخلص من الإخوان كجزء من استكمال الثورة ضد دولة مبارك.

وهكذا انتقلوا للجهة المقابلة تمامًا، من التذيل والانتهازية للعصبوية. وهو ما كان بداية نهجًا نظريًا وسياسيًا أقرب للانتهازية البائسة، مستمرًا حتى الآن. ومن يتابع آراء ومقالات الاشتراكيين الثوريين عن مرحلة 30 يونيو وما بعدها سيري قدرًا كبيرًا من الالتباس والارتباك، تحليلات انطباعية وبكائيات مرثية كلها تصب في نتيجة واحدة: محاولة التطهر من خطيئة الانتفاض على الإخوان المسلمين، وتمنى لو أنها لم تحدث.

وهو نفس الموقف الذي عبر عنه سامح نجيب في المائدة المستديرة التي أقامتها مجلة “بالأحمر” عام 2017 لمناقشة 30 يونيو:

أولاً الاشتراكيين الثوريين وأنا منهم شاركوا في إحدى مظاهرات 30 يونيو بهدف تعميق الثورة ضد مرسي والاخوان والعسكر والفلول. تلك المشاركة كانت في تقديري خاطئة وكانت قائمة على تحليل خاطئ لتوازن القوى في تلك اللحظة.

يخرج قادة الاشتراكيين الثوريين، بين الفينة والأخرى، علينا ويقولون لنا إن الإخوان المسلمين تيارًا إصلاحيًا وأنهم ليسوا جناحًا للثورة المضادة منذ أن أطيح بهم من السلطة، وأنهم الآن يخوضون معركة من أجل الديمقراطية ضد الديكتاتورية العسكرية يجب مساندتهم فيها، بدليل أنهم يدخلون السجون، لكن في مصر الديكتاتورية العسكرية دخول السجن ليس له علاقة بصحة التوجه السياسي، وهذا ينطبق على كل أرجاء العالم، دخول السجن ليس دليلاً على أي شيء في حد ذاته، ومن الغريب أن يرضخ أشخاص يرون في أنفسهم أنهم ماركسيين وثوريين لتلك المظلومية السخيفة.

ودليلهم الثاني عن الإصلاحية المزعومة للجماعة، كما رأينا، أنها تضم عمال وفقراء في صفوفها، غاضين الطرف عن السياسة الطبقية الحقيقة التي تدافع عنها الجماعة، وعن أهدافها الدينية الرجعية، وعن تلاعب الجماعة بالفقراء ومداعبة أحلام المحافظين وبالنزعة الدينية للجماهير لمصلحتها.

الحقيقة إن كل الأحزاب اليسارية والعمالية دفعت ثمن أخطائها، ليس فقط بهزيمة الثورة وقمع الديكتاتورية العسكرية، وهو ما طال الجميع، ولكن عن طريق سلسلة من الانشقاقات التي لا تنتهي والضعف المزمن، وهذا ناتجًا بشكل رئيسي عن الأخطاء السياسية الكارثية لقادة تلك المنظمات والأحزاب.

تلخيصًا، لقد تذيل اليسار بكل ألوانه اليمين بكل ألوانه في الثورة المصرية. لم يكن خطأ الجماهير أنهم ثاروا على حكم الإخوان المسلمين، بكل كان خطأ قادة المنظمات العمالية واليسارية أنهم تركوا الساحة خالية لليمين ولم يكونوا على قدر المسؤولية، وتذيلوا أحد أطراف الطبقة السائدة، سواء الطرف المهيمن أو الطرف الهامشي، سواء اللص الكبير الشرس أو اللص الصغير في ثوب الحمل الوديع، فلم ترى الجماهير إلا الجنرالات للجوء إليهم في مواجهة الإخوان المسلمين.

الطريق إلى 30 يونيو وما بعدها: وصول الثورة لحدودها

تكالبت الذئاب على جماهير الثورة منذ 2011 وحتى 2013. ثارت الجماهير عدة مرات، وأسقطت عدة حكومات، وأجبرت المجلس العسكري على التخلي عن الحكم، ثم ثاروا على الإخوان المسلمين، باختصار فعلت الجماهير كل ما هو مطلوب منها أن تفعله.

خضع الإخوان المسلمين إلى مراقبة وضغط دائمين من جماهير الثورة، التي كانت تود أن يتم تلبية مطالبها الرئيسية في “عيش حرية عدالة اجتماعية” بسرعة، وكانت سياسة الإخوان المسلمين على الضد من كل ذلك، اتبعوا نفس السياسة الرأسمالية، وازدادت معاناة الجماهير المعيشية، وتم قمع الجماهير بقوة الدولة ومليشيات الإخوان المسلمين وحلفائهم الإسلاميين الأخرين. لقد فقد الإخوان المسلمين مصداقيتهم في أعين الجماهير بسرعة كبيرة.

هنا يجب أن نتذكر شيئًا هامًا: لا يمكن لثورة أن تستمر للأبد بدون تحقيق نتائج ملموسة، وثلاث سنوات الثورة كانت عاصفة حقيقية، مظاهرات واعتصامات واشتباكات وإضرابات لا تنتهي ولم تكن تؤتي ثمارها، تم إهلاك الجماهير والشباب في اشتباكات لا تنتهي بدون أفق. ومع الوقت بدأ يتسرب التعب للجماهير، وبدأ الحنين لنوع من الاستقرار، حنين إلى استقرار مزيف بعدما لم تجلب الاضطرابات سوى القتلى وزيادة سوء الأوضاع الاقتصادية والتشنجات المجتمعية في أعين الجماهير.

وعند نقطة معينة حدث تلاقي في المصالح بين الجماهير التي تريد التخلص من الإخوان المسلمين وبين أغلبية الطبقة السائدة بقيادة الجنرالات، التي كانت ترى في الإخوان المسلمين من البداية دخيلاً عليها وخطرًا يريد أن يلتهمها.

ساعد في زيادة ذلك الشعور بالخطر غباء الإخوان المسلمين السياسي، لقد أعمتهم سكرة الإنتصار فاستعجلوا السيطرة الكاملة وناصبوا الجميع العداء، ودخلوا في مواجهة مباشرة مع الجماهير من ناحية، ومع أغلبية الطبقة السائدة من ناحية أخرى، عن طريق الإعلان الدستوري المكمل الذي كان يعطي صلاحيات مطلقة لمحمد مرسي ومحاولة سيطرة الإخوان المسلمين على السوق بإزاحة رجال الأعمال الآخرين…الخ.

وما زاد الطين بلة هو رؤية الجماهير لخطر الإرهاب يحدق بهم وبلادهم، خصوصًا مع تجارب عدة بلدان في المنطقة، وزيادة حدة الإخوان المسلمين الخطابية الطائفية، وزيادة تواجد ونفوذ الرجعيين الإسلاميين الآخرين، وصولاً لبداية تلويح الإسلاميين بحرب أهلية. احساس كبير بالخطر ساعد في مفاقمته الأجهزة الأمنية عن طريق القنوات التلفزيونية والإسلاميين على حد السواء.

استثمرت الطبقة السائدة بقيادة الجنرالات هذا الوضع المنفجر وهذا الاستقطاب الكبير في المجتمع، وراحت تزيد الفجوة بين الجماهير والإخوان المسلمين، وتحملهم فاتورة الأزمة وحدهم، عن طريق القنوات التلفزيونية الخاصة والتواصل مع المجموعات الشبابية، مثل حملة تمرد، لمصلحتها، وتم التعبئة بشكل كبير لاستغلال المزاج الجماهيري الذي كان يريد التخلص من الإخوان المسلمين.

هذا في ظل خيانة قوى اليسار الإصلاحية وتذيلها للطبقة السائدة والجنرالات، وعجز القوى “الثورية” الصغيرة عن التحول لتصبح رقم مهم في الساحة السياسية، نتيجة أخطائها بالأساس وانعزالها عن الجماهير العاملة.

وهكذا غمرت الجماهير الشوارع في يوم 30 يونيو، جماهير غفيرة مختلفة الميول والأهداف ومشتتة الأذهان، واستغل السيسي فراغ القيادة وخاينة الإصلاحيين لملء ذلك الفراغ بخطاب شعبوي رخيص عن الدولة القوية والأمة المصرية والاستقرار المنشود، خطابًا كانت الحالة المزاجية للجماهير مستعدة لتقبله في ذلك الوقت. فتدخل الجنرال السيسي، ومن وراءه أغلبية الطبقة السائدة، لاستغلال فرصة الملايين من المصريين في الشوارع للإطاحة بالإخوان المسلمين.

هنا، نزول الجماهير إلى الشوارع بالملايين هو الذي أدي للإطاحة بالإخوان المسلمين وليس تحرك الجنرالات في حد ذاته، هذا هو العامل الحاسم في الأحداث وليس تحرك الدبابات، ولم تكن لتنزل تلك الملايين إلى الشوارع بدون أن يكون هناك ما يحركها ذاتيًا وموضوعيًا، وهو الرغبة في حياة أفضل، هذا هو الجوهر التقدمي في 30 يونيو، الذي لم يجد المعبر السياسي الثوري عنه، وتدخل الجنرالات لمحاولة الظهور بمظهر الطرف القادر على تلبية مطالب الجماهير، نتيجة فراغ القيادة، والحقيقة أنهم تدخلوا لقطع الطريق على الجماهير وتطور حركتها، هذا هو الجانب الرجعي في 30 يونيو.

وبعد الإطاحة بالإخوان المسلمين مباشرة شرعوا في حملة همجية من العنف الطائفي والمجتمعي الإرهابي، بيدهم أحيانًا، بجانب حلفائهم الإسلاميين الرجعيين أحيانًا أكثر، من خطاب طائفي وأصولي شديد الفجاجة، ومظاهرات عنيفة للغاية، وتفجيرات في كل مكان، خصوصًا بعد الفض الدموي لاعتصام رابعة العدوية، الذي زاد من حدة احتقان الوضع.

حينها بدأت تبحث الجماهير عن أي قوة تحميها من الخطر الإرهابي، ولم تكن غير المؤسسة العسكرية بقيادة السيسي قادرة على أن تفعل ذلك حينها. فمن الطبيعي أن تلجأ الجماهير المنهكة من الحركة والتي كانت تريد أن تضع حدًا لتلك الموجة الإرهابية في أسرع وقت إلى الجيش، وليس لهؤلاء المثقفين والسياسين البائسين. الجماهير كانت ترى مصيرها في ذلك الطريق في مرآة بعض بلدان المنطقة، وكانت على استعداد للتضحية بأي شيء في سبيل عدم الإنتهاء بذلك المصير.

من الخطأ والرغبة في العيش في الوهم أن يتعامى المرء عن كل تلك السيرورة المتشابكة والمعقدة ويحكم عليها بالتقدمية أو بالرجعية كلها نظرًا لنتائجها النهائية بدون البحث في الأسباب الموضوعية التي أدت لتلك النتائج. صعود عبد الفتاح السيسي هي نتيجة رجعية ووحشية لا جدال فيها، فقد استغل إنهاك الجماهير وخوفها لوضع حد للثورة بقوة السلاح ثم بتلويث سمعة الثورة نفسها، وترسيخ ديكتاتوريته العسكرية التي تحكم بالحديد والنار منذ عشر سنوات، ولكن هذا لم يحدث من فراغ، هذا حدث، كما ذكرنا بالفعل، نتيجة ثورة الجماهير المستحقة على الإخوان المسلمين، والتي لم تجد قيادة ثورية.

خاتمة

يجب دراسة تلك الأحداث بعناية، فهي بحق كانت مرحلة فاصلة في تاريخ مصر. إن أحداث 2013 تزودنا بكثير من الدروس الهامة، والتي من أهمها أنه يجب على اليسار أن يعمل على بناء قواه، بناء البديل العمالى الثوري، بدلاً من العمل على تذيل اليمين وأنصار النظام الرأسمالي بكل أشكالهم. مهمة الثوريين الحقيقيين ليس دعم شر صغير في مواجهة شر أكبر بل العمل على القضاء على كل الشرور. الواقع لن ينتظرنا حتى نستعد، بل يجب علينا أن نعمل على أن نكون على قدر المهام التي سوف تطرح علينا في المستقبل.

اليوم، وقد تجاوز الواقع كثير من معطيات 2013، فقدت السلطة الديكتاتورية مصداقيتها تمامًا تحت وقع أزمة اقتصادية عميقة، وتقلص نفوذ وقوة الإسلاميين -على الأقل في الوقت الحالي والمستقبل القريب- تحت ضربات الدولة ورفض الجماهير لهم، وانحطت القوى الإصلاحية بقدر كبير وتزايد عجزها، وفي نفس الوقت بدأنا نشهد بداية لتعافي الجماهير العاملة من الهزيمة الثقيلة للثورة، وليس أمام الثوريين الحقيقيين إلا العمل على توفير بديل ثوري عمالي للجماهير عن القوى الرجعية المختلفة، العسكرية والدينية والمدنية. أزمة الثورة المصرية، هي نفس أزمة الطبقة العاملة التي وصفها تروتسكي عام 1938، هي أزمة القيادة الثورية.

أيها الرفاق وأيتها الرفيقات لا توجد طرق مختصرة، بدون العمل من الآن على بناء القيادة الثورية والانغراس في الطبقة العاملة والجماهير، فقد تتكرر مأساة الماضي، ولكن كمهزلة المرة القادمة. وليس هناك أفضل من النظرية الماركسية تساعدنا في ذلك الطريق، حيث “النظرية هي تفوق التوقع على الدهشة” كما قال تروتسكي، مع مزيد من التصميم والتماسك والنضالية نستطيع أن نكون جاهزين بأكبر قدر ممكن عندما تدق ساعة الحقيقة.

الحرية للمعتقلين السياسيين!

تسقط الديكتاتورية العسكرية الحاكمة!

من أجل بناء بديل يساري عمالي!

من أجل بناء منظمة ماركسية ثورية!

يسقط النظام الرأسمالي!

من أجل حكومة عمالية!

محمد حسام

30/6/2023