الرئيسية / البلشفية: الطريق نحو الثورة / البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية

البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الثالث: مرحلة الردة الرجعية

الويل للمهزومين

كانت للرومان القدماء عبارة تقشعر لها الأبدان لوصف مصير الشعوب المهزومة: “Vae victis!”، “الويل للمهزومين!”. ومصير العمال بعد كل ثورة مهزومة في التاريخ يؤكد تماما هذا التهديد الدموي. لم تكن الثورة الروسية عام 1905 استثناء. استشعر النظام أن الخطر المباشر قد انتهى فكثف حملة القمع. وبسرعة رميت وعود أكتوبر الديمقراطية في مكب القمامة. أطلق العنان لنظام ارهاب دموي في كل مكان، في دول البلطيق وبولندا والقوقاز. نشرت الحملات العقابية الإرهاب في القرى، من خلال القتل والاغتصاب وحرق المنازل. كتب أورلاندو فيجيس:

«ارتكب القوزاق، السكارى بالفودكا، فظائع رهيبة ضد الفلاحين. تم اغتصاب النساء والفتيات أمام أعين أقربائهن الرجال، وشنق مئات الفلاحين تحت الأشجار دون أي محاكمة. وتشير التقديرات أن النظام القيصري أعدم، ما بين منتصف أكتوبر وافتتاح أول مجلس للدوما في أبريل 1906، حوالي 15.000 شخص، وجرح ما لا يقل عن 20.000 ورحّل أو نفى 45.000»[1].

استمرت عربدة الرجعية بلا هوادة لشهور متتالية. وبحلول أبريل 1906، وبصرف النظر عن 15.000 شخص الذين قتلوا بالرصاص أو أعدموا شنقا، كان هناك 75.000 آخرون يقبعون في سجون النظام القيصري. قطارات خاصة تحرسها فرق الإعدام القيصرية تقدمت ببطء، على طول خط السكك الحديدية بين موسكو وقازان، نحو أعماق سيبيريا المتجمدة، في انتقام مخيف من العمال. عانى البلاشفة من هذا القمع أكثر نسبيا من جميع التيارت الأخرى، لأنه كان لديهم عدد أكبر من المناضلين العماليين الثوريين. انتهت تقريبا منظمتهم بين عمال السكك الحديدية في سيبيريا. من بين الذين قتلوا كان عضو اللجنة المركزية والقيادي في الحركة الثورية في سيبيريا، أ. إ. بوبوف. وتعطينا الأسطر التالية، التي كتبها لوالدته، من زنزانة الإعدام، صورة مؤثرة عن روح هؤلاء المقاتلين:

«أغادر عالم الظلام والقمع هذا مرتاح الضمير، مفسحا المجال لقوى شابة أخرى. وإذا كنا قد حققنا القليل، فسوف يكملون هم ما بدأناه نحن. أموت وأنا على قناعة تامة بأن أجسادنا ستوفر أساسا متينا سيقوم عليه مستقبل أفضل لوطني الذي عانى طويلا»[2].

تحت ضربات مطرقة الردة الرجعية، بدأت المنظمات الاشتراكية الديمقراطية تتحول تدريجيا إلى غبار. العديد من المناضلين تم اعتقالهم أو قتلهم. وأجبر آخرون على الاختفاء وتغيير المدينة أو الفرار إلى الخارج. ومن أجل الإسراع في خنق الثورة، لجأت الحكومة لخدمات مساعدين خاصين تم تجنيدهم من بين صفوف البروليتاريا الرثة، تلك “الحثالة المتعفنة المستسلمة” كما نعتها ماركس، والتي خدمت في أكثر من مناسبة أغراض الثورة المضادة. نشرت عصابات المئات السود الرعب في القرى، عادة على شكل مذابح معادية للسامية.

قال كيرينسكي، الذي كان في ذلك الوقت محاميا ويقوم أحيانا بالدفاع عن الثوريين المتهمين:

«استمر الانتقام، الذي جاء في أعقاب ثورة 1905، من أواخر عام 1906 إلى أوائل عام 1909. وبعد سحق انتفاضات الفلاحين وغيرها من الانتفاضات الأخرى بواسطة الحملات التأديبية، تحولت المسألة إلى عمليات صيد لبقايا المنظمات الثورية، أو العصابات كما كانت تسمى. كان يتم تسليم الضحايا إلى المحاكم العسكرية. كانت حملة إرهاب قضائي منظم».

حوكمت العديد من القضايا السياسية أمام محاكم عسكرية. وكان المدعي العام العسكري في ذلك الوقت، الجنرال بافلوف، رجلا لا يرحم، كان لا ينتظر سوى أن يقوم القضاة “بواجبهم” دون ايلاء أي انتباه إلى حجج الدفاع. لم يدم بافلوف طويلا. وبما أنه كان يتوقع حدوث محاولات لاغتياله، اتخذ كل الاحتياطات. لم يكن يغادر مبنى المحكمة العسكرية الرئيسي، حيث كانت لديه شقة بحديقة محاطة بسور عال. لكن ذلك لم ينقذه، فقد سقط ضحية لرصاصة إرهابي في حديقته الخاصة. لكن الإرهاب الفردي عاجز ضد الدولة. إذ سرعان ما تم استبدال مسؤول رجعي بمسؤول رجعي آخر. وازدادت حدة القمع أكثر.

ضرب الانتقام الوحشي بشكل خاص دول البلطيق لاتفيا واستونيا، حيث كان لانتفاضة العمال والفلاحين ضد ملاك الأراضي الألمان طابع عنيف. الحملات العقابية التي بدأت من دجنبر، واستمرت ستة أشهر، قتلت 1200 شخص، ودمرت عشرات الآلاف من المنازل، وجلد خلالها الآلاف من العمال والفلاحين. وفي نهاية 1906 وبداية 1907 تم عقد ما يسمى بمحاكمة جمهورية توكوم في ريغا. كان خمسة عشر من جيش الفرسان قد قتلوا خلال انتفاضة في توكوم عام 1905. ويتذكر كيرينسكي، الذي كان واحدا من محاميي الدفاع، ما حدث قائلا:

«ترأس المحاكمة أحد القضاة العسكريين الخاصين في مقاطعات البلطيق، وهو جنرال يدعى كوشيليف. كان شخصا ساديا لديه عادة مشاهدة الصور الإباحية في المحكمة خلال جلسات الاستماع لحالات يمكن أن يتعرض فيها المتهم للحكم عليه بالإعدام. سرعان ما أصبح واضحا في المحاكمة أن كوشيليف لم يكن مهتما بمحاولة إثبات الحقيقة، بل فقط باختيار 15 من المتهمين لقتلهم انتقاما للفرسان الذين قتلوا. تم إعدام جميع المتهمين الخمسة عشر. كان القيصر سعيدا بنتائج حملته على البلطيق وأثنى على ضباطه بسبب “الإنجاز الرائع”»[3].

وعلى الرغم من كل شيء، استغرق الأمر 18 شهرا كاملا لتصفية الحركة الثورية. ثبت أنه من الصعب للغاية إطفاء جذوة الثورة. ولم تكن تتم استعادة النظام في منطقة، حتى تكون الحركة قد اندلعت في أماكن أخرى. كانت فئات جديدة تدخل باستمرار إلى النضال، في حين كانت فئات أخرى تتخلى عن الساحة، متعبة ومهزومة. كانت الصورة العامة ما تزال غير واضحة، واستمرت كذلك طوال عام 1906. وفي بداية عام 1906، كانت حركة الإضرابات ما تزال قوية، وإن كانت أقل من الربع الأخير من عام 1905. شهدت الفترة الممتدة ما بين يناير ومارس إضراب 260.000 عامل. والشيء المعبر هو أن ثلثا تلك الإضرابات كانت إضربات سياسية. وفي ربيع عام 1906، ظهرت أعراض نهوض ثوري جديد. وشهد الربع الثاني طفرة جديدة لحركة الإضرابات، بمشاركة 479.000 عامل، أكثر مما كانت عليه حتى خلال صيف 1905. ومرة أخرى كانت هناك إضرابات اقتصادية وسياسية، لم تنته كلها بالهزيمة. فمن بين 222.000 عامل شاركوا في إضرابات اقتصادية، تمكن 86.000 منهم من الانتصار، بينما انتهى 58.000 منهم إلى حل وسط، ولم ينهزم سوى 78.000 فقط. وحتى وقت متأخر من صيف عام 1906، كانت موجة الإضرابات تبدو أبعد ما تكون عن التباطؤ، بل كانت تزداد كثافة. وفي عام 1906 ككل، شارك في الإضرابات أكثر من مليون عامل.

هل كانت هزيمة دجنبر في موسكو دلالة على نقطة تحول حاسم في مصير الثورة؟ هل كان الخط العام للحركة تصاعديا أم تنازليا؟ بالحكم على الأحداث بعد وقوعها تبدو الإجابة واضحة، لكن هذا لا يعني أن القضية كانت واضحة في ذلك الوقت. لم تكن حركة الجماهير آنذاك متشابهة في تطورها. كانت القرى متخلفة وراء المدن، ولم تبدأ في التحرك على نطاق كبير إلا عام 1906. والقمع الدموي الذي شهدته القرى لم يمنع من ظهور حركات جديدة، حيث دخلت مناطق ساراتوف وشيرنيغوسك وخاركوف وموغيليوف، الواحدة تلو الأخرى ساحة المعركة. كان من بين عوامل ذلك عودة العمال المطرودين إلى القرى. لقد شكل الفلاحون المبلترون، الذين تعلموا في مدرسة حياة المصنع الصعبة وصقلتهم تجربة الإضرابات والانتفاضة، حافزا للحراك في القرى، ووفروا الخميرة اللازمة لأشقائهم وشقيقاتهم في الريف. مع الحكمة التي تحصل بعد وقوع الأحداث (والتي هي أرخص جميع أنواع الحكمة)، يبدو ذلك مجرد صدى لحركة قد استنفذت بالفعل قوتها. لكن هذا لم يكن واضحا لأولئك الذين كانوا يشاركون بنشاط في النضال في ذلك الوقت، وخاصة للجناح الأكثر ثورية داخل الحركة، الذي كان يمثله البلاشفة، والذين لم يتسرعوا في توقيع شهادة وفاة الثورة.

كانت للطبقة العاملة أيضا احتياطيات أخرى. فالمسألة القومية، مثلما توقع لينين، صعدت بسرعة إلى الواجهة واتخذت كثافة شديدة. اندلعت نيران مشاعر الغضب ضد الاضطهاد القومي، التي استمرت جذوتها لفترة طويلة تحت السطح، في بولندا وفنلندا والقوقاز ودول البلطيق. كل هذا أدى بلينين إلى الاعتقاد بأن الثورة لم تستنفد بعد إمكاناتها. كان لتحديد الطبيعة الدقيقة للوضع، ودينامياته الداخلية ومنظوره، أهمية حاسمة لتحديد التكتيكات والشعارات الصحيحة اللازمة لحفظ وتقوية الروابط بين الجماهير وبين الطليعة البروليتارية. لكن هذه المهمة، التي ليست سهلة أبدا، تصبح أصعب ألف مرة في خضم الثورة، عندما يمكن لمزاج الجماهير أن يتغير بسرعة البرق. كان سؤال “في أي مرحلة نحن؟”، هو بالضبط السؤال الذي أثار أشد الصراعات في صفوف الثوار في تلك الفترة. كانت هناك أمزجة متناقضة داخل صفوف الطبقة العاملة. هل يمكن للموجة الثورية في الريف أن تشعل من جديد الحركة في المدن؟ لم يكن يمكن إعطاء أي إجابة واضحة على هذا السؤال. وقد كان لينين بالتأكيد ينظر إليه على أنه احتمال وارد وبنى تكتيكاته وفقا لذلك.

النضال ضد البطالة

طوال عام 1906، وجدت الطبقة العاملة نفسها في موقف صعب على نحو متزايد، حيث لم تواجه القمع الجسدي فقط، بل أيضا الإرهاب الاقتصادي. فبعد أن استعاد أرباب العمل رباطة جأشهم، انتقلوا إلى الهجوم، وشرعوا في الانتقام من الرعب الذي تعرضوا له. صارت إغلاقات المصانع وعمليات الطرد على رأس جدول الأعمال، وبدأ الرأسماليون يستعيدون المكاسب التي انتزعت منهم خلال الفترة السابقة. في ظل تلك الظروف، كان من الضروري البحث عن أي انفتاح، مهما كان محدودا، واستغلال كل ثغرة قانونية. كان على الحزب أن يولي اهتماما جديا لأي منظمة شرعية من شأنها أن توفر منبرا لممارسة التحريض والدعاية، من قبيل منظمات التأمين والجمعيات التربوية والثقافية، وما إلى ذلك. كان العمل في النقابات مسألة في غاية الأهمية. قام العمال، الذين صاروا في موقف دفاعي، بالالتفاف حول النقابات الشرعية. وحدثت زيادة كبيرة في عضوية النقابات. في أوائل عام 1907، كانت هناك أكثر من 600 نقابة عمالية في روسيا، تضم 245.000 عضو. ومن ناحية أخرى، أدى انتشار البطالة، نتيجة الأزمة الاقتصادية، إلى وضع مسألة العمل بين العاطلين على رأس جدول الأعمال.

شن أرباب العمل انتقاما وحشيا من أجل تدمير المكاسب التي حصل عليها العمال أثناء الثورة. وفي خضم حملات الطرد الجماعي، التي ضربت جميع القطاعات في الفترة ما بين 1907 و1909، تعرض 36% من العاملين في الصناعات الهندسية للطرد مع حلول يناير 1908. وأغلَق أرباب مصنع التعدين بسان بيترسبورغ مخزن القذائف؛ وطرَدت أحواض بناء السفن في نيفا 300 عامل عام 1908، إضافة إلى 700 آخرين عام 1909. كانت أعنف الضربات هي تلك التي تلقاها العمال الأكثر تأهيلا، وخاصة أولئك المتأثرون بالفكر الاشتراكي الديمقراطي. كانت هذه المجموعة قد أثارت انتباه أرباب العمل خلال إغلاقات أكتوبر 1905، واستمر ذلك حتى أبريل 1906. كانت حملة الإغلاقات، التي تم تنظيمها من قبل أرباب العمل في سان بيترسبورغ بتعاون وثيق مع السلطات القيصرية، تهدف إلى تلقين عمال سان بيترسبورغ، وبخاصة قياداتهم الطبيعية، درسا قاسيا.

في ظل ظروف التسريحات الجماعية، التي أعقبت هزيمة دجنبر، اكتسى النضال ضد البطالة أهمية كبرى. نجح الاشتراكيون الديمقراطيون في تنظيم حركة ناجحة ضد البطالة، خاصة في سان بيترسبورغ، لكن أيضا، إلى حد ما، في مراكز صناعية أخرى، مثل موسكو وأوديسا. وفي حين أن معظم المراكز الأخرى كانت قد قمعت بحلول نهاية 1906، فإن الشرطة السرية والدرك لم يتمكنوا من القضاء نهائيا على الحركة في سان بيترسبورغ إلا في 1908. في بيترسبورغ أسس الاشتراكيون الديمقراطيون المحليون “مجلس العمال العاطلين عن العمل” (سوفييت بيزرابوتنيخ)، وقد تم ربطه منذ البداية بالعمال المشتغلين. أرسل العمال الذين يشتغلون في المصانع الكبيرة مندوبين إلى ذلك السوفييت. وتم تشكيل مجالس أخرى للعمال العاطلين في تفليس وموسكو وتفير وكوستروما وخاركوف وباكو وتاغونروغ. لكن المجلس الذي كان يحدد مسار المجالس الأخرى كان هو مجلس سان بيترسبورغ للعاطلين عن العمل.

وقد تم توثيق عمل مجلس سان بيترسبورغ للعاطلين عن العمل في كتيب “مجالس العاطلين عن العمل في سان بيترسبورغ عام 1906”، الذي كتبه العامل البلشفي سيرغي ماليشيف، الذي لعب دورا نشيطا في حركة العاطلين، وانتخب رئيسا لسوفييت كوستروما لمندوبي العمال، عام 1905. ترجع أصول هذه الحركة إلى الأحداث العاصفة التي شهدها عام 1905، عندما استخدم أرباب العمل سلاح الإغلاقات لمكافحة حركة الإضراب. وإدراكا منه بأن السبيل الوحيد للنضال من أجل قضية العاطلين يمر عبر الربط الوثيق بين نضالهم وبين نضالات العمال في المصانع، أسس سوفييت سان بيترسبورغ لنواب العمال لجنة للعاطلين بأجهزة مفتوحة في جميع مناطق تواجد الطبقة العاملة بسان بيترسبورغ. وفي وقت لاحق اعتمدت اللجنة قرار سوفييت نواب العمال باقتطاع نسبة 01% من أجور جميع العاملين في المعامل والورشات والمؤسسات الأخرى، لصالح العاطلين. كما تم تنظيم عمليات تبرع تطوعية في جميع الاجتماعات والتجمعات. وهكذا فإن نضال العاطلين كان مرتبطا بشكل وثيق بنضال إخوانهم وأخواتهم الذين بقوا في العمل. كان هذا الموقف، الذي يشكل حجر الزاوية في تكتيكات الماركسية في النضال ضد البطالة، من اقترح لينين، ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ موقف لينين تجاه حملة العاطلين. عندما سمع لينين عن مبادرة اتخذت بشأن هذه المسألة كانت لديه، في البداية، بعض الشكوك حول ما إذا كان في مقدور مجلس العاطلين وحده أن ينفذ برنامجه بجهوده الخاصة، قال:

«لا يمكنكم أن تؤثروا على البرجوازية بواسطة هذه المنظمة وحدها؛ لن تكونوا أقوياء بما فيه الكفاية، وقد لا يكون العمال العاطلون أنفسهم قادرين على تطوير هذا العمل على أساس طبقي بروليتاري واسع. ولذلك يجب عليكم أن توسعوا على الفور مجلس العاطلين ليضم ممثلين للعمال المشتغلين في جميع المصانع والورشات في سان بيترسبورغ. عليكم الآن أن تبدأوا في التحريض داخل المصانع والورشات لهذا الغرض، وترتبوا فورا لانتخاب هؤلاء الممثلين. يجب أن يتألف مجلس العاطلين، ليس فقط من 30 ممثلا للعاطلين، بل من 100 أو 150 ممثلا من جميع المناطق، من جميع المصانع والورشات. سوف يوفر هذا للعاطلين جهازا قياديا بروليتاريا حقيقيا، سيكون قادرا حقا على ممارسة الضغط بنجاح على مجلس دوما المدينة وعلى البرجوازية بوجه عام».

وافق المجلس على اقتراح لينين بربط نضال العاطلين بالعمال الذين ما زالوا في العمل، وشكل أساس تكتيكاته.

أخذ مجلس سان بيترسبورغ للعاطلين على كاهله مسؤولية حركة العاطلين، بدءا من تسجيل جميع العمال ضحايا الإغلاقات. وعلى حد تعبير ماليشيف:

«كشف هذا التسجيل واقعة مثيرة للاهتمام، وهي أن 54% من العمال الذين تم طردهم كانوا عمالا ذوي مهارات عالية، في قطاع التعدين والصلب؛ وكان 18% منهم نجارون وعمال بناء وغيرها من المهن التي تتطلب المهارة. وكان 21% منهم فقط من العمال العاديين. أظهرت هذه الأرقام أن الرأسماليين نفثوا حقدهم على أولئك العمال الذين قاتلوا في الصفوف الأمامية للطبقة العاملة»[4].

إن استهداف عمليات الهجوم لأمهر العمال حقيقة موثقة جيدا. أظهر استطلاع أجرته نقابة عمال المعادن أن أرباب العمل في 1908 استخدموا ذريعة الأزمة الاقتصادية للتخلص من أمهر عمال التعدين، والذين يتقاضون أجورا مرتفعة، والذين اشتغلوا أطول مدة، والذين كانوا القطاع الاكثر كفاحية. إستنادا إلى هذه المعطيات وغيرها استخلص روبرت ماكين ما يلي:

«ألقوا إلى الشوارع بالمسنين والمرضى و“مخربي النظام الداخلي” كذلك. وخلال 1908 امتدت الإغلاقات وحملات التسريح إلى قطاعي الطباعة والنسيج. بين سنتي 1907 و1911 عرفت تخفيضات الأجور، بنسبة 30% أو أكثر، أبعاد واسعة في جميع قطاعات الصناعة الثقيلة والخفيفة. وفي ورشة قياس الضغط والمسبوكات المعدنية، لانجينزيبين، تم تخفيض الأجور بمعدل النصف؛ وفي ورشة أفران الصهر بأحواض بناء السفن في البلطيق تم تخفيض الأجور بنسبة 40%. هذا وقد تم منع لجان أو مجالس المصنع (كما هو الحال في أحواض بناء السفن بنيفا)؛ وتعرض مندوبو العمال للاعتقال أو الطرد (مصنع الأنابيب)؛ وصارت الاجتماعات محظورة (سان بيترسبورغ للمعادن). ومنذ أوائل 1907 و1908، عاد فرض الغرامات وعمليات التفتيش، التي كان العمال يكرهونها كثيرا، في العديد من المصانع من بينها الشركة الفرنسية الروسية وأودنير وأحواض السفن بنيفا ومصنع الأنابيب ومصنع أوبوخوف وسان غالي وسان بيترسبورغ للمعادن. لكن لم يحدث الاعتداء المباشر والفوري على يوم العمل من 08 أو 09 ساعات، الذي كان أثمن مكسب للثورة، إلا بشكل أقل تواترا»[5].

خلال عام 1906، صار موقف العاطلين يائسا على نحو متزايد. وقد وصف ماليشيف بشكل دقيق وضع عمال سان بيترسبورغ العاطلين قائلا:

«ونحن نتسكع على طول شارع نيفسكي، نشاهد البرجوازيين السعداء المتخمين. بعضهم، من رتبة أعلى، يرتدون معاطف ونياشين ويركبون في عربات رائعة يجرها حصان أو حصانين من الخيول الرائعة؛ وآخرون، حشد من البرجوازيين، من رتبة أدنى، يتجولون على الأقدام على طول شارع نيفسكي، يملؤون وسط المدينة، على طول سادوفايا، وعلى طول طريق غوستين. يدخلون إلى مخازن مليئة بالبضائع، ويخرجون بأكوام من المشتريات، ووراءهم يسير شباب محملون بتلك المشتريات إلى منازلهم. كل البضائع التي في تلك المحلات والرفوف والمستودعات، والتي تنتجها البروليتاريا، متاحة بشكل كامل للبرجوازية. سرنا عبر عدة مبان على طول شارع نيفسكي، لكن كل ما كان يمكننا رؤيته هو متجر سولوفييف فقط. لم يكن في مقدورنا أن ندخل ونشتري ولو حتى ربع رطل من النقانق، لأن باعة متجر سولوفييف المتخمين لا يقبلون بيع مثل هذه الكمية الصغيرة، وعلاوة على ذلك فإن أسعار النقانق لا تتناسب مع حجم جيوبنا. لتخفيف مشاعرنا أطلقنا شتائم بذيئة ووضعنا يدا في يد ورحلنا من هذا الشارع اللعين. ذهبنا على طول الأزقة الضيقة وأخيرا وجدنا، في شارع باسين، أحد المطاعم الرخيصة حيث ملأنا أمعاءنا بطعام بسعر كوبيكين».

كانت المشكلة الرئيسية بالطبع هي أن معظم العمال المطرودين كانوا مسجلين في القائمة السوداء. تعرض العديد من الأفراد، بل ومجموعات كاملة، من “غير المرغوب فيهم”، للطرد من المصانع والورشات. أضطر هؤلاء العمال العاطلون إلى بيع أو رهن ملابسهم وغيرها من الأشياء الأخرى ذات القيمة. كان وضع العمال العاطلين وأسرهم بائسا. حملة جمع المساهمات، التي نظمها سوفييت نواب العمال، راكمت بعض الأموال، لكنها كانت مبالغ صغيرة جدا بحيث لم تغير الشيء الكثير. تم فتح غرف الطعام من قبل سوفييت نواب العمال وبعض الجماعات الليبرالية، في بعض المناطق العمالية، لتوفير بضع عشرات الآلاف من الوجبات. لكن بعد بيان أكتوبر بدأ الليبراليون يديرون ظهورهم لهذه الأنشطة العمالية وغيرها. ترك العمال لمصيرهم. ولمكافحة مشكلة البطالة بدأت المجموعة البلشفية في النضال لأجل برنامج للأشغال العامة النافعة والتعويض عن البطالة.

ويوضح ماليشيف تصور البلاشفة للنضال ضد البطالة من خلال استشهاده بما قاله متحدث في أحد المؤتمرات:

«قال الرفيق: “المجموعة البلشفية، التي أتحدث الآن باسمها، تدعم حركة العاطلين وتساعدنا على تنظيم أنفسنا في منظمة قوية. من الضروري تنظيم جميع العاطلين وانشاء هيئة قيادية: مجلس للعاطلين عن العمل. على هذا المجلس، بمساعدة من العاطلين، أن يبدأ النضال من أجل تحسين وضع العاطلين، ليس فقط من خلال توزيع وجبات الغذاء و30 كوبيكا يوميا، بل أساسا عن طريق دفع مجلس دوما المدينة لتنظيم برنامج للأشغال العامة على نطاق واسع لتشغيل العاطلين. العاطلون ليسوا عالة، إنهم لا يريدون الصدقات. إنهم يطالبون بالخبز والعمل. بهذه الطريقة علينا عرض مطالبنا أمام مجلس دوما المدينة وكسب تأييد جميع العاملين في المصانع والورشات. يجب على المدينة تنظيم برنامج للأشغال العامة. هناك ما يكفي من هذا النوع من العمل الذي يمكن القيام به في المدينة، والذي يعطى الآن لمختلف المقاولين الذين يقدمون رشاوى كبيرة لمسؤولي المدينة. بين صفوف العاطلين يمكن إيجاد أكثر العمال مهارة في جميع القطاعات. يمكنهم أن يقوموا بكل أنواع العمل. المدينة لديها عدد من المشاريع الضرورية للمصلحة العامة؛ على سبيل المثال، بناء خط للترام (Tramways). لقد قررت المدينة تعويض قوة الأحصنة بالسيارات الكهربائية، وهو ما لا يمكن القيام به إلا إذا تم تعبيد الشوارع. وهذا يفتح إمكانية توفير أشغال عامة للعاطلين. علينا اتخاذ خطوات لكي توفر المدينة هذه الأشغال العامة، لذلك أقترح أن يتم قبول جميع المقترحات التي طرحتها والمصادقة عليها في الاجتماع، والشروع في تنفيذها على الفور، لأن الجوع والفقر لن ينتظرا”»[6].

من أجل تنظيم حملة العاطلين تقرر تنظيم مجلس للعاطلين من خلال عقد الانتخابات في غرف الطعام حيث كان العاطلون يحصلون على الوجبات، وحيث قام مجموعة من العمال البلاشفة بالتحريض لأجل ذلك وإجراء الانتخابات. وجه المجلس نداء لدوما المدينة. وتقرر إشراك 30 مندوبا من المصانع الكبيرة والورشات في مجلس العاطلين وجرت الانتخابات بين العمال في جميع المعامل والورشات وأماكن العمل. تم انتخاب المندوبين من قبل العاطلين في جموعات عامة، على أساس مندوب واحد لكل 250 عاملا، وفي المصانع والأحياء العمالية. وشكلت هذه مجالس المناطق، التي كانت تشرف على تسيير غرف الطعام وجمع المال في المصانع والورشات وتسجيل العاطلين وتقديم المساعدة المادية، وقادت بشكل عام الحملة ضد البطالة على أساس شعار: “من أجل الخبز والعمل!”. وتمت صياغة عريضة موجهة إلى مجلس مدينة سان بيترسبورغ من طرف مجلس العاطلين، استعملت فيها أشد العبارات قوة. ثم طرحت العريضة للنقاش داخل مجلس العاطلين وتم التصويت عليها وإرسالها إلى جميع مصانع وورشات سان بيترسبورغ ونواحيها لتتم مناقشتها من قبل العمال الذين طلب منهم بعد ذلك التوقيع عليها.

جاء نص العريضة على النحو التالي:

«بسبب البطالة، توجد العديد من أسر العمال الآن بدون خبز. العمال لا يريدون الصدقات أو الإحسان. إننا نطالب بالعمل. السادة يرفضون توفير العمل لنا. يقولون إنه ليس لديهم مشاريع. لكن المدينة لديها مشاريع ويمكنها أن توفر العمل للعاطلين. نعتقد أن الطريقة التي تصرف المدينة بها المال العام فاضحة. ينبغي استخدام الأموال العامة لتلبية الاحتياجات العامة وحاجتنا اليوم هي: العمل. ولذلك فإننا نطالب مجلس دوما المدينة بأن يعمل فورا على تنظيم أشغال عامة لجميع المحتاجين. إننا لا نطلب الصدقة، بل نطالب بحقوقنا ولن نرض بالصدقات. الأشغال العامة التي نطالب بها يجب أن تبدأ على الفور. يجب أن يسمح لجميع العاطلين في سان بيترسبورغ بالقيام بهذا العمل؛ يجب أن يحصل كل عامل عاطل على أجر كاف. لقد تم تفويضنا للإصرار على تحقيق مطالبنا. والجماهير التي أرسلت هذه العريضة لن تقبل بأقل من ذلك. فإذا لم تستجيبوا لمطالبنا سوف نقدم تقريرا عن رفضكم للعاطلين وعندها لن نكون نحن من عليكم التعامل معه، بل أولئك الذين أرسلونا: جماهير العاطلين عن العمل»[7].

تم إرسال المحرضين إلى جميع المصانع الرئيسية للدفاع عن تلك العريضة، فكانوا يتحدثون أثناء استراحة الغداء وأثناء تغيير المناوبات، كما كانوا يعقدون لقاءات أمام أبواب المصانع لنقاش مسألة البطالة. وعلى الرغم من حقيقة أنه بعد حملات الطرد الجماعية، لم يتبق في العمل سوى العمال الأقل وعيا، فقد تلقت العريضة تأييدا وتعاطفا واسعي النطاق. قامت خطة النضال ضد البطالة بشكل كامل على الربط بين العمال العاطلين وبين إخوانهم وأخواتهم الذين بقوا في العمل والذين هم وحدهم من لديهم القوة لمساعدتهم على حل مشكلتهم. وبالإضافة إلى ذلك، حاول المجلس الحصول على الدعم من عند القطاعات المتعاطفة بين صفوف الطبقة الوسطى.

تكتيكات ثورية

في حين قارب البلاشفة نضال العاطلين من وجهة نظر ثورية وطبقية، حاول المناشفة، كما هي عادتهم، تمييع مطالب الحركة من أجل عدم إخافة أصدقائهم الليبراليين. لقد طالبوا بحذف الفقرة الأخيرة من العريضة التي تحمل نبرة تهديد، وطالبوا أيضا بألا يقتحم وفد العاطلين مجلس دوما المدينة. كما عارضوا بشدة انتخاب ممثلين من المصانع والورشات إلى مجلس العاطلين. لكن ظهرت تصدعات في صفوف المناشفة مما أدى إلى حدوث انقسام أعطى الأغلبية لأنصار العريضة. في 12 أبريل 1906، تقدم وفد من العمال العاطلين، مكون من 30 شخصا (15 من العاطلين و15 من المصانع)، أمام دوما مدينة سان بيترسبورغ. في تلك المرحلة لم تكن الموجة الثورية قد تراجعت بما يكفي لإعطاء مجلس الدوما الثقة اللازمة بالنفس لرفض اللقاء مع أعضاء الوفد. وخوفا من رد فعل الجماهير، قرر دوما المدينة الاعتراف بالوفد والاستجابة لمطالبه قدر الإمكان. لكن الوفد لم يكن يعرف هذا القرار عندما دخل غرفة المجلس. وقد تحققت أسوء مخاوف المناشفة، إذ تكلم ممثلو العاطلين في قاعة المجلس بأشد العبارات، قال أحد المتحدثين:

«“نحن لا نلتمس منكم شيئا؛ نحن نطالبكم!”، وقال متحدث آخر: “إننا نعتقد أن كل هذه الأموال التي تحت تصرفكم هي حق لنا. فإذا لم توفروا العمل للعاطلين لن يتبق لنا سوى أن ننهب ممتلكاتكم”. وصرخ أحد ممثلي الوفد، وهو عامل شاب: “أنتم لم تروا العاطلين عن العمل، أنا أعيش معهم، ويمكنني أن أقول لكم كيف يعيشون، أستطيع أن أقول لكم ما الذي قاله هؤلاء الذين أرسلوني إلى هنا، لقد قالوا: اذهب وتحدث إلى أعضاء مجلس البلدية ودوما المدينة، فإذا لم يستمعوا إليك، سوف نذهب نحن بأنفسنا ونأخذهم من أعناقهم”»[8].

وخوفا من احتمال حدوث اضطرابات، كان أعضاء مجلس البلدية مجبرين على الاستماع في صمت لمثل هذه الخطب النارية. وعندما أنهى “الضيوف” كلامهم اقترحوا عليهم مغادرة القاعة. لكن هؤلاء الأخيرين أعلنوا أنهم لن يغادروا حتى يتلقوا جوابا عن مطالبهم. عندها أعلن أعضاء مجلس البلدية فترة استراحة، وأخرجوا الجمهور ثم استؤنفت جلسة العمل مع وفد العاطلين. وأخيرا، وتحت ضغط النضال الجماهيري المباشر، قرر السادة أعضاء دوما المدينة التراجع والاعتراف بكل المطالب الرئيسية للعاطلين. وجد عدد كبير من العاطلين أنفسهم مرميين في الشوارع أو سكنوا في ملاجئ مؤقتة، إلا أنهم أرسلوا أطفالهم للعيش مع الرفاق الذين استمروا في العمل. وهكذا تفرقت الأسر، فتقرر أنه يتعين القيام ببعض الإجراءات لمساعدة العاطلين على دفع الإيجار. كما تمت في مجلس الدوما مناقشة مسألة مساعدة العاطلين على تخليص متعلقاتهم من محلات الرهن، وخاصة آلات الخياطة والملابس الداخلية، وتمت الاستجابة لها.

لم يكن كرم دوما المدينة منزها تماما عن المصلحة. إذ حتى في تلك الفترة كانت هناك حركة إضرابات جديدة تتطور في سان بيترسبورغ. كانت الإضربات ذات طابع سياسي أساسا، أكثر من كونها ذات طابع اقتصادي. أثمر تضامن العمال مع العاطلين نتائج مهمة، إذ شارك هؤلاء الأخيرين بنشاط في نضال العمال المضربين. وفي مقابل التضامن الذي أبداه العاملون خلال الأشهر السابقة، نظم العاطلون، جنبا إلى جنب مع المضربين في منطقة فيبورغ، عملية جمع المساعدات المالية لصالح المضربين. لكن مع انحسار حركة الإضرابات، استعاد المئات السود والليبراليون رباطة جأشهم وبدأوا بشكل ممنهج في تخريب الاصلاحات التي منحت سابقا. تمت عرقلة برنامج الأشغال العامة إلى أقصى حد ممكن وبدأ التقليص تدريجيا في الميزانية. عند ذلك قدم مجلس العاطلين قائمة جديدة من المطالب لدوما المدينة:

1) يوم العمل من ثماني ساعات. 2) حظر العمل الإضافي. 3) إقرار أجر يومي. 4) مراعاة جميع الشروط الصحية والنظافة اللازمة في العمل. 5) إعطاء المناصب للعاطلين المسجلين بإشارة من مجلس العاطلين. 6) حق ممثلي العمال في مراقبة جميع الشؤون الداخلية في ورشات العمل.

وقد نظم البلاشفة التحريض من أجل هذه المطالب بواسطة جريدتهم فولنا (الموجة) والتي قامت بشكل ممنهج بفضح سلوك الكاديت والليبراليين. لكن مجلس الدوما رفض تقديم أي تنازلات جديدة. كانت هناك شائعات بأن وزارة الداخلية أرسلت تعليمات إلى مجلس دوما المدينة بعدم تقديم الكثير من التنازلات للعاطلين. فتصاعد نفاد الصبر والغضب بين صفوف العاطلين. وفي 10 يونيو 1906، أصدر مجلس العاطلين نشرة تستنكر هذه الحالة:

«إن مجلس العاطلين لا يخفي عن الجماهير أن مجلس الدوما يماطل فقط ويتلاعب بالعاطلين وليست لديه أية نية في الوفاء بوعوده. لكن المجلس لم يخرق العقد الذي أبرمه مع الدوما لأن القيام بذلك يعني خدمة مصالح أولئك الذين يريدون استفزاز العمال للقيام بعمل سابق لأوانه. هذا بالضبط هو ما ينتظره أعداء الطبقة العاملة، المتعطشون لدماء البروليتاريا.
في الوقت الحاضر، ازداد استفزاز العاطلين إلى أعلى درجة. وقد أعطى وزير الداخلية أوامر خاصة لمجلس الدوما ولأعضاء المجالس البلدية بعدم تقديم أي تنازلات للعاطلين. هدفه واضح جدا، إنه استفزاز العاطلين للقيام بعمل سابق لأوانه في الوقت الذي رفاقهم العاملون ليسوا على استعداد لمساعدتهم، ومجلس الدوما، بطبيعة الحال، يطبق بخنوع ما تريده الوزارة. ومع ذلك، يجب ألا نسمح لأنفسنا بأن نسقط ضحايا لاستفزازات الدوما».[9]

كان الهدف من هذا القرار النضال ضد نفوذ العناصر اليسارية المتطرفة (اللاسلطويون والاشتراكيون الثوريون) الذين كانوا يستغلون الإحباط الذي كان يشعر به العاطلون من أجل الدعوة لأعمال استفزازية قد تكون نتائجها كارثية. ومرة أخرى بواسطة ممارسة الضغط على مجلس الدوما، من خلال العمل الجماهيري، نجح مجلس العاطلين في الحصول على المزيد من التنازلات. العمل الجماهيري الذي تحقق ساعد على إبقاء صفوف الطبقة العاملة موحدة ومنع المزيد من التفكك، في الوقت الذي وصل فيه هجوم الردة الرجعية ذروته. وفي نفس الوقت ساعدت التكتيكات الصحيحة التي نهجها البلاشفة في تطوير الوعي الثوري للطبقة العاملة. لكن وبالضرورة لم تكن مثل هذه الانتصارات لتدوم طويلا. في النصف الثاني من عام 1907، حققت الردة الرجعية النصر التام. ألقي القبض على معظم البلاشفة، واضطر آخرون إلى الفرار إلى الخارج، كما ألقي القبض أيضا على معظم منظمي وقادة مجلس العاطلين أو أجبروا على الاختباء. ومن زنزانته، في النصف الأول من 1908، علم سيرجي ماليشيف أن الحكومة القيصرية قد وضعت نهاية لبرامج الأشغال العامة في سان بيترسبورغ. وعندما شرعت الحكومة في إغلاق ورشة العمل العامة في كاغارينسكي وارف، وقبل شروع رجال الدرك في عملهم، استدعيت بطارية مدفعية خفيفة، تحسبا لحدوث أي طارئ.

إعادة التوحيد

على الرغم من الزحف الوحشي للردة الرجعية، فإن حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي استمر محتفظا بهياكله وكوادره الأساسية سليمة طيلة 1906، بل وتمكن حتى من الاحتفاظ بمنظمة مفتوحة. في هذا السياق يصف أوسيب بياتنيتسكي في مذكراته منظمة موسكو، حيث كان يعمل سنة 1906، والتي من الواضح أن المبدأ الانتخابي كان ما يزال معمولا به فيها في ذلك الوقت:

«في الفترة من 1906 إلى ما يقرب من نهاية 1907، تم تقسيم بعض الدوائر إلى دوائر فرعية. وكانت الدوائر والدوائر الفرعية مرتبطة باجتماعات المصانع (التي صارت الآن خلايا) ومع لجان المصانع والمجالس (التي صارت الآن خلايا الشُعب). كان ممثلو لجان المصانع يستمعون لتقارير لجان المناطق ولجنة موسكو، وينتخبون لجنة المنطقة ويرسلون ممثلين للمؤتمرات المحلية حيث كان يتم انتخاب لجنة موسكو»[10].

في ظل الظروف السائدة آنذاك كانت أهمية العمل في المنظمات الشرعية وشبه الشرعية، من جميع الأنواع، أمرا بديهيا. شارك الحزب في جميع أنواع العمل، ليس فقط في النقابات، بل أيضا في التعاونيات وجمعيات التأمين العمالية وأيضا الأنشطة الثقافية التي مكنته من الحفاظ على علاقاته مع الجماهير. قام كل من البلاشفة والمناشفة بالاستفادة بشكل جيد من الأندية، التي شكلت واجهات لعمل الثوريين. تتذكر إيفا برويدو:

«كانت أنديتنا هي أهم مراكز العمل الحزبي، وقد ركزنا فيها كل أنشطتنا الدعائية: كانت دعايتنا توزع فيها، وكان العمال يأتون إليها لسماع محاضرات عن الأحداث الجارية. وإلى هناك أيضا كان يأتي أعضاؤنا في مجلس الدوما ليقدموا لنا تقارير عن عملهم. عمليا كان كل العمل التنظيمي ممركزا حول هذه النوادي، كانت الاجتماعات الحزبية الخاصة والعامة تعقد هناك، وكان توزيع منشورات الحزب يتم من هناك، وكانت هي “عناوين” الفروع الجهوية والمحلية، وهناك كان يتم تجميع كل الأخبار المحلية، ومن هناك كان يتم إرسال المتحدثين في اجتماعات المصانع. وكانت تلك أيضا هي الأماكن حيث يمكن الالتقاء بالعمال المستنيرين لتبادل ودي للأفكار وقراءة الكتب والصحف. كانت كل الأندية تهدف قبل كل شيء إلى امتلاك مكتبات جيدة. كما أنها شجعت الفن، وكانت هناك مجموعات للموسيقى والغناء وما شابه ذلك»[11].

أثارت الثورة في أذهان العمال تعطشا كبيرا للأفكار من كل نوع، ليس فقط الأفكار السياسية بالمعنى الضيق، بل أيضا العلم والأدب والفن والثقافة بشكل عام. وتوضح برويدو ذلك قائلة: «في البداية اقتصرت الأندية على السياسة بشكل حصري، لكن سرعان ما تغير طابعها. أفسحت اجتماعات الدعاية المكان لمحاضرات ومناقشات ذات طابع عام، وأصبحت الأندية “جامعات” ماركسية. كان ممثلون من جميع لجان النادي يجتمعون لعقد محاضرات منتظمة، ولتوفير وتوزيع الكتب اللازمة وتوفير قوائم بعناوين الكتب. وسرعان ما بدأت مجموعة من العمال تطلب تنظيم دورات في المواد العلمية. وبالفعل في شتاء 1906-1907 تضمنت البرامج محاضرات عن الفيزياء والرياضيات والتكنولوجيا، إلى جانب الاقتصاد والمادية التاريخية وتاريخ الاشتراكية والحركة العمالية. وبالإضافة إلى الأندية، كانت هناك العديد من “المدارس المسائية”؛ لقد تزايدت أعداد المنخرطين فيها إلى درجة أنها أثارت انتباه الشرطة، وكثيرا ما تعرضت للإغلاق. وشملت هذه المدارس المسائية بعض الدورات للأميين والتي غالبا ما كان يحضرها عمال وعاملات كانوا يلعبون بالفعل أدوارا مؤثرة في الحركة»[12]. وقد استمرت تلك الأندية تعيش في ظل شبه شرعية غير ثابتة إلى حين اندلاع الحرب العالمية الأولى.

دفعت الثورة عمال فصيلي الحزب إلى التقارب مع بعضهم البعض. وخلال النصف الثاني من عام 1905، انطلقت سيرورة مستمرة وتلقائية من التوحيد من الأسفل. ودون انتظار أية إشارة من أعلى، اندمجت منظمات الحزب البلشفية والمنشفية ببساطة مع بعضها. عبر هذا الواقع جزئيا عن ميل العمال الفطري الطبيعي نحو الوحدة، لكنه في الواقع عبر أيضا، وكما رأينا سابقا، عن أن قادة المناشفة اتجهوا إلى اليسار بفعل الضغط من طرف قواعدهم. وبحلول دجنبر 1905، اتحدت القيادتان فعليا. تشكلت آنذاك لجنة مركزية واحدة متحدة. أعلن عن تنظيم مؤتمر توحيد وصدر العدد الأول من جريدة مشتركة، أطلق عليها اسم بارتينيي إزفستيا (أخبار الحزب). كان في هيئة التحرير ثلاثة بلاشفة (لينين ولوناتشارسكي وب. أ. بازاروف)، وثلاثة مناشفة (دان ومارتوف ومارتينوف). لكن أحداث دجنبر ضربت الروح المعنوية لقادة المناشفة الذين صاروا بالفعل يتحركون للعودة إلى اليمين، مما وضع علامة استفهام كبيرة على آفاق الوحدة.

كان لينين مؤيدا للوحدة التنظيمية، لكنه لم يتخل ولو للحظة عن الصراع الأيديولوجي، وحافظ على موقف حازم بخصوص جميع مسائل التكتيكات والمنظورات الأساسية. كان ذلك من أبرز سمات تصور لينين: أقصى ما يمكن من المرونة بشأن جميع المسائل التنظيمية والتكتيكية، إلى جانب أشد الحزم بخصوص جميع المسائل المبدئية والنظرية. لكن علينا أن نحرص على ألا ننظر في تاريخ مساعي البلاشفة وأفكارهم بناء على معرفتنا للأحداث اللاحقة. لسنوات عديدة، قدمت الروايات التاريخية السوفياتية الرسمية دور لينين وكأنه قائد يرى كل شيء ويعرف كل شيء ويتوقع كل شيء مسبقا، وقاد الحزب بيد ثابتة نحو النصر النهائي الأكيد. بهذا النوع من السير لا يمكن تحقيق أي معرفة بلينين الحقيقي. يبقى كل تاريخ البلشفية محاطا بالسرية والغموض، مثله مثل قصة خرافية أو أسطورة دينية. لكنه لم يكن كذلك. في الواقع لم يكن لينين يملك فكرة واضحة تماما عن أين هو ذاهب في ذلك الوقت، وكان ما يزال غير متأكد بخصوص الكيفية التي كانت ستسير بها الأمور. لقد كان، بطبيعة الحال، واضحا جدا بخصوص الحاجة إلى الموقف الحازم تجاه الأفكار الأساسية والمبادئ الثورية للماركسية، وأيضا بخصوص الحاجة إلى الحفاظ على البلاشفة باعتبارهم الجناح الثوري الحازم داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. لكن دعمه لإعادة التوحيد لم يكن موقفا صوريا ولا مناورة. كان المناشفة قد انتقلوا، بفعل الثورة، نحو اليسار، ولم يكن واضحا على الإطلاق كيف من شأن ذلك أن يتطور في النهاية. لم يكن قد اتضح للينين بعد أنه من الضروري إجراء قطيعة تامة، ولم يصل إلى هذا الاستنتاج إلا عام 1912. هذا هو الواقع ومن غير الصحيح تماما تقديم الصورة بأي طريقة أخرى.

رغم أن الحزب كان موحدا رسميا، فإنه كان منذ البداية منقسما إلى تيارين متعارضين: الجناح الثوري والجناح الانتهازي. الثورة أم الإصلاح، السياسة البروليتارية المستقلة أم التعاون الطبقي: كانت هذه الأسئلة الأساسية التي فصلت البلشفية عن المنشفية. ظهرت تلك الاختلافات الأساسية فورا في الموقف من مجلس الدوما والأحزاب البرجوازية. تبنى المناشفة موقف الاستسلام للبرجوازية الليبرالية والتي كانت قد انتقلت في الواقع إلى الملكية الدستورية وأخضعت نفسها للحكم المطلق. لمدة شهرين دارت مناقشة ساخنة حول قرارات مختلفة. دعمت المراكز العمالية الرئيسية الموقف البلشفي. لكنه كان حزبا مختلفا جدا عما كان عليه في الماضي. حتى المناقشات التي تمت خلال المؤتمر الثالث، قبل سنة واحدة، صارت تبدو الآن مثل تاريخ قديم. كان يبدو كما لو أن مرحلة تاريخية كاملة قد تكثفت في 12 شهرا. لم يعد يمكن الحفاظ على هياكل وعقلية الحلقات الصغرى القديمة. وقد أزيح أعضاء اللجان جانبا بشكل متزايد من طرف عمال وشباب جدد. حشدت الثورة الملايين حول راية الاشتراكية الديمقراطية. وصار من المستحيل وغير المرغوب فيه الحفاظ على النظام القديم، حيث كان يتم انتخاب المندوبين من قبل مجموعة ضيقة من الثوريين المحترفين (“اللجان”). صار يتوجب الآن تنظيم الحزب على أساس أوسع بكثير، وعلى أساس مبادئ ديمقراطية صارمة. يتضح الحجم الذي وصله الحزب آنذاك من خلال نسبة المندوبين المشاركين في المؤتمر الرابع: مندوب واحد عن كل 300 عضو.

عقد المؤتمر الرابع “التوحيدي” خلال الفترة ما بين 10 و25 أبريل 1906 بستوكهولم، حيث استضافهم الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي. الشروط العامة المتميزة بمد الردة الرجعية تسببت بلا شك في تشوه تمثيل التيارات المختلفة. بعض الفروع البلشفية لم تتمكن من إرسال مندوبين بسبب الصعوبات المالية، كما خلق القمع صعوبات أخرى. المناطق التي يسيطر عليها المناشفة، التي كانت مراكز صناعية صغيرة وبلدات صغيرة، لم تتضرر بشكل كبير عموما من ضربات الردة الرجعية، على عكس ما حدث للبلاشفة. الاعتقالات والسجن والتعطيل العام لفروع الحزب أدى إلى أن البلاشفة كانوا ممثلين تمثيلا ناقصا في المؤتمر الرابع، الذي سيطر عليه المناشفة. كان هناك ما مجموعه 112 مندوبا بحق كامل في التصويت و22 مندوبا بصوت استشاري، يمثلون 62 منظمة. كما حضر أيضا ممثلو المنظمات الاشتراكية الديمقراطية الوطنية (بولندا وليتوانيا ولاتفيا وفنلندا وأوكرانيا والبوند وأيضا الحزب الاشتراكي الديمقراطي البلغاري). كان البلاشفة 46، والمناشفة 62. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك عدد قليل من التوفيقيين. أما تروتسكي فقد كان في السجن. بين صفوف الوفد البلشفي كان هناك لينين وكراسين وغوسيف ولوناتشارسكي وشوميان وبوبنوف وكروبسكايا وليادوف وأ. إ. ريكوف وأ. ب. سميرنوف وفرونز ودزيرجينسكي وشاب جورجي مجهول باسم مستعار، كوبا، والذي صار يعرف، في التاريخ فيما بعد، باسم ستالين.

كانت القضايا الرئيسية المطروحة للنقاش في مؤتمر ستوكهولم هي: البرنامج الزراعي، والوضع الراهن ومهام البروليتاريا، والموقف من مجلس الدوما، والانتفاضة المسلحة، وحركة الأنصار (The partisan movement)، والنقابات العمالية، وطبيعة المنظمات الاشتراكية الديمقراطية، وقوانين الحزب. ولم يضيع المناشفة وقتا لانتهاز فرصة أغلبيتهم العددية. أشار لينين في تقرير عن المؤتمر، كتبه في ماي 1906، إلى أن:

«الانتخابات في المؤتمر أخذت بضع دقائق فقط. عمليا كان كل شيء قد رتب قبل الجلسات العامة. تولى المناشفة جميع المقاعد الخمسة في هيئة تحرير الجريدة. أما فيما يتعلق باللجنة المركزية، فقد اتفقنا على انتخاب ثلاثة أشخاص إليها، أما السبعة الآخرون فكانوا مناشفة. وحده المستقبل من سيوضح لنا ماذا سيكون موقف هؤلاء الثلاثة، الذين هم بمثابة مشرفين وحراس على حقوق المعارضة»[13].

النقاش حول مسألة الأرض

كانت المسألة الزراعية النقطة المركزية في كل النقاشات، وهي المسألة التي كان يتوقف عليها كل مصير الثورة الروسية. لقد أظهرت تجربة الثورة عدم كفاية البرنامج الزراعي القديم القائم على الأوتريزكي (تحديد الأراضي). دافع لينين عن اعتماد برنامج زراعي أكثر جذرية بكثير على أساس شعار مصادرة الأرض من ملاك الأراضي الإقطاعيين. كان هذا الشعار شعارا مركزيا جدا في منظور لينين للثورة الروسية. كان شعارا “للثورة الشعبية”، التي هي تحويل ثوري جذري، بقيادة الطبقة العاملة بتحالف مع الفلاحين الفقراء. كانت المهمة الأساسية هي تقديم حل جذري لمشكلة أراضي كبار الملاكين العقاريين، عن طريق ثورة زراعية كاملة تؤدي إلى مصادرة أملاكهم على يد لجان الفلاحين من أجل تحطيم قوة الملاكين العقاريين، وإذا سمحت الظروف، أي في حالة انتصار الانتفاضة المسلحة، إقامة جمهورية ديمقراطية وتأميم الأرض.

دافع لينين عن ثورة تكنس كل القمامة الإقطاعية المتراكمة. كان تصوره يستند إلى منظور النضال الثوري ضد الحكم المطلق ومنظور الانتفاضة المسلحة، وليس التعاون الطبقي مع الليبراليين والبلاهة البرلمانية. بينما عارض المناشفة دعوة الفلاحين للاستيلاء على الأرض لصالح مشاريع إصلاحية من أسوء نوع. وبدلا من الاعتماد على المبادرة الثورية للجماهير، فضلوا المناورات البرلمانية والتعامل مع الليبراليين من وراء ظهر الجماهير. كانت سياستهم بشأن مسألة الأرض تنبع من خطهم الإصلاحي العام. في المقابل، أشار لينين إلى أن مسألة الأرض سوف تحل بالوسائل الثورية أو أنها لن تحل على الإطلاق. وفي وجه المطلب الإصلاحي بوضع الأرض تحت رقابة مجالس البلديات (في ظل الحكم المطلق!)، طرح مطلب تأميم الأرض. ومع ذلك، كان لينين حريصا على أن يوضح، خلافا لأوهام الشعبويين الذين توهموا أن ذلك الإجراء سيسقط الرأسمالية، أن تأميم الأرض هو مطلب برجوازي، لا يعني، في حد ذاته، إلغاء الملكية البرجوازية، بل فقط الملكية الإقطاعية. أما بخصوص القوى الطبقية للثورة، فقد أكد لينين ألف مرة أن: البرجوازيين الليبراليين قوة مضادة للثورة. لا يمكن إنجاز الثورة الديمقراطية البرجوازية إلا بتحالف العمال والفلاحين الفقراء (الجماهير شبه البروليتارية في المدينة والريف). إن تأميم الأراضي في سياق الثورة البرجوازية الديمقراطية يعني، في الواقع، أكثر أنواع “تطهير الإسطبلات” جذرية لأجل التطور الحر للرأسمالية. ستعني الإطاحة الثورية بالحكم المطلق والاستعاضة عنه بجمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا، إقامة نظام ديمقراطي برجوازي بأفضل الظروف للطبقة العاملة. فكرة إمكانية القيام بالثورة الاشتراكية في روسيا المتخلفة قبل أوروبا الغربية لم تتبادر قط لا للينين ولا لأي شخص آخر في ذلك الوقت، باستثناء تروتسكي.

بليخانوف بدوره رفض بشدة مطلب التأميم. وباللجوء إلى حجج ديماغوجية، اتهم بليخانوف لينين بتبني نفس حجج الاشتراكيين الثوريين، وقال إن مطلب تقسيم أملاك الملاكين العقاريين مطلب رجعي: «أقول إن فكرة الفلاحين عن التوزيع العام للأرض ذات طبيعة رجعية. وفي ضوء هذه الطبيعة الرجعية، على وجه التحديد، والتي دحضناها طيلة تاريخنا السياسي، أعلن نفسي ضد تأميم الأرض. فكيف إذن يمكن استخدام هذه الطبيعة حجة ضدي؟ إن لينين ينظر إلى التأميم من خلال عيون اشتراكي ثوري. بل وقد بدأ يستعمل حتى مصطلحاتهم، إنه، على سبيل المثال، يستعمل مصطلح الإبداع الشعبي سيء السمعة».

وبسخريته المعهودة استطرد قائلا: «إنه لأمر سار أن نتذكر الأصدقاء القدامى، لكن من غير السار رؤية الاشتراكيين الديمقراطيين يدافعون عن مواقف النارودنيك. إن التاريخ الزراعي لروسيا هو أكثر شبها بتاريخ الهند ومصر والصين والأنظمة الديكتاتورية الشرقية الأخرى، من تاريخ أوروبا الغربية… ومن أجل سحق الاستبداد من الضروري القضاء على أساسه الاقتصادي. لذلك فأنا ضد التأميم الآن؛ عندما حاججنا ضد الاشتراكيين الثوريين، اعتبر لينين أن حججي كانت صحيحة. يقول لينين: “سوف نجعل التأميم غير ضار”، لكن من أجل جعل التأميم غير ضار من الضروري إيجاد ضمانة ضد العودة[14]. لكن مثل هذه الضمانة لا توجد، ولا يمكن أن توجد. لنتذكر تاريخ فرنسا؛ لنتذكر تاريخ بريطانيا؛ ففي كلا هذين البلدين حدثت العودة بعد موجة ثورية واسعة. الشيء نفسه يمكن أن يحدث لنا؛ ويجب أن يكون برنامجنا معدا بحيث يتسبب في أقل ضرر في حالة حدثت العودة».

ويختم بليخانوف بالقول:

«وهذا هو سبب رفضي للتأميم. يرتبط مشروع لينين ارتباطا وثيقا بيوتوبيا الاستيلاء على السلطة من طرف الثوريين، ولهذا على أولئك الذين لا يستهويهم مذاق مثل هذه اليوتوبيا بيننا، أن يقفوا ضدها. أما وضع الأرض تحت سلطة البلدية فأمر آخر»[15].

تعليقات بليخانوف لديها، على الأقل، ميزة الوضوح. وعندما يتهم لينين بربط برنامجه الزراعي الجذري بالاستيلاء على السلطة من طرف الثوريين، فإنه ليس بعيدا عن الحقيقة، رغم أنه يقدمها في شكل صورة كاريكاتورية. كان جوهر الحل الذي يتبناه لينين للمسألة الزراعية يتأسس على وجه التحديد على ثورة تستند خلالها البروليتاريا على ثورة الفلاحين لإسقاط القيصرية وإقامة جمهورية ديمقراطية. يتطلب ذلك ضرورة أن يدافع الحزب عن البرنامج الأكثر جذرية للمطالب الديمقراطية الثورية، وقبل كل شيء عن حل ثوري لمسألة الأرض. على النقيض من ذلك حاول بليخانوف والمناشفة تخويف الحزب بالفكرة الجبانة القائلة بأن الثورة تنتج حتما الثورة المضادة. لدينا هنا، في شكل متطرف، فكرة أنه يجب على الطبقة العاملة ألا تفعل شيئا يمكنه “استفزاز” قوى الثورة المضادة، وبالتالي يجب عليها التمسك بذيول الليبراليين. أجاب لينين بأن الضمانة الكاملة الوحيدة ضد خطر العودة هو الانتصار الكامل للثورة. تقدم هذه الحادثة الصغيرة منظورين مختلفين تماما، بل ونفسيتان مختلفتان تماما كذلك.

في رده على مناقشة المسألة الزراعية، لخص بليخانوف عصارة موقف المناشفة واتهم لينين بالبلانكية:

«هكذا هو الوضع، فبيني وبين لينين توجد خلافات هامة للغاية في الرأي. يجب عدم التغاضي عن هذه الخلافات. لا بد من توضيحها في كل أهميتها ومداها. يعيش حزبنا لحظة حاسمة. إن القرارات التي سوف تتخذونها اليوم أو غدا بخصوص المسائل المتنازع عليها ستقرر إلى حد كبير مصير حزبنا كله، وبالتالي بلدنا بأكمله. ولهذا السبب بالذات فإن مشروع الرفيق لينين، لا يعبر فقط عن رأيه الخاص حول المسألة الزراعية، بل يعكس كل تفكيره الثوري. البلانكية أو الماركسية، هذا هو السؤال الذي سنقرره اليوم. اعترف الرفيق لينين نفسه بأن مشروعه الزراعي يرتبط بشكل وثيق بفكرته عن الاستيلاء على السلطة. وأنا ممتن جدا لصدقه».

بعد ذلك جاءت اللحظة الحاسمة. كشف بليخانوف موقف المناشفة تجاه الاستيلاء على السلطة من قبل العمال والفلاحين بهذه الكلمات:

«هل صحيح، أيها الرفيق لينين، أنه بعد 17 أكتوبر توقف الاستيلاء على السلطة عن كونه يوتوبيا؟ لكنك تحدثت عن ذلك حتى قبل 17 أكتوبر، وقد أجبتك حتى قبل 17 أكتوبر. لم يغير 17 أكتوبر شيئا في تقييمنا لفكرة الاستيلاء على السلطة. إن وجهة نظري تتمثل في هذا: أن الاستيلاء على السلطة إلزامي بالنسبة لنا عندما نكون بصدد الثورة البروليتارية. لكن وبما أن الثورة الوشيكة الآن لا يمكنها أن تكون إلا برجوازية صغيرة، فعلينا واجب رفض الاستيلاء على السلطة»[16].

 كانت هذه هي حجة المناشفة في 1906-1907. كانت الثورة ثورة برجوازية: كانت مهامها برجوازية ديمقراطية؛ كانت الظروف من أجل الاشتراكية غائبة في روسيا، وبالتالي فإن أي محاولة من جانب العمال للاستيلاء على السلطة تعتبر مغامرة؛ كانت مهمة العمال هي عقد التحالف مع الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، لمساعدتها على إنجاز الثورة البرجوازية.

ماذا كان رد لينين على بليخانوف؟ لم يختلف معه حول أن الثورة كانت ثورة برجوازية ديمقراطية، ولا حول استحالة بناء الاشتراكية في روسيا وحدها. كان جميع الماركسيين الروس، المناشفة ولينين وتروتسكي، متفقون حول هذه المسألة. كان من البديهي أن شروط التحويل الاشتراكي كانت غائبة في روسيا، لكنها نضجت في الغرب. وردا منه على تحذير بليخانوف القاتم بخصوص “خطر العودة”، أوضح لينين أنه:

«إذا كنا نقصد ضمانة اقتصادية حقيقية وفعالة كليا ضد العودة، أي ضمانة تهيئ الظروف الاقتصادية التي تحول دون العودة، فإنه يجب علينا أن نقول : إن الضمانة الوحيدة ضد العودة هي الثورة الاشتراكية في الغرب. لا يمكن أن تكون هناك أية ضمانة أخرى بالمعنى الكامل للمصطلح. أما بدون هذا الشرط، فإنه أيا كانت الطريقة التي يتم بها حل المشكلة (ملكية البلدية أو تقسيم الأرض، أو ما إلى ذلك) فالعودة لن تكون ممكنة فحسب، بل لا مفر منها».

وهكذا فإن تصور لينين للثورة الروسية قام منذ البداية على اعتبارها، بشكل صحيح، مقدمة للثورة الاشتراكية في الغرب. لقد ربط مصير الثورة الروسية بصلة لا تنفصم مع مصير الثورة الاشتراكية العالمية، والتي بدونها سيكون محكوما عليها حتما بأن تهزم على يد الردة الرجعية الداخلية:

«أود أن أصوغ المسألة على النحو التالي: يمكن للثورة الروسية أن تحقق النصر بجهودها الخاصة، لكنه لا يمكنها على الإطلاق أن تحافظ على مكاسبها وتعززها بالاقتصار على قوتها الذاتية. لا يمكنها أن تفعل ذلك ما لم تحدث هناك ثورة اشتراكية في الغرب. بدون هذا الشرط تصير العودة أمرا لا مفر منه، سواء كان لدينا ملكية البلدية أو التأميم أو تقسيم الأراضي؛ لأن المالك الصغير سيكون دائما حصنا للعودة مهما كان شكل الحيازة والملكية. بعد الانتصار الكامل للثورة الديمقراطية سيتحول المالك الصغير حتما ضد البروليتاريا: وبمجرد الإطاحة بالأعداء المشتركين للبروليتاريا وصغار الملاكين، أي الرأسماليين والملاكين العقاريين والبرجوازية المالية، سرعان ما سيحدث ذلك. لا تمتلك جمهوريتنا الديمقراطية أي احتياطي آخر ما عدا البروليتاريا الاشتراكية في الغرب»[17].

وفي تقريره للمؤتمر، علق لينين قائلا:

«إن الجناح اليميني لحزبنا لا يؤمن بالنصر الكامل للثورة الحالية، أي البرجوازية الديمقراطية، في روسيا؛ إنه يخشى مثل هذا النصر، ولا يطرح امام الشعب بثقة ودقة شعار هذا النصر. إنه يتبنى باستمرار الفكرة الخاطئة أساسا، والتي هي في الحقيقة ابتذال للماركسية، القائلة بأن البرجوازية وحدها التي يمكنها بشكل مستقل أن “تنجز” الثورة البرجوازية، أو أن البرجوازية وحدها التي يجب أن تقود الثورة البرجوازية. إن دور البروليتاريا، كطليعة في النضال من أجل النصر الكامل والحاسم للثورة البرجوازية، ليس واضحا للاشتراكيين الديمقراطيين اليمينيين»[18].

تبرز هنا بوضوح كامل الاختلافات بين البلشفية والمنشفية. ومع ذلك فقد كانت هناك اختلافات وشكوك بين البلاشفة أنفسهم بشأن هذه المسألة. حيث عارض سوفوروف وبازاروف وكذلك ستالين، وغيرهم، التأميم لصالح “تقسيم” الأراضي بين الفلاحين. يعكس هذا المطلب ميلا برجوازيا صغيرا، يبتعد كليا عن موقف لينين. قال ستالين آنذاك:

«بما أننا نبرم اتحادا ثوريا مؤقتا مع الفلاحين المناضلين، وبما أننا لا نستطيع في هذا الصدد تجاهل مطالب الفلاحين، فإنه يجب علينا أن ندعم تلك المطالب، إذا كانت، ككل وبشكل عام، لا تتعارض مع اتجاهات التطورالاقتصادي ومع تقدم الثورة. الفلاحون يطالبون بالتقسيم؛ التقسيم لا يتعارض مع الظاهرة المذكورة أعلاه؛ لذا يجب علينا أن ندعم المصادرة الكاملة والتقسيم. ومن وجهة النظر هذه، فإن كلا من التأميم وملكية البلدية أمر غير مقبول على حد سواء»[19].

ومن أجل هزيمة “ملكية البلدية” اضطر لينين إلى سحب قراره الخاص والتصويت مع أنصار “التقسيم”. في ظل ظروف معينة، من شأن تقسيم ملكيات الملاكين الكبار، أن يكون بالطبع خطوة إلى الأمام، لكن مطلب لينين بالتأميم كان هو المطلب الثوري الوحيد الحازم. لكن في الختام كان القرار النهائي تسوية غير مرضية.

البلشفية والمنشفية

أدت المناقشات الأخرى إلى تأكيد الانحراف اليميني للمناشفة. فعلى سبيل المثال صاروا يعارضون شعار تسليح الجماهير، وتمكنوا من تمرير وجهة نظرهم في المؤتمر. بغض النظر عن مسألة مدى ملائمة الكفاح المسلح في اللحظة المعينة، فإن موقف المناشفة مثّل بوضوح تخليا عن النضال الثوري لصالح النزعة البرلمانية الإصلاحية وسياسة التعاون الطبقي، كما اتضح من خلال موقفهم من المسألة الزراعية والموقف من الكاديت. في وقت لاحق وصف تروتسكي التغيير الذي حدث في موقف المناشفة قائلا:

«المناشفة، الذين كانوا قبل أسابيع قليلة فقط يتبنون موقف شبه مقاطعة مجلس الدوما، حولوا الآن آمالهم من النضال الثوري إلى الفتوحات الدستورية. خلال مؤتمر ستوكهولم كان يبدو لهم أن تقديم الدعم لليبراليين هي أهم مهمة للحركة الاشتراكية الديمقراطية»[20].

اعترف أكسلرود، في تقريره عن مجلس الدوما، أن معظم المناشفة الناشطين في روسيا قد دعموا في البداية موقف المقاطعة، لكنه اشتكى من أن ذلك قد ترك المجال مفتوحا أمام الأحزاب الأخرى، وأنه قد حان الوقت لتغيير الموقف. لقد كان محقا بلا شك، لكن في السياسة من الممكن أن يكون حكم المرء صحيحا مع أن دوافعه خاطئة. كان موقف المناشفة في جوهره يقوم على السعي الدائم للتوصل إلى اتفاق مع الكاديت. وعلى النقيض من ذلك، اقترح البلاشفة الاستفادة من الصراع بين الدوما والنظام من أجل تعميق الأزمة الثورية، بينما سعوا في الوقت نفسه لفضح الكاديت بانتقادات حازمة وكسب ممثلي الفلاحين – الترودوفيك – “لتصليبهم” وتعميق القطيعة بينهم وبين الكاديت. وبينما شن لينين، في كل مقالاته وكل خطاباته في ذلك الوقت، حربا لا هوادة فيها ضد البلاهة البرلمانية، فقد وضع المناشفة كل آمالهم على مجلس الدوما. لكنه عندما تحدث ساخرا من توقعات أكسلرود المبالغ فيها من مجلس الدوما، فإنه لم يشر إلى تكتيك المقاطعة نفسه. وهذا أمر معبر. من الواضح أنه حافظ على تحفظاته السابقة، لكنه شعر بأنه مقيد بالاكراهات التكتلية التي منعته من التعبير عن آرائه علنا. تحمل كراسين مهمة طرح قضية المقاطعة أمام المندوبين، لكن المناشفة استخدموا أغلبيتهم. وأخيرا صوت المؤتمر بالموافقة على السماح للحزب بالمشاركة في انتخابات مجلس الدوما.

لكن البلاشفة كانت لديهم مشاكلهم الخاصة. فقد تبنوا موقفا غير صحيح بخصوص مجلس الدوما، وعارضوا إنشاء فريق برلماني اشتراكي ديمقراطي. يمكننا أن نرى في هذه الجزئية بوادر النزعة اليسراوية المتطرفة في البلشفية –البلاهة المعادية للبرلمانية– التي كانت الصورة المقابلة للأوهام البرلمانية والقانونية عند المناشفة. وخلافا للاتهامات التي توجه للينين عادة لنزعته “العصبوية” المزعومة وميله للتقسيم، فإنه قد دافع باستمرار عن وحدة الحزب. وعندما وجه له الاتهام خلال المؤتمر بكونه قال إنه من المستحيل بالنسبة للبلاشفة والمناشفة العمل معا في حزب واحد، رفض لينين الاتهام بسخط وقال:

«ليس صحيحا القول بأنني “دعمت” بيان الرفيق فوروبيوف القائل بأن البلاشفة والمناشفة لا يمكنهم أن يعملوا معا داخل حزب واحد. لم يسبق لي بأي شكل من الأشكال “دعم” مثل هذا القول، ولا أشارك هذا الرأي على الإطلاق»[21].

بشكل عام، لا بد من القول إن البلاشفة تصرفوا وهم أقلية أفضل بكثير من الطريقة التي تصرف بها المارتوفيون عندما كانوا أقلية في المؤتمر الثاني. وعلى عكس المارتوفيين في عام 1903، قبل لينين بنزاهة بموقعه كأقلية داخل اللجنة المركزية، التي سيطر عليها المناشفة بشكل كامل. وكان المعطى الجديد بالنسبة لهذه اللجنة المركزية هو حضور ممثلين عن المنظمات الاشتراكية الديمقراطية القومية لأول مرة: البولنديون، الذين مثلهم كل من فارسكي ودزيرجينسكي؛ واللتوانيون ممثلين من طرف دانيشيفسكي؛ والبوند يمثلهم ابراموفيتش وكريمر. وهكذا فبالرغم من تمكن المناشفة، ولو مؤقتا، من تحقيق الانتصار في هذا المؤتمر، الذي عقد في ظل ظروف تجميع الردة الرجعية لقواها، فقد كانت هناك بعض الانتصارات الصغيرة. ففيما يتعلق بقوانين الحزب، تم قبول مشروع لينين للفقرة الأولى لتلك القوانين، وتم أساسا تبنى مبادئ المركزية الديمقراطية. في الحقيقة لم تكن تلك مسألة مثيرة للجدل، بل تم اعتبارها بديهية، ليس فقط من قبل البلاشفة، بل أيضا من جانب المناشفة (الذين كانوا يشكلون الأغلبية!). وكانت هناك بعض الخلافات حول القضايا التنظيمية، لكنها لم تؤد إلى أي مشاكل خطيرة. أصر البلاشفة على أن نظام المركزين (الوجود الموازي للجنة مركزية ولجهاز مركزي) قد تجاوز مدة صلاحيته. لكن المناشفة نجحوا في الحفاظ عليه، وحرصوا على ممارسة سيطرة كاملة على هيئة التحرير، والتي كانت تتألف حصرا من المناشفة (مارتوف ومارتينوف وماسلوف ودان وبوتريسوف)، بينما منحوا للأقلية البلشفية ثلاثة مقاعد داخل اللجنة المركزية.

شكل المؤتمر الرابع، من بعض النواحي، خطوة إلى الأمام، لا سيما في تمكين الحزب من إدماج منظمات العمال من قوميات أخرى. وفي تقريره إلى المؤتمر، الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه، قال لينين ما يلي:

«عند تلخيص أعمال المؤتمر والأثر الذي كان له على حزبنا، علينا استخلاص الاستنتاجات الرئيسية التالية: كانت النتيجة العملية المهمة التي حققها المؤتمر هي مقترح (تحقق جزئيا بالفعل) الاندماج مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القومية. هذا الاندماج سوف يقوي حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وسوف يساعد على طمس آخر بقايا عادات الحلقات الصغرى القديمة، وسوف يبث روحا جديدة في عمل الحزب، وسوف يقوي بشكل كبير موقف البروليتاريا بين جميع شعوب روسيا».

وأضاف:

«وكانت النتيجة العملية المهمة هي اندماج مجموعات الأقلية والأغلبية. لقد تم إنهاء الانقسام. يجب أن تكون البروليتاريا الاشتراكية الديمقراطية وحزبها موحدان. وقد تم القضاء كليا تقريبا على الخلافات حول التنظيم»[22].

انضم الاشتراكيون الديمقراطيون البولنديون والليتوانيون إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ووضعت الأسس من أجل الوحدة مع الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين. كما وضعت الأسس لانضمام البوند أيضا للحزب، لكن المؤتمر رفض بشدة فكرة تنظيم الطبقة العاملة على أسس قومية. وفي وقت لاحق من العام (غشت) صوت البوند لصالح الانضمام إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. وقد علق لينين قائلا:

«لقد أصبح حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، أخيرا، حزبا لكل روسيا وموحدا حقا. صار عدد أعضاء حزبنا الآن أكثر من 100.000. كان 31.000 منهم ممثلون في مؤتمر الوحدة، إضافة إلى حوالي 26.000 اشتراكي ديمقراطي بولندي، وحوالي 14.000 اشتراكي ديمقراطي لاتيفي وحوالي 33.000 اشتراكي ديمقراطي يهودي».

الأرقام التي ساقها لينين أكدتها صحيفة الكاديت، “توفاريتش”، التي قدرت العدد الإجمالي للأعضاء المسجلين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، في أكتوبر 1906، بنحو 70.000. يشمل هذا الرقم كلا من البلاشفة والمناشفة. ويجب أن يضاف إلى ذلك 33.000 آخرين من البوند، بالإضافة إلى 28.000 من الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين و13.000 من الاشتراكيين الديمقراطيين الليتوانيين[23].

ومع ذلك، فإن الأرقام المثيرة للإعجاب المذكورة أعلاه لا تكشف عن القصة كلها. تخبرنا أرقام النمو في العضوية عن الفئات المتقدمة من العمال والشباب، لكنها لا تخبرنا عن الوضع بين الجماهير. كانت هزيمة دجنبر نقطة تحول بالنسبة للطبقة العاملة. في الواقع، على الرغم من أن حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي استمر في النمو، فإن تأثيره في الجماهير كان قد بدأ في التراجع. خلق الإرهاق مزاجا من اللامبالاة والتشاؤم. وعلى الرغم من أن الحركة استمرت تسير لفترة بفعل قوة الدفع الخاصة بها، فإن آمال لينين بحدوث انتعاش قريب للحركة الثورية لم تكن تتوافق مع الوضع الحقيقي. قال تروتسكي:

«إنه [أي حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي] استمر في النمو في العضوية. لكن تأثيره بين الجماهير تراجع. لم يعد في إمكان مائة مناضل اشتراكي ديمقراطي أن يقودوا من العمال في الشوارع ما كان في مقدور عشرة من الاشتراكيين الديمقراطيين قيادته في العام السابق»[24].

انتفاضة الفلاحين

انتقل مركز النشاط الثوري من المدينة إلى القرية. وفي أبريل سجلت 47 حالة من الاضطرابات الفلاحية؛ و160 في ماي؛ لكن وبحلول يونيو ارتفع الرقم إلى 739. كان هذا الرقم قريبا من أعلى رقم سجل في خريف 1905. نصف روسيا الأوروبية، وخاصة منطقة الفولغا، حيث كانت تقاليد ستينكا رازين وبوغاتشوف ما تزال متقدة في ذاكرة الموجيك، ومنطقة الأرض السوداء الوسطى، وأوكرانيا وبولندا وتامبوف ومناطق أخرى، كانت كلها تشتعل بلهب الثورة. هرب الملاكون الكبار من ممتلكاتهم عندما شكل العمال الزراعيون المتمردون لجان الإضراب في القرى. ومن النتائج الحتمية لثورة الفلاحين تصاعد أعمال حرب العصابات، التي هي النمط التقليدي لنضال الفلاحين. كانت هذه الأنشطة شائعة بوجه خاص في لاتيفيا (“أخوة الغابات”) وجورجيا (“المئات الحمر”). شكل هذا الوضع خطرا مميتا على النظام القيصري، الذي كانت نقطة دعمه الرئيسية هي فئة ملاك الأراضي الإقطاعيين، التي كانت الهدف الرئيسي لغضب وكراهية الجماهير المحرومة. وكان هناك سبب آخر للخوف من التمرد في القرى. إذ على الفور وجدت ثورة الفلاحين صدى لها في الجيش، حيث مزاج الغضب السائد بين صفوف الجنود، المحبطين بسبب الهزيمة والذي تأثروا بمثال العمال في المدن، أعرب عن نفسه في موجة جديدة من التمرد والانتفاضات.

في ظل تلك الظروف كانت السياسة العسكرية للحزب ما تزال تضطلع بدور رئيسي، وكذلك سياسته الزراعية، وهو ما استوعبه لينين بوضوح. وقد كان لدى حوالي 50 لجنة من لجان الحزب منظمات ومجموعات عسكرية خاصة. وفيما يتعلق بالمنظمة العسكرية للحزب في موسكو، كتب بياتنيتسكي:

«كان هناك مكتب فني عسكري مرتبط بلجنة موسكو؛ كان هذا المكتب مسؤولا عن اختراع واختبار وإنتاج الأسلحة البسيطة، بكميات كبيرة، كلما دعت الضرورة، بما في ذلك القنابل؛ وبهذا كان المكتب مشغولا طوال الوقت. كان المكتب الفني العسكري معزولا تماما عن منظمة موسكو، وكان مرتبطا بلجنة موسكو فقط من خلال أمين اللجنة»[25].

غير أن أقوى المنظمات العسكرية كانت في بيترسبورغ. وحسب ليونارد شابيرو، فإن الحزب كان ما يزال «يحتفظ بشبكة واسعة من المنظمات بين الجنود، وينشر ما يقرب من 20 دورية وصحيفة غير شرعية للجنود»[26]. وقد تم القيام بالتحريض بين صفوف الجيش والبحرية بمنشورات خاصة مثل Kazarma  (المتراس) و Soldatskaya Zhizn (حياة الجنود). قام الحزب بحملة نشطة بين مجندي الجيش طالبا منهم ألا يطلقوا النار على إخوانهم العمال، بل أن يلتحقوا بهم ويحملوا سلاحهم إلى جانبهم. شهد شهر مارس 1906 المؤتمر الأول للمنظمات العسكرية والقتالية. لكن جميع المندوبين تعرضوا للاعتقال منذ اليوم الأول. عقد أول مؤتمر حقيقي في 16 نوفمبر 1906، في مكان آمن نسبيا بتامرفور في فنلندا. وعلى الرغم من أن لينين كان يأمل بالتأكيد أن توفر الحركة في القرى الشرارة التي من شأنها أن تشعل الثورة، فإنه طالب باستمرار الحذر ضد التسرع وضد المغامرة، ورؤية المخاطر التي ينطوي عليها أي تحرك سابق لأوانه وسيء الإعداد. دائما ما كان تفاؤل لينين الثوري مختلطا بجرعة صحية من الواقعية، استنادا إلى تقييم متعمق للوضع. لم يكن أبدا ليخطر على باله إطلاق شعار شن حرب العصابات من طرف أقلية، وهو الشعار الذي أصبح موضة في وقت لاحق وأدى إلى الهزيمة تلو الهزيمة، وخاصة في أمريكا اللاتينية.

كان تكتيك حرب العصابات، مثله مثل أي تكتيك آخر، يخضع دائما بشكل صارم لاحتياجات الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة. هذا لا يعني أن البلاشفة أهملوا العمل بين الفئات الأخرى، مثل الطلاب والفلاحين، بل على العكس تماما لقد حاول الحزب القيام بالعمل بين الفلاحين. قال بياتنيتسكي إن مطبعة الحزب غير الشرعية في موسكو نشرت، في ثمانية أشهر فقط خلال 1906، أربع منشورات موجهة إلى الفلاحين بإجمالي عدد نسخ وصل 140.000 نسخة، بالإضافة إلى 20.000 نسخة أخرى للبرنامج الزراعي للحزب. وكان الهدف ما يزال هو الانتفاضة المسلحة.

كتب بياتنيتسكي:

« قام كل عمل منظمة موسكو، في عام 1906 والنصف الأول من عام 1907، على التقريب بين جماهير البروليتاريا وحركة الفلاحين، من أجل شن الكفاح المسلح ضد القيصرية»[27].

ومع ذلك فقد ظل تأثير الحزب بين الفلاحين ضعيفا. واستمر صدى الدعاية الاشتراكية الديمقراطية ضعيفا بين الفلاحين إلى حدود عام 1917. كان التعاطف السياسي للغالبية العظمى من الفلاحين، في حالة وجود أي تعاطف سياسي، متجها إلى هذا الحزب أو ذاك من أحزاب “النارودنيك”، إما الحزب الاشتراكي الثوري، أو إلى إلى حد أكبر، حزب الترودوفيك. لقد كانت هذه هي الفئة التي حاول الاستبداد أن يكسبها بوعود الإصلاح الزراعي. انعقد المؤتمر الأول للاشتراكيين الثوريين ما بين 29 دجنبر 1905 و4 يناير 1906. وقد كان الخط السياسي هو ذلك الخليط الانتقائي المعتاد من الاشتراكية الطوباوية (النظرة المثالية  للكومونة الفلاحية – Obshchina – التي من شأنها أن تسمح لروسيا بتجاوز الرأسمالية وتأسيس “الاشتراكية في بلد واحد”، في تحد لقوانين التطور الاجتماعي والاقتصادي) والنزعة اليسراوية المتطرفة. كان لدى الاشتراكيين الثوريين الوهم بأنه يمكن للكومونة الفلاحية أن تشكل أساسا للاشتراكية في روسيا، ولم يدركوا أنها كانت أساس الاستبداد القيصري، كما يشير عضو الترودوفيك كيرنسكي:

«من خلال مطالبتهم بمبدأ “التأميم” أو “مشركة” (socialization) الأرض، كان النارودنيون على يقين من أن الفلاحين سينتقلون بسهولة من النظام الكوموني إلى النظام التعاوني لحيازة الأراضي. إلا أنه في الواقع كان للكومونة الفلاحية في ذلك الوقت شبه قليل مع الكومونة المثالية كما تصورها أنصار التفوق السلافي والنارودنيون. من الناحية الإدارية كانت الكومونة ملائمة جدا للمراقبة البوليسية -كما قال وايت- لأنها تبقي الفلاحين تحت المراقبة مثل الأطفال الصغار. وأيضا من أجل تحصيل الضرائب، لأن المتخلفين عن الدفع كان بقية أعضاء الكومونة يدفعون عوضهم على أساس تناسبي. لقد حولت السلطات الكومونة إلى حصن للتخلف الاقتصادي واستنزفت تدريجيا حيويتها. وعلاوة على ذلك، كانت العضوية الإلزامية في الكومونات نقطة حساسة دائما بين الفلاحين أنفسهم»[28].

إن الأسئلة التكتيكية التي شغلت اهتمام لينين ورفاقه آنذاك: مقاطعة الانتخابات وحرب العصابات وما إلى ذلك، كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بمنظور إحياء الثورة وإمكانية أن تعطي حركة الفلاحين دفعة لحركة العمال في المدن. كانت المناقشات النظرية التي جرت في المؤتمر الرابع بشأن المسألة الزراعية انعكاسا شاحبا لواقع متفجر. لقد كان تمرد الفلاحين في تصاعد. وشهرا بعد شهر ازدادت حدة الانفجارات العنيفة في القرى من حيث العدد والشدة. ولجميع هذه الأسباب اكتست المسألة الزراعية بشكل حتمي أهمية أساسية في أنشطة مجلس الدوما.

من أجل تحقيق التصفية الكاملة للحركة الثورية، جمعت القيصرية بين القمع الدموي وبين الخداع، من خلال تقديم قانون انتخابي جديد وسع قليلا حق الانتخاب، في حين استمر يستبعد أكثر من 50% من السكان البالغين: النساء وجميع من هم دون سن 25 عاما واللذين في الخدمة العسكرية، وعمال المصانع الصغيرة والفلاحين المعدمين، وغيرهم. وفي 23 أبريل نشرت القواعد الانتخابية الجديدة. تمت صياغة قانون الانتخابات لصالح كبار الملاكين العقاريين بشكل وقح. في القرى كان هناك ناخب واحد من الملاكين لكل 2.000 من السكان، في حين أن النسبة للفلاحين كانت هي 01 لكل 7.000 فلاح، وللعمال 01 لكل 90.000. ففي مقاطعة بيرم، على سبيل المثال، كان صوت الملاك العقاري الواحد يعادل 28 من الفلاحين و56 من العمال. كما أن نظام التصويت كان غير مباشر، مع وجود نظام معقد من لجان الاقتراع التي شكلت “لتمثيل” مختلف الكيانات الاجتماعية: العمال والفلاحين والملاكين العقاريين الذين يصوتون “لمنتخبين”، هم من سيختارون بعد ذلك أعضاء مجلس الدوما. يقول كيرنسكي في مذكراته عن القوانين الانتخابية:

«كان القانون الانتخابي الجديد معقدا، وينتهك كل شرائع الإجراءات الديمقراطية. تم انتخاب النواب من طرف المقاطعات التي تتألف من مندوبين يتم اختيارهم بشكل منفصل من قبل أربع مجموعات: ملاك الأراضي والسكان الحضريون والفلاحون، وعمال المصانع في بعض المناطق القليلة. تم انتخاب النواب الإلزاميين لمجلس الدوما من كل قرية، وانتخب باقي النواب من قبل المجموعة الإقليمية»[29].

وفي حين كان الملاكون الإقطاعيون يسيطرون على الأمور، تم منح الفلاحين مركزا متميزا نسبيا مقارنة مع العمال. وبأسلوب بونابارتي نموذجي، حاول النظام الاستناد على الفلاحين (وخاصة الفلاحين الأغنياء أو “الأقوياء”) ضد الطبقة العاملة. وبالتالي كان تمثيل الفلاحين في الدوما مرتفعا نسبيا: حوالي 45% من المقاعد. كان ذلك يعكس وعي الاستبداد بعزلته الاجتماعية، ورغبته العارمة في الحصول على قاعدة صلبة من الدعم الجماهيري بين الفئات الأكثر محافظة بين سكان الريف. كان القيصر منذ القدم يعتبر بمثابة “الأب”، Batyushka، للشعب، وهو الوهم الذي كان يتبناه الموجيك الروسي تقليديا، والذي، في وقت الحاجة، كان يتنهد قائلا: “Bog vysoko; tsar daleko” (“الله في السماء، والقيصر بعيد جدا”). وتظهر مذكرات نيكولا الثاني أنه هو نفسه كان مقتنعا بأن “الشعب” (أي الفلاحين) كانوا يعشقونه حتى اللحظة التي أطاحوا به وبسلالته. يوم  09 يناير 1905، فَصَلَ خط مرسوم بالدم بين النظام الاستبدادي وبين الطبقة العاملة في المدن. وظل حلم إقامة حصن حول النظام الملكي مكون من طبقة مخلصة من صغار الفلاحين، يشكل روح ومضمون الردة الرجعية التي قادها ستوليبين. لكن من خلال تمكينه للفلاحين من إسماع صوتهم في الدوما، وإن بطريقة مشوهة، خلق الاستبداد، عن غير قصد، السوط الذي سيُجلـد به وقدم للجناح الاشتراكي الثوري منبرا يمكنه استغلاله.

وبالإضافة إلى نظام الامتيازات، كانت حقوق الدوما مقيدة بشدة. لم يكن من الممكن مناقشة أجزاء من الميزانية. فالقروض والعملات كانت من اختصاص وزير المالية وحده. وكان الجيش وقوات البحرية، بطبيعة الحال، تحت السيطرة الشخصية للقيصر. وتم توسيع مجلس الوزراء، الذي حتى ذلك الحين كان العاهل هو من يعينه، ليشمل عددا متساويا من الوزراء المنتخبين، وتحول تحت اسم مجلس الشيوخ إلى غرفة عليا لها حقوق متساوية مع مجلس الدوما! كان هذا العمل من ابتكار الكونت وايت، الذي أظهر أيضا عن فائدته للقيصر من خلال تفاوضه للحصول على قرض كبير من فرنسا.

المقاطعة أم عدم المقاطعة؟

في مؤتمر تمرفورس البلشفي، الذي انعقد في حين كانت انتفاضة موسكو تقترب من نهايتها الدموية، ناقش القادة البلاشفة الموقف الذي عليهم اتخاذه من الانتخابات المقبلة لمجلس الدوما. كان المزاج العام يؤيد بأغلبية ساحقة موقف المقاطعة، لكن لينين كان حذرا. وعند التصويت، صوت اثنان ضد اقتراح المقاطعة، وهما لينين وغوريف. أثار ذلك موجة من السخط من جانب المندوبين الآخرين، مما أجبر لينين على التخلي عن معارضته. لم تكن تلك هي المرة الأولى أو الأخيرة التي أجبر فيها لينين على أن يأخذ في الاعتبار مزاج الفئة القيادية داخل حزبه ضد موقفه الأفضل. وقد استقبل موقفه الجديد بتصفيق عاصف، على الرغم من أنه قال ساخرا بأنه تراجع “بنظام عسكري كامل”[30].

كان المقاطعون يشكلون أغلبية بين تلك الفئة من أعضاء اللجان، بمن فيهم ستالين الذي كان آنذاك يحضر اجتماعه الأول للحزب في الخارج، والذين اعتبروا أن معرفتهم العملية بالوضع داخل روسيا كانت كافية لوضعهم في مستوى متفوق على منظري الحزب، بمن فيهم لينين نفسه. وفي جلسة أخرى صوت مؤتمر تمرفورس لصالح إعادة توحيد صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. توجب عقد مؤتمر رابع للحزب، واتخاذ التدابير الأولية فورا لتوحيد التيارين على أساس التكافؤ. كان على اللجان المحلية أن توحد أنشطتها، وأن تنتخب اللجان في كل مكان من الأسفل وأن تكون مسؤولة أمام القواعد. ومع ذلك، ينبغي تطبيق المركزية الديمقراطية، حيث أنه بمجرد انتخابها، ينبغي أن تمنح للجان “كامل السلطة في مسألة القيادة الأيديولوجية والعملية”[31].

ومباشرة بعد ذلك، عقدت اجتماعات بين ممثلي كلا التيارين، حضرها كل من لينين ومارتوف، لتذليل العقبات أمام الوحدة وعقد المؤتمر الرابع للحزب. وفيما يتعلق بمقاطعة مجلس الدوما، تبنى المناشفة موقف المقاطعة، الذي طرحه البلاشفة بإصرار. لقد كانوا ما يزالون تحت تأثير الأحداث الأخيرة، وكانوا هم أنفسهم، على أي حال، فاقدين للثقة في الدوما. لكن مع اقتراب موعد المؤتمر كانوا قد بدأوا يبردون. بعد هزيمة دجنبر كان من الضروري بلا شك إعادة النظر في تكتيكات الحزب لمراعاة الوضع الجديد. فبعد الفشل في القضاء على الأعداء عن طريق الهجوم المباشر، كان من الضروري اللجوء إلى تكتيكات الحصار، والاستفادة من جميع الإمكانيات القانونية لحشد العمال حول البرنامج الثوري. ومقاطعة البرلمان في مثل هذه الظروف كان خطأً فادحا. وفي هذا السياق قال تروتسكي إنه لا يجوز مقاطعة المؤسسات التمثيلية إلا إذا كانت الحركة الجماهيرية قوية بما يكفي للإطاحة بتلك المؤسسات أو تجاهلها، لكن عندما تتراجع الجماهير فإن تكتيك المقاطعة يفقد معناه الثوري[32].

كانت هناك نقاشات داخلية حادة حول التكتيكات فيما يتعلق بمسألة المقاطعة. وقد بينت هذه النقاشات بشكل جلي الفجوة التي تفصل بين البلشفية والمنشفية. فالمناشفة بميلهم الطبيعي نحو الانتهازية سرعان ما استنتجوا أن الثورة قد انتهت وأن الوقت قد حان للانتقال إلى الساحة البرلمانية. لكنهم واجهوا صعوبة كبيرة في إقناع قواعد الحزب. كما رفضوا في البداية المشاركة في الانتخابات، ولكنهم غيروا موقفهم إلى تبني موقف “شبه مقاطع”، والذي يرتبط بشعار “الحكم الذاتي الثوري”، الذي لا معنى له. لقد ندد لينين باحتقار بتذبذبهم، وقال: “إنهم لا يؤمنون بالثورة ولا يؤمنون بالدوما”. أما بليخانوف، الذي كان قد انتقل إلى الجناح اليميني من المناشفة، فقد دعا إلى المشاركة دون تحفظ.

وعلى الرغم من القمع الشرس المتزايد، كان الحزب ما يزال قادرا على العمل. كانت الاجتماعات ما تزال تعقد، حيث كانت المسائل التكتيكية موضع نقاش ساخن. وكان المزاج العام لأعضاء الحزب ما يزال معارضا بشدة للمشاركة في انتخابات مجلس الدوما في هذه المرحلة. في 11 فبراير، خلال اجتماع حزبي موحد في بيترسبورغ، جمع البلاشفة والمناشفة، سيَّر لينين النقاش حول موقف الحزب من الدوما. دان ومارتوف، اللذان تحدثا باسم المناشفة، تبنيا موقف المعارضة. ووافق اجتماع ثان على موقف لينين المتمثل في “المقاطعة النشطة”. وفي السنوات اللاحقة اعترف لينين بنزاهة بأن هذا الموقف كان خطأ، لكنه في ذلك الوقت كان يعكس بلا شك المزاج السائد بين المناضلين. كانت الطبيعة الرجعية للدوما واضحة، ليس فقط بالنسبة للبلاشفة بل بالنسبة لغالبية الاشتراكيين الديمقراطيين. ويبدو أن مزاج غالبية الاشتراكيين الديمقراطيين في جميع أنحاء البلاد كان يميل بشدة إلى المقاطعة. لم تكن حمم الثورة قد هدأت بعد، وبالتالي ليس فقط البلاشفة، بل أيضا الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين واللاتفيين والليتوانيين، بل وحتى البوند، المحافظين بطبيعتهم، تبنوا تكتيك المقاطعة. وكان أغلب المناشفة مترددين. لكن مزاج مناضلي الحزب هذا كان غير متوافق مع مزاج الجماهير.

وفيما يتعلق بالخلاف حول المشاركة في انتخابات الدوما في عام 1906، تتذكر إيفا برويدو كيف اصطدم الحزب بشكل غير متوقع تقريبا بالموقف من مجلس الدوما:

«كان البلاشفة ضد المشاركة بينما كان المناشفة مع المشاركة. واتفقوا في النهاية على أن يشارك الحزب فقط في المرحلة الأولى من الانتخابات (لم يكن هناك تصويت مباشر). وبهذه الطريقة كان الحزب يأمل في استغلال الانتخابات لأغراض الدعاية والتحريض، ولا سيما بين العمال. لكن في الممارسة سارت الأمور بشكل مختلف. ففي المناطق التي كان للمناشفة فيها أغلبية كبيرة، كما في القوقاز، ذهب الحزب بعيدا في الانتخابات وأوصل عدة أعضاء إلى الدوما. وبالإضافة إلى ذلك، انضم العديد من الأعضاء، الذين انتخبوا كمستقلين، إلى الاشتراكيين الديمقراطيين. وهكذا صار الحزب ممثلا في مجلس الدوما وكان عليه أن يحدد موقفه إزاء الأحداث السياسية الراهنة».

وتضيف:

«وعلاوة على ذلك، وبشكل متعارض مع توقعات البلاشفة، أصبح الدوما بسرعة محط اهتمام الجماهير، حتى بين الطبقة العاملة. ولم يعد ممكنا ببساطة تجاهل الدوما، وكنا نحن المناشفة مقتنعين بأنه يجب علينا أن نستفيد إلى أقصى حد ممكن من هذه الفرصة للدفاع العلني عن رسالتنا الاشتراكية أمام البلد بأسره»[33].

في ربيع 1906، أجريت الانتخابات لأول دوما. وبالنظر إلى الانفتاح الواسع نسبيا الذي قدمه بيان أكتوبر، كانت هناك إمكانية للقيام بحملة ناجحة من جانب الاشتراكيين الديمقراطيين. وبموجب ذلك النظام، كما رأينا، كان العمال يصوتون بشكل منفصل من خلال نظام اللجان الانتخابية المعروفة باسم “الجماعة”، والتي كانت تنتخب الممثلين على النحو التالي: أجريت الانتخابات على ثلاث مراحل: أولا ينتخب العمال ممثليهم على مستوى المصنع؛ ثم ينتخب هؤلاء الأخيرون “الناخبين”؛ وأخيرا ينتخب “الناخبون” نواب مجلس الدوما. كانت المصانع التي تشغل من 50 إلى 1.000 عامل تنتخب ممثلا واحدا. بينما كانت المصانع الكبيرة تنتخب ممثلا واحدا لكل 1.000 عامل، واستبعدت المصانع التي يقل عدد العاملين فيها عن 50 عاملا. ومن المفارقات أن كون الانتخابات غير مباشرة، والذي كان في حد ذاته إجراء غير ديمقراطي، قد أعطى الاشتراكيين الديمقراطيين فرصة لم يكونوا ليتمتعوا بها في ظل نظام تصويت أكثر طبيعية، لأنهم تمكنوا من تركيز طاقاتهم في حملة جماعات العمال، التي هي “أوساطهم الطبيعية”.

استند موقف البلاشفة على توقع حدوث تحول ثوري جديد وشيك. لكن ذلك كان خطأ في قراءة الوضع. فهم العمال الأكثر تقدما الحاجة إلى حزب ثوري، لكن الجماهير كانت تغرق بشكل متزايد في اللامبالاة والسلبية. ومن الحقائق الراسخة أن مزاج الفئة الأكثر نشاطا والأشد كفاحية يمكن أن يكون في كثير من الأحيان متناقضا مع مزاج باقي الطبقة. يمكن للفئة الطليعية أن تتحرك أبعد جدا عن بقية الطبقة. وهذا خطأ فادح في الصراع الطبقي مثلما هو خطأ في التكتيكات العسكرية. إذا سارت الفئة الطليعية بعيدا جدا وفقدت الاتصال مع المؤخرة، تصبح مكشوفة على نحو خطير وتتعرض لخطر السحق. يصدق هذا أيضا وبنفس القدر عندما تسيء الفئة الأكثر كفاحية، بسبب نفاد الصبر، تقييم مزاج العمال، أو تخلط بين مستوى وعيها هي وبين مستوى وعي الأغلبية. وذلك ما حدث في هذه الحالة.

كان البلاشفة قد أساءوا تقييم الوضع، ولم يتمكنوا من تقدير أن الثورة كانت في تراجع. وكما هو الحال في الحرب، فحتى خلال الثورة أو حتى إضراب، من الضروري أن نكون قادرين على التراجع بشكل منظم عندما يتطلب الوضع ذلك. إن الدعوة إلى التقدم عندما تتطلب الظروف الموضوعية التراجع هو وصفة للكارثة. وفي تلك الحالة لم يسفر تكتيك المقاطعة النشطة عن أي تأثير. لم تكن الطبيعة الحقيقية للدوما واضحة بأي حال من الأحوال للجماهير. وكانت الأوهام الدستورية قوية بشكل خاص بين الفلاحين الذين آمنوا بأنهم سيحصلون على الأرض. لكن انتصار الثورة المضادة وانحسار الحركة الجماهيرية كان يعني بالنسبة لفئات واسعة من الجماهير البرجوازية الصغيرة الحضرية والفلاحين وحتى لقسم من الطبقة العاملة، أن الدوما هي الأمل الوحيد، وإن كان أملا ضعيفا، لتحسين الأوضاع. حقيقة أن هذه الآمال كانت بدون أي أساس لم تجعلها أقل رسوخا.

وطالما واصل لينين الاعتقاد باقتراب حدوث تحول ثوري جديد، فقد وضع كل تركيزه على هدف الانتفاضة المسلحة، وكتب في أكتوبر 1906: «يجب على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الثوري أن يكون أول من يأخذ مكانه في النضال الأكثر حزما والأكثر مباشرة وآخر من يلجأ إلى طرق النضال غير المباشرة».

وبعبارة أخرى، إن موقفه من المشاركة حتى في أكثر البرلمانات رجعية لم تكن تمليه مبادئ مجردة أو دوغمائية، بل تمليه حاجيات الثورة. وطوال الفترة الممتدة من 1906 حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت مسألة ما إذا كان يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين المشاركة في انتخابات الدوما القيصرية، المنتخبة على أساس ما وصفه لينين بأنه أكثر القوانين الانتخابية رجعية في أوروبا، في قلب الجدل الذي هز الحزب حول التكتيكات والإستراتيجية. بعد سنوات، وفي كتابه الكلاسيكي “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”، شرح لينين موقفه في ذلك الوقت:

«فعندما أعلن القيصر، في غشت 1905، عقد “برلمان” استشاري، أعلن البلاشفة مقاطعته -على النقيض من جميع الأحزاب المعارضة ومن المناشفة- وبالفعل كنست ثورة أكتوبر 1905 ذلك “البرلمان”. كانت المقاطعة آنذاك موقفا صحيحا، وذلك ليس بسبب أن عدم الاشتراك في البرلمانات الرجعية بوجه عام هو أمر صحيح، بل لصحة تشخيص الظروف الموضوعية التي كانت تؤدي إلى تحول الإضرابات الجماهيرية بسرعة إلى إضراب سياسي، ثم إلى إضراب ثوري وبعد ذلك إلى انتفاضة. وعلاوة على ذلك كان النضال يجري آنذاك حول ما إذا كانت دعوة أول مؤسسة تمثيلية تبقى في يد القيصر، أو أنه يتوجب بذل الجهد لانتزاعها من يد النظام القديم. وطالما لم تكن، وما كان ممكنا أن تكون، هناك ثقة بتوفر ظروف موضوعية مماثلة، وكذلك بتطورها في ذلك الاتجاه نفسه وبتلك السرعة نفسها، فإن المقاطعة لم تعد موقفا صحيحا.
لقد أغنت المقاطعة البلشفية “للبرلمان” سنة 1905 البروليتاريا الثورية بخبرة سياسية قيمة جدا، وبينت أنه عند الجمع بين أشكال النضال العلنية وغير العلنية والبرلمانية وغير البرلمانية، يكون من المفيد أحياناً، بل ومن اللازم، الامتناع عن الأشكال البرلمانية. بيد أنه سيكون من أسوء الأخطاء تطبيق هذه الخبرة تطبيقاً أعمى وعن تقليد ودون تمحيص في ظروف أخرى وموقف آخر. لقد كانت مقاطعة البلاشفة للدوما سنة 1906 خطأ، على الرغم من أنه كان خطأ غير خطير وقابلا للتصحيح بسهولة. أما المقاطعة في سنتي 1907 و1908 والسنوات التي تلتهما فقد كانت خطأ أشد خطورة ومن العسير إصلاحه، لأنه، من جهة، لم يكن ممكناً توقع صعود سريع جداً لموجة ثورية وتحولها إلى انتفاضة، ولأنه، من جهة أخرى، كان كامل الوضع التاريخي برمته، المصاحب لتجديد النظام الملكي البرجوازي، يستدعي ضرورة الجمع بين النشاط العلني وغير العلني»[34].

وقد عبر تروتسكي عن نفس الموقف قائلا: «إن المقاطعة هي إعلان حرب صريحة ضد الحكومة القديمة، وهي هجوم مباشر ضدها. لكن في حالة انعدام انتعاش ثوري على نطاق واسع… لا يمكن الحديث عن نجاح المقاطعة». وفي وقت لاحق، في عام 1920، كتب: «لقد كان خطأ… من جانب البلاشفة مقاطعة الدوما في عام 1906». وأضاف: «كان ذلك خطأ، لأنه بعد هزيمة دجنبر كان من المستحيل توقع هجوم ثوري في المستقبل القريب؛ لذلك كان من غير المعقول إهمال منبر الدوما كوسيلة لتعبئة الصفوف الثورية»[35].

ووراء كل هذه المناقشة حول مجلس الدوما كان السؤال الأكثر أهمية بكثير هو موقف حزب العمال من الليبراليين. في أعقاب أحداث دجنبر، كانت هناك مؤشرات واضحة على حدوث تحول في مزاج الطبقات المنخرطة في الصراع. أجبر العمال في كل مكان على التحول إلى موقع الدفاع، وأدت أحداث دجنبر أيضا إلى حدوث تحول حاسم في موقف الليبراليين. كان الكاديت قد أداروا بالفعل ظهورهم للثورة منذ أكتوبر 1905. وقد أدت انتفاضة موسكو إلى اجتثاث أي ذرة تعاطف بقيت لهم مع البروليتاريا الثورية، وظهروا بألوانهم الحقيقية. لقد وقفت البورجوازية صفا واحدا في معارضة “جنون” دجنبر. ولم تكن هذه طبعا هي المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها مثل هذه الظاهرة. فقد حدث نفس الشيء بالضبط  خلال ثورة 1848، كما أوضح ماركس وإنجلز.

الموقف التقليدي لليبراليين خلال مرحلة الردة الرجعية هو الدفاع عن الإصلاح للحيلولة دون وقوع الثورة، داعين الدولة إلى “إنقاذ نفسها”. وغني عن القول إن هذه النصيحة الحسنة النية قد قوبلت بقهقهات الازدراء من طرف معسكر الأوكتوبريين. ولم يكن نحيب الليبراليين المنافق حول “تجاوزات” الثورة المضادة سوى نصيحة ودية للنظام الاستبدادي حول أفضل طريقة لخنق الثورة. من الواضح تماما أنه من الأفضل بكثير خنق شخص بطريقة تجعله يصدر أقل قدر ممكن من الضجيج. لكن لكي تتم عملية الخنق، لا يمكن أن يكون هناك رأيان اثنان! كان هذا، في جوهر الأمر، هو الفرق بين قسمي البرجوازية المعادية للثورة. بدأ الكاديت يطلقون على أنفسهم اسم “حزب حرية الشعب”، باعتباره أفضل طريقة لخداع الشعب ووضع حد للثورة التي أرعبتهم. كان الموقف من الكاديت هو الخط الأساسي الفاصل بين الاشتراكيين الديمقراطيين، فالمناشفة دعوا إلى التكتل والاتفاق مع الكاديت داخل الدوما، في حين احتفظ لينين بأقصى قدر من الانتقاد ضد هؤلاء الليبراليين المعادين للثورة.

لم يكن سلوك الليبراليين المضاد للثورة من قبيل الصدفة، فقد كانت البرجوازية الروسية الضعيفة مرتبطة بألف رابط بالارستقراطية الإقطاعية، من خلال الزواج أو الأصل الاجتماعي أو الملكية المباشرة للأرض. ووفقا لدراسة معاصرة، قام بها ن. أ. بورودين، يظهر تكوين مجلس الدوما بالأرقام، فمن أصل 153 كاديتي في الدوما الأول، كان هناك 92 من النبلاء. ومن بينهم كان هناك ثلاثة ملاكين عقاريين يملكون ما بين 5.000 و10.000 ديسياتين؛ وثمانية ملاكين عقاريين يملكون ما بين 1.000 إلى 2.000 ديسياتين؛ و30 ملاكا عقاريا يملكون ما بين 500 إلى 1.000 ديسياتين. وهكذا، كان ثلث نواب الكاديت بالفعل ملاكين كبار للأرض[36]. كيف يمكن لهؤلاء الناس أن يقدموا حلا للمشكلة الأكثر إلحاحا التي تواجه روسيا، أي المسألة الزراعية؟ لقد كان الليبراليون في الدوما، وعلى الرغم من احتجاجاتهم “التقدمية”، أقرب إلى النظام القيصري في جميع القضايا الأساسية، مما هم إلى العمال والفلاحين.

لقد انقسم الليبراليون البرجوازيون بالفعل إلى معسكرين داخل الدوما، يمثل “الأوكتوبريون” يمينهم، بينما شكل “اليسار” (الديمقراطيون الدستوريون، أو الكاديت كما أصبحوا معروفين شعبيا). لكن وعلى الرغم من أنهم انشقوا رسميا إلى “رجعيين” و“ليبراليين”، فإن الاختلافات بينهما كانت شكلية فقط. ففيما يتعلق بالموقف من البروليتاريا الثورية والفلاحين، وقفوا متحدين في كتلة واحدة معادية للثورة تمثل مصالح النظام والملكية الخاصة. وفي حين دعموا بحماس سحق الثورة، فإنهم لم يتورعوا عن التمسك بالحركة الجماهيرية للضغط على النظام لمنحهم بعض التنازلات، لكن ليس عندما تبدأ الجماهير بمنافستهم على السلطة. إن الليبراليين البرجوازيين الذين كانوا قد باعوا بالفعل روحهم إلى النظام الاستبدادي (بزعم أنه قد تحول بأعجوبة إلى “ملكية دستورية”) سرعان ما أخذوا مكانهم الصحيح في معسكر الردة الرجعية “البرلمانية”، باعتبارهم معارضة جلالة الملك الأوفياء، ومجرد ورقة تين للثورة المضادة. ومنذ ذلك الحين أصبحت مسألة موقف الاشتراكيين الديمقراطيين من الأحزاب البرجوازية المسألة المركزية بالنسبة للثوريين.

الأوهام البرلمانية

يوم 27 أبريل (10 ماي) 1906، الذي كان يوم صيف حار، افتتح دوما الدولة الأول أبوابه في قصر توريد الرائع. وفي القاعة الفخمة، المليئة بالدوقات ورجال الحاشية والشعارات الملكية، استمع ممثلو الشعب المنتخبون بكل احترام إلى الخطاب الافتتاحي للقيصر نيكولا. أثار هذا المشهد الفسيفسائي، والمتناقض إلى حد ما، انتباه أحد المراقبين الإنجليز الذي خلده للأجيال القادمة:

«الفلاحون في معاطفهم السوداء الطويلة، وبعضهم يرتدي الميداليات العسكرية والصلبان؛ الباباوات (أي الكهنة) والتتار والبولنديين، ورجال يرتدون كل أنواع اللباس باستثناء الزي الرسمي.. . ترى رجالا كبار السن بمعاطف فراء، يبدون “مثقفين” ديمقراطيين بشعرهم الطويل ونظارات الأنف؛ وأسقف بولندي يرتدي زيا أرجواني اللون، يشبه البابا. ورجال دون ياقات. وأعضاء بروليتاريين، رجال بالقمصان الروسية الفضفاضة مع الأحزمة؛ ورجال يرتدون أزياء عصرية غالية الثمن، وآخرون يرتدون زيا يعود إلى قرنين من الزمان… كان هناك عضو بولندي يرتدي جوارب زرقاء خفيفة، وسترة إيتون قصيرة وأحذية هيسيان، لديه شعر مجعد، ويبدو تماما مثل بطل كافاليريا روستيكانا. وهناك عضو بولندي آخر يرتدي معطفا طويلا من الفانيلا البيضاء يصل إلى ركبتيه… وهناك بعض الاشتراكيين الذين لا يرتدون الياقات، وهناك، بالطبع، كل أنواع القبعات التي يمكنك تصورها»[37].

يظهر بشكل واضح من خلال هذا الاستشهاد التكوين غير المتجانس للغاية لمجلس الدوما. وأخيرا يبدو هنا مقطع حقيقي لفئات المجتمع الروسي التي اجتمعت معا تحت سقف واحد، وعلى استعداد لحل مشاكل المجتمع من خلال النقاش الديمقراطي وحسن النية! لكن وتحت الطلاء البراق والاحتفالية كانت هناك هوة عميقة غير مرئية. عانت أم القيصر من صدمة كبرى لرؤيتها لهؤلاء الناس إلى درجة أنها لم تتمكن من استعادة رباطة جأشها إلا بعد عدة أيام. وقد قالت في وقت لاحق لوزير المالية: «كانوا ينظرون إلينا مثل الأعداء. لم أتمكن من التوقف عن النظر إلى بعض الوجوه التي كانت تعكس كراهية غريبة لنا جميعا»[38]. لم تحقق الأحزاب اليمينية نجاحا كبيرا في الانتخابات، ولم يتم انتخاب سوى 12 من الأوكتوبريين (الليبراليين اليمينيين). بينما استفاد الكاديت من مقاطعة الاشتراكيين الديمقراطيين للانتخابات. وبما أنهم كانوا البديل الوحيد على اليسار، فقد فازوا بـ 184 مقعدا. إن التباس الموقف تجاه انتخابات الدوما كلف الاشتراكيين الديمقراطيين ثمنا باهظا. لقد عمل الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي على مقاطعة الانتخابات، وبعد ذلك، عندما أصبح واضحا أن الجماهير كانت تشارك، سارع إلى تعديل موقفه لكن الأوان كان قد فات لاستعادة الأرض المفقودة. لقد قدم الاشتراكيون الديمقراطيون في الواقع خدمة لحزب الكاديت. لو أن الاشتراكيين الديمقراطيين والاشتراكيين الثوريين عملوا على تقديم مرشحين لتلك الانتخابات، لما كانت نتيجة الكاديت لتكون مثل تلك التي حققها، وهو ما اتضح لاحقا في الانتخابات التالية.

إن التكتيكات الخاطئة للاشتراكيين الديمقراطيين سلمت للكاديت السيطرة الفعلية على الدوما على طبق من ذهب. الكاديت الذين اغتروا بانتصارهم طرحوا على الفور اقتراحا يدعو إلى تشكيل حكومة تكون مسؤولة أمام مجلس الدوما، بدلا من النظام المعمول به والذي يعمل فيه القيصر على تعيين حكومة تكون مسؤولة أمامه وحده. وكان هذا في الواقع مطلبا يعني بأن تنتقل السلطة إلى الكاديت. وبسبب أوهامهم البرلمانية أيد المناشفة مطلب الليبراليين، في حين عارض البلاشفة استعمالهم كلعبة بالبرلمان. لم يكن ذلك المطلب، حتى من وجهة النظر الديمقراطية البحتة، مطلبا يمكن لأي حزب ثوري يستحق اسمه أن يدعمه. فطالما لم يكن هناك اقتراع متساو ومباشر وشامل في روسيا، فإن مجلس الدوما لم يكن ممثلا حقيقيا للشعب. ودعم المناورات البرلمانية للكاديت سيخلق الأوهام في أذهان الجماهير بأن مثل تلك الحكومة ستكون أفضل من الحكومات القيصرية غير الديمقراطية السابقة، في حين أن ذلك ليس صحيحا. كانت البرجوازية لا تريد سوى عقد مساومة مع النظام الملكي، في حين أراد حزب الطبقة العاملة الثوري أن يكنس ذلك النظام ويستبدله بنظام ديمقراطي حقيقي. كان الهدفان متناقضان وقد عبرا عن نفسيهما في تكتيكات متناقضة. وقد أدى الصراع حول التكتيكات تجاه الدوما إلى انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى جناحين: “مع أو ضد حكومة الديمقراطيين الدستوريين؟”، كان هذا هو السؤال الذي طرح في استفتاء داخل الحزب.

وصفت المنشفية إيفا برويدو اجتماعا نظم في سياق الحملة حول الاستفتاء، في رصيف بناء سفن البلطيق في بيترسبورغ، معقل المناشفة، حيث ألقى لينين خطابا:

«بعد أن افتتاح الجلسة أعطيت الكلمة للينين. لقد تحدث بشكل جيد جدا وبثقة كبيرة. وكثيرا ما قوبلت كلماته بالتصفيق. وما فاجئني هو أنه لم يهاجم المناشفة ولو مرة واحدة»[39].

فقد لينين التصويت بأغلبية كبيرة، 50 إلى 13، لكن هذا الحدث يظهر أسلوبه في الجدل الحزبي، وخاصة عند التعامل مع العمال. اعترفت برويدو بدهشتها، هل كان هذا هو نفسه لينين الذي قطع بحزم مع مارتوف وبليخانوف؟ لكنه في نقاش أمام العمال الذين ما زالوا تحت تأثير المناشفة، “لم يهاجم المناشفة ولو مرة واحدة”. يوضح لنا هذا الحدث كثيرا عن أسلوب لينين في الجدال.

على الرغم من أنه لم يتم الاحتفاظ بنص خطاب لينين الذي ألقاه في رصيف بناء السفن، فإنه ليس من الصعب أن نتخيل محتواه. لا بد أنه هاجم، ليس قادة المناشفة، بل العدو الرئيسي، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين والنظام القيصري. كان ليوضح أن من يسمون بالليبراليين في الدوما (الكاديت)، قد أداروا ظهرهم للثورة وصاروا يسعون إلى التوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري؛ ويدعو العمال إلى الاعتماد فقط على قوتهم الخاصة، وألا يتورطوا في التحالفات والتعامل مع الليبراليين الخونة؛ وكان ليطالب الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، بأن يتبنى بحزم سياسة الاستقلالية الطبقية. كان لينين يعتمد دائما على قوة حججه وأرقامه وبراهينه من أجل إقناع جمهوره. وفقط بهذه الوسائل كان في نهاية المطاف يكسب الأغلبية إلى صفه، بدءا من الفئات المتقدمة، ثم الطبقة العاملة ككل. وقد استخدم لينين نفس الأساليب في عام 1917، عندما وجه الحزب البلشفي لكسب الجماهير بشعاره الشهير “اشرح بصبر!”.

على الرغم من أن الكاديت كانوا يهيمنون على الدوما، فإنهم لم يكونوا يشكلون أكبر مجموعة برلمانية. كانت هناك، لأسباب سبق شرحها، كتلة كبيرة من نواب الفلاحين، 200 في المجموع. ورأى البعض أن ذلك سيكون عامل استقرار. كان الوهم بخصوص الموجيك “الذي يخاف الله والوفي للقيصر” ما يزال قويا في أوساط الطبقة السائدة: “شكرا للسماء!” هتف الكونت ويت، “ستكون الدوما مشكلة في أغلبيتها من الفلاحين”. لكن هذا التفاؤل كان سابقا لأوانه. كان الموجيك قد بدأ يكتسب الوعي بمصالحه. ونظم قسم كبير من نواب الفلاحين أنفسهم في ما أسموه “مجموعة العمل” (“ترودوفايا غروبا” أو “الترودوفيك” كما صاروا يعرفون). استوعب لينين على الفور أهمية ذلك. لقد أرسل الفلاحون ممثليهم إلى الدوما ليس لإلقاء الخطب، بل للحصول على الأرض. وكانوا سرعان ما سيكتشفون عمليا أن مجلس الدوما عاجز عن تلبية احتياجاتهم الأكثر إلحاحا. وفي تلك الأثناء، كان يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يحاولوا بكل الوسائل إقامة صلات قوية مع نواب الفلاحين الذين وصف لينين نفسيتهم المتناقضة قائلا:

«[الترودوفيك النموذجي هو فلاح] لا يعارض التوصل إلى اتفاق مع النظام الملكي، للحصول بهدوء على قطعة أرضه الخاصة في ظل النظام البرجوازي. ولكن جهوده الرئيسية في الوقت الحاضر تتركز على النضال ضد كبار ملاكي الأراضي، وعلى الكفاح ضد الدولة الإقطاعية، ومن أجل الديمقراطية»[40].

كان تكتيك البلاشفة يتمثل في محاولة كسب الترودوفيك وإبعادهم من تأثير الكاديت. لكن مثل هذا التكتيك كان يفترض بالضرورة الاستخدام الماهر للبرلمان. لقد فشل تكتيك المقاطعة، وكان من الضروري تكييف تكتيكات الحزب مع الظروف السائدة وإلا تحول إلى عصبة عاجزة مفصولة عن الجماهير. إن الجمع الماهر بين العمل الشرعي وغير الشرعي، سيمكن من الحصول على أفضل ما في العالمين. يمكن للثوريين الاستفادة من المنابر الشرعية التي ما تزال متاحة، ويكملوا هذا العمل بأنشطة غير شرعية. فالأشياء التي لا يمكن قولها على صفحات الصحافة الشرعية ومن منبر الدوما، يمكن طباعتها في الجرائد السرية. كان يمكن نشر التقارير عن عمل النواب الاشتراكيين الديمقراطيين في الدوما على صفحات الجرائد الشرعية، مثل فولنا وفبريود وإكو، التي تفضح الطابع الاحتيالي لهذا البرلمان المزيف وخيانة الليبراليين.

أصبح الدوما بالنسبة للمناشفة مركز الاهتمام. وقد لوحظ هذا الانحراف الإصلاحي على الفور في تصريح الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي داخل الدوما، يوم 16 يوليوز، الذي أكد أن الدوما «يمكنه أن يصبح مركز حركة الشعب بأسره ضد الدولة البوليسية الاستبدادية»[41]. وهكذا بدأت سلسلة من الاشتباكات المتواصلة بين البلاشفة والمناشفة حول مسألة الموقف من الدوما. أرسلت اللجنة المركزية التي كان يسيطر عليها المناشفة تعميما إلى جميع فروع الحزب، طالبة منهم دعم جميع الخطوات التي يتخذها الدوما (أي الكاديت) لاستبدال غوريميكين، رئيس مجلس الوزراء، بعضوٍ من الكاديت. احتج البلاشفة بشكل فوري ضد هذا الدعم المقدم لليبراليين في الدوما. والمناشفة على ذلك بأنه من الضروري دعم البرجوازية التقدمية (أي الكاديت) ضد الحكومة. وقد أجاب لينين بأنه على ممثلي الحزب في البرلمان أن يحافظوا على استقلاليتهم التامة عن جميع الأحزاب الأخرى، وخاصة الليبراليين البرجوازيين. قال لهم: «اعتمدوا على قواكم الخاصة. بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نكسب الفئات الدنيا المضطهَدة من البرجوازية الصغيرة الثورية (الترودوفيك)، وفصلهم بعيدا عن الليبراليين (الكاديت)».

سرعان ما تسببت الطموحات الوزارية عند الكاديت، ورغبتهم الحارقة في إنقاذ النظام الاستبدادي من نفسه، في جعلهم يصطدمون بالحكومة. كانوا في الواقع يقولون للقيصر: انظر، لا يمكنكم الاعتماد على وزرائكم للدفاع عن النظام القديم. إنكم تحتاجون رجالا جدد، تحتاجون أناسا يتمتعون بثقة الجماهير. فقط نحن من بإمكانه إبقاء الجماهير تحت السيطرة، لكن عليكم أن تتزحزحوا وتتقاسموا السلطة معنا.

لكن النظام القائم في ذلك الوقت كان قد تعافى من الصدمة الأولى، كان قد بدأ يستعيد السيطرة على الوضع بمساعدة الرصاصة والمشنقة، وبالتالي فإنه لم تعد هناك حاجة إلى خدمات الليبراليين. زمرة البلاط، التي كانت مصممة على اجتثاث آخر مكاسب الثورة، انتقلت إلى الهجوم. وحتى المقاومة الخجولة من جانب الدوما، كانت أكثر مما يمكن للقيصر نيكولا أن يسمح به.

في 13 ماي 1906، رفضت الحكومة مطالب الدوما والكاديت. وردا على ذلك، أصدر مجلس الدوما قرارا يعبر عن “عدم الثقة” في الحكومة ويصر على استقالتها. وزعت اللجنة المركزية المنشفية للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي توصية على منظمات الحزب تقترح فيها دعم مطلب الدوما الكاديتي من أجل وزارة تابعة للدوما، أي للكاديت. كانت انتهازية المناشفة في الدوما أكثر مما يمكن لأعضاء الحزب أن يهضموه. نجح البلاشفة في الحصول على إدانة الحزب لتكتيكات دوما ميليوكوف. في بيترسبورغ صوتت منظمة الحزب بـ 1760 صوت لصالح البلاشفة مقابل 952 للمناشفة في هذه القضية. وفي مؤتمر يوليوز أكدت منظمة الحزب بسان بيترسبورغ على هذا الموقف. وبعد نقاش تحدث فيه لينين باسم البلاشفة ودان باسم المناشفة، رفض الاشتراكيون الديمقراطيون في بيترسبورغ على وجه التحديد الدعوة إلى وزارة الدوما. لكن وعلى الرغم من ذلك، واصل الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي موقفه التوفيقي بدعم قرار الكاديت بشأن المسألة الزراعية.

سلط لينين نقدا شديد على تكتيكات الليبراليين في الدوما، وكتب:

«الدوما عاجز، إنه عاجز ليس فقط لأنه يفتقر إلى الحراب والبنادق التي تملكها الحكومة، بل أيضا لأنه ككل ليس مؤسسة ثورية، وغير قادر على خوض نضال حازم»[42].

وسرعان ما اتضح أن لينين كان محقا. كان الدوما قد تأسس على وجه التحديد على مسألة الأرض. وعوض أن يشكل الفلاحون الترودوفيك أساسا متينا للردة الرجعية، استخدموا موقعهم في الدوما للدفاع عن حقوق الفلاحين. وقد طرحوا مسألة الاستيلاء على أراضي كبار الملاكين العقاريين في الدوما، مما أثار رعب القيصر. وكان رده الغاضب هو: “إن ما للمالك للمالك”. وهو ما أعلن نهاية مجلس الدوما الأول. فالقيصر الساخط على الخطابات الجذرية التي كانت تنبعث من قاعات قصر توريد، قرر أن يضع حدا لذلك السيرك.

حل مجلس الدوما

في خضم ذلك الوضع المضطرب صعد نجم بيوتر أركاديفيتش ستوليبين، وزير الداخلية آنذاك، والذي صار منذ تلك الفترة فصاعدا واحدا من اللاعبين الرئيسيين. كان ستوليبين ملاكا عقاريا ثريا ذو طموحات سياسية كبيرة، كان يمتلك عقارين، أحدهما في مقاطعة بينزا مساحته 2.850 فدانا، والآخر في كوفنو، مساحته 2.500 فدان. وبالإضافة إلى ذلك، كانت زوجته، ابنة مسؤول رفيع المستوى من الأسرة الإمبراطورية، تملك 14.000 فدان في قازان. لذلك فقد كانت لديه أسباب كثيرة للاهتمام بمسألة الأرض. وعلى الرغم من أنه كان يوصف عموما بأنه مصلح تقدمي، فقد اكتسب ستوليبين ثقة القيصر بتطبيقه لأشد تدابير القمع وحشية خلال فترة “التهدئة”، التي تلت ثورة 1905.

قال ليونيل كوتشان:

«إن الإجراءات القاسية التي اتخذها في قمع واحدة من أكثر مقاطعات الفولغا اضطرابا، في 1905- 1906، جعلته شهيرا. وكلماته كافية لتوضيح ذلك، حيث كتب في تقرير لوزارة الداخلية عن ممارساته ضد الفلاحين ما يلي: “بناء على تعليماتي تم إرسال القرية بأكملها، تقريبا، إلى السجن… وقمت بإسكان القوزاق في بيوت أسوأ المجرمين، وتركت هناك سربا من الأورينبورغ، وفرضت نظاما خاصا على القرية”»[43].

تتضح سمعة ستوليبين بين الناس من خلال حقيقة أن حبل المشنقة كان يطلق عليه اسم “ربطة عنق ستوليبين”، وحتى وقت متأخر من عقد الثلاثينات، كانت شاحنات السكك الحديدية المستخدمة لنقل السجناء السياسيين إلى سيبيريا ما تزال تسمى “عربات ستوليبين”. ومع ذلك فقد كان بلا شك واحدا من الأشخاص القلائل المحنكين حقا بين مستشاري القيصر في الفترة التي سبقت عام 1914، حتى لحظة اغتياله. وقد وصف كيرنسكي هذا الرجعي المحنك والماهر على النحو التالي:

«قبيل اجتماع مجلس الدوما الأول، تم تعيين وزير داخلية جديد في سان بيترسبورغ. كان حاكما لساراتوف، ويدعى بيتر أ. ستوليبين، وكان غير معروف في وقت تعيينه. وبعد أقل من ثلاثة أشهر على  تنصيبه، مباشرة بعد حل مجلس الدوما، في 08 يوليوز 1906، تم تعيينه رئيسا لمجلس الوزراء… ستوليبين الذي ينتمي إلى الطبقة العليا في المقاطعات، لم يكن عضوا في بلاط سان بيترسبورغ ولم يسبق له أن عمل في أي من المناصب الحكومية العليا في العاصمة. كان قد قضى حياته المهنية كلها في المقاطعات، حيث لم تكن لديه أية صلة بالشخصيات البارزة وشخصيات الزمستفو… لم يكن يشاطر رأي سلفه، غورميكين، بأن مجلس الدوما كان مجرد “ناد للثرثرة”. بل على العكس من ذلك، كان ستوليبين، وعلى خلاف البيروقراطي الغامض والأجوف، غورميكين، ينجذب بقوة إلى دور وزير دستوري. كانت فكرة إلقاء الخطب في البرلمان، والنقاش العلني حول القضايا الحيوية مع المعارضة، وحكم البلاد على أساس أغلبية حكومية تستهويه إلى حد كبير.
لقد تمكن ستوليبين إلى حد كبير من تعويض انعدام الروح القتالية عند مسؤولي سان بيترسبورغ. وكان القيصر يحب ستوليبين بسبب شبابه وثقته بالنفس وإخلاصه للعرش واستعداده لتنفيذ خطة القيصر غير القانونية لإجراء تغييرات في قانون الانتخابات. كما رأى فيه رؤساء مجلس النبلاء المتحدين شخصا من طينتهم من شأنه أن ينقذ نظام ملكية كبار ملاكي الأراضي من الدمار. وتشبث به الأكتوبريون ومختلف الدستوريين المعتدلين الآخرين، الذين أرعبتهم “تجاوزات” الثورة، مثلما يتشبث غريق بقشة. رحبوا ببرنامجه الذي كان يهدف إلى توحيد الحكومة مع الليبراليين والمحافظين المعتدلين، وبالتالي تعزيز الملكية الدستورية والقضاء على الحركة الثورية بشكل مبرم. كانوا يعتبرونه تيير الروسي (أي الرجل الذي عزز صرح الجمهورية البرجوازية الثالثة في فرنسا بعد هزيمة الكومونة سنة 1871)»[44].

قبل وقت قصير من حل مجلس الدوما، عيّن نيكولا هذا “الرجل القوي” رئيسا لمجلس الوزراء بدلا من “المحافظ والأجوف” غورميكين. في البداية، وفي حركة منه لإظهار التواضع غير المعهود فيه، رفض ستوليبين قبول الشرف الذي خصه به القيصر والركوع أمام أيقونته المفضلة. ابتهل القيصر قائلا: «دعونا نرسم علامة الصليب على صدورنا ودعونا نطلب من الرب مساعدتنا في هذه اللحظة الصعبة وربما التاريخية». وبعد هذه الصلاة القصيرة لله القدير، انتقل نيكولا إلى العمل الجاد: «متى سيكون من الأفضل حل مجلس الدوما وما هي التعليمات التي تقترح تقديمها لضمان النظام وخاصة في سان بيترسبورغ وموسكو؟». وبإذن الله القدير تم تحديد موعد الانقلاب يوم الأحد 09 يوليوز (21).

لم يكن للقيصر أي داع للقلق، فقد اختفى الدوما الأول من التاريخ بدون ضجة. لم تكن لدى الليبراليين أدنى نية في تعبئة الجماهير. وفي مواجهة الأمر الواقع، سافر نحو 200 نائبا إلى فيبورغ الآمنة نسبيا، التي كانت تحت السيطرة الفنلندية، ومن هناك أصدروا بيان فيبورغ الذي دعا الشعب إلى العصيان المدني، مثل عدم دفع الضرائب ورفض قبول الخدمة العسكرية، كدليل على الاحتجاج على حل الدوما. كانت هذه الوثيقة قد كتبت من طرف لجنة برلمانية مشتركة تتألف أساسا من الكاديت والترودوفيك. كان الكاديت غير متحمسين حتى لهذه المطالب وسحبوا دعمهم لها في وقت لاحق. لقد كشفت هذه التجربة الفارقة طبيعة الكاديت المعادية للثورة وإفلاس تلك الأساليب. المناشفة الذين أرعبتهم هذه الأحداث، التي كان من الممكن توقعها، وجهوا باسم اللجنة المركزية دعوة إلى العمال من أجل الإضراب والتظاهر دعما للدوما. لكن هذه الدعوة لم تلق أية استجابة.

عارض لينين الدعوة إلى المظاهرات دعما لمجلس الدوما. لم يكن لينين أبدا يخاف من قول الحقيقة للعمال. وكانت مواقفه نابعة دائما من غريزة ثورية سديدة وواقعية. ما الذي يجب أن تناضل من أجله الطبقة العاملة؟ إن ما يجب على الطبقة العاملة أن تناضل من أجله ليس البرلمانية البرجوازية، بل عليها النضال ضد العدو الرئيسي، أي الردة الرجعية القيصرية. يجب على الطبقة العاملة ألا تتحمل أي مسؤولية تجاه الديمقراطية البرجوازية المزيفة أو الأوهام بخصوص الليبراليين المعادين للثورة، بل عليها النهوض علانية لتنظيم انتفاضة مسلحة ضد الحكم الاستبدادي، ليس للدفاع عن دوما الكاديت، بل من أجل الجمعية التأسيسية التي سوف تعطي الأرض للفلاحين، ويوم العمل من 08 ساعات للعمال، والحقوق الديمقراطية الكاملة للجميع. لدينا هنا باختصار الفرق بين الماركسية الثورية وبين الإصلاحية.

وفي حين شارك المناشفة في مسرحية أخرى مع الكاديت، دافع لينين عن تشكيل جبهة موحدة ثورية مع الترودوفيك. تحت ضغط المزاج الكفاحي للطبقة العاملة والفلاحين، وافق الترودوفيك فعلا على تبني نداء مشترك مع الاشتراكيين الديمقراطيين من أجل الانتفاضة المسلحة. ظهرت هنا، بشكل عام، إمكانية تشكيل “كتلة يسارية” مع الترودوفيك، جبهة موحدة لمنظمات الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين لأجل النضال ضد الاستبداد وضد الليبراليين. وفي حين رفض لينين عقد أي صفقة مع الليبراليين البرجوازيين، فإنه قبل بإمكانية عقد اتفاقات مؤقتة مع الترودوفيك، باعتبارهم الممثلين البرلمانيين للفلاحين، بل وأحيانا التصويت جنبا إلى جنب معهم ضد الكاديت لكسب الفلاحين. إن مثل هذه الاتفاقات البرلمانية الجزئية والمؤقتة مع ممثلي البرجوازية الصغيرة الثورية، دون التخلي ولو للحظة عن الحق في انتقاد الترودوفيك بسبب تناقضاتهم وتذبذبهم، لم يكن لها أي علاقة على الإطلاق مع التحالف السياسي مع الليبراليين الذي دعا إليه المناشفة. كان موقف البلاشفة هو استخدام الدوما منصة لفضح النظام القيصري والليبراليين، وفي الوقت نفسه لتنظيم أنفسهم خارج البرلمان استعدادا للثورة.

مسألة حرب العصابات

في الفترة ما بين 1905 و1906، استعملت الحركة الثورية شكلا من أشكال “حرب العصابات” وميليشيات الأنصار والسطو المسلح، وغيرها من أشكال الكفاح المسلح. لكن فرق القتال كانت دائما مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنظمات العمالية. وهكذا، فإن اللجنة العسكرية في موسكو لم تضم فقط أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، بل ضمت أيضا الاشتراكيين الثوريين والنقابيين (عمال المطابع) والطلاب. كما سبق لنا أن رأينا، تم استخدام ميليشيات الأنصار لغرض الدفاع الذاتي ضد منظمي المذابح وعصابات المائة السود، كما ساعدت أيضا على حماية الاجتماعات ضد مداهمات الشرطة، حيث كان وجود ميليشيات العمال المسلحين، في كثير من الأحيان، عاملا هاما في منع العنف. في بعض الأحيان كان يمكن لهذه المجموعات أن تنتقل إلى الهجوم، على الرغم من أن هدفها لم يكن هو الاصطدام مع الجيش (الذي لم يكن في إمكانها أن تأمل في الانتصار عليه في معركة مباشرة)، بل كانت تستهدف كاسري الإضرابات والفاشيين. فعلى سبيل المثال شنت مجموعة من العمال المسلحين هجوما على مجموعة المائة السود في فندق تفر في بيترسبورغ في يناير 1906. وعندما تقع مواجهات مع الشرطة كان السبب يكون عادة محاولة الإفراج عن السجناء السياسيين، كما هو الحال في الغارة الجريئة على قسم شرطة في ريغا من أجل الإفراج عن الثوار اللاتيفيين المعتقلين. وفي لاتفيا بالخصوص وصلت حركة حرب العصابات إلى أعلى درجاتها في دجنبر 1905 حين صارت عدد من البلدات عمليا تحت سيطرة فصائل مسلحة من العمال المتمردين والعمال الزراعيين والفلاحين، قبل أن تتعرض الانتفاضة في لاتفيا للقمع بوحشية على يد حملات عقابية بقيادة جنرالات القيصر.

شملت المهام الأخرى الاستيلاء على الأسلحة واغتيال الجواسيس ورجال الشرطة، وكذلك الغارات على الأبناك للحصول على الأموال. غالبا ما كانت مبادرة إنشاء جماعات حرب العصابات هذه تأتي من العمال أنفسهم. لقد سعى البلاشفة إلى كسب قيادة هذه الجماعات وإعطائها شكلا منظما ومنضبطا وتزويدها بخطة عمل واضحة. كان ذلك ينطوي بالطبع على مخاطر جدية، حيث يمكن لجميع أنواع المغامرين والمتحللين طبقيا والصعاليك أن ينظموا لهذه المجموعات، والتي بمجرد ما تنعزل عن حركة الجماهير، تميل إلى الانحطاط في مسارات إجرامية إلى درجة أنها تصير غير قابلة للتمييز عن مجموعة من قطاع الطرق. كما أنها، بالإضافة إلى ذلك، كانت مفتوحة على نطاق واسع للاختراق من طرف العملاء الاستفزازيين. وكقاعدة عامة، يكون من الأسهل بكثير على العملاء الاستفزازيين التسلل إلى التنظيمات العسكرية والإرهابية من التسلل إلى الأحزاب الثورية الحقيقية، ولا سيما حين تتألف من كوادر مثقفين ثوريين يرتبطون ببعضهم البعض بعلاقات أيديولوجية قوية، رغم أن حتى هذه الأخيرة ليست في مأمن من الاختراق، كما سنرى لاحقا. ومع ذلك، فقد كان لينين يدرك جيدا مخاطر الانحطاط التي يشكلها وجود الجماعات المسلحة. إن الانضباط الصارم والرقابة الحازمة من قبل المنظمات الحزبية والكوادر الثورية ذوي الخبرة يشكلان جزئيا حصانة ضد تلك الاتجاهات. لكن الرقابة الحقيقية الوحيدة كانت هي رقابة الحركة الجماهيرية الثورية.

لقد لعبت مجموعات حرب العصابات دورا مفيدا وتقدميا طالما كانت تعمل كقوة مساعدة للحركة الجماهيرية (أي في سياق الانتفاضة الثورية). لكن حيثما انفصلت تلك المجموعات عن الحركة الثورية الجماهيرية، كانت تميل حتما إلى الانحطاط. ولهذا السبب فقد اعتبر لينين أنه من غير المقبول نهائيا إطالة أمد وجودها، بعدما صار من الواضح أن الحركة الثورية قد دخلت في حالة جزر لا رجعة فيه. وبمجرد الوصول إلى تلك المرحلة، دعا على الفور إلى حل جميع مجموعات حرب العصابات. لكنها في المراحل الأولى لعبت دورا إيجابيا وشارك فيها العديد من الناس الذين تميزوا بالبطولة والتضحية بالنفس، والذين كانوا يعملون تحت الرقابة الصارمة للحزب. أحد هؤلاء كان المناضل الثوري الأرميني الشهير سيمينو أرشاكوفيتش تير بيتروسيان (كامو).

وكان أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار التكتيك، بعد هزيمة انتفاضة دجنبر، هو ببساطة أن الحزب كان بحاجة إلى الأموال. حتى ذلك الوقت، كان الحزب يعتمد إلى حد كبير على التبرعات الضخمة من متعاطفين أثرياء. ففي فترة التحريض الدستوري قبل عام 1905، وخلال الفترة الأولى من الثورة، كان جزء كبير من البرجوازيين “التقدميين” والمثقفين ينظرون بتعاطف، بل وبإعجاب، إلى الحركة الاشتراكية الديمقراطية، إذ كانوا يميلون إلى اعتبارها مجرد تعبير أكثر جذرية عن الحركة الديمقراطية البرجوازية. كانوا ينظرون بتساهل إلى أنشطة الطلاب والعمال الثوريين، بل وحتى بنوع من الإعجاب الذي يعود إلى الحنين إلى مرحلة الشباب الماضية. وكما هو طبيعي بالنسبة لأشخاص يجيدون حساب المال مثلهم، فقد كانت تعاطفهم محسوبا. كانت البرجوازية تأمل في استخدام الحركة الثورية ورقة مساومة في مفاوضاتها مع الحكم المطلق للحصول على حصة في الحكومة. لكن بعد أكتوبر 1905، بدأ موقف البرجوازية الليبرالية في التغير. كان بيان القيصر قد استجاب لمطالبهم الأساسية، وبدأ حماسهم يفتر بسرعة. وقد أقنعتهم انتفاضة موسكو في نهاية المطاف أن العمال يمثلون خطرا. كانت مناورتهم لعبة خطرة! كشرت الردة الرجعية عن أسنانها، ومثل بيلاطس النبطي[45] (Pontius Pilate)، غسل الليبراليون أيديهم من القضية برمتها، وكان لسان حالهم يقول: “قلنا لكم ألا تذهبوا بعيدا جدا! قلنا لكم ألا تستفزوا الردة الرجعية! لماذا لا نقبل بما عرض علينا؟ فعلى كل حال نصف رغيف أفضل من عقوبة السجن”.

النقص المفاجئ في الأموال وضع الحزب في موقف صعب. وفي الوقت الذي كان يتعرض فيه للهجوم من جميع الأطراف، كان الحزب يفتقر للموارد، خاصة وأن الليبراليين البرجوازيين كانوا قد تحولوا ضد الثورة. والعديد من رجال الأعمال الأثرياء من رفاق نصف الطريق السابقين، الذين كانوا في وقت سابق مستعدين لإعطاء المال للحركة الثورية، مدفوعين في ذلك بمجموعة متنوعة من الدوافع، ابتعدوا على عجل، وتذكروا فجأة أن لديهم مشاغل مهنية وأسرية. لكن بالنسبة للطبقة العاملة، لم يكن هناك أي مجال للتراجع. كانت المعركة آنذاك صراع حياة أو موت. كانت تلك هي اللحظة حين اتخذت مسألة السطو أهمية حاسمة. كان لدى كامو سجل طويل من النشاط الثوري، بما في ذلك الاعتقال والهروب من سجن باكو، قبل أن يشتهر بدوره في الكفاح المسلح. وبأعصابه الباردة وشجاعته وكفاءته، كان كامو تجسيدا لأفضل خصال المناضل البلشفي.

بعد التمرد في سفيابورغ وكرونشتاد، نمت حركة الفلاحين بشدة. كان يبدو أن هناك احتمالا بأن تدخل الثورة مرحلة جديدة. فاكتسبت مسألة الحصول على الأسلحة طابعا استعجاليا. كان كامو مسؤولا عن الحصول على الأسلحة، لكن الحزب كان يعاني من مشكلة جدية في ماليته. وفي مؤتمر ستوكهولم، كان المناشفة قد سيطروا على اللجنة المركزية، ولم يكونوا متحمسين لفكرة التسليح.

«كانت الرسائل والبرقيات الموجهة إلى اللجنة المركزية لا تلاقي أي رد. وظلت طلبات الحصول على المال مثل صرخة في الصحراء»[46].

لم يتراجع كامو عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتسليح الحزب. وفي سلسلة من الغارات المذهلة على الأبناك، والتي أصابت الشرطة بالسعار، تمت “مصادرة” مبالغ كبيرة من المال. رغم ذلك فقد عاش كامو نفسه حياة متواضعة جدا بأجرة تبلغ 50 كوبيكا في اليوم. ومثله مثل بقية المغاوير البلاشفة، كانت حياته مكرسة تماما للحزب ولقضية الطبقة العاملة. ظهرت شجاعته الأسطورية وجرأته في الغارة على بنك تيفليس، في صيف 1907. فكامو الذي سافر بجواز سفر مزور، منتحلا لهوية نبيل جورجي معروف، ذهب إلى تيفليس لتنظيم عملية سطو كبيرة. وفي صباح يوم 23 يونيو، لبس كامو بزة ضابط بالجيش. وعلى الرغم من أنه كان يعاني من جروح ناجمة عن انفجار عرضي، فقد قاد هجوما مذهلا واستولى على مبلغ 250 ألف روبل -وهو مبلغ ضخم- من بنك الدولة. إن عملياته اللاحقة تبدو مثل واحدة من روايات المغامرات. وبعد هروبه إلى ألمانيا، ألقي القبض عليه في برلين وبحوزته حقيبة مليئة بالديناميت. كان قد تعرض للخيانة من طرف العميل الاستفزازي زيتوميرسكي.

اتهم وحكم عليه بالسجن بكونه “فوضوي إرهابي”، فاستمر طيلة أربع سنوات يتظاهر بالجنون. وعقابا له على سلوكه، وضع عاريا في زنزانة قبو، لمدة تسعة أيام، في درجات حرارة تحت الصفر. بعدها أرسل إلى سجن المجانين، حيث استمر في ادعاء الجنون. بقي أربعة أشهر دون أن يتمدد إذ كان يقف ووجهه إلى الزاوية، وكان يقف على ساق ثم على أخرى. وشملت المعاملة الوحشية التي تعرض لها التغذية القسرية، والتي تعرض خلالها لكسر العديد من أسنانه. وقد حاول في مناسبتين الانتحار شنقا وبقطع عروقه بقطعة عظم حادة. في البداية اعتقدت السلطات أنه كان يتظاهر بالجنون، لكن بعد ستة أشهر من التعذيب، بدأوا يعتقدون أن جنونه كان حقيقيا. وأخيرا، في مارس 1909، قرر الأطباء أن الحالة الذهنية “للفوضوي الإرهابي” تير بيتروسيان كانت جيدة، وأنه صار هادئا وعقلانيا، بل وحتى قادرا على ممارسة الحرف اليدوية والبستنة. وبعد إعادته إلى السجن، واصل كامو ادعاء الجنون، وتعرض لمزيد من التعذيب. كان الأطباء الألمان “المتحضرون” يدخلون الإبر تحت أظافره، ويحرقون جسده بمكواة حامية، لكن دون جدوى. كان جسد كامو يعاني من ألم دائم، لكنه استمر في ادعاء الجنون حتى قررت السلطات في النهاية أن إطعام هذا المجنون الأجنبي لا ينبغي أن يكون على حساب الشعب الألماني، وأمرت بتسليمه إلى روسيا. وأخيرا، تمكن من تنظيم عملية هروب جريئة من مستشفى الأمراض العقلية في تيفليس.

وتذكر كروبسكايا في سيرتها عن لينين كيف زارهما كامو في باريس:

«لقد أعرب عن أسفه الشديد لسماع حدوث انشقاق بين إليتش وبوغدانوف وكراسين. لقد كان مرتبطا بهم كثيرا. وإلى جانب ذلك، لم يتمكن من فهم الوضع الذي تطور خلال السنوات التي قضاها في السجن. لقد أخبره إليتش كيف سارت الأمور.
طلب مني كامو أن أشتري له بعض اللوز. جلس في مطبخنا في باريس يأكل اللوز، كما لو كان في موطنه في جورجيا، وأخبرنا عن اعتقاله في برلين، وعن الطريقة التي كان يحاكي بها الجنون، وعن العصفور الذي كان يربيه في السجن، وما إلى ذلك. إليتش الذي كان يستمع إلى قصصه، كان يشعر بالأسف الشديد لهذا الرجل الشجاع المخلص والذي يتميز بسذاجة الأطفال والقلب الدافئ، والذي كان حريصا جدا على القيام بأعمال جريئة، لكنه لا يعرف الآن ما الذي ينبغي عليه فعله. كانت مخططاته خيالية، إلا أن إليتش لم يجادل معه، لكنه حاول أن يعيده إلى الواقع باقتراحات حول تنظيم نقل الأدبيات وما إلى ذلك. وفي النهاية تقرر أن يتم إرسال كامو إلى بلجيكا، حيث سيجري عملية على عينيه هناك (كان أحول العينين، وهذا ما كان يفضحه دائما مع جواسيس الشرطة)، ومن هناك أخذ طريقه إلى روسيا والقوقاز. فحص إليتش معطف كامو وقال: “أليس لديك معطف دافئ؟ ستشعر بالبرد بملابسك هذه وأنت تتجول على سطح السفينة”. كان إليتش نفسه يتنزه دائما على سطح السفينة عند السفر عن طريق البحر. وبعد أن رأى أن كامو لم يكن لديه معطف آخر، أخرج إليتش معطفه الرمادي الناعم الذي أهدته له والدته في ستوكهولم والذي كان مولعا جدا به، وأعطاه لكامو. بفضل حديثه مع إليتش، ولطف هذا الأخير معه، شعر كامو بالطمأنينة نوعا ما»[47].

ومثله مثل العديد من الذين لعبوا دورا نشطا في الثورة، وجد كامو نفسه في مرحلة الردة الرجعية كسمكة خارج الماء. أدى الخمول والعزلة وضغوط حياة المنفى إلى إصابته بالاكتئاب والإحباط. وسرعان ما عاد إلى النشاط السري في مسقط رأسه بالقوقاز، حيث كانت الحركة الثورية على مشارف صحوة جديدة. أعيد اعتقاله، وحكم عليه بأربعة أحكام بالإعدام، خففت فيما بعد إلى 20 عاما من الأشغال الشاقة، كدليل على طيبوبة القيصر بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثلاثمائة لحكم سلالة آل رومانوف.

تم إرسال كامو إلى السجن في خاركوف حيث كان يخيط بزات الحرب والملابس الداخلية والأحذية، إلى جانب مجرمي الحق العام الذين تعلموا احترام الرجل الذي كانوا يطلقون عليه اسم إيفان العظيم. وحتى في ذلك المكان الجهنمي لم تمت فيه روح الثورة. فلكي لا يضطر إلى رفع قبعته في وجود الحراس، كان يسير عاري الرأس حتى أثناء الطقس البارد. لم يطلق سراح كامو من هذا المكان إلا بفضل ثورة فبراير، وبعد ذلك عاد على الفور إلى صفوف الحزب البلشفي ولعب دورا بطوليا في الحرب الأهلية. ومن المفارقات أنه بعد أن نجا من كل تلك التجارب والمحن، توفي في حادثة دراجة نارية في عام 1922.

موقف لينين من حرب العصابات

كانت مسألة حرب العصابات مرتبطة بشكل وثيق بمنظور إعادة إحياء الثورة، وإمكانية أن تعطي حركة الفلاحين زخما لحركة العمال في المدن. والنقاشات في المؤتمر الرابع بشأن المسألة الزراعية، التي كانت تبدو نظرية مجردة، كانت انعكاسا شاحبا لواقع صارخ. كان تمرد الفلاحين في تصاعد، وازدادت حدة الانتفاضات العنيفة في القرى من حيث العدد والشدة. لكن توطيد الردة الستوليبينية الرجعية أجبر لينين على إعادة النظر في الموقف. كانت هزيمة التمرد في سفيابورغ وكرونشتاد نقطة التحول. وفي حين كان المناشفة قد تخلوا عن الحركة، كانت تكتيكات لينين موجهة نحو كسب البرجوازية الصغيرة والفلاحين الفقراء لفكرة الانتفاضة المسلحة، وخلق حركة في القرى يمكنها بدورها أن ترتبط بالحركة في المدن لتحقيق الإطاحة الثورية بالاستبداد. لم يكن هذا المنظور طوباويا كما قد يبدو، فبينما عانت الطبقة العاملة في بيترسبورغ وموسكو من الهزيمة، كانت الحركة في القرى قد بدأت للتو في التحرك بجدية. وهذا بدوره كان له تأثير على الفلاحين الذين يرتدون الزي العسكري الذين يشكلون الغالبية الساحقة من الجيش القيصري. فهؤلاء الرجال ذوي المعاطف الرمادية، الذين أزعجتهم الهزيمة العسكرية وشهور الثورة، صاروا أكثر فأكثر اضطرابا. وتم الوصول إلى النقطة الحرجة في ليلة 17 يوليوز، حين اندلع تمرد للجنود والبحارة في قلعة سفيابورغ بالقرب من هلسنغفورس. عندما توصلت لجنة الحزب بسان بيترسبورغ بأخبار الانتفاضة، أرسلت ممثلين عنها إلى البحارة في محاولة لإقناعهم بتأجيل التحرك. لكن الوقت كان قد فات.

وعلى الرغم من أن التنظيم العسكري للحزب قد شارك في التمرد -اثنان من الملازمين، أ. ب. ايميليانوف وي. ل. كوخانسكي، كانا عضوان في الحزب- فإن الانتفاضة كانت أساسا تحت تأثير الاشتراكيين الثوريين. ومن بين عشرة فيالق مدفعية، شاركت سبعة بنشاط في الانتفاضة، ورفعت شعارات ديمقراطية ثورية: ليسقط الاستبداد، الحرية للشعب، والأرض للفلاحين. واتخذ العمال الفنلنديون إجراءات لدعم المتمردين. في 18 يوليوز اندلع إضراب عام في هلسنغفورس وانتشر إلى بلدات اخرى. استمرت الحركة لمدة ثلاثة أيام، لكن وبسبب إعدادها السيء وافتقادها لخطة عمل مدروسة بوضوح، تعرضت لقصف شديد من السفن الموالية للحكومة، فانهزمت انتفاضة سفيابورغ وتم تسليم المتمردين إلى عناية المحاكم القيصرية العسكرية، حيث تم إعدام 43 رجلا وأرسل مئات آخرون إلى الأشغال الشاقة أو السجن. لم تكن تلك حالة معزولة، فقد حدثت تمردات أخرى في أماكن أخرى. لقد تسببت أخبار أحداث سفيابورغ في غليان في حامية كرونشتاد البحرية واندلع التمرد الفعلي على الطرادة باميات أزوفا بالقرب من ريفيل. يبدو أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان آنذاك يخطط لاتخاذ إجراء، لكن ذلك تعطل بسبب إلقاء القبض على منظمة الجنود والعمال المحلية يوم 09 يوليوز. كانت الحكومة على بينة من خطط الانتفاضة بسبب شبكة جواسيسها فتحركت بسرعة لخنق الثورة. تم اعتقال أكثر من 2500 من متمردي كرونشتاد. وكما هو الحال في سفيابورغ، كانت المحاكم العسكرية عديمة الرحمة: حكم على 36 رجلا بالإعدام؛ وحكم على 130 منهم بالأشغال الشاقة وسجن 316 آخرين، وأرسل 935 سجينا إلى فيالق إصلاحية.

كان تأثير حركة الفلاحين واضحا في التمرد الذي احتوى أيضا على الجانب السلبي المميز لجميع انتفاضات الفلاحين في التاريخ -غياب المنظور وغياب التنظيم-، الشيء الذي يمكّن قوة صغيرة من الضباط المنضبطين الحازمين من أن يُخضعوا لإرادتهم عددا أكبر بكثير من القوات التي تفتقر إلى الانضباط والتنظيم وخطة عمل واضحة، والذين تربوا طيلة حياتهم على الطاعة. كانت تلك بالفعل آخر أنفاس الثورة. بعد سفيابورغ، لم تعد النتيجة النهائية موضع شك. انتصرت الردة الرجعية واحتفلت بانتصارها بالطريقة المعتادة: مع موجة جديدة من الاعتقالات والمحاكم العسكرية السريعة، والإعدامات والسجن. ارتفعت البطالة، وكما أوضح تروتسكي في ذلك الوقت، فإن اندلاع هذه البطالة الجماهيرية، التي جاءت في أعقاب هزيمة سياسية قاسية، لم تكن لتعيد الروح إلى كفاحية العمال، بل العكس تماما. كان العمال مصدومين ومرتبكين، وكانوا بحاجة إلى الوقت لكي يتعافوا. توقع تروتسكي – وقد تبين أنه محق- أنه لن يكون هناك انتعاش للحركة الثورية في روسيا إلا بعد أن يعود نوع من الانتعاش الاقتصادي.

لقد نظر الماركسيون دائما إلى حرب الفلاحين باعتبارها مساعدة للعمال في النضال من أجل حسم السلطة. وقد وضع ماركس هذا الموقف لأول مرة خلال تحليله للثورة الألمانية عام 1848، عندما أوضح بأن الثورة الألمانية لا يمكنها أن تنتصر إلا كطبعة ثانية من حرب الفلاحين. وهذا يعني أنه يجب على حركة العمال في المدن أن تقود وراءها جماهير الفلاحين. وأوضح البلاشفة أيضا أنه على العمال في المدن أن يقودوا الفلاحين وراءهم. ومن المهم أن نلاحظ أن الطبقة العاملة الصناعية لم تكن تمثل خلال الثورة الروسية أكثر من 10% من السكان، ومع ذلك لعبت البروليتاريا الدور القيادي في الثورة الروسية، حيث قادت خلفها ملايين الفلاحين الفقراء، الذين يشكلون الحليف الطبيعي للبروليتاريا. لا يمكن العثور في كتابات ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي على أية إشارة أو تلميح إلى احتمال قدرة الفلاحين على إنجاز الثورة الاشتراكية. والسبب في ذلك هو افتقارهم الشديد للتجانس الطبقي. إن الفلاحين طبقة منقسمة إلى فئات عديدة، بدءا من الفلاحين الذين لا يملكون أرضا (والذين هم في الواقع بروليتاريون ريفيون) إلى الفلاحين الأغنياء الذين يستغلون الفلاحين الآخرين كعمال مأجورين. ليست لديهم مصلحة مشتركة، وبالتالي لا يمكنهم أن يلعبوا دورا مستقلا في المجتمع، وقد دعموا تاريخيا فئات أو مجموعات مختلفة في المدن. إن الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة ثورة اشتراكية ناجحة هي الطبقة العاملة. وهذا ليس لأسباب عاطفية، بل بسبب الموقع الذي تحتله في المجتمع والطابع الجماعي لدورها في الإنتاج.

حرب العصابات، بحكم طبيعتها، هي السلاح الكلاسيكي للفلاحين وليس الطبقة العاملة. وهي مناسبة لظروف الكفاح المسلح في المناطق الريفية التي يتعذر الوصول إليها -الجبال والغابات، وما إلى ذلك- حيث تجعل وعورة التضاريس من الصعب نشر القوات النظامية وحيث تقدم الجماهير الريفية الدعم اللوجستي اللازم والمخبأ للمسلحين. يمكن لحرب العصابات، في سياق الثورة في بلد متخلف بعدد كبير من الفلاحين، أن تكون بمثابة مساعد مفيد للنضال الثوري للعمال في المدن. لكنه لم تتبادر أبدا للينين فكرة استعمال حرب العصابات كبديل للحركة الواعية للطبقة العاملة. إن تكتيكات حرب العصابات، من وجهة نظر ماركسية، لا يجوز أن تكون سوى عمل مكمِّل ومساعد في الثورة الاشتراكية. وكان هذا بالضبط هو موقف لينين في عام 1905. لم يكن له أي علاقة مع التكتيكات الإرهابية الفردية التي كانت تتبعها منظمة نارودنايا فوليا ووريثهم الحزب الاشتراكي الثوري، ناهيك عن التكتيكات المجنونة للإرهابيين المعاصرين ومنظمات “حرب عصابات المدن” التي هي نقيض السياسة اللينينية الحقيقية[48].

في مقالته عن حرب العصابات، يعطي لينين صورة واضحة عن الوضع قائلا:

«الظاهرة التي نهتم بها هي الكفاح المسلح. ويضطلع بها أفراد وجماعات صغيرة، بعضها ينتمي إلى منظمات ثورية، في حين أن البعض الآخر (الأغلبية في أجزاء معينة من روسيا) لا ينتمي إلى أي منظمة. إن الصراع المسلح يسعى إلى تحقيق هدفين مختلفين، يجب أن يكونا مميزين بشكل واضح: يهدف هذا الكفاح، في المقام الأول، إلى اغتيال الأفراد، أي القادة والضباط في الجيش والشرطة؛ ويهدف، في المقام الثاني، إلى مصادرة الأموال سواء من الحكومة أو من الأفراد. وتذهب الأموال المصادرة جزئيا إلى خزينة الحزب، وذلك جزئيا من أجل الغرض الخاص المتمثل في التسليح والتحضير للانتفاضة، وجزئيا لأجل إعالة الأشخاص المشتركين في الكفاح الذي نصفه. إن المصادرات الكبيرة (مثل المصادرة التي تمت في القوقاز والتي بلغت أكثر من 200.000 روبل، وفي موسكو، التي بلغت 875.000 روبل) ذهبت في الواقع أولا وقبل كل شيء إلى الأحزاب الثورية، أما المصادرات الصغيرة تصرف في غالبيتها، وأحيانا كليا، لإعالة من يقومون بـ “المصادرات”. هذا شكل من أشكال النضال أصبح بدون شك واسع النطاق ومكثفا في عام 1906 فقط، أي بعد انتفاضة دجنبر. لقد كان تفاقم الأزمة السياسية إلى حد الكفاح المسلح، ولا سيما تفاقم الفقر والجوع والبطالة في المدينة والقرية، أحد الأسباب الهامة للنضال الذي نصفه. وقد اعتبر هذا الشكل من أشكال النضال الشكل المفضل بل والحصري للنضال الاجتماعي من طرف العناصر المتخلفة من السكان وحثالة البروليتاريا واللاسلطويين».

وأصر لينين على أن الكفاح المسلح يجب أن يكون جزءا من الحركة الجماهيرية الثورية، وحدد الشروط التي يصير فيها مقبولا: «1) يجب أن تؤخذ مشاعر الجماهير في الاعتبار؛ 2) أن تدرس ظروف الحركة العمالية في المنطقة المعطاة، و3) يجب الحرص على عدم تعطيل قوى البروليتاريا». كما أوضح أيضا أن حرب العصابات ليست حلا سحريا، بل فقط طريقة واحدة محتملة للنضال لا يجوز السماح بها إلا “في الوقت الذي تصل فيه الحركة الجماهيرية بالفعل إلى نقطة الانتفاضة”.

إن خطر الانحطاط المتأصل في مثل هذا النشاط يصبح مؤكدا بشكل مطلق عندما تنعزل جماعات حرب العصابات عن الحركة الجماهيرية. في الفترة التي تلت عام 1906، عندما كانت حركة العمال في تراجع، وكان الثوريون يترنحون تحت سلسلة من الضربات، أظهرت منظمات حرب العصابات بشكل متزايد علامات على أنها توقفت عن أن تكون أجهزة مساعدة مفيدة للحزب الثوري، وتحولت إلى مجموعات من المغامرين، أو حتى أسوأ من ذلك. لينين، وحتى في الوقت الذي دافع فيه عن إمكانية استعمال تكتيكات حرب العصابات كنوع من العمل ضد الردة الرجعية في اللحظة التي كان يتوقع فيها انتعاش الحركة الثورية، حذر من «اللاسلطوية والبلانكية والنزعة الإرهابية القديمة وأفعال الأفراد المعزولين عن الجماهير، الشيء الذي يضعف معنويات العمال وينفر فئات واسعة من السكان ويؤدي إلى تشويه الحركة والإضرار بالثورة»، وأضاف أنه: «يمكن العثور بسهولة على الأمثلة التي تدعم هذا التقييم في الأحداث التي يتم الإبلاغ عنها يوميا في الصحف»[49].

ومع مرور الوقت فهم لينين أن تكتيك المصادرات قد فقد فائدته. وكان قد وصل بالفعل إلى وجهة النظر هذه قبل غارة تيفليس. لكن ونظرا للنقص الحاد في الأموال، قبل العملية على سبيل الاستثناء. ومع ذلك فإن المال المتحصل عليه من الغارة لم يفد الحزب بالشيء الكثير. كان المبلغ كله مشكلا من أوراق نقدية من 500 روبل، من المستحيل التعامل بها داخل روسيا. تم ارسال الاموال إلى الخارج لكن دون نتيجة. وكان عميل البوليس جيتوميرسكي، الذي كان يحتل موقعا قياديا داخل المنظمة البلشفية بالخارج، قد أعلم الشرطة بالمخطط. اعتقل ليتفينوف، الذي صار لاحقا سفير الاتحاد السوفياتي في لندن، بينما كان يحاول تبديل الأوراق النقدية في باريس. نفس المصير لاقته أولغا رافيتش، التي أصبحت فيما بعد زوجة زينوفييف، في ستوكهولم. لكن وعلى الرغم من أن غنيمة تيفليس كانت غير مجدية للبلاشفة، فإن المناشفة استغلوها ليصنعوا منها فضيحة طيلة سنوات. كما كانت مسألة المصادرات أرضية لمناقشات ساخنة داخل الفصيل البلشفي، حيث أدت إلى توتر العلاقات. وأخيرا، وبإصرار من المناشفة، أدرجت مسألة المصادرات في جدول أعمال لجنة مراقبة الحزب في يناير 1910. وصدر قرار يدين عمليات المصادرات باعتبارها انتهاكا غير مقبول للانضباط الحزبي، مع الاقرار بأن المشاركين في هذه الأعمال لم يقصدوا إلحاق الضرر بالحركة العمالية، بل كانوا مدفوعين بـ “فهم خاطئ لمصالح الحزب”[50].

لم يكن كل من شارك في حرب العصابات مناضلا بنزاهة كامو. وبينما استمرت الرد الرجعية، وبقيت حركة العمال في حالة من الانهيار، تضاعفت مخاطر سقوط الحركة في أيدي عناصر متحللة طبقيا ومجرمين فعليين. ومن أبرز أولئك الذين استمروا، في تناقض مع موقف لينين، متمسكين بتكتيكات العصابات ومصادرة الممتلكات، بعد فترة طويلة من انتهاء شروطها، هو كوبا/ ستالين. لقد تسببت تلك التكتيكات في تقويض الحركة بشكل خطير. كتب أولمينسكي، الذي كان قريبا من لينين في ذلك الوقت، ما يلي:

«ذهب عدد غير قليل من الشباب ضحايا للمشانق، بينما انحط البعض الآخر. كما أصيب البعض الآخر بخيبة الأمل من الثورة. في ذلك الوقت بدأ الناس بشكل عام يخلطون بين الثوريين وبين قطاع الطرق العاديين. وفي وقت لاحق، عندما بدأت الحركة العمالية في الانتعاش، كانت تلك الحركة أبطأ في تلك المدن التي كانت فيها المصادرات أكثر عددا. (يمكنني أن أذكر على سبيل المثال: باكو وساراتوف.)»[51].

الردة الرجعية بقيادة ستوليبين

بدأت الردة الرجعية التي قادها ستوليبين بتدابير قاسية. في 19 غشت، أقيمت محاكم عسكرية ميدانية قضت بأحكام وحشية ضد أي شخص شارك في نشاط ثوري. تعرض آلاف الأشخاص للتعذيب والإعدام والنفي. وحوكم آلاف الفلاحين في محاكم عسكرية ميدانية. كانت “المحاكمات” موجزة، حيث لم تطل مدة معظمها سوى أربعة أيام. كانت العقوبة المعتادة هي الموت، وتم إعدام 600 شخص في الفترة الأولى. وكان رئيس الوزراء “الإصلاحي” هو من يقود تلك الحملة الإرهابية التي لم يسبق لها مثيل حتى في الفترات الأكثر دموية للقيصرية الروسية. خلال الفترة الممتدة من 1907 إلى 1909، تم تقديم أكثر من 26.000 شخص إلى المحاكم القيصرية. ومن بين هؤلاء، حكم على 5086 شخصا بالإعدام. وبحلول 1909 كانت السجون قد اكتظت بالمعتقلين الذين وصل عددهم إلى 170.000. لكن ستوليبين كان ذكيا بما يكفي لإدراك أن الحركة الثورية لا يمكن إخمادها بواسطة العنف وحده، لم يكن من الممكن أن يكون هناك أي حل دائم ما لم تتم معالجة مسألة الأرض. وفي خطوة ماكرة منه انتقل لمعالجة المشكلة من خلال إطلاق إصلاح زراعي من فوق. من أجل تعزيز سلطتها كانت الردة الرجعية في حاجة إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية. فبدأت البرجوازية والأوليغارشية، اللتان انصهرتا معا في كتلة رجعية واحدة، تبحثان عن حلفاء في القرية.

كانت علاقات الأرض في روسيا قبل الثورة تتسم بتخلف شديد. كان الفلاحون يعيشون في 120.000 من الكومونات القروية، على أساس اقتصاد الكفاف مع إنتاجية منخفضة للغاية. حقوق الفلاحين لم تكن موجودة. وكانت بقايا الإقطاع المتخلفة ما تزال قائمة، على الرغم من أن القنانة كانت قد ألغيت عام 1861. استمر نظام السخرة الإقطاعي القديم، إلى جانب عقلية القنانة القديمة. كانت الرغبة العارمة في الحصول على الأرض والاستياء العميق ضد المالك الكبير، مشاعر تعتمل تحت السطح، لكن وبسبب أنها لم تعثر على أي تعبير منظم، فقد ظلت كامنة مثل بركان غير نشط. في بدايات القرن الجديد، سمع الفلاحون أصداء التمرد من المدن، وأثار ذلك شيئا عميقا داخلهم:

قال أحد الفلاحين بعد انتفاضات 1902: «لم تصلني أي شائعات عن أي كتب صغيرة (مناشير الدعاية الثورية)، أعتقد أنه لو كنا نعيش بشكل أفضل فلن تكون للكتب الصغيرة أهمية مهما كان ما هو مكتوب فيها. إن الشيء السيئ ليس هو الكتب الصغيرة، بل هذا؛ السيئ هو أنه ليس هناك أي شيء لنأكله».

وفي حين كان لينين يدعو إلى تسوية ثورية للحسابات مع كبار الملاكين العقاريين، فإن إصلاح ستوليبين كان حلا برجوازيا رجعيا للمسألة الزراعية. تمت صياغة قانون جديد أدى إلى تحطيم الكومونات القروية لصالح الأقلية “البرجوازية” من الفلاحين، أو من كانوا يسمون بالكولاك. كان ذلك الإصلاح، على حد قول صاحبه: “رهانا ليس على المحتاج والمخمور، بل على الفاعل والقوي”. كان الشرط المسبق لإدخال الزراعة الرأسمالية إلى روسيا هو تفكيك الكومونات وإنشاء طبقة من الفلاحين الأغنياء.

أكد ستوليبين «أن المبدأ الطبيعي للكومونة هو الملكية الفردية. كما أنها أيضا ضمانة لاستقرار النظام، لأن المالك الصغير هو الخلية التي ينبني عليها كل نظام مستقر في الدولة»[52]. صدر الأوكاز [المرسوم] في أواخر 1906، وصار في 14 يونيو 1910 قانونا. كان التوجه الأساسي لذلك القانون هو إعطاء الفلاحين الحق في مغادرة كومونة القرية -الأوبشينا-، على الرغم من أنه في الممارسة العملية، كان الفلاحون الأثرياء هم وحدهم من لديهم الوسائل لتحقيق الاستقلالية.

قال كيرنسكي: «لقد تم تطبيق الإصلاح بحيوية هائلة، لكن أيضا مع تجاهل صارخ لأبسط مبادئ القانون والعدالة. لقد صادرت الحكومة، التي كانت تدعم “الأقوى”، الأراضي التابعة للبلدية وأعطتها للفلاحين الميسورين. أعطيت لهم أفضل قطع الأراضي، في انتهاك كامل لحق الكومونة في الحيازة. وتم منح المالكين الجدد لتلك الأراضي قروضا تصل إلى 90% من التكلفة لكي يقيموا مزارعهم».

كان إصلاح ستوليبين يعني هزة عنيفة لعلاقات ملكية الأرض. وفي النهاية ربما صار ثلثا الأراضي في ملكية الفلاحين. لكن وعلى الرغم من كل الفوائد التي وفرها لهم ذلك الإصلاح، فبحلول فاتح يناير 1915، لم تتمكن سوى 2.719.000 أسرة فلاحية من القول بأن حيازاتها أصبحت ملكا خاصا لها (حوالي 22% أو 24% من إجمالي مساحة الأراضي الفلاحية المتاحة). لكن كيف رأت أغلبية الفلاحين إصلاح ستوليبين الزراعي؟

يقول كيرنسكي: «اتخذ الفلاحون، في معظم الأحيان، وجهة نظر معارضة أو حتى عدائية تجاه إصلاح ستوليبين الزراعي، وذلك لسببين: أولا، وهو الأهم، لم يكن الفلاح يريد أن يقف ضد الكومونة، وكانت فكرة ستوليبين عن “دعم الأقوى” تتناقض مع نظرة الفلاح للحياة، لم تكن لدى الفلاح رغبة في أن يصبح ملاكا عقاريا على حساب جيرانه».

لم تقدم تلك السياسة أي حل للمشاكل الملحة التي كان الفلاحون الروس يواجهونها. وقد تم التعبير عن الرغبة الحارقة للفلاحين في الحصول على الأرض من خلال سلسلة كاملة من الانتفاضات في القرى والتي وجهت تحذيرا للاستبداد بأن هذه “الجماهير الصامتة” لم تعد ترغب في تحمل ثقل اضطهاد المالكين العقاريين في صمت. صبر الموجيك الروسي، الذي كان مضربا للأمثال، وصل إلى نهايته. كان ذلك خطرا مميتا على النظام الاستبدادي واحتياطيا لا ينضب من القوة لصالح الثورة. وهكذا فإن مصير البروليتاريا كان، أكثر من أي وقت مضى، مرتبطا ارتباطا وثيقا بمسألة الحل الثوري لمشكلة الأرض. وقد اختتم كيرنسكي بخلاصة كئيبة: «من خلال إصلاحه الزراعي عمل ستوليبين على إشعال الحرب الأهلية في الريف الروسي»[53].

كتب لينين في عام 1920، يتذكر سنوات الردة الرجعية (1907- 1910) قائلا:

«كانت القيصرية منتصرة. وكانت جميع الأحزاب الثورية والمعارضة قد سحقت. فاحتل الاكتئاب والإحباط والانشقاقات والخلافات والردة والبورنوغرافيا، مكان السياسة. كان هناك انحراف متزايد باستمرار نحو المثالية الفلسفية؛ وأصبح التصوف رداء المشاعر المضادة للثورة. لكن وفي نفس الوقت، كانت تلك الهزيمة الساحقة هي التي علمت الأحزاب الثورية والطبقة الثورية درسا حقيقيا ومفيدا جدا، درسا في ديالكتيك التاريخ، درسا في فهم النضال السياسي، وفي فن وعلم خوض ذلك النضال. لحظات الحاجة هي التي يتعلم المرء فيها من هم أصدقاؤه. الجيوش المهزومة تتعلم الدرس بشكل جيد»[54].

تعرضت الحركة العمالية لأضرار شديدة، ليس فقط بسبب الاعتقالات، ففي الفترة ما بين عامي 1906 و 1910، تم إغلاق 500 منظمة نقابية. وانخفضت عضوية النقابات مع ارتفاع البطالة بلا هوادة. انخفضت عضوية النقابات الشرعية من 246.000 إلى 50.000، ثم إلى 13.000. وتم تمديد يوم العمل إلى 12 ساعة، بل و15 في بعض الحالات. والارتفاع السريع في البطالة، الذي كان جزئيا يعكس أزمة اقتصادية عالمية، جعل وضع العمال أكثر سوءا. في منطقة موسكو، في عام 1907، كان حوالي ربع عمال مصانع التعدين عاطلين عن العمل. وكانت هناك حالات مشابهة في أماكن أخرى. وفي أعقاب الهزيمة السياسية الساحقة، استنزفت البطالة الجماهيرية ما تبقى من الروح الكفاحية عند الطبقة العاملة. وأعد أرباب العمل قوائم بأسماء الناشطين والذين كانوا يطردون بانتظام من العمل. وانهارت الأجور.

وبشكل حتمي أدى تراجع الثورة إلى سلسلة من الأزمات والانقسامات الداخلية في جميع الأحزاب اليسارية. هذا صحيح ليس فقط بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين، بل أيضا للاشتراكيين الثوريين. وإلى جانب تراجع عدد الأعضاء والصعوبات المالية انضافت الفضائح والانقسامات. فحتى القيادي الإرهابي الاشتراكي الثوري البارز ورئيس الجناح المسلح للحزب، إيفنو أزف، اتضح أنه عميل للبوليس. كان هناك انقسام بين اليمين واليسار داخل الاشتراكيين الثوريين، إلى الاشتراكيين الشعبيين (الجناح اليميني)، والماكسيماليين (اليسار) الذين طالبوا بالاشتراكية الفورية للأراضي والمصانع. كان ذلك في حد ذاته تطورا كبيرا، واستباقا لانشقاق يسار الاشتراكيين الثوريين في عام 1917. خلال المؤتمر الخامس للحزب الاشتراكي الثوري، في ماي 1909، أشار مندوب بيترسبورغ، أندرييف، إلى أنه، من الناحية التنظيمية، لم يعد للحزب وجود في العاصمة؛ ولم يتبق هناك سوى أفراد معزولين[55]. كما كان هناك انقسام داخل الحركة اللاسلطوية الصغيرة بين دعاة الإرهاب وبين النقابيين اللاسلطويين.

وفي الوقت نفسه لم تؤد إعادة توحيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى إنهاء الصراع الداخلي، بل على العكس تماما. كما أن العلاقات بين البلاشفة والمناشفة لم تتفاقم بشكل مطرد فحسب، بل اندلعت سلسلة كاملة من الانقسامات داخل الفصيلين الرئيسيين. لم يكتف الجناح اليميني المنشفي (أكسلرود وشيريفانين) بالدعوة إلى عقد اتفاق مع الكاديت فحسب، بل طرح أيضا فكرة تنظيم “مؤتمر عمالي” بطابع غير حزبي، على شاكلة حزب عمالي إصلاحي بدلا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الثوري القديم. نرى هنا بالفعل، وفي وقت مبكر جدا، البذور الأولى للنزعة التصفوية. كان مرض التعاون الطبقي واسع الانتشار بين جميع وجهات النظر المنشفية. نشر بليخانوف “رسالة مفتوحة إلى العمال الواعين”، في صحيفة الكاديت، توفاريش، حيث دعاهم إلى دعم البرجوازية الليبرالية. وذهب المنشفي باسيليف إلى حد الدعوة إلى اندماج الاشتراكيين الديمقراطيين مع الاشتراكيين الثوريين والكاديت في حزب دستوري واحد، وهو الاقتراح الذي أسماه لينين “قمة قمم الانتهازية”. كان الطريق الوحيد للخروج من المأزق هو عقد فوري لمؤتمر جديد للحزب. وقد شن لينين حملة عنيدة من أجل ذلك، مستندا في ذلك على لجنة بيترسبورغ.

مجلس الدوما الثاني

كانت الردة الرجعية قد كسبت المعركة لكنها لم تكن بعد واثقة في نفسها. وقد زاوج النظام بين الجزرة والعصا. عمل القيصر على عقد مجلس الدوما الثاني، وفي نفس الوقت شدد حملة القمع. ومرة أخرى طرحت المسألة: هل ينبغي أن يشارك الاشتراكيون الديمقراطيون في انتخابات مجلس الدوما: نعم أم لا؟ كان لينين، بحلول ذلك الوقت، قد توصل إلى الرأي القائل بأن المقاطعة ستكون موقفا خاطئا. وكان قد توصل بالفعل إلى خلاصة أنه كان من الخطأ مقاطعة مجلس الدوما الأول (دوما وايت)، على الرغم من أنه كان وحيدا في تبني هذا الرأي بين قادة الفصيل البلشفي. في شهر شتنبر عام 1906 كتب أنه يجب إعادة النظر في تكتيك المقاطعة.

إن التكتيكات بطبيعتها لا يمكن اعتبارها شيئا جامدا وثابتا طوال الوقت. يجب على التكتيكات أن تعكس الحالة الراهنة في المجتمع وحالة الجماهير النفسية والمرحلة التي تمر منها الحركة. إذا كانت الثورة في تراجع، لا يمكن للحزب أن يتخلى عن أي ساحة شرعية للنضال. من واجبه أن يستخدم كل هامش مفتوح وكل منصة من شأنها أن تساعد على الحفاظ على روابط الحزب مع الجماهير. إن التصرف بأي طريقة أخرى هو تحويل الحزب إلى عصبة. إن العصبوي يعيش في عالمه الصغير، بعيدا عن الجماهير، ولهذا السبب بالذات فإن الأسئلة الملموسة للتكتيكات لا تثير اهتمامه. وبما أنه قد اخترع بروليتاريا (وهمية) خاصة به في عالم مثالي (وهمي)، فلا حاجة له ​​إلى السعي لإقامة علاقات مع الطبقة العاملة الحقيقية ومنظماتها القائمة. في مقاله “العصبوية والمركزية والأممية الرابعة”، (1935)، يصف تروتسكي العصبوي على النحو التالي:

«ينظر العصبوي إلى حياة المجتمع كمدرسة كبيرة، يلعب فيها هو دور المعلم. ينبغي على الطبقة العاملة، من وجهة نظره، أن تضع جانبا مشاكلها الأقل أهمية وأن تجتمع في صف متراص أمام منبره. وهكذا ستحل المسألة.
وعلى الرغم من أنه يقسم بالماركسية في كل جملة من جمله، فإن العصبوي هو النفي المباشر للمادية الديالكتيكية، التي تأخذ الخبرة نقطة انطلاق لها وتعود دائما إليها. لا يفهم العصبوي جدلية التفاعل بين البرنامج المكتمل وبين النضال الجماهيري الحي، أي الناقص وغير المكتمل… العصبوية معادية للديالكتيك (ليس بالكلمات بل في الممارسة) بمعنى أنها تدير ظهرها للتطور الفعلي للطبقة العاملة»[56].

لكن الأمر مختلف تماما بالنسبة للتيار الماركسي الحقيقي، الذي يجب عليه أن يجد الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن ربط البرنامج الماركسي العلمي المكتمل مع الحركة الجماهيرية التي هي بالضرورة غير مكتملة ومتناقضة وغير منسجمة؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بتكرار الصيغ المجردة. يجب إقامة الرابط في كل مرحلة من خلال مراعاة الظروف الحقيقية التي تمر منها الحركة.

بالنسبة للعمال الاشتراكيين الديمقراطيين الطليعيين، كان من الواضح أن مجلس الدوما لا يمكنه حل أية مشكلة من المشاكل التي تواجه البروليتاريا والفلاحين الفقراء، لكن بالنسبة لعموم الجماهير، وخاصة في الريف، كان ذلك غير واضح. لقد أثيرت أوهام كبيرة حول إمكانية تحقيق إصلاحات من خلال البرلمان، ولا سيما الإصلاح الزراعي. أرسل الفلاحون ممثليهم إلى مجلس الدوما، ممثلين بكتلة الترودوفيك (العمل)، وانتظروا النتائج بفارغ الصبر. وحتى بين العمال، رغم أنه كانت هناك أوهام أقل بينهم حول الدوما، فإن هزيمة الثورة كانت تعني أن الدوما بدأ يحتل المزيد من الاهتمام.

كقاعدة عامة لا يقاطع الماركسيون البرلمان إلا عندما يكون هناك احتمال واقعي بأن يحل محله شيء أفضل، كما كان الحال في نوفمبر 1917. ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن مقاطعة الانتخابات تعني فقط أن حزب العمال يقاطع نفسه. ليس لهذا الموقف أي علاقة مع اللينينية. لقد كان لينين يؤيد تكتيكات مرنة تعكس الحالة المتغيرة. وفي مقابل المناشفة الذين فضلوا عقد صفقة انتخابية مع الكاديت -الليبراليين البرجوازيين-، دعم لينين عقد صفقات انتخابية مع الترودوفيك والاشتراكيين الثوريين ضد الأحزاب اليمينية وضد الليبراليين. لقد كانت فكرة تشكيل كتلة يسارية بين الأحزاب البروليتارية والأحزاب البرجوازية الصغيرة الثورية ضد الليبراليين البرجوازيين امتدادا لسياسة الجبهة الموحدة على المستوى الانتخابي. لقد كان من المقبول التصويت في مجلس الدوما جنبا إلى جنب مع تلك الأحزاب حول نقاط محددة حيث يوجد اتفاق مبدئي، في حين يبقي الاشتراكيون الديمقراطيون أنفسهم أحرارا في جميع الأوقات لانتقاد السياسات غير المتناسقة والغامضة والمتناقضة للأحزاب البرجوازية الصغيرة.

القاعدة الذهبية هي: الاستقلالية المطلقة لحزب العمال في جميع الأوقات عن جميع التيارات الأخرى (بما في ذلك البرجوازية الصغيرة الراديكالية). لا تكتلات برنامجية، لا خلط للرايات؛ الحرية الكاملة في ممارسة النقد؛ وقبل كل شيء، كان من الضروري شن نضال حازم ضد الليبراليين البرجوازيين. كان الهدف الأساسي في الواقع هو دق إسفين بين الممثلين السياسيين للبرجوازية الصغيرة وبين الكاديت. إن الرفض الصريح للأوهام الإصلاحية والبرلمانية وجميع أشكال التعاون الطبقي، هي السمات الأساسية لسياسة لينين في تلك الفترة، والتي انعكست في مئات الخطابات والمقالات والقرارات. كانت تلك السياسة بدورها انعكاسا لإستراتيجية أشمل هي الكفاح من أجل هيمنة البروليتاريا على الجماهير البرجوازية الصغيرة، ولا سيما الفلاحين. وقد ظهرت نتائج هذه الإستراتيجية بشكل واضح في ثورة أكتوبر.

تمت تسوية هذه المسألة في مؤتمر نوفمبر 1906، الذي عقد في تامرفورس في فنلندا، بسبب مد الردة الرجعية في روسيا. كانت تلك لحظة حاسمة في تاريخ الحزب، فقد دعم المناشفة والبوند إقامة ​​كتلة مع الكاديت. واعتبر لينين أن هذه هي الخطوة الحاسمة التي تمثل الانتقال النهائي للمناشفة إلى الانتهازية[57]. لكن الحزب كان يعرف آنذاك تغيرا في الحالة المزاجية، وهو ما تجلى في التأييد المتزايد لموقف لينين الذي حصل على دعم 14 مندوبا (65% من المؤتمرين)، وهو الموقف الذي عبر عنه في “تقرير الأقلية” حيث أكد على ضرورة استقلالية الطبقة العاملة وأن الاتفاقات الوحيدة المسموح بها هي اتفاقات مؤقتة مع التيارات البرجوازية الصغيرة الديمقراطية الثورية. كشف مؤتمر تامرفورس عن وجود صراعات داخلية حادة، لكنها لم تؤد إلى حدوث انقسام. اقتصر لينين على الدفاع عن أفكاره والنضال من أجل كسب الأغلبية، وكان واثقا من أن التجربة سوف تثبت أنه على حق. كان تقسيم صفوف الحزب في ذلك الوقت سيكون موقفا غير مسؤول. كانت هناك حاجة إلى المزيد من الوقت لكي تتوضح في خضم الأحداث المسائل المتنازع عليها بشأن التكتيكات. غير أن الوضع الداخلي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان معقدا، فقد حدث انقسام فعلي على خلفية التكتيكات الانتخابية في منظمة سان بيترسبورغ، والذي تمت معالجته أخيرا في مؤتمر محلي، عقد في أوائل يناير 1907، حيث تم رفض التكتل مع الكاديت. وبعد أن خسر المندوبون المناشفة النقاش والتصويت، انسحبوا من أجل إتباع سياستهم بشكل منفصل. كان ذلك مؤشرا عن الأحداث المستقبلية. وبينما استمر الحزب متحدا من الناحية الرسمية، فقد تصاعدت بشكل حاد التوترات بين مختلف الفصائل.

تنص المادة الرابعة من القرار بخصوص التكتيكات الانتخابية، الذي أقره المؤتمر، على أن: «الاتفاقات المحلية مع الأحزاب الثورية والمعارضة الديمقراطية مسموح بها إذا ظهر، خلال الحملة الانتخابية، أن هناك خطر نجاح الأحزاب اليمينية». استخدم المناشفة هذا القرار في الممارسة العملية لدعم مرشحي الكاديت في العديد من المناطق. أما من ناحية أخرى، فقد دافع البلاشفة على أنه: «في المرحلة الأولى من الحملة الانتخابية، أي أمام الجماهير، يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين، كقاعدة عامة، أن يتقدموا كحزب مستقل، وأن يقدموا مرشحي الحزب فقط للانتخاب».

ويسمح بالاستثناءات «في الحالات المستعجلة، وذلك فقط مع الأحزاب التي تتفق بالكامل مع الشعارات الرئيسية للنضال السياسي الفوري الذي نخوضه، أي تلك الأحزاب التي اعترفت بضرورة الانتفاضة المسلحة، وناضلت من أجل جمهورية ديمقراطية. وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن تشكيل مثل هذه الائتلافات إلا فيما يتعلق بوضع قائمة مشتركة بالمرشحين، ولا يمكن أن تتداخل بأي شكل من الأشكال مع التحريض السياسي للاشتراكيين الديمقراطيين»[58].

جرت انتخابات مجلس الدوما الثاني في 20 فبراير 1907. وعلى الرغم من كل شيء فقد كان تكوينه أكثر يسارية من الدوما الأول. كان اليسار ممثلا من قبل 222 نائبا من أصل ما مجموعه 518. وكانت التمثيلية على النحو التالي: 65 نائبا عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، 104 عن الترودوفيك، 37 عن الاشتراكيين الثوريين، 16 عن “الاشتراكيين الشعبيين” وذلك مقابل 54 فقط عن الأحزاب اليمينية (الملكيين والأكتوبريين)، وكان الخاسر الحقيقي هو الكاديت الذي فقد الدعم من كل من اليمين واليسار، وصار لديه 98 نائبا فقط، مقابل 184 في الدوما الأول[59]. كان هناك عدد أكبر من الفلاحين في الدوما الثاني مما كان في الدوما الأول. لكن المفارقة هي أن التركيبة اليسارية للدوما كانت أحد أعراض تراجع الثورة، وليس تقدمها. وعلى الرغم من أن الجماهير، ليس فقط العمال بل أيضا البرجوازية الصغرى، حاولت الانتقام من الحكم المطلق بالتصويت لصالح اليسار في انتخابات مجلس الدوما، فإنها لم تعد قادرة على شن انتفاضة جديدة.

تكتيك المشاركة في الانتخابات بررته النتائج بشكل كامل، فبفضل تخليهم عن قرار المقاطعة، حصل الاشتراكيون الديمقراطيون على 65 نائبا، على حساب الكاديت أساسا. انتخب العمال المرشحين الاشتراكيين الديمقراطيين في الاقتراع الأول. والغريب هو أن حزب الاشتراكيين الثوريين تمكن في بيترسبورغ من الحصول على العديد من المقاعد. وفي القرى فاز العديد من مرشحي الكتلة اليسارية. كان الوضع داخل الحزب متقلبا للغاية، وكانت الآراء تتغير في جميع الاتجاهات. وبدأت الاختلافات في الظهور داخل صفوف المناشفة، الذين انضم جزء منهم إلى الكتلة اليسارية.

كانت الفروق بين اليمين (الملكيين / الملاكين العقاريين) وبين الكاديت ضئيلة للغاية في الواقع: فالبرجوازيون “الليبراليون” دافعوا عن مصالح أبناء عمومتهم الملاكين العقاريين، في حين استمروا في تلقينهم أفضل الطرق لإبقاء الجماهير في القهر. في الواقع كان العديد من الكاديت أنفسهم ملاكين كبار. وكانت المسألة المركزية في جميع مداولات الدوما هي المسألة الزراعية. قدم الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي نقطة تجميع حقيقية لليسار. لكن الفريق كان ما يزال تحت سيطرة المناشفة، الذين كان لهم 33 نائبا بالإضافة إلى عدد من المتعاطفين[60]. بينما بلغ عدد البلاشفة 15 نائبا وثلاثة متعاطفين.

سرعان ما ظهرت الفروق بين الفصيلين. فالمناشفة، وتماشيا منهم مع سياستهم الرامية إلى السعي إلى عقد تحالف مع الكاديت، اقترحوا ترشيح عضو من الكاديت للرئاسة، في حين اقترح البلاشفة إما عضوا من الترودوفيك أو فلاحا غير حزبي. وناضل النواب الاشتراكيون الديمقراطيون في الدوما باستمرار لدعم مطالب الفلاحين، لكن الحياة نفسها كانت تكشف النقص الصارخ في البرنامج الزراعي القديم للحزب الاشتراكي الديمقراطي. كان البرنامج الذي أقره المؤتمر الرابع للحزب قد اقتصر على مطلب وضع الأرض في يد البلديات، بيد أن الأوضاع كانت قد تجاوزت كثيرا هذه التدابير الجزئية. طالب الفلاحون بالتأميم، ولم يقتصروا على الخطب، فقد كانت هناك 131 “حادثة” في مارس و193 “حادثة” في أبريل و211 في ماي و216 في يونيو. لقد أضيئت المناقشات التي كانت تتم في قصر توريد بنيران الانتفاضات التي اشتعلت في القرى.

المؤتمر الخامس (لندن)

أدى تصرف الفريق البرلماني في الدوما إلى استياء كبير بين قواعد الحزب. وكان ذلك أحد الأسباب وراء الدعوة إلى عقد المؤتمر الخامس (مؤتمر لندن). تركز اهتمام الحزب، خلال شهري فبراير ومارس 1907،  على الأعمال التحضيرية للمؤتمر. وكما كان متوقعا فقد حدث تقاطب في جدول الأعمال بين القرارات المتضاربة التي قدمها الفصيلان البلشفي والمنشفي. كان من المقرر في البداية أن ينعقد المؤتمر في الدنمارك، لكن السلطات القيصرية اتصلت بحكومة كوبنهاغن وأقنعتها برفض الترخيص لعقده. ثم حاولوا نقله إلى مالمو، لكن الحكومة السويدية أوضحت لهم أنهم غير مرحب بهم، لذلك اضطروا إلى حمل حقائبهم مرة أخرى. وفي النهاية حط المؤتمر الرحال في لندن، حيث انعقد في كنيسة بشارع ساوثجيت، والتي، لسخرية التاريخ، كانت تابعة لألد أعداء الثورة، جمعية فابيان الاصلاحية اليمينية[61].

 بعد سنوات عديدة يتذكر غوركي قائلا: «ما أزال أستطيع أن أرى بوضوح أمامي تلك الجدران الخشبية العارية غير المزخرفة إلى درجة التقشف، والنوافذ التي تطل على قاعة صغيرة وضيقة تشبه قاعة دراسية في مدرسة فقيرة»[62]. في مثل هذا المكان الكئيب اجتمع الثوار للبث في مصير الثورة الروسية.

افتتح المؤتمر الخامس، في تمام الساعة السابعة من مساء يوم 30 أبريل، واستمرت أشغاله ثلاثة أسابيع تقريبا، حتى 19 ماي 1907. كان اجتماعا بالغ الأهمية. على الرغم من الظروف الصعبة، كان هذا المؤتمر هو الاجتماع الأكثر تمثيلية للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية من كل المؤتمرات التي سبقته. كان هناك ما لا يقل عن 303 من المندوبين، فضلا عن 39 عضوا آخر لهم صوت استشاري. كان هناك مندوب واحد لكل 500 عضو في الحزب (أي ما مجموعه 150.000 عضو في 145 منظمة حزبية)، تنتمي 100 منظمة منها للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وثماني منظمات للحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الليتواني، بالإضافة إلى سبع مجموعات لاتيفية و30 مجموعة تنتمي لحزب البوند. كان هؤلاء هم جيش الثورة. وعلى الرغم من أن معظمهم كانوا ما زالوا في العشرينات من عمرهم، فإنه لم يكن من بينهم أي شخص لم يتصلب عوده بتجربة السجن والنفي. ومنذ انعقاد المؤتمر السابق، قبل 12 شهرا، تمكن الفرع الروسي للحزب من زيادة عدد أعضائه من 31.000 عضو إلى 77.000، أي بمعدل مرتين ونصف. ومع ذلك فإنه يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر، فحدة الصراع الفصائلي دفعت الجانبين إلى تضخيم أعداد العضوية. لكن ومع أخذ ذلك في الاعتبار فإنه من الواضح أن الحزب استمر في النمو، حتى خلال فترة الرد الرجعية، الشيء الذي لم يكن يعكس مزاج الجماهير، بل كان يعكس تجذر الفئة الأكثر وعيا بين العمال والطلاب. ولنفس السبب فقد نما الجناح اليساري للحزب بمعدل أسرع من نمو الجناح اليميني.

كان التوازن بين الفصائل يقف على حد السكين. ففي بداية عام 1906، كانت قوى البلاشفة والمناشفة في سان بيترسبورغ متساوية تقريبا. لكن خلال الفترة الفاصلة بين الدوما الأول والثاني، تمكن البلاشفة من تحقيق التقدم. وبحلول وقت الدوما الثاني، يذكر تروتسكي بأنهم: «كانوا قد حصلوا بالفعل على الهيمنة الكاملة بين صفوف العمال المتقدمين»[63]. وقد انعكس هذا التحول في تكوين مؤتمر لندن. لقد كان مؤتمر ستوكهولم منشفيا؛ بينما كان مؤتمر لندن بلشفيا. في المؤتمر السابق، كان عدد البلاشفة 13.000 مقابل 18.000 للمناشفة (مندوب واحد لكل 300 عضو في الحزب). أما الآن فقد صار الوضع مختلفا، فمن بين جميع المندوبين، كان هناك 89 بلشفي، و88 منشفي.

اجتمعت في ذلك المؤتمر كوكبة من أبرز المواهب، لم يسبق لأي مؤتمر اشتراكي ديمقراطي أن جمعها. من أبرز المدافعين عن مواقف المناشفة كان هناك بليخانوف ومارتوف وأكسلرود وديوتش ودان. وكان من بين المندوبين البلاشفة لينين وبوغدانوف وزينوفييف وكامينيف وبوبنوف ونوجين وشوميان وليادوف وبوكروفسكي وتومسكي. كان غوركي، الكاتب المعروف، الذي كان قريبا من البلاشفة، حاضرا أيضا. كما حضر تروتسكي، الذي كان قد هرب للتو من سيبيريا، باعتباره اشتراكيا ديمقراطيا من خارج الفصائل. وكان هناك أيضا شاب جورجي، كان يعرف باسم إيفانوف، والذي لم يسمع له أي صوت خلال أشغال المؤتمر، لأنه لم يكن منتدبا من أي منظمة حزبية معترف بها في القوقاز، وهي المنطقة التي كان يمثلها شوميان -الذي قتل في وقت لاحق على يد قوات الغزو البريطانية في باكو- وميخا تسخاكايا، الذي سافر مع لينين في “القطار المغلق” الشهير عام 1917. ذلك الزائر الصامت المسمى ايفانوف اكتسب لاحقا سمعة سيئة تحت اسم ستالين. لكنه في تلك المرحلة كان مجهولا في دوائر الحزب خارج فرعه المحلي، ومر حضوره في المؤتمر دون أن يلاحظه أحد.

من العوامل الرئيسية وراء غلبة الطابع اليساري على المؤتمر مشاركة الأحزاب غير الروسية، التي كانت تقف عموما على اليسار، مما أعطى البلاشفة الأغلبية. ومن بين المندوبين من بولندا وليتوانيا كانت هناك روزا لوكسمبورغ وماركليفسكي وتيسكا (جوغيتش)، الذين شكلوا جزءا من مجموعة متماسكة مكونة من 44 عضوا كانت تدفع المؤتمر بشكل قوي نحو اليسار. وكان فيليكس دزيرجينسكي، الذي صار لاحقا رئيس التشيكا، سيكون عضوا في الوفد البولندي، لكنه تعرض للاعتقال في طريقه إلى المؤتمر. كما ترأس الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين الراديكاليين زعيم مستقبلي آخر للتشيكا والجيش الأحمر، هو هيرمان دانشيفسكي. وقد أحاطت إدارة الشرطة علما بالتغييرات التي طرأت على المؤتمر، حيث جاء في تقاريرها أن: «مجموعات المناشفة في حالتها الراهنة لا تشكل خطرا كبيرا مثلما هم البلاشفة». وشملت التقارير أيضا التقييم التالي:

«“من بين الخطباء الذين تحدثوا أثناء المناقشة دفاعا عن وجهة النظر الثورية المتطرفة هناك ستانيسلاف (بلشفي) وتروتسكي وبوكروفسكي (بلشفي) وتيشكا (الحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي)؛ أما دفاعا عن وجهة النظر الاصلاحية فهناك مارتوف وبليخانوف” (قادة المناشفة). ويواصل عميل الأوخرانا قائلا: “هناك مؤشر واضح بأن الاشتراكيين الديمقراطيين يتجهون نحو أساليب النضال الثورية… أما المناشفة، الذين ازدهروا بفضل الدوما، فقد تراجعوا في الوقت الحالي، عندما أظهرت الدوما عجزها، مما أعطى مجالا واسعا للبلاشفة، أو بالأحرى، للاتجاهات الثورية المتطرفة”»[64].

من الممتع قراءة محاضر المؤتمر، ففيها نجد أول نقاش حقيقي بين البلاشفة والمناشفة حول التكتيكات والاستراتيجية. وبالمقارنة مع ذلك لم تكن الاختلافات التي شهدها المؤتمر الثاني في الواقع سوى استباق لما سيحدث مستقبلا. وحتى المناقشات التي شهدها مؤتمر ستوكهولم، المتعلقة بالخلاف حول تأميم الأراضي مقابل وضعها في ملكية البلديات، لم تصل حقا إلى جوهر المشكلة، التي برزت بوضوح تام في المؤتمر الخامس. كان جدول الأعمال مكونا من: نقاش تقارير اللجنة المركزية والفريق البرلماني في الدوما؛ وموقف الحزب من الأحزاب البرجوازية؛ ومسألة المؤتمر العمالي؛ ومجلس الدوما؛ والنقابات؛ وحركة الأنصار [الجناح المسلح]؛ والبطالة؛ والأزمة الاقتصادية؛ وإغلاقات المصانع؛ والمسائل التنظيمية؛ والمؤتمر الأممي؛ والعمل وسط الجيش.

افتتح مارتوف المؤتمر بقراءة تقرير اللجنة المركزية. وبما أن اللجنة المركزية كانت تحت سيطرة المناشفة، فقد قدم بوغدانوف وثيقة مضادة توضح وجهة النظر البلشفية. وهكذا افتتح المؤتمر بمناقشة ساخنة. لكن وعلى النقيض من المؤتمر السابق، صار المناشفة الآن في حالة دفاع. وعندما أكد بليخانوف في خطابه الافتتاحي للمندوبين أنه ليست هناك أي ميولات تحريفية داخل الحزب، انكمش لينين على نفسه وانخرط في ضحك صامت.

كان كل شخص تقريبا في ذلك المؤتمر ينتمي إلى هذا الفصيل أو ذاك، وتنعكس هذه الحقيقة في انتخاب هيئة الرئاسة، التي تألفت من خمسة مندوبين، واحد من كل مجموعة منظمة. اختار المناشفة دان واختار البوند ميديم واختار اللاتيفيون آزيس روزين والبولنديون تيزكا والبلاشفة لينين. وقد عبر المناشفة عن موقف خبيثا منذ البداية من خلال تشكيكهم في أوراق اعتماد لينين. في هذه اللحظة انفجر المؤتمر، وبدأ المندوبون يصرخون ويلوحون بقبضاتهم في وجه بعضهم البعض. ولم تتم استعادة النظام إلا عندما سحب المناشفة اعتراضاتهم، لكن الجلسة الافتتاحية أفسحت المجال أمام بقية أشغال المؤتمر.

النقاش حول الأحزاب البرجوازية

كانت المسألة الرئيسية التي حددت كل شيء آخر هي الموقف من الأحزاب البرجوازية. وقد نوقشت هذه المسألة بشكل مستفيض خلال المؤتمر. تدخل أربعة أشخاص في هذا الموضوع وهم لينين ومارتينوف وروزا لوكسمبورغ وأبراموفيتش. وقد أبرز لينين، الذي تحدث أولا، الأهمية المركزية لهذه المسألة، إذ قال:

«إن مسألة موقفنا من الأحزاب البرجوازية هي النقطة المركزية للاختلافات حول المسائل المبدئية التي قسمت منذ فترة طويلة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى معسكرين. فحتى قبل النجاحات الكبرى الأولى للثورة، أو حتى قبل الثورة، إذا كان من الممكن الحديث بهذه الطريقة عن النصف الأول من عام 1905، كانت هناك بالفعل وجهتا نظر متمايزتان بشأن هذه المسألة. كانت الخلافات تدور حول تقييم الثورة البرجوازية في روسيا. وقد اتفق كلا التيارين داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية على أن هذه الثورة كانت ثورة برجوازية، لكنهما اختلفا في فهمهما لهذا الموقف، وفي تقييمهما للخلاصات العملية والسياسية التي يمكن استخلاصها منه. قام أحد جناحي الحركة الاشتراكية الديموقراطية -المناشفة- بتفسير هذا المفهوم على أنه يعني أن البرجوازية هي القوة الدافعة في الثورة البرجوازية، وأن البروليتاريا لا يمكنها أن تشغل سوى موقف “أقصى المعارضة”، وأنه لا يمكن للبروليتاريا أن تحمل على كاهلها مهمة إنجاز الثورة بشكل مستقل أو قيادتها».

وعبر عن اتفاقه على أن: «أهداف الثورة التي تجري الآن في روسيا لا تتجاوز حدود المجتمع البرجوازي… لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن البرجوازية هي القوة الدافعة في الثورة أو قائدتها. إن مثل هذا الاستنتاج سيكون ابتذالا للماركسية، سيكون فشلا في فهم الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية». واختتم قائلا: «إن البرجوازية لا يمكنها أن تكون القوة الدافعة في الثورة ولا أن تكون قائدتها. إن البروليتاريا وحدها هي القادرة على إكمال الثورة، أي تحقيق النصر التام. لكن هذا الانتصار لا يمكن أن يتحقق إلا بشرط أن تنجح البروليتاريا في كسب قسم كبير من الفلاحين تحت قيادتها».

بينما اشتكى المناشفة من “العداء الأحادي الجانب” للبروليتاريا تجاه الليبرالية. فرد لينين بأن البرجوازيين الليبراليين لا يمثلون قوة ثورية، بل قوة معادية للثورة، وقال:

«يقول المناشفة إن البرجوازية “غير مستعدة للنضال”. في الواقع لقد كانت البرجوازية مستعدة للنضال، وعلى استعداد للنضال ضد البروليتاريا، وللنضال ضد الانتصارات “المفرطة” للثورة… إن التزام الصمت في الوقت الحاضر حول طبيعة البورجوازية المعادية للثورة يعني التخلي نهائيا عن وجهة النظر الماركسية، يعني النسيان الكامل لوجهة نظر الصراع الطبقي»[65].

في هذا النقاش كانت روزا لوكسمبورغ، بطبيعة الحال، قريبة من لينين، وسخرت من حجة المناشفة قائلة:

«اتضح أن هذه الليبرالية الثورية التي تسعى إلى السلطة، والتي يطلبون منا أن نكيف تكتيكات البروليتاريا مع مصالحها، والتي هم مستعدون لتقييد مطالب البروليتاريا من أجل إرضاءها، هذه الليبرالية الروسية الثورية لا توجد في الواقع، بل في الخيال، إنها اختراع، إنها وهم. [تصفيق]. هذه السياسة، التي أقيمت على أساس خطاطة ميتة وعلاقات مفبركة ولا تأخذ في الاعتبار المهام الخاصة للبروليتاريا في هذه الثورة، تسمي نفسها “الواقعية الثورية”»[66].

تقدم تروتسكي بتعديل علق عليه لينين باستحسان. كانت هذه هي المرة الأولى التي سنحت فيها لتروتسكي الفرصة لتوضيح وجهات نظره حول الثورة أمام الحزب. مداخلته في النقاش حول الموقف من الأحزاب البرجوازية، التي خصص لها 15 دقيقة فقط، علق عليها لينين مرتين حيث أبدى موافقته التامة على الآراء التي أعرب عنها تروتسكي، وخاصة دعوته إلى تشكيل كتلة يسارية ضد البرجوازية الليبرالية، وقال: «هذه الحقائق كافية لي لكي اعترف بأن تروتسكي قد اقترب من وجهات نظرنا. وبصرف النظر عن مسألة “الثورة المتواصلة”، فإن لدينا اتفاق بشأن النقاط الأساسية حول الموقف تجاه الأحزاب البرجوازية».

لم يكن لينين مستعدا لإبداء رأيه بخصوص نظرية تروتسكي حول الثورة الدائمة، لكن كان بينهما اتفاق كامل فيما يتعلق بالمسألة الأساسية الخاصة بمهام الحركة الثورية. وسوف نتطرق لاحقا للاختلافات بين مواقف لينين وتروتسكي. اعتبر لينين أن تلك الاختلافات كانت ثانوية وهو ما اتضح مرة أخرى خلال المؤتمر عندما أدخل تروتسكي تعديلا على القرار بشأن الموقف من الأحزاب البرجوازية، فلم يعارضه لينين لكونه خاطئا، بل لكونه لم يضف شيئا جوهريا إلى الاصل، وقال “إنه يجب الموافقة عليه”، مشيرا إلى أن تعديل تروتسكي ليس منشفيا، وإنما يعبر بالضبط عن نفس الفكرة البلشفية[67]. وقد صوت المؤتمر لصالح قرار لينين بشأن الموقف من الأحزاب البرجوازية.

وعلى الرغم من تطابق وجهات النظر حول تحليل مهام الثورة، استمر تروتسكي يسعى للتوفيق بين التيارات المتصارعة، في محاولة يائسة لمنع حدوث انشقاق. وقال خلال المؤتمر: «إذا كنتم تعتقدون أن الانشقاق أمر لا مفر منه، فانتظروا على الاقل حتى تفرق بينكم الأحداث، وليس مجرد قرارات. لا تسبقوا الأحداث». لقد ارتكب تروتسكي خطأ محاولة التوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينه، من خلال محاولة التوسط بين التيارين. وعلى أساس تجربة 1905، اعتقد تروتسكي أن اندلاع حركة ثورية جديدة سيكون له تأثير ايجابي في دفع أفضل العناصر بين المناشفة، ولا سيما مارتوف، نحو اليسار. وكان شاغله الرئيسي هو الحفاظ على القوى الماركسية موحدة خلال تلك الفترة الصعبة ومنع الانقسام الذي سيكون له تأثير محبط على الحركة. كان هذا هو جوهر موقف تروتسكي “التوفيقي”، والذي منعه من الانضمام إلى البلاشفة في تلك الفترة.

في السنوات اللاحقة اعترف تروتسكي بنزاهة بخطئه. وتعليقا على ذلك، كتب لينين: «لقد غرق عدد من الاشتراكيين الديمقراطيين في تلك الفترة في النزعة التوفيقية، انطلاقا من أكثر الدوافع تنوعا. وكانت النزعة التوفيقية الأكثر انسجاما هي التي عبر عنها تروتسكي، والذي كان الشخص الوحيد الذي حاول توفير أساس نظري لتلك السياسة».

كل الاختلافات الحادة التي صارت تفصل الجناح اليميني عن الجناح اليساري خرجت للعلن خلال المؤتمر الخامس الذي لم يحسمها. استمرت المراكز الفصائلية قائمة وسارت كل منها في طريقها الخاص. كان للبلاشفة مركزهم الخاص الذي يضم لينين وأعضاء اللجنة المركزية، بالإضافة إلى كراسين وزينوفيف وكامينيف وريكوف وغيرهم. وكما يحدث كثيرا وجدت الاختلافات السياسية تعبيرها في المسائل التنظيمية. حتى قبل المؤتمر كان أكسلرود ولارين وآخرون قد طرحوا فكرة ما يسمى بمؤتمر عمالي. وفي مواجهة التقدم السريع للردة الرجعية، دعا المناشفة اليمينيون إلى إقفال المنظمات السرية للحزب، وإنشاء منظمة عمالية واسعة تضم حتى الاشتراكيين الثوريين واللاسلطويين واللاحزبيين، وكل من هب ودب. لكنهم تجاهلوا تفصيلا صغيرا وهو أن إنشاء منظمة “قانونية” في روسيا في عام 1907، لم يكن يشبه إنشاء حزب عمالي جماهيري في بريطانيا في ظل ظروف الديمقراطية البرجوازية. ففي ظل الظروف الملموسة آنذاك كان ذلك الاقتراح يمثل تكيفا انتهازيا مع المعايير التي وضعتها الردة الرجعية المنتصرة. كان من شأنه أن يعني في جوهره إغراق المناضلين في حشود العمال غير المنتمين وغير المنظمين، وهو بالمناسبة نفس الهدف الذي اتبعه منذ ذلك الحين القادة اليمينيون لحزب العمال في بريطانيا وبلدان أخرى.

لقد رفض المؤتمر هذا الاقتراح أيضا. لم يكن ذلك الرفض يعني بأي حال من الأحوال التخلي عن الهدف المتمثل في إنشاء حزب عمالي جماهيري حقيقي، لكن الطريق إلى القيام بذلك لا يعني ابتذال برنامج الحزب إلى القاسم المشترك الأدنى، بل هو الكفاح العنيد لكسب جماهير العمال في خضم النضال من أجل البرنامج الثوري. فبعد أن يكسب الحزب ويثقف الفئة المتقدمة من الطبقة العاملة، يصير من الضروري عليه إيجاد طريق إلى الجماهير. إن الطريق إلى التواصل مع الجماهير يمر عن طريق القيام بعمل صبور داخل المنظمات الجماهيرية، بدءا من النقابات. يجب على الحزب ألا يذيب نفسه في الحشود، بل عليه الكفاح من أجل كسب قيادة النقابات.

كانت ثمة نقطة اختلاف أخرى حول العلاقة بين الحزب وممثليه البرلمانيين. دافع المناشفة عن استقلال الفريق البرلماني عن اللجنة المركزية. وقد رفض المؤتمر هذا الاقتراح كذلك وأصر على ضرورة أن يكون ممثلوه العموميون تحت سيطرة الحزب. أثار سلوك النواب الاشتراكيين الديموقراطيين في الدوما -والذين كانوا جميعا مناشفة في ذلك الوقت- بعض الانتقادات الحادة، وصوت المؤتمر لصالح قرار بلشفي ينتقد الفريق البرلماني. وفي النهاية ألغيت القيادة المزدوجة القديمة، ومنذ تلك الفترة فصاعدا صارت اللجنة المركزية هي التي تقود الحزب. تم انتخاب لجنة مركزية من 12 عضوا: خمسة بلاشفة (غولدنبرغ وروزكوف ودوبروفينسكي وتيودوروفيتش ونوجين)، وأربعة مناشفة (مارتينوف وزوردانيا وإسوف ونيكوروف)، وعضوان من الحزب الاشتراكي البولوني (وارسكي ودزيرجينسكي) وعضو من الحزب الاشتراكي اللتواني (دانشيفسكي). أما الثلاثة الاخرين، من ممثلي البوند والاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين، فقد تم انتخابهم بعد المؤتمر.

الثورة الدائمة وموقف لينين

بوصولنا إلى هذه المرحلة صار من الضروري تحديد الاتجاهات الرئيسية التي تبلورت داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية قبل عام 1914 حول المسألة المركزية المتعلقة بطبيعة الثورة الروسية ومهامها. لقد كانت النظرية الأكثر أهمية التي ظهرت في هذا الصدد هي نظرية الثورة الدائمة. وقد وضعت هذه النظرية لأول مرة من قبل تروتسكي، بالتعاون مع المناضل الاشتراكي الديمقراطي اليساري الألماني- الروسي، ألكسندر هلفاند (المعروف باسم بارفوس)، في وقت مبكر من عام 1904. في حين تقبل نظرية الثورة الدائمة بأن المهام الموضوعية التي تواجه العمال الروس هي مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، إلا أنها توضح كيف أنه في بلد متخلف في عصر الإمبريالية، تكون “البرجوازية الوطنية” مرتبطة ارتباطا لا ينفصم ببقايا الإقطاع من جهة وبالرأسمال الإمبريالي من جهة أخرى، وبالتالي فهي عاجزة تماما عن إنجاز أي من مهامها التاريخية.

لقد سبق لماركس وإنجلز أن لاحظا تعفن الليبراليين البرجوازيين ودورهم المعادي للثورة خلال الثورة الديمقراطية البرجوازية، وفي مقالته “البرجوازية والثورة المضادة” (1848)، كتب ماركس:

«إن البرجوازية الألمانية قد تطورت بتراخ وجبن وبطء، حتى أنها في اللحظة التي صارت تهدد فيها الإقطاع والاستبداد وجدت نفسها تواجه التهديد من جانب البروليتاريا وجميع شرائح السكان الحضريين الذين كانت مصالحهم و أفكارهم أقرب إلى مصالح البروليتاريا. ورأت العداء ليس فقط من جانب الطبقة التي تقف وراءها، بل أيضا من جانب كل أوروبا التي تقف أمامها. البرجوازية البروسية، وعلى عكس البرجوازية الفرنسية عام 1789، لم تكن الطبقة التي مثلت المجتمع الحديث كله في وجه ممثلي المجتمع القديم: الملكية والنبلاء. لقد انحطت إلى مستوى ملكية عقارية، تعارض الملك والشعب في نفس الآن، وحريصة على أن تقف ضدهما معا، وأن تكون غير حازمة في مجابهة أي من خصومها بشكل منفصل، لأنها دائما ترى كلا منهما أمامها أو خلفها؛ وتميل منذ البداية إلى خيانة الشعب والمساومة مع الممثل المتوج للمجتمع القديم، لأنها هي نفسها صارت تنتمي بالفعل إلى المجتمع القديم».

البرجوازية، كما يفسر ماركس، لم تأت إلى السلطة نتيجة لجهودها الثورية الخاصة، بل نتيجة للحركة الجماهيرية التي لم تلعب فيها أي دور:

«لقد ألقيت البرجوازية البروسية في قمة سلطة الدولة، لكن ليس بالطريقة التي كانت ترغب بها، أي من خلال صفقة سلمية مع التاج، بل بفعل ثورة»[68].

حتى في عصر الثورة الديمقراطية البرجوازية في أوروبا، فضح ماركس وإنجلز بلا رحمة الدور الجبان والمعادي للثورة الذي لعبته البرجوازية، وأكدا على ضرورة أن يحافظ العمال على الاستقلالية الطبقية التامة، ليس فقط عن الليبراليين البرجوازيين، بل أيضا عن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار المتذبذبين، وقد كتب إنجلز:

«إن الحزب البروليتاري، أو الثوري حقا، لم ينجح إلا بطريقة تدريجية جدا في تخليص جماهير العمال من تأثير الديمقراطيين الذين هيمنوا عليهم في بداية الثورة. لكن وفي الوقت المناسب أدى تردد وضعف وجبن القادة الديمقراطيين إلى إتمام المهمة، ويمكن الآن أن يقال إن إحدى النتائج الرئيسية لانتفاضات السنوات الأخيرة، هي أنه أينما تمكنت الطبقة العاملة من التركز بحشود كبيرة، تتمكن من التحرر كليا من تأثير الديمقراطيين الذي أدى بهم إلى سلسلة لا نهاية لها من الأخطاء والهزائم خلال 1848 و1849»[69].

في الواقع لم يكن ماركس محقا عندما تحدث عن الدور الثوري للبرجوازية، بما في ذلك عام 1789. لم تكن الثورة البرجوازية في فرنسا من إنجاز البرجوازية التي أرادت في الواقع التوصل إلى حل وسط مع النظام الملكي، بل كانت على يد البرجوازية الصغيرة الثورية، التي كان اليعاقبة ممثليها السياسيين، والجماهير شبه البروليتارية في باريس والمدن الكبرى الأخرى. وقد وصف كروبوتكين ببراعة دور الجماهير في الثورة الفرنسية في كتابه عن تاريخ الثورة، كما تم توثيقها بشكل واف في عصرنا من قبل مؤرخين مثل جورج رودي. لم تنجح الثورة الفرنسية العظمى، 1789-1793، إلا بقدر ما تمكنت من التخلص من ممثلي البورجوازية الكبيرة المحافظة في الجمعية الوطنية، وقامت بالاستناد على الجماهير بتنفيذ أكثر التدابير جذرية والتي، في فترة مد الثورة، بدأت حتى تتجاوز حدود المهام الديمقراطية البرجوازية وتهدد الملكية الخاصة. عند هذه النقطة توقفت الثورة ودفعت إلى الوراء من طرف الردة التيرميدورية ثم البونابارتية. تعرضت الجماهير للهزيمة ودفعت من مواقع لم تكن قادرة على الدفاع عنها، وذلك على وجه التحديد بسبب غياب الشروط الموضوعية للاشتراكية. لم يكن ممكنا تحقيق سوى تطور رأسمالي. وتحت راية الشعارات الثورية Liberté, Egalité, Fraternité، (الحرية والمساواة والإخاء) التي في ظلها نهضت الجماهير لخوض معاركها، تسلق التجار الأثرياء والمالكون الكبار إلى السلطة ومن ثم أطلقوا رصاصة الرحمة على الطموحات الثورية لأولئك الذين بذلوا دماءهم لأجل الثورة.

نفس الشيء يمكن أن يقال عن الثورة البرجوازية في انجلترا خلال القرن السابع عشر. لقد قامت البورجوازية، ممثلة في البرلمان من قبل المشيخيين (Presbyterians)، بكل ما في وسعها للتوصل إلى اتفاق مع تشارلز الأول. لم يتم هزم الردة الملكية الرجعية بفضل التجار الكبار في مدينة لندن، بل على يد الجيش النموذجي الجديد الذي قاده كرومويل، الذي استند على المزارعين الصغار في شرق أنجليا والعناصر البروليتارية الناشئة في لندن وبريستول والبلدات والمدن الأخرى التي قاتلت من أجل القضية البرلمانية. هنا أيضا أظهرت البرجوازية نفسها عاجزة عن إنجاز ثورتها. ومن أجل النجاح في إنجاز مهام الثورة كان على كرومويل أن يكنسهم جانبا و يعبئ البرجوازية الصغيرة والجماهير الكادحة من أجل النضال. صحيح أنه بمجرد تحطيم الردة الملكية الرجعية، انقلب كرومويل على الجناح الراديكالي (“المساواتيون” و“الحفارون”) الذي كان، حتى في تلك المرحلة، يستخلص خلاصات شيوعية ويضع الملكية الخاصة موضع تساؤل. وبذلك لم يعمل كرومويل سوى على الإقرار بالطابع البرجوازي للثورة، وهو الشيء الذي لا شك فيه. في الواقع لم يكن من الممكن أن يكون للثورة أي طابع آخر في تلك المرحلة التاريخية، لكن ذلك لا يغير الحقيقة التي لا جدال فيها كذلك بأن انتصار الثورة البرجوازية في انجلترا، حتى في تلك الفترة المبكرة، لم يكن بفضل البرجوازية، بل ضدها.

كانت حجج ماركس وإنجلز فيما يتعلق بألمانيا في عام 1848 أكثر قابلية للتطبيق على روسيا في مطلع القرن العشرين. كان التطور العاصف للصناعة قد حول وجه المجتمع الروسي إلى الأبد. لكن ذلك التطور اقتصر، في المقام الأول، على عدد قليل من المناطق، وهي المنطقة المحيطة بموسكو وسان بيترسبورغ وغرب روسيا (بما في ذلك بولندا) والأورال، ومنطقة باكو الغنية بالنفط. نمت البروليتاريا بسرعة وأصبحت القوة الحاسمة ابتداء من تسعينيات القرن التاسع عشر فصاعدا. لكن ذلك لم يغير من الطابع المتخلف عموما لروسيا، التي كانت لها العديد من ملامح بلد شبه إقطاعي، وإلى حد ما شبه مستعمر. لم يكن تطوير الصناعة بروسيا نتيجة طبيعية عضوية لتطور المجتمع الروسي، بل نتيجة للاستثمارات الأجنبية الضخمة من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وأمريكا. كانت البرجوازية الروسية، مثلها مثل البورجوازية الألمانية التي انتقدها بشدة ماركس وإنجلز في عام 1848، قد دخلت التاريخ متأخرة جدا، وكانت قاعدتها الاجتماعية ضعيفة جدا، وقبل كل شيء كان خوفها من البروليتاريا قويا جدا، مما جعلها عاجزة عن لعب أي دورا تقدمي. اندماج الرأسمال الصناعي مع الرأسمال العقاري واعتمادهما معا على البنوك والتبعية للرأسمال الأجنبي، هو بالضبط ما استبعد إمكانية وجود ثورة ديمقراطية برجوازية ناجحة في روسيا.

لقد أكد لينين مرارا وتكرارا في كل خطاباته وكتاباته على الدور المعادي للثورة لليبراليين البرجوازيين الديمقراطيين. لكنه حتى عام 1917 لم يكن يعتقد أنه بإمكان العمال الروس أن يصلوا إلى السلطة قبل اندلاع الثورة الاشتراكية في الغرب، وهو المنظور الذي كان تروتسكي هو الوحيد الذي دافع عنه قبل عام 1917، في نظريته الرائعة عن الثورة الدائمة. كانت تلك هي الإجابة الأكثر اكتمالا ضد الموقف الإصلاحي والتعاون الطبقي الذي تبناه الجناح اليميني داخل الحركة العمالية الروسية، أي المناشفة. كان المناشفة هم من طوروا نظرية الثورة عبر مرحلتين كمنظور للثورة الروسية. وهي نظرية تنص في الأساس على أنه نظرا لكون مهام الثورة مهام برجوازية ديمقراطية وطنية، فإن قيادة الثورة يجب أن تتسلمها البرجوازية الديمقراطية الوطنية.

غير أن تروتسكي أشار إلى أنه يمكن للبروليتاريا، من خلال وضع نفسها على رأس الأمة وقيادة الطبقات المضطهَدة في المجتمع (البرجوازية الصغيرة الحضرية والريفية)، أن تحسم السلطة ثم تنجز مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية (وأساسا الإصلاح الزراعي وتوحيد البلاد وتحريرها من السيطرة الأجنبية). لكن بمجرد وصولها إلى السلطة، لن تتوقف البروليتاريا عند تلك الحدود، بل ستبدأ في تنفيذ التدابير الاشتراكية بنزع ملكية الرأسماليين. وبما أن هذه المهام لا يمكن حلها في بلد واحد لوحده، ولا سيما في بلد متخلف، فإن ذلك سيكون بداية الثورة العالمية. وبالتالي فإن الثورة “دائمة” بمعنيين: لأنها تبدأ بالمهام البرجوازية وتستمر مع المهام الاشتراكية، ولأنها تبدأ في بلد واحد وتستمر على المستوى الأممي.

اتفق لينين مع تروتسكي على أن الليبراليين الروس لا يمكنهم تنفيذ مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، وأن هذه المهمة لا يمكن أن تقوم بها إلا البروليتاريا بالتحالف مع الفلاحين الفقراء. من 1905 حتى 1917، كان موقف لينين قريبا، بل متطابقا في الواقع مع موقف تروتسكي حول السؤال الأساسي المتعلق بالموقف من البرجوازية. وقد اعترف لينين بذلك علنا ​​في المؤتمر الخامس (لندن)، كما سبق لنا أن رأينا. وسيرا على خطى ماركس، الذي وصف الحزب الديمقراطي البرجوازي بأنه “أكثر خطورة على العمال من الليبراليين السابقين”، أوضح لينين أن البرجوازية الروسية ليست حليفا للعمال وستنتقل حتما إلى صفوف الثورة المضادة.

كتب في عام 1905:

«إن البورجوازية، في مجملها ستتحول حتما نحو الثورة المضادة وضد الشعب حالما يتم تحقيق مصالحها الأنانية الضيقة، سوف “ترتد” عن الديمقراطية الحازمة (وقد بدأت ترتد عنها بالفعل!)»

ما هي الطبقة التي يرى لينين أنه في مقدورها أن تقود الثورة البرجوازية الديمقراطية؟ يجيب عن هذا السؤال قائلا:

«يبقى “الشعب”، أي البروليتاريا والفلاحون. وحدها البروليتاريا من يمكن الاعتماد عليها للسير حتى النهاية، لأن أفقها يتجاوز بكثير الثورة الديمقراطية. وهذا هو السبب الذي يجعل البروليتاريا تناضل في الطليعة من أجل الجمهورية وترفض بازدراء النصيحة الغبية والتافهة حول ضرورة أن تأخذ في الاعتبار احتمال نكوص البرجوازية»[70].

الشيء الذي اختلف فيه لينين مع تروتسكي هو مسألة إمكانية وصول العمال الروس إلى السلطة قبل العمال في أوروبا الغربية. فحتى عام 1917، كان تروتسكي وحده من اعتقد بأن هذا سيحدث. حتى لينين نفسه رفض ذلك، مصرا على أن الثورة الروسية سيكون لها طابع برجوازي، وأن الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، ستقوم بإسقاط الحكم المطلق وتعمل من تم على تنفيذ برنامج من التدابير الديمقراطية البرجوازية الأكثر جذرية. في صلب برنامج لينين كان الحل الجذري لمشكلة الأرض، على أساس مصادرة ممتلكات الملاكين العقاريين وتأميم الأراضي. ومع ذلك، كما أوضح لينين عدة مرات، فإن تأميم الأرض ليس إجراء اشتراكيا، بل مطلبا برجوازيا يستهدف الأرستقراطية العقارية. وقد كرر في مناسبات عديدة أنه على الثورة الروسية أن تستنكف عن الاضطلاع بالمهام الاشتراكية، على اعتبار أن الظروف الموضوعية لبناء الاشتراكية غائبة في روسيا، كما كان الجميع يتفق. لكن منظور لينين لم يتوقف عند تلك الحدود. لقد كان لينين دائما أمميا حازما، وكان منظوره كله يقوم على الثورة الأممية، التي كانت الثورة الروسية مجرد جزء صغيرا منها.

سيسقط العمال والفلاحون الروس النظام القيصري وسينفذون الثورة الديمقراطية البرجوازية بالطريقة الأكثر جذرية. ومن شأن ذلك أن يوفر زخما قويا لعمال أوروبا الغربية الذين سيقومون بالثورة الاشتراكية. بعد ذلك، ومن خلال توحيد جهودهم مع جهود العمال الفرنسيين والألمان والبريطانيين، سيصير من الممكن للعمال الروس تحويل ثورتهم البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية: «لكنها بالطبع ستكون دكتاتورية ديمقراطية وليست اشتراكية. لن تكون قادرة (بدون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري) التأثير على أسس الرأسمالية. يمكنها، في أحسن الأحوال، أن تؤدي إلى إعادة توزيع جذري لملكية الأرض لصالح الفلاحين، وإرساء ديمقراطية ثابتة وكاملة، بما في ذلك تشكيل الجمهورية والقضاء على جميع السمات القمعية للعبودية الآسيوية… ووضع الأساس لتحسين شامل في ظروف عيش وعمل العمال وارتفاع في مستوى معيشتهم، وأخيرا وليس آخرا، حمل الصراع الثوري إلى أوروبا».

موقف لينين واضح تماما ولا لبس فيه: الثورة القادمة ستكون ثورة برجوازية، بقيادة البروليتاريا المتحالفة مع جماهير الفلاحين. وأفضل ما يمكن توقعه منها هو تحقيق المهام الديمقراطية البرجوازية الأساسية: توزيع الأراضي على الفلاحين، الجمهورية الديمقراطية، الخ. وهذا ضروري، حيث أن أي محاولة “للتأثير على أسس الرأسمالية” من شأنها أن تدخل البروليتاريا في صراع مع جماهير الفلاحين المالكين الصغار. ويؤكد لينين: «الثورة الديمقراطية ثورة برجوازية بطبيعتها. إن شعار التوزيع العام، أو “الأرض والحرية”… هو شعار برجوازي»[71]. بالنسبة إلى لينين لم يكن من الممكن التوصل إلى نتيجة أخرى في بلد متخلف شبه إقطاعي مثل روسيا. إن الحديث عن “تطور” الدكتاتورية الديمقراطية نحو الثورة الاشتراكية يتناقض مع كل تحليل لينين لعلاقات القوى الطبقية في الثورة. وقد أوضح لينين موقفه تجاه دور البروليتاريا في الثورة الديمقراطية البرجوازية في مئات المقالات. قال:

«نحن بعيدون من الثورة الاشتراكية أكثر بما لا يقاس من رفاقنا الغربيين، لكننا أمام ثورة فلاحية ديمقراطية برجوازية ستؤدي فيها البروليتاريا الدور القيادي»[72].

بأي معنى أشار لينين إلى إمكانية الثورة الاشتراكية في روسيا؟ في الاقتباس المذكور أعلاه من “خطتا الاشتراكية”، يؤكد لينين أن الثورة الروسية لن تكون قادرة على التأثير على أسس الرأسمالية “بدون سلسلة من المراحل الوسيطة للتطور الثوري”.

من كل هذا يصير من الواضح أن لينين استبعد إمكانية وجود ثورة اشتراكية في روسيا قبل أن يستولي العمال في أوروبا الغربية على السلطة. وقد حافظ على هذا الرأي حتى فبراير 1917، عندما تخلى عنه وتبنى موقفا كان في الجوهر نفس موقف تروتسكي. ومع ذلك فإن لينين، حتى عندما كان يتبنى منظور ثورة برجوازية في روسيا (والتي ستلعب البروليتاريا الدور القيادي فيها) شرح العلاقة الجدلية بين الثورة الروسية والثورة الأممية. وكتب أن الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا ستحمل:

«الصراع الثوري إلى أوروبا. إن ذلك الانتصار لن يحول بأي شكل من الأشكال ثورتنا البرجوازية إلى ثورة اشتراكية؛ الثورة الديمقراطية لن تتخطى على الفور حدود العلاقات الاجتماعية والاقتصادية البرجوازية؛ ومع ذلك فإن أهمية انتصار كهذا للتطور المستقبلي لروسيا والعالم أجمع ستكون هائلة. لا شيء سيلهب الطاقة الثورية للبروليتاريا العالمية، ولا شيء سيقصر الطريق المؤدي إلى انتصارها الكامل، أكثر من الانتصار الحاسم للثورة التي بدأت الآن في روسيا»[73].

أممية لينين تبرز بجرأة في كل سطر هنا. بالنسبة للينين لم تكن الثورة الروسية عملا مكتفيا ذاتيا، ليست “طريقاً روسيّاً إلى الاشتراكية!”، بل كانت بداية الثورة البروليتارية العالمية. وفي هذا الواقع تحديدا تكمن إمكانية التحول المستقبلي للثورة البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية في روسيا. لم يتبن لينين، ولا أي ماركسي آخر، الوهم بإمكانية بناء “الاشتراكية في بلد واحد”، وخاصة في بلد متخلف آسيوي فلاحي مثل روسيا. وقد شرح لينين، في مكان آخر، أنه من بديهيات الماركسية القول بأن ظروف التحويل الاشتراكي للمجتمع غائبة في روسيا، على الرغم من أنها كانت قد نضجت تماما في أوروبا الغربية. وفي جداله مع المناشفة، في كتابه خطتا الاشتراكية، أكد على الموقف الماركسي الكلاسيكي بخصوص الأهمية الأممية للثورة الروسية قائلا:

«الفكرة الأساسية هنا هي فكرة صاغتها مرارا وتكرارا صحيفة فبريود [أي جريدة لينين]، التي أكدت أنه يجب ألا نخاف… من الانتصار الكامل للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية، أي الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للبروليتاريا والفلاحين، لأن هذا الانتصار سيمكننا من استنهاض أوروبا؛ وبعد تخلصها من نير البورجوازية، ستساعدنا البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا بدورها على تحقيق الثورة الاشتراكية»[74].

هذا هو جوهر تصور لينين للثورة القادمة في روسيا: فالثورة لا يمكن أن تكون سوى برجوازية ديمقراطية (وليس اشتراكية)، لكن وفي الوقت نفسه، بسبب أن البرجوازية غير مؤهلة للقيام بدور ثوري، لا يمكن للثورة أن تتم إلا على يد الطبقة العاملة، بقيادة الاشتراكية الديمقراطية، والتي سوف تستنهض الجماهير الفلاحية لدعمها. إن الإطاحة بالقيصرية واقتلاع جميع آثار الإقطاع وإقامة الجمهورية، سيكون لها تأثير ثوري هائل على البروليتاريا في البلدان المتقدمة في أوروبا الغربية. لكن الثورة في الغرب لا يمكن أن تكون إلا ثورة اشتراكية، بفضل التطور الهائل للقوى الإنتاجية التي نشأت في ظل الرأسمالية نفسها، والقوة الهائلة للطبقة العاملة والحركة العمالية في تلك البلدان. وأخيرا سوف تخلق الثورة الاشتراكية في الغرب المزيد من النهوض الثوري في روسيا، وبمساعدة من البروليتاريا الاشتراكية في أوروبا، سيحول العمال الروس الثورة الديمقراطية، ضد معارضة البرجوازية والفلاحين المعادين للثورة، إلى ثورة اشتراكية.

«وهكذا، في هذه المرحلة [أي بعد الانتصار النهائي “للديكتاتورية الديمقراطية”]، ستعمل البرجوازية الليبرالية والفلاحون الميسورون، بالإضافة جزئيا إلى الفلاحين المتوسطين، على تنظيم الثورة المضادة، بينما ستقوم البروليتاريا الروسية إلى جانب البروليتاريا الأوروبية بتنظيم الثورة. في مثل هذه الظروف، يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق انتصارا ثانيا. إن القضية ليست ميؤوسا منها. والانتصار الثاني هو الثورة الاشتراكية في أوروبا. سيبين لنا العمال الأوروبيون “كيف نفعل ذلك”، ومن ثم وبالتعاون معهم سنحقق الثورة الاشتراكية»[75].

هنا، وفي العشرات من المناسبات الأخرى، شرح لينين فكرته بأقصى درجة من الوضوح حول أن انتصار “ثورتنا البرجوازية العظيمة… سوف يستهل حقبة الثورة الاشتراكية في الغرب”[76]. وبغض النظر عن كيفية عرض المسألة، فإن لا شيء يمكنه أن يغير حقيقة أن لينين في عام 1905 لم يرفض فقط فكرة “بناء الاشتراكية في روسيا وحدها” (وهي الفكرة التي لم تكن حتى لتتبادر إلى ذهنه)، بل رفض حتى إمكانية إقامة العمال الروس لديكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل الثورة الاشتراكية في الغرب.

اعتبر تروتسكي دائما أن موقف لينين تقدمي بالمقارنة مع النظرية المنشفية للثورة عبر مرحلتين، لكنه أشار أيضا إلى أوجه القصور فيها. وقد كتب عام 1909: «صحيح أن الفرق بينهما في هذه المسألة كبير جدا: في حين أن الجوانب الرجعية للنظرية المنشفية قد أصبحت واضحة تماما، فمن المحتمل أن تصبح النظرية البلشفية تهديدا خطيرا فقط في حالة الانتصار».

غالبا ما أخرج نقاد تروتسكي الستالينيون هذه الفكرة التنبئية من سياقها، إلا أنها في الواقع تعبر بدقة عما حدث في عام 1917، عندما دخل لينين في صراع مع الزعماء البلاشفة الآخرين بسبب شعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” على وجه التحديد، والذي تخلى عنه لينين لصالح سياسة متطابقة مع سياسة الثورة الدائمة. وعندما نشر ذلك الكتاب بعد الثورة، كتب تروتسكي في إحدى الحواشي:

«هذا التهديد، كما نعلم، لم يتحقق أبدا لأن البلاشفة، تحت قيادة الرفيق لينين، غيروا سياستهم بشأن هذه المسألة الأكثر أهمية (ليس من دون نضال داخلي) في ربيع عام 1917، أي قبل الاستيلاء على السلطة»[77].

من وجهة النظر المادية، يعتبر المحك النهائي لجميع النظريات هو الممارسة العملية. فكل النظريات والبرامج والمنظورات التي تم طرحها والدفاع عنها بحماس من قبل مختلف التيارات داخل الحركة العمالية الروسية بخصوص طبيعة الثورة والقوى المحركة لها قد خضعت لاختبار قاس خلال أحداث عام 1917. عند تلك النقطة اختفى تماما الخط الذي كان يفصل تروتسكي عن لينين. فالأفكار التي عبر عنها لينين في رسائله من بعيد وموضوعات أبريل، لا يمكن أبدا تمييزها عن تلك التي نقرأها في مقالات تروتسكي في صحيفة “نوفي مير”، التي كتبت في الفترة نفسها لكن على بعد آلاف الأميال في أمريكا. وكما حذر تروتسكي في عام 1909، فإن الجانب المضاد للثورة لنظرية الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين لم يصبح واضحا إلا أثناء الثورة نفسها، عندما استخدمها كامينيف وزينوفيف وستالين ضد لينين لتبرير دعمهم للحكومة البرجوازية المؤقتة. وقد ظهر انقسام مفتوح بين لينين وزعماء الحزب الآخرين الذين اتهموه، في الواقع، بالتروتسكية.

في الحقيقة لقد أثبتت نظرية الثورة الدائمة صحتها بشكل باهر في ثورة أكتوبر نفسها. الطبقة العاملة الروسية وصلت، كما تنبأ تروتسكي في عام 1904، إلى السلطة قبل العمال في أوروبا الغربية. لقد قامت بمهام الثورة البرجوازية الديمقراطية، وشرعت على الفور في تأميم الصناعة والانتقال إلى إنجاز مهام الثورة الاشتراكية. لعبت البرجوازية بشكل واضح دورا معاديا للثورة، لكنها هزمت على يد العمال المتحالفين مع الفلاحين الفقراء. عندها وجه البلاشفة نداء ثوريا إلى عمال العالم ليحذوا حذوهم. عرف لينين جيدا أنه بدون انتصار الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وخاصة ألمانيا، لن تتمكن الثورة من البقاء على قيد الحياة، خاصة في بلد متخلف مثل روسيا. ما حدث لاحقا أظهر أن هذا الموقف كان صحيحا تماما. وقد كان إنشاء الأممية (الشيوعية) الثالثة، أي الحزب العالمي للثورة الاشتراكية، تجسيدا ملموسا لهذا المنظور.

صار الموقف أكثر راهنية اليوم. لقد دخلت البرجوازية الوطنية في البلدان المستعمَرة إلى مسرح التاريخ متأخرة جدا، عندما كان العالم قد تقسم بالفعل بين بعض القوى الإمبريالية. لم تكن تلك البرجوازية قادرة على لعب أي دور تقدمي وقد وُلدت وهي تابعة بشكل كامل لسادتها الاستعماريين السابقين. إن البرجوازية الضعيفة والمنحطة في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا تابعة بشكل كامل للرأسمال الأجنبي والإمبريالية مما يجعلها عاجزة بشكل كلي عن دفع المجتمع إلى الأمام. إنها مرتبطة بآلاف الخيوط، ليس فقط إلى الرأسمال الأجنبي، بل أيضا إلى طبقة ملاك الأراضي، التي تشكل معها كتلة رجعية واحدة وعائقا ضد التقدم. ومهما كانت الاختلافات القائمة بين هذه الفئات فإنها تبقى ضئيلة بالمقارنة مع الخوف الذي يوحدهم ضد الجماهير. وحدها البروليتاريا، المتحالفة مع الفلاحين الفقراء وفقراء المدن، من يمكنها أن تحل مشاكل المجتمع من خلال أخذ السلطة بين يديها ومصادرة أملاك الإمبرياليين والبرجوازية، والشروع في مهمة تحويل المجتمع على أسس اشتراكية.

لو بقيت الأممية الشيوعية ثابتة على مواقف لينين وتروتسكي، لكان انتصار الثورة العالمية مضمونا. لكن، لسوء الحظ، تزامنت سنوات تشكل الكومنترن [الأممية الشيوعية] مع تصاعد الردة الستالينية الرجعية في روسيا، والتي كان لها تأثير كارثي على الأحزاب الشيوعية في العالم أجمع. بعد أن تمكنت البيروقراطية الستالينية من الاستيلاء على السلطة في الاتحاد السوفياتي، طورت نظرية محافظة جدا. إن النظرية القائلة بأن الاشتراكية يمكن أن تبنى في بلد واحد، وهي تشويه بشع لوجهة نظر ماركس ولينين، تعكس حقا عقلية البيروقراطية، التي كانت قد تعبت من عواصف وإجهاد الثورة وسعت إلى المضي قدما في مهمة “بناء الاشتراكية في روسيا”، وهو ما يعني أنها تريد حماية وتوسيع امتيازاتها وليس “إهدار” موارد البلاد في متابعة الثورة العالمية. ومن ناحية أخرى كانت تخشى أن تتطور الثورة في بلدان أخرى بشكل صحي وتشكل تهديدا لسيطرتها في روسيا، وبالتالي سعت بنشاط، في مرحلة معينة، لمنع الثورة في بلدان أخرى. وبدلا من إتباع سياسة ثورية تقوم على استقلالية الطبقة العاملة، كما دعا لينين دائما، اقترحت تحالفا للأحزاب الشيوعية مع “البرجوازية التقدمية الوطنية” (فإذا لم تجدها كانت مستعدة تماما لاختراعها) لإنجاز الثورة الديمقراطية، وبعد ذلك، في وقت لاحق، في المستقبل البعيد، عندما تكون البلد قد طورت اقتصادا رأسماليا كاملا، يبدأ النضال من أجل الاشتراكية. تمثل هذه السياسة قطيعة كاملة مع اللينينية وعودة إلى موقف المنشفية القديم: نظرية المرحلتين.

انقلاب الثالث من يونيو

لقد استمرت ثورة 1905 في الواقع لمدة سنتين ونصف، لكن وبحلول صيف 1907، كانت آخر مراكز التمرد قد أخمدت. ثورات الفلاحين المفتقرة للقيادة من المدن، انتهى بها الأمر بشكل حتمي إلى سلسلة من الانتفاضات بدون تنسيق وبدون هدف وتم سحقها الواحدة تلو الأخرى. ومع كل تراجع للحركة الجماهيرية، كان النظام يزداد ثقة بالنفس. في الثالث من يونيو، قرر ستوليبين، الذي كان قد اقتنع بعجز الكاديت وتراجع حركة الفلاحين، حل مجلس الدوما الثاني واعتقال الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي. مباشرة بعد انتهاء المؤتمر الخامس، تحدى ستوليبين مجلس الدوما بمطالبته بطرد 55 من النواب الاشتراكيين الديمقراطيين، واعتقال 16 من بينهم. في ليلة الثاني من يونيو، ودون انتظار رد الدوما، شرع في تنفيذ عمليات الاعتقال. وفي اليوم الموالي قام بحل مجلس الدوما نفسه. تمت صياغة قانون انتخابي جديد كان أسوأ من السابق، وعندما اجتمع مجلس الدوما الثالث أخيرا، كان مجلسا للردة الرجعية المفتوحة. حتى الكونت وايت نفسه اعترف في مذكراته أن: «القانون الانتخابي الجديد استبعد من الدوما صوت الشعب، استبعد أي صوت للجماهير وممثليها، ولم يعط الصوت إلا للأقوياء والمطيعين».

وقال كيرينسكي، الذي كان نائبا عن الترودوفيك في مجلس الدوما الثالث:

«القانون الانتخابي، الصادر في يونيو 1907، ألغى عمليا مشاركة الفلاحين والعمال من المدن والقرى. وفي المقاطعات سلمت الانتخابات عمليا إلى النبلاء المحتضرين، وفي البلدات الأكبر ألغي حق الاقتراع شبه الشامل؛ تم تخفيض عدد النواب، وتم تعيين نصف المقاعد في إطار نظام محاصصة لصالح أقلية ضئيلة من البرجوازيين. وتم تخفيض تمثيلية القوميات غير الروسية، حيث سمح لبولندا، على سبيل المثال، بإرسال 18 نائبا فقط إلى مجلس الدوما الثالث (والرابع)، مقابل 53 ممثلا كانوا قد أرسلوا إلى الدوما الأول والثاني، كما تم استبعاد السكان المسلمين والتركستان تماما.
كان ممثلو الشعب المنتخبين بموجب قانون ستوليبين يدعون بحق “المرآة المشوهة” لروسيا. الأحزاب اليسارية، التي كانت تشكل الأغلبية في الدوما الأول والثاني، اختفت عمليا في مجلس الدوما الثالث، خلال الفترة ما بين 1907 و 1912. وكان المجلس قد ضم، علاوة على ذلك، 13 عضوا فقط من مجموعة العمل (الترودوفيك) و20 من الاشتراكيين الديمقراطيين. بينما قاطع الاشتراكيون الثوريون الانتخابات. وانحط الكاديت، حزب المثقفين الليبراليين، من مكانهم المهيمن إلى لعب دور “معارضة صاحب الجلالة”، مع 54 مقعدا».

ومن بين 442 عضوا في البرلمان، كان للأحزاب الرجعية (المئات السود والأكتوبريين، والكاديت) 409 مقعدا، بينما كان للطبقة العاملة 19 نائبا فقط (الاشتراكيون الديمقراطيون) والترودوفيك 14 فقط، وهي الحالة المختلفة اختلافا كبيرا عن حالة مجلس الدوما الثاني. ومع ذلك، كما أشار لينين، فإن هذا الدوما الرجعي كانت له على الأقل ميزة التعبير عن الحالة الحقيقية في البلد. كان ذلك الوجه الحقيقي لاستبداد المائة السود دون القناع الليبرالي.

قال كيرنسكي:

«خمسون مقعدا كانت من نصيب اتحاد الشعب الروسي الرجعي، الذي كان مدعوما من صناديق خاصة بالشرطة السرية وكان تحت رعاية القيصر والدوق الكبير نيكولا. وقد حاول هؤلاء النواب، بتوجيه من ثلاثة رجال ماهرين جدا، هم ماركوف وبوريشكيفيتش وزاميسلوفسكي، تخريب الدوما من الداخل عن طريق إثارة الفوضى باستمرار. وبالإضافة إلى ذلك، تم منح 89 مقعدا لحزب جديد تماما يسمى حزب القوميين. تراجعت بشكل كبير المقاطعات الغربية والجنوبية الغربية التي مزقتها الخلافات بين الشعب الروسي والبولندي والليتواني واليهودي. وتم ملئ الفجوة بين الكاديت والجناح اليميني من طرف 153 من النواب الأكتوبريين، الذين بالكاد كان لهم وجود في الدوما الأول والثاني، ومن ثم صاروا يشكلون أكثر بقليل من ثلث مجموع أعضاء مجلس الدوما».

كان الوجه الرئيسي في هذا الدوما هو الأكتوبري غوتشكوف، وهو صناعي كبير من موسكو، كان حزبه يمثل البرجوازية الكبيرة وملاك الأراضي الرجعيين، لكنهم اعتبروا أنه من الأفضل لهم أن ينأوا بأنفسهم عن الزمرة الحاكمة:

«غوتشكوف وخومياكوف وشيدلوفسكي، وزعماء الحزب الأكتوبري الآخرين، فهموا جيدا الخطر الذي يشكله على البلاد ذلك الجو المرَضي المحيط بالقيصر. كانوا قد أدركوا جيدا أنهم لا يستطيعون الاعتماد على القيصر ضعيف الإرادة، فرفضوا بشدة كل دعوات ستوليبين المغرية للانضمام إلى الحكومة. وفضلوا مراقبة نشاط الحكومة من خلال لجنة الميزانية في الدوما، لدعمها في الصراع ضد التأثير القوي لزمرة راسبوتين داخل البلاط، وفي محاولتها تحسين وضع البلاد العسكري والاقتصادي من خلال التشريعات»[78].

لعب الكاديت في الدوما الثالث دورا ثانويا وراء الأكتوبريين. وبدوره قام غوتشكوف بدعم ستوليبين ضد الرجعيين داخل البلاط، باعتباره أهون الشرين. كما أن المناشفة تطلعوا إلى حزب الكاديت أيضا باعتباره أهون الشرين. لكن ستوليبين كان في الواقع أشرس مدافع عن الاستبداد. كانت إصلاحاته تهدف إلى الحفاظ على حكم رومانوف، وفي نفس الوقت سحق الثورة بشكل كامل. وبهذه الطريقة تحول “أهون الشرين” إلى أخطر شر بالنسبة للقضية الثورية. وقد أعرب غوتشكوف، ممثل الرأسماليين الروس الكبار، عن ولائه الحازم للاستبداد من خلال تبنيه لقضية الإمبريالية والعسكرة، في وقت كانت فيه الساحة الدولية مكفهرة بغيوم الحرب الوشيكة. وقد بدأ مجلس الدوما يزايد مع الحكومة لإظهار من هو الأكثر وطنية. يوم 09 يونيو 1908 تحدث غوتشكوف خلال كلمته في نقاش حول ميزانية الجيش، عن “مجدنا العسكري المدفون”. ونتيجة لهذا الخضوع والتملق، سمح لمجلس الدوما الثالث بالعيش لمدة خمس سنوات كاملة، حتى انتخاب مجلس الدوما الرابع عام 1912.

والمفارقة هي أن موقف ستوليبين في الدوما الجديد لم يكن أفضل من ذي قبل. لعب دور بونابارتي، وناور بين مختلف الطبقات والأحزاب، لكنه لم يكن يمتلك قاعدة دعم ثابتة. لم يدعمه بشكل دائم أي حزب في الدوما. تزايد قوة اليمين أدى إلى إضعافه لأن المحافظين والزمرة المسيطرة داخل البلاط كانوا يكرهونه لأنهم اعتبروه راديكاليا خطيرا. والقيصر، الذي لم يكن يتميز بالفطنة السياسية، صار بعيدا عن وزيره المخلص. ستوليبين وعلى الرغم من أنه ركز قوة كبيرة بين يديه، كانت حياته في خطر مستمر، وكان هو يعرف ذلك. كان يرتدي سترة مضادة للرصاص وكان دائما محاطا بحرس شخصي، لكن ذلك لم ينقذه. في ليلة 01 شتنبر 1911، حضر ستوليبين لعرض خاص بأوبرا ريمسكي كورساكوف لمسرحية القيصر سالتان، في كييف، والتي حضرها القيصر أيضا. خلال الاستراحة اقترب منه شاب يرتدي زي السهرة وأطلق عليه النار مرتين. وفي حركة مسرحية أشار ستوليبين بعلامة الصليب لنيكولا قبل أن ينهار. توفي بعد أربعة أيام، وكانت آخر تصريحاته العامة هي: «أنا سعيد للموت من أجل القيصر»، وهو أمر مثير للسخرية بالنظر إلى أن نيكولا لم يكن آنذاك يدعمه. الطالب الذي نفذ العملية كان حسب الشرطة اشتراكيا ثوريا يدعى بوجروف. أعدم دون إبطاء، بعد أن قضى مدة في الحبس الانفرادي، لكي لا يتم طرح أي أسئلة. ارتاب الكثير من الناس في أن عملية الاغتيال كانت من تدبير الشرطة السرية بتعاون مع زمرة البلاط التي كانت تكره ستوليبين. وهذا هو الأكثر احتمالا. لقد انعكست أزمة المجتمع المتفاقمة في اندلاع انقسامات وصراعات عارمة في قمة الهرم. تكون المؤامرات السياسية والاغتيالات ممارسات معتادة في الأنظمة المشابهة لنظام القيصر وراسبوتين.

خلال تلك الفترة صارت أوضاع الحركة الثورية مأساوية. مرة أخرى وجد الحزب نفسه مجبرا على العمل السري الصعب والخطير. وأدت موجات الاعتقالات إلى إضعاف منظمات الحزب. في صيف 1907، ألقي القبض على جميع النواب الاشتراكيين الديمقراطيين في مجلس الدوما. كان العمال ساخطين لكنهم كانوا عاجزين في ذلك الوقت عن القيام برد فعل. الرجعية استعرضت عضلاتها واستعادت الثقة بنفسها، وعملت على مدى ثلاث سنوات طويلة، ما بين 1908- 1910، بتوجيه ضربات موجعة للحركة العمالية المهزومة. وصفت المنشفية ايفا برويدو الوضع قائلة: «أدت الاعتقالات الجماعية المتواصلة إلى تدمير فروع الحزب الواحد منها تلو الآخر، حتى توقف الحزب عمليا عن الوجود». وأضافت: «لقد عانت النقابات أيضا من الفوضى؛ تم حل مئات من فروعها وأصبح تشكيل فروع جديدة مهمة صعبة للغاية»[79].

البلاشفة، بوصفهم الجناح الأكثر كفاحية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، عانوا من خسائر أكبر نسبيا. تعرضت منظماتهم في سان بيترسبورغ لما لا يقل عن 15 عملية اعتقال جماعي للقادة في تلك الفترة. كما تعرضت لجنتهم المركزية للاعتقال ست مرات. وفي موسكو، تعرضت لجنة المنطقة للاعتقال 11 مرة. وسادت الحالة نفسها في كل مكان. في كل مرة كان يتم إعادة تنظيم اللجان، لكن بأعداد أصغر ومع أناس أقل خبرة. ومع ذلك فقد كانت هناك ميزة واحدة على الأقل، إذ أن معظم الذين دخلوا التنظيم حديثا كانوا من العمال. وللمرة الأولى صارت لجان الحزب بروليتارية حقا في تكوينها. لقد أبقت تلك الكوادر العمالية الحزب السري على قيد الحياة رغم المحن القاسية. بينما على النقيض من ذلك صار العديد من المثقفين محبطين وتخلوا عن النضال.

عام 1908، كتب لينين في رسالة إلى غوركي قائلا:

«إن أهمية المثقفين داخل حزبنا آخذة في التراجع؛ تأتي الأخبار من جميع الجهات عن أن الأنتلجنسيا يغادرون الحزب. فليذهب هؤلاء الأوغاد إلى الجحيم. إن الحزب يطهر نفسه من خبث البرجوازية الصغيرة. وقد صار للعمال موقع الصدارة، وبدأ دور العمال المحترفين يتصاعد. كل هذا رائع»[80].

ويبدو أن غوركي قد استاء من تعليقات لينين، لأن هذا الأخير سارع في رسالة لاحقة لطمأنته قائلا:

«أعتقد أن بعض المسائل التي أثرتَها حول خلافاتنا في الرأي هي مجرد سوء فهم. لم أفكر أبدا، بطبيعة الحال، في “طرد الأنتلجنسيا خارجا”، كما يفعل النقابيون الحمقى، أو إنكار ضرورتهم للحركة العمالية. لا يمكن أن يكون هناك أي اختلاف بيننا بشأن أي من هذه المسائل»[81].

في ظل هذه الظروف صارت عملية الفرز مسألة حتمية، فقد ترك المثقفون المتذبذبون الحزب، واستسلموا لمزاج الردة الرجعية السائد. وبحلول أواخر 1907، صار فرع الحزب في بيترسبورغ يضم حوالي 3.000 عضو فقط، لم يكونوا كلهم ​​نشطين. وكان العديد من أفضل القادة في السجن أو المنفى، فاحتل مكانهم قادة من الصف الثاني مثل ستالين، الذي بدأ في ذلك الوقت يصنع اسما لنفسه كمنظم. يمكن تفسير الترقي السريع الذي حققه ستالين إلى موقع القيادة بحقيقة أن لينين اضطر، بسبب النقص الشديد في عدد الأشخاص الأكفاء داخل روسيا، إلى الاعتماد على أي شخص جديد كان يبدو واعدا. كان ستالين يمتلك بعض القدرات التنظيمية، لكن ليس أكثر من بقية أعضاء اللجان البلاشفة الآخرين. في الواقع، كان ستالين نموذجا لعضو اللجنة: عنيد وعملي وقادر على بذل مجهود في ظل ظروف معينة، لكنه ضيق الأفق. لقد أظهر مسار ستالين السياسي كله أنه بدون قيادة لينين كان يفتقر لأي فهم سياسي حقيقي، ناهيك عن العمق النظري. ويظهر ذلك في حقيقة أن ستالين واصل تنظيم عمليات المصادرات حتى عندما كانت الموجة الثورية قد تراجعت منذ فترة طويلة، وكانت الثورة المضادة تتصاعد على قدم وساق. كانت تلك التكتيكات ستلحق أضرارا جسيمة بالحزب لو لم يوقفها لينين في الوقت المناسب.

أظهرت الظروف الجديدة ضرورة الجمع بين العمل السري وبين جميع أشكال العمل العلني والشرعي. فقط بهذه الطريقة كان يمكن للحزب الحفاظ على الصلات مع الجماهير. كانت القوات الموجودة تحت تصرفه قد استنزفت بشكل خطير. وبحلول أواخر 1908، كان حوالي 900 من أعضاء الحزب قد رحلوا إلى الخارج. لكن هذه الأرقام لا تخبرنا القصة كلها. إن الثورة، كما أشار تروتسكي، تلتهم بنهم الطاقة البشرية. كان العديد من الكوادر الأكثر خبرة يعانون في سجون القيصرية أو في المنفى السيبيري. وصار العديد من الأعضاء يعانون من الصدمة والضياع والارهاق الذهني والجسدي. أصبحت حالات الانتحار شائعة، خاصة بين الشباب الذين اعتقدوا أن الهزيمة دليل على التصفية النهائية للثورة. في ظل هذه الظروف، يصير من الممكن لمزاج التشاؤم واليأس أن يعثر بسرعة على تعبير عنه بكل الطرق، بدءا من الردة الكاملة والهروب وصولا إلى أشكال مختلفة من الانحراف السياسي – في اتجاه اليسار وكذلك في اتجاه اليمين. يؤدي الإحباط إلى نفاذ الصبر والبحث عن الوصفات الصالحة لكل شيء والطرق المختصرة. يمكن لذلك أن يعبر عن نفسه إما في نزعة التكيف الانتهازية مع الظروف القائمة، أو في مغامرات يسراوية متطرفة. إن هذه الظواهر، التي تبدو على طرفي النقيض مع بعضها البعض، هي في الواقع وجهان لنفس العملة.

في ذلك الوقت، وجد لينين نفسه في موقف صعب للغاية. وفي حين بقي الحزب موحدا رسميا، فإن الفصيلين صارا يعملان بصورة مستقلة عن بعضهما البعض، وهي الحقيقة التي اتضحت بشكل حاد في السياسات المتعارضة التي اتبعها الفصيلان داخل اللجنة المركزية. رفض الأعضاء المناشفة (زوردانيا وراميشفيلي) العمل السري لأن استراتيجيتهم برمتها كانت تقوم على تصفية الحزب السري وحصر أنشطتهم على ما كانت تسمح به السلطات القيصرية، وبالتالي فإن مهمة الحفاظ على منظمات الحزب السرية داخل روسيا صارت على كاهل الأعضاء البلاشفة في اللجنة المركزية (دوبروفينسكي وغولدنبرغ ونوجين)؛ لكن هؤلاء الأخيرين كانوا توفيقيين ولم يوافقوا على طلب لينين بخوض نضال حازم ضد الأعضاء المناشفة داخل اللجنة المركزية.

في ظل تلك الظروف صار لا بد من تشكيل تيار منظم داخل الحزب الموحد. في عام 1907، تم تأسيس مركز للفصيل البلشفي. لم يكن هناك في قوانين الحزب ما يمنع نشر صحف فئوية، لذلك قرر لينين المضي قدما. وعلى الرغم من كل الصعوبات، تمكن المركز البلشفي من إصار جريدته الخاصة: بروليتاري ( ما بين 1906 و1909). ترأس لينين تحرير الجريدة التي ضمت، من بين متعاونين آخرين، مكسيم غوركي، الذي لعب أيضا دورا هاما في جمع الأموال لها. وسيرا على تقاليد الإيسكرا القديمة، حافظت بروليتاري على العلاقات مع المنظمات الحزبية داخل روسيا. وبسبب مشاكل العمل السري ظهرت العديد من العناوين الأخرى من أجل التشويش على الرقابة. كانت هناك جريدة الاشتراكي الديمقراطي، وعدد من جرائد الحزب المحلية. في البداية حاول لينين إنشاء مقر سري في فنلندا، حيث صعبت الحركة من أجل الاستقلال الوطني على السلطات الروسية استعادة السيطرة الكاملة، لكن براثن جهاز الأوخرانا كانت طويلة، وبالكاد تمكن لينين من الفرار من الاعتقال، مما اضطره مرة أخرى إلى أن يعود إلى المنفى.

التصفوية والأوتزوفية

حالة الإحباط التي صار المناشفة يعيشونها عبرت عن نفسها في الظاهرة التي أصبحت تعرف باسم التصفوية. ففي ظل ظروف المد الرجعي، اتجه أغلبية رفاق نصف الطريق البرجوازيون الصغار داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي نحو اليمين. لم يكن ذلك تيارا سياسيا ببرنامج مضبوط، بل كان مجرد مزاج محدد تغلغل في صفوف تلك الفئة الاجتماعية، مزاج من الارتياب في مستقبل الثورة الاشتراكية، وقبل كل شيء، مزاج الشك -الشك في الإمكانات الثورية للطبقة العاملة، والشك في صحة الفلسفة الماركسية، والشك في أنفسهم- والشك في كل شيء. كانت أوضح مظاهر هذه الحالة الذهنية، التي سادت بين المثقفين في يمين الحركة العمالية، هي ظاهرة “التصفوية” بين المناشفة، إلا أنه كانت لها صورة مقابلة على اليسار، تمثلت في ظاهرة “الأوتزوفية” التي ظهرت بين صفوف البلاشفة. ضعف الفريق الاشتراكي الديمقراطي داخل مجلس الدوما، الذي كان تحت سيطرة المناشفة وميله العضوي نحو التوافق والمساومة مع الليبراليين ورفضه الخضوع لرقابة الحزب، أثار رد فعل معاكس تمثل في نزعة الانسحاب والتطرف. يعتبر التطرف اليسراوي، كما قال لينين في كثير من المناسبات، الثمن الذي تضطر الحركة إلى دفعه مقابل الانتهازية. لكن في ظل ظروف المد الرجعي المتنامي كان لرفض استخدام الدوما الثالث بغرض حشد قوى الحزب المشتتة، نتائج سيئة جدا.

وجد المزاج التصفوي التعبير الأكثر تطورا عنه بين فئة من المثقفين والكتاب المناشفة. أناس مثل بوتريسوف ولارين ودان ومارتينوف وأكسلرود وشيريفانين، الذين اتهموا البلاشفة بالتطرف وبالذهاب بعيدا جدا ومحاربة الليبراليين البرجوازيين. ودعا بعضهم إلى التخلي تماما عن فكرة الانتفاضة المسلحة وجعل الدوما مركز جميع أنشطة الحركة الاشتراكية الديمقراطية، أي أنهم دافعوا عن التخلي عن منظور الثورة. غير أن مناشفة آخرين، مثل زوردانيا، لم يصلوا إلى تلك الحدود، لكنهم قالوا إنه نظرا لكون الطابع الموضوعي للثورة كان برجوازيا ديمقراطيا، فإن البرجوازية (أي الليبراليين) هي التي يجب أن تقود الثورة. وهو ما يعني التخلي عن هيمنة الطبقة العاملة – وهو تبرير “نظري” لانعدام الثقة العضوي في الطبقة العاملة من جانب مثقفي الطبقة الوسطى، الذين يخفون قبولهم الذليل بسيطرة البرجوازية الكبيرة وراء كومة من المبررات التي “تثبت” أن البروليتاريا غير صالحة لقيادة المجتمع. يمكن التعبير عن هذا التحيز بشكل مباشر و“بنزاهة” (بالقول إن العمال جاهلون، و“لا يفهمون”، إلخ) أو بأشكال أكثر مراوغة (مثل القول بأن “الثورة برجوازية ديمقراطية” وأن “الوقت ليس مناسبا”، وهلم جرا). وعلى كل حال لم يكن من الصعب بالنسبة للمثقفين، الذين اعتادوا على اللعب بالأفكار مثلما يتم التلاعب بالقطع على رقعة الشطرنج، أن يفبركوا مبررات ذكية لأي قرار مهما كان، انسجاما مع مزاجهم الحالي أو مصلحتهم الذاتية (والأمران عادة ما يرتبطان ارتباطا وثيقا). بالنسبة لهؤلاء الناس، في الواقع، لن يكون هناك أبدا وقت مناسب لكي تقوم الطبقة العاملة بحسم السلطة. حاول المناشفة أن يستندوا إلى جميع أنواع الحجج “الذكية” واقتبسوا من ماركس “لإثبات” أنه يجب على العمال الروس أن يخضعوا لليبراليين البرجوازيين ويساعدوهم على حسم السلطة وتطبيق الديمقراطية، ومن تم الدخول في فترة طويلة من التنمية الرأسمالية، وبعد ذلك، بعد حوالي مائة سنة أو نحو ذلك، ستصير الظروف الموضوعية جاهزة للاشتراكية. في الواقع ليس لهذا الموقف أية علاقة بالماركسية، بل كان فقط كاريكاتيرا سكولاستيكيا عنها، وقد رد عليه لينين وتروتسكي عدة مرات، بل سبق الرد عليه في الحقيقة من طرف ماركس وإنجلز.

في العمق كان كل ذلك تعبيرا عن انهيار الروح المعنوية. في أكتوبر 1907، كتب بوتريسوف إلى أكسيلرود: «إننا نعيش تفككا كليا وإحباطا كاملا… لا نفتقر للمنظمة فقط، بل وحتى لعناصرها الأولية. وقد صار هذا اللاوجود التنظيمي مطروحا كمبدأ»[82]. وفي 20 فبراير 1908، كتب أكسلرود رسالة إلى بليخانوف معربا عن تشاؤمه العميق بشأن المستقبل، حيث قال: «دون النية في مغادرته [الحزب] في الوقت الحاضر، ودون أن نعلن حتمية زواله، يجب علينا مع ذلك أن ننظر إليه من هذا المنظور ولا نربط مصير حركتنا المستقبلية بما يحدث له»[83].

في ربيع 1908، بدأ المناشفة بحل منظمات الحزب السرية في موسكو واستبدالها بما يسمى بمجموعات المبادرة، التي اقتصرت أساسا على الأنشطة الثقافية والعمل في التعاونيات والنوادي التي تسمح بها التشريعات القائمة. وفي يوليوز، أصدر ألكسندر مارتينوف وبوريس غولدمان، نداء مفتوحا لحل اللجنة المركزية للحزب واستبدالها بـ “مكتب إعلامي”. كان ذلك يعني في الواقع تصفية الحزب باعتباره قوة ثورية والتكيف مع القوانين التي وضعتها الردة الرجعية الستوليبينية.

وهكذا كان الكفاح ضد التصفوية كفاحا من أجل الحفاظ على الحزب بكونه منظمة ثورية، كفاحا ضد محاولة الجناح اليميني تمييع أهداف وسياسات الحزب الثورية والتخلي عنها وإخضاعه لليبراليين. تحدث لينين بازدراء عن النزعات التصفوية، التي كان ينظر إليها على أنها انعكاس للحالة المعنوية للمثقفين الذين صاروا يديرون ظهورهم للثورة بحجة رفض أساليب النضال والتنظيم “القديمة”. وقال:

«إن العلاقة واضحة بين النزعة التصفوية وبين المزاج العام البرجوازي الصغير بـ “التعب”. إن “المتعبين” (ولا سيما أولئك المتعبين نتيجة لعدم قيامهم بأي شيء) لا يبذلون جهدا في البحث عن إجابة دقيقة تمكنهم من حل مسألة التقييم الاقتصادي والسياسي للحظة الراهنة… هؤلاء “المتعبون” الذين يصعدون على منبر الصحافة لكي يبرروا “تعبهم” من القديم، وعدم رغبتهم في العمل بالقديم، لا ينتمون إلى فئة “المتعبين” فقط، بل إنهم خونة أيضا»[84].

ويقول لينين في مكان آخر: «كلما صارت هذا الراية أكثر “وضوحا” كلما أصبح من الواضح أكثر أن ما يوجد أمامنا هو خرقة ليبرالية قذرة بالية». كانت هذه هي الطبيعة الأساسية للنضال بين البلشفية والمنشفية، الذي بلغ ذروته في انشقاق عام 1912.

كل ذلك كان، كما فهم لينين، تعبيرا عن انتشار المزاج المعادي للثورة بين المثقفين، مزاج اليأس وفقدان الثقة في الطبقة العاملة وفي منظور ثورة جديدة. كانت التصفوية أكثر مظاهر ذلك المزاج وضوحا، لكنها لم تكن المظهر الوحيد. كثيرا ما قال لينين إن التطرف اليسراوي هو الثمن الذي تدفعه الحركة العمالية مقابل الانتهازية. لقد وجدت التصفوية انعكاسها في التطرف اليسراوي، لكن بينما وجد الاتجاه الأول صداه بين المناشفة، فإن الاتجاه الثاني وجد صداه في صفوف البلاشفة، حيث تسبب في ضرر كبير. وبالفعل في مارس وأبريل من 1908، طرحت بعض المجموعات الاشتراكية الديمقراطية في موسكو فكرة استدعاء نواب الحزب ومقاطعة الدوما. المرادف الروسي لكلمة “استدعاء” هو “otzvat”، والتي من خلالها نحصل على اسم هذا التيار: الأوتزوفية (النزعة الاستدعائية/ المقاطعاتية). دافع لينين بشدة عن ضرورة المشاركة في انتخابات مجلس الدوما الثالث، وهو الموقف الذي لقي موافقة القواعد في الكونفرانس الثالث للحزب (كونفرانس عموم روسيا الثاني) الذي عقد يومي 21 و23 يوليوز 1907 في مدينة كوتكا في فنلندا. حضر الكونفرانس 26 مندوبا بحق كامل في التصويت -تسعة بلاشفة وخمسة مناشفة وخمسة بولنديين واثنين من الحزب اللتواني وخمسة بونديين. لم يكن هذا الموقف واضحا تماما كما يبدو للوهلة الأولى، لأنه سرعان ما ظهرت شروخ خطيرة داخل الفصيل البلشفي. بعض أعضاء الوفد البلشفي كانوا “مقاطعين”، ومع ذلك فإن البولنديين و اللتوانيين أيدوا موقف لينين، وشارك الحزب في الانتخابات. تم انتخاب أربعة بلاشفة من أصل فريق اشتراكي ديمقراطي بلغ عدده 19 نائبا.

كان الصراع الداخلي للحزب يصعد إلى الواجهة في كل اجتماع. وفي الفترة ما بين 05 إلى 12 نوفمبر 1907، ناقش كونفرانس “عموم روسيا”، الرابع (أو الثالث)، الذي عقد في هلسنكفورس، مرة أخرى تكتيكات الدوما. ومن بين المندوبين الـ 27 الحاضرين، كان هناك عشرة من البلاشفة وأربعة من المناشفة وخمسة بولنديين وخمسة بونديين وثلاثة لتوانيين. دافع لينين في ذلك الكونفرانس عن استخدام الدوما، ليس كوسيلة للحصول على الإصلاحات -كما قال التصفويون- بل كمنصة للتحريض الثوري، وذلك دائما على أساس استقلالية الطبقة، وليس التكتل مع الكاديت، على النحو الذي دعا إليه البونديون والمناشفة. تمت الموافقة على قبول الاتفاقات المؤقتة مع مجموعات العمال والفلاحين على يسار الكاديت، بهدف تخليص الفلاحين من تأثير الليبراليين البرجوازيين. كان ذلك دفعة هامة لموقف لينين. بدا كما لو أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، ثم حدثت انتكاسة جديدة.

في ربيع 1908، وبطريقة مفاجئة تم اعتقال جميع أعضاء مكتب الحزب البلاشفة في روسيا. تسبب ذلك في تحطيم كامل لعمل الفصيل البلشفي في روسيا. عند هذه النقطة استفاد المناشفة من الوضع من خلال محاولة تحويل اللجنة المركزية للحزب إلى مجرد مركز للمعلومات فقط. تم رفض هذا الاقتراح في جلسة غشت المكتملة، التي عقدت في جنيف عام 1908. وكالمعتاد كان البلاشفة مدعومين من طرف البولنديين واللتوانيين. وتقررت الدعوة إلى عقد كونفرانس للحزب لمناقشة مسألة التصفوية، لكن المناشفة عارضوا هذه الفكرة، كما عارضها الأوتزوفيون، الذين دعوا إلى عقد “مؤتمر بلشفي خالص”، في الوقت الذي كان فيه لينين يحاول الحفاظ على الوحدة. أنصار النزعة الأوتزوفية، وبالإضافة إلى دعوتهم إلى سحب الفريق البرلماني من الدوما، طالبوا بأن يقاطع الحزب العمل في المنظمات الشرعية. في ظل ظروف الثورة المضادة السائدة، كان من الضروري أن يستغل الماركسيون جميع المنافذ الشرعية، مهما كانت محدودة: النقابات العمالية ونوادي العمال وجمعيات التأمين، وقبل كل شيء مجلس الدوما. كان من شأن إدارة الظهر لهذه الإمكانيات الشرعية أن يكون خطأ كارثيا، كان سيعني التخلي عن أي محاولة للوصول إلى الجماهير، وبالتالي تحويل الحزب إلى مجرد عصبة. لقد شن لينين نضالا حازما ضد هذا التيار اليسراوي المتطرف، الذي وصفه بشكل صحيح بأنه “النزعة التصفوية مقلوبة رأسا على عقب”.

كان المزاج اليسراوي المتطرف سائدا بين صفوف قيادة الفصيل البلشفي في ذلك الوقت. ومن الزعماء الرئيسيين لذلك الاتجاه كانت هناك شخصيات بارزة مثل ألكسندر بوغدانوف (ماكسيموفيتش) وغريغوري أليكسينسكي وأ. سوكولوف (فولسكي) ومارتن ليادوف (ماندلشتام) وكذلك غوركي، الذي ظهر فهمه المحدود للأسس النظرية للماركسية في دعمه لاتجاه فلسفي شبه صوفي يسمى “بناء الله”. كانت الرغبة في انتقاد ومراجعة البديهيات النظرية الأساسية للماركسية هي أيضا انعكاسا لمزاج التشاؤم واليأس السائد بين صفوف المثقفين، والذي يمكن ملاحظته مرارا وتكرارا في التاريخ خلال مراحل الثورة المضادة. كان تبني بوغدانوف لسياسة يسراوية متطرفة مرتبطا ارتباطا عضويا بتحريفيته الفلسفية ورفضه للمادية الديالكتيكية منذ ما قبل ثورة 1905. لينين، الذي كان حريصا على الاستفادة من خدمات الأشخاص الموهوبين، كان مستعدا لتحمل أفكار بوغدانوف الغريبة بخصوص الفلسفة، مع الحرص على توضيح أنه لا يتفق معها. لكن في سياق تفشي الثورة المضادة، مع تزايد حالات التخلي عن النضال واليأس والردة من جميع الجوانب، أدرك لينين أنه من غير المقبول أن يتسامح مع أي مزيد من التراجعات. كان من الممكن للسماح باختراق الحزب من طرف نزعة التصوف الفاسدة، القادمة من محيطه من المثقفين البرجوازيين الصغار، أن يكون موقفا انتحاريا. كان من شأنه أن يؤدي حتما إلى تصفية الحزب الماركسي، بدءًا بكوادره.

كان من الضروري اتخاذ موقف الدفاع عن النظرية الماركسية، ولم يتردد لينين في خوض نضال شرس على الرغم من أنه قد يؤدي إلى القطع مع معظم الرفاق البارزين. دفاع لينين الدؤوب عن الفلسفة الماركسية أثار عليه الكثير من التعليقات الساخرة من قبل المؤرخين غير الماركسيين. وذلك طبيعي، لأنه إذا كان المرء لا يقبل بالماركسية على أي حال، فكيف يمكن له أن يفهم الحاجة إلى النضال من أجل الدفاع عن المبادئ النظرية الماركسية؟ لكن الماركسية نظرية علمية لها منطق داخلي، وليس من الممكن فصل الأجزاء الثلاثة المكونة للماركسية، كما وصفها لينين، وقبول بعضها ورفض البعض الآخر، مثلما يختار المرء ربطة عنق أو زوجا من الجوارب. إن المادية الديالكتيكية هي جوهر الماركسية لأنها منهاج الماركسية، وبدون المادية الديالكتيكية تنهار الماركسية برمتها، أو أنها تتحول إلى عقيدة صورية ميتة. ولهذا السبب تحديدا، شنت البرجوازية، وخدامها في الجامعات، هجمات مستمرة ضد الديالكتيكية الماركسية، التي يحاولون تصويرها على شكل عقيدة دينية أو كسفسطة لا معنى لها. في الواقع إن المادية الديالكتيكية تمثل الشكل الثابت الوحيد للمادية، وبالتالي فهي الطريقة الوحيدة المتسقة حقا للكفاح ضد جميع أشكال التصوف والدين. تاريخ العلم دليل كاف على أن العلم والدين اتجاهان فكريان متعارضان بالكامل. لم يفهم الكثير من نشطاء الحزب في ذلك الوقت نضال لينين للدفاع عن الفلسفة الماركسية. كان متوسط المستوى النظري للأعضاء قد انخفض نتيجة للنمو السريع للحزب وفقدان الكوادر من ذوي الخبرة بسبب السجن والنفي. كان العديد من الأعضاء الذين بقوا يفتقرون إلى أسس متينة في النظرية الماركسية، وبسبب ظروف السرية الصعبة، نظروا بارتياب إلى المناقشات التي تجري بين المنفيين والتي بدت لهم غامضة ومفارقة للواقع. كانت هناك نداءات متكررة من أجل الحفاظ على الوحدة وشكاوى ضد الصراع بين الفصائل. لكن لم يكن هناك شيء يمكنه أن يحرف لينين عن مساره.

مزاج الإنتليجنسيا

عبرت فترة الرد الرجعية عن نفسها ليس فقط من خلال ازدياد أعمال القمع المادية، بل بطرق أكثر شؤما بكثير. لقد أثرت صدمة الهزيمة على نفسية الناس بطرق مختلفة، على شكل وباء من الاكتئاب والتشاؤم واليأس. لا تعيش الطبقة العاملة بمعزل عن الطبقات الاجتماعية الأخرى، إنها محاطة، في جميع البلدان وفي كل مرحلة من المراحل، بفئات أخرى، ولا سيما البرجوازية الصغيرة بكل مكوناتها، والتي تعمل بمثابة قناة ضخمة لنقل مزاج الطبقة السائدة وأحكامها المسبقة وأفكارها إلى كل ركن من أركان المجتمع. ليست البروليتاريا بمنأى عن ضغوط الطبقات الأخرى والتي تنتقل إليها عبر البرجوازية الصغيرة. وتلعب تلك التأثيرات دورا خبيثا بشكل خاص في فترات الردة الرجعية. بعد أن شعرت قطاعات من المثقفين بخيبة الأمل في الثورة والطبقة العاملة، انسحبوا من ساحة النضال من أجل الانكفاء على أنفسهم، بحثا عن الأمان بعيدا عن العاصفة التي تهب في الخارج. أعرب المزاج الرجعي للمثقفين عن نفسه من خلال مجموعة متنوعة من الطرق: النزعة الذاتوية والانغماس في الملذات والتصوف والميتافيزيقا والبورنوغرافيا. وقد وجدت هذه النزعات انعكاسا لها في الأدب في المدرسة الرمزية؛ وفي الفلسفة، حيث رفضوا الديالكتيك الثوري لصالح الفلسفة الكانطية، بتكوينها الذاتي القوي. كان كل ذلك مجرد تعبير عن انحطاط معنويات المثقفين، وابتعادا عن العالم ومحاولة للبحث عن ملجأ في “الحياة الداخلية”، تحت كل أنواع الشعارات الغامضة التي لا معنى لها (“الفن من أجل الفن”، وما إلى ذلك) والتي قدمت لهم عذرا مريحا للتفكير في شؤونهم الأنانية الضيقة. يتذكر مصدر معاصر لتلك الفترة كيف: «استسلم الراديكاليون أبناء التجار الصغار لمصيرهم وأخذوا أماكنهم في ورشات آبائهم. كما أغرق الطلاب الاشتراكيون أنفسهم في المعرفة كما لو أنهم في دير».

تلك الظاهرة ليست جديدة، إنها أمر شائع خلال كل فترة من فترات الردة الرجعية، عندما تتلاشى آمال المثقفين في الثورة. بعد سقوط روبسبيير، رأينا صعود “الشباب الذهبي” [Jeunesse dorée]، والاتجاه نحو الانغماس في الملذات والأنانية. كما يمكن ملاحظة ظاهرة مماثلة في انجلترا بعد عودة تشارلز الثاني. وشهدت هزيمة ثورة 1848 في فرنسا حركة للفنانين والشعراء، الذين سبق لهم أن عبروا عن توجهات ثورية، نحو الانطواء على النفس والتصوف، والتي كانت النزعة الرمزية عند بودلير المظهر الأدبي عنها. وليس من قبيل المصادفة أن المدرسة التي سادت في الشعر الروسي خلال سنوات الردة الرجعية الستوليبينية كانت بالضبط هي الرمزية. يوضح أحد طلاب ذلك الوقت أنه:

«لم تعد نقاشاتنا الحماسية الآن تدور حول أفكار ماركس وإنجلز، بل حول أفكار نيتشه وبودلير وفاجنر وليوناردو دافينشي، ولم نعد ننشد الأغاني الثورية، بل نتلوا لبعضنا البعض قصائد الشعراء الرمزيين المعاصرين أو نسخنا المقلدة عنها. لقد بدأت مرحلة جديدة»[85].

إن السمة الرئيسية لذلك الشعر هي طابعه المنغلق على الذات، حيث يدير الفرد المعزول ظهره للعالم ويلتمس الملجأ في ظلام الروح، كما عبر أحد رموز النزعة الرمزية الروس قائلا:

«نحن وحيدون تماما،
دوما وحيدون.
ولدت وحيدا.
ووحيدا سأموت».

كانت الحركة كلها مشربة بمفاهيم دينية وباطنية. كتب فيودور سولوغوب: «أنا إله عالَم غامض، لا يوجد العالم بأسره إلا في أحلامي وحدها». وكتب ف. ف. روزانوف: «كل الأديان سوف ترحل، لكن هذا وحده سوف يبقى، جالسا على كرسي وينظر إلى المدى»[86]، وهلم جرا. لم تقتصر هذه الظاهرة بأي حال على الأدب وحده، فقد أصدر المفكرون رفاق نصف الطريق، الكاديتيون، صحيفة أطلقوا عليها اسم: فيخي (المعالم) والتي حاولت إعطاء أساس فلسفي لمزاج اليأس والتشاؤم السائد بين البرجوازية الصغيرة.

كتب م. و. جيرشينزون على صفحات فيخي:

«يجب على المثقفين أن يتوقفوا عن الحلم بتحرير الشعب -علينا أن نخشى الشعب أكثر من جميع عمليات الإعدام التي تنفذها الحكومة، ونحيي هذه الحكومة التي وحدها، بحرابها وسجونها، من تحمينا من غضب الجماهير»[87].

ظهر موضوعيا نوع من تقسيم رجعي للمهام، ففي حين عملت الصحف اليمينية مثل فيخي وروسكايا ميسل على تقديم تبرير للردة الرجعية وكيل المديح لها بشكل واضح، فإن المثقفين اليساريين السابقين، الحريصين على إيجاد بعض المبررات المقنعة لتخليهم عن القضية الثورية، شنوا، في صالونات موسكو وسان بيترسبورغ، هجوما أكثر تسترا وأكثر شؤما على الإيديولوجية الماركسية التي تخلوا عنها. وقد أخذت هذه المزاجية المعادية للثورة، اللاواعية أو نصف الواعية، التي سادت بين الإنتليجنسيا، شكلها النهائي على يد هؤلاء المرتدين الذين شكلوا في وقت سابق أساس التيار الذي أصبح يعرف باسم الماركسية الشرعية، مثل ستروفه والفيلسوف بارديايف، وأ. س، إزغوف، ود. س. ميريزكوفسكي. هؤلاء الأسلاف السابقون “للماركسية” الجامعية الفقيرة المبتذلة، التي يمكن العثور عليها في كل مرحلة بين صفوف الدوائر الأكاديمية، والتي يتوهم أعضاؤها، لسبب مجهول، أنهم ماركسيون، لكن دون أن تكون لهم أية علاقة حقيقية مع العالم الحقيقي للصراع الطبقي. عندما تواجه الحركة أولى الصعوبات، يقفز “رفاق نصف الطريق” من السفينة ويصبحون مدافعين عن الردة الرجعية.

من الصعب أن نحدد من هو الأكثر ضررا بين هذين العدوين. لقد هدد ذلك التراجع النظري مستقبل الحركة الثورية، ونخرها من أساسها. كان من الضروري خوض صراع إيديولوجي حازم على جميع الجبهات لإنقاذ الحزب من الخراب الشامل. وليس من قبيل الصدفة أن يكون الديالكتيك هو هدف الهجوم الذي شنه النقاد الفكريون للماركسية. إن الديالكتيك، وعلى الرغم من المظاهر، ليس على الإطلاق عقيدة فلسفية مجردة بدون أي آثار عملية، بل هو الأساس النظري للماركسية ومنهجها وجوهرها الثوري. إن رفض المادية الديالكتيكية لا يعني فقط رفض الأساس الفلسفي العلمي للماركسية، بل يعني رفض جوهرها الثوري قبل كل شيء.

وسرعان ما بدأت تلك الأفكار الغريبة في اختراق حزب العمال نفسه. تم تهريب الكانطية من خلال النظريات المألوفة لإرنست ماخ، الفيزيائي النمساوي والفيلسوف الذي كانت نظرياته مشربة بروح المثالية الذاتية. تحت ذلك الستار صارت تلك الآراء الفلسفية المناهضة للماركسية تبرز على يد الجناح اليساري المتطرف بين صفوف البلاشفة، بمن في ذلك الأعضاء البارزين في فصيل لينين مثل بوغدانوف ولوناشارسكي وأ. ف. بازاروف. وكما جرت العادة دائما فإن الانتقال إلى التحريفية تم تحت راية البحث عن أفكار جديدة. دائما ما تكون الدعوة إلى الجديد وادعاء الأصالة خطوة نحو العودة إلى الأفكار القديمة التي تم تفنيدها منذ عصور ما قبل تاريخ الحركة العمالية: اللاسلطوية والبرودونية والكانطية. وكما يقول المثل الفرنسي: “Plus ça change, plus c’est la même chose!” (“كلما تم إدخال المزيد من التغييرات، كلما بقيت الأوضاع على حالها!”)، حاول ذلك التيار أن يزاوج بين الماركسية وبين… الدين! وقد أطلق مؤيدوه على أنفسهم بعض الأسماء الغريبة مثل: “بناة الله” و“الباحثون عن الله”، التي تكشف عن طبيعتهم الحقيقية بطريقة أكثر دقة. يقول لوناشارسكي، في كتابه “الدين والاشتراكية”، إن النظريات الماركسية “الباردة وغير الإنسانية” لا يمكن استيعابها من قبل الجماهير، واقترح خلق “دين جديد”، سيكون “دينا بلا إله”، و“دينا للعمل”، وما إلى ذلك. وقد تمت الإشارة إلى الاشتراكية على أنها “حركة دينية جديدة قوية”[88]. وقد أثار ذلك الشبح الصوفي الذي يتنكر تحت اسم الفلسفة سخط لينين الشديد.

بعد الكونفرانس الحزبي الموحد العاصف الذي عقد في باريس في دجنبر 1909، تم انتخاب هيئة تحرير جديدة لصحيفة “الاشتراكي الديمقراطي”، تألفت من لينين وزينوفيف وكامينيف ومارتوف ومارشويسكي. تتذكر كروبسكايا أن «مارتوف كان أقلية داخل الهيئة الجديدة، ونسي في كثير من الأحيان منشفيته». وتضيف قائلة: «أتذكر أن إيليتش أشار في إحدى المرات بارتياح أنه كان من الجيد العمل مع مارتوف، لأنه كان صحفيا موهوبا للغاية. لكن ذلك الوضع توقف بعد وصول دان»[89].

يمتلك كثير من الناس فكرة خاطئة عن لينين بكونه رجلا صعبا جدا يسعده “تقريع” خصومه في الجدال. ينبع هذا الانطباع – البعيد جدا عن الحقيقة- من معرفة سطحية بكتابات لينين. إذا اكتفى المرء بقراءة المقالات المنشورة فقط، والتي كان الكثير منها ذا طابع جدالي طبعا، سيبدو له أن لينين يعامل خصومه بقليل من اللطف. لكن هذا لا يعطي إلا وجها واحدا للعملة، لأنه إذا قرأ مراسلات لينين، فستظهر له صورة مختلفة تماما. لقد كان لينين دائما وبشكل غير عادي صبورا ونزيها في تعامله مع الرفاق. كان يبذل قصارى جهده لإقناع رفاقه، لكن في النهاية فقط، عندما تنتقل القضايا المتنازع عليها إلى العلن، وخاصة عندما تكون القضايا المبدئية على المحك، يضطر إلى خوض الصراع. آنذاك تأخذ الدبلوماسية المقعد الخلفي ولا يتم احترام أي مشاعر. بالنسبة إلى لينين، تصير جميع الاعتبارات الأخرى ثانوية عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن المبادئ الأساسية للماركسية. ويمكن رؤية هذه الطريقة بوضوح في هذه الحالة.

لم تكن تحفظات بوغدانوف على المادية الديالكتيكية مسألة جديدة. لكن في خضم الثورة لم تكن لتلك الأمور أهمية تذكر. وعلى أية حال، لم يكن هناك وقت ليكرس للفلسفة. لكن في ظل ظروف الردة الرجعية، صارت المسألة تطرح بشكل مختلف تماما. كانت الأخطار واضحة جدا. لكن الانشقاق حول تلك المسائل وفي تلك الظروف الصعبة، كان أمرا من الصعب تصوره. في البداية حاول لينين أن يخفف من تلك الخلافات، وذلك لتجنب اندلاع صراع مدمر داخل القيادة البلشفية. تذكر كروبسكايا أنه: «في نهاية مارس، كان إيليتش يرى أنه ينبغي فصل النزاعات الفلسفية عن التكتلات السياسية داخل الفصيل البلشفي. وأعرب عن اعتقاده بأن مثل هذه الخلافات داخل الفصيل ستظهر أفضل من أي شيء آخر أن فلسفة بوغدانوف لا يمكنها أن توضع على نفس مستوى البلشفية». إلا أنها تضيف: «لكن صار يبدو بشكل أكثر فأكثر وضوحا أن المجموعة البلشفية سوف تنهار قريبا»[90].

يعطي ن. فولسكي (فالنتينوف) في مذكراته صورة عن الصراعات الحادة حول القضايا الفلسفية التي هزت المنظمة البلشفية في ذلك الوقت[91]. بقراءة ذلك يدرك المرء أن لينين كان له شديد الصبر، لكن كل شيء له حدوده. فعلى الرغم من كل محاولاته للحفاظ على السلام، فقد كانت الاختلافات أخطر من أن يتم غض الطرف عنها. ولجعل الأمور أكثر سوءا، كتب بوغدانوف مقالا في صحيفة كاوتسكي Die Neue Zeit يشيد فيها بالماخية. كان ذلك، بالنسبة إلى لينين، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هو الحزب الرئيسي في الأممية، وكان نشر المقالة في إعلام الحزب الألماني بمثابة استفزاز علني. والأسوأ من ذلك هو أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني كان موقفه غامضا بشأن القضايا الفلسفية، في حين أشاد منظر الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي، فريدريك أدلر، بالماخية إذ اعتبرها اكتشافا علميا كبيرا. ومن خلال إعطاء الجدل الدائر داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي ذلك المستوى الأممي، رفع بوغدانوف التحدي وعمق الانقسام. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا لم يعد هناك مجال للعودة إلى الوراء.

كان من الصعب جدا على لينين أن يقطع مع الأشخاص الذين عمل معهم عن قرب، وهو ما توضحه كروبسكايا قائلة:

«قبل ذلك بما يقرب من ثلاث سنوات، كنا نعمل مع بوغدانوف والبوغدانوفيين يدا في يد، لم نكن فقط نعمل معا، بل كنا نناضل معا جنبا إلى جنب. ليس هناك ما يقرب الناس إلى بعضهم البعض أكثر من النضال من أجل قضية مشتركة. ومن ناحية أخرى، كان إيليتش رائعا في قدرته على إشعال الآخرين بأفكاره، ويصيبهم مثل العدوى بحماسه، وفي الوقت نفسه يجعل أفضل خصالهم تزدهر، ويستخرج منهم ما عجز الآخرون عن استخراجه. بدا كل رفيق عمل إلى جانبه، كما لو أن جزءا من إيليتش يوجد فيه، وربما كان ذلك هو السبب في أنه كان قريبا جدا منهم.
كان الصراع داخل المجموعة حدثا محطما للأعصاب. أتذكر إحدى المرات عندما عاد إيليتش إلى المنزل بعد أن كان قد اصطدم مع الأوتزوفيين، بدا فظيعا، وحتى لسانه بدا وكأنه تحول إلى اللون الرمادي. قررنا أنه عليه الذهاب إلى نيس لمدة أسبوع للابتعاد عن الاضطراب واستعادة الهدوء تحت أشعة الشمس. فسافر ثم عاد معافى مرة أخرى»[92].

شعر لينين آنذاك أنه ليس لديه بديل سوى شن حرب شاملة ضد أنصار بوغدانوف. لكن ما حدث هو أنه لم يكن لينين، بل بليخانوف هو الذي أطلق الرصاصة الأولى. كتب مقالته Materialismus Militans (المادية المقاتلة) باعتبارها رسالة مفتوحة لبوغدانوف. إلا أن الرد النظري الرئيسي كان هو تحفة لينين الفلسفية: “المادية والمذهب النقدي التجريبي”، التي تعتبر واحدة من أعظم الأعمال النظرية للماركسية الحديثة. لعب ذلك الكتاب دورا رئيسيا في إعادة التسليح الأيديولوجي للطبقة العاملة الروسية وإعادة توجيه الحركة، ومكافحة النزعات التحريفية والأفكار الرجعية. قطع لينين أفكار التصوف مثلما يقطع سكين ساخن الزبدة. لقد أصبحت الآن مسألة حرب حتى النهاية. ويمكن رؤية تشدد موقف لينين في رسالته إلى شقيقته آنا، التي كانت المسؤولة عن التعامل مع ناشر “المادية والمذهب النقدي التجريبي”. حاول هذا الأخير تلطيف اللغة المستخدمة ضد الطرف الآخر، لكن لينين أصر على عدم تقديم أي تنازلات على الإطلاق. استخدم في نصه كلمة “Popovshchina” [بوبوفشينا] (وهي كلمة غير قابلة للترجمة، تعني تقريبا “النزعة الكهنوتية”) لوصف تصور مؤيدي المذهب النقدي التجريبي. وقد تمت ترجمة تلك العبارة على نحو غير صحيح بـ “المذهب الإيماني”، وهو التعبير الذي، بالإضافة إلى كونه غير دقيق من الناحية اللغوية، كان محاولة واضحة لتخفيف لهجة جدال لينين. أدت تلك المحاولة إلى توبيخ حاد من جانب لينين ليس في رسالة واحدة بل في عدة رسائل، مثل تلك المؤرخة في 09 مارس 1909، حيث نجد: «من فضلك لا تخففي اللهجة ضد بوغدانوف وضد بوبوفشينا لوناشارسكي. لقد قطعنا تماما العلاقات معهم. ليس هناك أي سبب لتخفيفها. إن الأمر لا يستحق العناء»[93].

ومرة أخرى، بعد ثلاثة أيام فقط، كتب:

«رجاء لا تخففي أي شيء ضد بوغدانوف ولوناشارسكي وشركائهما. يجب ألا يتم تخفيفها. لقد حذفتِ المقطع عن كون تشيرنوف خصما “أكثر نزاهة” منهم، وهو أمر مؤسف للغاية. إن المعنى الذي أعطيتِه ليس هو الذي أريده. لم يعد هناك اتساق عام في اتهاماتي. جوهر القضية هو أن ماخييـ“نا” غير نزهاء وحقيرون وأعداء جبناء للماركسية في مجال الفلسفة»[94].

انقسام البلاشفة

في تلك الأثناء صار الانشقاق داخل فصيل البلاشفة علنيا. كان لصحيفة “Proletary” هيئة تحرير “صغيرة” تتألف من لينين وزينوفييف وكامينيف، الذين بدأ تعاونهم في تلك السنوات، إلى جانب بوغدانوف وعضوي اللجنة المركزية غولدنبرغ  ودوبروفينسكي. التقى هؤلاء المحررون المذكورون مع أعضاء آخرين في كونفرانس مصغر في باريس، في الفترة ما بين 08 و17 يونيو (21-30) 1909. ومن بين الحاضرين كان هناك ريكوف وتومسكي، زعيم النقابات العمالية لاحقا من بطرسبرغ. كان الهدف من المؤتمر مناقشة مسألة “الأوتزوفية” وأصحاب “الإنذارات النهائية” (“Ultimatism”). دافع بوغدانوف عن موقفه في مناقشة مفتوحة، لكنه كان معزولا. فباستثناء شانتسر، الذي اتخذ موقفا توفيقيا، وامتناع عضوين عن التصويت (تومسكي وغولدنبرغ)، صوت جميع المندوبين الآخرين لصالح موقف لينين. كما ناقش الكونفرانس الآراء الفلسفية لمجموعة بوغدانوف ورفضها. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن جميع مواقف لينين قد قبلت مع وجود أصوات ضد وامتناع أخرى عن التصويت. ليس هناك، بطبيعة الحال، أي شيء غير عادي بشأن القرارات التي تتخذ بأغلبية الأصوات، الفكرة القائلة بأن كل قرار يجب أن يكون بالإجماع هي فكرة تنتمي إلى التقاليد الستالينية، بعبادتها للزعيم المعصوم، وهو الشيء الذي يعتبر غريبا تماما عن التقاليد الديمقراطية للبلشفية. لكن في هذه الحالة بالتحديد، كان الامتناع عن التصويت له معنى، لأن العديد من نشطاء الحزب في روسيا اعتبروا النزاع حول القضايا الفلسفية ترفا لا يمكن تفهمه في ظل الظروف الصعبة التي كان الحزب يعمل فيها آنذاك. في الواقع، تعتبر النزاعات حول القضايا النظرية بالنسبة لهؤلاء الناس “تصرفا غير مناسب”.

ومن الأمثلة النموذجية على تلك الحالة الذهنية نجد ستالين الذي عجز تماما عن فهم ما كان لينين يرمي إليه. كتب في رسالة بعثها إلى م. ج. تسخكايا، إن النقد التجريبي له جوانب جيدة أيضا وأن مهمة البلاشفة هي تطوير فلسفة ماركس وإنجلز “بروح ج. ديتزجن، بحيث تستفيد من الجوانب الجيدة للماخية”. هذ العبارة المجنحة، مثل غيرها من نفس النوع، والتي تكشف عن نظرة ستالين الضيقة والجاهلة والمبتذلة للماركسية، تم حذفها طبعا من أعماله الكاملة، لكنها نجت في بعض الزوايا المنسية من أرشيف الحزب، من حيث تم استخراجها من قبل مؤلفي تاريخ الحزب الرسمي الذي نشر في عهد خروتشوف[95]. أغلب الاحتمالات هو أن ستالين لم يقرأ أبدا سطرا واحد لماخ، فهو باعتباره التجسيد الحي لـ “مهني” الحزب، لم يكن مباليا بهذه المسائل النظرية، على اعتبار أنها مجرد تفاهات مزعجة وتشويشا على مهام الحزب اليومية. ويمثل الاقتباس أعلاه محاولة خرقاء لتحقيق الوحدة من خلال الاكتفاء ببساطة بتجاهل المسائل المبدئية تماما.

إلا أن ستالين لم يكن الوحيد الذي فشل في فهم أهمية النضال من أجل المبادئ النظرية، بل على العكس تماما كانت هذه المواقف واسعة الانتشار في صفوف البلاشفة، بما في ذلك بين أقرب المتعاونين مع لينين. الزعيم المستقبلي للنقابات السوفياتية، ميخائيل تومسكي، كان ضد كل فلسفة وأعلن: «لم أشعر أبدا بالحنين إلى الفلسفة. إن أولئك الذين ينشغلون بالفلسفة إنما يريدون الهروب من الواقع»[96].

في 26 ماي 1908، كتب كامينيف في النسخة الأولى من رسالة إلى بوغدانوف:

«إذا… واجهت إنذارا بأنه علي لكي نعمل معا سياسيا أن أوافق على جميع الخطوات التي اتخذناها ضد خصومنا الفلسفيين… فإنه لن يكون لدي، بطبيعة الحال، أي خيار آخر ما عدا الانسحاب من هذا النضال»[97].

وفي خطوة توفيقية منه قال بأنه على الصحيفة المركزية للحزب، Sotsial Demokrat، ألا تكتفي بنشر مقالات أولئك الذين يدافعون عن المادية الديالكتيكية، بل أن تنشر أيضا مقالات أولئك الذين يعارضونها. هذا في الوقت الذي كان لينين قد توصل فيه إلى خلاصة أن القطيعة التامة مع البوغدانوفيين صارت ضرورية. في صيف 1908، كتب لينين إلى فوروفسكي، الذي عمل معه في فبيريود عام 1905، رسالة بعبارات توضح بشكل كامل أن القطيعة المفتوحة مع مجموعة بوغدانوف صارت مسألة وقت فقط. بل إن لينين كان يعتقد أنه قد يجد نفسه أقلية، وفي هذه الحالة سيضطر هو إلى الانشقاق: «الصديق العزيز، شكرا على الرسالة. كل “شكوكك” خاطئة. لم أكن أعاني من مشاكل عصبية، لكن موقفنا صعب. الانشقاق مع بوغدانوف صار وشيكا. والسبب الحقيقي هو أنه يحس بالغضب من الانتقادات الحادة التي وجهت إلى تصوراته الفلسفية خلال الاجتماعات (والتي لم تصدر أبدا في الصحيفة). والآن يعمل بوغدانوف على تصيد أي شكل من أشكال اختلاف الرأي. وقد عمل، جنبا إلى جنب مع أليكسينسكي، الذي يثير فوضى رهيبة والذي اضطررت إلى أن أقطع معه كل العلاقات، على إخراج الصراع إلى العلن.

إنهم يحاولون الانشقاق على أساس النقد التجريبي والمقاطعة. سوف تنفجر العاصفة قريبا جدا. والمواجهة في الكونفرانس القادم أمر لا مفر منه. هناك احتمال كبير لحدوث الانشقاق. وسأترك الفصيل حالما يصبح لسياسة “المقاطعة الحقيقية” و“اليسار” اليد العليا داخله»[98].

خلال هذه الفترة، تراجعت حظوظ لينين إلى أدنى مستوياتها. وعلى الرغم من أن الدعم الذي قدمه الاشتراكيون الديمقراطيون البولنديون واللاتيفيون أعطى الأغلبية للمواقف البلشفية في اجتماعات الحزب، فإن لينين وجد نفسه أقلية داخل الفصيل البلشفي. كان معظم أقرب المتعاونين السابقين معه- بوغدانوف ولوناشارسكي وليادوف- مقاطعين. وكان الجيل الجديد من القادة يميل بقوة إلى النزعة التوفيقية. أما لينين وكروبسكايا، والرجلين الذين كانا سيصيران أقرب رفاقهما في السنوات القليلة المقبلة، زينوفييف وكامينيف، فقد اضطروا للهجرة إلى سويسرا. طبيعة لينين المتفائل دوما لم تكن تترك مجالا للاكتئاب، لكنه عندما عاد إلى جنيف في يناير 1908، ظهرت عليه علامات الإجهاد. ومزاج الحزن والاكتئاب يتخلل كل سطر من أسطر الفقرة التالية من مذكرات كروبسكايا:

«بدت جنيف كئيبة. لم تكن هناك ثلوج، لكن كانت هناك رياح عاتية باردة تهب. كانت تباع بطاقات بريدية تصور مشهد المياه المتجمدة بالقرب من درابزين بحيرة جنيف، وكانت البلدة تبدو ميتة وخالية. ومن بين الرفاق الذين كانوا يعيشون هناك في ذلك الوقت، ميخا تسخاكايا، وف. ك. كاربينسكي، وأولغا رافيتش. كان ميخا تسخاكايا يعيش في غرفة صغيرة وخرج من السرير بصعوبة عندما وصلنا. قيل لنا إن لا أحد يريد النقاش، وكان آل كاربينسكي يعيشون في المكتبة الروسية حيث كان كاربينسكي يشغل منصب مدير، كان هذا الأخير يعاني من صداع حاد جدا عندما وصلنا وكانت كل النوافذ مغلقة لأن الضوء كان يضر به. وبينما كنا في طريق العودة من عند آل كاربينسكي، عبر شوارع جنيف الخالية، التي بدت أكثر وحشة من أي وقت مضى، قال إيليتش: “لدي شعور كما لو أني جئت إلى هنا لأدفن”»[99].

كانت مخاوف لينين مفهومة. كانت حالة المنفيين الروس أسوء بكثير من أي وقت مضى. نضبت الأموال، مما خلق مشقة مروعة لهؤلاء الأشخاص الذين كانوا أصلا يعانون معنويا وماديا. وكان البلاشفة هم من عانوا أكثر من الاعتقالات في فترة الردة الرجعية، لأن التصفويين كانوا قد اقتصروا أساسا على الأنشطة القانونية. كان البلاشفة يمتلكون أموالا أقل مما كان متوفرا للمناشفة، الذين كان ما يزال يمكنهم الاعتماد على داعمين أثرياء من الانتلجنسيا. ولهذا السبب بالتحديد احتمل لينين استمرار عمليات “المصادرة” لفترة أطول مما هو مبرر حقا من وجهة النظر السياسية البحتة. في يناير 1908، كتب لينين رسالة إلى الاشتراكي الانجليزي، ثيودور روثشتاين، مؤكدا على الوضع المالي الرهيب:

«الكارثة الفنلندية، واعتقال العديد من الرفاق، ومصادرة الأوراق، والحاجة إلى نقل المطابع، وإرسال العديد من الرفاق إلى الخارج، كل ذلك تطلب نفقات ثقيلة وغير متوقعة. إن المحنة المالية للحزب أكثر خطورة لأنه خلال عامين فقد الجميع عادة العمل بشكل غير شرعي وتم “إفسادهم” بالعمل الشرعي أو شبه الشرعي. والآن يتعين علينا أن نعيد بناء المنظمات السرية من الصفر تقريبا. وهذا يكلف الكثير من المال. جميع المثقفين والجبناء يتخلون عن الحزب؛ إن هجرة الانتلجنسيا هائلة. أما الباقون فهم بروليتاريون خالصون لا يمتلكون أي قدرة على جمع المساهمات المالية بشكل علني»[100].

كان النقص الحاد في الأموال يعني أنه لم تعد هناك أي إمكانية لمساعدة ذلك العدد الكبير من المنفيين الذين تدفقوا إلى الخارج. في منتصف دجنبر 1908، انتقل لينين إلى باريس مع كروبسكايا ووالدتها. كانت حياة المنفيين هناك أسوء مما كانت عليه في جنيف لأنه كان هناك الكثير منهم. أنشئ صندوق للمساعدة، لكنه كان ضعيف الموارد ولا يمكن استخدامه إلا في حالات الضرورة القصوى. كان لينين يعيش على كتابة المقالات وتلك المبالغ الصغيرة التي كانت والدته ترسلها له من وقت لآخر. كان الفقر والاكتئاب والمرض الشيء المشترك بين المنفيين. أصيب بعضهم بالجنون وانهوا حياتهم في مصحات المجانين، وانتهى الأمر بالبعض الآخر وحيدين في المستشفيات، أو في أعماق نهر السين. كان الوضع محبطا. وتذكر كروبسكايا حالة رجل كان قد قاتل في انتفاضة موسكو وكان يعيش الآن في ضاحية الطبقة العاملة في باريس، متقوقعا على نفسه. في أحد الأيام صار مجنونا وصار يتصرف بطريقة غير متزنة. والدة كروبسكايا التي فهمت بأن الهذيان جاء بسبب المجاعة، قدمت للرجل بعض الطعام، وتتذكر كروبسكايا: «بدا إيليتش شاحبا من الحزن عندما جلس بجانب الرجل. ذهبت للبحث عن طبيب نفسي، كان صديقا لنا، جاء الطبيب النفسي وتحدث إلى المريض وقال إن هذه حالة خطيرة من الجنون ناجمة عن المجاعة التي لم تصل بعد المرحلة النهائية؛ سوف تتطور إلى هوس الاضطهاد، ومن ثم من المرجح أن يقدم المريض على الانتحار»[101]. كان هذا مصير المنفيين الروس خلال سنوات الردة الرجعية الستوليبينية المظلمة.

على الرغم من أن المؤتمر الخامس مثل خطوة هامة إلى الأمام بالنسبة للبلاشفة، فإنه لم يغير حقيقة أن الحركة داخل روسيا كانت تواجه أوقاتا صعبة للغاية. كان البلاشفة يستقطبون اهتمام القطاعات الأكثر جذرية بين العمال والشباب، لكن الوضع العام كان كئيبا. أدى انقلاب الثالث من يونيو إلى انفتاح فترة من الرد الرجعية الحادة. في عام 1907، كان مجموع أعضاء الحزب اسميا هو 100.000 عضو. لكن هذا الرقم عانى من انهيار سريع. وحدها منطقة القوقاز هي التي كان الانخفاض فيها أقل حدة إلى حد ما، لكنها كانت معقل المناشفة. كانت عدد أعضاء المنظمة البلشفية في بيترسبورغ قد بلغ 6778 عضوا أوائل عام 1907. بعد عام واحد انخفض الرقم بالنصف إلى 3.000، لكن بحلول عام 1909، لم يعد هناك سوى 1.000 عضو فقط. وبحلول ربيع عام 1910، حصرت الأوخرانا مجموع الأعضاء في 506 أعضاء فقط[102]. استمرت غارات الشرطة في بث الفوضى في منظمات الحزب السرية المستنزفة بشدة. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1908 ضربت الشرطة مرة أخرى، وركزت هذه المرة على منظمي الحزب في مناطق معينة من موسكو وبيترسبورغ. وقد اضطر عضو باللجنة البلشفية في بيترسبورغ للاعتراف بأنه بعد اعتقالات الربيع “توقف العمل في المقاطعات تقريبا…”[103].

لم يكن هذا كل شيء. فالصراعات الداخلية والانقسامات جعلت لينين معزولا بشكل كامل تقريبا داخل فصيله. وبعد طرد جماعة بوغدانوف، كان الاتجاه السائد في القيادة هو ما يسمى بالفصيل التوفيقي، الذي كان أقل ميلا إلى اتباع قيادة لينين. بعد سنوات عديدة وصف تروتسكي الحالة خلال تلك السنوات القاتمة في مقابلة مع س. ل. ر. جيمس (“جونسون”)، قائلا:

«جيمس: كم كان عدد أعضاء الحزب البلشفي؟
تروتسكي: في عام 1910 كان هناك في البلاد كلها بضعة عشرات من الأشخاص. كان بعضهم في سيبيريا، لكنهم لم يكونوا منظمين. كان الأشخاص الذين يمكن أن يتواصل معهم لينين عن طريق المراسلة، أو عن طريق وسيط، يبلغ نحو 30 أو 40 شخصا على الأكثر. ومع ذلك، فقد كانت التقاليد والأفكار بين العمال الأكثر تقدما بمثابة رأسمال هائل استخدم في وقت لاحق خلال الثورة، لكننا عمليا كنا معزولين تماما في ذلك الوقت»[104].

يشهد زينوفييف على دقة هذه الأرقام حيث كتب: «كانت سنوات الثورة المضادة الستوليبينية هي الأكثر حرجا وخطورة على بقاء الحزب. وبالعودة إلى تلك الفترة الصعبة، يمكننا القول دون أدنى تردد إن الحزب، بالمعنى الحقيقي للكلمة، لم يعد موجودا. لقد تفكك إلى حلقات فردية صغيرة لم تكن تختلف عن حلقات سنوات الثمانينيات وأوائل التسعينيات [القرن 19] إلا في أن المناخ العام السائد فيها كان هو الإحباط، في أعقاب الهزيمة القاسية التي تكبدتها الثورة»[105]. كانت الصعوبات التي تواجه الحزب في العمل السري غير مسبوقة. وقال شابيرو: «في غضون عام واحد بعد المؤتمر الخامس، صارت العديد من المنظمات التي كانت تضم مئات الأعضاء لا تضم سوى العشرات». ويقدر نفس المؤلف أنه: «في صيف عام 1909، كانت هناك فقط خمس أو ست لجان بلشفية تعمل»[106]. القصة نفسها كررها العديد من المؤلفين المختلفين، قال ستيفن كوهين: «لم يعد يوجد أكثر من خمس أو ست لجان بلشفية تعمل في روسيا، وفي نهاية عام 1909، لم تعد منظمة موسكو تضم سوى 150 عضوا فقط»[107].

وتتذكر كروبسكايا الموقف قائلة:

«كانت أوقاتا صعبة. في روسيا كانت المنظمات تتحول إلى شظايا. وقد تمكنت الشرطة، بمساعدة من العملاء المندسين، من اعتقال عمال الحزب البارزين. أصبحت الاجتماعات الكبيرة والمؤتمرات مستحيلة. ولم يكن من السهل على الناس، الذين كانوا منذ وقت قصير فقط يخطبون في الحشود، أن يذهبوا تحت الأرض. وفي الربيع (أبريل – ماي) ألقي القبض في الشارع على كامينيف ووارسكي (وهو اشتراكي ديمقراطي بولندي وصديق حميم لدزيرجينسكي وتيسكا وروزا لوكسمبورغ). وبعد بضعة أيام، ألقي القبض أيضا على زينوفييف، ثم ن. أ. روزكوف (وهو مناضل بلشفي، عضو في لجنتنا المركزية)، في الشارع. كانت الجماهير قد انكفأت على نفسها، أراد الناس أن يفكروا في الأمور، وحاولوا أن يفهموا ما حدث. كان النشاط التحريضي بشكل عام قد تراجع ولم يعد يرض أي شخص. كان الناس ينضمون بسهولة إلى حلقات الدراسة، لكن لم يكن هناك أحد ليتولى مسؤوليتهم. وقد وفر هذا المناخ تربة مواتية للأوتزوفية [النزعة المقاطعاتية]»[108].

وبصعوبة بالغة تمكن المركز البلشفي من الحفاظ على العلاقات مع المجموعات المحلية في روسيا، باستخدام أساليب سرية. وجد أوسيب بياتنيتسكي نفسه مرة أخرى مسؤولا عن إرسال الوثائق السرية إلى روسيا، وخـاصة الصحف البلشفيــة: Proletary  وSotsial Demokrat – تماما كما في الفترة القديمة السيئة، قبل 1905. كان مقر المركز الخارجي لهذا النشاط هو لايبزيغ، أما مقر المركز الداخلي ففي مينسك. وكما كان الحال عليه قديما، كان ذلك العمل مراقبا عن كثب من طرف جهاز الأوخرانا القيصري، الذي تسلل عميله زيتوميرسكي إلى موقع رئيسي في التنظيم البلشفي بالخارج. صادق المؤتمر الخامس على طريقة جديدة لانتخاب قيادة الحزب على جميع المستويات، ونظرا للمشاكل الأمنية الحادة، كان ينبغي لذلك أن يشمل التعيين. ولما كان أغلب القياديين قد وقعوا ضحية لمداهمات الشرطة (التي كان يوجهها على نحو فعال أمثال زيتوميرسكي)، فقد كان يتوجب تعيين اناس جدد لسد الثغرات.

ووصفت رسالة من الأورال الوضع كما يلي:

«قوانا الأيديولوجية تذوب مثل الثلج. إن العناصر التي تتجنب الانضمام إلى المنظمات غير القانونية بشكل عام… والذين انضموا إلى الحزب فقط في وقت الانفتاح والحرية التي كانت موجودة آنذاك في العديد من الأماكن، قد تركوا منظمات حزبنا الآن»[109].

ولخص مقال في الجريدة المركزية للحزب الموقف قائلا: «المثقفون، كما يسمون، صاروا ينسحبون أفواجا أفواجا خلال الأشهر الأخيرة». وتعليقا على ذلك كتب لينين:

«لكن تحرر الحزب من المثقفين أشباه البروليتاريين، البرجوازيين الصغار، قد بدأ يوقظ للحياة الجديدة القوى الجديدة البروليتارية الصرفة التي كسبت خلال فترة النضال البطولي للجماهير البروليتارية. إن منظمة كوليباكي نفسها التي كانت، كما يبين الاقتباس الوارد في التقرير، في حالة يائسة -وحتى “ميتة”- قد تم إحياؤها، وبدأت تتحرك. نقرأ: “أعشاش الحزب بين العمال المنتشرة بأعداد كبيرة في جميع أنحاء المنطقة، والتي هي في معظم الحالات دون أي قوى فكرية ودون أدبيات، بل وحتى من دون أي علاقة مع مراكز الحزب، لا تريد أن تموت… عدد الأعضاء المنظمين لا يتناقص بل يزداد… لا يوجد مثقفون، وعلى العمال أنفسهم، الأكثر واعيا بينهم، أن يواصلوا العمل الدعائي”. والاستنتاج العام الذي تم التوصل إليه هو أنه: “في عدد من الأماكن بدأ العمل المسؤول يمر إلى أيدي العمال المتقدمين بسبب هروب المثقفين.”» (Sotsial-Demokrat، رقم 01، 28)[110].

لكن كان لذلك عيوبه أيضا، حيث فقد الحزب، بطريقة أو بأخرى، الكثير من أكثر أعضائه خبرة. كان المنخرطون الجدد ضعيفو التكوين وعديمو الخبرة في العمل السري، مما جعلهم أهدافا أسهل للشرطة. ومن جهة أخرى، كان من الأسهل بكثير على الشرطة إدخال عملائها في اللجان السرية، التي سرعان ما صارت ممتلئة بالجواسيس والمحرضين. ومن أجل تشديد الإجراءات الأمنية، تم تغيير أساليب الانتخاب لتتلاءم مع الظروف الجديدة. كان على المنظمات المحلية أن تتبنى طرقا مختلفة لانتخاب لجانها، مما كان يعكس متطلبات العمل السري. في موسكو، وبدلا من انتخاب اللجان في اجتماع عام، صارت تنتخب في اجتماعات محلية أصغر. في البداية كانت هناك خلايا ولجان ومجموعات حزبية في جميع المصانع الكبيرة، لكن مع مرور الوقت وتكثيف الشرطة لبحثها عن المناضلين، تعطلت لجان الحزب بشكل متزايد وانخفضت العضوية النشيطة إلى أدنى مستوياتها. كقاعدة عامة كان من المفترض أن تجتمع لجان المقاطعات مرة واحدة في الشهر، في حين كان على اللجنة التنفيذية للمقاطعة أن تجتمع أسبوعيا. لكن من المشكوك فيه ما إذا تم الحفاظ على هذا النظام حقا في معظم المناطق. وبشكل عام لم تكن هناك سوى أعداد صغيرة، وكانت تلك المجموعات التي بقيت نشطة تعمل بشكل مستقل.

غير أن هذه التغييرات لم تفعل شيئا يذكر لحماية الحزب من رقابة الشبكة المتزايدة باستمرار من الجواسيس والمحرضين الذين تمكنوا، في مناخ الإحباط السائد، من التسلل إلى أعلى المواقع واللجان:

«تمكن الدرك من قراءة النص غير المرئي للرسالة وزاد عدد سكان السجون. أدى الخصاص في القوى الثورية إلى خفض معايير اللجنة بشكل حتمي. وقد أدى تقلص فرص الاختيار إلى تمكين عملاء سريين من تسلق التسلسل الهرمي للمنظمات السرية. بإشارة من اصبعه كان في مقدور العميل المندس أن يتسبب في اعتقال أي ثوري يعرقل تقدمه. وقد أدت محاولات تطهير التنظيم من العناصر المشكوك فيها إلى انطلاق اعتقالات جماعية على الفور. وقد أدى مناخ الشك وعدم الثقة المتبادل إلى عرقلة جميع المبادرات. وبعد عدد من الاعتقالات المحسوبة بشكل جيد، صار العميل المندس كوكوشكين على رأس منظمة المقاطعة بموسكو في بداية عام 1910. كتب أحد المشاركين النشطين في الحركة: “لقد تحقق المثل الأعلى للأوخرانا. صار العملاء السريون على رأس جميع منظمات موسكو”. لم يكن الوضع في بيترسبورغ أفضل بكثير. “يبدو أن القيادة قد سحقت، لم تكن هناك أي وسيلة لاستعادتها، لقد قضم العملاء الاستفزازيون أعضاءنا الحيوية، وانهارت المنظمات…”. في عام 1909، كان في روسيا خمس أو ست منظمات نشطة؛ لكنها هي أيضا سرعان ما غرقت في الجمود. وانخفض عدد الأعضاء في منظمة مقاطعة موسكو، التي كانت تصل إلى 500 عضو خلال نهاية عام 1908، إلى 250 في منتصف العام التالي وبعد ستة أشهر أخرى إلى 150؛ وفي عام 1910 لم تعد المنظمة موجودة».

في أوائل عام 1909 كتبت كروبسكايا بيأس: «لم يعد لدينا مناضلون على الإطلاق. كلهم متناثرون في السجون والمنافي»[111]. وفي نهاية مارس 1910، اشتكى لينين قائلا: «هناك عدد قليل من القوى في روسيا. آه لو كان في مقدورنا أن نرسل من هنا عامل حزب جيد إلى اللجنة المركزية أو لعقد كونفرانس! لكن كل من لدينا هنا “أموات”»[112].

المناشفة الموالون للحزب

في نفس ذلك الوقت كان للمناشفة بدورهم مشاكلهم الخاصة. لقد أصبح خطر التصفوية واضحا، ليس فقط بالنسبة للبلاشفة، بل أيضا لعدد متزايد من قواعد المناشفة. كما أثارت انتهازية الفريق البرلماني استياء العمال المناشفة. وبحلول نهاية 1908، حدثت عملية تمايز داخلي في صفوفهم. بدأ العديد من العمال المناشفة يقطعون مع التصفويين الذين وجدوا أنفسهم معزولين سياسيا. وقد دافع “المناشفة المؤيدون للحزب”، برئاسة بليخانوف، عن الحفاظ على التنظيم الحزبي السري، وانتقلوا بشكل موضوعي نحو البلاشفة. بعد وقت قصير على المؤتمر الخامس انسحب بليخانوف من هيئة تحرير صحيفة Golos Sotsial Demokrata  (صوت الاشتراكي الديمقراطي)، وأصدر جريدته الخاصة Dnevnik (اليومية)، التي شن من خلالها هجوما عنيفا على “المرتدين الشرعيين”. فظهرت على نطاق واسع المجموعات المحلية المستقلة المتعاطفة مع مواقف بليخانوف، خاصة بين المنفيين في باريس وجنيف ونيس وسان ريمو.

قدم هذا التطور غير المتوقع مساعدة للينين، إذ لم يبين فقط وجود أمل في إعادة توحيد الجناح الثوري للحزب على أساس مبدئي، بل كان من شأنه أن يغير جوهريا موازين القوى بين الفصائل المتصارعة. وعلى الرغم من كل الصراعات والكلمات القاسية التي استعملت في الماضي، أظهر لينين حماسا كبيرا لعودة معلمه القديم إلى المعسكر الثوري. ربما كان لينين يأمل في أن يساعده الاتحاد مع بليخانوف في التغلب على التيارات اليسارية المتطرفة داخل فصيله. خلال المفاوضات الحرجة مع المناشفة الموالين للحزب، أظهر لينين كلا من المهارة والحساسية. وعلى الرغم من أن البلاشفة كانوا أكبر بكثير من الناحية العددية من البليخانوفيين، فإن لينين كان حريصا على عدم عرض العلاقة بين الاتجاهين بمصطلحات التفوق، بل باعتبارها نموا مشتركا لمجموعتين متساويتين من الرفاق المتوافقين في الفكر. كان عليه أن يأخذ بعين الاعتبار المميزات الشخصية لبليخانوف الشديد الحساسية، والذي كتب: «أعني التقارب المتبادل، وليس تحول المناشفة إلى وجهة نظر البلاشفة»[113]. وقد أظهر لينين براعة كبيرة في هذا الصدد:، حيث قال: «أنا أتكلم عن التقارب المتبادل، وليس عن تحول المناشفة إلى وجهة نظر البلاشفة»[114].

هذا هو لينين الحقيقي، والذي يبعد ألف سنة ضوئية عن الصورة الكاريكاتيرية التي تظهره كعصبوي جامح وغير متسامح، والتي حاول النقاد الخبثاء عديمي النزاهة تقديمه بها. ومن ناحية أخرى، فإن اعتبارات اللباقة والدبلوماسية بالنسبة إلى لينين لم تكن تتفوق أبدا على ضرورة الوضوح السياسي. إن ما كان مطلوبا هو: «اتفاق على أساس النضال من أجل الحزب ومبادئ الحزب ضد التصفويين، دون أي تنازلات أيديولوجية ودون أي تستر عن الاختلافات التكتيكية وغيرها من الآراء داخل حدود خط الحزب»[115].

من خلال تشكيله لكتلة مع لينين لمكافحة الانتهازية والنزعة اليسراوية المتطرفة، قدم مؤسس الماركسية الروسية [بليخانوف] آخر خدمة له لقضية الطبقة العاملة الثورية وحزبها. اقترب بليخانوف من تحقيق القطيعة مع المناشفة في ذلك الوقت، وأيد لينين ضد كل من التصفويين والأوتزوفيين [المقاطعين]، لكنه في النهاية أثبت أنه غير قادر على الذهاب في الطريق حتى آخره. لقد رفض الوحدة مع البلاشفة، وهو ما شكل عائقا هائلا، ومنع المناشفة الموالين للحزب من الانتقال إلى المعسكر الثوري المنسجم. لقد تكرر هذا السيناريو مرات عديدة في تاريخ الحركة العمالية الأممية، حيث أنه، في ظل ظروف معينة، يمكن للإصلاحيين اليساريين أو للقادة الوسطيين النزهاء، الانتقال إلى معسكر الماركسية الثورية. لكن التاريخ يدل على أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة. في كثير من الأحيان، تعمل العادات الذهنية وروتين فترات طويلة من الركود، والارتباك والتذبذبات التي تنبع من التشوش وعدم الرغبة في تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة، بمثابة كوابح قوية لمنع هذه السيرورة من أن تؤتي ثمارها. إن مثل هؤلاء الأفراد -حتى أفضلهم، مثل بليخانوف ومارتوف- يميلون إلى الارتداد في لحظة الحقيقة ويغرقون مرة أخرى في مستنقع السياسة الانتهازية.

غير أن الجبهة الموحدة مع مجموعة بليخانوف أعطت، لفترة من الزمن، حيوية جديدة لمؤيدي لينين. كتب أوردزونيكيدز إلى لينين: «أرحب من كل قلبي بانعطافة بليخانوف… إذا كان الآن سيأخذ حقا موقفا ثابتا، فإن ذلك سيكون بلا شك قيمة مضافة للحزب»[116]. لكنه للأسف لم يكن كذلك. لقد اقتصر تقارب بليخانوف مع البلشفية بشكل حصري تقريبا على المسألة التنظيمية، أما سياسيا فقد استمر في مدار المنشفية، مترددا في قطع الحبل السري الذي يربطه إلى أصدقائه القدامى، وانحرف بشكل حتمي إلى اليمين مرة أخرى، لكن بشكل نهائي هذه المرة. خلال الحرب العالمية الأولى، وجد نفسه في معسكر النزعة الوطنية الرجعية. كان الرجل العظيم ميتا من وجهة نظر الثورة، لكن في تلك اللحظة كان للتعاون بين اللينينيين وبين “البليخانوفيين” تأثير إيجابي، إذ أن العديد من العمال “المناشفة الموالين للحزب” انتقلوا في وقت لاحق إلى صفوف البلاشفة.

توترات داخل هيئة تحرير جريدة “بروليتاري”

كانت الضرورة الأولى والأكثر إلحاحا هي حل الصراع المتصاعد مع الأوتزوفيين اليسراويين المتطرفين. في يونيو 1909، اجتمعت هيئة التحرير الموسعة لجريدة “بروليتاري” في باريس. وأعرب لينين عن أمله في الاستفادة من هذا الاجتماع من أجل تقوية صفوف قيادة الفصيل البلشفي. كان ذلك، في الواقع، اجتماعا لقيادة الفصيل البلشفي. وفي ذلك الاجتماع حدث صراع حول مسألة هامة تكشف بشكل واضح تماما الفرق بين اللينينية وبين النزعة اليسرواية المتطرفة. دعا بوغدانوف إلى عقد “مؤتمر بلشفي خالص”، أي أنه كان يريد أن يفصل البلاشفة عن حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ويدفع بهم لأن يشكلوا حزبا منفصلا. لقي مطلب عقد “مؤتمر بلشفي خالص” الدعم من قبل بلاشفة يسراويين متطرفين آخرين وهم: شانتسر وليادوف وسوكولوف (فولسكي). إن هذه الدعوة العصبوية إلى تشكيل أحزاب ثورية “مستقلة”، سواء كان حزبا من عضوين اثنين أو مليونين من الأعضاء، هي نغمة مألوفة عند اليسراويين المتطرفين على مر التاريخ. ليس لهذه الفكرة أية علاقة مع تكتيكات لينين الماهرة والمرنة، التي كانت موجهة دائما بضرورة التواصل مع الجماهير. كانت المهمة الأولى هي كسب الفئات المتقدمة من الطبقة العاملة، التي كانت في روسيا منظمة في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي. لم يكن صعود الجناح التصفوي اليميني في الحزب الاشتراكي الديمقراطي حجة لانشقاق الجناح الثوري، بل على العكس من ذلك، كان ذلك دافعا لمضاعفة النضال من أجل هزيمة الجناح اليميني داخل الحزب وتخليص العمال من نفوذه. وعلى نتائج هذا النضال اعتمد مستقبل الثورة في روسيا.

كانت حجة بوغدانوف حول الانشقاق عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي من أجل تأسيس حزب ثوري “مستقل” خاطئة حتى النخاع. في الواقع كان البلاشفة دائما مستقلين، بمعنى أنهم لم يقدموا أي تنازل فيما يخص الدفاع عن برنامجهم وسياستهم ونظريتهم الثورية. لكن هذا غير كاف، إذ من الضروري إيجاد طريقة لإيصال تلك الأفكار الثورية إلى الطبقة العاملة، بدءا من الفئات الأكثر تقدما وتنظيما. وبقدر ما كان جزء كبير من العمال المنظمين في روسيا ما يزالون تحت تأثير المناشفة، فإنه كان من الضروري مواصلة النضال داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي من أجل كسب الأغلبية. كانت تلك هي سياسة لينين. لكن من أجل القيام بذلك، كان من الضروري تنظيم الجناح الثوري بشكل منفصل، باعتباره فصيلا داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. كانت للبلاشفة قيادتهم الخاصة ومنشوراتهم الخاصة التي تدافع عن مواقفهم الثورية وتشن نضالا مستمرا ضد الجناح اليميني للحزب. أي “استقلال” أكثر من هذا كان مطلوبا؟ الإعلان الرسمي عن حزب منفصل؟ كان ذلك سيكون مجرد خطوة بدون معنى، أو أسوأ من ذلك: مغامرة. كان قبول تلك السياسة المتطرفة سيحكم على البلاشفة بالعجز العصبوي ويسلم الحزب إلى الإصلاحيين على طبق من ذهب. كان موقف بوغدانوف بشأن هذه المسألة مظهرا آخر من مظاهر المزاجية اليسراوية المتطرفة التي نشأت عن نفاذ الصبر والإحباط.

ما زاد من اشمئزاز البوغدانوفيين هو أن اللقاء لم يكتف برفض طلب عقد “المؤتمر البلشفي الخالص” فحسب، بل أكد أيضا على ضرورة التقارب مع المناشفة الموالين للحزب. يزعم المؤرخون السوفيات أن هذا اللقاء عمل على “طرد” بوغدانوف، لكن هذا غير صحيح، فعلى الرغم من السلوك الاستفزازي للغاية الذي نهجه بوغدانوف وأتباعه، فإنه لم يتم طردهم من صفوف البلاشفة في اجتماع باريس، الذي اكتفى بإعلان أن الفصيل البلشفي “لا يتحمل أي مسؤولية” في أنشطتهم. كان هذا الانفصال العلني للبلاشفة عن النزعة اليسراوية المتطرفة هو الشرط المسبق للتقارب مع المناشفة المواليين للحزب، لكن على أية حال كان من الواضح أن القطيعة أمر لا مفر منه. كما صوت الاجتماع أيضا على قرار إصدار تعليمات لممثل بروليتاري في اللجنة المركزية «باتخاذ موقف الدفاع الواضح عن مادية ماركس وإنجلز الجدلية في المسائل الفلسفية، إذا ما طرح ذلك داخل اللجنة المركزية». لم يلاق هذا الموقف الإجماع، حيث صوت تومسكي ضده، بينما امتنع كامينيف عن التصويت، كما كان متوقعا.

بعد اجتماع هيئة التحرير الموسعة لجريدة “بروليتاري” في باريس، لم يتحسن الموقف، بل تدهور بسرعة إلى صراع مفتوح. لم يكن في نية مجموعة بوغدانوف القبول بقرار الأغلبية، بل انتقلت إلى الهجوم، وأصدرت منشورا تكتليا للدفاع عن موقف الأقلية في تحد لقرارات الاجتماع. ونتيجة لموقفه ذاك تعرض بوغدانوف للطرد من الفصيل البلشفي. تقول كروبسكايا: “كانت المجموعة البلشفية آخذة في التفكك”[117]، واشتكى لوناتشارسكي من “نفاد صبر” لينين، في حين نشر بوغدانوف وصفا مغرضا للمناقشات. رد الفبريوديون بخوض صراع مفتوح وعلني ضد الأغلبية البلشفية، ورفعوا توصية في لجنة بيترسبورغ ضد المشاركة في حملة انتخابات الدوما، فرد أنصار لينين بالدعوة إلى اجتماع للمقاطعات كان الحضور فيها كبيرا، حيث تمكنوا من الحصول على الدعم للموقف المعاكس. سفيردلوف، الذي خرج من السجن في خريف 1909، لعب دورا هاما في منظمة موسكو، وكان ذا نفع كبير. لكن موقف لينين لم يكن آمنا بشكل عام.

أعاد الأوتزوفيون تجميع صفوفهم بعد المؤتمر، وأنشأوا مركزا قياديا تكتليا خاصا بهم. جماعة بوغدانوف التي كانت تدرك أنها لن تتمكن بسهولة من هزيمة لينين في نقاش مفتوح، استغلت الثروة والعلاقات التي يمتلكها غوركي، الذي كان متعاطفا مع وجهات نظرهم الفلسفية، لتنظيم ما كان عمليا جامعة تكتلية في منطقة قرب جزيرة كابري الإيطالية. كما أصدر بوغدانوف ولوناتشارسكي جريدتهما الخاصة: فبريود (إلى الأمام). حاول لينين أن ينقل النضال إلى معسكر البوغدانوفيين بحيث أرسل أشخاصا إلى جامعة كابري، لكن النتيجة الوحيدة كانت هي تعميق الانقسام. كان العمال في روسيا غاضبين من سلوك الفبريوديين، لكنهم بشكل عام كانوا غاضبين من جميع المهاجرين ونزاعاتهم الفلسفية، التي كانت تبدو بعيدة عن المشاكل الواقعية على الأرض في روسيا. إلا أنه وعلى الرغم من كل شيء، فقد حاول لينين قصارى جهده إنقاذ على الأقل بعض المقاطعين من أنفسهم. وعلى النقيض من الصورة الواسعة الانتشار التي تصف لينين بأنه تكتلي فظيع، تذكر كروبسكايا:

«إيليتش يرد بقوة عندما يتعرض للهجوم، ويدافع عن وجهة نظره، لكن عندما تطرح مشاكل جديدة يتعين معالجتها ويجد أنه من الممكن التعاون مع خصمه، يكون إيليتش قادرا على الاقتراب ممن كان خصمه بالأمس كرفيق. لم يكن عليه أن يبذل أي جهد خاص للقيام بذلك. وهنا تكمن ميزة إيليتش الهائلة. كان دائما صلبا جدا عندما يتعلق الأمر بالمبادئ، وكان متفائلا كبيرا عندما يتعلق الأمر بالأشخاص. وعلى الرغم من الأخطاء العرضية في الحكم، فإن تفاؤله هذا كان، عموما، مفيدا جدا للقضية. لكن عندما لم تكن هناك إمكانية لاتفاق بشأن المسائل المبدئية، فإنه لم يكن هناك مجال للمصالحة»[118].

في يونيو 1909، كتب في جريدة بروليتاري اقتناعه بأن: «الرفيق ليادوف، الذي عمل لسنوات عديدة في صفوف الاشتراكية الديمقراطية الثورية، لن يبق لفترة طويلة في فصيل بناة الله “الأوتزوفيين” الجديد، بل سيعود إلى الحزب». يظهر هذا التفصيل مرة أخرى جانبا من طبيعة لينين الذي يعمل محترفو تشويه البلشفية كل جهدهم لإخفائه، أي التسامح والوفاء والصبر مع الناس، وهي الصفات الضرورية جدا لأي زعيم حقيقي. يتذكر غوركي عندما قال له لينين: «سوف يعود لوناتشارسكي إلى الحزب. إنه أقل فردانية من الاثنين الآخرين [بوغدانوف وبازاروف]. إن لديه موهبة طبيعية استثنائية. ولدي ضعف خاص تجاهه. أنا أحبه كرفيق رائع!»[119].[120]

لم يدخر لينين جهدا لمساعدة الأشخاص كلما أظهروا ميلا واضحا للتطور في اتجاه ثوري، كان يمد لهم يده ويدعوهم للعودة، وكان يضع جانبا الاختلافات السابقة وجدالات الماضي، مهما كانت مرة. لكنه لم يسمح أبدا بأن يؤدي البحث عن الوحدة إلى إخفاء المسألة المركزية التي هي ضرورة الدفاع عن نقاء الرسالة الثورية. فإذا كان ذلك يعني الانشقاق فليكن الانشقاق. وكما قال إنجلز في إحدى المرات: “إن الحزب يصبح قويا من خلال تطهير نفسه”. وبمجرد ما كان لينين يرى حتمية القطيعة فإنه يصير صارما كذلك.

تروتسكي والنزعة التوفيقية

اعتقد تروتسكي أنه كان من الممكن توحيد البلاشفة والمناشفة، أو بعبارة أصح: الاتجاه اليساري للمناشفة، الذي كان يمثله مارتوف على الخصوص. لم يكن تروتسكي الوحيد الذي تبنى تلك الفكرة، فقد تبادرت للينين نفسه، أكثر من مرة، فكرة الوحدة مع مارتوف، الذي كان دائما يعترف بميزاته الشخصية والسياسية. يتذكر لوناتشارسكي أن لينين استمر، حتى أواخر عام 1917، يأمل في التوصل إلى اتفاق مع مارتوف:

«وجهت سنوات المنفى ضربة قوية لمارتوف؛ ربما لم يسبق لنزعته المتذبذبة أن كانت بمثل هذا الوضوح، ولا ربما بهذا الألم. سرعان ما بدأ الجناح اليميني المنشفي يتعفن، وينحرف في اتجاه ما سمي بـ“التصفوية”. لم يكن مارتوف يرغب في أن ينجذب إلى هذا التفكك البرجوازي الصغير للروح الثورية. لكن “التصفويين” كان لهم تأثير على دان وكان لدان تأثير على مارتوف، وكما هي العادة سرعان ما جر “ذيل” المنشفية الثقيل مارتوف إلى القاع. كانت هناك لحظة عندما توصل فعليا إلى عقد اتفاق مع لينين، وذلك بفضل ضغط تروتسكي وإنوكنتي، اللذان كانا يحلمان بتشكيل وسط قوي لمواجهة اليسار المتطرف واليمين المتطرف. كان هذا الخط، كما نعلم، مدعوما بقوة من طرف بليخانوف أيضا، لكنه لم يدم طويلا، فقد اكتسب اليمين اليد العليا على مارتوف ونشب نفس الخلاف بين البلاشفة والمناشفة مرة أخرى. كان مارتوف يعيش في باريس. وهناك بدأت مرحلة الانهيار الذي هو دائما خطر كامن يحيق بالمنفيين. صارت السياسة تتحول إلى مسألة مشاحنات حقيرة، وبدأ شغفه بحياة المقاهي البوهيمية يهدده بتقليص قدراته الفكرية. ومع ذلك فإنه عندما اندلعت الحرب تمكن مارتوف ليس فقط من استعادة رباطة جأشه، بل وتمكن منذ البداية من أخذ موقف حازم للغاية»[121].

كان أمل تروتسكي هو تجميع كل العناصر اليسارية معا على أساس القطيعة مع اليمين التصفوي داخل المناشفة ومع اليسار المتطرف داخل البلاشفة. وعلى الرغم من أن تروتسكي كان من الناحية السياسية قريبا من البلاشفة، فإنه كان ينتقد ما اعتبره نزعة “تكتلية” عند لينين. كان يأمل في أن يعمل الجناح اليساري داخل المناشفة على القطع مع اليمين، ولذلك غضب مما كان يبدو له تشددا من جانب لينين. وابتداء من أكتوبر 1908، نجح في نشر جريدة أطلق عليها اسم برافدا (الحقيقة) كانت موجهة للتداول السري داخل روسيا، وقد حققت نجاحا كبيرا. صدرت برافدا من فيينا ومولها اثنان من المتعاطفين الأثرياء، هما: أدولف يوفي، الذي صار لاحقا دبلوماسيا بارزا في الدولة السوفياتية، قبل أن يقدم على الانتحار احتجاجا على البيروقراطية الستالينية، وسكوبيليف، ابن مالك شركة للنفط في باكو، الذي عاد للظهور في وقت لاحق وزيرا في الحكومة المؤقتة. كان من بين أسباب نجاح الجريدة الجديدة أنها كانت تكتب بأسلوب حيوي وشعبي وتتجنب اللهجة التكتلية المتشددة التي ميزت المنشورات الاشتراكية الديمقراطية السرية الأخرى. وبدلا من مهاجمة المنشورات الأخرى والمجموعات الأخرى، ركزت على شجب مشاكل الطبقة العاملة، وحاولت إيجاد أرضية مشتركة بين البلاشفة وبين يسار المناشفة. لاقى هذا الأسلوب شعبية كبيرة جدا بين العمال في روسيا، لكنه أثار غضب لينين الذي كان منخرطا في صراع على جبهتين وكان يشك في نوايا دعاة الوحدة، لكنه وجد نفسه أقلية بين صفوف قيادة فصيله، حيث كانت الميول التوفيقية قوية.

كان موقف تروتسكي الخاطئ من التنظيم مصدر خلافات لا نهاية لها مع لينين. وقد شهدت تلك الفترة أشد المواجهات بين لينين وتروتسكي، حيث ندد لينين بشدة بـ “النزعة التروتسكية”. لكن من الواضح أن لينين كان يقصد بـ “النزعة التروتسكية” موقف تروتسكي من التنظيم (أي النزعة التوفيقية) وليس مواقف تروتسكي السياسية التي كانت قريبة من البلشفية. وعلاوة على ذلك، فإن حدة الجدل بين الرجلين كان لها تفسير آخر، غير واضح للقارئ الحديث: إن قسوة لغة لينين في هذه الجدالات أملتها حقيقة أنه في نقده “للتروتسكية”، كان يهاجم في الواقع الميولات التوفيقية السائدة داخل قيادة فصيله بالذات. لكن هذه الحقيقة أخفيت لفترة طويلة تحت طبقة سميكة من الأكاذيب والافتراءات لتبرير سياسة البيروقراطية الستالينية وتشويه تاريخ البلاشفة القدماء الذين ناضلوا ضدها.

في الواقع، بدا، لبعض الوقت، كما لو أن تروتسكي قد صار قريبا من النجاح في مسعاه. كان العديد من القادة البلاشفة يتفقون معه حول مسألة الوحدة – أي أنهم كانوا يؤيدون، على وجه التحديد، الجانب الأضعف في موقف تروتسكي، وليس جانبه الأقوى. وفي اللجنة المركزية كان البلشفيان ن.ب. روزكوف وف.ب. نوغين ذوي نزعة توفيقية. علقت كروبسكايا على ذلك بسخرية قائلة: “كان نوغين توفيقيا يريد توحيد كل الأشياء وكل الأشخاص معا”[122]. وهكذا كان حال كامينيف وزينوفييف أيضا. وبالنظر إلى شعبية جريدة تروتسكي بين العمال في روسيا، فإن عددا من قادة البلاشفة كانوا يفضلون استخدامها لغرض الجمع بين البلاشفة وبين المناشفة الموالين للحزب. وفي اجتماع باريس لهيئة تحرير جريدة “بروليتاري”، اقترح كامينيف وزينوفييف، اللذان كانا آنذاك أقرب المتعاونين مع لينين، إيقاف إصدار “بروليتاري”، وأن يتم تبني برافدا باعتبارها الجريدة الرسمية للجنة المركزية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. حظي هذا الموقف بدعم قادة آخرين مثل تومسكي وريكوف. وتم تمرير الاقتراح رغم رفض لينين، الذي عارض ذلك باقتراح إصدار جريدة بلشفية ومجلة نظرية شهرية. وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط بحيث يستمر إصدار “بروليتاري”، لكن ليس أكثر من مرة واحدة في الشهر، وتم الاتفاق في الوقت نفسه على الدخول في مفاوضات مع تروتسكي بهدف جعل جريدته “برافدا” لسان حال اللجنة المركزية للحزب. تظهر هذه الحقيقة قوة الميول التوفيقية بين صفوف البلاشفة، كما تخبرنا الكثير عن موقف البلاشفة تجاه تروتسكي في تلك الفترة. نشرت محاضر اجتماع هيئة تحرير “بروليتاري” المشار إليها، في عام 1934، من أجل تشويه سمعة زينوفييف وكامينيف قبل قتلهما على يد ستالين، لكن سرعان ما تم إرجاعها لاحقا إلى الأرشيف، ولم يعد يشار إليها على الإطلاق[123].

كان لينين معزولا بشكل متزايد داخل فصيله بالذات، واضطر إلى تقديم التنازلات ضد موقفه رغم صحته، وذلك للحفاظ على الصفوف موحدة. كانت نفسية التوفيقيين البلاشفة مدفوعة بنوع من “السياسة العملية” التي تفخر بازدرائها الفاضح للنظرية والمبدأ، وتبحث دائما عن الطرق المختصرة، والتي دائما ما تتحول في النهاية إلى العكس. هذه العقلية الجبانة تنظر دائما إلى النضال من أجل الدفاع عن المبادئ بكونه نزعة “عصبوية”، وهو الاتهام الذي كثيرا ما وجهه خصوم لينين ضده. لقد اعتبر كامينيف ورفاقه التوفيقيون أنفسهم أكثر حكمة وأكثر واقعية من لينين، ربما ليس على صعيد النظرية، بل على صعيد البحث العملي عن حلول لمشاكل الحزب. في نوفمبر 1908، كتب كامينيف إلى بوغدانوف:

«إنني، في ما يتعلق “بالمشاحنات” التي اندلعت هنا، أقف في “منتصف الطريق” وآمل في البقاء هنا… إني أشعر بأنه مثلما التزمت بالنضال ضد المصالحة في عام 1904، فإنني ملزم بالنضال من أجلها الآن»[124].

وفي وقت متأخر من عام 1912، عندما كان لينين قد بدأ بالفعل في مسار الانشقاق النهائي عن الانتهازيين، تردد جزء كبير من القيادة، كما توضح ذلك كروبسكايا:

«من الواضح أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مكان داخل الحزب للأشخاص الذين عقدوا العزم مسبقا على ألا يلتزموا بقرارات الحزب. لكن النضال من أجل الحزب بالنسبة لبعض الرفاق اتخذ شكل النزعة التوفيقية؛ لقد أغفلوا الهدف من الوحدة وانحدروا إلى تبني موقف رجل الشارع الذي يسعى جاهدا إلى توحيد الكل مع الكل بغض النظر عن المواقف. وحتى إنوكنتي، الذي اتفق تماما مع رأي إيليتش بأن الشيء الرئيسي هو الاتحاد مع المناشفة الموالين للحزب، أي البليخانوفيين، كان حريصا جدا على الحفاظ على وحدة الحزب بحيث بدأ بدوره يميل نحو موقف تصالحي. إلا أن إيليتش صحح موقفه»[125].

بعودتنا إلى تلك الفترة يبدو أنه لا يمكن تفسير لماذا ضيع تروتسكي الكثير من الوقت في محاولة جمع ما لا يمكن جمعه، لكنه لم يكن الوحيد الذي فشل في فهم ما كان لينين يرمي إليه. يكفي أن نذكر اسم روزا لوكسمبورغ لنوضح هذه النقطة. فمثله مثل روزا، كان تروتسكي مخطئا، لكن خطأه كان خطأ ثوري صادق يضع نصب عينيه مصالح الطبقة العاملة والاشتراكية. وعلى الأرجح كان مصدر خطأه مشابها لها أيضا. كانت روزا لوكسمبورغ منذ البداية تكره الجهاز البيروقراطي المركزي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وقد بالغت في ذلك إلى درجة رفض المركزية في حد ذاتها. لم تفهم تماما موقف لينين، وصدقت الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها عنه المناشفة، فعرضت أفكاره التنظيمية إلى نقد قاس وغير عادل، أثر جزئيا على علاقاتهما، على الرغم من أنهما كانا من الناحية السياسية يقفان عادة في الجانب نفسه. كان تروتسكي يكره ضيق أفق محترفي الحزب البلاشفة، الذين كانوا يميلون إلى ابتذال المسائل السياسية الأكثر تعقيدا إلى مجرد مشاكل تنظيمية بسيطة، وصوروا العلاقة الجدلية بين الطبقة والحزب بطريقة ميكانيكية كانت تشبه الكاريكاتير أحيانا، مثلما حدث عندما طالبوا في سان بيترسبورغ مجلس سوفيات المدينة بأن يحل نفسه لما رفض قبول قيادة الحزب له. كان تروتسكي يميل إلى بناء موقفه من البلشفية ليس على أساس مواقف لينين، بل على أساس الصورة الكاريكاتيرية الميكانيكية عن أفكار لينين التي صورت بها البلشفية في دوائر معينة. أدى ذلك إلى إبقائه بعيدا عن البلاشفة، على الرغم من تقارب وجهات نظره السياسية مع آراء لينين، وذلك حتى عام 1917 عندما أدت التجربة الفعلية للثورة إلى حل جميع الخلافات القديمة.

لاحقا اعترف تروتسكي بأن لينين كان دائما على حق بخصوص هذه المسألة. وفي سيرته الذاتية فسر أساس خطأه قائلا:

«أعترف أنه فيما يتعلق بتصور مستقبل المنشفية ومشاكل التنظيم داخل الحزب، لم تصل البرافدا أبدا إلى دقة موقف لينين. كنت ما زلت آمل في أن الثورة الجديدة ستجبر المناشفة – كما فعلت عام 1905 – على إتباع مسار ثوري، لكنني قللت من أهمية الانتقاء الأيديولوجي المسبق والتكوين السياسي الصلب. وفيما يتعلق بمسائل التطور الداخلي للحزب، ارتكبت خطأ تبني نوع من القدرية الاشتراكية الثورية. كان ذلك موقفا خاطئا، لكنه متفوق بشكل كبير على تلك القدرية البيروقراطية، الخالية من الأفكار، التي تميز غالبية من ينتقدونني اليوم في معسكر الأممية الشيوعية»[126].

بعد وفاة لينين عمل الستالينيون، وكجزء من حملتهم الإجرامية لتشويه اسم تروتسكي، على تضخيم الاختلافات التي وقعت بين لينين وتروتسكي. لكن تلك الجدالات القديمة لم يعد لها أي أهمية بالنسبة للينين بعد عام 1917، عندما انضم تروتسكي إلى الحزب البلشفي واتخذ موقفا حازما ضد المصالحة مع المناشفة. في نوفمبر 1917، أي بعد ثورة أكتوبر، دعا “البلاشفة القدامى”، وعلى رأسهم كامينيف وزينوفييف، إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع المناشفة. في ذلك الوقت، قال لينين:

«أما بالنسبة للتحالف، فلا أستطيع أن أتكلم عنه بجدية. لقد قال تروتسكي منذ فترة طويلة إن الاتحاد مستحيل. لقد فهم تروتسكي ذلك، ومنذ ذلك الوقت لم يعد هناك بلشفي أفضل منه»[127].

جلسة يناير العامة

كتب تروتسكي:

«سنة 1910 وصلت الحركة أشد مراحل انحطاطها وعرفت أكبر انتشار للنزعات التوفيقية. في يناير، عقدت جلسة عامة للجنة المركزية في باريس، حقق فيها التوفيقيون انتصارا هشا للغاية. تقرر إعادة تشكيل اللجنة المركزية في روسيا بإشراك التصفويين. كان نوغين و جيرمانوف بلشفيان توفيقيان. وكان إحياء المنظمة الروسية -أي المنظمة السرية في روسيا- مهمة نوغين»[128].

إن ظروف الردة الرجعية السائدة، والصعوبات المروعة التي كان جميع الاشتراكيين الديمقراطيين يواجهونها، شجعت، على نحو مفهوم، العناصر التي كانت تحبذ الوحدة بأي ثمن. وبفعل هذه التحركات نحو الوحدة جاءت فكرة تنظيم جلسة عامة استثنائية لطرد التصفويين والأوتزوفيين وإقامة الوحدة بين البلاشفة وبين المناشفة الموالين للحزب. لكن لينين لم يكن مقتنعا بمحاولات الوحدة هذه. كتب لينين بسخرية أن تروتسكي دخل في كتلة مع أشخاص «لا يتفق معهم في أي شيء من الناحية النظرية، لكنه يتفق معهم في كل شيء عمليا»[129]. ما يعنيه لينين هو أنه في حين كان تروتسكي يختلف سياسيا مع التصفويين والأوتزوفيين، فإنه استمر يجادل لصالح النزعة التوفيقية والوحدة، وبالتالي وجد نفسه في كتلة غير مبدئية. لم ير لينين أي جدوى في المشاركة في جلسة عامة لعناصر تتبنى مواقف سياسية متعارضة. لكنه لم يعد أغلبية داخل المعسكر البلشفي بخصوص هذه المسألة. وقد ألمح في وقت لاحق، في رسالة إلى غوركي، إلى النقاش العنيف الذي دار بين القادة البلاشفة: “ثلاثة أسابيع من العذاب، كانت كل الأعصاب مشدودة…”[130]. لكن احتجاجات لينين ذهبت سدى، حيث كان في موقف الأقلية داخل الفصيل البلشفي، واضطر على مضض إلى مسايرة الجلسة.

في يناير 1910، وللمرة الأخيرة، اجتمع معا الممثلون الرئيسيون للتيارات المختلفة داخل الحزب في محاولة لحل خلافاتهم. عقدت الجلسة العامة في باريس، في الفترة من 02 إلى 23 يناير 1910. كان قادة جميع الفصائل حاضرين، باستثناء بليخانوف، الذي رفض الحضور، متعللا بالمرض. كان غياب المناشفة المؤيدين للحزب ضربة أخرى للينين، لأنه كان يفضل الوحدة مع جماعة بليخانوف. ونظرا للطبيعة غير المتجانسة للغاية لهذا التجمع، فقد كانت النتيجة محسومة سلفا. لا يكفي إعلان الوحدة من أجل التوصل إلى وحدة حقيقية، فإذا لم يكن هناك اتفاق مبدئي حول المسائل الأساسية، فإن مثل تلك المحاولة عادة ما تنجح فقط في توحيد ثلاث مجموعات في عشرة! كانت الخلافات التي تفصل بين مختلف المجموعات كبيرة جدا بحيث لم يكن من الممكن التغلب عليها من خلال قرارات تعلن ضرورة الوحدة. ولهذا السبب عارض لينين عقد ذلك اللقاء. وعوض “حل” المشاكل القائمة أدى ذلك الخليط من العناصر القابلة للاشتعال إلى حدوث انفجار فوري. أقرت الجلسة العامة، بضغط من لينين، قرارا يدين كلا من التصفوية والأوتزوفية باعتبارهما تأثيرات برجوازية داخل الحزب، غير أن أنصار هذين التوجهين أصروا لاحقا على تغيير هذا القرار، فطرحت مسألة الدعوة إلى كونفرانس للحزب لمحاولة حل المشكلة. أصر لينين على دعوة أكبر عدد من العمال المنخرطين في المنظمات السرية للحزاب إلى ذلك الكونفرانس، وكان ذلك هو الشرط الذي وافق البلاشفة بموجبه على تلك الفكرة. كما وافقت الجلسة العامة على منح جريدة تروتسكي “برافدا” إعانة شهرية ووضع كامينيف في هيئة تحريرها ممثلا عن اللجنة المركزية.

عرفت الجلسة نقاشا حول المالية. وقد أثار المناشفة فضيحة حول أموال البلاشفة، التي تم الحصول عليها من خلال عمليات “المصادرات” المثيرة للجدل. كما اندلع جدل أكبر حول مبلغ كبير من المال تركه للحزب المليونير سافا موروزوف. خلال وقت الجلسة العامة كان البلاشفة يمتلكون الكثير من المال بفضل ابن أخ موروزوف، نيكولاي شميدت، الذي أعدم في سجون القيصر بعد هزيمة دجنبر. كان نيكولاي، قبل مقتله، قد سرب رسالة لأصدقائه خارج السجن يوصي فيها بأنه يمنح كل ممتلكاته للبلاشفة. وبالإضافة إلى ذلك، قررت شقيقته الصغرى، إليزافيتا شميدت، التبرع بنصيبها من الميراث للبلاشفة. لكن ولأنها لم تكن قد بلغت السن القانونية فقد توجب تنظيم زواج صوري لها مع عضو في إحدى فرق القتال التابعة للحزب، مما وفر الأساس القانوني للعملية. بهذه الطريقة تمكن البلاشفة من الحصول على المال فورا، وهذا هو السبب الذي جعل لينين يكتب بثقة أن “بروليتاري” أصبحت قادرة الآن على دفع تكاليف المندوبين إلى الجلسة العامة. عندما اكتشف المناشفة حقيقة الوضع ثارت ثائرتهم، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها. كان هذا هو السبب في ذلك النوع من النزاعات الهستيرية والخلافات التي كثيرا ما سممت أجواء حلقات المنفيين.

لقد دفع البلاشفة ثمنا باهظا مقابل الوحدة. فبالرغم من احتجاج لينين، وافقوا على وقف نشر جريدتهم الرسمية “بروليتاري”. والأكثر إيلاما هو أن أموال الفصيل البلشفي سلمت إلى لجنة من الأمناء أنشأتها الأممية الاشتراكية. تم حل مسألة ميراث شميدت عندما تم تسليم تلك الأموال مؤقتا لهذه اللجنة، التي كانت تتألف من مهرينغ وكلارا زيتكين وكاوتسكي. كان لينين غير راض عن هذه القرارات، وأصر على الحق في استرجاع الجريدة والأموال إذا لم يقم المناشفة بدورهم بوقف إصدار جريدتهم “غولوس سوتسيال ديموكراتا” وحل جهازهم التكتلي، وقد أثبتت التطورات المستقبلية أنه كان على حق. وأخيرا تم إحراق ما تبقى من سندات 500 روبل من مخلفات مصادرة تيفليس.

ليس صحيحا أن يعزى فشل محاولة الوحدة إلى “عناد” لينين، كما يحدث في كثير من الأحيان. لقد كان المناشفة، في الواقع، هم العائق الرئيسي أمام الوحدة في تلك الفترة. كان البلاشفة قد طردوا الأوتزوفيين لذلك لم يكن لديهم أي مشكل في التصويت لصالح الوحدة، بينما كان الوضع مختلفا جدا في معسكر المناشفة، حيث كانت للتصفويين اليد العليا. كيف يمكنهم طرد التصفويين؟ كان ذلك سيعني انتحارا بالنسبة لهم، وهو ما لم يكن أحد منهم مستعدا حتى للتفكير فيه. وهكذا فعندما اتفق الفصيلان على حل جهازيهما التكتليان ودمجهما، قام البلاشفة فعلا بتنفيذ القرار بكل نزاهة، لكن المناشفة لم يفعلوا ذلك. واعترف مارتوف فيما بعد بأن المناشفة وافقوا على القرار فقط لأنهم كانوا أضعف من أن يتحملوا التعرض لخطر انشقاق فوري[131].

وفي نهاية الاجتماع، وفي خطوة جوفاء، تم انتخاب لينين وبليخانوف بالإجماع بوصفهما مندوبي الحزب إلى المؤتمر المقبل للأممية الاشتراكية. كان البلاشفة التوفيقيون قد حققوا هدفهم. وأرسل البلاشفة كامينيف إلى فيينا لتمثيلهم داخل هيئة جريدة تروتسكي “برافدا”، التي حصلت على إعانة منتظمة قدرها 150 روبل من اللجنة المركزية. لكن لينين ظل غير مقتنع، وكان حكمه على الجلسة العامة، التي عقدت في يناير، هو أنها شكلت تراجعا جزئيا من جانب البلاشفة من أجل الوحدة. لكن قراراتها كانت متناقضة ولم يكن من الممكن تنفيذها. لم يحل المناشفة مركزهم وواصلوا نشر جريدتهم غولوس. وبقي الاتفاق على إعادة الأموال للبلاشفة حبرا على ورق، فتلك الأموال التي وضعت تحت رعاية لجنة كاوتسكي بقيت في ألمانيا، حتى قامت وزارة المالية الألمانية في نهاية الأمر بمصادرتها، بعد اندلاع الحرب، واستخدمت في تمويل جهود الحرب.

انهيار “الوحدة”

بعد اجتماع باريس، كتب لينين إلى أخته آنا إليتشنا قائلا:

«لقد مررنا في الآونة الأخيرة بأوقات “عاصفة”، لكنها انتهت بمحاولة لعقد السلام مع المناشفة. أجل، أجل، هذا غريب كما قد يبدو؛ فقد أغلقنا الصحيفة التكتلية ونحاول جاهدين تعزيز الوحدة. سنرى ما إذا كان يمكن تحقيق ذلك»[132].

تظهر لهجة هذه الرسالة أن لينين كان متشككا منذ البداية في آفاق الوحدة، ومن الواضح من خلال عبارة “الأوقات العاصفة” أنه قد استعملت كلمات قاسية أثناء النقاش بين لينين وبين رفاقه التوفيقيين. لكنه اضطر في النهاية إلى إفساح المجال للمحاولة، على الرغم من تشككه، كما يظهر من قوله: “سنرى ما إذا كان يمكن تحقيق ذلك”. فمن أجل إقناع رفاقه كان من الضروري المرور عبر التجربة.

كتبت كروبسكايا:

«يعتقد إيليتش أنه يجب القيام بأكبر التنازلات في ما يخص القضايا التنظيمية، دون أن يتراجع ولو شبر واحد في ما يخص القضايا المبدئية»[133].

مباشرة بعد انتهاء الجلسة العامة استدعى لينين اجتماعا للفصيل البلشفي. تبين هذه الحقيقة أن الفصيلين استمرا في العمل تماما كما كانا من قبل. وبعبارة أخرى، فإن الجلسة العامة لم تحل أي شيء على الإطلاق. لم يكن يمكن لأي اتفاق مع المناشفة التصفويين إلا أن يكون مؤقتا وينهار حتما. من المستحيل مزج الثوريين مع الإصلاحيين مثلما هو من المستحيل مزج الزيت مع الماء. إن التباعد المتنامي بين البلاشفة والمناشفة جعل من جلسة يناير العامة مجرد هراء، مما ترك تروتسكي في كتلة غير طبيعية مع المناشفة، الذين لم يكن يجمعه معهم من الناحية السياسية أي شيء على الإطلاق. واصلت برافدا مناشداتها من أجل الوحدة، غير أن الواقع أثبت استحالة ذلك. حاول تروتسكي الدعوة إلى كونفرانس للحزب في نوفمبر 1910. وقد وصف لينين موقف تروتسكي بأنه “مغامرة غير مبدئية”. لينين الذي مر بتجربة توحيد الحزب منذ عام 1906، صار مقتنعا بالفعل بأن الانشقاق كان، عاجلا أو آجلا، أمر لا مفر منه. كان سلوك المناشفة التصفويين قد صار عقبة في طريق الطبقة العاملة. لم يكن لينين يتردد أبدا من التوصل إلى خلاصات جريئة عندما تتطلب مصالح الحركة ذلك، لكن كان عليه أن يعمل على إقناع رفاقه. وهو الشيء الذي لم يكن سهلا.

أدى نمو الحركة الثورية إلى زيادة حدة التناقضات داخل الحزب. وبينما كانت الجماهير تتحرك نحو اليسار، كان المناشفة التصفويون يتجهون أكثر نحو اليمين. كان من الواضح أن الأوضاع تقود في اتجاه الانشقاق. أظهر ذلك عدم جدوى المحاولات التوفيقية و“جلسة يناير العامة”. لقد أكدت الأحداث صحة تقييم لينين للجلسة العامة. فالتصفويون، كما رأينا، خرقوا جميع الاتفاقات. وحافظت الفصائل على مراكزها وأجهزتها التكتلية المنفصلة، ​​بينما استمرت تمدح فضائل الوحدة في العلن. وفي نفس اليوم الذي تلا أداء القسم بالولاء الذي لا يتزعزع للوحدة، بدأ التصفويون بتنظيم تكتل شرعي تحلق حول الصحيفتين الشرعيتين ناشا زاريا وديلو زيزني. كان هؤلاء (بوتريسوف وليفيتسكي، وغيرهما) يمثلون الاتجاه اليميني المتطرف داخل المناشفة. أما الفصيل المنشفي الآخر، المتحلق حول غولوس سوتسيال  ديموكراتا بزعامة مارتوف ودان وأكسلرود، فقد كانوا فقط “تصفويين خجولين”، يقفون أقرب إلى التصفويين اليمينيين منهم إلى الجناح الثوري الحقيقي للحزب. أما على “اليسار” فقد واصل الفبريوديون (بوجدانوف ولوناتشارسكي وألكسينسكي) أنشطتهم التكتلية بعد أن انشقوا عمليا عن البلاشفة، وبدأوا في تنظيم “الجامعات” التكتلية الخاصة بهم. ومن المفارقات أن الفبريوديين اليسراويين المتطرفين كثيرا ما وجدوا أنفسهم في تكتل غير مبدئي مع المناشفة ضد البلاشفة.

وخلف الواجهة، لم يستمر الصراع الفصائلي فحسب، بل احتد وتحرك لا محالة في اتجاه الانشقاق. استمرت جريدة المناشفة غولوس تصدر، وتشن الهجمات على مجموعات الحزب السرية وعلى المناشفة الموالين للحزب؛ كما عمل مارتوف ودان وأكسيلرود ومارتينوف على نشر “بيان” يدعو إلى إنشاء “حزب شرعي مفتوح”، وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى فإن الاتفاقات التي تم التوصل إليها خلال الجلسة العامة لم تكن تستحق حتى الورق الذي كتبت عليه. بحلول نهاية عام 1910، كان لينين قد بدأ يطالب بالفعل بإعادة الأموال البلشفية، لكن دون جدوى كما كان متوقعا. لم يندهش لينين لهذه النتيجة، فقد توقع ذلك، لكنه مر من تجربة الجلسة العامة، التي اعتبرها شخصيا “غبية” و“مدمرة”[134]، لإقناع رفاقه التوفيقيين باستحالة الاتفاق. وحذر لينين كامينيف قائلا: «أنا لا أرى أي إمكانية للقيام بعمل مثمر مع التصفويين، سواء اليمينين أو اليساريين، وخاصة مع تروتسكي، لكني لا أعترض على ذهابك إلى فيينا لأعطيك فرصة لترى بنفسك بأنني على حق»[135].

سرعان ما تبين أن لينين كان على حق، فكامينيف، الذي اختلف مع تروتسكي، قدم استقالته من هيئة تحرير برافدا، في 13 غشت 1910.

لكن حتى بعد أن أصبح واضحا أن المناشفة لن يحترموا قرارات الجلسة العامة، فإن التوفيقيين البلاشفة استمروا في محاولاتهم غير المجدية للوصول إلى “الوحدة”. أجرى الأعضاء البلاشفة في اللجنة المركزية مفاوضات لا نهاية لها مع التصفويين بهدف تنظيم اللجنة المركزية، لكنهم لم يحصلوا على أي نتيجة. يصف بياتنيتسكي، في مذكراته، فرحة التوفيقي نوغين بعد جلسة يناير العامة قائلا:

«في حين كان نوغين يخبرني عن قرارات الجلسة العامة كان يكاد يختنق من الفرح بحقيقة أنه صار أخيرا من الممكن توحيد المناشفة والبلاشفة للقيام بمهام عملية في روسيا (كانت الجلسة العامة قد نددت بقوة بالتصفويين والمقاطعين) ومن الآن فصاعدا سيشارك “الوطنيون” في العمل. لم يكن هناك سوى شيء واحد يثير قلقه، هو أن الرفيق لينين يعارض بشدة جميع قرارات الجلسة العامة التي تقدم تنازلات للمناشفة والقرارات التي تعرقل عمل البلاشفة بجعلهم يعتمدون على ممثلين عرضيين “للوطنيين”، على الرغم من أنه انضبط لقرار أغلبية أعضاء اللجنة المركزية البلشفية. قال لي نوغين بمرارة إن لينين لم يفهم الأهمية الحيوية لوحدة الحزب بالنسبة للعمل داخل روسيا»[136].

لم يكن لتلك الأوهام أي أساس من الصحة. سرعان ما بدأت قرارات الجلسة العامة تتهاوى. كان البلاشفة في وضع أضعف من ذي قبل. وصاروا الآن يعتمدون على ممثلي الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين والليتوانيين للدفاع عن قرارات لائقة داخل هيئة تحرير سوتسيال ديموكرات. كان وضعهم المالي أسوأ بكثير، وصاروا يعتمدون على مكتب اللجنة المركزية في الخارج للحصول على المال. كان موقفا لا يطاق. ومما زاد الأمور سوءا هو أن البلاشفة كانوا الوحيدين الذين نفذوا قرارات الجلسة العامة. كانت نتيجة السياسة التوفيقية سلبية تماما. في عام 1911، قال لينين، بحق، إن الجلسة العامة استنزفت قوة الحزب لأكثر من عام. ومع ذلك، فإن انتكاسة البلاشفة كانت ظاهرية أكثر مما كانت حقيقية، فالشيء الحاسم لم يكن هو التوليفات الاصطناعية التي تحدث في القمة، بل ما كان يحدث بين قواعد الحزب في روسيا. بعد فشل مغامرة يناير، استؤنفت عملية التقارب بين البلاشفة والمناشفة الموالين للحزب في جميع أنحاء روسيا: أوكرانيا وساراتوف وأورال ونيجني نوفغورود ولاتفيا وغيرها من المراكز، وكانت القوى الحقيقية للحزب منخرطة في عملية إعادة التجميع. داخل روسيا، دعمت الأغلبية العظمى من العمال المناشفة بليخانوف، وأصبحوا الآن أقرب إلى البلاشفة في العمل المشترك.

كان من الآثار الجانبية الهامة لهذه الأحداث أنها لعبت دورا أيضا في تطوير وعي لينين بالانتهازية كظاهرة أممية بسبب الدور الذي لعبه قادة الأممية في النزاع الداخلي للحزب الروسي. إلى حدود تلك اللحظة كان لينين يعتبر نفسه “كاوتسكيا” أرثوذكسيا، في الفترة التي وقف فيها كارل كاوتسكي – على الأقل ظاهريا- على يسار الأممية الثانية. لكن موقف المماطلة الذي تبناه كاوتسكي في ما يتعلق بالصراع بين الجناحين اليميني واليساري داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي أثار شكوكا جدية في ذهنه. لقد تفاجئ لينين من تصرف قادة الأممية الاشتراكية، وأصيب بصدمة عميقة بسبب السلوك اللامبدئي الذي قام به كاوتسكي والممثلون الآخرون للمنظمة الأممية الذين دعموا في الواقع التوفيقيين، ونشروا مقالاتهم في الصحافة الاشتراكية الديمقراطية الأممية. وقد تأكدت هذه الشكوك بعد غشت 1914، عندما قام كاوتسكي، إلى جانب جميع قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الآخرين، مع استثناء مشرف لكارل ليبكنخت، باقتراف خيانة مخزية لقضية الاشتراكية الأممية.

إن لهجة لينين الحادة تفسرها حقيقة أنه كان معزولا تماما، حتى داخل فصيله. كان بإمكانه أن يرى أبعد من الآخرين، لكنه كان عاجزا عن العمل بناء على حدسه. حتى هو نفسه لم يتوصل إلى استنتاج أن الانشقاق أمر لا مفر منه إلا بعد تردد كبير. وربما كان الخط الفاصل بالنسبة للينين هو عام 1910. لكن ومع ذلك فإن الانشقاق الرسمي لم يحدث إلا بعد مرور عامين. لم يكن هذا من قبيل الصدفة، فلينين كان يجد نفسه باستمرار في موقع الأقلية بين قيادة الفصيل البلشفي. لم يكن ذلك مفاجئا، فينبغي ألا ننسى أن فكرة الانشقاق بين الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين وبين الإصلاحيين كانت فكرة جديدة تماما (باستثناء فرنسا التي كانت قد شهدت في وقت سابق الانشقاق بين مؤيدي غيسد ومؤيدي جوريس، وبلغاريا، لكن هذه كانت استثناءات من القاعدة). أما على الصعيد الأممي فإن الانشقاق لم يحدث حتى عام 1914 – 1915. لكن فاجعة غشت 1914 كانت ما تزال حدثا ينتمي للمستقبل.

عشية التحول

يقال إن أحلك ساعة في الليل هي تلك التي تكون قبيل الفجر مباشرة. عشية اندلاع الثورة الجديدة، كان موقف لينين يبدو ميؤوسا منه، فمن بين ثلاثة مراكز قيادية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، كان اثنان (وهما المكتب الخارجي للجنة المركزية واللجنة المركزية داخل روسيا) تحت سيطرة التوفيقيين (وكذلك التصفويين بالنسبة للجنة المركزية داخل روسيا). وكان الأعضاء البلاشفة في اللجنة المركزية (في الداخل) توفيقيين (في البداية دوبروفينسكي وغولدنبرغ، ثم بعد اعتقالهما نوغين وليتيزن)، في سعي دائم لعقد الاتفاقات مع التصفويين (إيسوف وبرونشتاين ويرمولايف). كان لينين غاضبا من تكتيكات رفاقه، وألح على التقارب مع المناشفة الموالين للحزب وخوض نضال حازم ضد “الكتلة غير المبدئية” التي نتجت عن جلسة يناير العامة. أما خصومه فقد اكتفوا بهز أكتافهم واتهموه بـ “العصبوية”.

لم تكن الأمور أفضل بكثير داخل روسيا. فمباشرة قبل ​​الانتفاضة الجديدة، كانت المنظمات البلشفية تعيش حالة من الضعف الشديد. وفي ربيع عام 1911، وصف لينين موقف الحزب على النحو التالي:

«إن الوضع الحقيقي للحزب، في الوقت الحاضر، هو أن هناك، في كل مكان تقريبا، مجموعات وخلايا عمالية حزبية غير رسمية، صغيرة للغاية، وصغيرة جدا، تجتمع بشكل غير منتظم. إنهم في كل مكان يكافحون ضد التصفويين-الشرعيين في النقابات وفي النوادي، وما إلى ذلك. ليسوا مرتبطين مع بعضهم البعض، ونادرا جدا ما يتوصلون بأي أدبيات. إنهم يتمتعون بالاحترام بين العمال. في تلك المجموعات يتجمع البلاشفة وأنصار بليخانوف، وإلى حد ما “أنصار” فبريود، الذين قرأوا كتابات فبريود أو استمعوا لخطباء فبريوديين، لكنهم لم يتم سحبهم بعد إلى فصيل فبريود المعزول الذي أنشئ في الخارج»[137].

وفي دراسته للحركة العمالية بسان بيترسبورغ في ذلك الوقت، كتب روبرت ماكين ما يلي:

«بما أن كل المنظمات الثورية تمتنع عمدا عن الاحتفاظ باللوائح الصحيحة لأعضائها وحساباتها المالية، لأسباب الحفاظ على السرية، فإنه من المستحيل تماما رسم صورة دقيقة لحجم المنظمة السرية أو تكوينها الاجتماعي أو حالة مواردها المالية في بداية 1912. كان العدد الإجمالي للأعضاء قد تراجع كثيرا بلا شك وتغير باستمرار بسبب موجات متكررة من الاعتقالات. يجب التعامل بأكبر قدر من الحذر مع التقديرات التي نشرتها صحافة الحزب، على الرغم من أن حتى هذه الأخيرة تشهد بدورها على قلة عدد الأعضاء. ادعى فصيل لينين أنه يضم نحو 300 عضو في صيف عام 1911، مثلما فعلت “المجموعة المركزية للعمال الاشتراكيين الديمقراطيين” في نهاية العام. وخلال الكونفرانس البلشفي الذي انعقد في براغ، في يناير 1912، قدم مندوب سان بيترسبورغ، ب. أ. زالوتسكي، الرقم الأقرب إلى الواقع الذي هو 109 من أنصار لينين […]. كان هناك على أكثر تقدير حوالي 500 عضو فقط في الحزب الاشتراكي الديمقراطي. وفي جميع المناطق والمصانع لم تكن هناك سوى مجموعات صغيرة مكونة فقط من 10 أو20 أو30 عضوا يحملون بطاقة الحزب. ويجب وضع هذه الأرقام الهزيلة مقابل إجمالي عدد العمال في سان بيترسبورغ البالغ عددهم 783.000، من بينهم 240.000 عامل صناعي، حسب إحصاء دجنبر 1910»[138].

كانت وضعية الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وخاصة جناحه الثوري، تبدو مأساوية إلى أقصى الحدود. لكن كانت هناك تحت السطح قوى غير مرئية تعمل على تحويل الوضع برمته. يجب البحث عن مفتاح التغيير في القاعدة الاقتصادية التي تقف عليها البنية الفوقية للسياسة وكل الحياة الاجتماعية عموما. كان الكساد الاقتصادي، الذي اندلع مباشرة بعد هزيمة دجنبر، قد وجه ضربة قوية للطبقة العاملة التي كانت مستنزفة أصلا. كان تروتسكي، قد توقع بشكل بارع أن العمال الروس لن يعودوا إلى الحركة إلا بعد أن يبدأ الاقتصاد في الانتعاش مرة أخرى. وقد أكدت الأحداث صحة هذا التوقع. وبحلول أوائل 1910، بدأ الوضع الاقتصادي في التحسن، وبدأت الحركة العمالية أيضا في الانتعاش، وإن ببطء في البداية. كانت هناك زيادة في عدد الإضرابات، نجح بعضها، جزئيا على الأقل، في تحسين الأجور وظروف العمل. طرح ذلك الواقع على جدول الأعمال الحاجة الملحة لإعادة بناء الحزب. لكن كيف؟ وما هي الأساليب والسياسات؟ لم يكن هناك توافق في الآراء حول الإجابة عن هذه الأسئلة، بل على العكس من ذلك، كانت الخلافات أكثر شراسة من أي وقت مضى، وخاصة في المنفى حيث كانت تتميز بطابع حاد بشكل خاص.

بمجرد أن بدأ العمال بالتحرك في اتجاه ثوري، بدأ الموقف بأكمله يتغير. هذا ما كان لينين يعول عليه، وأثبتت الأحداث أنه محق. ضخ نهوض الحركة العمالية نفس حياة جديد في حلقات الحزب السرية. فالعمال الذين كانوا يبحثون عن وسيلة للتعبير عن تطلعاتهم، انجذبوا بشكل طبيعي نحو الراية والاسم الذي كان مألوفا لهم في الفترة السابقة، أي: الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. لم تكن لدى الفئات الجديدة دراية بالانقسامات والصراعات داخل الحزب. معظمهم لم يقرأ أبدا برنامج الحزب أو قوانينه، لكنهم عندما تحركوا لتغيير المجتمع، احتشدوا حول منظمتهم الجماهيرية التقليدية. وهنا أيضا تأكدت صحة تكتيكات لينين. لو أن البلاشفة استسلموا لتسرع بوغدانوف وانشقوا عن الحزب، لكانوا سيجدون أنفسهم معزولين. صحيح أنهم كانوا سيعرفون بعض النمو، لكن مقابل كل عامل كان سينضم إليهم، كان 100 عامل آخرين سينضمون إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لقد تحول الحزب جذريا بفضل تدفق العمال والشباب الجدد. وبين عشية وضحاها ظهرت مجموعات في مناطق جديدة. وبحلول عام 1912، صارت منظمة تيفليس (تبليسي) تضم 100 عضو. كانت للحزب في الأورال مجموعات تضم ما بين 40 و50 عضوا. وكان المستفيدون الرئيسيون من هذا النمو هم المجموعات الثورية السرية للبلاشفة والمناشفة الموالين للحزب. جلبت هذه الفئات الجديدة معها نسمة من الهواء النقي، واتجهت بشكل تلقائي تقريبا نحو الجناح اليساري، أي نحو اللينينيين، الذين كانوا أكثر نشاطا وأكثر كفاحية وأفضل تنظيما من التيارات الأخرى. ازدادت المشاركة النشطة داخل الحزب مع تزايد نهوض الجماهير إلى النضال مرة أخرى. تم كسب أعضاء جدد، وبمجرد انضمامهم تم كسبهم بسرعة من طرف الكوادر البلشفية. ومع تزايد متطلبات الوضع الثوري الجديد ازداد نفوذ وقوة البلاشفة، باعتبارهم الجناح اليساري داخل حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، بخطوات عملاقة.


هوامش:

[1]  O. Figes, A People’s Tragedy, p: 202.

[2]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 164.

[3]  A. Kerensky, Memoirs. Russia and History’s Turning Point, p: 76.

[4]  S. Malishev, The Unemployed Councils in St Petersburg 1906, pp: 16 and8.

[5]  R.B. McKean, St Petersburg between the revolutions, pp: 8 – 9.

[6]  S. Malishev, The Unemployed Councils in St. Petersburg 1906, pp: 11-12 and14.

[7]  Malishev, op. cit., p: 18.

[8]  Ibid., p: 23.

[9]  Ibid., p: 40.

[10]  O. Piatnitsky, op. cit., pp: 101 -102.

[11]  Eva Broido, Memoirs of a Revolutionary, p: 133.

[12]  Ibid., p: 133.

[13]  LCW, Report on the Unity Congress of the RSDLP, vol. 10, p: 375.

[14]  عودة النظام القديم – Restoration- المترجم.

[15]  Congress Minutes, Chertvyortiy S’yezd RSDRP, Protokoly, pp: 59 -60 and 60 -61.

[16]  Ibid., pp: 139 and142.

[17]  LCW, Unity Congress of RSDLP, vol. 10, p: 280. (التشديد من آلان وودز)

[18]  LCW, Report on the Unity Congress of the RSDLP, vol. 10, pp: 377 -378.

[19]  Congress Minutes, Chertvyortiy S’yezd RSDRP, Protokoly, p: 79.

[20]  Trotsky, Stalin, p: 72.

[21]  LCW, Unity Congress of RSDLP, Written Statement at the Twenty-sixth Session of the Congress, vol. 10, p: 309.

[22]  LCW, Report on the Unity Congress of the RSDLP, vol. 10, p: 376.

[23]  L. Schapiro, History of the CPSU, p: 72.

[24]  Trotsky, Stalin, p: 88.

[25]  O. Piatnitsky, Zapiski Bolshevika, p: 104.

[26]  Schapiro, History of the CPSU, p: 99.

[27]  O. Piatnitsky, Zapiski Bolshevika, p: 106.

[28]  Kerensky, Memoirs, p: 96.

[29]  Ibid., p: 84.

[30]  Robert Service, Lenin, a Political Life, p: 149.

[31]  KPSS v rezoluitsiakh, vol. 1, p: 136.

[32]  Trotsky, Stalin, p: 98.

[33]  E. Broido, Memoirs, pp: 130-131.

[34]  LCW, “Left-Wing” Communism: an Infantile Disorder, vol. 31, pp: 35–36.

[35]  Trotsky, Stalin, p: 93.

[36]  LCW, vol. 12, p: 532.

[37]  M. Baring, A Year in Russia, London, 191–92, 202. L. Kochan, Russia in Revolution, p: 121.

[38]  O. Figes, A People’s Tragedy, p: 214.

[39]  Eva Broido, Memoirs, p: 132.

[40]  LCW, An Attempt at a Classification of the Political Parties of Russia, vol. 11, p: 229.

[41]  Istoria KPSS, vol. 2, p: 202.

[42]  LCW, Resolution (II) of the St. Petersburg Committee of the RSDLP on the Attitude Towards the State Duma, vol. 10, p: 481.

[43]  L. Kochan, Russia in Revolution, p: 123.

[44]  Kerensky, Memoirs, pp: 94–95.

[45]   بيلاطس النبطي: هو الحاكم الروماني الذي أشرف على محاكمة المسيح، وأصدر الحكم بصلبه. تقول الرواية المسيحية إنه بعد أن أصدر الحكم بصلب يسوع غسل يديه بالماء وصاح: “أنا برئ من دم هذا البار”. فصار رمزا لمن يرتكب جرما ويتنصل منه بادعاء البراءة. -المترجم-.

[46]  S.F. Medvedeva, Kamo, The Life of a Great Revolutionist, p: 18.

[47]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 212–213.

[48]  أدت هذه التكتيكات إلى الهزيمة تلو الهزيمة عندما وضعت موضع التنفيذ في العصر الحديث، والمثال الأكثر شهرة هو ما حدث خلال السبعينيات في أمريكا اللاتينية. إنه دليل صارخ على الخطوة الكبيرة إلى الوراء التي قامت بها الحركة منذ الحرب العالمية الثانية حين بدأت الأفكار التي تنتمي إلى عصور ما قبل تاريخ الحركة، والتي رميت منذ زمن بعيد في مزبلة التاريخ، تعود إلى الظهور وكأنها جديدة وأصيلة.

[49]  LCW, Guerrilla Warfare, vol. 11, p: 216, p: 222 (footnote), p: 219 and pp: 216–217.

[50]  Trotsky, Stalin, p: 110.

[51]  Trotsky, Stalin, pp: 98–99.

[52]  B.H. Sumner, A Survey of Russian History, pp: 115 and 116.

[53]  Kerensky, Memoirs, p: 97 and 98.

[54]  LCW, “Left-Wing” Communism: an Infantile Disorder, vol. 31, pp: 27–28.

[55]   McKean, Between the Revolutions, p: 62.

[56]  Trotsky, Writings, 1935–1936, p: 153.

[57]  Lenin, Collected Works in Russian, vol. 14, p: 125.

[58]  Piatnitsky, Zapiski Bol’shevika, pp: 146–147.

[59]   لقد تم إحصاء تمثيلية الأحزاب في الدوما بشكل مختلف من قبل مختلف الكتاب. تكون الاختلافات أحيانا واحدا أو اثنان فقط، لكنها في أحيان أخرى تكون أكثر أهمية. فعلى سبيل المثال ذكرت Istoriya أن عدد نواب الترودفيك وصل إلى 104، بينما قالت Kochan إن الرقم هو 98 وقالت Pares إنه 201! ربما يكون ذلك نتيجة لعدم استقرار الحدود بين التكتلات على “اليمين” و“اليسار”. وفي الحالة التي بين أيدينا ربما تكون Pares قد خلطت بين العدد الكلي للنواب الفلاحين وبين هؤلاء الذين ينتمون تحديدا إلى مجموعة الترودفيك. إن هذا النوع من الاختلافات شائع على هذا الصعيد. والأرقام التي سقناها هنا مستمدة من Istoriya KPSS.

[60]   نجد هنا اختلافات أخرى حيث تذكر Istoriya أن عدد المتعاطفين ثلاثة، بينما تذكر Kochan أنه 11.

[61]   لم يكن المقر سوى واحد من العديد من المفارقات التي ارتبطت بهذا المؤتمر. الشيء الأكثر غرابة هو الطريقة التي تم بها تمويل المؤتمر: فالحزب الذي كان مفلسا بجميع المقاييس، اضطر إلى البحث عن قرض، وهو ما تمكن غوركي أخيرا من الحصول عليه، من صاحب مصنع إنجليزي للصابون، بفضل وساطة الاشتراكي الإنجليزي، جورج لانسبري. كان من المقرر سداد القرض بحلول فاتح يناير 1908، لكن المقرض لم يتفاجأ ربما عندما لم يتوصل ولو بفلس واحد. غير أن الدين لم ينس، فبعد ثورة أكتوبر، قامت الحكومة السوفياتية، من خلال كراسين، سفيرها آنذاك في لندن، بإعادة المال إلى ورثة المقرض، الذين كانوا بدون شك مندهشين وهم يعيدون للحكومة السوفياتية الوثيقة التي تقر بالدين، والتي كانت موقعة من قبل جميع المشاركين في المؤتمر!

[62]  Ibid., p: 146.

[63]  Trotsky, Stalin, p: 89.

[64]  Trotsky, Stalin, p: 89.

[65]  LCW, The Fifth Congress of the RSDLP, vol. 12, pp: 456, 457, 458, and 462463.

[66]  Congress Minutes, Pyatiy S’yezd RSDRP Protokoly, p: 386.

[67]  LCW, The Fifth Congress of the RSDLP, vol: 12, pp. 470 and 479.

[68]  K. Marx, The Bourgeoisie and the Counterrevolution, in MESW, vol. 1, pp: 140141 and 138.

[69]  F. Engels, Revolution and Counterrevolution in Germany, MESW, vol. 1, p: 332.

[70]  LCW, Two Tactics of SD in the Democratic Revolution, vol. 9, p: 98.

[71] : Ibid., pp: 56–67 and 112.

[72]  LCW, The Social Democratic Election Victory in Tiflis, vol. 10, p: 424 (التشديد من آلان وودز).

[73]  LCW, Two Tactics of SD in the Democratic Revolution, vol. 9, p: 57.

[74]  Ibid., p: 82 (التشديد من آلان وودز).

[75]  LCW, The Stages, the Trend, and the Prospects of the Revolution, vol. 10, p: 92.

[76]  LCW, Victory of Cadets and Tasks of Workers Party, vol. 10, p: 276 (التشديد من آلان وودز).

[77]  Trotsky, Our Differences, in 1905, p: 332 (الحاشية في نفس الصفحة)

[78]  Kerensky, Memoirs, pp: 101–102 and 104.

[79]  E. Broido, Memoirs, p: 136.

[80]  LCW, Letter to Maxim Gorky, February 7, 1908, vol. 34, p: 379.

[81]  LCW, To Maxim Gorky, February 13, 1908, ibid., p: 385.

[82]  Trotsky, Stalin, p: 110.

[83]  Istoriya KPSS, vol. 2, pp: 251252.

[84]  LCW, Those who would liquidate us, vol. 17,pp: 7172.

[85]  L. Kochan, Russia in Revolution, p: 155.

[86]  Ibid., p: 155.

[87]  O. Figes, A People’s Tragedy, p: 209.

[88]  Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, p: 35.

[89]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 193.

[90]  Ibid., p: 181.

[91]  Valentinov, Encounters with Lenin, 1968.

[92]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 193–194.

[93]  Letter to his sister Anna, March 9, 1909, LCW Vol. 37, p: 414.

[94]  Letter to his sister Anna, March 12, 1909, LCW Vol. 37, p: 416

[95]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 272 (التشديد من آلان وودز)

[96]  Protokoly soveshchaniya rasshirennoy redaksii Proletariya, p: 12.

[97]  Pod Znamenem Marksizma, No. 910, 1932, p: 203 (التشديد من آلان وودز)

[98]  LCW, Letter to V.V. Vorovsky, July 1, 1908, vol. 34, p: 395.

[99]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 162.

[100]  LCW, Letter to Theodore Rothstein, January 29, 1908, vol. 34, p: 375.

[101]  Stanley Payne, The Life and Death of Lenin, p: 240.

[102]  McKean, Between the Revolutions, p: 53.

[103]  Kudelli, in Krasnaya letopis, No. 14, quoted in McKean, Between the Revolutions, p: 53.

[104]  Trotsky, Fighting Against the Stream, in Writings, 19381939, p: 257.

[105]  Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p: 165.

[106]  Schapiro, History of the CPSU, p: 101.

[107]  Stephen F. Cohen, Bukharin and the Bolshevik Revolution, p: 12.

[108]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 183.

[109]  LCW, On to the Straight Road, vol. 15, p: 18.

[110]  Ibid., p: 18.

[111]  Trotsky, Stalin, p: 95.

[112]  LCW, Letter to N.Y. Vilonov, March 27, 1910, vol. 34, p: 415.

[113]  G.V. Plekhanov, Works, in Russian, vol. 19, p: 37.

[114]  Lenin, Collected Works, Russian edition, vol., XIX, p: 23.

[115]  LCW, Methods of the Liquidators and Party Tasks of the Bolsheviks, vol. 16, p: 101.

[116]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 269.

[117]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 198.

[118]  Ibid., p: 251.

[119]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 296.

[120]  في الواقع ليس فقط لوناتشارسكي وليادوف وحدهما، بل معظم الفبريوديين عادوا في وقت لاحق إلى الحزب البلشفي. حتى بوغدانوف بدوره عاد في النهاية. ظهر في عام 1918 باعتباره مناضلا حزبيا ومنظرا. وقد استخدم أحد كتبه (عن الاقتصاد الماركسي) خلال العشرينات ككتاب للحزب. صار في وقت لاحق واحدا من قادة ما يسمى بتيار Proletkult  (الثقافة البروليتارية)، مما كان علامة مؤكدة على أنه لم يفقد أيا من ميولاته التشكيكية ونزعته الصورية. إلا أنه انسحب من الحياة السياسية في سنوات الثورة المضادة البيروقراطية. لكن ليس كل الفبريوديين عادوا إلى الحزب، فبازاروف تخلى عن السياسة تماما وتبنى موقفا معاديا من ثورة أكتوبر.

[121]  A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, p: 136.

[122]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 207.

[123]  Protokoly soveshchaniya rashirennoy redaktsy Proletary, Moscow, 1934, the Istoriya KPSS, vol. 2, p: 293.

[124]  Pod Znamenem Marksizma, No. 910, p: 202.

[125]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 206.

[126] : Trotsky, My Life, p: 224.

[127]  Trotsky, The Stalin School of Falsification, p: 105 (التشديد من آلان وودز).

[128]  Trotsky, Stalin, p: 123.

[129]  LCW, An Open Letter to All Pro-Party Social Democrats, vol. 16, p: 339.

[130]  LCW, Letter to Maxim Gorky, April 11, 1910, vol. 34,p: 420.

[131]  Martov, Spasiteli ili Uprazdniteli? p: 16.

[132]  Letter to his sister Anna, February 1, 1910, LCW Vol. 37, p: 451.

[133]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 206.

[134]  LCW, Letter to A. Rykov, February 25, 1911, vol. 34, p: 443.

[135]  O Vladimire Ilyiche Lenine. Vospminaniya, 19001922.

[136]  O. Piatnitsky, Zapiski Bolshevika, p: 153.

[137]  LCW, Material for the Meeting of CC Members of RSDLP, vol. 17, p: 202.

[138]  R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, pp: 8283.