الرئيسية / قضايا نظرية / الاشتراكية ضد الرأسمالية / الفقر العالمي: جريمة الرأسمالية ضد الإنسانية

الفقر العالمي: جريمة الرأسمالية ضد الإنسانية

في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية العالمية لعام 2008، شهد العالم موجات من التشكيك والرفض ضد النظام الرأسمالي هي الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد صارت أزمة الاقتصاد العالمي المستعرة تتجلى في كل مجالات الحياة، مسببة اضطرابات هائلة في السياسة والعلاقات الدولية.

في جميع أنحاء أوروبا تراجعت كل الأحزاب السياسية، التي طبعت حقبة ما بعد الحرب، إلى الهامش مقابل صعود “شعبويين” متمردين. وفي بريطانيا أدى التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوربي إلى وصول حزب المحافظين العريق إلى حافة التدمير الذاتي. كما أسقطت حركات احتجاجية هائلة الحكومات في كل من أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط؛ أما في الولايات المتحدة، التي هي أغنى بلد على وجه الأرض، فقد هزت الحملات الانتخابية التي قام بها ساندرز وترامب نظام الحزبين الذي كان راسخا في الماضي من أساسه، أو على حد تعبير صحيفة “فاينانشيال تايمز”: “أرسلت ما يشبه انتحاريا إلى واشنطن”.

وجدت هذه الأزمة الاجتماعية العميقة بشكل حتمي انعكاسها في الوعي الجماهيري، لا سيما بين الشباب، الذين يواجهون في كثير من أنحاء العالم مستويات بطالة أعلى ودخلا أقل وظروف معيشة وعمل أكثر خطورة مما عرفه آبائهم. قال مسح أجرته “مؤسسة ضحايا الشيوعية” إن 44% من جيل الألفية الأمريكيين (الذين ولدوا بين عامي 1981 و1996) صرحوا بأنهم يفضلون العيش في مجتمع اشتراكي، مقابل 42% يفضلون المجتمع الرأسمالي. بل إن 7% (وهو عدد كبير) قالوا إنهم يفضلون العيش في ظل الشيوعية، وهو مما أثار موجة من الذعر في الصحافة.

وجدت الأزمة الاجتماعية العميقة بشكل حتمي انعكاسها في الوعي الجماهيري، لا سيما بين الشباب، الذين يواجهون في كثير من أنحاء العالم مستويات بطالة أعلى ودخلا أقل وظروف معيشة وعمل أكثر خطورة مما عرفه آبائهم. / صورة: Socialist Appeal

هذا التحول لا يقتصر بأي حال من الأحوال على الولايات المتحدة. ففي أوروبا، وجد استطلاع نظم برعاية الاتحاد الأوروبي لآراء أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة، أن غالبية الذين شملهم الاستطلاع سوف “يشاركون بنشاط في انتفاضة واسعة النطاق ضد الجيل الذي في السلطة إذا ما اندلعت في الأيام أو الأشهر القادمة”، كما عبر 89% من المستجوبين على اتفاقهم مع مقولة إن: “البنوك والمال هم من يحكمون العالم”. يمكننا أن نقول إن شبحا يطارد أوروبا…

لكن هذه ليست بأي حال سيرورة من جانب واحد، فمع ازدياد عدد الناس الغاضبين من الوضع الراهن، والمعلقين الذين يندبون “موت الليبرالية”، برز إلى السطح تحالف غير مقدس من أصحاب المليارات المحسنين¹ والسياسيين والمثقفين المشاهير للدفاع بذعر عن الرأسمالية تحت راية غير متوقعة إلى حد ما، وهي: تقليص حدة الفقر.

“المعجزة الصامتة”

في المملكة المتحدة اضطرت تيريزا ماي إلى الدفاع عن الرأسمالية وأثنت على السوق الحرة بأنها “أعظم عامل للتقدم الجماعي في تاريخنا” إلى جانب الادعاء بأنه عندما تتبنى البلدان سياسات السوق الحرة “يتراجع الفقر المطلق ويرتفع الدخل”. في عام 2016، رد الرئيس السابق باراك أوباما على انتخاب دونالد ترامب بمقال ادعى فيه أن: “هذا الوقت هو أفضل وقت ليكون المرء فيه على قيد الحياة”، وهو صحيح على الأرجح إذا كنت أنت هو باراك أوباما.

وقد امتلأت رفوف المكتبات مؤخرا بكتب مثل: “التنوير الآن” (nlightenment Now) لستيفن بينكر² و “حقائق الأمور” (Factfulness) لهانز روسلينغ³، معلنة: “المعجزة الصامتة للتقدم الإنساني”. كما أن أصحاب الملايير المحسنين مثل بيل غيتس يؤكدون لنا: “كونوا على ثقة إن العالم يتحسن حقا”، بينما يوزعون نسخا مجانية من كتاب روسلينغ. وذكرت وسائل الإعلام الكبرى مثل “الإيكونومست” أن “عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع هبط بمقدار 137.000 شخص منذ يوم أمس”، وعبرت عن حزنها من عدم وجود تغطية إعلامية لهذا الإنجاز المذهل. كما تعمل المواقع الالكترونية الماكرة مثل موقع “ساعة الفقر العالمي” (World Poverty Clock) على نشر رسومات توضيحية مفرحة تدل على انخفاض معدلات الفقر حول العالم. وقد اتحد الليبراليون وأعضاء من اليمين المتطرف، مثل جوردن بيترسون، في جوقة واحدة لينشدوا: «بين عامي 2000 و2012، تم تخفيض مستوى الفقر المطلق في العالم بنسبة 50%. لقد كان ذلك أسرع معدل تحسن بهامش كبير في تاريخ البشرية». لقد نشأت صناعة كاملة لمجرد إخبار الناس عن مدى جودة الوضع الراهن، وهي أعجوبة أخرى من أعاجيب السوق الحرة.

إذا كانت الأمور تسير على ما يرام، لماذا إذن معظم الناس يرون العكس؟ يكمن الخطأ، وفقا لبينكر وروسلينغ ، في “جهل” الجماهير وميلهم الغريزي إلى افتراض الأسوأ، حتى عندما يخبرهم رؤساؤهم بخلاف ذلك. قال رولنغ إنه عندما يُسأل الناس عن عدد الذين يعيشون في فقر في جميع أنحاء العالم، “يقدمون إجابات خاطئة بشكل منهجي”. وعلاج ذلك هو جرعة صحية من “العقلانية: أي تطوير عادة الميل إلى تبني فقط تلك الآراء التي لديك حقائق قوية تدعمها”.

إن منطق هذه الحجة قوي في بساطته: إذا كانت “الحقائق” تنص في كل قياس تقريبا على أن حالة العالم تتحسن، فمن المؤكد أن النظام يعمل بالرغم من جميع عيوبه. وإذا كان النظام يعمل لصالح معظم الناس، فلا يوجد سبب يدعو إلى التحول نحو “الشعبويين” اليمينيين واليساريين، باستثناء مزيج من الجهل والأحكام المسبقة. وهكذا نرى أن الليبرالية قد عادت للانتقام. لكن عندما يتعلق الأمر بالفقر في العالم، فإن الحقيقة والخيال يتم خلطهما بشكل ممنهج.

سياسات الفقر

إحدى الحقائق المثيرة للاهتمام التي يجب ذكرها هي أن إحصاءات الفقر التي نشرها كل من بينكر وروسلينغ وبيترسون قد استقيت من المصدر نفسه: البنك العالمي. يقوم البنك العالمي، منذ عام 1981، بتجميع بيانات من جميع أنحاء العالم “النامي” للإبلاغ عن عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر “شديد” أو “مطلق”، المصنفين تحت خط الفقر الدولي (IPL). ويبلغ خط الفقر الدولي الآن 1,90 دولار أمريكي في اليوم بالنسبة إلى القوة الشرائية لعام 2011 (أي كمية العملة المطلوبة لشراء “سلة” من السلع).

للوهلة الأولى قد يبدو من المدهش أن مراقبة الفقر العالمي تتم بشكل حصري تقريبا على يد أبرز ممثلي رأس المال المالي في العالم، لكن يجب على المتشككين أن يأخذوا في الاعتبار أن مجموعة البنك العالمي قد نقشت في حجر أمام مقرها في واشنطن عبارة: “حلمنا هو عالم خال من الفقر”.

ظل البنك الدولي طيلة عقود يسعى لتحقيق حلمه بعالم خال من الفقر عن طريق تقديم قروض لبلدان العالم النامي وبيعها لمستثمري “وول ستريت” بعوائد مجزية تصل إلى 15%. ولكي تحصل البلدان المستدينة على تلك القروض، يجب عليها أن توافق على برنامج “التقويم الهيكلي” الذي يطلبه صندوق النقد الدولي في حال عدم قدرتها على تسديد القروض التي تلقتها، وعند هذه النقطة سوف تضطر إلى بيع الأصول العامة وخفض الإنفاق العام وضرب المعاشات، الخ. لقد نجحت هذه السياسة، المماثلة لتلك التي يتبعها البنك المركزي الأوروبي مع اليونان، في خفض معدل نمو الناتج الوطني الإجمالي للفرد في العالم النامي من 3,2% خلال الستينات والسبعينات إلى 0,7% خلال الثمانينيات والتسعينيات، وأدت بحلول عام 2015 إلى جلب نصف ثروة العالم إلى يد 1% من سكان العالم.

لكن البنك العالمي أفاد في نفس العام أن نسبة الأشخاص في العالم الذين يعيشون على أقل من 1,90 دولار في اليوم قد انخفضت من 40% تقريبا في عام 1990، إلى أقل من 10%، مع إحراز تقدم سريع للغاية بعد عام 2000، بما في ذلك أثناء الركود العالمي الذي أعقب الانهيار المالي عام 2008. إن مثل هذه الإحصائيات التي تتحدى الجاذبية لها قيمة سياسية واضحة، لأنه إذا كان العالم قد تمكن من تخفيض الفقر بمعدل أسرع من أي وقت مضى، على الرغم من تزايد تركيز الثروة في أيدي أقلية صغيرة، فإن تاتشر وريغان كانا ربما على حق والرأسمالية هي بالفعل “الريح التي تدفع كل السفن”.

إذا لم تتمكنوا من تصديق كل هذا فذلك لأنه مجرد كذب. وبصرف النظر عن تضارب المصالح الواضح الذي ينطوي عليه قيام أي مؤسسة بالحديث عن نتائج سياساتها الخاصة، فإن البيانات التي يتم إنتاجها، والافتراضات التي تقوم عليها، ليس لها علاقة صلبة بالحقيقة.

أسطورة الفقر المطلق

عندما يتحدث السياسيون والتقارير عن تقليص الفقر، فإنهم يقصدون دائما “الفقر المطلق” (الذي يشار إليه أيضا باسم “الفقر المدقع”)، الذي يحدده موقع Our World in Data باعتباره: الحد الأدنى “للمستوى المعيشي الثابت” والذي “ليس ثابتا مع مرور الوقت فقط، بل وعبر البلدان أيضا”، أي الحد الأدنى الأقصى المطلوب لبقاء الإنسان على قيد الحياة، الذي يشار إليه بـ “خط الفقر الدولي” (IPL) وهو 1,90 دولار في اليوم. المشكلة هي أن فكرة وجود فقر مطلق ثابت لجميع الأماكن والأزمان، وبالرغم من مزاعم العلمية التي تدعيها، هي هراء مطلق.

يشير بنكر، في سياق دفاعه عن قيم الرأسمالية والتنوير، إلى خط الفقر الدولي بأنه “الحد الأدنى من الدخل الضروري لإطعام أسرتك”. لكن لسوء الحظ كل كلمة تقريبا من هذه الجملة خاطئة. أولا لأن حساب خط الفقر الدولي يحسب بالفعل فيما يخص الاستهلاك وليس الدخل، لكن الأهم من ذلك هو أنه منخفض جدا لدرجة أنه في معظم البلدان لن يكون كافيا لإطعام أي أسرة.

في عام 2005، أفادت حكومة الولايات المتحدة في “Thrifty Food Plan” أن الشخص العادي يحتاج إلى ما لا يقل عن 4,58 دولار في اليوم، وذلك لكي يتمكن من تلبية الحد الأدنى من المتطلبات الغذائية، أي أكثر من ضعف “الحد الأدنى المطلق” الذي يستعمله مؤشر خط الفقر الدولي. بهذا يمكن لأي شخص يعيش في شوارع لندن أن يرفع نفسه من خط الفقر المدقع كل يوم، وذلك ببساطة عن طريق تناول شطيرة واحدة من أي سوبر ماركت.

وحتى في العالم النامي يعجز خط الفقر الدولي عن توفير حد أدنى ملائم للعيش. يستند الرقم 1,90 دولار / يوم المستخدم حاليا من قبل البنك العالمي إلى المتوسط المأخوذ من خطوط الفقر لأفقر 15 بلدا في العالم، بما في ذلك غامبيا وسيراليون. وهذا يعني أن الحد الأدنى من الاستهلاك لسكان أغلبيتهم ريفيون ويعيشون إلى حد كبير على الفلاحة والذي يتم حسابه على أساس دراسات غير منتظمة وغير متماسكة، يصبح الأساس لكل البلدان التي يعتبرها البنك العالمي “بلدانا نامية”، بما في ذلك الصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية والأرجنتين.

ليس من الغريب أن الطريقة الخاطئة تنتج نتائج سخيفة. وباكستان مثال على ذلك. وفقا للبنك العالمي كانت جهود باكستان للحد من الفقر (بمساعدة أكثر من خمسة مليارات دولار من قروض البنك العالمي) ناجحة جدا، حيث انخفض معدل الفقر لديها من 15,9% من السكان إلى 6,1% بين عامي 1996 و2013. وبالاعتماد على تلك البيانات تجرأ موقع “ساعة الفقر العالمي” لدرجة أن أعلن أن مستوى الفقر المدقع في باكستان صار “أقل من 3%”.

لكن وفقا للدراسة الاستقصائية الوطنية للتغذية التي قامت بها باكستان عام 2011، يعاني ثلث جميع الأطفال الباكستانيين من نقص الوزن، ويعاني نحو 44% منهم من توقف النمو، ونصفهم يعانون من فقر الدم. الأكثر سوءا من كل ذلك هو أن مستوى جوع الأطفال والأمهات في باكستان لم يتغير على مدى العقدين الأخيرين وفقا لدراسة نشرت في مجلة The Lancet عام 2013. ولم يتحسن الوضع كثيرا منذ ذلك الحين. ووفقا لمؤشر الجوع العالمي لعام 2016، يعاني 22% من السكان من “نقص التغذية” ويموت 8,1% من الأطفال قبل بلوغهم سن الخامسة بسبب سوء التغذية.

والهند، التي غالبا ما يتم اعتبارها النموذج بالنسبة للحد من الفقر، تقدم مثالا آخر. في عام 2015، ألقى متحدث باسم الحكومة الهندية خطابا يعترف فيه بمحنة 300 مليون شخص هم في نفس الوقت عاطلون عن العمل ومحرومون من الأرض، والذين ينحدرون في الغالب من خلفيات قبلية أو فئات دنيا. ومع ذلك فإن موقع “ساعة الفقر العالمي” أشار أنه في يناير 2016، كان أقل من نصف ذلك الرقم، أي حوالي 145 مليون شخص، يعيشون في “فقر مدقع”. وخارج آسيا الصورة مربكة بشكل مماثل، ففي عام 2010، أبلغت الحكومة المكسيكية عن معدل فقر يبلغ 46%، بينما حدده البنك العالمي في 5%.

وقد أفادت الأمم المتحدة أن ما مجموعه 815 مليون شخص، في جميع أنحاء العالم، في عام 2016، يعانون من نقص التغذية المزمن (الذي استمر لأكثر من عام) والرقم يواصل الارتفاع. لكن في عام 2013، أفاد البنك العالمي أنه تم تصنيف 767 مليون شخص فقط على أنهم يعيشون في فقر مدقع، ويشير إلى أن الرقم في عام 2016 صار أقل. إنه نظام عجيب في الواقع حيث يستطيع إخراج الناس من الفقر دون أن يضع أي طعام في أفواههم. وكما كتب ماركس في عام 1859: «لا بد أن هناك شيء فاسد في قلب النظام الاجتماعي الذي يزيد من ثروته دون أن يقلص من البؤس فيه». والحقيقة هي أن المفهوم القائل بوجود فئة خاصة من الفقر “الشديد” أو “المطلق” مفهوم خاطئ بكل بساطة. إلا أن ما يحققه هو إنتاج إحصاءات مفرحة لدعم السياسات التي يقترحها البنك العالمي والدولة المساهمة الرئيسية فيه، أي الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الأسوأ من ذلك هو أنه حتى باستخدام هذا الإجراء، المصمم للحصول على نتائج مواتية قدر الإمكان، فقد اضطر البنك العالمي في عدة مناسبات إلى تعديل احصاءاته الخاصة وتغييرها.

الإحصاءات والأكاذيب

إعلان الألفية للأمم المتحدة / صورة: Babucke

يقدم الأستاذ في جامعة لندن للاقتصاد LSE، جايسون هيكل، في كتابه “دليل موجز لانعدام المساواة العالمية وحلولها” (A Brief Guide to Global Inequality and its Solutions) ، تاريخا موجزا عن التلاعب بالإحصائيات الذي قام به البنك العالمي منذ أن حدد لنفسه مهمة القضاء على الفقر المدقع، أو ما يسميه بـ “إجراء القضاء على الفقر المدقع”.

في عام 2000، اجتمع قادة العالم في نيويورك للتوقيع على إعلان الألفية للأمم المتحدة، الذي وضع هدف تخفيض نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر (الذي حدد عند مستوى 1,02 دولار أمريكي في اليوم) إلى النصف. لكن بعد فترة وجيزة أعلن البنك العالمي في تقريره السنوي لعام 2000 أن عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 1,02 دولار في اليوم هم في تزايد في الواقع، حيث ارتفع العدد من “1,2 مليار شخص في عام 1987 إلى 1,5 مليار” في عام 2000، وتوقع أن يصل إلى 1,9 مليار شخص عام 2015. رغم ذلك أعلن رئيس البنك العالمي، جيمس ولفنسون، في عام 2001، أنه «منذ عام 1980، انخفض إجمالي عدد الأشخاص الذين يعيشون في حالة فقر في جميع أنحاء العالم بنحو 200 مليون».

كيف حققوا مثل هذا التحول السريع؟ الإجابة بسيطة: لقد قاموا بتغيير مؤشر خط الفقر الدولي. يقوم البنك العالمي بشكل دوري بتحديث مؤشر خط الفقر الدولي لإضافة عنصر التضخم. من الناحية النظرية يجب أن يؤدي التحديث إلى تحسين دقة البيانات، لكنه من الناحية العملية يتم استخدامه بانتظام للتلاعب بالأرقام لإظهار أفضل تقدم ممكن نحو تحقيق أهداف الأمم المتحدة الإنمائية للألفية. وعلى سبيل المثال خط الفقر لعام 2001 البالغ 1,08 دولار، كان في الواقع أقل من حيث قيمته الحقيقية من خط الفقر السابق، وهذا يعني، كما يشرح هيكل، “أن حساب عدد الأشخاص الفقراء تغير بين عشية وضحاها، رغم أن شيئا لم يتغير في العالم الحقيقي”.

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يقوم فيها البنك العالمي بتغيير أرقامه الخاصة. فقد تمت مراجعة مؤشر خط الفقر مرة أخرى في عام 2005 من 1,08 دولار إلى 1,25 دولار. أدى ذلك التحول في الواقع إلى زيادة العدد المطلق للأشخاص الذين يعيشون دون المستوى الأدنى، لكنه حسن بشكل كبير اتجاه التنمية، أي أن نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط 1,25 دولار قد انخفضت، بين عامي 1990 و2005، بسرعة أكبر مقارنة بنسبة الذين يعيشون على أقل من 1,08 دولار. وهذا أمر مهم لأن الهدف المحدد للبنك العالمي هو تخفيض نسبة سكان العالم الذين يعيشون تحت مؤشر خط الفقر إلى النصف، وليس تخفيض العدد المطلق. وعام 2013، أي قبل عامين من الموعد النهائي المحدد في عام 2015، أعلن البنك العالمي باعتزاز أنه قد نجح بالفعل في الوصول إلى هدفه. وربما بتأثير من شعار ستالين الشهير: “تحقيق الخطة الخماسية في أربع سنوات!”، قام البنك وكبريات وسائل الإعلام بإعلان نجاح خطة الـ 15 سنة في تحقيق أهدافها خلال 13 سنة فقط.

كان أحدث تلاعب في الإحصائيات من قبل البنك العالمي هو ذلك الذي قام به عام 2015، من خلال تحديده لمؤشر خط الفقر في 1,90 دولار في اليوم، والذي يعتبر من حيث القيمة الحقيقية أقل فعليا من خط 1,25 دولار السابق. ومع اقتراب إعلان الأمم المتحدة عن برنامج أهداف التنمية المستدامة للقضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، سوف نرى على الأرجح المزيد من المعجزات التي تحققها أرقام البنك العالمي.

تفاوت التنمية

تلجأ “الحملة على الفقر في العالم” إلى المبالغة في أرقامها، دون الاشارة غالبا إلى الوقائع. لكن وعلى الرغم من عدم صحة رقم الأشخاص الذين يقال إنهم خرجوا من الفقر، كيف يمكن تفسير الاتجاه العام؟ فعلى الرغم من أن مؤشر خط الفقر قد يكون منخفضا بشكل لا يصدق، والاستطلاعات التي تساهم في قياسه غالبا ما تكون غير متماسكة وغير موثوق بها، لكن هناك ارتفاع ملحوظ في عدد السكان الموجودين أعلى من خط الفقر، على الرغم من أنهم في كثير من الأحيان لم يخرجوا من الفقر بالمعنى الحقيقي.

كانت القوة الدافعة وراء هذا التحول هي موجة التمدين التي اجتاحت العالم في الثلاثين سنة الماضية، إذ يتنقل ملايين الناس، طواعية أو رغما عنهم، من قراهم إلى المدن، حيث ينضم الكثير منهم إلى صفوف الطبقة العاملة المتنامية. لقد كان لذلك تأثير كبير على إحصاءات الفقر: يشير البنك العالمي نفسه إلى أن 76% من “فقراء العالم” (الذين يعيشون تحت مؤشر خط الفقر) في عام 2013 يعيشون في المناطق الريفية. والسبب في ذلك ليس متمثلا في كون الحياة الحضرية أفضل تلقائيا من الحياة في الريف، مثلما يعرف كل من رأى الأحياء الفقيرة بالمدن، بل لأن الحياة في المدن عادة ما تستبع قدرة أكبر على الوصول إلى السلع الأساسية وقدرا أكبر من الاستهلاك، وهو ما يشكل الأساس الذي تقوم عليه معايير مؤشر خط الفقر لحساب معيشة شخص ما.

إلا أن هذه العملية ليست متكافئة، إذ أن الصين أكبر مساهم حتى الآن: ففي عام 1990، كان 74% من السكان الصينيين يعيشون في الأرياف، لكن في عام 2012 أُعلنت الصين أنه للمرة الأولى في تاريخ البلد، صار سكان المراكز الحضرية أكثر من سكان الأرياف، مما يعكس تحولا لما يقرب من 200 مليون شخص، أي أكثر من مجموع سكان نيجيريا. وبحلول عام 2017، زاد عدد سكان الحواضر بمقدار 300 مليون نسمة.

وبالتأكيد شهدت فئة من بين سكان المدن الجدد هؤلاء، البالغ عددهم 500 مليون نسمة، تحسنا ملحوظا في مستويات المعيشة المرتبطة بالاستثمار العمومي الضخم والنمو المدفوع بالتصدير خلال الثلاثين سنة الماضية. لكن قصة النجاح هذه ليست سوى جزء صغير من الصورة. إذ تم سحب جزء كبير من هؤلاء السكان الحضريين الجدد في الصين إلى ما يعادل “مطحنة شيطانية” للثورة الصناعية في القرن الواحد والعشرين، حيث يعملون لساعات طويلة في ظل ظروف لا تطاق مقابل أجور هزيلة.

يشغِّل مصنع فوكسكون (Foxconn)، في شينزن بالصين، حوالي 500.000 عامل، في ظروف عمل رهيبة، لكن يدفع لهم أجرا فوق “خط الفقر”. / صورة: Steve Jurvetson

مصنع فوكسكون (Foxconn) السيء السمعة في شينزن، والذي كان في عام 2015 يشغل ما يقدر بحوالي 500.000 عامل، يقدم مثالا جيدا عن ذلك. إذ كما ورد في تقرير لصحيفة الغارديان، في أعقاب “وباء” انتحار العمال في المصنع “تحدث الناجون عن الإجهاد الهائل وأيام العمل الطويلة والمدراء القساة الذين يعرضون العمال للإذلال بسبب الأخطاء والغرامات غير العادلة والوعود الكاذبة بصرف العلاوات”. وقد وضع الرئيس التنفيذي للشركة، تيري غو، ” شبكات كبيرة مثبتة خارج العديد من المباني لالتقاط الأجساد المتساقطة”. وما يزال العمال حتى الآن يشتكون من إجبارهم على العمل لمدة 12 ساعة في اليوم.

لكن وبمتوسط أجر يبلغ 390 دولار تقريبا في الشهر، يعتبر عامل فوكسكون واقفا بشكل مريح فوق خط “الفقر المدقع”، بل ويمكنه حتى اعتبار نفسه جزءا من “الطبقة الوسطى العالمية”. لكن الآخرين ليس لهم نفس “الحظ”. لشنزن أعلى معدل للأجور الشهرية في الصين، في حين أن العاملين في هيلونغجيانغ، على سبيل المثال، لا يحصلون سوى على أكثر من النصف بقليل. وعلاوة على ذلك يعيش ما يقدر بنحو 200 مليون شخص في أحياء فقيرة على أطراف المدن الكبرى في الصين، وكثيرا ما يعملون في وظائف غير مستقرة بأجور هزيلة لا يمكن الاعتماد عليها.

وتقدم الهند صورة مختلفة تماما عن التمدين في العالم النامي. تشير تقديرات The Financial Times إلى أن “30 هنديا ينتقلون من الريف إلى المدينة كل دقيقة”، لكن انخفاض مستوى الاستثمار في الصناعة والبنية التحتية جعل العديد من سكان المدن الجدد عالقين في ما يسمى بـ “القطاع غير المهيكل”، باعة متجولين وسائقي عربات الريكشا وغيرهم، يعيشون حياة هشة في شوارع تلك المدن الهائلة لكن المتداعية في الهند.

يشتكي مقال صدر في صحيفة “the India Times” من تحول الهند إلى “بلد للمدن الفقيرة” حيث “ما تزال الضرورات الأساسية مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي والتطهير تشكل مشكلة رئيسية”. وقد أفاد إحصاء أجري عام 2011 أن 17,4% من الأسر الحضرية، أي ما يقرب من 65 مليون نسمة، يعيشون في مناطق “غير ملائمة للسكن البشري”، ومع اتساع الهوة بين الأثرياء والفقراء في الهند، استمرت العشوائيات في النمو، مع أكثر من مليون شخص يعيشون في حي دهارافي، الذي هو أحد الأحياء الفقيرة في مومباي.

ومع ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الاستثمار في الإنتاج الحقيقي في الهند، يصعب فهم سبب استمرار هذا العدد الكبير من الناس في “إخراج أنفسهم” من فقر القرية إلى فقر المدينة. إن الجواب على هذا اللغز لا علاقة له بالسعي إلى رفع مستويات المعيشة، بل له ارتباط أكبر بحقيقة أن الطريقة القديمة للحياة أصبحت مستحيلة. اليوم في الهند تنسحق الآلاف من عائلات الفلاحين تحت وطأة الديون. ويضطر الكثير منهم لبيع أراضيهم ويصيرون بلا مأوى. أولئك الذين ينجحون في الهجرة إلى المدينة يصيرون جزءا من “فقراء المدن” ويختفون بأعجوبة من الإحصاءات المتعلقة بالفقر العالمي. ويلجأ عدد متزايد منهم إلى الانتحار لإنهاء فقرهم بطريقة أقل عجائبية.

هذه الأزمة المتنامية لفقراء الحضر لا تقتصر على الهند. تضم باكستان أكبر حي صفيحي في العالم، بلدة أورانجي في كراتشي، حيث يعيش أكثر من مليوني نسمة (أكبر من مجموع سكان أيرلندا الشمالية). وفي لاغوس، التي تعتبر أكبر مدينة في أفريقيا، يعيش 65% من السكان في أحياء الصفيح، في حين يعيش ما يقرب من 300.000 شخص بدون مأوى – ومع ذلك فإن معظم فقراء الحضر في العالم مستثنون من إحصاءات البنك العالمي عن الفقر المدقع. وتقدر الأمم المتحدة أن ما يقرب من مليار شخص في العالم يعيشون في دور الصفيح، لكن معيار خط الفقر الدولي، يقول لنا إن فقراء المدن هم أقل من 200 مليون شخص.

مستقبل مرير

عند اختراق عاصفة التضليل التي تخلقها وسائل الإعلام، يصبح من الواضح أن الفقر في العالم مشكلة متنامية وليست متناقصة. وقد أكد العديد من الاقتصاديين بأن رفع خط الفقر إلى 5 دولارات في اليوم سيكون أقرب بكثير من المستوى الحقيقي للاحتياجات الأساسية للناس. باستخدام هذا “الخط الأخلاقي للفقر”، يقدر هيكل أن عدد الفقراء في العالم سيصل إلى “حوالي 4,3 مليار شخص… أي أكثر من 60% من سكان العالم”. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الرقم سيمثل زيادة قدرها أكثر من مليار شخص مقارنة بعام 1990. وعلى هذا الأساس يصير من الممكن رؤية حقيقة أن العالم لم يكن يوما أكثر ثراء مما هو عليه اليوم، ومع ذلك يوجد اليوم عدد أكبر من الناس يعيشون في الفقر أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية.

والأسوأ من ذلك هو أن البنك العالمي نفسه قد حذر من أنه حتى بمقياسه للفقر، على علاته، فإن معجزة تخفيض أعداد الفقراء ربما قد انتهت، وصار يبدو مرتابا بشكل متزايد في إمكانية تحقيق هدف القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، أو في أي وقت آخر. بل إن أفريقيا وأمريكا اللاتينية تشهدان بالفعل ارتفاعا في نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر.

لا ينبغي لهذه الحقيقة أن تفاجئ أي أحد بالنظر إلى النقل الواسع النطاق للثروة من هذه المناطق في اتجاه العالم “المتقدم”. أفادت دراسة نشرتها Global Financial Integrity والمدرسة النرويجية للاقتصاد أنه في عام 2012 تلقت البلدان النامية دخلا إجماليا يزيد قليلا عن 2 تريليون دولار، بما في ذلك المساعدات والاستثمارات والتحويلات المالية وغيرها، لكن وفي نفس العام، خرج منها ما مقداره 5 تريليون دولار نحو البلدان المتقدمة. ويوضح هيكل أن هذا التدفق الصافي للثروة والبالغ 3 تريليون دولار هو أكبر بمقدار 24 مرة من جميع ميزانيات المعونة في العالم مجتمعة، لذلك فإنه «مقابل كل دولار من المساعدات التي تحصل عليها البلدان النامية، تفقد تلك البلدان 24 دولارا في صافي التدفقات الخارجية». ومقابل كل مدرسة يتم بناؤها أو بئر يتم حفرها أو سلة غذاء ترسل إلى البلدان النامية، يتلقى أرباب العمل والأبناك في الغرب ضعف هذا المبلغ 24 مرة من خلال الديون والفوائد ونهب الموارد والاحتيال.

لكن دعاة الأفكار “القائمة على الحقائق” لا ينقلون هذا الرقم عندما يكونون بصدد إخبار العمال الغربيين عن روعة المساعدات. قد يكون السبب وراء هذا هو أنه يتناقض بشكل جوهري مع القصة التي تم إخبارنا بها عن الفقر في العالم على مدى عقود، ويقوض أساس زعمهم بأننا إذا تركنا المصرفيين والمليارديرات يقومون بعملهم الجيد، فسيكون ذلك للأفضل في أفضل العوالم الممكنة.

من المرجح أن تصير الأمور في السنوات القادمة أكثر سوءا وليس أفضل. إن المنظور القائل بتطور الاقتصادات النامية في المدى القصير والمتوسط ليس مضمونا بنفس الشكل الذي يصورونه لنا في بعض الأحيان. ففي أبريل من هذا العام نشرت صحيفة فاينانشيال تايمز مقالا ينذر بالخطر، يفيد بأن 40% من دول أفريقيا جنوب الصحراء “تنزلق إلى أزمة ديون جديدة”، بعد 13 عاما فقط من شطب مليارات الدولارات من الديون الأفريقية في عام 2005. ومع تضاعف مدفوعات الفوائد على مدى العقد الماضي بأكثر من 20% من عائدات الضرائب، غرقت بلدان مثل غانا في 20 سنة أو أكثر من الأزمة، أي أن جيلا كاملا تعرض للضياع.

وقد قدم صندوق النقد الدولي وصفته المعتادة، إذ حث البلدان المنكوبة بالديون على «زيادة كفاءة الإنفاق العام وخصخصة القطاع العام، وتطبيق سياسة التماسك المالي، بما في ذلك السعي وراء إيرادات جديدة من خلال الضرائب على المستهلكين». وهو ما سيكون له بالتأكيد تأثير كارثي على مستويات معيشة العمال الأفارقة، الشيء الذي لن يتمكن أي قدر من الخداع الإحصائي من إخفائه.

الهند أيضا مهددة. فمن أجل أن تتمكن من احتواء التدفق الحالي للقرويين نحو مدنها المتنامية، يجب عليها أن تحقق نموا اقتصاديا بنسبة تتراوح ما بين 8 إلى 10% سنويا، كما يقول العديد من الاقتصاديين. وقد كانت آخر مرة حققت فيها نسبة 8% هي يوليوز 2016. في هذه الأثناء تعاني الدولة من عجز مالي لا يمكن تحمله، في حين ارتفع مستوى “القروض المعدومة” إلى 11,6% من مجموع القروض، ولفهم خطورة هذا الرقم علينا أن نعرف أن حجم القروض المعدومة في الاقتصاد الإيطالي، والتي تهدد استقرار منطقة اليورو بأكملها، يبلغ حاليا 11,1%.

إذا ما أدى ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى انسحاب الاستثمارات من ما يسمى بـ “الأسواق الصاعدة” – مثل الهند- وهو ما يحدث دائما، في الوقت الذي تعرف فيه أسعار السلع الأساسية مثل النفط ارتفاعا في السوق الدولية، يمكن لنمو الاقتصاد الهندي المدعوم بالقروض أن يتحول في الاتجاه المعاكس، مما سيؤدي إلى انفجار البطالة وموجة هجرة معاكسة من المدن إلى القرى. من شأن هذا السيناريو أن يكون بالفعل تكرارا للأزمة التي ضربت بلدان شرق آسيا عام 1997، مع فرق وحيد هذه المرة وهو أنها ستضرب سادس أكبر اقتصاد في العالم، وفي البلد الذي من المقرر أن يصير أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان بحلول عام 2024.

كما أن تأثير تغير المناخ، الذي أصاب بالفعل البلدان النامية بشكل أكبر من حيث الأحوال الجوية المتطرفة ونقص المياه وتراجع المحاصيل، ينذر بمنظور خطير لفقراء العالم ويترك مجالا ضيقا للأمل في إمكانية حدوث معجزة في المستقبل القريب. في الواقع إذا ما سُمِح للنهب الرأسمالي للعالم وشعوبه بالاستمرار، فإن النتيجة ستكون كارثة إنسانية لم يسبق لها مثيل ولا يمكن تصورها.

خلق الفقر

كثيرا ما يقال إن الرأسماليين هم “خالقو الثروة”. لكن يجب على المرء أن يطرح السؤال التالي: من أين تأتي ثروة الرأسماليين؟ وفقا للرأسماليين أنفسهم ومختلف ممثليهم الإجابة بسيطة: ثروتهم تأتي من “المشاريع” أو “المخاطرة” أو “الابتكار”، من جانب الطبقة الرأسمالية لصالح الجميع، بمن في ذلك الفقراء من خلال منحهم مناصب الشغل التي يحتاجونها. لكن الواقع هو عكس ذلك تماما، إذ أن مصدر ثروة الرأسماليين، طوال تاريخ الرأسمالية، هو فقر الجماهير.

لم تكن هذه الحقيقة خافية على البرجوازيين في الماضي. إذ كما كتب الفيلسوف برنار دي ماندفيل، عام 1728: «من الواضح أن المصدر الأكيد للثروة في أي بلد حر، لا يسمح فيه باقتناء العبيد، هو ذلك العدد الكبير من الفقراء الكادحين، الذين بالإضافة إلى كونهم القوة المحركة للأساطيل والجيوش، لا يمكن بدونهم تحقيق أي متعة، كما لا يمكن خلق أي منتج في أي بلد».

إن الأرباح التي حولت بيل غيتس إلى ملياردير تنبع في نهاية المطاف من العمل غير مدفوع الأجر الذي تقدمه الطبقة العاملة: أي الفرق بين قيمة منتجات عمل العمال (سواء السلع أو الخدمات) وبين الأجر الذي يتلقونه. وكلما كان هذا الاختلاف أكبر كلما زادت الأرباح، مما يخلق ضغطا هائلا من أجل إطالة ساعات العمل و”تقليص تكاليف العمالة”، أي تخفيض الأجور وظروف العمل.

هذه ليست سيرورة أحادية الجانب بالطبع، إذ أن العمال تمكنوا في الماضي من تحقيق مكاسب كبيرة على شكل أجور أعلى وساعات عمل أقل وظروف عمل ومعيشة أفضل. لكن أينما نجح العمال في فرض تلك التنازلات، نجد الرأسماليين يعملون بكل الوسائل المتاحة لهم على استعادة ما فقدوه. وفي الغرب على وجه الخصوص كان نقل الصناعات والتقشف وضرب النقابات، كلها وسائل لجأ إليها الرأسماليون في سباق محموم نحو القاع، مما يجبر العمال على التنافس في ما بينهم على من سيشتغل لخلق ثراء الرأسماليين.

لكن الرأسمالية هي أيضا نظام عالمي، لذلك فهي تجبر العمال على التنافس على مستوى عالمي، مما يؤدي إلى تشكيل طبقة أكبر فأكبر من الفقراء وعديمي الملكية، الذين يمكن للشركات الكبرى استغلالهم. وبهذه الطريقة يتمكن “خالقو الثروة” من أن يدفعوا أجورا هزيلة لمجموعة من العمال في بلد ما، بينما يخفضون أجور الآخرين، مع الاستمرار في تهنئة أنفسهم على مجهودهم الهائل للحد من الفقر!

وليست النتيجة الإجمالية هي رفع الإنسانية من أعماق الفقر، بل فرض حالة من العبودية القسرية على الأغلبية الساحقة من سكان العالم، الذين يصيرون أفقر من أن يتخلصوا من الاستغلال لكن ليس بالقدر الذي يعرضهم للموت جوعا. لكن بالنسبة لملايين البشر اليوم لا يستطيع النظام الرأسمالي حتى “ضمان وجود عبده داخل إطار عبوديته”، كما سبق لماركس أن كتب في البيان الشيوعي. تقدر الأمم المتحدة أن 20 مليون شخص يواجهون المجاعة في جنوب السودان ونيجيريا والصومال واليمن كجزء من أسوأ مجاعة عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وفي هذه الأثناء معدلات الانتحار في جميع أنحاء العالم آخذة في الارتفاع: الشيء الذي يعتبر دليلا واضحا على التقدم الذي حققته الرأسمالية خلال الثلاثين سنة الماضية.

أينما مدت الرأسمالية نفوذها (وهي اليوم قد مدت نفوذها في كل مكان على الأرض)، تجلب معها التراكم السريع لكل من الثروة والبؤس. إن نظام خلق الفقر هذا والطبقة الصغيرة من المستغِلين الذين يستفيدون أكثر منه، يستطيعون القضاء على الفقر بقدر ما يستطيع النمر إزالة مخالبه.

التفاؤل

لكن ورغم ذلك هناك اليوم الحاجة إلى التفاؤل وهناك أيضا سبب للتفاؤل: ليس ذلك التفاؤل المبني على الوعود الكاذبة لأمثال بيل غيتس، بل التفاؤل الثوري الذي يتأسس على الاعتقاد بأن الجماهير المضطهَدة والمستغَلة في هذا العالم يمكنها ويجب عليها أن تسيطر على الثروات المذهلة التي تنتجها وتستخدمها لبناء مستقبل ملائم للبشرية.

نحن ننتج اليوم ما يكفي لتغذية 10 ملايير شخص، في حين أن الملايين يتضورون جوعا. كما تجلس الشركات والملاذات الضريبية على جبال نقدية من تريليونات الدولارات غير المستثمرة التي يمكن استخدامها في إحداث ثورة في الإنتاج ومعالجة تغير المناخ وتوفير ظروف معيشية لائقة ومستدامة للجميع. لا شيء من هذا الوضع الذي نعيشه اليوم ضروري أو حتمي، بل هو نتاج لنظام يعتصر الربح لصالح الأقلية من فقر الأغلبية. لكن هذا يمكنه أن يتوقف.

إننا نرى في جميع أنحاء العالم تحركات الملايين من البشر ضد فقرهم واستغلالهم. وهذا هو أكثر ما يخشاه أصحاب الملايير المحسنون. إن الوقوف مع الجماهير في النضال والكفاح من أجل عالم اشتراكي جديد، عالم خال حقا من الفقر بجميع أشكاله، هو السبيل الوحيد لإنهاء حالة الهمجية التي صنعها النظام الرأسمالي. لدينا كل الأسباب للتفاؤل في هذه المعركة: لدينا عالم لنربحه.

جوش هولرويد
13 غشت 2018

هوامش:

1: أصحاب المليارات المحسنين (Billionaire philanthropists): مصطلح يطلق على بعض أصحاب الملايير الذين توجهوا إلى العمل الإحساني من أمثال بيل غيتس… (توضيح من المترجم)

2: التنوير الآن: قضية العقل، والعلوم، والإنسانيَّة، والتقدُّم: هو كتابٌ للغوي الأمريكي الكندي ستيفن بينكر يدافع فيه على أن الصحة والازدهار والأمان والسلام والسعادة في ازدياد في الغرب والعالم ككل، وترجع هذه النتائج الإيجابيَّة بشكل أساسي لقيم التنوير كالعلم والعقل والإنسانيَّة.

3: حقائق الأمور: 10 أسباب حول حقائق الحياة على الأرض.. ولماذا الأشياء أفضل مما نراها: كتاب لأستاذ الصحة العالمية هانز روسلينغ.

 

عنوان النص بالإنجليزية:

World poverty: capitalism’s crime against humanity