سيتم نشر أخر إصدارات دار نشر (Wellred Books)، تاريخ الفلسفة: منظور ماركسي، بقلم آلان وودز، في غضون أيام قليلة. ننشر أدناه مقتطفاً من مقدمة الكتاب، توضح لماذا يجب على الماركسيين الثوريين دراسة تاريخ الفلسفة، والدين الهائل الذي تدين به الماركسية للمفكرين الأوائل، وعلى وجه الخصوص لعمالقة الفلسفة الذين عاشوا في المرحلة الثورية والشبابية للعصر البرجوازي.
متوفر للشراء بسعر خاص للطلب المسبق حتى يوم 26 أيلول/سبتمبر.
نقطة البداية
بدأت العمل في كتابة تاريخ الفلسفة منذ حوالي سبعة وعشرين عاماً، عندما كتبت كتاب “العقل في ثورة”، الذي تناول العلاقة بين الفلسفة الماركسية والعلم الحديث. حقق الكتاب نجاحاً كبيراً، لكن اتضح أنه أطول بكثير مما كنت أتوقعه في الأصل. بسبب اعتبارات الطول، اضطررت على مضض إلى حذف الجزء الأول، الذي تناول تاريخ الفلسفة، وصولاً إلى ثورة ماركس العظيمة، النظرية المادية الديالكتيكية.
كانت الخطة هي نشر تاريخ الفلسفة كعمل منفصل في وقت ما في المستقبل. ولكن لأسباب مختلفة، تم تأجيل هذا القرار لإفساح المجال لمهام أكثر إلحاحاً. لأكثر من عقدين من الزمن، وُضعت المخطوطة جانباً، وتم تركها للنقد القاتل من قبل الفئران، كما قال ماركس ذات مرة، في إشارة إلى النص غير المنشور للإيديولوجيا الألمانية. تم نشر هذا النص على موقعنا على الإنترنت، وتم استقباله بشكل إيجابي، لكن النية الأصلية لنشره ككتاب لم تتحقق حتى الآن.
إنني مدين لمجهود عدد من الرفاق المهتمين بشكل خاص بالفلسفة الذين دفعوني إلى العمل لنشر هذا الكتاب. إنه يمثل مساهمة في الحملة المستمرة للتيار الماركسي الأممي لمحاربة الأيديولوجية البرجوازية والدفاع عن الأفكار الماركسية ونشرها. كان هذا قراراً ضرورياً وفي الوقت المناسب. في الوقت الذي يجد فيه النظام الرأسمالي نفسه في أزمة عميقة، يجد إفلاس النظام القائم تعبيره حتماً في تراجع واضح لكل جانب من جوانب الحياة الفكرية.
هذا واضح بشكل خاص في مجال الفلسفة، حيث يعبر الفكر البرجوازي عن اضمحلاله بطريقة فاضحة للغاية. لا يقتصر النضال من أجل الاشتراكية على السياسة والاقتصاد. يجب أن نناضل على جميع المستويات، بدءًا من مستوى الأفكار. إذا ساعد الكتاب الحالي في تسليح العمال والشباب في هذا النضال الضروري، فسيكون هدفي قد تحقق.
أولئك الذين قرأوا المخطوطة الأصلية سيرون أنه تم الحفاظ على النقاط الأساسية. لكنني قمت بمراجعة النص بدقة بمساعدة الرفاق، وأضفت أقساماً جديدة، لا سيما في الفصل الخاص بالعصور الوسطى، وأضفت أيضاً فصلاً أخيراً، وهو شرح كيف وصلت الفلسفة – على الأقل بالمعنى القديم للكلمة – إلى كمالها مع مجئ الماركسية.
ربما سوف يلاحظون أيضاً أن الفصل الإضافي الخاص بالفلسفة الهندية والذي تم تضمينه كملحق قد تم حذفه من الإصدار الحالي، بينما تم اختصار الفصل الخاص بالفلسفة الإسلامية، والذي يتناول بشكل أساسي الدور الذي لعبته في العصور الوسطى. لم يكن هذا عرضياً ولا بسبب عدم اهتمام من جانبي. في الواقع، العكس هو الصحيح. كما تتخيلون وتقدرون، فإن تقديم ألفي وخمسمائة عام من الفلسفة هو مهمة شاقة للغاية، ولأسباب تتعلق بالوقت، اضطررت إلى حذف العديد من الجوانب المهمة للموضوع، والذي كان لا بد من تجريده من كل شيء ما عدا الأساسيات.
استمر تطور الفلسفة الشرقية (التي يجب أن تشمل الفلسفة الصينية – وهو موضوع واسع في حد ذاته) على خطوط مختلفة تماماً عن الفلسفة في الغرب، والتي وصلت إلى ذروتها مع هيجل وبلغت أوجها في الثورة الفلسفية التي أحدثها ماركس و إنجلز. لإنصاف هذا الموضوع لا يتطلب الأمر مجرد توسيع ضخم (وغير مبرر تماماً) للكتاب الحالي، ولكنه يتطلب مجلداً إضافياً واحداً أو أكثر. لذلك، بدلاً من نشر سيرة ذاتية غير مرضية لموضوع معقد تماماً، وهذا لن يرضي أحد، على الأقل أنا نفسي، قررت أن أضع هذا الموضوع جانباً، ربما بقصد العودة إليه عندما يسمح ضغط الوقت والعمل بذلك.
ما هي الفلسفة؟
بدأت الماركسية كفلسفة، والمنهج الفلسفي للماركسية له أهمية أساسية في فهم أفكار ماركس وإنجلز. لكن ما هي الفلسفة؟
الفلسفة هي طريقة تفكير، تختلف عن نوع التفكير الذي اعتدنا عليه في الحياة العادية. لا يقتصر الأمر على الأسئلة المباشرة للحياة اليومية، بل تحاول التعامل مع الأسئلة الكبيرة للحياة والموت، والكون، وطبيعة الأفكار والمادة، وما هو الخير والشر. هذه قضايا لها أهمية كبيرة في نهاية المطاف لكل واحد منا. ومع ذلك، فهي لا تحتل عادة مكانة مركزية في أفكار معظم الناس.
طوال التاريخ، على الأقل حتى الوقت الحاضر، تم استهلاك عقول معظم الرجال والنساء بشكل أساسي في الصراع اليومي من أجل الوجود. إنهم مشغولون تماماً بالأسئلة اليومية مثل: هل سأحصل على وظيفة الأسبوع المقبل؟ هل سيكون لدي ما يكفي من المال حتى نهاية الشهر؟ هل سيكون لديّ سقف فوق رأسي، ومدرسة لأولادي، وما إلى ذلك.
ومع ذلك، فإن الفكر البشري قادر على القيام بأشياء أعظم بكثير. تاريخ الفكر يشمل تاريخ الفن، بدءًا من لوحات الكهوف الرائعة في لاسكو و ألتاميرا، تاريخ العلم الذي مكننا من غزو الطبيعة ومد أيدينا إلى النجوم، وأيضاً تاريخ الفلسفة برؤياه العديدة المدهشة.
تظهر الفلسفة بمجرد أن يبدأ الرجال والنساء في محاولة شرح العالم دون تدخل قوى خارقة للطبيعة: الآلهة والإلهات وما إلى ذلك من أدوات الدين الخرافية الموروثة من العصور البدائية. إنها تمثل بداية الفهم العلمي للطبيعة ولأنفسنا.
نظرة ثورية للعالم
الماركسية هي أولاً وقبل كل شيء نظرة عالمية، أو فلسفة إذا كنت تفضل ذلك. لها نطاق واسع. إنها نظرية للتاريخ والاقتصاد، وهي أيضاً دليل للفعل الثوري. لكن من أين أتى ماركس بأفكاره؟ لم تسقط عليه من السماء. ماركس نفسه أوضح أن هناك ثلاثة مصادر رئيسية لأفكاره: الاقتصاد البرجوازي الكلاسيكي الإنجليزي (آدم سميث وديفيد ريكاردو)، وفي نفس الوقت رواد الاشتراكية الطوباوية الجريئون: الفرنسيان سان سيمون وفورييه، وزميلي الويلزي روبرت أوين.
لكن العنصر الأول والأكثر أهمية في المراحل التكوينية لأفكار ماركس وإنجلز كان بلا شك الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، وخاصة هيجل. وهذا، بدوره، كان نتاج فترة طويلة من تطور العديد من مدارس الفكر الفلسفي المختلفة. الآن، سيكون من السهل جداً رفض، على سبيل المثال، أفكار الاشتراكيين الطوباويين (كما فعل دوهرينغ). لكن من المؤكد أنه من الأنسب الإشادة بمساهمتهم الرائعة في تاريخ الاشتراكية والاعتراف بالدور الذي لعبته أفكارهم في المرحلة التكوينية للماركسية.
لقد أعدت مؤخراً قراءة أجزاء من كتابات روبرت أوين ويمكنني أن أقول أن بعض أفكاره لا تزال ثورية إلى حد كبير حتى اليوم. هل يعني ذلك أننا بتكريم أوين، ندعو إلى العودة إلى أفكار الاشتراكية الطوباوية؟ بالطبع لا! لكن من المستحيل إنكار أن هذه الأفكار لعبت دوراً مهماً في تطوير الاشتراكية العلمية، هذه حقيقة.
لقد صادفت من حين لآخر تحيزاً صبيانياً إلى حد ما يتخيل أن كل ما حدث قبل ماركس وإنجلز يمكن تجاهله باعتباره محافظاً ورجعياً. من الصحيح تماماً أنه ليس فقط هيجل ولكن أيضاً آدم سميث وريكاردو كانوا من “مفكري الطبقة العليا”. يتصور بعض الحمقى أن هذه الحقيقة وحدها كافية لحرمانهم من أهليتهم كمفكرين ثوريين عظماء. ومن الصحيح أيضاً أن بعضهم (وإن لم يكن كلهم بأي حال من الأحوال) لديهم آراء سياسية تميل نحو المحافظة، أو حتى الرجعية. كان هيجل نفسه محافظاً في آرائه السياسية، على الرغم من تعاطفه مع الثورة الفرنسية في سنوات شبابه. لكن هذا لا يغير حقيقة أن أسلوبه الديالكتيكي احتوى على عنصر ثوري للغاية – وهي حقيقة اعترفت بها السلطات البروسية الرجعية، التي اعتبرت هيجل مشتبه به، بل واشتبهت في أنه ملحد وصاحب آراء هدامة.
شرح ماركس منذ زمن بعيد أن الأفكار السائدة في كل عصر هي أفكار الطبقة السائدة. كان هؤلاء الرجال يمثلون أكثر الأفكار تقدماً في عصرهم واستند ماركس إلى هذه الأفكار. أدى قانون القيمة الذي اكتشفه آدم سميث وطوره ريكاردو مباشرة إلى نظرية ماركس عن فائض القيمة، وأدى الديالكتيك المثالي لهيجل إلى المادية الجدلية. إن فكرة أن الماركسيين يمكن أن يتجاهلوا أفكار الماضي هي فكرة غبية مثل التحيز الذي يحمله بعض الأناركيين المتطرفين، الذي يعتبر أنه من أجل بناء مجتمع جديد لا طبقي، من الضروري تدمير كل ما كان من قبل وبناءه من جديد. هذا هو جوهر الطوباوية المقطر، وإذا قبلناها، فإن إمكانية القيام بثورة اشتراكية في الممارسة العملية ستكون مستبعدة.
لن تؤدي الثورة الاشتراكية إلى تدمير الإنجازات الحالية للرأسمالية، بل على العكس من ذلك، ستبني عليها، وتملأها بمحتوى اجتماعي وطبقي مختلف تماماً. لن تخدم إنجازات العلم والتكنولوجيا مصالح الطبقة السائدة الطفيلية الصغيرة، ولكن سيتم التخطيط لها بانسجام لصالح المجتمع بأسره. سنبني المجتمع الجديد، باستخدام الطوب الذي خلفه القديم، لسبب بسيط هو عدم وجود حجارة أخرى جاهزة لهذا الغرض.
بنفس الطريقة التي نستفيد بها من القوى الإنتاجية الموجودة – الأرض والمصانع والعلوم والتكنولوجيا – الموروثة من المجتمع القديم، يجب أن نبني أنفسنا على الأفكار الأكثر تقدماً التي تم تطويرها في الماضي. نفت الماركسية مثالية هيجل، بينما حافظت في نفس الوقت على كل ما كان تقدمياً وثورياً في منهجه الديالكتيكي. أنقذ مؤسسو الاشتراكية العلمية الديالكتيك، الذي قدم على يد هيجل في شكل مشوه ومثالي، ووضعوه لأول مرة على أساس مادي سليم. من خلال القيام بذلك، ابتكروا سلاحاً قوياً لتغيير المجتمع بطريقة ثورية.
لماذا ندرس تاريخ الفلسفة؟
تستند جميع كتابات ماركس وإنجلز إلى منهج فلسفي محدد ولا يمكن فهمها بدونه، منهج المادية الديالكتيكية. وينطبق الشيء نفسه على أعمال لينين وتروتسكي، أبرز ممثلي الفكر الماركسي في القرن العشرين. كان الديالكتيك معروفاً بالفعل عند اليونانيين القدماء وطوره هيجل لاحقاً. ليس من الصعب فهم الأفكار الأساسية للمادية الديالكتيكية. مثل كل الأفكار العظيمة، فهي بسيطة بشكل أساسي، وهي جميلة في بساطتها.
لكن الكثير من الذين يعتبرون أنفسهم ماركسيين يكتفون بتكرار بعض الأفكار الأساسية دون التفكير في المعنى الأعمق لما يقولونه. يشبه هؤلاء “الماركسيون” طفلاً صغيراً تعلم تلاوة جداول الضرب عن ظهر قلب، أو بالأحرى بغبغاء تعلم عن طريق تقليد الكلام البشري تكرار جمل معينة، دون أن يكون لديه فهم عميق لمعناها. من أجل الوصول إلى فهم كامل للمادية الديالكتيكية، سيكون من الضروري أن يكون هناك قدر كبير من الدراسة الدقيقة. في الوقت الحالي، أعمل على كتاب شامل إضافي حول الفلسفة الماركسية، وآمل أن يساعد في توضيح الأسئلة الأكثر تعقيداً في هذا الموضوع.
لكن هناك صعوبة في دراسة الفلسفة بشكل عام، والفلسفة الماركسية على وجه الخصوص، وهذا صميم هدف الكتاب الحالي. عندما كتب ماركس وإنجلز عن المادية الديالكتيكية، كان بإمكانهما افتراض معرفة أساسية لتاريخ الفلسفة من جانب الجمهور المتعلم على الأقل في ذلك الوقت. في الوقت الحاضر، من المستحيل وضع مثل هذا الافتراض.
“تاريخ الفلسفة” لهيجل
بدأت في قراءة كتاب هيجل الضخم المكون من ثلاثة مجلدات، “تاريخ الفلسفة”، عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، كنت حينها ما زلت في المدرسة. لقد قرأت المجلد الأول بالكامل ونصف المجلد الثاني قبل أن ألتحق بالجامعة. لقد وجدت شئ مثير للغاية، أمام عيني كان هناك ما يقرب من ألفي وخمسمائة عام من أعمق الفكر الإنساني، تم كتابته بطريقة جدلية واضحة وشاملة بشكل مقنع.
ما زلت أمتلك العديد من الدفاتر المليئة بالملاحظات التي كتبتها في ذلك الوقت عن تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ وظاهرة الروح. حتى أنني كنت أمتلك دفتراً قمت بنسخ أقساماً واسعة فيه من منطق هيجل في “موسوعة العلوم الفلسفية” (The Encyclopaedia of Philosophical Science). لقد بحثت عبثاً عن نسخة من هذا العمل الرائع، لكن عندما حصلت أخيراً على نسخة من مكتبة مرجعية، اتضح أنها باللغة الألمانية الأصلية! لكن لم يكن لي أن اتعطل بمثل هذه التفاصيل. في ذلك الوقت، كانت معرفتي باللغة الألمانية جيدة جداً، لذلك بدأت في قراءتها وتدوين الملاحظات. لسوء الحظ، ضاع دفتر الملاحظات هذا أثناء رحلاتي.
هذا الحماس لهيجل ظل معي منذ ذلك الحين. ما أدهشني في تاريخ الفلسفة هو الطريقة الجديدة والأصلية للغاية التي تناول بها هيجل الموضوع. لا يتم تقديم التاريخ كسلسلة من التطورات العرضية، ولكن ككل عضوي – عملية تطورت من خلال سلسلة من التناقضات، حيث يبدو أن مجموعة من الأفكار تنفي مجموعة سابقة، مما يؤدي إلى دوامة لا نهاية لها من تطور الفكر البشري.
بالطبع، قد يجد المرء خطأ في منهج هيجل المثالي لتاريخ الفلسفة. لكن أهم شيء يجب رؤيته هو الأسلوب الديالكتيكي الذي يميز جميع أعماله. حينما لم يكن يرى الآخرون سوى الأفكار غير المترابطة والحوادث والأفراد العباقرة، كان هيجل أول من رأى عملية عضوية بقانون ومنطق داخلي خاص بها.
في تطور الفلسفة من خلال سلسلة من التناقضات، لم يرى هيجل مجرد عملية سلبية، حيث تمحو مجموعة من الأفكار مجموعة أخرى بشكل كامل. لقد فهم أن عملية النفي هذه تعني أيضاً الحفاظ على كل ما هو صحيح وحقيقي في المراحل السابقة. فكرة النفي هذه التي تحافظ على شئ من القديم في الوقت نفسه هي ما أسماه “sublimation”، وقد تم التعبير عنها بأرقى لغة في مقدمته لظواهر الروح:
يختفي البرعم عندما تنفجر الزهرة، ويمكن للمرء أن يقول إن البرعم قد دحضه الزهرة. وبالمثل، عندما تظهر الثمرة، يتم إعلان أن الزهرة كائن مزيف [شكل] من النبات، وتحل الفاكهة محل الزهرة كحقيقة النبات. هذه الأشكال ليست مختلفة فقط، بل إنها تحل محل بعضها البعض لأنها غير متوافقة بشكل متبادل. ومع ذلك، في الوقت نفسه، تجعلهم طبيعتهم السائلة لحظات من الوحدة العضوية، حيث لا يتعارضون فيها فحسب، بل يكون كل منهم ضرورياً مثل الآخر، وهذه الضرورة المشتركة وحدها هي التي تشكل حياة الكل.
قال إنجلز، في تعليقه على فلسفة هيجل في التاريخ، إن هذه الطريقة تمثل خطوة هائلة إلى الأمام:
لقد كان أول من حاول إثبات أن هناك تطوراً، وتماسكاً جوهرياً في التاريخ، ومهما كانت بعض الأشياء الغريبة في فلسفته عن التاريخ تبدو لنا الآن، فإن عظمة المفهوم الأساسي لا تزال مثيرة للإعجاب حتى اليوم، مقارنة بكل من أسلافه أو أولئك الذين تبعوه الذين غامروا بتقديم ملاحظات عامة عن التاريخ.
على الرغم من كل عيوبه، فإن عظمة تاريخ الفلسفة لهيجل – اكتساحه المهيب ورؤاه العميقة – لا يزال مصدر تعجب وإعجاب بالنسبة لي حتى يومنا هذا. أما بالنسبة لنقاد هيجل ما بعد الحداثيين، فسأكرر ما كتبه لينين ذات مرة عن روزا لوكسمبورغ، مقتبساً من مثل روسي قديم: “قد تطير النسور في بعض الأحيان على مستوى أدنى من الدجاج، لكن الدجاج لا يمكن أبداً أن يرتفع إلى ارتفاع النسور”.
النظرة الماركسية لتاريخ الفلسفة
في الكتاب الحالي، حاولت الاستفادة من ابتكار هيجل، ولكن من وجهة نظر مادية ثابتة. هذا ليس تاريخ فلسفة بالمفهوم التجريبي للكلمة. كما أنها ليست خلاصة وافية لكل ما قاله الجميع عن الفلسفة. كل من يسعى للعثور في هذا الكتاب، على سبيل المثال، على دراسة مفصلة لجمهورية أفلاطون، سيصاب بخيبة أمل للأسف. انصح مثل هذا الشخص أن يتوجه إلى أقرب مكتبة مرجعية عامة جادة، حيث أثق في أنهم قد يجدون عدداً كافياً من الأعمال الثقافية التي ترضي فضوله. هذا الكتاب هو تاريخ الفلسفة في جوهرها. أي أنني حاولت اتباع الخط السائد في تطور الفكر، الذي له قوانينه الجوهرية.
من ناحية أخرى، أخشى ألا يرضي كتابي هؤلاء “الماركسيين” الميكانيكيين الذين يتصورون أنه من الممكن اختزال كل شيء في تطوير قوى الإنتاج و/أو الصراع الطبقي. بالطبع، في التحليل النهائي، هذه هي القوى المحركة الأساسية لتاريخ البشرية وتحدد مصير البلدان والدول والإمبراطوريات. لكن محاولة العثور على تفسير، على سبيل المثال، للأعمال الفنية والموسيقى، أو التقلبات الرائعة للفلسفة والدين من خلال فرض ارتباط مباشر مع هذه البنية التحتية سيكون بمثابة إهدار أحمق للوقت.
ومع ذلك، بقدر ما يمكن للفلاسفة (مثل أي شخص آخر) أن يتأثروا بالحالة العامة للمجتمع – صعود وسقوط قوى الإنتاج والتوترات الاجتماعية والسياسية الناتجة – يمكن تمييز العلاقة في مراحل معينة، وإن كانت غير مباشرة، كما سيشير كتابي.
كما كتب إنجلز في رسالة إلى الاقتصادي الألماني كونراد شميدت:
أما فيما يتعلق بعوالم الأيديولوجيا التي لا تزال معلقة في الهواء، والدين، والفلسفة، وما إلى ذلك، فهذه لها مخزون من عصور ما قبل التاريخ، موجود بالفعل وتم الاستيلاء عليه في الفترة التاريخية، من ما يجب أن نسميه اليوم هراء. هذه المفاهيم الخاطئة المتنوعة عن الطبيعة، وكيان الإنسان، والأرواح، والقوى السحرية، وما إلى ذلك، ليس لها في معظمها سوى أساس اقتصادي سلبي، لكن التطور الاقتصادي المنخفض لفترة ما قبل التاريخ كان بسبب ومشروط جزئياً بالمفاهيم الخاطئة عن الطبيعة.
وعلى الرغم من أن الضرورة الاقتصادية كانت القوة الدافعة الرئيسية للمعرفة التقدمية بالطبيعة وأصبحت كذلك الآن أكثر من أي وقت مضى، فمن المؤكد أنه سيكون من الحذق محاولة إيجاد أسباب اقتصادية لكل هذا الهراء البدائي. إن تاريخ العلم هو تاريخ التخلص التدريجي من هذا الهراء أو استبداله بهراء جديد ولكنه أقل عبثية.
الأشخاص الذين يتعاملون مع هذا ينتمون بدورهم إلى مجالات خاصة في تقسيم العمل ويبدو أنهم يعملون في مجال مستقل. وبقدر ما يشكلون مجموعة مستقلة داخل التقسيم الاجتماعي للعمل، فإن إنتاجهم حتى الآن، بما في ذلك أخطائهم، يتفاعل مرة أخرى كتأثير على تطور المجتمع بأكمله، حتى على تطوره الاقتصادي.
لكنهم على الرغم من ذلك يظلون أنفسهم تحت التأثير المهيمن للتنمية الاقتصادية. في الفلسفة، على سبيل المثال، يمكن إثبات ذلك بسهولة في العصر البرجوازي. كان هوبز أول مادي حديث (بمعنى القرن الثامن عشر) لكنه كان مستبداً في فترة كانت فيها الملكية المطلقة في أوجها في جميع أنحاء أوروبا بأكملها وعندما بدأ الصراع بين الملكية المطلقة والشعب في إنجلترا. كان لوك، في كل من الدين والسياسة، ابن التسوية الطبقية عام 1688. كان الربوبيون الإنجليز، وخلفاؤهم الأكثر ثباتاً الماديون الفرنسيون، الفلاسفة الحقيقيين للبرجوازية، وحتى الماديين الفرنسيين أبناء الثورة البرجوازية. يمر البرجوازي الصغير الألماني عبر الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيجل، في بعض الأحيان بشكل إيجابي وأحياناً بشكل سلبي. لكن فلسفة كل عصر، بما أنها مجال محدد في تقسيم العمل، لها افتراضها المسبق المكون من بعض المواد الفكرية المحددة التي ورثها لها أسلافها، والتي تنطلق منها.
وهذا هو السبب في أن البلدان المتخلفة اقتصادياً لا تزال تلعب دور الكمان الأول في الفلسفة: فرنسا في القرن الثامن عشر مقارنة بإنجلترا، التي أسس الفرنسيون أنفسهم على فلسفتها، ولاحقاً ألمانيا بالمقارنة مع كليهما. لكن فلسفة كل من فرنسا وألمانيا والازدهار العام للأدب في ذلك الوقت كان أيضاً نتيجة لتطور اقتصادي متصاعد.
أنا أعتبر أن السيادة المطلقة للتنمية الاقتصادية تم تأسيسها في هذه المجالات أيضاً، لكنها تأتي في إطار الشروط التي يفرضها المجال المعين نفسه: في الفلسفة، على سبيل المثال، من خلال تشغيل التأثيرات الاقتصادية (التي تعمل مرة أخرى بشكل عام فقط في ظل السياسة، إلخ. .، بشكل متنكر) على المواد الفلسفية الموجودة التي ورثوها عن أسلافهم.
هنا لا يخلق الاقتصاد شيئاً جديداً تماماً، لكنه يحدد الطريقة التي يتم بها تغيير مادة الفكر الحالية وتطويرها، وهذا أيضاً بالنسبة للجزء الأكبر بشكل غير مباشر، لأن ردود الفعل السياسية والقانونية والأخلاقية هي التي تمارس أعظم تأثير مباشر على الفلسفة.
ما يفتقر إليه هؤلاء السادة هو الجدل. إنهم لا يرون أي شيء سوى هنا السبب وهنا النتيجة. أن هذا تجريد أجوف، وأن مثل هذه الأضداد الميتافيزيقية القطبية موجودة فقط في العالم الحقيقي أثناء الأزمات، بينما تستمر العملية الواسعة بأكملها في شكل تفاعل (على الرغم من وجود قوى غير متكافئة للغاية، فإن الحركة الاقتصادية هي إلى حد بعيد الأقوى والأكثر عنصرية والأكثر حسماً) وكل شيء هنا نسبي ولا شيء مطلق – وهذا لم يستطيعوا رؤيته أبداً. لم يكن هيجل موجودا بالنسبة لهم.
ما حاولت القيام به هنا هو رسم المسار الأساسي والعام لعملية تقدم المعرفة، والتي يضع تطورها الكامل في كل حقبة من التاريخ الأساس للفكر البشري للانتقال إلى المرحلة التالية.
ليست مهمة الماركسيين على الإطلاق تأكيد وتشريح كل مدرسة فكرية كانت موجودة. بدلاً من ذلك، مهتهم هي استخلاص من عدد لا يحصى من الاتجاهات والأفكار المتضاربة، المبادئ الأساسية والعقلانية، التي دفعت بالإنسانية إلى المرحلة التي نحن فيها الآن. ساهمت هذه العملية بشكل كبير في التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا، والتي بدورها أرست الأساس لإمكانية تقدم البشرية إلى مرحلة أعلى من الناحية النوعية من التطور، في ظل الاشتراكية.
موقف ما بعد الحداثة من الماضي: عندما يكون الجهل نعمة، فإن من الحماقة أن تكون حكيماً
للديالكتيك تاريخ طويل جداً، بدءًا من اليونانيين وفلاسفة ما قبل سقراط وخاصة هيراقليطس. يصل إلى أعلى تعبير له في أعمال هيجل. لكن الاتجاه السائد في الفلسفة البرجوازية الحديثة يعامل كل الفلسفة السابقة بازدراء. لم يتم رفض الماركسية فحسب، بل جميع أفكار الماضي العظيمة، على نحو تافه، ووصفت بأنها “سرديات كبرى” وأرسلت دون تفكير إلى مزبلة التاريخ.
في الماضي، عندما كانت البرجوازية لا تزال قادرة على لعب دور تقدمي، كان لديها أيديولوجية ثورية. لقد أنتجت مفكرين عظماء و أصليين: لوك وهوبز وروسو وديدرو، وغيرهم من المفكرين الثوريين في عصر التنوير الفرنسي: كانط وهيجل وآدم سميث وديفيد ريكاردو ونيوتن وداروين. لكن الإنتاج الفكري للبرجوازية في فترة انحدارها يظهر كل الأدلة على انحطاط الشيخوخة المتقدم.
هناك فترات في التاريخ تتميز بمزاج التشاؤم والشك واليأس. في مثل هذه الفترات، بعد أن يفقد الناس الثقة في المجتمع القائم وأيديولوجيته، لا يصبح أمامهم إلا بديلين فقط: الأول هو تحدي النظام القائم واتخاذ الطريق الثوري، والآخر هو الانكفاء على الذات في محاولة عقيمة لتجاهل التناقضات في المجتمع، والسعي وراء الخلاص الشخصي، سواء في الدين أو في الذاتية الفلسفية المتطرفة.
المجتمع القديم يحتضر وهو واقف على قدميه، ويرفض بعناد قبول مصيره. تستمر المصالح المادية القوية في بذل الجهود الحثيثة لتدعيم نفسها، وهي تمتلك موارد هائلة وتمارس تأثيراً لا يقاوم على كل جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والفكرية. اليوم، إيديولوجية البرجوازية في طور التفكك، ليس فقط في مجالات الاقتصاد والسياسة ولكن أيضاً في مجال الفلسفة. لا يتم إنتاج شيئاً ذو قيمة. لم تعد تحظى بدعم إيجابي أو احترام أو سلطة معنوية، بل إنها تنبعث من الحالة المزاجية السلبية، كما تنبعث من الجثة رائحة كريهة. هذه الحالة المزاجية تجد تعبيرها حتماً في الفلسفة السائدة. من المستحيل قراءة الإنتاج القاحل لأقسام الفلسفة بالجامعات دون الشعور بالملل والغضب بنفس القدر. وغني عن القول أن هذا التراجع العام يجد انعكاسه في المواقف تجاه تاريخ الفلسفة.
الطلاب الشباب ذوو العيون الساطعة الذين يدخلون أقسام الفلسفة بآمال كبيرة في التنوير إما خاب أملهم بسرعة أو يتم جرهم إلى المستنقع السام من رطانة ما بعد الحداثة حيث لا يمكن الهروب منها. في كلتا الحالتين، سوف يتخرجون دون تعلم أي شيء ذو قيمة من مفكرين الماضي العظماء. لا تكتفي أقسام الفلسفة بملء عقول الشباب بقمامة ما بعد الحداثة، بل تمتلك الجرأة لإدخال نفس القمامة في دراسة الماضي. من الواضح أن عصابة ما بعد الحداثة الأكاديمية لا تحب أن يتم تذكيرها بحقيقة أنه كان هناك وقت كان فيه الفلاسفة في الواقع يمتلكون شيئاً عميقاً ومهماً ليقولوه عن العالم الحقيقي.
تحريف التاريخ الفلسفي
لقد أُشير لي مؤخراً إلى أن هناك ترجمة جديدة (ومُثنى عليها بشدة) لهيجل تحتوي على خطأ فادح في الترجمة من الألمانية، مما يضمن مصطلحات ما بعد الحداثة في فم ذلك المفكر الديالكتيكي العظيم. تترجم الكلمات الألمانية (Denken) و (Denkend) إلى الإنجليزية الجديدة عن طريق جامعة كامبردج، التي تترجم علم المنطق لهيجل، والتي أصبحت مقدسة في الجامعات في جميع أنحاء العالم، تلك الكلمات التي تعني في اللغة الإنجليزية بوضوح “الفكر” و “التفكير” كـ “خطاب” و “استطراد”.
هذا تزوير صارخ لأفكار هيجل وانتهاك لجميع المعايير الأخلاقية للترجمة. إنه عمل إجرامي لمحاولة تسلل ذاتية ما بعد الحداثة إلى هيجل. في دفاعه عن هذا الخيار، يؤكد المترجم جورج دي جيوفاني عبثاً دون أي دليل أن: “موضوع المنطق ليس “الشيء في ذاته” أو تجلياته الظاهرية، سواء اعتبر المرء “في ذاته” على أنه الجوهر أو الحرية، لكن الخطاب نفسه”.
هذا ليس أقل من فضيحة. ومع ذلك، فقد مرت دون أن يلاحظها أحد من “النقاد”، الذين يسعدهم “السرد” الجديد. إنه عمل تخريبي، يشبه إلى حد ما رسم شارب على وجه الموناليزا. هذه التفاصيل الصغيرة يجب أن تضعنا بالفعل على أهبة الاستعداد.
موضوعية زائفة
ليس لدي أدنى شك في أن أذكياء الجامعات لن يتوانوا في اتهامي بتقديم نسخة أحادية الجانب عن تاريخ الفلسفة. أنا أقر بالذنب. كماركسي ملتزم، لدي كل النية للدفاع عن وجهة نظر فلسفية معينة – وجهة النظر المادية الديالكتيكية.
أقسام الفلسفة في الجامعات ليست أبراجاً عاجية للمعرفة والثقافة، إنما هي مجرد خنادق في الحرب بين الطبقات. يتم إخفاء هذه الخنادق بعناية بتمويهيها بمهارة بموضوعية علمية زائفة. لكن وراء هذه الشبكة المعقدة من الأكاذيب، يجد المرء دائماً مصالح مادية، وتحيزاً طبقياً، ودفاعاً مستميتاً عن الوضع الراهن.
تاريخ الفلسفة كله كان دائماً صراعاً مستمراً بين وجهتي نظر متعارضتين و متنافرتين: المادية الفلسفية و المثالية الفلسفية. وهذا يعني، النهج العلمي أو محاولة جر الوعي البشري إلى الوراء إلى عالم التصوف الديني. نظراً لأن مجال الفلسفة يتكون دائماً من سلسلة كاملة من “الإصدارات أحادية الجانب”، فمن المستحيل تماماً تجنب الانحياز إلى جانب أو آخر من وجهات النظر العالمية هذه. الاختلاف الوحيد بين الكاتب الحالي ونقاده هو أنني كنت صادقاً بما يكفي لإعلان توجهي منذ البداية، في حين أن نقادي دائماً ما يختبئون وراء “الموضوعية” المنافقة والزائفة، والتي تعمل فقط على إخفاء آرائهم الحزبية و وجهة نظرهم الطبقية.
حتى يومنا هذا، لا تزال الفلسفة معركة شرسة بين المادية والمثالية، حيث يتعدد أعداء المادية ولديهم العديد من المزايا. لكن هل حقيقة أن المرء يتبنى وجهة نظر فلسفية وسياسية محددة شئ يستبعد عنه الموضوعية؟ هذا افتراض تناقضه الحقائق. رد على ذلك الماركسي العظيم ليون تروتسكي على النحو التالي:
في نظر التافه، فإن وجهة النظر الثورية تكاد تكون مكافئة لغياب الموضوعية العلمية. نعتقد عكس ذلك تماماً: فقط الثوري – بشرط أن يكون مُجهزاً بالمنهج العلمي – هو القادر على كشف الديناميكيات الموضوعية للثورة. إن فهم الفكر بشكل عام ليس تأملياً، ولكنه نشط. عنصر الإرادة لا غنى عنه لاختراق أسرار الطبيعة والمجتمع. تماماً كما يميز الجراح، الذي تعتمد مهاراته البشرية على مشرطه، بعناية فائقة بين مختلف أنسجة الكائن الحي، كذلك فإن الثوري، إذا كان لديه موقف جاد تجاه مهمته، ملزم بضمير صارم لتحليل بنية المجتمع ووظائفها وردود أفعالها.
كلمة عن نقادي
منذ أن ظهرت الماركسية كقوة مهمة تتحدى النظام القائم، شنت المؤسسة الحاكمة حرب دائمة ضد كل جانب من جوانب الأيديولوجية الماركسية، بدءًا من المادية الديالكتيكية. إن ذكر الماركسية في حد ذاته يثير رد فعل سريع في مثل هذه الدوائر. “عفا عليها الزمن”، “غير علمية”، “تم دحضها منذ فترة طويلة”، “ميتافيزيقيا”، وكل ما تبقى من سلسلة ردود الفعل الرديئة والمرهقة.
ليس لدي أدنى شك في أن الكتاب الحالي سيُستقبل بجوقة رفض مماثلة. هذا لا يزعجني على الإطلاق. لقد استمعت إلى نفس السيل الممل من الإساءات على مدى العقود الستة الماضية، ولم تكتسب حجج نقاد ماركس أي قوة أكبر من خلال تكرارها بشكل مستمر ورتيب. أنا أفهم أن هذا سوف يثير خصومي. سيحاولون دحض حججي من خلال البحث في النصوص القديمة لمحاولة إثبات أن الأسود هو الأبيض والأبيض أسود. هذا رد فعل طبيعي تماماً، لأنهم هم أنفسهم يدافعون عن وجهة نظر فلسفية معينة، والتي تتعارض تماماً مع وجهة نظري. أعني بذلك وجهة نظر المثالية الفلسفية – سواء الموضوعية أو الذاتية.
بطبيعة الحال ليس لدي اعتراض على هذا. لديهم كل الحق في الدفاع عن أي أفكار صوفية وغير عقلانية تروق لهم. لكن لا ينبغي أن يحاولوا إخفاء انحيازهم وراء واجهة موضوعية زائفة، أو محاولة تشويه أفكار مفكرين عظماء من الماضي لتتلاءم مع نظرتهم الضيقة والرجعية.
الفلسفة كسلاح ثوري
على الرغم من هالة التفوق السامي وازدراء الصراع الطبقي، فإن الفلسفة الرسمية ليست سوى سلاح آخر في يد الطبقة السائدة، ويتم استخدامها عن قصد لإرباك الشباب وتشويشهم وإبعادهم عن طريق الثورة. على حد التعبير القديم لجوزيف ديتزجين، الفلسفة ليست علماً إنما سلاح ضد الاشتراكية.
في الأزمنة السابقة، كان الفلاسفة متمردين، زنادقة خطرين مصممين على تقويض النظام الأخلاقي والاجتماعي القائم. أُجبر سقراط على شرب السم، اتُهم سبينوزا بالإلحاد، وحُرم كنسياً وشتم. تم حرق جيوردانو برونو على وتد من قبل محاكم التفتيش، مهد الفلاسفة الفرنسيون في القرن الثامن عشر الطريق لاقتحام الباستيل. أما في أيامنا هذه، ينظر معظم الناس إلى الفلسفة والفلاسفة إما بلامبالاة أو ازدراء، وهو أمر يستحقونه بشدة. لكن من دواعي الأسف الشديد أنه في الابتعاد عن الصحراء الفلسفية الحالية، يتجاهل الناس مفكرين الماضي العظام الذين كانوا، على عكس الأقزام المعاصرين، عمالقة الفكر الإنساني.
حافظت الفلسفة المثالية القديمة بعناد على استقلالها الخيالي عن الحياة الاجتماعية. حتى يومنا هذا، يدعي فلاسفة الأوساط الأكاديمية الانفصال عن العالم القذر للبشر الحقيقيين والحياة الاجتماعية والسياسة. لكن هذا مجرد وهم. في الواقع، هم يمثلون مجرد انعكاس لنفس العالم، وإن كان بشكل غامض. في التحليل الأخير، سواء كانوا مدركين لهذا أم لا، فإن الأفكار التي يدافعون عنها هي دفاع مقنع رقيق عن المجتمع القائم، وفي الأساس، دفاع عن أكثر المصالح الشخصية دناءة وسخافة.
من ناحيتي، ليس لدي أي نية للرقص على نفس الأنغام المعقدة مع الأكاديميين الذين يسترشدون فقط بالكراهية العمياء للماركسية والرغبة الشديدة في الحفاظ على الوضع الراهن. فقط من خلال إزالة الأوساخ، هذه القمامة الأيديولوجية، يمكننا تمهيد الطريق للنشاط الناجح للصراع الطبقي. إن واجب الماركسية هو توفير بديل شامل للأفكار القديمة والفاسدة. لكن ليس لدينا الحق في إدارة ظهورنا لمفكرين الماضي العظام: اليونانيون، وسبينوزا، والماديون الفرنسيون في عصر التنوير، وقبل كل شيء، هيجل. كان هؤلاء رواداً بطوليين، مهدوا الطريق لإنجازات رائعة للفلسفة الماركسية، ويمكن اعتبارهم بحق جزءًا مهماً من تراثنا الثوري.
من واجبنا إنقاذ كل ما له قيمة في تاريخ الفلسفة، مع نبذ كل ما هو زائف وعفا عليه الزمن وعديم الفائدة. مثلما مهدت ثورة أكتوبر وكومونة باريس واقتحام الباستيل الطريق إلى الثورة الاشتراكية المستقبلية التي ستغير العالم بأسره، كذلك أرست المعارك الفلسفية الكبرى في الماضي الأساس للمادية الديالكتيكية – فلسفة المستقبل. ومثلما نولي اهتماماً خاصاً لدروس النضالات الطبقية في الماضي، فمن واجبنا دراسة معركة الأفكار الكبرى التي تشكل المعنى الأساسي لتاريخ الفلسفة.
14 أيلول/سبتمبر 2021
ترجم عن النص الأصلي:
Introduction to The History of Philosophy: A Marxist Perspective by Alan Woods