الرئيسية / تحليلات تاريخية / ثوار وشهداء / روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثورية حقيقية

روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثورية حقيقية

للاحتفاء بالذكرى 150 لميلاد روزا لوكسمبورغ، ننشر هذا المقال الذي كتب تخليدا للذكرى المائوية لاغتيالها، وهو ما كان بمثابة قطع لرأس الثورة الألمانية. ومن خلال هذا المقال للرفيقة بياتريس بالمييري، نعمل على تذكر حياة هذه المناضلة الثورية ونضالها وأفكارها.


قلة هي الشخصيات التاريخية التي تعرضت لذلك القدر من سوء الفهم والتحريف الذي تعرضت له روزا لوكسمبورغ، الزعيمة الماركسية الثورية، البولندية المولد، التي قُتلت مع رفيقها كارل ليبكنخت، على يد قوات الدولة الألمانية قبل مائة عام، في الخامس عشر من يناير عام 1919.

بحلول الذكرى المائوية لاغتيالها، حان الوقت لوضع الأمور في نصابها الصحيح بخصوص “روزا الحمراء” وحياتها وأفكارها. والأهم من ذلك هو أنه من الضروري أن نتعلم دروس الثورة الألمانية، حتى لا تذهب تضحيات لوكسمبورغ ورفاقها سدى.

إصلاح أم ثورة

ولدت روزا لوكسمبورغ عام 1871 لعائلة يهودية بولندية، في زاموسك، في بولندا التي كانت، في ذلك الوقت، تحت سيطرة الإمبراطورية القيصرية الروسية. انخرطت في الحركة الثورية في سن السادسة عشرة، واضطرت إلى الفرار من البلاد، عام 1889، لتجنب الاعتقال بسبب نشاطها السياسي غير القانوني.

ذهبت إلى زيورخ حيث درست في الجامعة وبقيت منخرطة في الحركة الثورية الأممية. وعملت، مع ليو جوغيشيس وماركسيين آخرين، على تأسيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي لمملكة بولندا وليتوانيا.

عندما انتقلت إلى برلين، عام 1898، للمشاركة في الحركة العمالية الألمانية -التي كانت في ذلك الوقت الأكثر تقدما وثباتا في أوروبا- وانضمت إلى الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وهناك دافعت باستمرار عن أن السبيل الوحيد للخروج من مأزق المجتمع الرأسمالي هو أن تأخذ الطبقة العاملة السلطة بأيديها وتنظم المجتمع بما يخدم مصالحها الطبقية.

لقد كانت منظمة ومحرضة ماهرة، وجعلتها مواقفها الثورية تدخل في صدام حاد مع أمثال إدوارد بيرنشتاين، الذي كان في ذلك الوقت الممثل الأكثر وضوحا ربما للتيار التحريفي (أي الإصلاحي) داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

نشر بيرنشتاين سلسلة من المقالات أكد فيها أن الرأسمالية قد تغلبت على تناقضاتها من خلال توسيع مجال الاقتراض وغيرها من الآليات الأخرى، وبالتالي فإن الأساليب التقليدية للنضال الطبقي قد أصبحت متجاوزة، ودعا الطبقة العاملة والحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى التعاون مع أرباب العمل من أجل إصلاح النظام.

فقامت لوكسمبورغ بتحطيم تلك الأفكار في كراسها الشهير “إصلاح اجتماعي أم ثورة”، والذي ما زال تحليلا ذا راهنية كبرى في الدفاع عن ضرورة الإطاحة الكاملة بالرأسمالية وليس إدخال التحسينات عليها.

الإضراب الجماهيري

كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يبدو لبقية بلدان أوروبا الأخرى، حيث كان الاشتراكيون الديمقراطيون يكافحون من أجل تجميع ولو نواة الحزب الثوري، يبدو وكأنه النموذج المثالي الذي يجب اتباعه. لكن محاولة بيرنشتاين لمراجعة الماركسية كانت انعكاسا لمشاكل خطيرة داخل الحزب.

تأسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام 1875، في سياق طفرة هائلة للرأسمالية الألمانية بعد توحيد البلاد عام 1871. فخلال الفترة الممتدة من سبعينيات القرن التاسع عشر إلى العقد الأول من القرن العشرين نما الإنتاج الصناعي الألماني ستة أضعاف.

خلق نمو الرأسمالية في تلك الفترة الأساس لحركة اشتراكية قوية متجذرة في الطبقة العاملة. كما أدى إلى فترة من السلام الطبقي النسبي، من هزيمة كومونة باريس عام 1871، حتى نهاية الانتعاش الاقتصادي عام 1912، وهي الفترة التي شكلت النظرة المحافظة لقادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. كما أصبح الجهاز البيروقراطي الهائل مجالا جذابا للوصوليين من أمثال بيرنشتاين.

وضعت روزا لوكسمبورغ نفسها في الخط الأمامي للكفاح ضد ذلك الانحطاط البيروقراطي. وفي عام 1905 اشتبكت مع كارل كاوتسكي، الذي كان المنظر البارز للحزب والأممية الثانية، حول مسألة الإضراب السياسي العام. كان من الواضح تأثرها بالأحداث التي كانت تعرفها روسيا في ذلك العام، عندما طرحت الإضراب السياسي كسلاح مهم للنضال في ألمانيا أيضا.

قدم كاوتسكي كل أنواع المبررات لتأكيد استحالة الإضراب السياسي العام. لقد كان، في الواقع، قد فقد ثقته في قوة الطبقة العاملة وفضل اتباع الاسلوب المسالم لتشكيل معارضة برلمانية شرعية.

المذبحة الكبرى

شكل اندلاع الحرب العالمية الأولى الاختبار النهائي لسياسة الحزب. عندها عوضا من الدعوة إلى مقاومة المذبحة الدموية، صوت نواب الحزب في الرايخستاغ لزيادة اعتمادات الحرب لصالح الحكومة الإمبراطورية. لم يرتفع سوى صوت واحد بين الفصيل البرلماني للحزب ضد الحرب: صوت كارل ليبكنخت.

شكل ليبكنخت، إلى جانب كل من روزا لكسمبورغ وفرانز مهرينغ وكلارا زيتكن،  ما ظهر في البداية وكأنها مجموعة معارضة ثورية صغيرة داخل الحزب. إلا أن المجموعة ازدادت قوة مع تصاعد المعارضة للحرب بين صفوف العمال والجنود والبحارة.

بحلول منتصف عام 1916، كان التيار قد بدأ يحول مساره، وتمكن السبارتاكيون (كما كانت تسمى تلك المجموعة الثورية) من توجيه المزاج المناهض للحرب لآلاف العمال. ومع استمرار الحرب وتفاقم الظروف المعيشية في ألمانيا، لم يظهر أي أفق لذلك النصر السريع الموعود.

ازداد وضع الجماهير الألمانية سوءا خلال العامين التاليين، وكان الضغط يتصاعد. عندما تمرد البحارة في كيل يوم 03 نوفمبر 1918، انتشرت حركة جماهيرية في جميع أنحاء البلاد: كانت الثورة الألمانية قد بدأت.

الثورة الألمانية

بدأت مجالس العمال والجنود في الاستيلاء على السلطة أولاً في هامبورغ وبريمن، ثم لايبزيغ وفرانكفورت وشتوتغارت ونورمبرغ وميونيخ، وأخيراً في برلين يوم 09 نوفمبر.

أخد العمال بين أيديهم السلطة لتغيير المجتمع والقضاء على الرأسمالية بشكل نهائي، لكنهم كانوا يفتقرون إلى قيادة ثورية قادرة على توجيههم لإنجاز هذه المهمة، فسلمت المجالس (أي السوفيتات) السلطة لقادة العمال التقليديين، أي الاشتراكيين الديمقراطيين.

لم تكن لدى قادة الحزب أية نية للقطع مع الرأسمالية، بل إنهم، في الواقع، تحالفوا مع أسوأ عناصر النظام القديم -الجنرالات الرجعيين- لنزع سلاح الحركة الجماهيرية.

لكن لا يمكن للثورات أبدا أن تقف في منتصف الطريق، إذ يجب أن تحصل إحدى الطبقتين على اليد العليا في النهاية. الشيء الذي كان مطلوبا في ذلك السياق هو حزب ثوري صلب يميز نفسه عن الأحزاب الإصلاحية ويشرح للطبقة العاملة الحاجة إلى استكمال الثورة.

أدركت لوكسمبورغ وليبكنخت الحاجة إلى إكمال الثورة، وحاولا بناء قيادة بديلة من خلال رابطة سبارتاكوس، التي صار اسمها فيما بعد الحزب الشيوعي الألماني.

لكن ورغم أنهم تمكنوا من استقطاب العمال الأكثر ثورية ووعيا، فإنه لم يكن لديهم وقت كاف لتدريب حزب قادر على الجمع بمهارة بين مجموعة متنوعة من التكتيكات لكسب أغلبية الطبقة العاملة. ولذلك فقد ارتكب الحزب الشاب عددا من الأخطاء اليسراوية المتطرفة.

كانت كوادر الحزب البلشفي في روسيا قد تعلمت المزج الصحيح بين الأساليب الشرعية وغير الشرعية عبر أكثر من عشرين عاما من الخبرة. لم يكن لدى الحزب الشيوعي الشاب في ألمانيا مثل ذلك الوقت، لأنه لم يظهر إلا في 30 دجنبر 1918، أي في خضم الثورة.

بناء حزب على النموذج البلشفي

حاولت روزا لوكسمبورغ تلطيف مواقف الجناح اليساري المتطرف للسبارتاكيين الشباب. لكن حقيقة أنها لم تكن قادرة على تثقيف وتصليب حزب ثوري، لم تكن ترجع فقط إلى ضيق الوقت وتعرضها للاعتقال بشكل متكرر بتهمة التحريض ضد الحرب.

لقد قيل الكثير عن خلافات لوكسمبورغ مع لينين، من قبل اللاسلطويين والإصلاحيين على حد سواء، ويستعملون في ذلك على وجه الخصوص انتقاداتها للثورة الروسية -التي كتبتها عندما كانت مسجونة ومعزولة- لإثبات أنها كانت معادية للينينية ومعادية للبلشفية.

لكنها كانت تدرك أن تحليلها للثورة الروسية سيكون ناقصا ورفضت بشدة نشر أي شيء كتبته عنها أثناء وجودها في السجن، لعلمها أن أعداء الثورة سيشوهون مواقفها. وعلى الرغم من جميع انتقاداتها فقد أنهت كراستها تلك بالكلمات التالية: “المستقبل في كل مكان للبلشفية”.

لقد تمكنت في أواخر حياتها من إدراك أهمية بناء قيادة ثورية منضبطة، وانطلقت هي وليبكنخت في سباق مع الزمن لبناء حزب بلشفي في ألمانيا، لكنهما دفعا بشكل مأساوي ثمن خسارة هذا السباق بحياتيهما.

مناضلة ثورية حقيقية

في يناير 1919، تم اعتقال لوكسمبورغ وليبكنخت وقتلهما على يد جماعة شبه عسكرية يمينية، بأمر من حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، في أعقاب انتفاضة عفوية فاشلة لعمال برلين. سلطت حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي قمعا دمويا على الحركة العمالية، مستخدمة في ذلك القوات اليمينية والمَلكية، في حملة سميت بحق: “الإرهاب الأبيض”.

ألقي القبض على الكثير من القادة الشيوعيين ووضعت جائزة قدرها 100.000 مارك ألماني مقابل رأسي لوكسمبورغ وليبكنخت. يوم 13 يناير، تم العثور عليهما واعتقالهما على يد ضباط فريكورب (مرتزقة رجعيون توظفهم الدولة) وتم اقتيادهما للاستجواب. زعموا فيما بعد أن ليبكنخت أصيب برصاصة “أثناء محاولته الفرار”، بينما بقي مصير لوكسمبورغ مجهولا حتى تم العثور على جثتها في قناة لاندوير في برلين، بعد عدة أشهر (في 31 ماي).

الحقيقة هي أن كلاهما تعرض للقتل بوحشية على يد بلطجية الشرطة. وقد أظهر جسد لوكسمبورغ دليلا واضحا على تعرضها للضرب على رأسها بمؤخرة بندقية عند اعتقالها. وهكذا عانت الطبقة العاملة الأممية خسارة اثنين من الرفاق القياديين.

إن جميع الذين يصورون روزا لوكسمبورغ على أنها لا سلطوية أو إصلاحية، أو أي شيء أقل من أنها ماركسية ثورية، يرتكبون ضدها ظلما فادحا. لم تسقط روزا في تلك الأخطاء، ومهما كانت الخلافات التي كانت لديها مع لينين وتروتسكي فقد جاءت من موقع مناضلة ثورية نزيهة حقيقية.

وكما قال لينين عنها، ردا على منتقديها، الذين ارتكبوا الكثير من الأخطاء: “قد تنزل النسور أحيانا إلى مستوى أقل من الدجاج، لكنه من المستحيل على الدجاج أن يرتقي إلى ارتفاع النسور… وعلى الرغم من أخطائها، فإن روزا كانت بالنسبة لنا -وستبقى- نسرا”.

بياتريس بالميري، يناير 2019

مترجم عن موقع الفرع البريطاني للتيار الماركي الأممي “النداء الاشتراكي:

Rosa Luxemburg: a true revolutionary

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *