توصلنا برسالة أخرى من الرفيق إبراهيم فوزي المعتقل في سجون الدكتاتورية العسكرية المصرية، والمعتقل خلال الحملة التي استهدفت مدونين وكتاب رأي على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب انتقادهم إجراءات الحكومة في مواجهة جائحة كورونا، فأطلق عليها إعلاميا “قضية كورونا”. وجه الرفيق في رسالته نقدا لحملة المحامي خالد علي لترشحه لمنصب رئيس الجمهورية سنة 2018.
بينما أنا خارج من عربة الترحيلات القادمة من منطقة سجون طرة، متجه إلى الحبسخانة بنيابة أمن الدولة العليا طوارئ، عندما انزلوني من العربة متجه إلى الجراج رأيت المحامي الحقوقي خالد علي يدخل من الباب الخارجي للنيابة، ملقياً سلاماً فاتراً على رجال الأمن فردوه بنفس الفتور. وقبل أن احدثه دفعني الحرس نحو الجراج، ولذلك شرعت في كتابة تلك المقالة لسببين، أولهما جدل حول خالد علي معركته الانتخابية القديمة، وكلمة أخيرة أردت أن أقولها له ولم يسعفني الوقت والظروف لذلك.
قبل أن أحلل رأيي في أحداث الانتخابات الرئاسية في منتصف 2018، يجب أن اجيب على مجموعة من الأسئلة الهامة في تحليل تلك المعركة سياساً وشعبياً ورصد آفاق صعودها وقدرتها على صناعة فارق في نتيجة الانتخابات الرئاسية.
هل كان من الممكن أن ينافس خالد علي على كرسي رئاسة الجمهورية؟ هل كان يستطيع خلق معركة حقيقية؟ هل عمل خالد علي على جذب واكتساب الجماهير الساخطة على حكم الديكتاتورية العسكرية؟ وسوف يتضمن سردي للأحداث إجابات على تلك الأسئلة.
أعلن خالد على ومن خلفه حملته الرئاسية ومجموعة من القوة المدنية والحزبية والمثقفين رغبتهم في المشاركة في الانتخابات الرئاسية وخوض المعركة الديمقراطية، محاولين الضغط من أجل مزيد من الديمقراطية والسماح بحرية الدعاية الانتخابية ورفع العصا الأمنية، ليُسمح لهم على الأقل بجمع التوكيلات الانتخابية وبداية خوض السباق الرئاسي.
إن مطالبة القوة العسكرية القمعية بالسماح بمزيد من الحرية في ممارسة العملية الانتخابية للوصول لأعلى منصب سياسي في السلطة المصرية، هذه المطالبات تعكس مدى سطحية الطرح وسذاجة التخطيط والتفكير الذي يعانيه خالد علي وحملته والدوائر المقربة منهم. كان أمام خالد علي اختيارين، إما أن يشارك في معركة حياة أو موت أو أن يقاطع متطهراً من الأزمة ومهامها، لكنه اختار الاختيار الثالث غير الموجود وغير العقلاني، أعلن المشاركة بسطحية طرحه وسذاجة خطته. بالطبع لم تستجب الدولة لطرحه الساذج فعجز حتى عن جمع التوكيلات الانتخابية أو ابراز نفسه للجماهير، فانسحب وقرر المقاطعة معللاً ذلك بأن الظروف السياسية ومساحة حرية التعبير المتاحة أقل من المتوقع!!!
من الواضح أن خالد علي وحملته تناسوا حينما أعلنوا ترشحه، قبل الانسحاب بشهر، أننا نعيش تحت سلطة عسكرية منذ أكثر من خمس سنوات، جاءت بانقلاب عسكري مستغلة الغليان الشعبي والثوري وغياب القيادة الثورية وخيانة الليبراليين وغيرهم من “المعارضين”، حاصرت وداست بدباباتها كل مكتسبات الثورة المصرية، وقتلت العشرات واعتقلت الآلاف، أغلقت الصحف ومقرات الأحزاب والحركات السياسية، منعت التظاهر واحتلت الميادين، وأجبرت الجماهير على الخضوع بسن قوانين اجرامية تخنق وتميت الحرية السياسية وحرية التنظيم، كتمت الأفواه ومنعت أي تنظيم سواء سياسي أو اجتماعي لا يقدس أو يتغنى بالسلطة العسكرية، وللعجب حتى الليبراليين لم يسلموا من البطش، منفذة خطة صندوق النقد الدولي التقشفية التي سرقت الطعام من أفواه الفقراء، كل هذا فعلته السلطة ولم تبالي بغضب الجماهير، إن آلاف المشاهد والقصص والكلمات والأوراق لن تكون كافية لشرح مدى القمع والوحشية الذي انتهجه السيسي وحكومته تجاه أي ارادة شعبية أو سياسية تريد الخلاص من حكمه.
ومع كل ذلك كانت المنافسة في الانتخابات مطروحة إن كانت بخطة ثورية وجريئة، إن اعتقادي الراسخ أن خالد علي وحملته قرروا دخول تلك المعركة بشكل نخبوي فج منافسين على أعلى سلطة سياسية في البلاد دون خطة للفوز أو لخوض المعركة أصلاً، لم يدرسوا أبداً أهدافهم من تلك المعركة، أبداً لم يحددوا خطة أو برنامج أو طريقة للعمل حتى، لكنهم بدلاً من ذلك تماشوا مع الأحداث وهم تائهون في قلبها، لا يعلمون من أين أتوا وأين هم ذاهبون، وجاء اعلان الانسحاب طوق نجاة لهم من التيه والفرقة. إن أغلب الظن والتحليل أن خالد علي أراد أن يحرج السلطة بالانسحاب، ويبين مدى القمع والتضييق في البلاد، وكأن السيسي ودولته قد يحرجون من هذا بعدما قتلوا واعتقلوا واجرموا!!!!
كنت مع الاشتباك في الانتخابات، لكن كان عليهم العمل بخطة ثورية، خطة لتجذير المعركة، خطة تجعل الجماهير المصرية المفقرة والطبقة العاملة مشاركين في المعركة، كان عليهم أن يفكروا كيف نجعل الجماهير العازفة عن تلك المعركة النخبوية مشاركين فيها مرة آخري، كان عليهم أن يتساءلوا كيف يمكن أن نحصل على دعم وتأييد الجماهير والعمال؟
هذه الطريقة التي من الممكن إحداث فارق نستطيع من خلاله خلخلة النظام الحاكم، وتغيير الخريطة السياسية للمعارضة المصرية، ليصبح ما بعد 2018 غير ما قبله.
إن قراءة المشهد في منتصف 2018 يؤكد أن السيسي دخل الانتخابات حينها بدون أي تأييد شعبي حقيقي، بل كان الوضع على العكس تماماً، فقد انهارت شعبيته بعد سنوات قليلة من استيلائه على الحكم في 2013، وهو ما بدأ يظهر بشكل واضح في احتجاجات سبتمبر 2019.
الدولة واجهزتها (الجيش والشرطة والقضاء والإعلام) وممثلها عبد الفتاح السيسي فاقدين لأى تأييد شعبي، وعلى الجانب الآخر كانت الجماهير الساخطة والكارهة لحكم العسكريين لا تثق نهائياً وعن حق في السياسيين والنخبة، بعد تجارب عديدة ونضالات أرهق بها السياسيين الجماهير بدون أي مكسب، بل استدعوهم أحياناً بخطابات شعبوية ورنانة للاشتباك في معارك خاسرة، افقدت الجماهير ثقتها بنفسها والسياسيين.
خالد علي لم يدرك حقيقة بسيطة جداً، انه غير معروف لدى الجماهير الغاضبة من حكم السيسي، وأنه لم يبرز نفسه في المجتمع عبر خطاب يوضح مدى الخلاف بينه وبين النظام الحاكم وسياساته، ما هو مشروعه السياسي أصلاً، بل كان ترشح سامي عنان وأحمد شفيق له صدى أكبر في الشارع المصري، اعتمد خالد علي بشكل نخبوي وانعزالي على مواقفه السابقة في سنوات الثورة، وفي قضية تيران وصنافير، ودفاعه عن المعتقلين وعلاقته مع السياسيين والنشطاء والأحزاب، فقط بدون مشروع سياسي وبدون خطة سياسية.
اكتفى خالد علي في تلك المعركة بمواقفه السالفة الذكر ولم يهتم ببث خطاب ثوري جذري يستقطب ويستدعي من خلاله الجماهير لمعركة قد تكون حاسمة في سيطرة الدولة على الميادين والشوارع، واكتفى ببرنامج الحد الأدنى والعدالة الديمقراطية، مثل تأمين صحي وتعليم مجاني… الخ، متناسياً طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي، وكأننا نتنافس في جو من الحرية “النسبية” والفصل فيها هو لبرنامج مطلبي ومرحلي، وكأنه يمكن تنفيذ هذه المطالب المبدئية مثل التعليم والصحة بدون القضاء على الرأسمالية اصلاً وتأميم البنوك والشركات الكبرى. وتكتمل المفارقات الساخرة، عندما أعلن الديكتاتور عن برنامجه لنكتشف أنه ذات برنامج العدالة والديمقراطية، وكان أكثر تفصيلاً ووعداً بحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من برنامج خالد علي!!!!
كان على خالد علي أن ينافس أو يقنع الجماهير انه جاء لينافس الديكتاتور، انه جاء ليخوض معركة على السلطة، أنه سوف يهز العرش الثابت لطغيان السيسي، هذا عن طريق تبني مجموعة من المطالب الجذرية مثل، مصادرة أموال واقتصاد القوات المسلحة وضمه لخزينة الدولة، فرض ضرائب تصاعدية فورية على رجال الأعمال وإلغاء الضرائب بشكل فوري عن الجماهير، خصوصاً ذوى الدخول المنخفضة، والإفراج الفوري عن كل المعتقلين السياسيين المقبوض عليهم منذ يوليو 2013، ومصادرة أموال رجال الأعمال الفاسدين -خصوصاً المرتبطين بنظام حسني مبارك- والضباط الفاسدين، إلغاء اتفاقية الكويز وكامب ديفيد… الخ، وغيرها من المطالب التي كانت ستبين للجماهير أن خالد علي جاء لينافس السيسي ويقضي على سلطة الثورة المضادة ليعيد مكتسبات الثورة المهزومة من جديد. هذا هو برنامج الحد الأدنى الذي كان سيوقد النار في الهشيم، كان سيجذب كثير من العمال والشباب الثوري الذين كانوا سيندفعون معه للدفاع عن برنامجه، ومع ما كانت سوف تولده هذه المعركة من نضالات، هذه فقط كانت فرصة خالد علي لإحداث فارق لجمع التوكيلات الانتخابية، وأن تسمع به الجماهير ويصدقونه ويدافعون عنه.
ذلك كان الطريق الوحيد لعقد تحالف طبقي وثوري حقيقي لخوض معركة سياسية كانت من الممكن أن تغير الكثير، ومنها شكل المعارضة السياسية في مصر وأن يتكون حزب سياسي عمالي وثوري. إن ضعف طرح خالد علي أعطى للنظام فرصة جديدة لضرب الحياة السياسية في البلاد، وإبراز ضعف “المعارضة” التنظيمي والعددي، ولتتغني الدولة بأكاذيب تأييد ودعم الجماهير لها.
من يسمون أنفسهم “معارضون” و”ثوريون” لم يحددوا لأنفسهم دور في قيادة الجماهير للانتصار، لم يبذلوا أي جهد من أجل تكوين برنامج ورؤية تعبر عن آمال الجماهير ومطالبهم الحقيقية، لم يبذلوا جهد في نشر وعي الثورة.
هناك كلمة أخيرة أود قولها لخالد علي ولكل الحقوقيين أبناء منظمات المجتمع المدني، انتم لستم ثوريون ولا اصلاحيون ولا حتي معارضون، لن تضطلعوا أبداً بدور القيادة الجماهيرية، ولن تستطيعوا أن تخلقوا لأنفسكم مساحة داخل النظام، ستظلون دائماً معلقون على مشانق النسيان وفي هوامش المجتمع. لم تعوا أبداً دروس الثورات السابقة، ولا تفهمون معنى الفرص السياسية وقدرتها على تغيير الوضع القائم، لم تطلقوا الخيال يوماً لتحلموا بالنصر، ولم تثقوا أبداً في أي وقت من الأوقات في الجماهير لتحلموا بالنصر.
في النهاية كلمة لخالد علي، احرص على متابعة عملك وبذل كل جهد ممكن للإفراج عن المعتقلين قدر المستطاع، أكثر من حرصك أنت وزملائك “الحقوقيون” على التنافس فيما بينكم على جمع أكبر عدد من القضايا لكسب الوجاهة الاعلامية وزيادة ملفات المراكز الحقوقية من أجل زيادة التمويل. احرص على اخراج العمال والفقراء والشباب الثوري من السجون، حتى يخرج منهم من يستطيعون أن يفعلوا ما فشلت فيه أنت وزملائك “الثوريون”، يستطيعون نشر وكتابة برنامج يحرض العمال والجماهير على الانتصار. وأوصيكم أن تتخلوا عن دور “المعارضة” وتفسحوا المجال للعمال والشباب الثوري والماركسيين لقيادة الانتفاضة القادمة للانتصار، ولتنعموا بالتمويلات والعمل “الحقوقي” فهذا ما يليق بكم.