الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الحروب والثورات / السودان: المخاطر المحدقة بالثورة وكيف نتلافاها!

السودان: المخاطر المحدقة بالثورة وكيف نتلافاها!

ملحمة بطولية أخرى للثورة السودانية في 30 يونيو. تأتي هذه الملحمة في ذكرى الملحمة التي سطرتها الجماهير في العام الماضي، والتي خانها قادة قوى الحرية والتغيير وساوموا بها المجلس العسكري ليقاسموه السلطة، أو بمعنى أصح خانوا الجماهير ليسمح لهم الجنرالات المجرمون، في المجلس العسكري، أن يصبحوا جزءاً من الطبقة الحاكمة

 تأتي هذه المعركة بعد عام كامل من التجاذبات داخل المنظمات والأحزاب، ومنها تجمع المهنيين السودانيين، والتي كانت تعبيرا عن اللاتجانس الطبقي الذي يطبع تلك الكيانات وبالتالي اختلاف الأهداف، وأحيانا تضادها. وبعد عام من إعطاء الفرصة لليبراليين، من أمثال عبدالله حمدوك الذي أثبت أنه أتى لتنفيذ أجندة المؤسسات الدولية التي قضى عمره فيها.

وعام من محاولة تأبيد سيطرة الجنرالات ومحاولة هزيمة الثورة بالمجازر تارة، مثل مجزرة فض الاعتصام أمام مقرات قيادة الجيش، والاحتواء تارة أخرى، عن طريق الإصلاحيين والتوفيقيين، من أمثال محمد ناجي الأصم، الذي خان ليس فقط تجمع المهنيين، الذي ينتمي له، بل أيضا خان الثورة والجماهير واصطف مؤخرا بشكل واضح إلى جانب السلطة وأعلن تأييده لمعادلة الحكم القائمة على المحاصصة بين العسكريين والمدنيين (ليبراليين ورجال أعمال وكبار ملاك)، وبدأ يحارب التيار الثوري داخل تجمع المهنيين ويسعى لشق صف التجمع.

معركة 30 يونيو إن كان يرجى منها شيء، وإن كان يمكن تحديد هدف سياسي رئيسي ومباشر لها، فسيكون هو تحديد معسكر الثورة بشكل واضح، ورسم خطوط تمايز بينه وبين معسكر أعداء الثورة، سواء الأعداء الصريحين مثل أتباع المجرم عمر البشير وعبدالفتاح البرهان وحميدتي، أو الأعداء المستترين مثل عبدالله حمدوك والصادق المهدي ومحمد ناجي الأصم وغيرهم.

طريق التفاوض وتقاسم السلطة: 

لنرى مآلات أفعال وقرارات من نصبوا أنفسهم قادة للثورة، في قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين، علينا أن نلقي نظرة حتى ولو خاطفة إلى ما أفضى إليه الطريق الذي سلكوه، طريق التفاوض والمساومة والخيانة في الوقت الذي كان من المفترض بهم أن يستغلوا الزخم والدعم الجماهيري غير المحدود لهم وللثورة ليسددوا الضربة القاضية للدولة الجمهورية الرأسمالية.

لنعرف هل كان طريق التفاوض صحيحاً أم لا، علينا بكل بساطة أن نرى من هو المتحكم اليوم في البلاد والعباد، في يد من السلطة، من يتخذ القرارات، من يتحكم في ثروات البلاد، وحتى من يتكلم باسم الجماهير والثورة، من تتحقق مصالحه وأهدافه من الوضع القائم هل هي الثورة وجماهيرها، أم أعداء الثورة؛ من يستفيد من الوضع الاقتصادي المتردي هل هي الجماهير العاملة والفقيرة، أم جنرالات الجيش ورجال الأعمال المستحوذين على ثروة البلاد والمتحكمين في بنك السودان، ومن وراءهم سادتهم الاقليمين والدوليين؛ من يعيش في مأمن اليوم، هل هم الثوار والعمال والجماهير الشعبية، الذين يتعرضون للتنكيل كل يوم، أم عبد الفتاح البرهان وحميدتي، الذين ذبحوا الثوار في شهر رمضان أمام مقرات الجيش.

وكما قلت نظرة خاطفة على الوضع السوداني تبين لنا من الذي ربح من هذا المسار، كل القرارات والسلطة في يد جنرالات الجيش، من السلام مع الحركات المسلحة، لملف المياه وسد النهضة، وصولاً للملف الاقتصادي والشركات المملوكة للدولة. كل هذه القضايا المهمة والمصيرية تدار من خلف ظهر الجماهير أصحاب المصلحة المباشرة في حلها. جنرالات الجيش يستخدمون هذه الملفات ليس فقط لتحقيق مكاسب مادية مباشرة، ولكن لكي يقدموا أنفسهم للمجتمع الدولي بصفتهم الطرف الوحيد القادر على حماية مصالح لاعبيه الأقوياء في السودان. فتجدهم يستخدمون ملف المياه لإنشاء تقاربات مع الديكتاتورية العسكرية المصرية، ويستخدمون ملف السلام والمصالحة مع الحركات المسلحة لإنشاء تقاربات مع بعض الدول الإفريقية من أهمها أثيوبيا، وبالطبع يديرون الملف الاقتصادي ليقدموا أنفسهم وكلاء للإمبريالية في السودان، فتراهم يرتمون في أحضان صندوق النقد الدولي، وخير دليل على ذلك أيضاً هو اللقاء الذي جمع عبد الفتاح البرهان مع مجرم الحرب بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني، عندما ذهب عبد الفتاح البرهان ليقدم فروض الطاعة والولاء لأسياده الصهاينة والإمبراليين، ويعلن أن السودان، تحت حكمه هو وشريكه حمديتي، ستنضم لحظيرة الدول الخانعة للإمبريالية بشكل كلي.

لقد قلنا من قبل عند بداية سلوك طريق التفاوض وبعد الاتفاق الخياني بين قادة قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، قلنا إن طريق التفاوض الذي يسلك من خلف ظهر الجماهير لن يؤدي سوى للخيانة وإنقاذ النظام. في أوج ازدهار الثورة، قلنا أنه يجب أن تتوفر قيادة ثورية تدفع ذلك المد الثوري الجامح للقضاء على سلطة الجنرالات ورجال الأعمال، وليس قيادة من الانتهازيين والخونة الذين أعطوا مجرمي المجلس العسكري الوقت والفرصة لحصد المكاسب واحتواء الثورة مؤقتاً. صحيح أنه يمكن أحياناً إجراء مفاوضات مع الأعداء في حالة الهزيمة للخروج بأقل قدر من الخسائر أو حماية المكاسب والتقاط الأنفاس، لكن يبقى الهدف من التفاوض هو حماية الثورة والجماهير وليس حماية أعداء الثورة وقاتليها من الجماهير، ليس حماية النظام من الجماهير، ليس قطع الطريق على تجذر الثورة باسم المفاوضات.

إن ما حدث هو أن قادة قوى الحرية والتغيير حموا عبدالفتاح البرهان وحميدتي وحتى عمر البشير من الجماهير، حموا النظام الرأسمالي من مد الثورة وتجذرها، كل هذا باسم ‘الواقعية’، وبعد أن كانت اليد العليا للجماهير شتتوها وحرفوا الثورة من الشوارع والساحات والمصانع لقاعات التفاوض مع القتلة والمجرمين.

وعندما تم توقيع اتفاق الخيانة قلنا إن هذا الاتفاق هو بداية طريق هزيمة الثورة السودانية، وإن الجنرالات المجرمين هؤلاء لن ينفذوا حتى الاتفاق الذي وافقوا عليه، كيف لهم أن يسلموا رقابهم للثورة عن طيب خاطر، كيف لهم أن يتخلوا عن امتيازاتهم ومصالحهم هم ومن يمثلوهم بسلام، هل سيفعلون ذلك فقط لأنهم وقعوا على ورقة لا قوة لها أو شفاعة!!!

وها هي الأحداث أثبتت صحة وجهة نظرنا حول أن هذا الاتفاق هو جريمة صريحة في حق الثورة والجماهير والشهداء الذين سقطوا بيد هؤلاء الجنرالات. لكن من الضروري هنا أن نحذر: إن جنرالات الجيش الجمهوري لن يكتفوا بما حققوه، لن يكتفوا باتفاق يفرغ الثورة من مضمونها ويأتي بخادم ودمية، مثل عبدالله حمدوك، يوهم الجماهير أنهم حققوا انتصارا بينما هم في الحقيقة يتكبدون مزيدا من الخسائر كل يوم. إنهم لن يكتفوا إلا بانتصار كامل لهم وهزيمة كاملة للثورة؛ انتصار سيتحقق على جثث الآلاف وسيكون منهم حتى المهادنين والتوفيقيين، من أمثال محمد ناجي الأصم.

تجربة الثورة المصرية المهزومة مازالت عالقة في الأذهان، فعندما وقف الليبراليون والقوميون واليساريون الاصلاحيون، وحتى بعض الثوريين، إلى جانب قادة الجيش الجمهوري للتخلص من الإخوان المسلمين، وصفقوا للمجازر وأيدوها بدواعى الدفاع عن العلمانية ومدنية الدولة؛ في حين وقف قسم آخر من “اليساريين” و”الماركسيين” إلى جانب الإخوان المسلمين، بدعوى محاربة الديكتاتورية، بدون أي تحليل طبقي لطبيعة الإخوان المسلمين وأنهم في النهاية جزء من الطبقة الحاكمة يدافعون عن مصالح الرأسمالية.

لقد تناسوا أن كلا الطرفين رجعيان وكلاهما قسمان من نفس الطبقة السائدة. فبدلا من ان يتبنوا سياسة طبقية تدفع لاستقلال الطبقة العاملة سياسياً، عبر دعوة العمال والجماهير الشعبية إلى عدم الثقة في الطبقة الحاكمة ككل سواء عسكريين أو اسلاميين، وسياسة تعلن أن الهدف هو القضاء على آلة الدولة الجمهورية الرأسمالية برجالها المسلحين وإحلال المجالس الشعبية ولجان الدفاع الذاتي محلها، وإدخال الديمقراطية بما تعني حق الانتخاب والعزل للمسؤول المباشر. وبما أنه لم يكن هناك منظمة ثورية تحمل هذا البرنامج وتدافع عنه وتعمل على إقناع جماهير العمال به ضاعت الفرصة الثورية، رغم كل التضحيات التي قدمتها الجماهير التي اسقطت رئيسين وأربع حكومات في ثلاث سنوات فقط، وفي النهاية هُزمت الثورة.

هزمت الثورة بعد أن وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما خلق مناخا ملائما لوصول الدكتاتور عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، الذي استغل تأييد أولائك الذين نصبوا أنفسهم قادة للثورة، للقضاء بشكل كامل وهمجي على كل ما راكمته الثورة المصرية، حينها حاول هؤلاء “القادة” إظهار أنفسهم كأبطال ولعبوا لعبتهم المفضلة بالظهور بمظهر الضحية، حالة من التدليس والكذب الدائم يصفها عن حق الشاعر نجيب سرور:

«من أعجب الأشياء يا بايرون في كل العصور،
أن الذين يولولون على القتيل ..
هم قاتلوه !
صلبوا المسيح وعسكروا حول الصليب،
يبكون من أجل “المخلص”!
 يا ليت كانوا خلصوه»

هذا ما حدث في مصر، لم يدافع الاصلاحيون، وحتى من يعتبرون أنفسهم ثوريين، عن الثورة ولا عن الجماهير ولا عن الحرية، ووقفوا يبكونها عندما هُزمت. كما سوف يحدث للثورة السودانية إن هي سارت على نفس الخط. قال ماركس ذات مرة إن التاريخ يعيد نفسه مرتين الأولى كمأساة والثانية كمهزلة، وهذا ما سيحدث أن استمر الوضع على ما هو عليه، تكرار سخيف لمأساة هزيمة الثورة المصرية. عندما ينقلب عبد الفتاح البرهان أو حميدتي على الثورة وحتى على شركائهم المدنيين، سيخرج علينا قادة قوى الحرية والتغيير ويعلنوا أنفسهم مدافعين عن الحرية وحاملي لواء الثورة، في تكرار سخيف ليس للثورة المصرية فقط، وإنما لكامل تاريخ السودان منذ ما بعد الاستقلال، تاريخ المد الثوري الذي دائماً ما يعقبه انقلاب عسكري يتسبب فيه خيانة الليبراليين وإصلاحيي اليسار.

حقيقة الصراع:

إن غياب النظرية الثورية هو ما يجعل ليس فقط الجماهير ولكن حتى الثوريين عرضة للتلاعب والخداع من الاصلاحيين ومدعي الثورية، والاستنزاف من قبل الدولة وقواتها المسلحة وأجهزتها الإعلامية في معارك جانبية وصراعات يومية تعميهم عن حقيقة الصراع.

على الثوريين أن يحددوا ماهية الصراع القائم في المجتمع ومن هم الأعداء، لكي يستطيعوا أن ينظموا الجماهير على أساس ثوري وطبقي سليم. هل صراعنا مع عبد الفتاح البرهان وحميدتي، هل صراعنا مع عبد الله حمدوك، هل صراعنا مع رجال الأعمال والتجار وكبار الملاك، ، هل صراعنا مع الكيزان أو اتباع عمر البشير ونظام الإنقاذ. في الحقيقة صراعنا مع كل هؤلاء وأكثر، صراعنا مع عبدالفتاح البرهان وحميدتي وما يمثلونه من إجرام وعنف مضاد للثورة والجماهير، وهو ما اتضح في مجزرة فض الاعتصام، التي لن تكون آخر المجازر لقتل الثورة؛ صراعنا مع عبدالله حمدوك وحكومته بصفتهم الجهاز الدعائي والتنفيذي لجنرالات الجيش، الموكل إليهم مهمة خداع الجماهير و إيهامهم أن ما يتبع من إجراءات هي في صالحهم؛ صراعنا مع رجال الأعمال المسيطرين على ثروات البلاد و المستحوذين على خيراتها، من يزدادون ثراء على حساب مجهود عمل الجماهير، من يتاجرون بقوت الشعب ويستغلون الأزمة الاقتصادية والانسانية لجني مزيد من الأرباح على حساب حياة وصحة الجماهير، وبالطبع صراعنا مع الكيزان وما يمثلوه من تاريخ طويل من الجرائم الإنسانية والاقتصادية المرتكبة في حق الجماهير طوال ثلاثين عاماً من حكم الديكتاتور عمر البشير. أو باختصار: صراعنا مع النظام الرأسمالي ودولته التي لا تنتج غير الفقر والاستغلال والاستبداد والديكتاتورية والمجازر والحروب.

هكذا يجب أن يطرح الصراع، أنه صراع ضد من يسرقنا، ضد من يستغلنا، ضد من يفقرنا، ضد من يمرضنا، ضد من يقتلنا ويعتقلنا ويعذبنا. الشهداء الذين قتلوا والمعتقلين الذين عذبوا والفقراء الذين عانوا واللاجئين الذين أحرقت قراهم وذبح أهاليهم، كل هؤلاء لم يعانوا ما عانوه ليتم استبدال مجرم حرب بمجرم حرب آخر، أو حتى استبدال مجرم حرب برجل اقتصاد بربطة عنق، مثل عبد الله حمدوك، يوفر الغطاء الشرعي والأيديولوجي من أجل استمرار نفس السياسات.

هؤلاء جميعاً هم أعدائنا، يجب أن نعلن هذا بدون مواربة، ليس كما يفعل قادة قوى الحرية والتغيير لكي يضمنوا جزء من الكعكة البرلمانية التي يجري طبخها الآن، والتي يشرف عليها الجنرالات.

نقد الخط السياسي للحزب الشيوعي السوداني:

للحزب الشيوعي السوداني تاريخ من التضحيات ومناضلوه (نساء ورجالا) خبروا السجون والإعدامات والنفي في عهد الاستعمار وفي عهد مختلف الحكومات التي توالت على حكم السودان. من الطبيعي إذن أن يشكل أمل العمال والشباب الثوريين السودانيين في تقديم حل للخروج من المأزق الحالي الذي دخلته الثورة.

لكن قادة الحزب الشيوعي الذي من المفترض فيهم أن يقدموا برنامجاً يدفع الثورة نحو الانتصار ويدفع الطبقة العاملة نحو الاستيلاء على السلطة وهدم الرأسمالية، بدلاً من ذلك يتبنون خط اصلاحي ومطالب ترقيعية ويتصورون أنهم بهذا يدافعون عن الجماهير، عن أي جماهير يدافعون وهم يدفعون نحو تأسيس مجلس تشريعي يشرف عليه الجنرالات المجرمون والخونة في الحكومة وقوى الحرية والتغيير، يدفعون نحو تأسيس مجلس تشريعي معين من قبل أعداء الثورة والجماهير، أي غير منتخب ويصوروا ذلك على أنه مطلب ثوري، مجلس تشريعي لا يخضع للمحاسبة ولا للمسائلة ولا للرقابة الشعبية ويصوروا ذلك على أنه مطلب ومكسب ثوري.

في حين أن ما يجب افهامه للجماهير أن لا ديمقراطية تحت سلطة العسكريين، وأن هؤلاء مع الانتهازيين من أمثال الصادق المهدي وغيره سينقلبون على الثورة والديمقراطية في أقرب فرصة. وبعد ذلك سيتحدث هذا المجلس باسم الثورة والجماهير، والحق أنه سيكون المظلة التي سيمرر من تحتها جميع الصفقات السياسية القذرة والقرارات المجرمة اقتصادياً واجتماعياً في حق الجماهير العاملة والفقيرة. هذا ما يدفع إليه قادة الحزب الشيوعي، حقاً  “أنا لست أخشي الذئب ذئباً، إنما أخشاه في جلد حمل”.

يجب أن يدفع  الحزب الشيوعي نحو التنظيم الذاتي على أسس طبقية وثورية ويستغل نفوذه في قلب الطبقة العاملة والجماهير نحو تجذير الوعي الطبقي وليس بث أوهام لها علاقة بإمكانية تقويم الرأسمالية.

إن السياسة التي يتبعها الحزب الشيوعي بالكاد تضعه على يسار السلطة وقوى الحرية والتغيير، لكنها أبداً لا تضعه في صف الثورة والجماهير العاملة. إن هذه السياسة، سياسة مسك العصا من المنتصف المتبعة من قبل قادة الحزب الشيوعي لهي سياسة خاطئة تماماً بالذات في أوقات الثورة، وستؤدي حتماً للهزيمة، التاريخ يعلمنا أن من يقومون بنصف ثورة ينصبون المشانق التي سُيشنقون بها. إن الخط السياسي للحزب الشيوعي القائم على نظرية الثورة على مرحلتين، وأنه يجب أن يتم الدفع نحو مكاسب ديمقراطية  واجتماعية عامة، و”تهذيب” الرأسمالية من يسارها، أو محاولة دفعها نحو التقدم لكي تتوافر فرصة الثورة مستقبلاً، محاولة الدفع نحو نظام رأسمالي منتج وغير تابع، أن هذا الخط السياسي لم يؤدي في تاريخ السودان نفسه ولن يؤدي سوى للهزائم، وهو نابع بشكل أساسي من عدم ثقتهم في الجماهير والطبقة العاملة وقدرتها على هدم النظام الرأسمالي، بل حتى عدم ثقتهم في أنفسهم، بالنسبة لهم “الظروف دائماً غير ناضجة لحسم السلطة”، و”الجماهير غير واعية”، أو “السودان ليس مستعد للثورة الاشتراكية”، إلخ.

هذه السياسة الاصلاحية تؤدي دائماً بقيادة الحزب الشيوعي لعقد تفاهمات مع القوى البرجوازية بدلاً من الدفع نحو تبني سياسة عمالية وطبقية مستقلة، بدعوى أن الوقت الآن ليس للثورة الاشتراكية والقضاء على الرأسمالية بل لإقامة “دولة ديمقراطية حديثة” وغيرها من الدعاوى التي بالنسبة لأى ماركسي ثورى لا تتعدى كونها نكتة هزلية.

إنهم “عقلانيون جدا” لذا فهم مقتنعون بإمكانية تحقيق الديمقراطية دون تحطيم الدولة الحالية التي هي استمرارية، حتى بالأشخاص، لنفس دولة البشير والنميري، الخ. ومقتنعون أنه بالإمكان تحقيق العدالة الاجتماعية والاستجابة لمطالب الثورة دون إسقاط الطبقة الرأسمالية السائدة وتأميم الثروات تحت رقابة الطبقة العاملة.

هذه السياسة هي التي أدت لتسليم الثورة المصرية لأعدائها في مقابل ما كان يظنه اليساريون “مكاسب ديمقراطية” من قبيل المجلس التشريعي الذي يدفع به الحزب الشيوعي، وما حدث أن الديكتاتورية العسكرية داست على هؤلاء الإصلاحيين والتوفيقيين، وهم الآن منزوين في منازلهم فاقدين لأي دعم أو مصداقية جماهيرية، لماذا، لأنهم لم يكونوا على قدر اللحظة، لأنهم تصدروا المشهد ولم يقدموا للجماهير العاملة والفقيرة سوى الثرثرة والشعارات الجوفاء والحلول الوسطى المرتعشة التي لم ولن تؤدي سوى لهزيمة أكيدة.

لقد آن الأوان لكي ينتزع المناضلون العماليون والشباب الثوري داخل الحزب الشيوعي السوداني وحوله الزمام من يد تلك القيادة الإصلاحية المرعوبة المرتبكة، وتجعل الحزب الشيوعي جديرا باسمه وبالانتماء إلى تراث لينين والبلاشفة.

تنظيم الصفوف:

هل معنى هذا أن الثورة قد هزمت، أقول كلا، بل يعني أنها لم تنتصر بعد، ومعناه أيضا أن أي محاولة لتصوير أن ما حدث ويحدث على أنه انتصار، أو أنه حتى خطوة نحو الانتصار هو كذب محض يجب فضحه والتشهير بقائله.

ما يمكن اعتباره مكسبا حقيقيا للثورة هو لجان المقاومة، هو تحرك الجماهير ضد الشركات التي تتلف صحتهم وأرضهم في سبيل جني الأرباح، هو بداية التحرك العمالي، مثل إضراب عمال شركة تبوك للأدوية ومحاولة التكوين النقابي الجارية الآن. من هنا يجب أن تبدأ قوى الثورة، ومن هنا يجب أن تنبع قيادة الثورة، ليس من رجال الأعمال وملاك الأراضي، وليس من الليبراليين والإصلاحيين والتوفيقيين.

إن مليونية 30 يونيو ليست مناسبة احتفالية، كما قال صديق يوسف عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وإنما يجب أن تكون شرارة البداية للتنظيم الذاتي، لربط لجان المقاومة والأحياء، التي هي بمثابة أجهزة حكم محلية، لربط تلك اللجان ببعضها البعض على المستوى الوطني.

إن تفرق جمع أنصار الثورة، في مقابل تجمع أعدائها وحمايتهم لبعضهم البعض، لهو من أكبر مواطن ضعف الثورة. لجان المقاومة هي ما يجب أن يصبح المتحدث باسم الثورة وليس قادة قوى الحرية والتغيير. لكن هذه اللجان ينقصها النظرية الثورية، وبدلاً من الوازع الإنساني المجرد يجب أن يكون هناك دافع ثوري وطبقي، وهذه هي مهمة الثوريين والماركسيين، مهمتهم أن يعملوا على إكساب هذه اللجان النظرية الثورية. ومن قلب هذه اللجان يمكن أن تتشكل منظمة ثورية تضم عشرات، إن لم نقل مئات المناضلين، في غضون شهور قليلة.

يجب نشر الداعية الثورية والطبقية التي توضح حقيقة الصراع، وأنه ليس صراعا ضد نظام الإنقاذ والاسلاميين فقط، وليس صراعا ضد أشخاص بعينهم، رغم أهمية هؤلاء الأشخاص الاعتبارية، وإنما صراع ضد المصالح الطبقية التي يمثلها هؤلاء الأشخاص. لن تنتصر الثورة بمجرد سقوط عبدالله حمدوك أو حتى عبدالفتاح البرهان، رغم أن سقوطهم سيكون انتصارا ثوريا مهما، وإنما ستنتصر الثورة بعد سقوط مشروعهم السياسي والاقتصادي القائم على الاستبداد وعسكرة الحياة لأجل الدفاع عن مصالح الرأسمالية في السودان، سواء الرأسمالية السودانية أو الخارجية.

كما يجب التوجه للطبقة العاملة، ليس من باب التضامن فقط، وإنما يجب الدفع نحو تنظيم صفوف العمال في نقابات مستقلة تدافع عن المصالح الطبقية للعمال، يجب أن لا ننتظر صدور قانون أو إذن من السلطة لكي ننتظم وندافع عن مصالحنا وحقوقنا في مواجهة رجال الأعمال. الدفع نحو إنشاء نقابات عمالية بقوة الجمعيات العمومية للعمال هو ضرورة قصوى، بالقوة النضالية و الكفاحية الكامنة في جماهير العمال في المصانع والشركات.

إن بقيت الثورة لا تجيد استخدام سلاحها الأقوى، الطبقة العاملة، ستظل عاجزة عن مقارعة إجرام الجنرالات. الطبقة العاملة هي الطرف الأقوى في المعادلة، ليس فقط عددياً، وإنما بحكم موقعها في عملية الإنتاج، هم المنتجون الحقيقيون للثروات والمنتجات.

تستطيع الطبقة العاملة قطع الإمدادات عن قوات القمع ومن يدعمهم، كما أنها تستطيع إسقاط النظام الرأسمالي ودولته وبناء نظام جديد يقوم على توجيه الإنتاج لتلبية احتياجات الشعب، فقط إن تنظمت واستولت على السلطة. وهدم الدولة الرأسمالية وإقامة دولة العمال والفلاحين الفقراء، دولة سيكون هدفها بناء الصناعة وتطوير الزراعة، وليس بيع موارد السودان للعصابات التي تحكم الخليج وغيرها، دولة سيكون هدفها تطوير التعليم والصحة، دولة سيكون هدفها هو تنمية المواطن السوداني وليس استغلاله واستغلال اراضيه أو بيعه في الحروب. وستكون هذه الدولة هي الخطوة الأولى نحو بناء الاشتراكية.

لكن هذا رهين بتوفير قيادة ماركسية ثورية حازمة، وهذا ما يجب أن نسرع في تنفيذه، الوقت أبداً ليس في صالحنا مهما بدا عكس ذلك، وتاريخ السودان نفسه خير شاهد على ذلك، كم من مرة ظنت الجماهير أنها نالت الحرية وبدأت عهد جديد، ثم قامت على انقلاب عسكري يؤسس لديكتاتورية أكثر قمعاً واستبداداً واستغلالاً وشمولية من سابقتها، هذا لأنها لم تمس سبب المشكلة الأساسي، الماكينة التي انتجت اللواء عبود وجعفر النميري وعمر البشير وعبد الفتاح البرهان وحميدتي وستنتج غيرهم، هذه الماكينة هي الرأسمالية التابعة بنمط حكمها الذي لا يمكن أن يقوم في السودان إلا على دكتاتورية عسكرية.

إذن نحو مزيد من تنظيم لجان المقاومة وربطها ببعض تنظيمياً وسياسياً واندماجها في جسم واحد، نحو التوجه للطبقة العاملة ودفعها لتنظيم صفوفها واستعادة تقاليدها النضالية العريقة، وانشاء نقابات عمالية تدافع عن المصالح الطبقية لجماهير العمال، ثم التوجه بداعية ثورية وطبقية لقواعد الجيش الجمهوري من صغار ضباط وجنود الذين اثبتوا أكثر من كرة أنهم على استعداد لحماية الثورة والثوار، التوجه إليهم وحثهم على مناصرة الثورة على توجيه سلاحهم ليس لرفاقهم ورفيقاتهم وإنما توجيه لمن يسرقهم ويقتلهم ويقمعهم ويستغلهم جميعاً. وهذا لن يحدث دون وجود منظمة ماركسية ثورية تهدف لإسقاط الرأسمالية ودولتها التابعة، وليس اللعب على كل الحبال كما يفعل قادة الحزب الشيوعي.

خاتمة:

إن ما يحدث الآن من تطورات في خضم الثورة سيكون له آثار عظيمة على السودان والمنطقة، ولا أبالغ إن قلت العالم بأكمله. على الرفاق في السودان أن يدركوا اللحظة الثورية الكامنة، وأن يفعلوا كل ما بوسعهم لاستغلالها. وعلى التوفيقيين والاصلاحيين في الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السودانيين أن يدركوا أن مقصلة الثورة المضادة لن ترحم أحدا، والتجربة المصرية أمامكم، لم ينفع الاصلاحيين مهادناتهم وسياساتهم “العقلانية”.

أمامنا معارك مهمة ويجب أن نخرج من كل معركة أكثر قوة وأكثر وعياً وأكثر تنظيماً. إن كل خطوة في ميدان الحركة يجب أن يقابلها خطوتان في ميدان النظرية والتنظيم، هذا ما تخبرنا إياه تجارب ثورات القرن الماضي والحاضر.

  • المجد للشهداء، والشفاء العاجل للجرحى، والحرية للمعتقلين!
  • ابنوا الخلايا والتنظيمات الثورية في كل مكان!
  • تسقط قوات قمع الشعوب (الشرطة والجيش)!
  • تسقط حكومات رجال الأعمال!
  • لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بحكومة عمالية!

محمد حسام
30 يونيو 2020

2 تعليقات

  1. ارجو من القامات المثقفة في الأممية الرابعة ان تقرا كتابات الشهيد ناهض حتر والمرحوم غالب هلسا فلا توجد حقيقة مطلقة في شيء يا اعزائي فليست قيمة الانسان في الحقيقة التي يمتلكها او يتصور انه يمتلكها بل هي في سعيه المخلص للاقتراب من الحقيقة

  2. لكل مجتمع خصوصية بيئية وعبقرية الزمان والمكان فكل مجتمع يحتاج الى نسخة غرامشية له

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *