توصلنا من داخل سجون الدكتاتورية العسكرية في مصر برسالة من سجين اعتقل في ما يسمى بـ “قضية كورونا”، أي تلك الحملة التي استهدفت مدونين وكتاب رأي على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب انتقادهم إجراءات الحكومة في مواجهة الجائحة. مقال مكتوب في ظروف صعبة، مع غياب المعطيات المحينة والظروف الملائمة للاشتغال، لكنه رغم ذلك يقدم قراءة صحيحة لطريقة اشتغال شركات الأدوية الكبرى والرأسماليين وممثليهم السياسيين في العالم. ما يعري بمشرط حاد ونظرة عميقة الظروف الوحشية التي يفرضها النظام الدكتاتوري على المعتقلين والمساجين، كما يفضح الألاعيب “القانونية” التي يلجأ إليها لإبقائهم في السجون لمدد طويلة بدون محاكمة. ليختم في النهاية، بثقة المناضل الماركسي الذي لا يفقد أبدا ايمانه بقدرة الطبقة العاملة على تغيير الواقع، إلى أن الأمل في القضاء على الظلم والسجن هو الثورة القادمة.
ونحن إذ ننشر هذه الرسالة، نعبر عن تضامننا المطلق مع المعتقلين السياسيين العماليين والمناضلين من أجل الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية وإكمال مهام الثورة في مصر. كما نعبر عن إدانتنا للنظام الدكتاتوري القمعي الذي يدوس بجزمته العسكرية على عنق الشعب المصري. ونؤكد أن اتفاقنا مع الرفيق كاتب المقال حول أن الثورة قادمة.
هكذا تفكر شركات سانوفي ونوفارتس وغيرهم
قبل اعتقالي بأيام كنت قد انتهيت من مقال لم أستطع نشره حول من يحرك الأزمة ومن يدفع الثمن؟! كنت أحاول فيه أن أحلل مستخدما الأرقام والإحصائيات التي تعكس قوة الاستثمار في مجال صناعة الدواء وإلى أي شيء توجه وما الهدف النهائي من تلك العملية. للأسف لم تعد الأرقام متاحة الآن، بعد شهرين من الاعتقال، ولا أستطيع تذكرها بوضوح؛ لكن بمراجعة تقارير منظمة الصحة العالمية، والمنظمة السويسرية للمراقبة على إنتاج الدواء، نستطيع أن نستنتج بشكل واضح أن الأمراض الفيروسية التي تصيب الجهاز التنفسي، والتي تقع في المرتبة الأولي من حيث الأمراض القاتلة في دول العالم الثالث وفي المرتبة الثانية في دول العالم الأول، فإنها تقع في المرتبة العاشرة من حيث الاستثمار، لأن عائد الاستثمار الناتج منها أقل بكثير من عائد الاستثمار في أدوية أمراض أخرى مثل السرطان.
إن حقيقة أن العلاج من أجل الربح وليس من أجل الحياة يمكن أن يلخص أفكار المستثمرين في عالم صناعة الدواء. إن الأرقام والتقارير السابقة، بالإضافة إلى تراشق الاتهامات والتصريحات بين الجهات العاملة على اكتشاف مصل لفيروس كوفيد-١٩، تدفع بشكل قاطع إلي حقيقة أنه لا أمل في علاج بدون ربح ومكاسب مضاعفة مالية وسياسية حتى لو كلف الأمر حياة الملايين من البشر. لم يكن المصنعون الدوائيون هم الوحيدون الذين يفكرون بتلك الطريقة، بل حتى قادة الدول والحكومات، سواء في دول المراكز “الديمقراطية” أو في دول الأطراف القمعية والديكتاتورية.
جشع الاستثمار
أتذكر أنني في بداية الجزء الثاني من المقال كتبت أن أثرياء العالم لن يموتوا جوعاً أو مرضاً بخسارة سوق المال أو حتى توقفه، لكن الفقراء سوف يموتون كل يوم في الطرقات من الجوع والمرض.
عندما كتبت ذلك، قبل شهرين من الآن، كانت أعداد المصابين حول العالم لا تتجاوز ربع مليون مصاب، الآن أصبحت الأعداد تقارب الخمسة ملايين مصاب، وما يزال ميل الحكام والمستثمرين والولايات المتحدة، إلى استئناف العمل ومحاولة دفع الإنتاج أياً كانت الظروف. حتى الآن ما يزال الميل السائد هو دعم الاقتصاد من أعلى، دعم البورصة ورجال الأعمال لا دعم العمال والموقوفين عن العمل أو المخفضة رواتبهم، فقد اتفق حكام العالم والمستثمرون أنه لا مشكلة في أن يموت مئات الآلاف من البشر، أو الملايين، في مقابل تحسن نسبي في سوق المال، هكذا يفكر النظام العالمي.
كانت تلك السطور هي الاستنتاج السريع من مقال طويل كتبته قبل اعتقالي بأيام لأرى هنا داخل سجون الحكومة العسكرية صورة جديدة من مرض كورونا وكيف أثر المرض على حال السجون
جريدة مهربة
إن الدافع المحرك إلى كتابة هذا المقال هو خبر نشر منذ عدة أسابيع في جريدة الأهرام والوطن وأعتقد في كل الجرائد المصرية (حيث استطعنا تهريب نسخة من الجريدة اليومية بعد مرور أكثر من يوم على صدورها ودفعت ثمنها أكثر من ستة أضعاف). جاء في الجريدتان بشكل متشابه خبر يدين الحكومة القطرية بعد خروج تصريحات عن منظمة هيومان رايتس واتش الشرق الأوسط تفيد بمطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات وقائية بعد إصابة ١٢ مسجون بفيروس كوفيد -١٩ في سجن قطر المركزي، ومطالبة السلطة القطرية بالإفراج عن المعارضين السياسيين من غير المتسببين في أعمال عنف وكبار السن والمرضى. ويذكر الخبر أن المنظمة طالبت السلطات بضرورة تقديم الرعاية الصحية للمساجين وإتباع تعليمات النظافة والتباعد الاجتماعي واستخدام المطهرات والكمامات وغيره من أساليب الوقاية من المرض، وأضاف الخبر، في جريدة الوطن، أنه يوجد 150 سجينا داخل هذا السجن المركزي وأن به 08 حمامات فقط.
أبداً لن أقع في فخ الدفاع عن الحكومة القطرية، فكل حكومة موالية للإمبريالية والنظام الصهيوني هي بالنسبة لي حكومة معادية ورجعية، ولكن سخرية القدر أن أقرأ هذا الخبر في خضم التجربة التي أعيشها داخل سجون دولة السيسي وأتذكر المثل الذي يقول “اذا لم تستحي فأفعل ما شئت”، آسف على تغيير سير المقال والحكي المفاجئ لأنني هنا أصف تجربة لا أزال أعيشها لحظة بلحظة.
قضية كورونا
تم اعتقالي في القضية المعروفة إعلاميا بـ “قضية كورونا”، أغلب المعتقلين في تلك القضية هم ممن كانوا ينتقدون، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأداء الحكومي في مواجهة جائحة كورونا، سواء في التعامل مع الشارع أو المطالبين بالإفراج عن المسجونين.
إن الصورة التي كانت تدور في مخيلتي عن عدم وجود علاج أو حتى جهاز لقياس ضغط الدم أو مستوى السكر داخل مقرات الاحتجاز، وجدته أكثر فظاعة مما توقعت وتخيلت. حتى بعد فتح الزيارات (الأكل فقط) تعرض كل الزملاء داخل الغرفة لسرقة الأدوات الطبية الوقائية مثل الكمامات والكحول والقفازات وأدوات النظافة الشخصية، من قبل رجال البوليس والتفتيش (السجانة). كما أن للسجانين خطر أكبر في نشر الوباء- ففي الوقت الذى منعت عنا زيارة أهالينا- فقد انعدم الكشف على رجال البوليس الذين يخرجون كل يوم ثم يعودون بدون كشف أو حجر، ويخالطون مرة أخرى مئات المحبوسين بشكل يومي. إنه خطر حقيقي يهدد حياتنا داخل السجون فاجتماع عوامل التكدس ونقص المواد الوقائية وسوء الرعاية الصحية وانتشار الأمراض وعدم تطبيق بروتوكول العزل، عوامل تنذر بحدوث كارثة قد تودى بحياة المئات أو الالاف من المسجونين بين لحظة والأخرى.
تظافر الظروف على أضعف الحلقات
إن تفاقم الأزمة يبدو أكثر وضوحا بعد فقدان الأمل الضعيف في النجاة الفردية، فقد أغلقت النيابات والمحاكم أبوابها في ووجوهنا، بدون تحقيق يؤجل أمر حبسنا، بدون مثول او تحقيق أمام المحاكم أو النيابات نهائياً، تم إغلاق الأمل الضعيف بإخلاء سبيلنا أو حكم بالبراءة. وعلى النقيض من ذلك فإن باب النيابة مفتوح على مصراعيه أمام الوافدين الجدد من ضحايا الاختفاء القسري لتقنين حبسهم لتزيد من التكدس في السجن (خلال شهر واحد تضاعف عدد القادمين من الاختفاء القسري بالغرفة). من هنا نستطيع أن نلخص دور النيابة: فهي تقوم بدور الوسيط بين الاختفاء القسري و”الحبس القانوني”، حيث تفتح التحقيق مرة واحدة -أول يوم عرض- لتبرير عملية الاعتقال ثم يغلق الباب مرة أخرى. وفي الحقيقة قلما ينتظر منهم رحمة أو عدل.
ظروف سياسية لا صوت لنا فيها
مع زيادة انتشار المرض وتزايد عدد المصابين والموتى وازدياد انشغال الجماهير والمنظمات وبعض الحكومات “الديمقراطية” بمراقبة وضع الوباء، في ظل هذه الظروف يقل فيها سماع صوتنا الخافت الضعيف من داخل السجون، ليعطي انتشار الوباء في دول العالم الأول الضوء الأخضر للحكومة ورجال البوليس والقضاء لممارسة مزيد من القمع والتضييق. إن حكومة السيسي مثل أي حكومة مغتصبة -حكومة الكيان الصهيوني- تسعى لاستغلال الأزمة لتحقيق أفضل شروط حكم بالنسبة لها، وتصدر قوانين منذ بداية الأزمة لتزيد من صلاحيات رئيس الجمهورية وتضيق على الحريات العامة والخاصة وتقنن أكثر عمليات القمع لأي انتفاضة محتمل حدوثها.
الأمل هو ثورة جديدة
إن كتابة تلك الحقيقة القاسية، التي نعانيها كل يوم داخل السجون، تجذر الوعي ضد الجلادين وتبث املاً ساطعاً بحل جماعي: إما انتفاضة تغير شروط المعادلة السياسية، أو ثورة جديدة كاسحة تغير الأوضاع وتمارس قمعا حقيقيا على طغاة الحكم ومستثمريه الذين يتاجرون في قوة عملنا و يضحون بحياتنا من أجل عدم تأثر أرصدتهم، فقد اشتركوا في خطف الطعام من أفواهنا وتعريض حياتنا داخل السجون وخارجها للخطر لتثبيت حكمهم المحتل الصهيوني أو تدعيم ركائزهم الاقتصادية ومواقفهم المالية في أروقة التداول بالبورصة.
الحق أن الضمانة الوحيدة للإفراج عن المعتقلين السياسيين وضمان عدم اعتقال أضعافهم في المستقبل القريب، هي ضمانة قيام ثورة تكنس الديكتاتورية العسكرية الحاكمة في مصر وتهدم أسس سيطرة ذلك النظام السياسي والاقتصادي، ضمانة أن تحرر الجماهير الثائرة المعتقلين مرة واحدة وإلى الأبد وتهب لهدم آلة النظام الجمهوري القمعي، لتضمن عدم عودة جلادي الحكومة (الشرطة والقضاء) مجدداً للعمل.