على مدى العامين الماضيين قتلت الشرطة الأمريكية من السود الأمريكيين أكثر من عدد الأمريكيين الذين قتلوا في المعارك في أفغانستان على مدى السنوات الـ 18 الماضية. كما أن عدد السود الأمريكيين الذين قُتلوا على يد الشرطة خلال السنوات الثلاث الماضية أكثر من عدد الأشخاص الذين قتلوا في هجمات 11 شتنبر 2001. فإذا أضفنا إلى ذلك الآثار المدمرة التي خلفتها الأزمة الاقتصادية والجائحة، يصير من السهل علينا أن نفهم لماذا تم الوصول إلى نقطة التحول، بحيث تدفق الغضب، المتراكم طيلة قرون من القهر، إلى الشوارع.
كتبنا، في وقت سابق من هذا العام، في مسودة منظوراتنا لسنة 2020 للثورة الأمريكية القادمة، ما يلي:
«لقد غير عام 2008 بشكل عميق وعي ملايير الناس. والمنظرون الاستراتيجيون للرأسمالية يفهمون ذلك ويخافون منه. أجرى باروميتر إيدلمان للثقة استطلاعا في 28 بلدا رئيسيا ووجد أن 56% من السكان يعتقدون أن “الرأسمالية اليوم تضر العالم أكثر مما تنفعه”، ومن بين هؤلاء 47% من الأمريكيين.
وخلصت توقعات مابلكروفت للمخاطر السياسية العالمية إلى أنه خلال عام 2019، “شهد 47 بلدا ارتفاعا ملحوظا في الاحتجاجات، والتي اشتدت خلال الربع الأخير”. يمثل هذا 25% من جميع بلدان العالم. “تعطيل الأعمال والاقتصادات الوطنية والاستثمار في جميع أنحاء العالم تسبب في خسائر بلغت مليارات الدولارات”. ومع أزمة اقتصادية عالمية جديدة بدأت تلوح في الأفق، أو بالأصح حدثت بالفعل، يمكننا أن نتوقع سخطا أكثر اتساعا خلال عام 2020 وما بعدها. وسيكون لموجات الثورة التي تجتاح أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، وأوروبا نفسها، تأثير حتمي على الولايات المتحدة».
لقد تم تأكد هذا المنظور الآن بشكل كامل. فخلال الأيام العشرة التي تلت جريمة قتل الشرطة لجورج فلويد في مينيابوليس، اهتزت الولايات المتحدة من أعلاها إلى أسفلها بحركة جماهيرية ذات أبعاد غير مسبوقة. وقد تصاعدت بشكل حازم في وجه القمع الوحشي والمزيد من عمليات القتل على أيدي الشرطة. أعلنت أكثر من 200 مدينة حظر التجول وتم نشر أكثر من 20.000 من الحرس الوطني في 28 ولاية.
النظام في حالة دفاع
إن هذه الحركة التي امتدت على الصعيد الوطني، ووصلت إلى كل ركن من أركان البلاد -من المراكز الحضرية الكبرى إلى المدن المحافظة الصغيرة الهادئة- وضعت النظام في حالة دفاع. لقد اضطروا الآن إلى تقديم بعض التنازلات –بحيث قاموا باتهام الضباط الثلاثة الآخرين المتورطين في القتل ورفعوا درجة التهمة ضد تشوفين- بل إنهم دفعوا بالرئيس السابق باراك أوباما لمحاولة تهدئة الوضع.
لكن الرئيس الحالي يسكب المزيد من البنزين على النار، حيث أعلن، وهو يحمل الكتاب المقدس في يده أنه: «إذا رفضت مدينة ما أو ولاية ما اتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن حياة وممتلكات سكانها، سأقوم أنا حينها بنشر جيش الولايات المتحدة وسأحل لهم المشكلة بسرعة». كان هذا بعد أن تم تفريق متظاهرين سلميين باستعمال الغاز المسيل للدموع والهراوات لإفساح المجال أمامه لأخذ صورة له.
لكن القمع البوليسي لم يتمكن من إخضاع الحركة. ففي لويزفيل، كنتاكي، قتلت الشرطة رجلا أسود أعزل آخر، هو ديفيد مكاتي. زعم رجال الشرطة أنهم كانوا “يردون على إطلاق النار” من جانب الحشود، لكنه اتضح فيما بعد أن الضباط المتورطين كانوا قد أطفئوا كاميرات أجسادهم وأن قصتهم تتعارض مع ما رواه شهود العيان. لقد كانت عملية قتل مرة أخرى.
تم القبض على أكثر من 9000 شخص، معظمهم لمجرد التظاهر. وقد تحدى المتظاهرون قانون حظر التجول في مختلف المدن، الواحدة منها تلو الأخرى. وفي لوس أنجلوس وسياتل هتف المتظاهرون: “أنا لا أرى هنا أي أعمال شغب، لماذا أنتم ترتدون معدات مكافحة الشغب؟”.
كل ما يفعله ترامب مدفوع بمنظور الانتخابات الرئاسية في نوفمبر. كان تهديده باستخدام الجيش محاولة للعب ورقة “القانون والنظام”، لتصوير نفسه على أنه “الرجل القوي”، بينما يرسم الديمقراطيين على أنهم “ضعفاء” في مواجهة “البلطجية المشاغبين”.
لكن اللعبة التي يلعبها خطيرة للغاية. فنشر قوات الجيش سيكون مقامرة عالية المخاطر يمكن أن تؤدي إلى نقطة اللاعودة. ما الذي سيحدث إذا لم يتراجع المتظاهرون؟ ماذا لو رفضت القوات إطلاق النار على حشود من الرجال والنساء والأطفال؟ وإذا ما قاموا بإطلاق النار، كم عدد الأشخاص الذين يمكن أن يقتلوا قبل أن ينضم ملايين آخرون إلى الحركة، وينشق الجيش على أسس طبقية، وتشتعل النيران في كل السفارات الأمريكية في العالم؟
كانت هناك بالفعل حالات (حقيقية أو شكلية) للتآخي بين ضباط الشرطة وبين الحشود. وفي مقطع فيديو منتشر على نطاق واسع يخاطب شاب أسود رجال شرطة سود ويقول لهم إن الأغنياء ورؤسائهم يحتقرونهم هم أيضا. بينما في مقطع فيديو آخر يظهر ضابط وهو ينهار باكيا ويتم استبداله من الصف الأمامي، بعدما توسلت إليه فتاة سوداء أن يجثو على ركبته.
إن العلامة الأولى عن الثورة الوشيكة هي اندلاع الانقسامات داخل صفوف الطبقة السائدة، التي لم تعد قادرة على الحكم بالطريقة القديمة. إن التنازلات الاقتصادية لفترة ما بعد الحرب [العالمية الثانية] قد ذبلت والعصا القمعية المعتادة تفقد فعاليتها، تاركة الرأسماليين وممثليهم السياسيين في حيرة ويتبادلون اللكمات فيما بينهم.
لقد سبق لنا أن رأينا العديد من الأمثلة على ذلك، خاصة منذ عام 2016. لكن الآن، ولا سيما بعد امتزاج الكثير من العوامل المتفجرة، انفتحت تلك الانقسامات على مصراعيها.
إن نشر الجيش – ليس الحرس الوطني بل الجيش الفعلي- بموجب قانون التمرد لعام 1807، يمكنه أن يأتي بنتائج عكسية على نطاق واسع. يبدو أن ترامب، وهو رجل أعمال حقير وفنان تافه وبدون خبرة عسكرية، يعتقد أن القوات المسلحة مثل صنبور يمكنه ببساطة أن يفتحه ويغلقه حسب الرغبة، أو أنه تهديد سيُقابل بالطاعة والخوف دون طرح أي سؤال. لكن الاستراتيجيين الجادين في البنتاغون يعرفون أنهم بمجرد أن يلعبوا ورقة “إرسال القوات”، لن تعود لديهم أية أوراق.
إن الجيش الأمريكي في الأساس هو المؤسسة الوحيدة للنظام الرأسمالي التي ما تزال تتمتع بدرجة تأييد عالية. إنه يتكون في الغالب من إخوة الشعب وأخواته وآباءه وأمهاته وأعمامه وأبناءه… ويعتبر المدافع البطولي عن “الحرية الأمريكية”. لكن إذا تم استخدامه ضد السكان المدنيين -السكان الذين يأخذون “الحرية من الاستبداد” على محمل الجد- فعندها ستتبخر جميع الأوهام. سيكون الأمر أشبه بإعلان الحرب على سكان الولايات المتحدة، وهي حرب لن يفوزوا بها دون أن يتسببوا في تقويض دائم لقدرتهم على الحفاظ على حكمهم.
وصفت افتتاحية لصحيفة وول ستريت جورنال ذلك بالشكل التالي:
«نعتقد أن هذا سيكون خطأ، على الرغم من أن السيد ترامب لديه الصلاحية… ففي الوقت الحالي، من المرجح أن يؤدي مشهد القوات في شوارع الولايات المتحدة إلى اشعال الوضع وليس التهدئة… إن الجنود الأمريكيين مدربون على القتال ضد عدو أجنبي، وليس على السيطرة على الشغب ضد الأمريكيين. سيكون خطر حدوث الأخطاء مرتفعا، وسوف يُلام السيد ترامب على أي إراقة للدماء خلال اشتباكات بين المدنيين والقوات…»
إنهم خائفون، ليس فقط من “الأخطاء”، لكن من التأثير الذي سيكون لعمليات القتل ضد المدنيين على يد الجيش على الرأي العام. كما أنهم خائفون من عواقب إرسال جنود -غالبيتهم من المجندين لأسباب اقتصادية مع نسبة كبيرة من السود واللاتينيين- لمحاربة المتظاهرين العزل الذين يتظاهرون ضد عمليات القتل التي تقوم بها الشرطة العنصرية.
هناك تقارير من منظمات قدامى المحاربين بأن بعض الجنود العاملين والحرس الوطني يعارضون نشرهم في هذه الظروف. ونُقل عن جندي، عمل طبيبا في سرية لقوات المشاة، قوله: «لا يمكنني فعل ذلك. حتى النظر إلى زيي الرسمي يجعلني أشعر بالغثيان لأنني ارتبطت بهذا، خاصة بعد أن أطلقت [وحدة الحرس الوطني] النار على ذلك الرجل الذي كان يملك متجر الشواء [في لويزفيل، كنتاكي]. أعيش في ولاية بنسلفانيا. أعيش مع تاريخ ولاية كينت. أنا لست جزءا من ذلك». كما نشرت صحيفة Military Times تقارير عن حالة الاستياء المتزايدة بين القوات التي يتم استخدمها ضد المتظاهرين.
انشقاقات في القمة
يمكن لنشر الجيش أن يؤدي أيضا إلى أزمة دستورية عميقة، مع حدوث انشقاق مفتوح في جهاز الدولة حول مشروعية اللجوء إلى قانون التمرد. لهذا السبب شهدنا منذ اللحظة الأولى التي هدد فيها ترامب بإخراج الجيش إلى الشوارع، ردة فعل قوية من أقسام من الدولة الرأسمالية. وذلك ليس لأنهم أقل قسوة من ترامب أو أكثر ديمقراطية منه، بل لأنهم يخشون من أن مثل هذا العمل، عوض أن يمكنهم من سحق الحركة ووضع الموقف تحت السيطرة، يمكن أن يكون له تأثير معاكس. إنهم يخشون من تقويض دستور الولايات المتحدة أكثر مما تقوض بالفعل، لأنه الحصن القانوني للحكم الرأسمالي في البلاد.
أفاد مقال نشر على موقع CNN أن هناك معارضة داخل البنتاغون لنشر القوات: «قال مسؤولو الدفاع لشبكة CNN إنه كان هناك انزعاج عميق ومتزايد بين البعض في البنتاغون حتى قبل أن يعلن الرئيس دونالد ترامب، يوم الاثنين، أنه مستعد لنشر الجيش لفرض النظام داخل الولايات المتحدة».
كما تدخل وزير الدفاع السابق في إدارة ترامب، ماتيس، الملقب بـ”الكلب الغاضب”، بمقال في صحيفة The Atlantic، وصف فيه ترامب بأنه “تهديد للدستور” ودعا في الواقع إلى إقالته، وقال: «يمكننا أن نتحد بدونه، بالاعتماد على نقاط القوة الكامنة في مجتمعنا المدني. لن يكون ذلك سهلا، كما أظهرت الأيام القليلة الماضية، لكننا مدينون بذلك لمواطنينا». وهذه مرة أخرى، خطوة غير مسبوقة، أن يطالب جنرال بحرية متقاعد، ووزير دفاع سابق، بإقالة الرئيس!
أضاف الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة، الأدميرال المتقاعد مايك مولن، صوته إلى أولئك الذين يرفضون استخدام الجيش. وقد فعل ذلك بدعوة مقنعة، إلى هذا الحد أو ذاك، للجنود بعصيان الأوامر، حيث قال: «ما زلت واثقا في احترافية رجالنا ونسائنا بالزي العسكري. إنهم سيخدمون بمهارة وتعاطف. سوف يطيعون الأوامر القانونية. لكني أقل ثقة في سلامة الأوامر التي سيصدرها القائد العام».
وكتب جون ألين، وهو جنرال بحرية متقاعد من فئة أربع نجوم، وقائد سابق للقوات الأمريكية في أفغانستان، ومبعوث رئاسي خاص سابق للتحالف العالمي لمواجهة داعش في عهد أوباما، أن تصرفات ترامب الأخيرة وتهديداته “قد تشير إلى بداية نهاية التجربة الأمريكية”. ودعونا لا ننسى أن أحد أسباب اندلاع الثورة الأمريكية كانت في المقام الأول الاحتجاج على الاستبداد ووجود قوات نظامية في المدن الأمريكية.
وعلى الرغم من أن ترامب وأتباعه المتعصبين المجانين يلومون “المتطرفين اليساريين” على الفوضى وتحركوا لتصنيف “أنتيفا” منظمة إرهابية محلية، فإن مكتب التحقيقات الفدرالي استنتج أنه لا يوجد دليل على وجود تحرك منظم من “أنتيفا”.
لقد أدى كل هذا الضغط إلى خطوة أخرى غير مسبوقة، كشفت مرة أخرى عمق الانقسامات داخل صفوف الطبقة السائدة. فقد أعلن وزير الدفاع الحالي، مارك ت. إسبر، يوم الأربعاء، معارضته لاستعمال قانون التمرد، وهو ما يتعارض صراحة مع موقف الرئيس. هذه حادثة معبرة للغاية، تظهر أن الدولة الرأسمالية لديها آليات معينة للسيطرة حتى على أكثر الرؤساء نشازا. لكن وقبل أن ينتهي اليوم كان هناك تطور آخر للقصة:
ذكرت صحيفة واشنطن بوست أنه بينما كان الجيش يخطط لسحب جنود في الخدمة الفعلية كان قد تم نشرهم في واشنطن العاصمة، «تم تغيير الخطة يوم الأربعاء بعد اجتماع في البيت الأبيض شارك فيه وزير الدفاع مارك ت. إسبر».
هناك صراع جبار يمزق قمة الطبقة السائدة وجهاز الدولة، وهو صراع يحدث في كل مرة وفي كل مكان تندلع حركة جماهيرية بمثل هذه الأبعاد. هناك من يعتقدون أنه يجب تقديم تنازلات لإرضاء الحركة، بينما يطالب آخرون باستخدام القبضة الحديدية. يجادل الطرف الأول بأن القمع لن يؤدي إلا إلى تصعيد الحركة، بينما يقول الطرف الثاني إن إظهار الليونة هو ما سيصعد الحركة. وفي هذه المرحلة من تطور الاحتجاجات، كلاهما مخطئ وكلاهما محق.
يجب ألا نقلل من حجم واتساع وعمق الحركة الجماهيرية التي تطورت خلال الأسبوعين الماضيين. الولايات المتحدة ليست أي بلد، إنها أقوى دولة إمبريالية شهدها العالم على الإطلاق، دولة أرعبت طبقتها الحاكمة العالم والكثير من سكانه لعدة قرون.
التناقضات تصعد إلى السطح
هذ الحركة نتيجة لتراكم عدة عوامل. إنها أولا تنبني على أساس تجربة “حركة حياة السود مهمة” والوعي بأنه لم يتغير أي شيء جوهري. وعلينا أن نضيف إلى ذلك تجربة حركة احتلال الساحات لعام 2011، المستوحاة من الربيع العربي وانتفاضة ويسكونسن. هناك أيضا تجربة حملة بيرني ساندرز لعامي 2016 و2020، والتي ساهمت في تجذر فئات واسعة من الناس، والشباب على وجه الخصوص، ووضعت الاشتراكية على جدول الأعمال. وقد كان الدرس الواضح الذي استخلصه الكثيرون من خيانة ساندرز هو أن الطريق الانتخابي مغلق، وبالتالي دفعهم إلى الشوارع.
ثم هناك طريقة التعامل مع جائحة كوفيد 19 التي كشفت الطبيعة الحقيقية للنظام الرأسمالي، حيث تأتي الأرباح في المرتبة الأولى قبل حياة البشر -مات أكثر من 100.000 شخص حتى الآن. وما زاد الأوضاع سوءا هو الركود الاقتصادي الذي يعتبر أعمق ركود شهدته الرأسمالية الأمريكية على الإطلاق، مما دفع بعشرات الملايين إلى البطالة في غضون أسابيع قليلة فقط.
لقد أصبح جيل الشباب، الذي هو القوة الدافعة للحركة، واعيا سياسيا في أعقاب أزمة 2008 وسياسة إنقاذ البنوك. لقد تميزت تجربة حياتهم كلها بالأزمة وعدم اليقين وعدم وجود أي منظور لمستقبل أفضل. ليس لديهم ما يخسرونه. ليس لديهم في الوقت الحاضر بديل. وهذا الغضب الجامح هو ما يمنح الحركة الحالية طاقتها الجبارة في مواجهة القمع الوحشي.
وهكذا فإن انتفاضة الولايات المتحدة لديها العديد من النقاط المشتركة مع انتفاضات أكتوبر 2019 في تشيلي، وانتفاضة كاتالونيا ولبنان، إلخ. إن جيل الأزمة الرأسمالية لعام 2008 يقف في طليعة الثورات التي تنتشر مثل الحرائق في جميع أنحاء العالم، والتي بدأت حتى قبل جائحة كوفيد 19 وستزداد حدة في الفترة المقبلة.
لكن ليس الشباب وحدهم من يشككون في النظام القائم. إذ يمكنهم الاعتماد على تعاطف أغلبية السكان، بمن فيهم نسبة كبيرة من الناخبين الجمهوريين. أظهر استطلاع أجرته مؤسسة مورنينغ كونسولت، في 31 ماي – 01 يونيو، أن «54% من البالغين الأمريكيين – من بينهم 69% من الديمقراطيين و49% من المستقلين و39% من الجمهوريين -يؤيدون الاحتجاجات الجارية ردا على وفاة جورج فلويد، والأميركيين السود الآخرين».
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن استطلاع رأي نشرته نيوزويك وجد أن غالبية الأمريكيين -54%- «يعتقدون أن حرق مقر مركز شرطة مينيابوليس، بعد مقتل جورج فلويد، كان عملا مبررا»!
الطابع العفوي إلى حد كبير للحركة وافتقارها إلى قيادة أو برنامج أو استراتيجية وطنية يعتبر، في الوقت الحاضر، نقطة قوتها، لأن هذا يجعل الأمر أكثر صعوبة على الديمقراطيين والليبراليين احتواءها. لكن هذا الافتقار إلى الوضوح والتنظيم سوف يتحول حتما، في لحظة معينة، إلى نقطة ضعف خطيرة.
إن أي حركة تكون بهذا الحجم وتستمر لعدة أيام، تبدأ بطبيعة الحال في خلق قياداتها الطبيعية. هناك تقارير عن تشكيل لجان للأحياء في المناطق الفقيرة وأحياء السود واللاتينيين، بدءا من مينيابوليس بؤرة الحركة. وفي مواجهة تهديد الشرطة وعصابات النهب والميليشيات اليمينية المتطرفة، بدأ الناس في تنظيم صفوفهم للدفاع عن أنفسهم، وذلك، في بعض الحالات، بحمل الأسلحة.
يصف تقرير درامي من مينيابوليس الموقف كما يلي:
«أريدكم أن تعرفوا جميعا أنني أنا وجيراني بقينا في الخارج حتى لم نعد قادرين على الحركة. بعضنا يستمر مستيقظا طوال الليل حتى يتمكن البعض منا من الحصول على قسط من الراحة. أريد حقا أن أوضح أن الشرطة والحرس الوطني لم يحافظوا على الأمن في أحيائنا، نحن من قام بذلك. لم ترد الشرطة على اصطدام سيارتين بحاجز، نحن من فعل. الشرطة لم تمنع عدة أشخاص من اقتحام البنك أو معرض السيارات أو ورشة للتصليح، نحن من قام بذلك. لم تقم الشرطة بمطاردة القوميين البيض والناس من خارج البلدة، بل نحن من فعل ذلك. لم تتحقق الشرطة من أوضاع الجيران الضعفاء وتساعدهم في الحفاظ على سلامتهم في منازلهم، نحن فعلنا ذلك. لم يقم الحرس الوطني بتنظيف شوارعنا، أو جلب الطعام إلى حيث كانت هناك حاجة إليه، أو نقل الأشخاص المعرضين للخطر إلى الفنادق، نحن فعلنا ذلك. لذلك لا ترهنوا سلامة أحد بالوجود العسكري المتزايد في مينيابوليس. لا [المحافظ] والز ولا [العمدة] فاي، لا الخنازير أو الحراس. يجب أن تعطى الثقة للجيران وأفراد المجتمع الذين يعتنون ببعضهم البعض. إن ما نقوم به غير كامل ومتوتر، لكنه أفضل مما كان لدينا من قبل».
هذا هو الطريق إلى الأمام. إن تعميم لجان الأحياء الديمقراطية لن يضمن فقط الدفاع الذاتي عن السكان في الأحياء العمالية، بل إنه سيوفر أيضا للحركة هيكلا ديمقراطيا وخاضعا للمساءلة. يجب على اللجان، الموجودة بالفعل بشكل جنيني في أجزاء مختلفة من مينيابوليس، أن ترتبط مع بعضها من خلال شبكة من المندوبين المنتخبين والقابلين للعزل. يجب على اتحاد العمل في مينيابوليس تعبئة أعضائه وتقديم كل موارده من أجل تسهيل الربط بين هذه اللجان عبر المدينة وخارجها.
لا ترامب ولا بايدن، السلطة للعمال!
يجب مواجهة العنف المنظم للدولة وسلطتها بقوة الحركة العمالية المنظمة. إن التصريحات والأعمال التي قام بها عمال النقل في العديد من المدن، والذين أعلنوا إنهم لن يقدموا الدعم المادي للشرطة في جهودها للقبض على المتظاهرين، تعبير عن هذه القوة.
لقد أجبر المحتجون أمام البيت الأبيض الرئيس على الاختباء، وتم إطفاء أضواء رمز القوة الرأسمالية هذا خوفا من جذب انتباه المتظاهرين. يمكن للطبقة العاملة المنظمة أن تشل البلاد بأكملها، وتطفأ النظام بأكمله.
شهدت الأشهر القليلة الماضية اندلاع أكثر من 220 إضرابا عفويا واحتجاجا على ضعف الأجور وغياب شروط السلامة وسوء ظروف العمل خلال الجائحة. وكانت تلك الإضرابات، في معظم الحالات، بقيادة فئات غير منظمة من الطبقة العاملة. هذه هي القوة التي يجب تسخيرها لصالح هذه الحركة كي تمضي قدما. يجب على الشباب أن يتجهوا نحو العمال، الذين يتعاطفون بالفعل مع الحركة، ويجب على العمال المنظمين أن يكسروا تحالفهم المشؤوم مع كاسري الإضرابات والاحتجاجات، الديمقراطيين، وينخرطوا بكل إخلاص في هذا النضال. فلنتخيل فقط ما سوف يحدث لو أن عشرات الملايين من العمال المنظمين وغير المنظمين توقفوا عن العمل في إضراب عام شامل، بدءا من مينيابوليس، وصولا إلى الصعيد الوطني!
لكن الحقيقة المؤلمة هي ما يلي: إذا لم يتم تنظيم الحركة وتوجيه طاقتها لإحداث تغيير جذري، فإن النهر الهائج سيعود في النهاية إلى ضفافه، ولو أن مسار النهر قد تغير إلى الأبد. هذا هو الدرس المأساوي للسنوات المائة الماضية، أو يزيد، والذي تكرر مرارا مع كل نهوض للجماهير بشكل عفوي، دون قيادة مستعدة مسبقا وجاهزة للسير حتى النهاية في النضال من أجل الإطاحة بالرأسمالية.
كان الأمر يتطلب إحراق الدائرة الثالثة للشرطة في مينيابوليس لإجبارهم على رفع درجة التهم ضد تشوفين. وتطلب الأمر 10 أيام من النضالات الجماهيرية المستمرة في جميع أنحاء البلاد لإجبار الدولة على توجيه اتهامات ضد رجال الشرطة الثلاثة الآخرين المسؤولين عن مقتل جورج فلويد. يجب الاحتفال بهذه المكتسبات التي تم انتزاعها، لكنها بعيدة عن أن تكون كافية. فبمجرد ما ستغادر الجماهير الشوارع، ستتراجع الدولة وستستعد لتبرئتهم، أو، في أحسن الأحوال، توجيه أحكام متساهلة لهم.
لقد تجاوزت الحركة بالفعل مسألة قتل جورج فلويد. النظام بأكمله مذنب. إن الحركة تساءل كل النظام الرأسمالي العنصري الذي قتل رجلا أسود آخر لمجرد لون بشرته. لقد شكلت جريمة قتله الوحشية الصدفة التاريخية التي أطلقت العنان للضرورة المكبوتة. وكما قالت ابنته جيانا، البالغة من العمر ست سنوات: “أبي غـيّر العالم”.
يجب أن نرفع شعار إسقاط ترامب. إلا أن هذا يعني بالضرورة مناقشة من سيحل محله. ليس هدفنا هو استبداله بمايك بنس أو جو بايدن. إن أغلبية رؤساء البلديات والمحافظين في المدن والولايات التي يقتل فيها الفقراء على أيدي رجال شرطة عنصريين هم من الديمقراطيين. كما أن رؤساء البلديات والمحافظين في المدن والولايات التي استخدمت فيها الشرطة والحرس الوطني القمع الوحشي ضد المتظاهرين هم في الغالب من الديمقراطيين. لقد قال بايدن إنه إذا وصل إلى السلطة، سيعمل على تغيير طريقة عمل الشرطة، من خلال، على سبيل المثال، تدريب الشرطة “على إطلاق النار في الساق بدلا من القلب“. ما الذي نحتاجه أكثر لكي نتأكد أنه لا يوجد أي فرق جوهري بين حزبي المؤسسة الرأسمالية؟ وأنه لا يوجد ما يطلق عليه “أهون الشرين”؟
إن ما نحتاجه هو حزب جماهيري عمالي اشتراكي مرتبط عضويا بالعمال المنظمين وبالطبقة العاملة الأوسع. إن مثل هذه الأداة ضرورية لتوجيه طاقة وغضب الشباب وتركيزها على إسقاط النظام الرأسمالي العنصري الذي ينتج الأزمات. نحتاج أيضا إلى كوادر من الثوريين المحترفين، المتمكنين من النظرية الماركسية والذين تصلبوا في الصراعات التي تخوضها طبقتنا، لتمكين الحزب العمالي الجماهيري المستقبلي من الاستقلالية الطبقية الصارمة والمنظور التاريخي البعيد المدى.
إن هذه الحركة البطولية مصدر إلهام للعالم بأسره. إذ أنه وبعد كل شيء، إذا كانت هذه الأحداث يمكنها أن تقع في “بطن الوحش”، فيمكنها أن تحدث في أي مكان!
ما نشهده الآن ليس الثورة الأمريكية الثالثة بعد. لكن هذه بلا شك اللقطات الافتتاحية لحقبة ثورية، والتي ستنتهي “إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين”.وباختصار، فإن مصير البشرية ذاته على المحك إذا أردنا النجاة من كوارث تغير المناخ وفيروس كورونا والرأسمالية. إن الطريقة الوحيدة للقضاء على أمراض الرأسمالية هي تنظيم الصفوف من أجل القضاء نهائيا على النظام الرأسمالي خلال الفترة التاريخية القادمة.
- لأجل النضال ضد رجال الشرطة القتلة، يجب النضال ضد الرأسمالية!
- نعم لوحدة الطبقة العاملة، الاعتداء على واحد هو اعتداء على الجميع!
- نعم لبناء لجان أحياء للدفاع الذاتي في كل مكان، منتخبة وخاضعة للمساءلة من طرف الجماهير!
- يجب أن ينضم العمال المنظمون إلى الحركة ويسهلون التنسيق بين لجان الأحياء، ويدعون إلى الإضراب العام، ويشلون المجتمع الرأسمالي!
- فليسقط ترامب والجمهوريون والديمقراطيون! من أجل حزب عمالي اشتراكي جماهيري وحكومة عمالية!
جون بيترسون وخورخي مارتن
04 يونيو 2020
المقال على موقع الدفاع عن الماركسية:
US: what next as the whip of reaction fails to cow the masses?