الرئيسية / قضايا نظرية / اقتصاد وعولمة / انحسار رأسمالي والعراق

انحسار رأسمالي والعراق

لقد تلاشى الآن جو التفاؤل بشأن الاقتصاد العالمي الذي نشأ خلال أشهر الصيف. الحديث الآن هو أن هناك خطر حقيقي من انزلاق الولايات المتحدة مرة أخرى إلى ركود اقتصادي، وتجر معها بقية العالم. لا تزال أسواق الأسهم العالمية تتسع في سيناريو تحقيق نصر سريع في العراق. ولكن حتى لو حدث هذا، فقد يؤدي إلى تحسين “الثقة” لفترة وجيزة ولكنه لن يُخرج الشركات من الديون ولن يخلق فرص عمل. مغامرة بوش في العراق ليست مخرجًا للرأسمالية العالمية في أحسن الأحوال، وقد تكون نقطة التحول لكساد اقتصادي عالمي في أسوأ الأحوال.

“البيئة الجديدة المقلقة تؤكد أننا على وشك أن نشهد أكثر من مجرد تباطؤ اقتصادي، أكثر من مجرد ركود. نحن على وشك أن نشهد أعمق تدهور في سوق الأسهم وكساد اقتصادي منذ الثلاثينيات. لكن من رجاء لا تسيؤوا الفهم: فلن يكون السقوط دفعة واحدة. ستبذل أقوى المؤسسات والبنوك المركزية في العالم كل ما في وسعها لدعم اقتصاداتها وتحفيز سوق الأسهم ولو مؤقتا”. (انظر الركود العظيم، أكتوبر 2001).

تبدد الآن جو التفاؤل بشأن الاقتصاد العالمي الذي ظهر خلال أشهر الصيف. الحديث بين العديد من الخبراء في نيويورك، وفي مجلة الإيكونوميست في لندن، هو أن هناك خطرًا حقيقيًا من انزلاق الولايات المتحدة مرة أخرى إلى ركود اقتصادي، وتجر معها بقية العالم.

فقط المتحدثون الرسميون لإدارة بوش، آلان غرينسبان، والاحتياطي الفيدرالي، وبالطبع، كل البنوك الاستثمارية في وول ستريت التي لديها مصلحة راسخة في نشر التفاؤل، يواصلون القول بأن الاقتصاد الأمريكي سيبدأ في النمو عند 3-4% في السنة، وستنخفض البطالة وسيكون عالم ما بعد صدام مكانًا أفضل.

إحدى التعليقات النموذجية هي تعليقات مايكل موسكو رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، الذي اعترف بأن: “الطريق إلى الانتعاش يصبح أكثر وعرة”، لكنه أشار إلى أنه “بمجرد أن قطعنا طريقنا من خلال التصحيح الصعب الحالي، فإن الآفاق طويلة الأجل للاقتصاد الأمريكي تبدو جيدة”.

حسنًا، لقد مر عام منذ الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي، رمز القوة المالية والاقتصادية الأمريكية. والمعلقون الآخرون على الاقتصاد العالمي أقل تفاؤلاً بكثير. كتب الدكتور كورت ريتشيباتشر: “للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يقع العالم في قبضة تباطؤ اقتصادي عالمي متزامن، نحن نتجه نحو اضطرابات مالية خطيرة في الولايات المتحدة لا سابق لها في فترة ما بعد الحرب بأكملها”.

تعلق مجلة الإيكونوميست قائلة: “يبدو أن الاقتصاد العالمي برمته يتجه نحو الخمول. وفي كل مكان، يقوم الاقتصاديون بمراجعة أهدافهم إلى الأسفل. وبالكاد ولا تحقق أمريكا وأوروبا واليابان نموا. ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي بمعدل 1,4% فقط في الربع الثاني من السنة. ونما الاقتصاد الياباني بشكل أسرع من الاقتصاد الأمريكي – ولكن لا يوجد داع للاحتفال. لا تزال اليابان في حالة انكماش. انخفضت الأجور بنسبة 5,6% في الربع الثاني. أما في أمريكا، فلا تزال الأسعار ترتفع، ولكن ليس بحدة. والأسعار في قطاع الأعمال في الواقع تتراجع للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية… منخفضًا بنسبة 0,6% في الربع الثاني”. وتضيف المجلة: “قبل نهاية عام 2003، يمكن أن تشهد الاقتصاديات الثلاث الأكبر في العالم الغني – أمريكا واليابان وألمانيا – معدلات تضخم سلبية”.

ولا يتفق ستيفن روتش، كبير الاقتصاديين في بنك مورغان ستانلي، مع التوقعات المتفائلة لزملائه في بنكه. يقول: “هناك شعور بالاحباط في الاقتصاد العالمي مرة أخرى، ففي بلد تلو الآخر، منطقة بعد منطقة، يبدو أن مخاطر النمو تتجه الآن إلى الهبوط. سرعان ما تحول الخوف الأمريكي المزدوج الذي حدث في وقت سابق في هذا الصيف إلى العالمية… كل هذا يترك الاقتصاد العالمي ضعيفًا للغاية. إن محرك النمو العالمي بدأ يصيبه الوهن، ولا يبدو أن هناك مصدرًا جديدًا للنمو يملأ هذا الفراغ على الفور”.

وتظهر جميع البيانات الأخيرة أن الشيء الوحيد الذي يحافظ على نمو الاقتصاد الأمريكي هو مبيعات السيارات، والإسكان، والأمل في أن يخفض رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ألان غرينسبان أسعار الفائدة وينعش الاقتصاد المتعثر. لكن يبدو أن مبيعات السيارات قد بلغت ذروتها الآن، ووصلت حالات التأخر في سداد القروض العقارية وحبس الرهن إلى مستوى قياسي جديد وانخفضت أسعار المنازل في الولايات المتحدة بنسبة 5,4% في الشهرين الماضيين. يبدو أن فقاعة الإسكان الكبيرة تنفجر.

إن مفتاح الحكم على ما إذا كانت الرأسمالية العالمية ستبقى في ركود اقتصادي يدمر الاستثمار والوظائف ويفاقم من مستويات المعيشة للأغلبية هو فرص الربح. فالرأسمالية هي نظام يقوم فيه المنتجون (الشركات المملوكة للقطاع الخاص) بالاستثمار والتوظيف والإنتاج فقط إذا كانت مربحة.

كما أوضح ماركس، في ظل الرأسمالية، قد تعزز التكنولوجيا الجديدة إنتاجية العمل، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى زيادة الربحية لجميع الذين يستثمرون في السوق الرأسمالية. فمن المؤكد أن أولئك الذين يبادرون لاستخدامها أول مرة هم من سيكتسبون ميزة أولاً. ولكن بمجرد دخول الجميع في اللعبة، تؤدي المنافسة إلى خفض الأسعار وتقليص الأرباح. والأسوأ من ذلك، يبدأ الجميع في استثمار مبالغ ضخمة من رأس المال لمقتضيات تنافسية. وستؤدي مزيج من الابتكارات والإفراط الهائل في الاستثمار إلى الاقتراض المفرط والافراط في الانتاج. وهكذا تبدأ الأرباح في الانخفاض. وتنخفض أسعار الأسهم وتتراجع استثمارات الشركات. في حين تتدنى المبيعات، وتؤدي المنافسة إلى انخفاض الأسعار، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض الأرباح بشكل أكبر. ويتحول الازدهار إلى ركود.

ويتراءى هذا بوضوح في الولايات المتحدة وأوروبا. فقد تبين أن الاقتصاد الجديد العظيم لتكنولوجيا المعلومات يعمل بنفس الطريقة تمامًا مثل الاقتصاد القديم للرأسمالية. منذ عام 1997، تقلص الربح على في كل استثمار إضافي في المعدات والعمالة. وبحلول عام 2001، انخفضت الأرباح الصرفة في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد الأمريكي بشكل حاد. بالتأكيد، كانت الأرباح لا تزال تُحقق في بيع السلع والخدمات الاستهلاكية. ولكن لم يكن هناك ربح من صنع أي شيء. فقد انخفض الاستثمار في التصنيع والإنتاج وكذلك الوظائف.

كان هذا هو سبب الانكماش الاقتصادي في عام 2001. وكل شيء آخر – الانحدار الطويل في أسعار الأسهم، والتخفيضات الهائلة في إنفاق رأس المال التجاري وتقلص نمو دخل المستهلك – ليست سوى نتيجة لمذبحة الأرباح. ولم يتغير شيء في عام 2002.

في النهاية، تتلخص جميع الأسئلة المتعلقة بالاقتصاد الأمريكي في سؤال واحد: هل سيعود الاستثمار التجاري بقوة كافية أم لا؟ ولكن لكي يحدث ذلك، فإنه يحتاج إلى نظرة مستقبلية جذابة للربح واستيعاب الأسواق المالية. ولا شيء من ذلك في الأفق. فعلى الرغم من إلغاء 1,5 مليون وظيفة في الولايات المتحدة في الأشهر الثمانية عشر الماضية، فلم تتمكن الشركات الأمريكية من زيادة الأرباح المطلقة إلا بنسبة 1,4% فقط منذ التراجع الهائل في الأرباح في سنة 2001. هذا يعني أن الإنفاق الرأسمالي من قبل الشركات الأمريكية لا يزال راكدا. وعملية الإقراض المصرفي في قطاع الصناعة متوقف.

وكما جادلت من قبل في هذا العمود، فإنه لم يسبق أبدا في التاريخ أن كان سوق الاسهم بمثل هذه الأهمية لنجاح الرأسمالية. فخلال الانتعاش الذي عرفه سوق الأسهم في التسعينيات حققت الشركات الرأسمالية أرباحها ليس من فقط من خلال التصنيع أو من قطاع الخدمات، وإنما وبنسبة أكبر من الاستثمار في الشركات الأخرى على أمل ارتفاع أسعار أسهم هذه الشركات.

بالطبع، من المستحيل إلى يستمر هذا إلى أجل غير مسمى. وبمجرد أن تبدأ أسعار الأسهم في الانخفاض، وبسبب الدور الحديث الهائل لسوق الأوراق المالية، تنخفض أرباح الشركات كذلك. وعلى إثرها يبدأ العالم بأكمله في الانهيار. وقد بدأت أسواق الأسهم تتجه نحو التراجع منذ مارس 2000. وخلال الشهر الماضي [غشت 2002]، تراجعت أسواق الأسهم الأوروبية إلى مستويات لم تشهدها منذ عام 1997، كما أن أسعار الأسهم الأمريكية ليست بعيدة عن هذا المستوى.

وبمجرد أن انهارت أسعار الأسهم، تساقطت جميع الديون في خزائن الشركات مثل إنرون بوش (Bush’s Enron) وهاليبورتون تشيني للنفط (Cheney’s Halliburton Oil) وتيكو (Tyco) وورلد كوم (World Com) بالإضافة إلى فيفاندي (Vivendi) الفرنسية وموبيل كوم (MobilCom) الألمانية. لقد أثار الجشع المطلق للمديرين التنفيذيين فاحشي الثراء لهذه الشركات الاحتيالية والمفلسة غضب المواطن الأمريكي العادي، الذي فقد وظيفته/ها أو خسر جزءًا كبيرًا من دخل تقاعده/ها من صندوق معاشات التقاعد الذي استثمر في هذه الشركات – او كلاهما.

أحدث القصص الغريبة هي قصة جاك ويلش، المدير التنفيذي السابق لشركة جنرال إلكتريك، إحدى أكبر الشركات الأمريكية وأكثرها نجاحًا. فحزمة التقاعد التي قدمها ويلش لنفسه أثارت صدمة الجميع. فهو لن يأخذ فقط 22 مليون سهم من أسهم جنرال إلكتريك، والتي تصل قيمتها 600 مليون دولار، على الرغم من انخفاض أسعار الأسهم. ووفقًا لصحيفة وول ستريت جورنال، تواصل جنرال إلكتريك أداء تكاليف العديد من الخدمات مثل، “السيارات والإلكترونيات في العديد من المساكن؛ تكاليف شقة مملوكة للشركة في مانهاتن، ابتداء من الزهور وصولا إلى الفاكسات الطعام وتذاكر الأحداث الرياضية والثقافية والخدمات مثل رسوم النادي الريفي والأمن والتخطيط المالي”. تبلغ القيمة الشهرية للشقة المملوكة لشركة جنرال إلكتريك في سنترال بارك ويست حوالي 80 ألف دولار، وفقًا لزوجة ويلش المنفصلة عنه. ويوضع تحت تصرفه طائرة خاصة للسفر إلى أي مكان في العالم على حساب حملة الأسهم والموظفين في جنرال إلكتريك.

في هذه البيئة يستعد بوش لحربه على العراق. الاقتصاد الأمريكي في مأزق. والاقتصاد الرأسمالي العالمي كذلك. وهذا يعني أن فرص بوش في إعادة انتخابه رئيساً في غضون عامين تبدو قاتمة. فبعد كل شيء، ما يهتم به الرؤساء هو إعادة انتخابهم!

الانتصار السريع على صدام سيعيد له شعبيته مثلما حدث لتاتشر في حرب الفوكلاند. أو على الأقل هذا ما يأمله. بالإضافة إلى ذلك، فإن السيطرة على إمدادات النفط العراقية ستسمح للرأسمالية الأمريكية بالحفاظ على الأسعار منخفضة والاعتماد بشكل أقل على أسرة آل سعود الفاسدة وغير الموثوقة في العربية السعودية. وبعد ذلك، ربما، يمكن للطبقة السائدة في الولايات المتحدة وإسرائيل أن تفرض نوعاً من “التسوية السلمية” على الفلسطينيين. تلك هي الأهداف الحقيقية للحرب.

ما هي الآثار الاقتصادية؟ لقد ساعد الارتفاع الهائل في الإنفاق الحكومي على “الدفاع” في دعم الاقتصاد الأمريكي المتعثر، ولكن على حساب تقليص الأموال المخصصة للاستثمار في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد. سيكون أفضل سيناريو لبوش والرأسمالية العالمية هو تحقيق نصر سريع في العراق، وتمركز للقوات الأمريكية في العراق مع خسائر طفيفة نسبيًا ونظام جديد  مدعوم من الولايات المتحدة. في هذا “السيناريو الجيد” ستستمر أسواق الأسهم العالمية في تحقيق سعر جيد.

ولكن حتى لو حدث هذا، فلن يكون كافيا لإعادة عربة الاقتصاد العالمي للسكة. قد يحسن “الثقة” لفترة وجيزة لكنه لن يخرج الشركات من الديون ولن يخلق فرص عمل. وإذا بدأ الشعب العراقي بالاعتراض على نظام عميل مفروض في بغداد، فقد يصبح الوضع في العراق أكثر فوضوية مما هو عليه الآن في أفغانستان، فبدون وجود نظام مستقر فلا حل للفقر ولا انتعاش اقتصادي.

ويمكن أن يكون أسوأ بكثير. قد لا تسير الحرب كما هو مخطط لها. قد تتعثر القوات الأمريكية في حملة طويلة ضد قوات حرب العصابات وقد تضطر إلى البقاء لفترة طويلة جدًا (بتكلفة باهظة) من أجل “تحقيق الاستقرار” في العراق. ثم سترتفع أسعار النفط، وستنهار أسواق الأسهم وسيصل الركود الاقتصادي العالمي بسرعة.

في أحسن الأحوال، لن تكون مغامرة بوش في العراق مخرجًا للرأسمالية العالمية، وفي أسوأ الأحوال يمكن أن تكون نقطة تحول نحو كساد اقتصادي عالمي.

مايكل روبرتس
16 شتنبر/أيلول 2002

عنوان ومصدر المقال الأصلي:

Capitalist recession and Iraq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *