خطاب ألقاه آلان وودز في ندوة روزا لوكسمبورغ بجامعة هامبولدت في برلين
هناك فترات في التّاريخ تمثّل تغييرا جوهرياّ في الوضع العالمي. ونحن الآن نعيش مثل هذه الفترة. فلم تمر إلا عشر سنوات على انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ – عشر سنوات قد تبدو مائة سنةً! – في غضون هذه المساحة القصيرة جدًّا من الزمن شهد العالم تحولا جوهرياّ. وأنه من المفيد اليوم بدرجة كبيرة إعادة قراءة ما كتبه استراتيجيّو العالم قبل عشر سنوات. كانوا مبتهجين. فتكلّموا عن نهاية الشّيوعيّة ونهاية الاشتراكيّة. وقد كتب أحد هؤلاء “الأفذاذ” – فرنسيس فوكوياما – عن نهاية التاريخ!
وضعت البرجوازيّة أمامنا في ذلك الوقت مستقبلا يملؤه السلام الدائم، والرّخاء وبالطّبع الدّيمقراطيّة، في ظل نظام السّوق الحرّة (من المفروض انه لم نعد نستخدم كلمة رأسماليّة – فهي لا تُعْتَبَر عبارة لطيفة …).
في ذلك الوقت تكلّموا عن سلام مشترك، ونظام عالميّ جديد. لكنّ وقبل أن يجف الحبر شنوا حربًا مدمرة ضد العراق. حربا افتتحها جورج بوش الأب. يوجد اختلاف بين جورج بوش الأب وابنه. فقد كان الأبٍ يملك قليلا من الفهم (ليس كثيرا جدًّا …) في حين أن جورج بوش الحالي لا يملك إلا دماغا فارغة!
بعد عشرة سنوات نقف الآن على حافّة حرب أخرى في الخليج والتي سيكون لها نتائج خطيرة في العالم بأكمله. وهكذا ينكشف أن ما يسمّى بالنظام العالميّ الجديد ليس إلا فوضى عالم جديد. وتظهر العولمة كأزمة للرأسماليّة العالميّة. تلك هي الحصيلة الحقيقيّة للسنوات العشر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
أينما ننظر الآن هناك عدم استقرار كبير على جميع المستويات: الاجتماعيّ والعسكريّ والسّياسيّ والاقتصاديّ. إنّها سمة مميزة جدا للوضع العالميّ في الوقت الحاضر.
فنحن نعيش أزمة تلوى الأخرى: البوسنة، كوسوفو، فلسطين، أفغانستان، العراق، كوريا الشّماليّة. وبدلاً من سلام مشترك، هناك ميل عامّ باتّجاه العسكرة والإنفاق المتزايد على التسليح. فنفقات الإمبرياليّة الأمريكيّة وحدها تجعل برنامج إعادة التسليح الذي قام به هتلر يبدو متواضعا جدا.
وبدلاً من عالم أكثر سلاما، نعيش حربا تلو الأخرى. وبدلاً من عالم آمن، نعيش وضعية من عدم الأمان وعدم الاستقرار.
قوة الإمبرياليّة الأمريكيّة
إن الوضع العالميّ الحاليّ لم يسبق له مثيل في التّاريخ. فلم يحدث أبدًا فيما مضى إن تركزت قوة هائلة تحت سيطرة دولة واحدة. فبعد الحرب العالميّة الثّانية، وجد إلى حدّ كبير توازن بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتحاد السوفياتي. ولمدة نصف قرن كان هناك نوع من التوازن النسبيّ على الصعيد العالميّ. ولذلك أمكن تجنب حرب عالميّة بالرّغم من أنّ الحروب الصّغيرة ظلت مستمرة، مثل الحرب الكوريةّ والحرب الفيتنامية.
حتى في ذلك الوقت لم يكن بإمكان الأمريكيّين أن يتصرّفوا مثلما يتصرّفون الآن. لم يكنّ ممكنا أن يتدخّلوا عسكريًّا في البلقان أو العراق، لأنّ ذلك يعني اصطدامهم مع روسيا. ولكنّ الآن تغيّر الأمر.
فهيمنة الإمبرياليّة الأمريكيّة لم يسبق لها مثيل. فحتّى روما في ذروتها لم تتمتّع بهذه “السّيادة” العظيمة. انه خلال الثلاثمائة سنة الماضية لم يشهد العالم قط قوّة واحدة ضاربة. فدائمًا كانت هناك اثنان أو ثلاثة قوى عظمى على الأقلّ، تتنافس على سّيادة العالم – بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، أسبانيا وهكذا.
إن القوة العظيمة تجلب معها عجرفة عظيمة. إذ يعتقد بوش والزمرة الحاكمة في واشنطن أنهم بمقدورهم التدخّل في أيّ مكان في العالم بلا قيود. إنّها عودة إلى دبلوماسيّة التّهديد القديمة التي اتبعتها الإمبرياليّة البريطانيّة في الماضي.
بـ 4% فقط من سكّان العالم، تمتلك الولايات المتّحدة الأمريكيّة أكثر من ربع ثروة العالم. كما يمثل الإنفاق العسكريّ الأمريكي 37% من الإنفاق العسكريّ العالميّ وتنتج الولايات المتحدة 40% من الإنتاج العالميّ للأسلحة – بما فيها أحدث أسلحة الدمار الشامل.
ولا توجد قوة أخرى في العالم منافسة لهذه السّلطة العسكريّة. فلا تمثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا إلا 5% من الإنفاق العالمي على التسليح، وروسيا مجرد 6%. وهذا يفسر إلى حد ما سبب مرافقة بوتين الحقيرة لبوش. ما ذلك إلا انعكاس للعلاقة الحقيقيّة التي تربط بين هذه القوى.
11 سبتمبر
أمدّ الحادي عشر لسبتمبر بوش والدوائر الأكثر رجعيّة في واشنطن بالتعلة المرجوة للبدء في برنامج كبير للإنفاق على التسليح، بالرّغم أنّ في حقيقة الأمر كان قد تم إعداد هذا البرنامج مسبقا. وهكذا شهد الإنفاق الأمريكي على الأسلحة أكبر زيادة منذ 20 سنة.
فتم منح البنتاجون 250 مليار دولار لبناء 2.800 طائرة مقاتلة جديدة متعدّدة المهامّ. وستكون الميزانيّة الكاملة للبنتاجون طوال السنوات الخمس القادمة حوالي 1.6 تريليون دولار!. هذه المبالغ الخرافيّة لو استثمرت في الأغراض المنتجة، يمكن أن تغير حياة البشر ليس في الولايات المتّحدة الأمريكيّة فحسب ولكن في العالم بأسره. ولكنّ شعار الإمبرياليّة هو “السلاح قبل الخبز.”
في هذا السّياق، من المضحك قراءة الإدانات المنافقة المصرح بها من قبل بوش ضدّ العراق القائلة بحيازة الأخير لأسلحة الدمار الشامل. في الحقيقة، إن الولايات المتّحدة الأمريكيّة تمسك حاليًّا بأكبر ترسانة من هذه الأسلحة، بما في ذلك 22827 رأسا نوويا وكذلك عددا مجهولا من الأسلحة الكيميائيّة والبكتيريّة المخزنة.
في عام 1990 كان لدى الولايات المتّحدة الأمريكيّة عذرا لشنّ الحرب على العراق – غزو الكويت. الآن ليس لديها مثل هذا العذر. فهي تدعي أن العراق يمثل تهديدا لأمنها! – أمن الولايات المتّحدة الأمريكيّة! العراق الجائع المحطّم والفقير يمثل تهديدا للولايات المتّحدة الأمريكيّة! أليست هذه نكتة!
المعنًى الحقيقيّ لأفعال للولايات المتّحدة الأمريكيّة بخصوص العراق هو أنّ أمريكا اليوم تمنح لنفسها حقّ التّدخّل عسكريًّا في أيّ مكان تختاره، للتّدخّل في الشّؤون الدّاخليّة لأيّ دولة وللإطاحة بأيّ حكومة لا تروق لها. ولسان حالها يقول: “اعمل بما نقول أو ندمرك! افعل ما نريده، أو نغزوك!”
وهكذا مزّقت الولايات المتّحدة الأمريكيّة ما بقي من قميص نظام العلاقات الدّبلوماسيّة الدولية الذي أقيم منذ معاهدة ويستفاليا في القرن السّابع عشر.
يستنكر بعض السذج هذا السّلوك، الذي يعتبرونه غير قانونيّ ولا أخلاقي. في حين كان سولون أثينا قد أجاب منذ وقت طويل على مثل هذه النّقاشات عندما قال : “القانون مثل نسيج العنكبوت : يقع فيه الصغار ويضرب به عرض الحائط الكبار.”
إنّه غير مفيد الإصغاء إلى دروس المستعمرين في الأخلاقيّات والقانون. إنّه كمن لو انك تعلم الأسد أن يأكل العشب. لي أصدقاء نباتيون أكن لهم كل الاحترام. ولكنّ وللأسف إذا حاولت تعليم الأسد أن يكتفي بأكل الخسّ مثلا، فلن تفلح في ذلك بل ومن المرجح أن تنتهي في فم الأسد.
عملاق بسيقان من صلصال
برغم قوتها الكبرى، فإن الإمبرياليّة الأمريكيّة تمثال ضخم من صلصال. فيوميًّا تنشب نزاعات جديدة وتظهر مشاكل عديدة في العالم. وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية عاجزة عن التعامل معها.
وتتمظهر حدود قوّة الإمبرياليّة في أفغانستان، حيث بالرّغم من الإطاحة بطالبان وغزو البلد، فإن لا شيء قد حُلَّ بعد. ولم يحققوا إلى حد الآن هدفا واحدا من أهدافهم المعلنة. لم يقتلوا أو يقبضوا على بن لادن أو الملا عمر. لم يدمّروا القاعدة التي لا تزال تشارك باستمرار في هجمات إرهابيّة جديدة (بالي ومومباسا مثلا). إن خطر الإرهاب لم يقل ولكنّه أكبر من ذي قبل.
بالنّسبة إلى أفغانستان، فإن الوضع أسوأ مما كان عليه في الماضي. إذ توجد هناك حكومة صوريّة ضعيفة في كابول تعتمد كلّيّا على الجيش الأمريكيّ ولن يدوم حكمها أكثر من 24 ساعة بدون هذا الجيش. علاوة على ذلك فإنهم لا يتحكّمون في باقي البلد الذي يعيش حالة فوضى لا توصف. وليس بمقدورهم الانسحاب من أفغانستان بدون أن يثير ذلك انهيارا عاجلا.
وبدلاً من تثبيت الوضع في المنطقة، فإنهم خلقوا حالة جديدة من الفوضى تمتد من أفغانستان إلى باكستان، وتباعًا ذلك وبدرجة كبيرة احتدت التّوتّرات بين الهند وباكستان: قوتين نوويّتين.
قبل أقلّ من سنة، وعد بوش في خطاب وجهه إلى الشعب الأمريكي بجعل مسألة الانتشار النوويّ في سلم أولويّاته. فتكلّم عن محور الشرّ وخص بالذكر كل من العراق، وإيران وكوريا الشّماليّة، وقال إن “الولايات المتّحدة الأمريكيّة لن تسمح لأخطر الأنظمة في العالم أن تهدّدنا بأسلحة هي الأكثر تدميرًا في العالم.”
في الحقيقة، إن أخطر نظام في العالم هو أمريكا جورج دبليو بوش المصمّم على الحرب في كلّ مكان. فمفتّشو الأسلحة التّابعون للأمم المتّحدة الذين أُرْسِلُوا إلى العراق بغرض العثور على حجّة للحرب، لم يجدوا شيئا. ولكنّ هذا غير مهم. فالأمريكيّون وبيادقهم البريطانيّة كانوا قد شرعوا في إرسال أعداد كبيرة من قواتهم إلى الخليج. إذ توجد رغبة في الحرب لا يمكن كبحها.
ستكون للحرب في العراق عواقب وخيمة في أوروبّا. مع أن أوروبّا لم تُسْتَشَار في الحرب، ولكنهاّ تجر لها جرا.
أوروبّا وأمريكا
إن السيطرة الضاربة للإمبرياليّة الأمريكيّة تسبّب قلقا كبيرا للاتّحاد الأوروبّيّ. وقد اتضح ذلك شديد الوضوح بالنسبة لحكّام أوروبّا أثناء الحرب في كوسوفو، عندما استعرض الأمريكيّون أسلحتهم الأكثر تقدّمًا. وقادوا العمليّات بالكامل، تاركين الأوربّيّين مجرد مشاهدين في عقر ديارهم.
طّبعا لم يكن جميع الأوربّيّين غير راضين عن ذلك. إذ كانت الإمبرياليّة الأمريكيّة الأسد العظيم وكانت الإمبرياليّة الفرنسيّة ذلك الذئب الجائع، في حين لعبت الإمبرياليّة البريطانيّة دور الكلب الصّغير الحقير. وكما يعرف الجميع، فإن الكلاب الصغيرة تعوي كثيرا، ولكنّ لا أحد يخافها.
فمنذ وقت طويل فقدت بريطانيا سيادتها العسكريّة والصّناعيّة وتقلص دورها إلى وضعية قمر صناعيّ يدور في فلك الإمبرياليّة الأمريكيّة. لذا يشوب وضعها الغموض بساق في أوروبّا وأخرى في المحيط الأطلسيّ.
وقد صُدِمُ الأوربّيّين الآخرين، وخاصّة فرنسا التي كان لديها دائما طموحات في لعب دور عالميّ وأيضًا للسيطرة في أوروبّا. إذ يريدون جعل أوروبّا قوة توازي قوة الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
وبالفعل فقد قطع مسار الاندماج الأوروبّيّ أشواطا كبيرة – ابعد مما توقّعنا. وبدون شكّ فإن إدراج عملة موحدة – اليورو – يمثل خطوة مهمّة باتّجاه التّكامل الاقتصاديّ، بالرّغم من أنّ بريطانيا وبعض الدول الأخرى لا تزال خارج الاندماج. كما توجد محادثات حول دستور أوروبي، وأخيرا وليس آخرا تجري ترتيبات لتشكيل قوّة دفاع أوربّيّة.
في الواقع، تكشف جميع هذه الإجراءات أن الأمم – الدّول القديمة في أوروبّا قد أصبحت بدون تأثير. وأضحت ضيّقة جدًّا لاحتواء قوى الإنتاج. فالدّول القديمة صغيرة جدًّا للتّنافس ندا للند مع الإمبرياليّة الأمريكيّة. لذلك يجب أن يتشاركوا بطريقة ما من اجل البقاء.
لكنّ بالرّغم من التّحرّكات باتّجاه الاتّحاد، فإن التّناقضات القديمة مازالت تعبر عن نفسها، والعداءات القوميّة القديمة لم تدحر بعد. إنّه من الأساسي أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار.
نظريًّا، جميع الدّول الأوروبّيّة أصدقاء وشركاء. ولكنّ في واقع الأمر الحال ليس كما يبدو لنا. إذ توجد تناقضات حادّة جدًّا بين فرنسا، وألمانيا وبريطانيا، وكلّ الدّول الأخرى. وما يوحدهم إلى حد الآن هو خوفهم المشترك من الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
نظريًّا كذلك، تبدو أوروبّا وأمريكا حليفتان – عائلة كبيرة سعيدة من الدّول الدّيمقراطيّة المتحدة، لها اهتمام مشترك وهو الدّفاع عن “الحضارة الغربيّة”. أما عمليًّا، فإن العداء بين أوروبّا وأمريكا في نمو مستمر. فالصّراع على الأسواق التي هي في حالة تقلص على صعيد عالميّ أدّى إلى زيادة حادّة في نزعات الحماية، ويظهر ذلك في إجراءات إدارة بوش حول تجارة الصّلب، والأنسجة وفي الزّراعة.
لقد تعطّلت محادثات سياتل، ليس بسبب المظاهرات، لكنّ بسبب التضارب الشّديد للمصالح بين أوروبّا وأمريكا. ومنذ ذلك الوقت، فإن هذه النّزاعات لم تضعف ولكنهاّ في ازدياد مستمر. إن التحرك باتجاه اقتصاد أعظم وحتى من اجل وحدة سياسية في أوروبّا ما هو إلا تأكيد لهذه الحقيقة. إلا انه في ظل الرأسمالية فإن هذا التحرك سيكون محدودا وسيولد تناقضات جديدة.
بريطانيا، فرنسا وألمانيا
ما الدافع من وراء اقتراح تكوين قوّة عسكريّة أوربّيّة؟
تحتاج البرجوازيّة الأوروبّيّة بناء قوّة عسكريّة خاصّة بها لأنها لا تثق في الأمريكيّين للدفاع عن المصالح الأوروبّيّة. ولكنّ هناك تناقضات كثيرة بين الطّبقات الحاكمة للقوى الأوربّيّة الرّئيسيّة. وهذا يعني أن سياسة عسكريّة وخارجية مشتركة وفاعلة مستحيلة الإدراك.
وعند تحليلنا للنزعات المختلفة المعنية يجب أن نكون دائمًا حذرين وأن نميّز بين الدّعاية العامّة لما يسمّى بالمثال الأوروبي والاهتمامات والمناورات للطّبقات الرّأسماليّة المحلية المختلفة التي تحاول باستمرار تحقيق مكسب على حساب الآخرين.
إنّه ضروريّ أن نتذكّر أن الاتّحاد الأوربّيّ كان أصلاً نتيجة محاولات فرنسا لبسط هيمنتها على أوروبّا بالاشتراك مع ألمانيا. وبامتلاكها خبرة في حربين عالميّتين، اعتقدت فرنسا أنّها يمكن أن تربط ألمانيا في علاقة تكون فرنسا فيها المسيطرة.
ولكنّ الأمور لم تسر كذلك. فقد تعافت ألمانيا من الحرب وبنت بسرعة قاعدةً صناعيّةً قويّةً. في الواقع، تحولت ألمانيا إلى قوّة اقتصاديّة رّئيسيّة في أوروبّا منذ وقت طويل بينما تحتل فرنسا المرتبة الثّانية.
وقبلت البرجوازيّة الفرنسيّة بهذا الوضع على مضض، لكنّها لا تزال تطمح إلى الهيمنة السّياسيّة والعسكريّة. إلا أن هذا لا يمكن أن يستمرّ للأبد. فآجلاً أو عاجلاً، ستعبر القوّة الاقتصاديّة الألمانية عن نفسها بالأشكال العسكريّة والسّياسيّة.
وبالتّأكيد كان لتوحيد ألمانيا نقطة تحوّل كبرى بتكوين دولة قويّة ب80 مليون شخص وذات قاعدة صناعيّة هائلة في قلب أوروبّا. وصفّق الفرنسيونّ والبريطانيونّ مرحبين، ولكنهمّ في الواقع هم قلقون كثيرا.
فلدى البرجوازيّة الألمانيّة، الأقوى في أوروبّا، طموحاتها الخاصّة. وقد تمظهر ذلك في تفكك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، الّذي شجعت على حدوثه ألمانيا التي كانت قد أنشأت نفوذًا كبيرًا في شرقيّ أوروبّا.
تملك ألمانيا جيشا قوياّ ولكنّ يمنع الدّستور خوض أي قتال في الخارج. وهذا أيضا سيتغيّر حتمًا. وهكذا رأينا سلسلةً من المناورات من قبل بريطانيا وفرنسا ضد ألمانيا. ففي حرب كوسوفو، على سبيل المثال، اُبْعِدَتْ ألمانيا من كلّ القرارات المهمّة وهو ما أدى إلى احتكاكات جدية بين فرنسا وبريطانيا.
حدود التّوحد
السّؤال المسكوت عنه في خضم سيرورة التّوحد الأوربّيّ هو: من سيسيطر على أوروبّا؟ طبعًا، لا أحد يطرح مثل هذا السّؤال علنيا. فنحن الأوربّيّين من المفترض إننا جميعًا جزء من عائلة واحدة كبيرة وسعيدة. ودليل هذا هو اليورو وحقيقة أن العمل قد بدأ بالفعل من اجل الدّستور الأوربّيّ المفترض أن يعدّ الطّريق نحو دولة فدراليّة أوربّيّة مستقبليّة.
ولكنّ الدّستور، كما أدرك سولون جيّدا، ليس سوى ورقة. وهو في حد ذاته، وحتّى لو تم كتابته، لا يحلّ شيئا. فبمجرّد أنّ نتحول إلى المسائل الملموسة تبدأ كافة الثغرات في البروز. وعلى سبيل الذكر لا الحصر: الضّريبة، السياسة الخارجيّة، الدّعم، السّياسة الزّراعيّة… وعندها يتضح أن العداءات العميقة تستمرّ في الإبقاء على انقسام الدول الأوروبية.
تتمتّع أمريكا بالهيمنة الكاملة، ليس فقط عسكريًّا ولكن اقتصاديًّا أيضًا. وكان لدى هذا العملاق الاقتصاديّ خلال السّنوات العشرة الأخيرة معدّل نموّ متوسّط بـ 3% وهو ما يعني أن الفجوة بين أمريكا وأوروبّا قد اتسعت. وكان ردّ فعل الرّأسماليّين الأوربّيّين هو محاولة تقليد الولايات المتّحدة الأمريكيّة بإدخال طرق أمريكيّة في أوروبّا، بدئا ببريطانيا.
وافقت قمّة لشبونة لسنة 2002 على قرار يدافع عن اقتصاد عالمي يقوم على المعرفة والتنافس بحلول 2010. وهذا يعني عمليًّا المزيد من إجراءات الخصخصة التي تؤدي إلى التخفيض في العمالة، التقليص في الإنفاق الاجتماعيّ، العمل الجزئي، والمقاييس الأخرى المرتبطة ب”التّحرّر الاقتصادي”، أي، قانون الغاب. لذلك بدأت في كامل أوروبّا موجة من الاعتداءات على الأجور، ومستوى المعيشة، والشغل، والصّحّة والمعاشات وهو ما بدا في إثارة هجوم مضادّ من طرف العمّال في أسبانيا، اليونان، إيطاليا، البرتغال، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا.
إن معاهدة ماستريخت ما هي إلا محاولة لتنفيذ سياسةً تقشّف وتقليص دائم تحت لواء “الاندماج الاقتصاديّ”. وفي ظل ظروف الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، سيكون هناك صراع أكبر على الأسواق صراع آخر أكثر ضراوة بين الطّبقات لتقسيم فائض القيمة.
في الوقت الذي تتعمق فيه الأزمة الاقتصاديّة، ستحتدم التناقضات أكثر فأكثر: توازن هش بين الدول الكبيرة والصّغيرة، مصالح فرنسا الزّراعيّة، تورط بريطانيا مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، عجز في ميزانيّة إيطاليا، اهتمامات ألمانيا في شرقيّ أوروبّا – سيُوضَعُ كلّ ذلك تحت الاختبار.
دعنا نأخذ ألمانيا كمثال. إنّها الأقوى بين الاقتصاديات الأوربّيّة ولوقت قريب كانت تمثل القوّة الدافعة للاقتصاد الأوربّيّ. ولكنّها تتخبط الآن في أزمة عميقة. ومن وجهة نظر أصحاب رؤوس الأموال الألمان فإن الإجابة بسيطة : التقليص في النفقات والأجور والمعاشات. بعبارة أخرى، الإجابة هي وضع المسؤوليّة على أكتاف الطبقة العاملة. لكنّ العمّال الألمان لن يقبلوا بهذا بدون رد فعل. لذلك، ستدخل ألمانيا في نزاع مع الرأسماليين الأوربّيّين الآخرين. ونفس الشيء بالنسبة للآخرين.
مبدئيا، الجميع يدافع عن أوروبّا قوية. ولكن السّؤال المطروح: من سيدفع فواتير ذلك؟
قوّة الدّفاع الأوروبّيّ؟
آخر القول: فكرة أن أوروبّا يمكنها أن تنافس الولايات المتّحدة الأمريكيّة على أسس رأسماليةّ هي فكرة حمقاء. لقد أُعْطِيَتْ الإجابة مسبقا من قبل هنري كيسنجر، عندما قال : “حين أريد التّكلّم مع أوروبّا، بمن علي أن أتّصل؟”
هذه الحقيقة قد اتضحت مرة أخرى بالقرار الأحاديّ الجانب للولايات المتّحدة الأمريكيّة لمهاجمة العراق. وبخصوص هذه القضيّة، نرى مرة أخرى، انه لا توجد سياسة موحدة في الاتحاد الأوروبي. فبريطانيا، وكالعادة، تدعّم الولايات المتّحدة الأمريكيّة في حين تبدي فرنسا معارضتها، ولكن تغيّر رأيها عندما تواجه بالأمر الواقع. لا تزال ألمانيا على معارضتها ولكننا سنرى ماذا يحدث عندما تجد نفسها معزولة بموقفها. إذ يمكن أن نتخيّل خطاب شرودر على الشاشة الصغيرة: “لا يوجد من كان أكثر معارضة لهذه الحرب منّي، ولكنّ الآن نرى الدّليل أن…”
في الواقع، أَجبَرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة أوروبّا أن تقبل بأوامرها، كما فعلت في الحرب في كوسوفو، وبدون أدنى احترام لحلفائها الأوربّيّين. وبالفعل، ليس من الصعوبة بمكان أن تحصل على موافقة بلير على كل شيء، بما أن الدمية المتحركة لا تملك حس التّجادل. أما فرنسا التي تتمنّى إتباع مصالحها الخاصّة في الشّرق الأوسط، هي الشريك الأكثر ترددا وقد وافقت على المشاركة فقط لأنّ رفضها يعني – كما أوضح بوش – استبعادها من المشاركة في قسمة الغنيمة بعد ذلك.
بالنّسبة إلى ألمانيا، فإن الشعب الألماني قد عانى ويلات حروب كثيرة ولا يتمنّى أن يُجَرّ إليها من جديد.و لكنّ من ناحية أخرى، إذا أراد الرأسماليون الألمان أن يلعبوا دورا في “النظام العالمي الجديد” فإنهم سيُجْبَرُونَ على ذلك أي التقيد بالتزاماتهم الدّوليّة بالشكل الذي سيضعه الأمريكيّون.
وإنّه في صالح واشنطن أن يرسل الأوروبّيّون مزيدا من قوّات حفظ السّلام إلى مقدونيا والبوسنة بحيث يتمكن الجنود الأمريكيّون “المقيدين” هناك من الالتحاق برفاقهم للمساعدة في العراق. هذا بالرّغم من أن في يوغسلافيا نفسها لم يُوجَد أيّ حلّ حاسم والهدنة بين الطّوائف المتعاركة في مقدونيا هشّة جدًّا وقد تتفجر الأحداث من جديد في أيّ وقت.
وبما أن الرّأسماليّون الأوربّيّون سيُجْبَرون على المشاركة في المغامرات العسكريّة في الخارج، فإنه من الأفضل أن يكون ذلك تحت راياتهم الخاصة بدلاً من الاستمرار في سياسة الابتزاز والترهيب التي تمارسها واشنطن؟ هذا هو الأساس من وراء فكرة قوّة دفاع أوربّيّة.
لمن تكون السيطرة؟
لا يقع أبدًا التُصريح بالأسئلة الحاسمة التي تتعلّق بقوّة دفاع أوربّيّة. أوّلاً، ما هو الغرض الذي ستستخدم من اجله؟ وثانيا : من سيتحكّم في هذه القوة؟ انه من الضروري طرح هذه الأسئلة.
وفيما يبدو فقد ذهب البعض إلى القول من وجهة نظر يسارية أن قوّة دفاع أوربّيّة ستكون تقدّميّة بما أننا نحن الأوربّيّون أكثر تحضّرا من المستعمرين الأمريكيّين وسنستخدم القوّة العسكريّة لإرساء السّلام والدّيمقراطيّة، وأشياء أخرى من هذا القبيل.
لقد كان كلاوسفيتز مفكّرا سديدا أُعْجِبَ به لينين كثيرًا. وهو الذي أشار أن الحرب ما إلا هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إن البرجوازيّة تشنّ الحرب على أيّ بلد فقط من اجل مصالحها الأنانيّة، سواء كان بالنسبة لأمريكا أو ألمانيا أو أيّ بلد آخر.
إنّه غريب أن نقول أننا الأوربّيّون أكثر تحضّرا من الأمريكيّين. فهذا يجعل سلوك الامبرياليات البريطانيةّ، والفرنسية والألمانية والهولندية والبلجيكيّة في الماضي خارج النّقاش. فالتّاريخ يقدم لنا كثيرا من الأدلة على سلوكنا المتحضّر المفترض! الاختلاف الوحيد اليوم هو أنّ المستعمر الأوربّيّ ضعيف جدًّا للتكشير عن أنيابه كما كان يفعل في الماضي.
في الواقع، كان احد أهداف إنشاء الاتّحاد الأوروبّيّ هو الاستغلال المشترك للمستعمرات السّابقة في إفريقيا والشّرق الأوسط والكاريبي. وقوّة الدّفاع الأوروبّيّ ستُسْتَخْدَم بالتّأكيد بغرض تدعيم هذه الهيمنة، وليس على الإطلاق من اجل حفظ السّلام. وسيكون ذلك مجرد تقليد للسّياسة المتبعة من طرف الولايات المتّحدة الأمريكيّة ولكنّ بغرض الدّفاع عن المصالح الأوروبّيّة بدلاً من الأمريكيّة.
هذه القوّة نفسها ما تزال مشروعا في مرحلة جنينية. وإنّه من المفترض أن تتكوّن من 60.000 جنديّ تساهم فيه كل من بريطانيا وألمانيا بـ 15%، وفرنسا بأكثر من ذلك بقليل. ومن المفترض أن يقتصر دور هذه القوات في حفظ السّلام، حل الأزمات والعمليّات الإنسانيّة. في زمننا هذا من المفترض أن الجيوش تشارك في مثل هذه الأنشطة، إلا انه ومثلما تعبر عنه رواية جورج أورويل “1984”، فإنه يطلق على وزارة الحرب وزارة السلام. وكما رأينا في كوسوفو، كانت مهمّة حفظ السّلام الإنسانية وسيلة فعالة جدًّا للقصف والاحتلال.
هنا نصل إلى تناقض آخر. فمفهوم المصالح الأوربّيّة هو نفسه فكرة مجرّدة. إذ أن مصالح الرأسماليين الألمان والفرنسيين والبريطانيّين لا تلتقي بالضرورة ونرى ذلك جليا في أن فرنسا، وبالرّغم من تاريخها الاستعماريّ الطّويل في غرب أفريقيا، لم تقدّم أدنى مساعدة لبريطانيا أو لمهمّة حفظ السّلام التّابعة للأمم المتّحدة في فريتاون- سيراليون.
وبما انه ليس هناك مشروع لجيش ثابت، ولكنّ يتم ذلك بناء على طلبات هذا البلد أو ذاك من القوّات التي يحتاجها، فإن ذلك يدع المجال مفتوحا أمام الكثير من الخلافات المستقبليّة. وقد عبروا عن ذلك ضمنًيا بأنه لن يقع إجبار بلد للمشاركة بجنوده في مهمة لا يساند أهدافها! وهذا لا يفتح الطريق جيّدًا لمستقبل القوّة كعمليّة قتال ناجعة.
تغيّر في ميزان القوى
أشار تروتسكي منذ وقت طويل أن مركز التّاريخ العالميّ قد انتقل من البحر المتوسّط إلى المحيط الأطلسي، ومن الأطلسي سينتقل إلى المحيط الهادئ. ولقد ثبتت صحة هذا التّنبّؤ. إذ بالتّأكيد سوف يكون حوض المحيط الهادئ أهمّ منطقة على الكرة الأرضيّة خلال العقود القليلة القادمة، بإحالة أوروبا على احتلال موقع ثان أو ثالث.
آخذة هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فإن شريحة متنامية في الطبقة الحاكمة الأمريكيّة تريد التقليل من وجودها العسكريّ في أوروبّا والتّركيز على آسيا والشرق الأوسط. ويشتكي ممثلو هذه الفئة من أن الأوربّيّين “لا يضعون كامل ثقلهم” (وهم يعنون بذلك أن على الأوربّيّين أن يدفعوا أموالا أكثر للناتو – الحلف الأطلسي.) ومن ناحية أخرى، وكلّما يطرح الأوربّيّون مسألة لعب دور مستقلّ، يرفع الأمريكيون أصواتهم عاليا ضد “الجحود الأوربّيّ”.
في الحقيقة، مع أن أنّ أوروبّا لم تعد تشغل المكان المركزيّ في حسابات أمريكا العولميّة، ما تزال لديها أهمّيّة إستراتيجية عظيمة وستستمرّ هذه الأهمية لمدّة من الزمن. يريد الأمريكيّون السّيطرة على أوروبّا ولكن هذه الأخيرة تقاوم ذلك. إلا بريطانيا تبقى حليفا يعتمد عليه إلا أن هذه العلاقة مرشحة للفتور في الفترة القادمة إذا ما اشتدت المعارضة للحرب في العراق ولموالاة بلير وشركائه الذليلة لأمريكا.
بالرّغم من أنهم يصفّقون علانيةً لبوش ولحربه على الإرهاب فإن الرّأسماليّين الأوربّيّين يدركون أن القوة الضّخمة للإمبرياليّة الأمريكيّة هي تهديد محتمل لهم. لذلك يبدون استيائهم من سياسة العصى الغليظة التي بها تقرّر واشنطن شنّ حرب ثمّ تجرّهم إليها في الاتّجاه الذي ترسمه. فبرنامج الأسلحة الأمريكيّ المذهل معد لتحقيق تفوّق أكبر على بقية العالم. ضدّ من تتسلّح أمريكا وما الغرض من ذلك؟ هذه هي الأسئلة المطروحة في باريس ولندن.
إن التّحرّك نحو إنشاء قوّة دفاع أوربّيّة هو تعبير عن التّوتّرات والمنافسة المتنامية بين أوروبّا وأمريكا التي بلغت الذروة بعد حرب كوسوفو. وهذا يحيلنا منطقيًّا إلى التناقض الموالي. فإذا وضعت قوّة الدفاع الأوربّيّة أقدامها على الأرض، أيّ دور سيُتْرَك للحلف الأطلسي المهيمنة عليه أمريكا؟
الأمريكيّون الذين يخشون فقدان هذه السّيطرة، يصرّون على أن القوّة الجديدة يجب أن تُسْتَخْدَم فقط في الحالات التي لا يريد الحلف (أي، الولايات المتّحدة الأمريكيّة) الاشتراك فيها. هم أيضًا قلقون من المضاعفات الحتمية للاستعلام والتخطيط. لكنّ الأوربّيّون مصمّمون على إتباع مصالحهم الخاصّة. وبالفعل، يبدو أن اللّورد روبرتسون قد حذّر توني بلير من أن القوّة الجديدة يمكن أن تشعل فتيل أزمةً عبر الأطلسيّ.
أما الفرنسيينّ الذين يتبعون مصالحهم القديمة، يريدون تقليص نفوذ أمريكا في أوروبّا. وقد قاومت بريطانيا، وإلى حدّ ما ألمانيا، هذا في الماضي، أما الآن فقد يتغيّر كل ذلك. فإذا ما ظهرت القوّة الجديدة فعليا فإن ذلك سيؤدّي حتمًا إلى أزمة، وربما انشقاق في الحلف الأطلسي في مرحلة معيّنة. ما هذا إلا تعبير عن التّوتّرات المتنامية بين أوروبّا وأمريكا.
من اجل سياسة أممية!
هل علينا أن نرحّب بهذه التطورات؟ نعتقد انه لا يوجد ما هو تقدّميّ لا من طرف الناتو ولا من طرف قوّة الدفاع الأوربّيّة المقترحة. من وجهة نظر الطبقة العاملة الأوربّيّة، ما تعنيه محاولة البرجوازيّة الأوربّيّة في جعل قواها العسكرية تضاهي تلك التي لدى الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلا شيئًا واحدًا: المزيد من الاعتداء على مستوى العيش. ستكون هذه السّياسة مكلفة بصورة مدمّرة وفي إطار الأزمة الاقتصاديّة العالميّة يعني ذلك هجومات جديدة على الإنفاق الاجتماعيّ.
المسألة الأولى هي أنّ قوّة دفاع أوروبّيّة، إذا ما أريد لها أن تكون مجدية، يجب أن تسَلَّح وتُجَهَّز بشكل مناسب وعلى الأقلّ بنفس المستوى الأمريكيّ. ولكن من سيدفع من اجل ذلك؟ ففي حين يقال للطبقة العاملة انه لا توجد أموال من اجل المدارس والمستشفيات والمعاشات يقال لنا كذلك أنه هناك حاجة لمزيد من القنابل والدّبّابات والأقمار الصّناعيّة والطّائرات الحربيّة. ومن الواضح أن المجال الثاني يقصي الأول.
على الطبقة العاملة معارضة إهدار الأموال في التسليح، وبالمقابل تطرح برنامج الأشغال العامّة المفيدة وذلك يعني: لا نريد مزيدا من البنادق والدبابات نريد مستشفيات ومساكن ومدارس ودور حضانة… الخ.
يجب أن تكون سياستنا سياسة كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ، الزعماء والشهداء العظام للطبقة العاملة الألمانيّة والعالمية، أي سياسة طبقية، سياسة معادية للعسكرة وللإمبرياليّة. ولكنّ لا يمكن لهذه السياسة أن تنجح إلا إذا ما ارتبطت وبإحكام بالسّياسة المعادية للرّأسماليّة ذات الأفق الاشتراكيّ القوميًّ والأممي.
إما أن تكون الاشتراكيّة أممية أو لا تكون. إنها ليست حلما طوباويا ولكنّها تنبثق حتمًا من التطور الرأسماليّ نفسه، لقد تم تبيان ذلك مسبقا في صفحات البيان الشّيوعيّ، إن تشكل الاتّحاد الأوروبّيّ، كما ذكرنا آنفا، هو اعتراف ضمنيّ من البرجوازيّة أن الدول القوميّة القديمة قد فقدت جدواها وأصبحت تمثل عوائق رجعيّة أمام التطوّر الحر لقوى الإنتاج.
مثل لكسمبورغ وليبكنخت نقف بثبات من اجل سياسة الأممية البروليتاريّة. نحن ندعم وحدة أوروبّا، لكننا نعتقد أنه على أسس رأسماليّة، مثلما بين لينين، فإن أوروبّا الموحّدة ما هي إلا يوتوبيا رجعيّة. نحن نعارض أوروبّا البنوك الكبيرة والاحتكارات التي تعني مستقبلاً: البطالة، تقليص النفقات الاجتماعية، وبؤس الملايين.
البديل لأوروبّا البنوك والاحتكارات هو الدول المتّحدة الاشتراكيّة الأوروبية، على أساس التخطّيط المشترك للإنتاج وتأميم البنوك والاحتكارات ووضعها تحت إدارة ورقابة الديمقراطية العمالية، وهو ما يمكن فعلاً من توحيد قوى الإنتاج في كامل أوروبا، ومن ثمة حشد قوّة إنتاج هائلة.
يبلغ سكّان الاتّحاد الأوروبّيّ حاليًّا 370 مليون نسمة، مقارنة بـ 270 مليون نسمة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة ولكنّ يمثل الإنتاج المحلي الخام المشترك لأوروبّا 7,9 آلاف بليون دولار، في حين يبلغ الإنتاج المحلي الأمريكي 10,1 آلاف بليون وبالتوسيع المقترح للاتحاد الأوروبي سيفوق تعداد السكّان 460 مليونا ويصل إلى حدود روسيا. إن الطاقة الإنتاجية المشتركة لأوروبّا ستفوق نظيرتها الأمريكيّة.
إن الإمكانيّة الإنتاجية الهائلة لأوروبّا معرقلة بسبب محدودية النظام الرّأسماليّ. في ألمانيا فقط هناك أربعة ملايين عاطل عن العمل وهو ما يمثل عبئا ثقيلا على الاقتصاد. سيقضي الاقتصاد الاشتراكيّ الموجّه على هذا التبديد المريع ويضع الأساس لنموّ سريع لقوى الإنتاج وزيادة فريدة في مستويات المعيشة. وبدلاً من مناقشة التقليص في المعاشات والأجور، سنكون في وضع يسمح بإدراج برنامج إصلاحات اجتماعيّة تضع كلّ مكاسب الماضي على ارض الواقع.
على أساس اقتصاد موجّه مسير بشكل ديمقراطيّ، تصبح البطالة كابوسا من الماضي. كما يتم التخفيض في ساعات العمل إلى 30 ساعة في الأسبوع بدون التخفيض في الأجور. هذا ما يرسي الأساس لازدهار كبير في الفنّ والعلم والثّقافة، مستعينا بكلّ الميراث الثّقافيّ الغنيّ لشعوب أوروبّا. ولن يكون للدّيمقراطيّة مفهومها المحدود الحالي بل ستكون معبرا عن التسيير الدّيمقراطيّ للمجتمع من قبل جميع متساكنيه.
هل يبدو هذا صعب المنال؟ لن يكون الأمر صعبًا إذا ما أقنعنا الأغلبيّة أنه من الضروريّ أن تناضل من أجل مصالحها الخاصّة. وفي جميع الأحوال ليس الأمر بأصعب من القبول بالوضع الحاليّ المتسم بالبطالة والتقليص في النفقات الاجتماعية والحروب والمجاعات والأهوال الأخرى التي تنتجها الرّأسماليّة لشعوب العالم؟
ومن اجل بلوغ ذلك النصر العظيم علينا ن نجدد العهد مع أنفسنا بمواصلة النضال الذي بدأه ماركس وإنجلز ولوكسمبورغ وليبكنخت إلى النّهاية
إن انتصار الاشتراكية في أوروبّا سيغير العالم بأكمله، ويضع الأساس لفدرالية اشتراكية عالمية. ذلك هو الأفق الوحيد الذي يستحقّ الكفاح من اجله في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين: أفق أوروبّا اشتراكيّة ونظام اشتراكيّ عالميّ جديد.
عنوان النص بالإنجليزية: