إذا كان لأنصار أطاك بالتأكيد دوافع ومواقف سياسية مختلفة، فإن هناك العديد من هؤلاء الذين توجهوا إلى هذه الجمعية لهدف مواجهة الرأسمالية. هذا في الوقت الذي يسير فيه البرنامج الذي يدافع عنه مؤسسو أطاك في تصور آخر مختلف كليا.
تتمثل واحدة من أهم مطالب أطاك في تطبيق “ضريبة توبان” ويتعلق الأمر هنا بضريبة جد ضعيفة (أقل من 1%) سيتم انتزاعها من بعض المضاربات المالية الدولية. إن السيد جيمس توبان الاقتصادي الأمريكي الذي يعتبر صاحب هذا الاقتراح الذي يعود إلى سنوات السبعينات، لا يمت بأي صلة إلى اليسار… بل على العكس من ذلك، إذ أنه (مع إظهاره لعداء شرس اتجاه الحركة النقابية، والأفكار الاشتراكية، وعموما اتجاه كل ما يمكنه أن يضر بأي شكل من الأشكال، بحسن سير الرأسمالية) قد سخر حياته للدفاع المستميت عن مصالح القوة الإمبريالية الأولى في العالم. وفي أوج الحرب الباردة، كان هو واحدا من مستشاري الرئيس كينيدي. ولقد اشتهر خاصة بكونه المبدع المتحمس لسياسة فرض “الحصار الاقتصادي” على البلدان – خاصة الفقيرة منها والمتخلفة – التي ترفض الخضوع لمطالب الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين تم وضع وسيلة الضغط هاته حيز التنفيذ في العديد من المرات، كما هو الحال الآن في العراق. مما يخلف خسائر بشرية كارثية جدا: إذ يقدر عدد العراقيين الذين ماتوا بسبب الحصار، بأزيد من مليون عراقي، أغلبهم أطفال صغار السن. فيا لسخرية القدر، هاهو هذا الرجعي القديم يجد نفسه اليوم وقد رفع، أساسا بسبب قصر نظر سياسة القادة الرئيسيين لأطاك، رغما عنه إلى درجة بطل للنضال العالمي ضد الظلم.
لكن، لنضع جانبا المواقف السياسية لهذه الشخصية، ولنعمل عن كثب على دراسة مضمون “ضريبة توبان” الشهيرة هاته. انطلاقا من قراءة تصريحاته آنذاك، يتبين بجلاء، أن توبان كان قلقا من الضعف الكبير لمستوى الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة هذا بالرغم من المستوى الضعيف لأجور العمال الأمريكيين. ولقد اعتبر توبان بان السهولة الكبيرة التي تتمكن بها الرساميل من القيام بما اسماه “التنقلات” (Excursions) على الأسواق المالية، بهدف الاستفادة من تقلبات معدلات النقد، هي ما يحول مسار الرساميل على حساب الاستثمارات الثابتة. هذا إضافة إلى أن الاحتياطي الفدرالي لا يمتلك إلا هامشا ضئيلا من الوقت لكي يعمل على ضبط سياسته النقدية تبعا لأسعار النقد، إذ أن مثل هذه التنقلات تصبح مربحة بفعل تغيرات ولو ضئيلة لمعدلات التبادل. وعليه عمل توبان على اقتراح (بدون نجاح) فرض ضريبة سوف تخلق ما يمكن أن يسمى بدرجة أو “ركيزة” تجعل من المتعذر أن تصبح تلك التنقلات المضارباتية مربحة إلا بعد حدوث تغيرات أكثر أهمية على الأسعار. وحسب رأي توبان سوف يؤدي انتظار – الذي يمكن ألا يدوم إلا بضع ساعات – حدوث تغيرات في الأسعار كافية للتمكن من تحقيق فوائد بالرغم من الضريبة، تمكين السلطات البنكية من الوقت الكافي لاتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل الدفاع عن قيمة الدولار في السوق المالية. ولطمأنة أصحاب الأموال الأمريكيين، عمل توبان على التقليل من الأضرار التي سوف يسببها لهم تطبيق اقتراحه إذ وصفه “بحبة رمل” في ميكانيزمات الأسواق المالية الدولية.
كخلاصة نجد أن المسألة تتعلق باقتراح يهدف إلى تحقيق حماية أفضل لمردودية الرأسمال عموما عبر اتخاذ إجراء ردعي في الحدود الدنيا، ضد نوع واحد من الربح. لا نجد فيه، بالتالي أية ذرة من المضمون التقدمي، من وجهة نظر النضال ضد الرأسمالية. أما ادعاء العكس، على طريقة لوموند ديبلوماتيك وأطاك، فليس إلا ضحكا على الذقون.
طبعا، لن يتم تطبيق هذه الضريبة أبدا. فقبل كل شيء، هناك العديد من النواب الأعضاء في أطاك (والذين ينتمي بعضهم إلى اليمين) الذين صوتوا هم أيضا ضدها. فباعتبار هؤلاء الأعضاء في أطاك أنصارا متحمسين لاقتصاد السوق، فإن لديهم شؤون أهم للقيام بها: مواصلة مسلسلات الخوصصة، تفكيك الخدمات العمومية، إدخال الهشاشة (Précarisation) على الشغل، استهداف معاشات التقاعد، التقليص من تحملات الباطرونا، الرفع من الإنفاق على التسلح وغيرها من الإجراءات اللااجتماعية (antisociales) الموجهة لحماية مردودية الرأسمال. وعلى كل حال، فحتى إذا ما تم تطبيق ضريبة توبان، هل سيخلق هذا مشكلا لكبار المضاربين؟ كلا، على الإطلاق! إذ يمتلك كبار أصحاب الأموال ألف وسيلة للالتفاف حول الضرائب، وخاصة ضريبة من هذا النوع. وحتى إذا ما تم استيفاء ضريبة توبان فعليا، فسوف لن تعمل إلا على خدمة كبار مالكي الرساميل على صغارهم، إذ أن الأوائل مؤهلين أكبر لتحمل الزيادة في التكاليف من هؤلاء الأخيرين، هذا في حين سوف تسير الأمور على شكل آخر. فإذا ما عملت حكومة ما، أو حتى قارة بأسرها، على اتخاذ إجراءات من شأنها عرقلة مردودية المضاربين، فإن مقاطعة (Boycott) تقوم بها التوظيفات المالية تدوم 24 ساعة أو 48 ستكون كافية لإلغائها (الإجراءات).
ضريبة توبان هي إذن إجراء موجه لحماية مصالح الرأسمالية، وليست بأي شكل من الأشكال موجهة للأضرار بها. بينما نتائجها على الأجراء يوف تكون منعدمة كليا. هذا في حين يستميت قادة أطاك، في إعطاء هذه الضريبة مظهرا جذريا ومعاديا للرأسمالية بإصرارهم على ترديد فكرة أن الأمر يتعلق (رغم كل شيء) بتضييق على “المضاربة المالية” وبأنها يوف تعمل على تحويل الثروات المالية نحو “الاستثمار المنتج”. في الواقع، لا تنتقل ثروات الرأسماليين من الأسواق المالية إلى الاستثمارات المسماة منتجة، إلا عندما تصبح الأولى أقل مردودية من الثانية. وفي الحقيقة، وبالرغم مما تدعيه أطاك، فإن شكلي التوظيف هذين هما مرتبطان بشكل وثيق. فالأرباح المالية التي يتم تحقيقها في الأسواق النقدية يتم استثمارها خالا في الإنتاج، بنفس الطريقة التي يمكن بها للأرباح المحققة في الإنتاج أن تستعمل في المضاربة المالية. حسب مردودية كل عملية. كما أنه لدينا خبر سيئ جديد للسيدين: رامونيت (Ramonet) وكاسن (Cassens) (اللذان يقيمان فرقا مطلقا بين التوظيفات “المضارباتية” و”الغير مضارباتية”) وهو أن جميع الاستثمارات، بدون أي استثناء أي منها. التي يقوم بها الرأسماليون هي مضاربات. إذ أن أي فرنك مستثمر من طرف مالكه في مقاولة، هو على وجه التدقيق، مضاربة على مردودية استغلال أجراء تلك المقاولة. وعندما يصبح الرهان غير مجد، أو يصبح غير كاف، فنه يوقف نشاطه. وليست Cellatex وMarks & Spencer وDanone وغيرها من الأمثلة الأخرى إلا دليلا على ما نقول.
لقد تصور جيمس توبان أن مداخيل ضريبة يمكنها أن تسخر في عدد من “الأعمال الخيرية”. إذ يمكنها أن تشكل جزء من المساعدات المالية الموجهة نحو البلدان المتخلفة. يمكن لهذه الفكرة أن تبدو كريمة، لكنها، في الواقع، لا تتناقض إطلاقا مع الاستراتيجية التي يدافع عنها توبان نفسه الرامية إلى تركيع شعوب بأسرها بواسطة الحصار الاقتصادي والتجويع. إذ لم يعمل أي بلد إمبريالي أبدا على تقديم أي “مساعدة” مهما كان نوعها دون مقابل على شكل اتفاقيات تجارية وإقامة القواعد العسكرية، وغيرها من الامتيازات. ولقد اقترح توبان (الذي، على عكس إيديولوجيي أطاك، لا يعبئ بالأعذار الكاذبة) فورا بان يتم تدبير مداخيل ضريبة مباشرة من طرف صندوق النقد الدولي (FMI). إلا أن أطاك لم ترد السير ورائه على هذا الطريق، واقترحت بان يتم تدبير المداخيل المفترضة لهذه الضريبة من طرف هيأة أكثر جاذبية وهي مشروع الأمم المتحدة للتنمية (PNUD). لكن هذا PNUD ليس إلا مؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة، التي هي بدورها خاضعة لسيطرة القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة. ومن تم فإن مداخيل الضريبة سوف لن تكون أبدا إلا سلاحا إضافيا في ترسانة البلدان الإمبريالية للحصول على ما يريدونه من البلدان المتخلفة، فيما يتعلق بالأسواق والتبعية الاستراتيجية. فلنأخذ حالة الشعب العراقي كمثال هل من الممكن أن يستعمل PNUD أموال ضريبة توبان من أجل الحد من المعاناة الرهيبة التي فرضت عمدا على هذا الشعب من طرف الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي؟ طبعا لا، ومن وجهة النظر هاته أيضا، نجد أنفسنا عاجزين عن فهم كيف يمكن أن نعطي لهذا المطلب مضمونا تقدميا.
لا يقتصر البرنامج الاقتصادي الذي تدافع عنه أطاك/ لوموند ديبلوماتيك على ضريبة توبان وحدها. إذ تعمل قيادة الجمعية والجريدة على رفع سلسلة من المطالب (العديد من الحصص (Quotas) والتضييقات، والضرائب والعقوبات المختلفة على الاستيراد والتصدير، وانتقال الرساميل، والاستثمارات المباشرة في الخارج… الخ). “للنضال ضد العولمة”.
لقد سبق لنا أن وضحنا في مقال سابق (التبادل الحر والحمائية، La riposte، أبريل 2000) الطبيعة الرجعية للمقترحات المدهشة لبيرنارد كاسن، الهادفة إلى تمكين القوى العظمى “الديموقراطية” من إلحاق الضرر باقتصاديات البلدان المتهمة بكونها “لا تحترم حقوق الإنسان”. يقترح كاسن في جريدة لوموند ديبلوماتيك (فبراير 2000) تطبيق نظام متكامل من الإجراءات العقابية، على شكل ضرائب على التصدير، حسب جدول للتنقيط مخصص لكل بلد من طرف الأمم المتحدة. وفي نفس المقال، عملنا على معالجة الإجراءات الحمائية المقترحة من طرف جاك برتولت (Jacques Berthelot) في مقاله (الفلاحة، الحوار الحقيقي بين الشمال والجنوب. لوموند ديبلوماتيك مارس 2000). حيث يدعوا إلى تطبيق عراقيل حمائية لمنع المبادلات التجارية بين “التكتلات” الجهوية، بين أمريكا اللاتينية وأوربا مثلا، أو بين اليابان والولايات المتحدة. ويبدو أن برتولت غير واع تماما بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي يمكن لمثل هذه الإجراءات أن تسببها. إن اقتصاديات جميع بلدان العالم مرتبطة بشكل جد وثيق بعضها ببعض، مما يعني أن وضع هذه الاقتراحات حيز التطبيق، سيعني اندلاع حرب تجارية حمائية سوف تغرق الاقتصاد العالمي في انحسار عميق جدا.
وفي مقال حديث، (نموذج آخر للزراعة، لوموند ديبلوماتيك، أبريل 2001)، يعود برتولت إلى العزف على نفس النغمة. إذ يطالب بمنع عمليات التصدير التي تقوم بها البلدان المتخلفة للمنتجات الغذائية، نحو أوربا لتلافي انخفاض مداخيل رأسماليي الصناعة الغذائية الأوربية. ولا ينبس برتولت طبعا بأي حرف، عن الأجور وظروف عمل الأجراء في هذا القطاع الصناعي. أما بالنسبة للبلدان الفقيرة، فليس لها حسب ما هو متضمن عند برتولت، إلا أن تصبح “مكتفية ذاتيا”
عندما نفكر في كل هذا، نجد أن قادة أطاك ولوموند ديبلوماتيك رائعون جدا. فهم يقترحون علينا تطبيق ضريبة توبان، التي ستمكن، كما يقولون، من نشر الثروة والسعادة في البلدان الفقيرة ودون أن يطرف لهم جفن، يعلنون دعمهم لإجراءات سوف تغرق هذه البلدان نفسها، في بؤس أكبر، بمنعها رسميا من الدخول إلى أسواق البلدان المصنعة، فشكرا لهم!
ليست عولمة الاقتصاد ظاهرة جديدة. فقد عمل ماركس وانجلز على وصفها وشرح ميكانيزماتها، منذ أكثر من 150 سنة، في بيان الحزب الشيوعي. ولقد اعتبرا تطور وسائل الإنتاج وتوحيد الاقتصاد العالمي عبر التجارة مسلسلا تاريخيا تقدميا، لأنه يشكل المقدمات المادية للاشتراكية. فبفضل التقسيم العالمي للعمل والإنتاج على مستوى كبير، تمكنت الإنسانية من التوصل إلى هذا المستوى من تطور القوى المنتجة والتقنيات. ويفتح هذا التطور، للمرة الأولى في تاريخ الإنسانية، إمكانية تلبية جميع حاجيات سكان العالم. وإذا ما كان ثلاثة أرباع الإنسانية لا يزالون يعيشون في البؤس، وإذا ما كانت الثروات ممركزة بين أيدي الأقلية، وإذا ما كانت الأمراض القابلة للعلاج والمجاعات لا تزال تقتل ملايين البشر كل عام، فإن هذا يعود إلى كون وسائل الإنتاج لا تزال مملوكة من طرف الرأسماليين، ولا يمكنها بالتالي أن تستخدم بطريقة عقلانية وديموقراطية في مصلحة الجميع وهذا هو السبب الذي يجعل حل جميع المآسي التي تعاني منها الإنسانية، يمر عبر مصادرة ملكية الطبقة الرأسمالية وتنظيم الاقتصاد على أسس اشتراكية وديموقراطية.
إن إدانة التأثيرات الضارة “لتدفق الرساميل” شيء مهم. لكن المسألة الأهم، هي معرفة من يجب عليه تملك تلك الرساميل. إن الرأسمال هو بكل بساطة مراكمة فائض القيمة الناتج عن استغلال العمل – استغلال عملنا نحن – من طرف الرأسماليين. فعندما يستثمر الرأسمالي رأسمالـ”ه” من أجل تحقيق أرباح أكبر، لا سواء في عمليات مالية، أو في التسلح أو في شركات أو في غيرها فإنه يستعمل ويستغل الثروات التي خلقها عملنا نحن، لخدمة أهدافه الأنانية. وبالنتيجة، فإن الطريقة الوحيدة لوضع حد للمضاربة، للاستغلال، للنزعة العسكرية، للحروب، للاتجار في المخدرات وللفساد، تتمثل في وضع “الرساميل” بين أيدي من خلقوها وتحت رقابتهم، أي الأجراء.
إذا ما نحن أخذنا بالاعتبار مجمل اقتراحات أطاك، نلاحظ أن الأمر يتعلق أساسا ببرنامج حمائي، يدافع عن حرية التجارة في إطار التكتيكات الجهوية كالاتحاد الأوربي والميركوسور Mercusor (البرازيل، الأرجنتين، الأورغواي البارغواي) أو ألينا Alina (الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، المكسيك)، لكنه معاد للمبادلات بين “التكتلات”. فلنسم الأشياء بمسمياتها: إنه برنامج رجعي، يهدف إلى “حماية” أسواق وأرباح الرأسماليين “الجهويين”، من المنافسة “الأجنبية”، وينسى أن كل أجراء حمائي يستدعي إجراء حمائيا مضادا، لتكون النتيجة العامة حدوث انهيار قوي لمعدل المبادلات العالمية وبالتالي حدوث انحسار اقتصادي. الشيء الذي ليس في مصلحة أي كان، وبالخصوص هؤلاء الذين يدعي رامونيت وكاسن وبرتولت، الرغبة في مساعدتهم.
في فرنسا، اتجه عدد كبير من المناضلين نحو أطاك بسبب نفورهم من لا أهلية القيادات الاشتراكية والشيوعية. لكن بالرغم من ذلك فإن برنامج أطاك لا يقدم بديلا. إن الحركة النقابية وأحزاب اليسار تشكل القوة الضاربة للمجتمع الفرنسي. لكن الحركة العمالية تحتاج لبرنامج اشتراكي حقيقي ولقادة مخلصين صادقين في النضال ضد الرأسمالية. إن السياسة الحمائية والاقتطاعات المالية الرمزية عاجزة عن حل أي مشكل. بينما انتصار الاشتراكية سوف يغير كل شيء.
غريك أوكسلي
18 أبريل 2001
عنوان النص بالفرنسية:
Taxe Tobin et Protectionnisme : le programme en trompe-l’œil d’ATTAC