منذ حوالي قرن من الزمان، شرح لينين أنه: في ظل الرأسمالية، ليست حياة الأغلبية الساحقة من البشر سوى “رعب لا نهاية له”. البؤس، سوء التغذية، غياب الخدمات من قبيل الكهرباء، الماء الصالح للشرب والسكن (هذا دون الحديث عن الشغل والحماية الاجتماعية والتعليم)، هو ما يقاسيه ملايير الأشخاص يوميا على هذا الكوكب. إلى حدود اللحظة لم تكن كل هذه المآسي، بالنسبة لأغلبية المواطنين الأمريكيين، توجد إلا في أماكن “جد بعيدة لا نعلم عنها الكثير”، وكذا في الأحياء الفقيرة للمدن الأمريكية، التي لا تزورها الكاميرات ولا وسائل الإعلام مطلقا.
في خضم ليلة واحدة فقط، تغير كل هذا. واليوم امتلأت شاشات التلفاز بصور الدمار والقلق التي ليست آتية من بنغلاديش ولا من سريلانكا، بل من نيو أورليانز.
من الصعب، خلال الوقت الحالي، تقييم نتائج الدمار الذي سببه إعصار كاترينا. انتخابات سنة 2000 المزورة، هجمات 11 شتنبر، فضيحة إنرون (Enron)، الحرب على العراق وأفغانستان، كل هذه الأحداث صدمت وعي الطبقة العاملة الأمريكية. مما انتزعها من عقود من اللامبالاة النسبية اتجاه القضايا السياسية، الوطنية والدولية. لقد بدأ ملايين الأمريكيين يهتمون بفهم الآليات الكبرى التي تتحكم في حياة الناس، لا سواء في الولايات المتحدة ولا سواء في باقي أنحاء العالم.
سوف يكون لكارثة كاترينا (التي ليس لها، في حد ذاتها، دلالة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية)، انعكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية كبيرة. إن الإعصار بدون شك كارثة “طبيعية”، لكن غياب مخطط للوقاية والإخلاء والإنقاذ، نتاج لعوامل إنسانية خالصة، وهو ما تتحمل مسؤوليته الكاملة حكومة جورج وولكر بوش والطبقة التي يمثلها.
كلبية الطبقة السائدة
لقد تكلم جورج بوش وهو يحلق حول المنطقة المنكوبة – على مثن الطائرة الرئاسية الفخمة: Air Force One ، عن حدث “تاريخي”. إنه لا يدري كم هو محق في هذا. إذ سوف نتذكر كاترينا كمنعطف حاسم في تاريخ الطبقة العاملة الأمريكية. فالملايين من الأمريكيين بدئوا يربطون علاقة بين الحرب في العراق وبين مهزلة “الأمن الداخلي” والهجوم على ميزانية الخدمات الاجتماعية والتسهيلات المالية المقدمة للأغنياء والغياب، الشبه الكلي، لأي نوع من الاحتياطات اتجاه حدث طبيعي كانت السلطات تعرف، منذ عقود، أنه سيقع إن عاجلا أو آجلا.
مئات الأشخاص ماتوا عند مرور الإعصار، والنتيجة النهائية سوف ترتفع إلى عدة آلاف. يوم الثلاثاء، حرم 2،3 مليون شخص، في المسيسيبي وألباما وفلوريدا ولويزيانا، من الكهرباء. لقد دمر الإهمال الفاحش والاعتمادات الضخمة الموجهة للحرب في العراق، حياة الآلاف من البشر الذين فقدوا منازلهم وفقد بعضهم أحبابه وآماله. هؤلاء الذين تم إخلائهم، ليس لديهم مأوى يلجئون إليه، فحتى كنيسة هيوستن في تكساس مملوءة حد الاختناق. إن الغضب، على لا فعالية وبطء السلطات في التحرك، صار معمما.
ما هو رد فعل الطبقة السائدة؟ لقد وعد الرئيس بوش أن يقدم منحة للصليب الأحمر واقترح أن يقود كل من بوش الأب وبيل كلينتون حملة لجمع التبرعات من أجل مساعدة الضحايا. جمع التبرعات؟ إن هؤلاء السادة يمكنهم أن يجدوا، في يوم واحد، ملايير الدولارات من أجل احتلال العراق ونهبه، لكن عندما يتعلق الأمر بإنقاذ آلاف الأمريكيين الفقراء، تجدهم يدعون إلى جمع الصدقات. هذه هي الحقيقة البشعة للنظام الرأسمالي.
“حفظ الأمن”
عشرات الآلاف، إن لم نقل مئات الآلاف، من الأشخاص بدون مأوى ولا أكل ولا ماء صالح للشرب، محاصرون بالمياه الآسنة حيث تطفوا جثث البشر والحيوانات المتحللة. لقد كان لغياب الفعالية وبطء عملية الإنقاذ نتائج أكثر مأساوية من تلك التي خلفها الإعصار نفسه، وعدد القتلى يمكن أن يرتفع بسرعة، خلال الأيام المقبلة.
لم يكن البحث عن أحياء ومدهم بالماء والغذاء، من أولويات قوات “حفظ الأمن”، بل الأولوية أعطيت لحماية المحلات التجارية الكبرى من قبيل GAP وA Biloxi. وقد أعلنت السلطات في المسيسيبي حالة الطوارئ، لأجل حماية الكازينوهات ممن بقي على قيد الحياة. بالطبع هنالك بعض ممن يستغلون فرصة الفوضى لكي يحصلوا على شاشة تلفاز غالية الثمن، لن يمكنهم أبدا الحصول عليها. لكن ما “سرقه” أغلبية المشاركين في عمليات “النهب” كان أشياء من قبيل علب البطاطس المقلية وقنينات العصير، التي يحتاجونها فقط لكي يظلوا على قيد الحياة. لكن احترام الملكية الخاصة في ظل الرأسمالية، مسألة مقدسة!
إن وسائل الإعلام تحاول صرف الانتباه عن الجريمة التي تتحملها السلطات، عبر تسليطها الأضواء على ما تسميه: “عصابات اللصوص العنيفين”. وتستعمل برامجها لغة عنصرية كريهة، من أجل إخفاء العمق الطبقي للقضية. لأنه كما هو الحال دائما، الفقراء، من جميع الأعراق، هم من يؤدون ثمن جشع الأغنياء ولامبالاتهم.
لقد علقت الوكالة الفدرالية لإدارة الكوارث (FEMA)، خلال فترة معينة، عملياتها بمبرر أن “الأوضاع خطرة جدا”. إلا أنه في الحقيقة، وبالرغم من وقوع بعض أحداث العنف، كان الناس يتعاونون من أجل البقاء. إنهم لا يملكون مروحيات لمغادرة الجزر التي تكونت في المدينة والتي حوصروا فيها. الحافلات وسيارات الإسعاف لا يمكنها الوصول إليهم. هذا في الوقت الذي تدعي فيه وسائل الإعلام بأن المساعدات (البطيئة والغير كافية أصلا) لا تصل بسبب “أعمال العنف”.
لقد تم حشد فقراء مدينة نيو أورليانز- أي هؤلاء الذين لم يكن في استطاعتهم الفرار من المدينة قبل حدوث الإعصار- كالحيوانات في الملاعب، بدون توفير ما يكفيهم من الغذاء والمياه والأسرة والأطباء. لقد كدس هناك حوالي 30،000 شخص. إن عدم انهيار هذه البناية عندما مر الإعصار يعود للصدفة المحضة. والآن، تعاتب وسائل الإعلام هؤلاء الناس لأنهم لم يغادروا المدينة قبل الإعصار. لكن كيف كان لهم أن يغادروا المدينة، بينما هم لم يكونوا يملكون، ولا زالوا لا يملكون، لا وسائل النقل ولا المال الضروري؟
بالرغم من أن هؤلاء الفقراء، الذين ُتركوا لمصيرهم، في نيو أورليانز، ينتمون لجميع الأعراق، فإن الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية، هم الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المنكوبين. وحسب إحدى الإحصائيات التي أنجزت سنة 2000، يبلغ الدخل السنوي للسكان البيض في أورليانز، 31،971 دولار للفرد، مقابل 11،332 دولار للسود. مرة أخرى، إنها الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا، هي التي تعاني أكثر من جرائم الرأسمالية.
فُـقد في العراق
تشكل الحرس الوطني، في الأصل، من أجل التدخل أثناء الاضطرابات الاجتماعية، ولا تزال هذه هي مهمته الأساسية. لكن من حين لآخر وعندما تحدث كارثة ما، يتم استدعائه من أجل المساعدة في عمليات الإسعاف. أين كان هذه المرة؟ إن الآلاف من أعضائه، الذين ينتمون إلى هذه المنطقة من الولايات المتحدة، يوجدون الآن في العراق. إنهم لا يستطيعون مساعدة عائلاتهم وأصدقائهم الذين يقاتلون من أجل البقاء أحياء، هنا في الولايات المتحدة، بينما يقاتلون، هم أيضا، من أجل البقاء أحياء، في مدن وطرق العراق. لو أنهم كانوا في بيوتهم – وليسوا بعيدين آلاف الكيلومترات، يموتون ويقتلون في حرب ليس لها أي سند شعبي- لتمكنوا من مساعدة الأحياء. ربما كان بإمكانهم أن يرحلوا الجميع قبل فوات الأوان. إن جميع هؤلاء الذين ماتوا بسبب الإعصار، أو بسبب انعكاساته، يجب اعتبارهم ضحايا مباشرين للحرب في العراق.
في بداية التدخل لإنقاذ المنكوبين، لم يكن متوفرا لفرق الإنقاذ سوى 7 مروحيات فقط. بينما كانت المروحيات الأخرى موجودة في أماكن أخرى، خاصة في العراق. ومن سخريات القدر أن الولاية التي فقدت أكبر عدد من الجنود في العراق: ولاية مسيسيبي، هي واحدة من أكثر الولايات معاناة من الكارثة.
يعمل جورج بوش وأعوانه، كل ما في وسعهم لكي لا يحصل أي ربط بين الحرب في العراق وبين التأثير المدمر الذي خلفه مرور إعصار كاترينا. لكن ملايين الأمريكيين، ومن بينهم العديد من الجنود، قد قاموا بذلك الربط وسوف يُطالبون قريبا بالحساب.
“هل كان حدوث ذلك حتميا؟”
هذا هو السؤال الذي يطرحه ملايين الأشخاص، في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم بأسره. والجواب هو بالتأكيد: لا. إن التسخين الذي يتعرض له الكوكب – والذي يتحمل النظام الرأسمالي المسؤولية الرئيسية في حدوثه- يؤدي بالطبع إلى حدوث ظواهر مناخية تزداد عنفا باستمرار. هذا إضافة إلى أن الإنسان لم يتمكن لحد اللحظة من تحويل اتجاه الإعصار ولا منع تشكله. لكن بالرغم من ذلك، ليس من الحتمي وقوع كل ذلك القدر من القتلى والخسائر المادية.
لو أن برنامج الإخلاء من المدينة وضع في حسبانه ترحيل جميع السكان قبل مرور الإعصار، لكانت الخسائر البشرية أقل بما لا يقاس. لقد كان، بالتأكيد، في إمكان الحكومة – التي تستطيع أن تنقل بسرعة مئات الآلاف من الجنود وملايين الأطنان من المعدات، إلى أي جزء من هذا الكوكب، للقيام بالحرب- أن ترحل، من المدينة، جميع الذين لا يستطيعون المغادرة بالاعتماد على إمكانياتهم الخاصة، لو أنها أرادت ذلك. هذا إضافة إلى أنه كان هناك العديد مما يمكن فعله، قبل مرور الإعصار، للحيلولة دون حدوث دمار بهذا الحجم. فعلى سبيل المثال، كان من الواجب تقوية الأسوار المضادة للأمواج، المحيطة بنيو أورليانز. إن الطبيعة الجغرافية لهذه المدينة تجعلها تحت مستوى سطح البحر، لكن دعونا لا ننسى أنه لو كان الأمر مقتصرا على العوامل الطبيعية فقط، لما كان هناك وجود للبلاد المنخفضة (Pays Bas). لكن البلاد المنخفضة استثمرت الكثير في تقوية نظامها المضاد للأمواج.
لقد كانت سلطات لويزيانا تعلم مند عقود، أن إعصارا بهذا الحجم، سوف يضرب حتما ساحلها. وكما تثبت ذلك الوثائق الرسمية والعديد من الشهادات، كانت تلك السلطات تعلم أن نظام الأسوار المضادة للأمواج المتوفر غير كاف. لماذا إذن لم يتم تخصيص الاعتمادات من أجل إنجاز الأشغال المطلوبة؟ في الواقع لقد تم تخصيص تلك الاعتمادات وكان قد بدأ الشروع في العمل، قبل أن يتم تحويل اتجاه تلك المبالغ لتمويل ” الأمن الداخلي” والحرب في العراق. وتشير Times-Picayune، أن الأشغال التي كانت تجري لتقوية الأسوار في الشارع الـ 17 – التي انهارت يوم الاثنين/ الثلاثاء- كانت قد توقفت، قبل عدة شهور بسبب عدم توفر مبلغ 2 مليون دولار. في عدة مناسبات أرسلت، السلطات المحلية وهيئة مهندسي الجيش الأمريكي، طلبات بتخصيص اعتمادات لأجل تقوية الأسوار. لكن لم يتم رفض هذه الطلبات فقط، بل عملت إدارة بوش على التقليص من الميزانية السنوية لهيئة مهندسي نيو أورليانز بـ 71،2 مليون دولار، وهو ما يشكل انخفاضا بـ 44،2% منذ 2001.
ها نحن نرى اليوم النتائج الكارثية لهذه السياسة. ففي الوقت الذي صرفت فيه ملايير الدولارات على “الأمن الداخلي”، تبقى الحقيقة الصارخة هي: أن الطبقة الرأسمالية وممثلوها، في الحكومة، ليسوا قادرين على أن يضمنوا لنا ولو حدا أدنى من الأمن.
وفي المقابل، انظروا إلى كوبا. إن اقتصادها المؤمم والمخطط، يمكنها، وهي البلد الفقير، من القيام بما عجزت عنه القوة الأولى عالميا، أي يمكنها من وضع حياة البشر في مرتبة أعلى من الربح، وتنظيم إخلاء سريع لجميع من يوجدون في طريق الأعاصير المتعددة التي تضرب الجزيرة كل سنة. وانظروا إلى فينزويلا، ذلك البلد المهدد من طرف الإمبريالية الأمريكية، الذي عرض بسرعة مساعدة قدرها مليون دولار، والتي رفضتها الإدارة الأمريكية بطريقة كلبية، باعتبارها مساعدة “غير مرغوب” فيها و”غير مجدية”.
فلنقضي على الرأسمالية
لقد صدمت الصور التي تذيعها قنوات التلفزة المواطنين: أطفال وشيوخ يموتون بسبب الاجتفاف، جماهير جائعة تصرخ: “نريد المساعدة، نريد المساعدة!”، وأصوات محطمة تتذرع: “هل سوف يتركوننا نموت هنا؟”. وفي الوقت الذي يتعاون فيه الأغلبية فيما بينهم، يصارع الآخرون من أجل البقاء. وهناك حكايات عن صراعات نشبت حول المؤن. تقول إحدى النساء أنها شهدت أشخاصا يتعاركون، مثل كلاب مسعورة، من أجل السيطرة على شاحنة بهدف استعمالها لمغادرة الجحيم الذي تشكله هذه المدينة- التي كانت رائعة في الماضي-. إن هذه الصراعات اليائسة من أجل البقاء، تذكرنا بتلك الأفلام التي تحكي عن نهاية العالم من قبيل فيلم: Mad Max أو Water World. إن هذه الأفلام تعطينا صورة عما يمكن أن يصير عليه العالم إذا لم يتم القضاء على النظام الرأسمالي المتعفن.
لقد كان في مقدور بوش، بُعيد 11 شتنبر، أن يسيطر على الناس بتركيز انتباههم على “العدو الخارجي”. لكن هذه المرة، سوف تتوجه مشاعر الإدانة مباشرة نحو الحكومة ونحو النظام الذي تدافع عنه. وكما عجزت الأسوار المضادة للأمواج، المحيطة بنيو أورليانز، عن حماية المدينة، سوف تعجز الأكاذيب، التي تطلقها الطبقة السائدة، عن إنقاذها من إعصار الغضب. مرة أخرى نقول أن المسؤولية في الخسائر الناتجة عن هذه الكارثة، تقع كليا على كاهل الطبقة السائدة الأمريكية. إنها سياستها في التقليص من الاعتمادات ولامبالاتها اتجاه نتائج ذلك على المدى البعيد، هي من تسبب في قتل آلاف الأشخاص وتدمير حياة مئات الآلاف. والآن يتوجب عليها أن تدفع الثمن.
لقد سبق لهيغل أن شرح أنه في التاريخ، كثيرا ما تُعبر الضرورة عن نفسها من خلال الصدفة. والعنف المدمر لإعصار كاترينا هو، بالضبط، واحد من هذه الصدف. لقد حرر هذا الإعصار قوى سوف تبقى تفعل فعلها حتى بعد أن تتوقف رياحه عن الهبوب. إن الشروط الموضوعية هي من يحدد الوعي، وفي ظل شروط كهذه، يمكن للوعي أن يتطور بوثيرة جد سريعة. وليس ما يحدث الآن سوى البداية. إن إعصار كاترينا يمكنه أن يشكل بداية أزمة عميقة للثقة اتجاه الحكومة الأمريكية واتجاه النظام الرأسمالي عموما.
إن هذا الحدث الرهيب سيؤدي إلى استيقاظ عنيف لملايين الأمريكيين على حقيقة النظام الرأسمالي خلال القرن الواحد والعشرين. لم يكن الشعور بالاحتقار الذي تكنه الطبقة السائدة للجماهير، في أي فترة من التاريخ، واضحا كما هو عليه الآن. فقط بالتغيير الثوري لهذا النظام المبني على الربح يمكن خلق الشروط لازدهار المجتمع الإنساني.
جون بيترسون
13سبتمبر 2005
عنوان النص بالفرنسية:
L’ouragan Katrina : un tournant dans l’histoire des Etats-Unis.