يوم الاثنين الماضي، فجر انتحاري نفسه في مطعم مكتظ بتل أبيب، مخلفا مقتل تسعة أشخاص وجرح 66 آخرين، أغلبهم عمال أجانب يقطنون الأحياء الفقيرة جنوب تل أبيب.
الجهاد الإسلامي (التي يريد قادتها إظهار قادة حماس كمهادنين في الوقت الذي قصف فيه الجيش الإسرائيلي شمال غزة مخلفا مقتل 18 فلسطيني، من بينهم ثلاثة أطفال) تبنت مسؤولية هذا الهجوم الإرهابي. هذه هي المرة الثانية، خلال هذه السنة، التي يتعرض فيها هذا المطعم نفسه للهجوم. لقد سبق أن جرح 15 شخصا في محل المأكولات السريعة هذا، يوم 19 يناير، خلال هجوم بالقنابل تبنته الجهاد الإسلامي.
لكي نفهم أسباب تجدد حمام الدم هذا، يتوجب علينا أن نعود بضعة سنوات إلى الوراء. بعد هجمات 11 شتنبر 2001، جعلت إدارة بوش مما أسمته “دمقرطة” الشرق الأوسط هدفا إستراتيجيا للإمبريالية الأمريكية. لقد أمطرونا، يوميا تقريبا، “بالأخبار الجيدة” عن النجاحات العظيمة التي يحققها السيد بوش مع كل انتخابات تنظم تحت الوصاية الأمريكية.
هذا كان الحال طبعا في مصر، التي تعتبر واحدة من أوفى خدام الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتتلقى حوالي ملياري دولار سنويا كمساعدات عسكرية ومالية. هناك قام الرئيس مبارك، طيلة حملته الانتخابية الصيف الماضي، بإلقاء الوعود حول المزيد من الإصلاحات الدستورية والسماح للأحزاب السياسية الأخرى بالحق في المنافسة. ألم يكن ذلك رائعا؟ نعم، لكن المشكل الوحيد كان طبعا هو أن كل هذه الوعود لم تكن سوى كلمات فارغة. هذا النجاح العظيم، كما أخبرونا، لم يتحقق في مصر وحدها بل أيضا في العراق وفلسطين المحتلتين، وهو ما لم يكن سوى مسرحية رديئة الإخراج.
والآن وبالرغم من ذلك ها نحن نسمع التأوهات حول فشل بوش، على لسان كبريات وسائل الإعلام الإمبريالية من قبيل النيويورك تايمز، إذ تقول:
« يقول المحللون والمسئولون أن الصعود السياسي للإسلاميين والفوضى التي يعيشها العراق والسلطة الشيعية الجديدة في العراق، المسؤولة عن تصاعد النفوذ الإيراني هناك، والشعور السائد لدى بعض الحكام حول إمكانية انتظار نهاية فترة حكم إدارة بوش، كلها عوامل أدت إلى كبح مسلسل الدمقرطة.
« وعلى حد تعبير سليمان الحتلان رئيس تحرير (صحيفة فوربس أرابيا) وكاتب عمود في صحيفة سعودية والمحامي الشهير “يبدو أن كل شيء يعود إلى الأيام السيئة السابقة، كما لو أننا لم نمر بأي تغيير على الإطلاق، فكل واحد أصبح الآن مقتنعا بعدم جدية التغييرات أو ليس مؤمنا بحدوث تغيير من الحكومات، إنها فقط ردة فعل الضغط المستخدم من قبل الإعلام الدولي والأمريكي” » (New York Times, April 10, 2006).
بدون شك، سوف نسمع قريبا تلك التفسيرات العنصرية التي تقول أن العرب غير مؤهلين للديموقراطية. وإذا ما كانت الولايات المتحدة تفكر في مهاجمة إيران، فإن بوش سيتعرض لمفاجأة عظيمة في العراق المحتل عندما ستنقلب الحكومة العراقية الجديدة، المرتبطة بإيران، ضد الاحتلال. ماذا سيحدث آنذاك؟ آنذاك سوف يخبروننا طبعا، من خلال كبريات وسائل الإعلام، أن هذه الحكومة لم تعد حكومة ديموقراطية عظيمة بل هي مجرد نظام رجعي فاسد يجب إسقاطه !
حكومة إسرائيل التي وجدت نفسها مجبرة على القبول بإجراء انتخابات “ديموقراطية” في الأراضي المحتلة على أمل فوز من يسمون “بالمعتدلين” أي الجناح الموالي لبوش من داخل فتح بقيادة أبو مازن، تعرضت للإحباط عندما فازت حماس، في يناير من هذه السنة، بالانتخابات وبدأت تشكيل حكومة جديدة. تضم الحكومة الفلسطينية الجديدة 24 وزيرا، 10 منهم من قطاع غزة و14 آخرين من الضفة الغربية. ومن بين الأربعة والعشرين وزيرا هؤلاء، ثمانية فقط ينتمون إلى المجلس التشريعي بينما الآخرون تكنوقراط ومستقلون ذوو توجهات إسلامية.
إن حكومة حماس تريد، كما سبق لنا أن توقعنا قبل سنتين، أن تلتحق بالركب الأمريكي وتسير إلى جانب رعاة البقر الأمريكيين ضد الهنود السيئين –آسف أقصد الفلسطينيين السيئين- كما فعل الأصوليون في الكثير من الأحيان في أماكن أخرى من قبل، كأفغانستان مثلا. لتحقيق هذا الهدف يتوجب عليها أن تعترف بإسرائيل. خلال الأيام القليلة التي تلت تشكيل الحكومة الجديدة سمعنا عدة مرات أن الحكومة الفلسطينية، بقيادة حماس، مستعدة للاعتراف بإسرائيل إذا ما انسحبت هذه الأخيرة كليا من الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
وهكذا كتبت الجزيرة، يوم 12 ابريل: « وصفت مصادر مقربة من الوزير الأول الفلسطيني، إسماعيل هنية، قرار حماس هذا باعتباره “تغييرا سياسيا هاما”.
تتعرض حكومة حماس لضغوطات دولية هائلة للاعتراف بإسرائيل، التخلي عن سلاح المقاومة والقبول بالاتفاقات الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل».
لكن القيام بهذا أصعب من مجرد قوله. إذ ليست مهمة سهلة الإنجاز، حيث أن حكام إسرائيل لن يسمحوا بمنافسة غير عادلة مثل هذه. حكام إسرائيل يرون أنه لا يمكنهم السماح لمن يعتبرونهم “مسلمين دونيين” بأن يقدموا خدماتهم للولايات المتحدة. لا يمكنهم أن يسمحوا بأن يكون لحكومة حماس علاقات مباشرة مع الإمبريالية الأمريكية.
قال برتولد بريخت مرة في تعليق له على نظام ألمانيا الشرقية الستاليني: « إذا ما اعترض الشعب على الحكومة، فإن الوقت يكون قد حان لاستبدال الشعب » وفي حالة الحكومة الإسرائيلية حان الوقت لاستبدال إرادة الشعب الرازح تحت الاحتلال بإرادتها هي!
منذ عدة أسابيع والجيش الإسرائيلي يعمل كل ما في وسعه لاستفزاز حماس لكي تقوم بعمل إرهابي. إذ قصف غزة، جوع شعبها، اختطف قائد الجبهة الشعبية المعتقل بسجن أريحا واجتاح الضفة الغربية عدة مرات لإلقاء القبض على مناضلين.
الفكرة وراء كل هذا كانت بسيطة: إما إجبار حكومة حماس الجديدة على الدخول في مواجهة مع الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية أو دفعها إلى تنظيم عمليات إرهابية ضد مواطني إسرائيل. إنها نفس اللعبة القديمة التي لعبوها مع عرفات. وفي الأخير تمكنوا من استفزاز عمل إرهابي، لكن ليس من جانب حماس.
بالرغم من أن العملية الإرهابية كانت من تنظيم الجهاد الإسلامي وليس حماس، فإن هذا لا يشكل فرقا كبيرا من وجهة نظر أولمرت وأصدقائه. وبما أن حماس رفضت إدانة العملية، فإن الحكومة الإسرائيلية ألقت اللوم عليها. وانسجاما مع موقف الحكومة الإسرائيلية، صرح ناطق رسمي باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، جدعون مير(Gideon Meir)، أن إسرائيل تحمل حماس كل المسؤولية في مثل هذه العمليات « من وجهة نظرنا، لا يهم ما إذا كانت من تنظيم شهداء الأقصى أو الجهاد الإسلامي أو حماس، إذ جميعهم ينحدرون من نفس مدرسة الإرهاب التي تقودها حماس ».
ليس ضروريا أن تكون ماركسيا لكي تفهم كل هذا. لقد أصدرت هاآرتس، أهم الصحف البرجوازية بإسرائيل، مقالا بقلم داني روبينشتاين (Danny Rubinstein) كتب فيه:
« بالرغم من رفض ممثلي حماس الرسميين إدانة هجوم يوم الاثنين الإرهابي في تل أبيب، الذي اعتبره الناطق باسم حماس في غزة، سامي أبو زهري، “عملية دفاع شرعي عن النفس” وقال أنه يتوجب على إسرائيل أن تتحمل مسؤولية سياسة “الاحتلال العدواني” فإن توقيت الهجوم ليس ملائما للحركة.
« يقوم رئيس الوزراء الفلسطيني، إسماعيل هنية، ووزير الخارجية، محمود الزهار، بمجهودات كبيرة لانتشال السلطة الفلسطينية من مشاكلها المالية وعزلتها الدولية. لكن صورتها كحكومة إرهابية تضرب هذه الجهود.
« لقد تعرضت محاولة حكومة حماس للتخلص من الصعوبات المالية وإنهاء عزلتها لضربة هائلة وقاتلة خلال اليومين الأخيرين. على الصعيد الداخلي، جمع هنية ممثلي عدة فرق في غزة واقترح عليهم، مرة أخرى، أن يلتحقوا بحكومة وحدة وطنية.
« أما على الصعيد الخارجي، فإن حكومة حماس تحاول إيجاد مصادر تمويل بديلة. ويبدو أن الزهار تمكن من تحقيق شيء من النجاح في جولته لجمع الدعم من الدول العربية. لقد وعد قادة إيران بمنح حكومة حماس مبلغ 100 مليون دولار ولمح مسؤولون سعوديون إلى إمكانية منح الدعم. كما أن قطر، محطة الزهار التالية، يمكنها هي أيضا أن تقدم الدعم.
« من الواضح أن هجوم يوم الاثنين الإرهابي كان مضرا بهذه المهمة، إذ ليس هناك دولة عربية تريد أن تظهر كداعمة للأنشطة الإرهابية. إذا لم يتمكن الزهار من الحصول على المزيد من الدعم من الدول العربة وأجبر على أخذه من إيران، سيخاطر بموقع حكومته، التي ستصير حكومة معزولة مرتبطة بما يسميه الرئيس الأمريكي جورج والكر بوش، محور الشر » (Haaretz, 17/04/2006)
في نفس الآن، قررت أمس حكومة إسرائيل رفع الإقامة الجبرية المفروضة على ثلاثة أعضاء من البرلمان الفلسطيني، الذين ينتمون إلى حماس والقاطنين في شرق القدس المحتل.
السؤال المطروح الآن هو هل حكومة إسرائيل بصدد عزل حماس أم عزل نفسها. ففي الوقت الذي كان هذا المقال قيد الكتابة، كان هناك وفد من حماس في زيارة لحكومة النرويج وروسيا وعدت بتقديم دعم مالي بينما في الجبهة الأخرى يقف بوش والعديد من الدول الأوروبية إلى جانب أولمرت.
إن النقطة الرئيسية التي يجب أن نفهمها هي أن الحكومة الإسرائيلية الحالية سوف تواصل الحرب ليس فقط ضد الفلسطينيين، بل أيضا ضد العمال والفقراء في إسرائيل. ما يخيف الحكومة هو أن الصراع الطبقي يتصاعد في إسرائيل وسيكون عليها أن تجد وسائلا لتلافي تطوره عبر محاولة توجيهه نحو مجازر عرقية دموية.
إن الشيء الذي سوف تكتشفه الطبقة العاملة خلال الأشهر والسنوات المقبلة هو أن الحكومة الرأسمالية تخوض نفس الحرب على جبهتين. الجبهة الأولى ضد العمال والفلاحين الفقراء وفقراء المدن الفلسطينيين والجبهة الثانية ضد عمال وفقراء إسرائيل. إن المخرج الوحيد أمام عمال إسرائيل لكسب هذه الحرب يتمثل في توحيد قواهم مع قوى أخواتهم وإخوانهم العرب ضد العدو الطبقي. ليست حربا لقومية ضد قومية، بل طبقة ضد طبقة.
يوسي شوارتز، إسرائيل
الأربعاء: 19 أبريل 2006
عنوان النص بالإنجليزية :