الرئيسية / تحليلات تاريخية / ثوار وشهداء / ليون تروتسكي: حياة وكفاح مناضل ثوري

ليون تروتسكي: حياة وكفاح مناضل ثوري

يصادف اليوم 21 غشت/أغسطس الذكرى السنوية لوفاة ليون تروتسكي، بعد هجوم من قبل عميل GPU، بأمر من ستالين.  نعيد نشر هذا المقال الذي كتبه الرفيق آلان وودز سنة 1988 احتفاء بذكرى حياة وأعمال هذا القائد الثوري الذي حافظ من خلال أعماله وحياته على التقاليد الأصيلة للماركسية والبلشفية للأجيال القادمة.


يوم 26 غشت 1879، وقبل بضعة أشهر على ولادة تروتسكي، أصدرت مجموعة صغيرة من الثوار من منظمة إرهابية سرية تدعى نارودنايا فوليا (إرادة الشعب) حكم الإعدام ضد قيصر روسيا، ألكسندر الثاني. وهكذا بدأت فترة من النضال البطولي، الذي يقوده عدد صغير من الشباب ضد جهاز الدولة القوي، والتي ستتوج في 01 مارس 1881، باغتيال القيصر. وكان هؤلاء المثقفون الشباب والطلاب، الذين كانوا يكرهون الاستبداد، على استعداد لتقديم أرواحهم في الكفاح من أجل تحرر الجماهير، ولكنهم كانوا يتصورون أنه من الضروري استثارة النضالات الجماهيرية من خلال “الدعاية بواسطة العمل”. لكن جهودهم ذهبت سدى. وبدل أن تؤدي تلك الأعمال الإرهابية إلى اندلاع حركة جماهيرية، كان لها تأثير عكسي: فقد عززت جهاز الدولة القمعي، وعزلت الكوادر الثورية وأحبطتهم – وتسببت في نهاية المطاف في التدمير الكامل للمنظمة “الشعبوية” نارودنايا فوليا.

الشعبوية

تمثل خطأ الشعبويين في سوء فهمهم للسيرورات الجوهرية للثورة الروسية. في ظل غياب طبقة عاملة قوية، انطلقوا يبحثون عن قاعدة اجتماعية أخرى للثورة الاشتراكية، واعتقدوا أنهم وجدوها بين الفلاحين. لكن كل التجربة التاريخية تبين أن الفلاحين هم الطبقة الاجتماعية الأقل قدرة على لعب دور سياسي مستقل. إنها ليست طبقة متجانسة، مثلما هو الحال بالنسبة للبرجوازية والطبقة العاملة. فشرائحها العليا تتطلع نحو البرجوازية، في حين أن الفلاحين الفقراء يشكلون حلفاء طبيعيين للعمال. إن الفلاحين طبقة تفتقر إلى التماسك. وقد أوضح ماركس أن للفلاحين فيما بينهم علاقة مماثلة لتلك التي لحبات البطاطس داخل كيس للبطاطس.

لكن الإرهابيين قدسوا الفلاحين. كانوا يتحدثون دائما “باسم الشعب”، أي باسم الفلاحين، الذين شكلوا الغالبية العظمى من الشعب الروسي. ولم يفهموا الدور الخاص للطبقة العاملة في النضال من أجل الاشتراكية. والأسوأ من ذلك أنهم كانوا ينكرون وجود هذه الطبقة الاجتماعية. ولم يكن العمال الصناعيون، من وجهة نظرهم، سوى ” فلاحين في المصنع”. وبدلا من الاعتماد على الطبقة العاملة – الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق الوعي الاشتراكي الجماعي، وذلك بسبب ظروفهم المعيشية ووضعهم في الحياة الاقتصادية – كان الشعبويون يتجهون نحو “الشعب” وحاولوا خلق الوعي الاشتراكي بين صفوف صغار ملاكي الأراضي. كان فشل الشعبوية نتيجة لسوء فهم مأساوي للمسألة التالية: ما هي الطبقة التي يمكنها ويجب عليها انجاز الثورة الاشتراكية في روسيا؟

الماركسيون

لتبرير أفكارهم أفرد الشعبيون للشعب الروسي مصيرا متميزا. لقد دافعوا قبل ستالين بوقت طويل، عن فكرة “الاشتراكية في بلد واحد”. وفي المقابل، نفى الماركسيون الروس الأوائل، المتحلقون حول بليخانوف، هذا الاحتمال بشكل صريح، وشرحوا أن الاشتراكية تتطلب توفر قاعدة مادية لا يمكنها أن تنشأ إلا من تطور القوى المنتجة، والصناعة والعلوم. وكان ماركس وإنجلز قد أوضحا أنه في أي مجتمع حيث تحتكر الأقلية العلم والسلطة، فإن هذه الأقلية ستستغلهما لحسابها الخاص. وكما كتب ماركس: “عندما يصبح البؤس معمما، تصعد جميع زبالة المجتمع القديم إلى السطح مجددا”. وسيكون ذلك هو الحال في كل البلدان التي يقضي فيها العمال ثمانية ساعات أو اثنا عشر ساعة أو خمسة عشر ساعة يوميا لكسب لقمة العيش.

وقد كان هذا السبب بالذات هو الذي دفع بماركس وإنجلز إلى توقع اندلاع الثورة الاشتراكية في البلدان المتقدمة في المقام الأول، وبعد ذلك فقط في المناطق المتخلفة مثل روسيا وأفريقيا وآسيا. وللسبب نفسه، أوضح بليخانوف والماركسيون الروس أنه لكي تصير الثورة اشتراكية ممكنة، يتوجب التوفر على مستوى معين من تطور الرأسمالية والصناعة والطبقة العاملة.

ومع ذلك، فإن الأفكار الماركسية لم تتمكن في ثمانينيات القرن التاسع عشر من اجتذاب أغلبية الشباب الروسي. فقد دفع بهم نفاد صبرهم إلى احتقار “النظرية”. كانوا يريدون الفعل. ولم يكونوا يفهمون الحاجة إلى كسب الطبقة العاملة من خلال عمل دؤوب للشرح بصبر، وحاولوا تدمير النظام القيصري بالأسلحة والإرهاب الفردي.

بدأ تروتسكي حياته السياسية داخل مجموعة شعبوية، تماما مثل لينين، الذي كان أخوه الأكبر أيضا عضوا في منظمة إرهابية. كانت الحركة الشعبوية آنذاك في مرحلة أفولها. في تسعينيات القرن التاسع عشر، تحول المزاج البطولي لحلقات المثقفين الأولى إلى الإحباط، والاستياء والتشاؤم. وعلاوة على ذلك، كانت الحركة العمالية قد بدأت تدخل الساحة بموجة رائعة من الإضرابات. وفي غضون سنوات قليلة، ومع النمو الهائل للأفكار الماركسية بين صفوف الطبقة العاملة، تأكد تفوق “المنظرين الماركسيين” على “براغماتية” الإرهاب الفردي. وبعد أن بدأت هذه الحركة الجديدة كمجموعات صغيرة للنقاشات الماركسية، صارت تكتسب عددا متزايدا من العمال. التحق تروتسكي بهذا الجيل الجديد من المناضلين الثوريين -وعرف النفي منذ أن كان سنه 19 سنة، في عام 1898.

لينين

كانت هذه الحركة الناشئة، مع ذلك، مشتتة للغاية وضعيفة التنظيم. وقد أخذ لينين، الذي كان يقود إلى جانب بليخانوف، “المجموعة من أجل تحرير العمل”، بين يديه مهمة تنظيم وتوحيد مختلف المجموعات الماركسية الروسية. وقد كان لينين وبليخانوف آنذاك في المنفى بلندن.

أصدر بليخانوف ولينين جريدة، الإسكرا (الشرارة)، ونجحا في إدخالها بصورة غير شرعية إلى روسيا، حيث كان لها تأثير كبير.، وبسرعة تحلق الماركسيون الحقيقيون حولها. في عام 1902، فر تروتسكي من سيبيريا وذهب إلى لندن، حيث انضم إلى فريق الإسكرا وتعاون مع لينين. كانت العلاقات داخل فريق هيئة التحرير متوترة للغاية. كان لينين وبليخانوف يتصارعان باستمرار حول عدد كبير من المسائل السياسية والتنظيمية. والحقيقة هي أن مناضلي “المجموعة من أجل تحرير العمل” القدامى كانوا يعانون كثيرا بسبب طول فترة المنفى، والتي أثرت على عملهم السياسي، الذي اقتصر أساسا على أعمال الدعاية على هامش الطبقة العاملة الروسية. وكان الأمر يتعلق بمجموعة من المثقفين المخلصين بلا شك، لكن الذين راكموا جميع عيوب المنفى. كانت أساليب اشتغالهم تجعلهم أحيانا يشبهون مجموعة للنقاش أو حلقة من الأصدقاء أكثر من حزب ثوري يطرح على كاهله مسألة حسم السلطة.

وقد ناضل لينين، الذي كان في الواقع ينجز الجزء الأكبر من العمل – بمساعدة من رفيقته كروبسكايا – ضد كل هذه الميولات، لكن دون نجاح يذكر. ووضع كل آماله في عقد مؤتمر للحزب، حيث سيمكن للطبقة العاملة أن “تفرض النظام في بيتها”. وقد كتبت الكثير من المفاهيم الخاطئة عن هذا المؤتمر الثاني الشهير لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي.

كل حزب ثوري يمر بالضرورة بمرحلة، قد تطول أو تقصر، من تكوين الكوادر والعمل الدعائي. وتخلف هذه الفترة حتما عادات معينة وطرق معينة في التفكير والعمل والتي تتحول، في وقت محدد، إلى عائق يحول دون تحويل الحزب إلى منظمة جماهيرية. إذا كان الحزب غير قادر، في وقت محدد، على تعديل أساليب عمله، فإن الأمر ينتهي به إلى الانحطاط إلى عصبة متحجرة.

البلاشفة

فاجأت المواجهة، التي اندلعت في المؤتمر الثاني، بين جناحي فريق الإسكرا، حتى المتصارعين أنفسهم. اندلعت المواجهة على أساس التعارض بين موقف لينين، الذي كان يريد بناء حزب ثوري جماهيري على أساس الانضباط وحد أدنى من الفعالية، وبين موقف الأعضاء الأكبر سنا داخل “المجموعة من أجل تحرير العمل”، الذين غرقوا في الروتين ولم يشعروا بأية حاجة إلى التغيير.

بشكل عام، تتمثل إحدى مميزات التيارات البرجوازية الصغرى في عدم قدرتها على الفصل بين المسائل السياسية والمسائل الشخصية. وللأسف، تمكن المناضلون الأكبر سنا من إقناع مارتوف وتروتسكي، اللذان قبلا اتهامات زاسوليش وأكسلرود وغيرهما. ظل ما يسمى بالاتجاه “المعتدل”، الذي كان يتزعمه مارتوف، أقلية، لكنه رفض قبول الاتفاقات التي تم التوصل إليها في المؤتمر والمشاركة في اللجنة المركزية وهيئة التحرير. فشلت كل محاولات لينين، خلال المؤتمر، للتوصل إلى حل وسط بسبب معارضة الأقلية (المناشفة).

على الرغم من أن بليخانوف أيد لينين خلال المؤتمر، إلا أنه لم يستطع مقاومة الضغوط من طرف أصدقائه ورفاقه السابقين. وأخيرا، خلال بداية عام 1904، وجد لينين نفسه مضطرا لتنظيم “لجان الأغلبية” (البلاشفة) في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحت أنقاض المؤتمر. وكان الانقسام داخل الحزب قد أصبح إذن حقيقة واقعة. في البداية، عمل تروتسكي على مساندة الأقلية ضد لينين. وهذا هو ما غذى كذبة انتماء تروتسكي إلى “المناشفة”. ومع ذلك، فإنه خلال المؤتمر الثاني، لم تكن البلشفية والمنشفية قد تبلورتا بعد كتيارات سياسية. ولم تظهر الخلافات السياسية بين هذين الاتجاهين بشكل واضح إلا بعد سنة على ذلك. لم يكن لهذه الخلافات علاقة بمسألة “المركزية” أو ” اللامركزية”، لكنها تعلقت بالقضية الرئيسية للثورة: التعاون مع البرجوازية الوطنية أو الاستقلال الطبقي.

ثورة 1905: التجربة العامة

في خضم الحرب بين روسيا واليابان، كانت البلاد تشهد حالة ما قبل ثورية. وقد تلت المظاهرات الطلابية موجة الإضرابات العمالية. لم يعجب هذا التحرك الليبراليين البرجوازيين، الذين شنوا حملة شرسة بالاستناد إلى “الزيمستفوات “، التي هي لجان محلية موجودة في القرى والتي كانت تمثل لهم أرضية سياسية.

لم تؤدي مسألة الموقف الذي ينبغي على الماركسيين اتخاذه اتجاه هذه الحملة إلا إلى تعميق انقسامهم. كان المناشفة يدافعون عن تقديم الدعم الكامل لليبراليين. أما البلاشفة، وعلى النقيض من ذلك، فقد عارضوا جذريا أي تقارب مع الليبراليين. وقد تبنى تروتسكي، من جهته، نفس موقف البلاشفة، مما دفعه إلى القطع مع المناشفة. ومنذ ذلك الحين، وحتى عام 1917، استمر تروتسكي مستقلا بشكل رسمي عن كلا الاتجاهين، على الرغم من انه كان دائما، فيما يتعلق بالقضايا السياسية، أقرب إلى البلاشفة من المناشفة.

نضجت الأوضاع الثورية بسرعة كبيرة. وقد ساهمت الهزائم العسكرية للجيش القيصري في ارتفاع السخط، والذي انفجر بعد القمع الدموي لمظاهرة يوم 9 يناير 1905، في سان بطرسبرغ. الشيء الذي دق ناقوس بداية ثورة 1905، التي لعب فيها تروتسكي دورا قياديا.

الثورة الدائمة

منذ ما قبل عام 1905، وخلال مناقشات حول سياسة التحالفات، وضع تروتسكي الإطار لنظرية “الثورة الدائمة”، التي تعتبر واحدة من ألمع المساهمات في النظرية الماركسية. ماذا تعني هذه النظرية؟

كانت الثورة الروسية بالنسبة للمناشفة ذات طبيعة ديمقراطية برجوازية. وبالتالي فإنه لا ينبغي للطبقة العاملة أن تطمح إلى السلطة، بل عليها فقط دعم البرجوازية الليبرالية ضد النظام القيصري. وبموجب هذا المنطق الميكانيكي كان المناشفة يشوهون أفكار ماركس عن تطور المجتمعات. كانت نظرية المناشفة ” للثورة عبر مراحل” تؤجل احتمال حدوث ثورة اشتراكية إلى المستقبل البعيد. وفي انتظار ذلك، ينبغي على الطبقة العاملة أن تلعب فقط دور التابع للبرجوازية الليبرالية. هذه النظرية الإصلاحية نفسها هي التي ستتسبب لاحقا في هزائم للطبقة العاملة في الصين سنة 1927، واسبانيا ما بين 1936-1939، وإندونيسيا سنة 1965 والتشيلي سنة 1973.

رد تروتسكي على هذه الأفكار على النحو التالي: “إذا كان الأمر يتعلق فعلا بثورة برجوازية ديمقراطية، فإن القضية الرئيسية فيها هي الأرض. ستنتقل السلطة إلى أيدي الطبقة التي ستقود الفلاحين ضد القيصرية. إلا أن البرجوازية وصلت متأخرة جدا مما يجعلها عاجزة عن لعب دور ثوري. وقد احتلت البروليتاريا الميدان الرئيسي. إن النضال الثوري ضد النظام القيصري سوف يؤدي إلى تعبئة الطبقة العاملة، التي لن تتوقف عند الحدود المفروضة من طرف من يسمون بالليبراليين البورجوازيين. لهذا السبب سوف يخون الليبراليون الثورة ويدعمون القيصر ضد العمال والفلاحين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن البرجوازية في روسيا مرتبطة بآلاف الخيوط إلى كبار ملاكي الأراضي من خلال النظام البنكي. وحدها الطبقة العاملة، في ظل تنظيم وقيادة الماركسيين، من يمكنها قيادة الفلاحين نحو النصر، وإسقاط الدولة القيصرية وإنجاز مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية. لكن الأمور لن تنتهي عند ذلك الحد. حيث ستجد حكومة العمال والفلاحين نفسها مجبرة على تطبيق تدابير اشتراكية منذ اليوم الأول لتوليها السلطة. إن المهمة التي يجب على الطبقة العاملة أن تحضر نفسها لها هي الاستيلاء على السلطة. “

في عام 1905، كان تروتسكي وحده من يدافع عن فكرة إمكانية انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، قبل انتصارها في أوروبا الغربية. وكان لينين لم يوضح موقفه بعد. إلا انه بشكل عام، كانت وجهة نظر تروتسكي قريبة جدا من وجهة نظر البلاشفة، كما اعترف بذلك لينين لاحقا. لكن في عام 1905، اثبت تروتسكي كونه الوحيد الذي أكد بجرأة ووضوح الحاجة إلى ثورة اشتراكية في روسيا. وبعد اثني عشر عاما، أثبت التاريخ أنه كان على حق. لن نتطرق هنا بالتفصيل إلى ثورة 1905. إن أحد أفضل الكتب التي ألفت في هذا الموضوع هو كتاب تروتسكي: 1905. ومما يزيد من أهمية هذا الكتاب الماركسي الكلاسيكي كونه كتب من قبل أحد القادة الرئيسيين لهذه الثورة. لقد كان تروتسكي في الواقع رئيس مجلس سوفييت سان بطرسبرج. وبعد هزيمة الثورة اعتقل إلى جانب أعضاء آخرين في السوفييت وتم ترحيلهم مرة أخرى إلى سيبيريا، التي فر منها – للمرة الثانية – سنة 1906.

مرحلة الردة الرجعية

لقد كانت سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1905 أصعب فترة في تاريخ الحركة العمالية الروسية. كانت الجماهير قد تعبت من القتال، وأصيب المثقفون بالإحباط، وكان المزاج السائد هو التشاؤم والتيه، بل وحتى اليأس. في هذا المناخ من الردة الشاملة انتشرت الأفكار الخرافية والدينية بين المثقفين. وقد انعكس هذا أيضا داخل صفوف الحركة العمالية، من خلال محاولات إعادة النظر في المفاهيم الفلسفية الماركسية.

في فترة الصعود الثوري، توحد من جديد جناحا الحركة العمالية الروسية. لكن هذه الوحدة ظلت شكلية أكثر مما هي حقيقية. ومع جزر الحركة، عادت الاتجاهات المنشفية الانتهازية إلى الظهور مجددا (انظر عبارة بليخانوف الشهيرة: “ما كان على العمال حمل السلاح”) وقد تقوت الخلافات بين التيارات مرة أخرى. في ذلك الوقت، كان تروتسكي يتبنى موقفا سياسيا قريبا من موقف البلاشفة. في مؤتمر لندن (1907)، قال لينين: «يعتقد تروتسكي بأن البروليتاريا والفلاحين لديهما مصالح مشتركة في الثورة الحالية (…)، مما يعني أنه لدينا هنا مواقف مشتركة فيما يتعلق بموقفنا الأساسي تجاه الأحزاب البرجوازية».

لكن ومع ذلك، رفض تروتسكي الانخراط في التيار البلشفي، واعتقد أن موجة جديدة من الثورة من شأنها أن تجعل من الممكن حدوث عملية اندماج بين أفضل العناصر من كلا التيارين. كان هذا الموقف “التصالحي” واحدا من أكبر الأخطاء في حياته، كما اعترف بنفسه في وقت لاحق. لكن ينبغي لنا ألا ننسى أن الأمور لم تكن واضحة في ذلك الوقت. لينين نفسه حاول أكثر من مرة التقارب مع بعض أقسام المناشفة. سنة 1908، وعندما وصل إلى اتفاق مع بليخانوف، “حلم” لينين على حد تعبير لوناتشارسكي “بتحالف مع مارتوف”. لكن التجربة ستبرهن على استحالة مثل هذا التقارب. فالتياران: الثوري والإصلاحي، تطورا في اتجاهين معاكسين. فصار من الحتمي حدوث قطيعة كاملة بينهما عاجلا أو آجلا.

الحرب العالمية

شهدت روسيا، بداية مرحلة جديدة من النضالات سنة 1911. لكنها توقفت بسبب الحرب العالمية الأولى. إلا أن البلاشفة، هذه المرة، كانوا يتمتعون بأغلبية حاسمة داخل الطبقة العاملة. كان 4/5 من العمال المنظمين في سان بطرسبرج يدعمون البلاشفة وجريدتهم البرافدا. أما المناشفة فقد فقدوا مصداقيتهم بسبب سياستهم المبنية على التعاون مع البرجوازية. وسنة 1912، صار الانشقاق النهائي للحزب مسألة محسومة وتأسس الحزب البلشفي المستقل. مرة أخرى عارض تروتسكي الانشقاق، وحاول دون جدوى تعزيز وحدة الصفوف.

كان الانشقاق الذي شهدته روسيا استباقا لحدوث انقسام أكثر أهمية: الانشقاق داخل الأممية. فقد كان الموقف الذي اتخذه قادة أحزاب الأممية الثانية أثناء الحرب العالمية الأولى يعني بحكم الأمر الواقع انهيار الأممية.

ابتداء من شهر غشت 1914 صارت مسألة الحرب تحتل مركز انتباه الاشتراكيين في جميع البلدان. تبنى تروتسكي على الفور موقفا ثوريا واضحا ضد الحرب. في مؤتمر زيمروالد، الذي جمع في عام 1915 جميع الاشتراكيين المعارضين للحرب، كان تروتسكي مسئولا عن صياغة بيان المؤتمر، والذي، على الرغم من الخلافات بين المشاركين، تمت المصادقة عليه من قبل الجميع. ومن باريس، بدأ تروتسكي يصدر صحيفة روسية تدافع عن مبادئ الأممية الثورية: ناشي سلوفو (كلمتنا). وقد تمكن تروتسكي وبعض معاونيه، وبفضل التضحيات الجسام، من جعلها صحيفة يومية، مما دفع بالسلطات الفرنسية، وتحت ضغط من الحكومة الروسية، إلى منعها وطرد تروتسكي من البلاد.

بعد إقامة قصيرة في إسبانيا، حيث أصبح معتادا على السجون، تم ترحيله مرة أخرى إلى نيويورك. وهناك تعاون مع بوخارين، وبعض المناضلين الثوريين الآخرين، في نشر جريدة نوفي مير. كانت تلك هي الفترة حيث وصلت إليه أولى الأخبار الغامضة عن اندلاع انتفاضة جديدة في بتروغراد. كانت الثورة الروسية الثانية قد بدأت.

ثورة 1917

كان لينين موجودا في سويسرا وتروتسكي في نيويورك عندما اندلعت ثورة فبراير. لكن وبالرغم من المسافة الهائلة التي كانت تفصل بينهما، فقد توصلا إلى خلاصات متشابهة. كانت مقالات تروتسكي في نوفي مير ونصوص لينين متطابقة فيما يتعلق بالقضايا الأساسية للثورة: الموقف من الفلاحين والبرجوازية الليبرالية، والحكومة المؤقتة، والثورة العالمية. هذه الحقائق تفضح أكاذيب الستالينيين، الذين حاولوا إقامة جدار الصين العظيم بين لينين وتروتسكي. في زمن الثورة كانت التروتسكية واللينينية متطابقتان تماما. في خضم الوضع الثوري يواجه الحزب، وقيادته على وجه الخصوص، ضغوطا رهيبة من جانب الطبقات العدوة، ومن جانب “الرأي العام” البرجوازي، وحتى من الأفكار المسبقة المنتشرة بين العمال. لم يكن أي من القادة البلاشفة في بتروغراد قادرا على مقاومة هذه الضغوط. لا أحد منهم أكد على ضرورة الاستيلاء على السلطة من قبل الطبقة العاملة باعتباره السبيل الوحيد لإنجاز الثورة. جميعهم تخلوا عن وجهة النظر الطبقية لصالح موقف ديمقراطي مبتذل. كان ستالين وكامينيف وريكوف ومولوتوف وغيرهم يدافعون عن تقديم دعم نقدي للحكومة المؤقتة، وأرادوا الاندماج بالمناشفة.

“موضوعات أبريل”

فقط بعد وصول لينين حيث غير الحزب البلشفي موقفه، بعد صراع داخلي تمحور حول “موضوعات أبريل” التي كتبها لينين، والتي نشرها في جريدة البرافدا بتوقيعه الشخصي. في البداية، لم يتجرأ أي زعيم بلشفي آخر على إعلان تأييده “لموضوعات” لينين. والحقيقة هي أنهم لم يفهموا منهاج لينين وكانوا قد حولوا شعارات 1905 إلى أصنام. كانت “جريمة” تروتسكي تتمثل في كونه توقع كل هذا مسبقا، وبشكل واضح. لقد أكدت أحداث 1917 نظرية الثورة الدائمة بشكل باهر. وابتداء من تلك اللحظة، لم يعد أي شيء يفصل من الناحية السياسية بين لينين وتروتسكي. توقفت جميع خلافات الماضي عن الوجود. فاندمجت مجموعة المناضلين الثوريين التي كان يقودها تروتسكي، ميزهرايونتسي، مع الحزب البلشفي. في وقت لاحق، يوم 1 نوفمبر 1917، وخلال أحد الاجتماعات، قال لينين: إنه ومنذ أن أدرك استحالة الوحدة مع المناشفة، “لم يعد هناك بلشفي أفضل من تروتسكي.”

لن نتطرق بالتفصيل إلى الدور الذي لعبه تروتسكي في ثورة أكتوبر. لكن يجب علينا أن نؤكد هنا، استنادا إلى تجربة الثورة الروسية، على الأهمية الهائلة التي يكتسيها العامل الذاتي ودور الفرد في التاريخ.

الماركسية نظرية تؤمن بالحتمية، لكنها لا تؤمن بالقدرية. كان الشعبويون والإرهابيون الروس القدماء إرادويون وطوباويون. كانوا يعتقدون أن التاريخ كله يتوقف على إرادة الأفراد والشخصيات العظيمة والأبطال، بغض النظر عن الظروف الموضوعية والقوانين التاريخية. إلا أن هناك لحظات في تاريخ المجتمع، حيث تكون كافة الشروط الموضوعية للثورة متوفرة، وحيث يصير العامل الذاتي، أي قيادة الحركة، العامل الحاسم. في هذه اللحظات، تصير كل العملية التاريخية معتمدة على نشاط مجموعة صغيرة من الأفراد، وأحيانا حتى شخص واحد.

كان إنجلس مولعا بالقول بأن هناك فترات من التاريخ “تمر فيها عشرون سنة مثل يوم واحد”، أو بعبارة أخرى يبدو وكأن لا شيء يتحرك. وبالرغم من النشاط المكثف لا شيء يتغير. لكنه أكد أيضا أن هناك أوقات أخرى يمكن خلالها لعشرين سنة من التاريخ أن تتركز في غضون بضعة أسابيع أو بضعة أيام. فإذا لم يتمكن الحزب الثوري وقيادته، في مثل هذه الأوقات، من الاستفادة من هذا الوضع، فقد تضيع هذه الفرصة لمدة 10 أو 20 عاما.

دور الحزب

في غضون تسعة أشهر، ما بين فبراير وأكتوبر 1917، أثبتت قضايا الطبقة والحزب وقيادته كل أهميتها. كان الحزب البلشفي الحزب الأكثر ثورية في تاريخ البشرية. لكن على الرغم من هذا وعلى الرغم من القوة الهائلة والخبرة الكبيرة التي راكمتها قيادته، فإن قادة بتروغراد بدءوا يترددون في اللحظة الحاسمة. فانفتحت فترة أزمة. وقد توقف مصير الثورة في نهاية المطاف على نشاط رجلين: لينين وتروتسكي. بدونها لم يكن للثورة أن تنتصر. قد يبدو هذا التصريح للوهلة الأولى مخالفا للمفهوم الماركسي لدور الفرد في المجتمع. لكن هذا غير صحيح. إذ بدون الحزب، كان لينين وتروتسكي سيقفان عاجزين تماما في خضم الاضطرابات الثورية. كان العمل الذي دام ما يقرب من 20 عاما ضروريا لبناء وصقل هذه الأداة ومن اجل غرس جذورها عميقا بين الجماهير وفي المعامل، والثكنات والأحياء العمالية. لا يمكن لأي إنسان، مهما كانت مكانته، أن يحل محل تلك الأداة، التي لا يمكن ارتجالها.

إن الطبقة العاملة في حاجة إلى الحزب من أجل تغيير المجتمع. فبدون حزب ثوري، قادر على توفير قيادة واعية للطاقة الثورية للطبقة العاملة، سوف تتبدد هذه الطاقة هباء، مثل بخار غير موجه داخل مكبس.

لكل حزب جانب محافظ. والثوار يكونون أحيانا الأكثر محافظة. هذه المحافظة هي نتيجة لسنوات من الروتين، الضروري بالتأكيد، لكن الذي يولد بعض العادات التي، إذا لم يتم القضاء عليها من طرف القيادة، يمكنها أن تتحول إلى عائق خلال الوضع الثوري. ففي هذه اللحظة الحرجة، عندما يتطلب الوضع تغييرا مفاجئا في نشاط وتوجه الحزب، عندما يتوجب الانتقال من الروتين اليومي إلى مسألة الاستيلاء على السلطة، حيث تدخل العادات القديمة في صراع مع متطلبات الوضع الجديد. في هذا السياق بالضبط يصبح دور القيادة حيويا.

يمكن تشبيه الحزب، باعتباره جهازا لنضال طبقة ضد أخرى، بالجيش. فللحزب أيضا جنرالاته وضباطه وضباط الصف والجنود. وكما هو الحال إبان الحرب يكون للوقت إبان الثورة، أهمية حاسمة. حتى بدون لينين وتروتسكي، كان في إمكان البلاشفة بالتأكيد أن يصححوا أخطائهم – لكن بأي ثمن؟ لا يمكن للثورة أن تنتظر سنوات حتى يصحح الحزب أخطائه، لأن الهزيمة هي الثمن الذي يدفع مقابل التردد والتراجعات. هذا ما أعطت تجربة الثورة الألمانية، عام 1923، الدليل الواضح عليه. إن السياسة الثورية علم. والدراسة المتأنية لتجارب الثورات السابقة ليست لعبة بل طريقة للإعداد للمستقبل. لا أحد أخذ على محمل الجد تروتسكي عندما دافع، قبل الحرب العالمية الأولى، عن إمكانية اندلاع ثورة عمالية في روسيا قبل أن تندلع مثل هذه الثورة في أوروبا الغربية. فقط في أكتوبر 1917 حيث أعطي الدليل على تفوق المنهاج الماركسي على التجريبية.

الاشتراكية

شكلت ثورة أكتوبر أهم حدث في تاريخ البشرية. فللمرة الأولى – باستثناء تجربة كومونة باريس القصيرة – أخذت الجماهير المضطهدة في المجتمع مصيرها بين أيديها وانخرطت في مهمة بناء مجتمع جديد.

الثورة الاشتراكية مختلفة تماما عن جميع الثورات الأخرى، نظرا للدور الذي يضطلع به العامل الذاتي. في الثورة الاشتراكية، يصبح العامل الذاتي، لأول مرة، محرك العملية الاجتماعية بأسرها. يمكن للثورة البرجوازية، في المقابل، أن تتحقق بشكل تلقائي تقريبا، دون أي قيادة واعية. في ظل الرأسمالية، تتصرف قوى السوق بطريقة غير متحكم فيها، دون أي خطة، أو أي تدخل للدولة. الثورة الاشتراكية تضع حدا لفوضى الإنتاج وتحتاج إلى الإشراف والتخطيط للقوى المنتجة في المجتمع. والنتيجة هي أنه حتى بعد الثورة، يبقى العامل الذاتي (الوعي الطبقي(هو العامل الحاسم. ووفقا لإنجلز، يتم تعريف الاشتراكية بأنها “القفزة من عالم الضرورة إلى عالم الحرية”. لكن وعي الجماهير لا ينفصل عن ظروف حياتهم، ومستواهم الثقافي، ومدة يوم العمل، وما إلى ذلك. وليس من قبيل المصادفة أن ماركس وإنجلز أكدا على أن الظروف المادية للاشتراكية تتوقف على تطوير القوى المنتجة. وعندما أكد المناشفة على عدم وجود الظروف المادية للاشتراكية في روسيا، وبالتالي عارضوا ثورة أكتوبر، كانوا محقين جزئيا. ولكن هذه الشروط الموضوعية كانت متوفرة على الصعيد الدولي.

لم تكن نزعة البلاشفة الأممية انعكاسا للعاطفة. لقد كرر لينين مئات المرات أنه ينبغي على الثورة الروسية أن تمتد إلى بلدان أخرى، وإلا سيكون مآلها الفشل. في الواقع، أثارت الثورة الروسية موجة من الوضعيات الثورية والقبل- ثورية في العديد من البلدان (ألمانيا، هنغاريا، ايطاليا، فرنسا…) لكن هذه الثورات فشلت بسبب عدم وجود أحزاب ثورية جماهيرية، أو بعبارة أدق بسبب خيانة قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية. بسبب هذه الخيانة، في ألمانيا وبلدان أخرى، بقيت الثورة الروسية محصورة في بلد واحد متخلف، حيث كانت الظروف المعيشية قاسية جدا. ففي عام واحد مات ملايين الناس من الجوع. ومع نهاية الحرب الأهلية كانت الطبقة العاملة منهكة.

البيروقراطية

في ظل هذا الوضع كانت الردة مسألة لا مفر منها. لم تأت النتائج متطابقة مع توقعات الجماهير. جزء مهم من العمال الأكثر وعيا والأكثر كفاحية قتلوا خلال الحرب الأهلية. بينما بدأ الآخرون، الذين تعبوا من العمل الإداري في الصناعة أو في الدولة، في الابتعاد شيئا فشيئا عن بقية الطبقة. في جو من التعب المتزايد وضعف المعنويات والارتباك بين الجماهير، بدأ جهاز الدولة يرتفع على نحو متزايد فوق الطبقة العاملة. كانت كل خطوة إلى الوراء يخطوها العمال تعزز موقف البيروقراطيين والوصوليين. على هذه الخلفية تبلورت فئة من البيروقراطيين والمسئولين المستقلين بذاتهم، الذين رفضوا الأفكار “الطوباوية” بخصوص الثورة العالمية. وكانت هذه العناصر نفسها هي التي خصصت استقبالا حافلا لنظرية “الاشتراكية في بلد واحد”، التي ظهرت لأول مرة عام 1924.

تشرح الماركسية أن الأفكار “لا تسقط من السماء”. وعندما تجد فكرة ما تأييدا حاشدا، فإنها تعبر بالضرورة عن مصالح طبقة أو فئة اجتماعية. واليوم يحاول المؤرخون البرجوازيون تصوير الصراع بين ستالين وتروتسكي في شكل “نقاش” حول قضايا نظرية. ولكن العامل المحدد في التاريخ ليس صراع الأفكار، بل الصراع بين المصالح الطبقية والقوى المادية. لم يكن انتصار ستالين يستند على تفوقه الفكري. ففي المجال النظري كان ستالين في الواقع الشخص الأكثر ضعفا بين القادة البلاشفة. لكن الأفكار التي كان يدافع عنها كانت تمثل مصالح وامتيازات الطبقة البيروقراطية الجديدة الناشئة. وفي المقابل، كان تروتسكي، و”المعارضة اليسارية ” يدافعون عن أفكار ثورة أكتوبر ومصالح الطبقة العاملة، التي تعرضت للهجوم من قبل البيروقراطية، والبرجوازية الصغيرة، والكولاك، إلخ.

الستالينية

لم تكن أفكار ستالين وتصرفاته تسير وفق خطة محددة سلفا. في البداية، لم يكن يعرف إلى أين هو ذاهب، ولو كان يعرف في عام 1923، أين ستنتهي هذه العملية، فإنه على الأرجح لم يكن لينخرط فيها. لينين الذي أدرك الخطر المحدق – خلال فترة مرضه الأخير -، حاول وقف سيرورة التبقرط. من أجل هذه الغاية لجأ إلى اقتراح تشكيل كتلة مع تروتسكي لمحاربة ستالين خلال المؤتمر الحادي عشر للحزب. لكنه توفي قبل أن يتمكن من تنفيذ هذا المشروع الأخير.

وبالرغم من كل شيء فحتى تدخل لينين لم يكن كافيا لوقف هذه السيرورة. لم تكن الأسباب في الأشخاص، بل في الوضع الموضوعي لبلد متخلف، وجائع، والذي دفعه جزر الثورة الاشتراكية في الغرب إلى الغرق في العزلة. في عام 1926، وخلال اجتماع للمعارضة اليسارية، صرحت أرملة لينين، كروبسكايا، بمرارة: “لو كان لينين على قيد الحياة اليوم، لألقوا به في السجن!”. إن السبب وراء هزيمة تروتسكي والمعارضة كان موجودا في الروح المعنوية للجماهير، التي وقفت غير مبالية بالصراع داخل الحزب. كان صعود الفئة الحاكمة الجديدة يعود لأسباب الاجتماعية عميقة. كانت عزلة الثورة السبب الرئيسي في صعود ستالين والبيروقراطية. ولكن هذا أدى بدوره إلى مزيد من الهزائم للثورة العالمية: في بلغاريا وألمانيا (1923)، انكلترا (1926)، والصين (1927)، وأخيرا الهزيمة الأفظع في ألمانيا عام 1933. كانت كل هزيمة تتكبدها الثورة العالمية تضاعف إحباط الطبقة العاملة الروسية، وتعزز بالتالي البيروقراطيين والوصوليين. تعرضت المعارضة للطرد غداة الهزيمة المروعة للثورة الصينية عام 1927. وكانت هذه الهزيمة نتيجة مباشرة للسياسة التي أملاها ستالين وبوخارين على الحزب الشيوعي الصيني. نفي تروتسكي إلى تركيا، إذ لم تكن البيروقراطية قوية بعد بما يكفي لاغتياله! ومن منفاه، بين 1927 و1933، كرس تروتسكي نفسه لتنظيم المعارضة اليسارية الأممية، التي وضعت على كاهلها هدف تصحيح الوضع في الاتحاد السوفيتي والأممية الشيوعية. لكن الهزيمة الرهيبة التي تكبدتها الطبقة العاملة الألمانية، المتعبة والمنهكة بفعل سياسة الستالينيين والاشتراكيين الديمقراطيين، وكذا الغياب التام للنقد الذاتي والنقاش داخل صفوف أحزاب الأممية الشيوعية، دعت تروتسكي إلى الاقتناع بالانحطاط التام للكومنترن (الأممية الشيوعية). وبينما لم تكن البيروقراطية في سنواتها الأولى قد وطدت بعد نفسها كفئة مسيطرة، فإنه صار واضحا سنة 1933، أن الأمر لم يعد متعلقا بانحراف مؤقت يمكن تصحيحه عن طريق النقد والمناقشة. كانت الثورة المضادة قد انتصرت، مدمرة جميع عناصر الديمقراطية العمالية التي أنشأتها ثورة أكتوبر.

التطهيرات

يتمثل أفضل مثال عن الوضع الجديد في ” محاكمات موسكو” السيئة الذكر، التي وصفها تروتسكي بأنها “حرب أهلية من طرف واحد ضد الحزب البلشفي”. ما بين عامي 1936 و1939، تعرض جميع أعضاء اللجنة المركزية، للحزب البلشفي في زمن لينين، الذين كانوا داخل الاتحاد السوفيتي للقتل. كانت هناك “محاكمة الستة عشر” (زينوفييف، كامينيف، سميرنوف، الخ)، و”محاكمة السبعة عشر” (راديك، بياتكوف، سكولنيكوف، الخ)، و”المحاكمة العسكرية السرية” (توكاشيفسكي، الخ)، و”محاكمة الواحد والعشرين” (بوخارين وريكوف، وراكوفسكي، الخ). لقد اتهم رفاق لينين السابقين، بشكل بشع جدا، بارتكابهم جرائم ضد الثورة. وقد كان يتم اتهامهم عادة بأنهم عملاء لهتلر. مثلما حدث في فرنسا زمن الترميدور، حيث اتهم اليعاقبة بأنهم عملاء لإنجلترا.

كان هدف البيروقراطية بسيطا: التصفية الكاملة للعناصر التي يمكنها أن تلعب دور المجمع لسخط الجماهير. وقد تمكنت أيضا من سجن وقتل آلاف الأشخاص الموالين لستالين، الذين كان جرمهم الوحيد هو علاقتهم المباشرة مع تجربة أكتوبر. لقد كان من الخطورة بمكان أن تكون صديقا أو جارا، أو أبا أو إبنا لسجين. أرسلت عائلات بأكملها إلى معسكرات الاعتقال، بما في ذلك الأطفال. قضى ابن الجنرال ياكير، الذي اغتيل عام 1938، أربعة عشرة سنة مع والدته في مخيمات الاعتقال الستالينية. ومع ذلك لم يكن المتهم الرئيسي، حاضرا أثناء محاكمته. ليون تروتسكي، الذي رفضت جميع البلدان الأوروبية إعطاءه حق اللجوء، ذهب إلى المكسيك، حيث نظم حملة دولية للاحتجاج على محاكمات موسكو.

الدولة العمالية المشوهة بيروقراطيا

لماذا كانت البيروقراطية خائفة إلى هذا الحد من رجل واحد؟ كانت ثورة أكتوبر قد أنشئت نظام الديمقراطية العمالية التي سمحت بقدر كبير جدا من الحرية للعمال. لكن البيروقراطية في المقابل لم يكن في إمكانها السيطرة إلا من خلال تدمير الديمقراطية العمالية، وإنشاء نظام شمولي. لم يكن في إمكانها التسامح مع وجود أي قدر من حرية التعبير أو النقد، وذلك في مجال السياسة كما في مجال الفن أو العلم أو الأدب. في الظاهر يشبه نظام ستالين نظام هتلر أو فرانكو أو موسوليني. لكن هناك فارق جوهري: ففي الاتحاد السوفييتي كانت الفئة الحاكمة تستند إلى العلاقات الاقتصادية الجديدة التي أنشأتها ثورة أكتوبر. كانت هناك حالة متناقضة. للدفاع عن سلطتها وامتيازاتها، وجدت هذه الفئة الطفيلية نفسها ملزمة بالدفاع عن الاقتصاد المؤمم والتخطيط، والذي كان يمثل إنجازا تاريخيا للطبقة العاملة. بعد أن دمر البيروقراطيون المكتسبات السياسية لثورة أكتوبر وسحقوا الحزب البلشفي، وجدوا أنفسهم مجبرين على الحفاظ على شبح “الحزب الشيوعي” و”السوفييتات” وما إلى ذلك. كان عليهم أيضا تطوير القوى المنتجة المبنية على أساس الاقتصاد المؤمم والتخطيط. وهكذا فإنهم بتطويرهم للصناعة، لعبوا دورا تقدميا نسبيا.

الديمقراطية العمالية

لا يدافع الماركسيون عن الديمقراطية لأسباب عاطفية. “إن الاقتصاد المخطط، كما أوضح تروتسكي، يحتاج الديمقراطية مثلما يحتاج جسم الإنسان الأكسجين”. لا تتماشى السيطرة الخانقة لبيروقراطية مستبدة مع تطور الاقتصاد المخطط. إن وجود البيروقراطية يؤدي لا محالة، على جميع المستويات، إلى ظهور مختلف أشكال الفساد وسوء الإدارة والشطط في استخدام السلطة. ولذلك، وخلافا للبرجوازية، لا يمكن للبيروقراطية أن تتحمل النقد والتفكير المستقل. في ثلاثينيات القرن الماضي حلل تروتسكي ظاهرة البيروقراطية الستالينية الجديدة في كتابه: الثورة المغدورة، الذي يعد واحدا من أهم المؤلفات الماركسية الكلاسيكية. دافع فيه عن ثورة جديدة – ثورة سياسية – تهدف إلى إعادة إحياء الاتحاد السوفييتي. فالبيروقراطية الروسية مثلها مثل جميع الطبقات أو الفئات المهيمنة الأخرى في التاريخ، لن تختفي “من تلقاء نفسها”، على الرغم من أن وجودها لا يتوافق مع تطور القوى المنتجة.

شكلت أعمال تروتسكي ومعاونوه السياسيون خطرا قاتلا على البيروقراطية، التي ردت بحملة واسعة النطاق من الاغتيالات والاضطهاد والافتراءات.

يوم 20 غشت 1940، وبعد عدة محاولات فاشلة، تمكن الغيبيو أخيرا من اغتيال تروتسكي بواسطة أحد العملاء. كان تروتسكي قد شهد اغتيال احد أبنائه، واختفاء آخر، وانتحار ابنته، وإبادة أصدقائه ورفاقه في الاتحاد السوفيتي والخارج، إضافة إلى تدمير المكتسبات السياسية لثورة أكتوبر.

لكن وعلى الرغم من كل هذا، لم يتوقف تروتسكي أبدا عن الدفاع عن أفكاره الثورية. تعكس وصيته تفاؤلا عظيما بالمستقبل الاشتراكي للإنسانية. لكن وصيته الحقيقية تكمن في مجموع مؤلفاته وكتاباته، والتي تشكل ثروة هائلة من الأفكار الماركسية للجيل الجديد من الثوريين. إن واقع كون “شبح التروتسكية” ما يزال يقلق سادة الكرملين هو دليل على حيوية أفكاره – أفكار الماركسية والبلشفية الحقة، والتي لن يتم تدميرها لا بأكاذيب المفترين ولا برصاص القتلة.

عنوان النص بالفرنسية:

Léon Trotsky: vie et luttes d’un révolutionnaire