الرئيسية / قضايا نظرية / اقتصاد وعولمة / أزمة الرأسمالية العالمية

أزمة الرأسمالية العالمية

الأزمة العالمية

نعيش أوقات استثنائية. الاضطراب المالي في الولايات المتحدة يخلق موجات تهدد بابتلاع العالم بأسره. هذا الواقع يغير وعي الملايين بسرعة. يوم أمس [25 شتنبر 2008] استقطبت مظاهرة دعا إليها مجلس العمال المركزي بنيويورك حوالي ألف عامل، ضمت عددا كبيرا من عمال البناء، وعمال الصلب والسباكون والميكانيكيون، إضافة إلى المعلمين وغيرهم. الهدف من وراء هذه المظاهرة، التي تمت الدعوة إليها قبل يومين فقط، هو الاحتجاج ضد خطة الرئيس لإنقاذ وول ستريت من خلال منحه 700 مليار دولار من المال العمومي. ها هو تقرير وكالة رويتر عن المظاهرة الاحتجاجية:

«عمال البناء والنقل والميكانيكيون والمعلمون وغيرهم من النقابيين تظاهروا يوم الخميس، أمام مقر بورصة نيويورك، ضد مقترح الحكومة الأمريكية لإنقاذ وول ستريت في خطوة احتجاجية. وقد هتف مئات المحتجين بحماس تأييدا للقادة النقابيين عندما قام هؤلاء الأخيرين بانتقاد خطة ضخ 700 مليار دولار بهدف إنعاش أسواق الائتمان عبر تخليص المؤسسات المالية من القروض الميئوس منها.

قال الرئيس الوطني لنقابة AFL-CIO، جون سويني: “تريد حكومة بوش منا أن نتحمل عبئ إنقاذ وول ستريت والذي لا يستهدف حتى جذور أزمتنا”. وأضاف “نريد أن تستعمل دولارات الضرائب التي ندفعها من أجل تحسين ظروف عيش الشعب العامل الذي يعيش في ماين ستريت وليس من أجل تقديمها لحفنة من المدراء التنفيذيين المحظوظين مرتفعي الأجور.”

كُتِبَ على اللافتات: “لا شيكات على بياض لوول ستريت” و”رواتب تقاعدنا المكتسبة بمشقة ليست فريسة للمغتصبين”. وقد ردد المحتجون شعارات تطالب الحكومة بصرف الأموال على التعليم والرعاية الصحية والسكن بنفس السرعة والسهولة التي أبدتها بخصوص وول ستريت. قال رئيس الفدرالية المتحدة للمعلمين، راندي وينغارتن: “نحن نعلم أنه يجب تقديم حل للوضع الاقتصادي، لكننا نريد إنقاذا مسئولا وليس انتهازيا”. وأضاف: “وهذا يعني أنه كما يقول لي كل رب عمل أنه يجب محاسبة المعلمين، إذن يجب محاسبة وول ستريت”.»

كان المزاج السائد في المظاهرة هو الغضب. والموقف الذي أثار الكثير من ردود الفعل الإيجابية كان هو الدعوة إلى إضراب عام إذا ما استفاد الأغنياء وحدهم من خطة الإنقاذ. يمثل هذا بداية تغير في وعي الطبقة العاملة، ليس في الولايات المتحدة وحدها.

“حدث القرن”

إن ما تعرفه أسواق المال خلال الأشهر القليلة الماضية أحداث غير مسبوقة في التاريخ الحديث. نفس الاقتصاديين البرجوازيين، الذي أنكروا في السابق إمكانية حدوث ركود، بدءوا يتحدثون الآن عن أسوء أزمة خلال الستين سنة الأخيرة. وقد وصف الرئيس السابق للاحتياطي الأمريكي، آلان غرينسبان، الأزمة المالية الحالية باعتبارها: “ربما حدث القرن”

إنهم يعنون في الواقع 79 سنة، على اعتبار أنه لم تكن هناك أية أزمة سنة 1948. لكن الاقتصاديين أناس يؤمنون بالنحس وهم يخشون ذكر 1929، بالضبط كما كان الإسرائيليون القدامى يخشون من ذكر إسم إلههم، في حالة ما إذا كان هناك شيء سيء سيحدث. إنهم قلقون بخصوص الثقة في الأسواق، باعتبار أنهم جميعا يعتقدون أن الثقة (أو غياب الثقة) هو السبب الحقيقي وراء دورات الازدهار والانهيار الاقتصادية. لكن الواقع هو أن الازدهار والانهيار يجدان جذورهما في الظروف الموضوعية. ارتفاع الثقة وتراجعها يعكسان الظروف الواقعية، رغم انه يمكنها أن تتحول بدورها إلى جزء من هذه الظروف، حيث تساعد على ازدهار الأسواق، أو تساعد، كما هو الحال الآن، على انحطاطها.

خلال الأشهر القليلة الماضية تعرضت كل من إي أي جي (AIG) وبير ستيرنز (Bear Stearns) وفاني ماي (Fannie Mae) وفريدي ماك (Freddie Mac) وليمان برادرز (Lehman Brothers) وميريل لينش (Merrill Lynch)، التي كان يعتقد أنها شركات أكبر من أن تسقط، إما للإفلاس ومن ثم استفادت من “عملية إنقاذ” حكومية أو تم تأميمها. ومع بداية استيعاب الناس لجدية الأزمة الاقتصادية، بدأ يتحضر داخل المجتمع مزاج لم نشهد له مثيلا منذ سنوات عديدة. هذا الصباح (26 شتنبر) وصلتنا أخبار انهيار بنك أمريكي آخر، هو واشنطن ميتول (Washington Mutual)، الذي أغلقته الحكومة الأمريكية. كان ذلك أكبر فشل لمصرف أمريكي لحد الآن، وبيعت أصوله المصرفية لبنك ج. ب. مورغان شيس (J. P. Morgan Chase) مقابل 1,9 مليار دولار. يمثل هذا تسونامي مالي مدمر والأسوء لم يأتي بعد.

يراجع الاقتصاديون تقديراتهم بشكل دائم حيث يخفضون سقفها. قبل ستة أشهر، قدر صندوق النقد الدولي خسائر القطاع المالي بأكثر من 1.000 مليار دولار (691 مليار أورو، 546 مليار جنيه استرليني) وتوقع تباطؤا حادا في الاقتصاد العالمي. انتقد أغلبية الاقتصاديين هذه التصريحات باعتبارها جد متشائمة. لكنهم الآن ينشدون أغنية مختلفة. وقد كتب دومينيك ستراوس خان في الفاينانشل تايمز ما يلي:

«لكن مع كون جزء كبير من الخسائر التي لم يتم حسابها بعد، ومع الأزمة المالية المحتدة الآن، صار من الواضح أنه فقط حل منهجي، قادر على مواجهة الانهيار الآني وقادر على مواجهة أسبابه، من بإمكانه أن يعطي للاقتصاد، في أمريكا وعلى الصعيد العالمي، إمكانية التحرك بشكل عادي.» (الفاينانشل تايمز،22 شتنبر 2008)

نعم إن الاقتصاد الأمريكي، في الواقع، لم يعد يعمل “بشكل عادي”. إنه في الحقيقة يتوقف، على الأقل فيما يخص وول ستريت. وبينما أنا بصدد كتابة هذه الأسطر شهدت أسواق المال في الولايات المتحدة شللا حقيقيا، في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه تأكيد خبر المنحة المالية الضخمة من المال العمومي والتي تأمل السلطات أن تؤدي إلى “إعادة الثقة”. الحقيقة هي أن اعتماد “السوق الحرة” المطلق، من أجل بقاءها، على المنح الضخمة التي تضخ فيها من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين دليل كاف لإظهار إفلاسها التام – بالمعنى الدقيق للكلمة. هذا هو الرد المفحم على الثرثرة بخصوص “اليد الخفية للسوق” وروح المقاولة الخاصة وما إلى ذلك. عند ساعة الحقيقة يتوجب على رجال الأعمال الشجعان والجريئون في كل من وول ستريت ولندن أن يتوجهوا مثل المتسولين، والقبعات في أيديهم، نحو الحكومة وطلب الضمان الاجتماعي. الفرق الوحيد بين هؤلاء وبين المتسولين العاديين هو أنهم يمتلكون الملايير ويتسولون بالتهديد.

ما الذي تبقى من “مظاهر الحالة الطبيعية” عندما تقوم حكومة جمهورية بقيادة متعصب للسوق الحرة بتأميم أبناك اسثمارية أمريكية كبرى؟ أو عندما تقدم وزارة المالية الأمريكية مساعدة ضخمة بحوالي تريليون دولار لتلك الأبناك؟ يوم الأحد تخلى بنكا مورغان ستانلي (Morgan Stanley) وغولدمان ساش (Goldman Sachs) عن محاولة البقاء كأبناك استثمارية مستقلة وتحولا إلى “شركات ادخار” من أجل اكتساب الحق في الوصول إلى الودائع المصرفية والتوصل الدائم بالمساعدات المالية من الاحتياطي الفدرالي. لقد كان القضاء على اثنين من أكبر المؤسسات في وول ستريت مؤشرا على الجدية الكبرى لهذه الأزمة. وقد بينت السرعة التي ذهب بها بنك مورغان ستانلي (Morgan Stanley) إلى آسيا بحثا عن الرساميل مدى تسارع انسحاب الثروة العالمية من الولايات المتحدة.

أعضاء الكونغرس متذبذبون ووزير المالية الأمريكي هنري بولسون (الذي يعتبره بعض المعلقين الرئيس الفعلي للولايات المتحدة) غاضب. وفي هذه الأثناء تواصل الأسواق سقوطها ولا أحد يمكنه إيقافها. هناك حجة أخرى يسمعها المرء تتكرر في الكونغرس: إنكم تطالبوننا بتقديم كل هذه الملايير بدون أية رقابة أو ضمانات. بالإضافة إلى واقع أن هذا يكافئ الأبناك على سوء الإدارة الفادح، من يمكنه أن يقول أن ذلك سيكون له أي تأثير في وقف انهيار الأسواق؟

هذا سؤال رائع، لا بولسون ولا بوش ولا أي شخص آخر يمتلك الإجابة عنه. من المسلي جدا أن نرى المدافعين السابقين عن قداسة السوق الحرة يتباكون الآن من أجل تدخل الحكومة لإنقاذ السوق من نفسه. لكنهم مدانون بمنطقهم الخاص، الذي ليس سوى منطق اقتصاد السوق الحرة المجنون. الأزمة المالية الحالية، التي توقعناها – نحن الماركسيون- منذ أمد بعيد، هي النتيجة المباشرة لمرحلة طويلة من المضاربات الجامحة، التي أنتجت أكبر فقاعة في التاريخ.

عندما أعلنت الحكومة الأمريكية، يوم الجمعة، خطة الإنقاذ بمبلغ 700 مليار دولار لصالح القطاع المالي، ابتهجت الأسواق. لكن المزاج تغير بعد ذلك إلى نقيضه، عندما أجل الكونغرس المصادقة على هذه المنحة الضخمة. لحدود يوم الاثنين، استمر الدولار في المقاومة بشكل يثير العجب أمام الاضطراب الذي يشهده وول ستريت. لكنه تراجع في النهاية أمام القلق بخصوص كلفة خطة الإنقاذ والحالة الهشة للنظام البنكي الأمريكي، مما أدى إلى رفع أسعار السلع المسعرة بالدولار الأمريكي. فقد الدولار 2% أمام سلة العملات الرئيسية، مع ارتفاع الأورو بـ 2,6% إلى أكثر من 1,48 دولار.

تميز سعر النفط بتذبذب محموم، حيث سجل حركات ارتفاع وهبوط حادة. ومع سقوط الدولار، هبط سعر الأسهم وقفز سعر النفط مجددا بعد تراجعه الأخير. يوم الاثنين، 22 شتنبر، شهدت الأسعار ارتفاعا بـ 17%، مما شكل أعلى ارتفاع للأسعار خلال يوم واحد تم تسجيله لحد الآن، وأعلى حتى من ذلك الذي تم تسجيله عند اجتياح العراق. لكن يوم الثلاثاء تراجعت أسعار النفط مرة أخرى بثلاثة دولارات ليصل إلى 106 دولار للبرميل وهناك أسباب وجيهة لنتوقع استمرار تراجع أسعار الطاقة. تعكس هذه التذبذبات الحادة بالتأكيد، من جهة حركة الدولار ومن جهة أخرى نشاط هؤلاء المتورطين في المضاربات. لحدود وقت قريب كان الرأسماليون يضاربون على سوق العقار. عندما انهار هذا السوق، وجهوا أنظارهم نحو حقول أخرى لاستغلالها، نحو أي شيء آخر يمكنه أن يكون قادرا على ذر الأرباح: النفط، الأعمال الفنية، الغذاء. لا يمكن التحكم في هذه المضاربات، بالرغم من جميع الشكاوى والدعوات من أجل التصحيح. إنها تشبه هيدرا: كلما قطعت لها رأسا تظهر لها عشرات الرؤوس.

الاشتراكية… للأغنياء

وكنتيجة للاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، بدأ الكثير من الناس يساءلون طبيعة النظام الاقتصادي الذي ينتج مثل هذه المآسي. عندما تصبح الدولة الرأسمالية نفسها مجبرة على تأميم المؤسسات المالية، تبدأ في الانتشار الفكرة القائلة: ما هي حاجتنا إلى الأبناك الخاصة والرأسماليين أصلا؟ لهذا السبب يتفادى السياسيون استعمال مصطلح تأميم كما يتفادى الشيطان الماء المقدس. إنهم يحاولون بأي ثمن أن يبحثوا عن وسائل يمكن للدولة من خلالها أن تقدم الرساميل للأبناك بشكل يغني عن التأميم. إنهم يجهدون من أجل اختراع أشكال لرأسمال يترك الملكية الخاصة والرقابة بين أيدي الخواص. لكنهم في النهاية مجبرون، ضدا على إرادتهم، على الاستيلاء على الأبناك المأزومة من أجل الحيلولة دون انهيارها. يعتبر هذا إدانة فاضحة للملكية الخاصة لقطاع اقتصادي حيوي.

بالرغم من أن هذا الواقع قد يبدو متناقضا، فإنه ليس من المصادفة أن البلد حيث يصرخ السياسيون بأعلى صوت ضد خطايا السوق وجشع رجال المال هو الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. بلد المقاولات الحرة، البلد الذي غرست فيه سيكولوجية الرأسمالية جذورا عميقة بين السكان، هو البلد الذي يشهد أشد ردة فعل ربما ضد الشركات الكبرى. تنعكس هذه الحقيقة من خلال خطابات السياسيين، وخاصة المرشحين للرئاسة. كما أن المرشح الجمهوري يستعمل لهجة أشد حتى من نظيره الديمقراطي. هذا لأنه يريد أن يفوز. يرى ماك كاين أن هناك ردة فعل قوية ضد الأجور الفاحشة التي يتلقاها مدراء الشركات الكبرى والمضاربات الفاحشة في وول ستريت، ولذالك فإنه يقول ما يريد أغلب الناس سماعه.

أليس غريبا أن أرباب الرأسمال في بنك بير ستيرنز كانوا يجمعون الثروات في نفس الوقت الذي كانوا يواصلون فيه تطبيق الاستراتيجيات التي أدت إلى الانهيار؟ ولماذا يتوجب على دافعي الضرائب الأمريكيين، الذي أغلبهم فقراء، أن يدفعوا 700 مليار دولار من أجل إنقاذ المؤسسات المالية الكبرى؟ باعتبار أن الحكومة الفدرالية كانت تعاني، يوم 30 شتنبر 2007، من عجز مالي يساوي 53.000 مليار دولار، أي ما يعادل 455.000 دولار لكل أسرة و175.000 دولار لكل شخص. وهذا العبئ يتصاعد كل عام بما قيمته 6.600 – 9.900 دولار لكل أمريكي. تمثل الرعاية الصحية 34.000 مليار دولار من هذا العجز ومن المتوقع أن يعاني صندوق الرعاية الصحية من انعدام الأموال خلال عشر سنوات. من المتوقع أن يسجل برنامج الضمان الاجتماعي رقما سالبا خلال حوالي عشر سنوات. أيا كان الشخص الذي سيكسب الانتخابات الرئاسية وأيا كان الحزب الذي يسيطر على الكونغرس فسيكون عليه أن يحكم عبر تطبيق اقتطاعات ضخمة على حساب مستوى المعيشة. نفس الرأسماليين الذين أخذوا ملايير الدولارات من الحكومة والاحتياطي الفدرالي يطالبون بالرقابة المشددة على الميزانية وتطبيق الاقتطاعات من النفقات الفدرالية وإصلاح (اقرأ: تخفيض) النفقات على الرعاية الصحية.

ليس هناك من أموال للرعاية الصحية أو للتعليم أو التقاعد للعجائز. لكن هناك الكثير من المال لكبريات الأبناك والقطط السمان. هذا التناقض الفاضح يصدم وعي ملايين الأمريكيين العاديين وسيكون له عواقب هائلة في المستقبل. أعباء الديون الثقيلة سترمى على كاهل الأجيال القادمة، التي سيكون عليها أن تدفع ثمنها الباهض على حساب تدهور مستوى عيشها والاقتطاعات في النفقات الاجتماعية. سوف يؤدي هذا حتما إلى تغير عميق في الوعي.

لم يضع الدرس بالنسبة للشعب الأمريكي. ليست هناك أموال لأطفال المدارس أو المرضى أو العجزة، لكن عندما يتعلق الأمر بكبريات الشركات (وليس هناك من شركات أكبر من الأبناك) تسارع الدولة إلى مد يد العون بشيك على بياض. ليس للفقير سوى الاحتقار من جانب إدارة بوش. ففي بلد الحريات لدى كل مواطن الحق في أن يصبح ثريا، وإذا أصر الناس على البقاء فقراء فتلك مشكلتهم! عليهم أن يظهروا شيئا من روح المبادرة وإلا فليلقوا بأنفسهم داخل مجاري المياه وليموتوا. هذه هي الرسالة الصارمة التي ينشرها المسيح الجمهوري عن السوق الحرة. لكن عندما يتعلق الأمر بالأثرياء فإن جورج وولكر بوش يظهر قلقا بالغا. «يجب أن يعطى أكثر لمن يملك، وستكون لديه الوفرة؛ لكن من لا يملك، فإنه حتى ما لديه يجب أن يسلب منه.»

إن جورج بوش، كما نعلم، يؤمن بقوة بالكتاب المقدس. لكن يمكن للمرء أن يشك في أن دوافعه للتدخل في الأزمة المالية ليست مرتبطة كليا بنزعة الإحسان المسيحية. إنها بالأحرى مرتبطة أكثر باليأس. لقد رأت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة هاوية تنفتح تحت قدميها وكانت مجبرة على أن تتخذ إجراءات طارئة في سعي مسعور لتفادي حدوث ركود عالمي. هذا هو السبب الذي جعل رئيسا متعصبا للسوق الحرة مجبرا على رمي سبعمائة مليار دولار من أموال دافعي الضرائب في أرصدة الأبناك.

استقبلت هذه المبادرة الرائعة فورا بتصفيقات الأسواق، محليا ودوليا. قالت مجموعة البلدان السبعة الأكثر تصنيعا أن أعضائها “يرحبون بشدة بالمبادرات الاستثنائية التي اتخذتها الولايات المتحدة”. إلا أن بلدانا أخرى قالت أنها لا ترى أية حاجة عاجلة لخلق صناديق خاصة لشراء أصول بئيسة. الرأسماليون الأوروبيون وغيرهم مسرورون بالجلوس وترك الأمريكيين يبذلون المجهودات. إذ أليسوا هم المسئولون بالدرجة الأولى عن خلق هذه الفوضى؟ نفس السؤال بدأ يطرح حتى داخل الولايات المتحدة، في كل الشوارع، وفي كابيتول هيل.

وفورا واجه الرئيس مشكلة الكونغرس الأمريكي. ليس هذا راجعا إلى كون رجال الكونغرس أناس أقل حرصا على بقاء الرأسمالية من قاطن البيت الأبيض. لكنهم أكثر حرصا على بقائهم هم. إنهم يحسون بتراكم ردود الفعل ضد الرأسمالية والسوق والأبناك وضد وول ستريت وكل ما يقومون به. إن ضخامة المنحة مسألة جلية للعيان. إنها تعني أنه سوف يؤخذ ما يعادل 9400 دولار من جيوب كل دافع ضرائب أمريكي وتودع في أرصدة نفس هؤلاء الناس الذين تسببوا بالدرجة الأولى في اندلاع الأزمة. تنفع هذه الحقيقة بشكل رائع في تركيز انتباه أعضاء الكونغرس، خاصة وأن الانتخابات ليست بعيدة.

طالب الديمقراطيون بجولة ثانية من الإجراءات من أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي، ممركزة حول زيادة الإنفاق على البنية التحتية، ودعم التدفئة المنزلية وربما المزيد من صكوك الخصم لصالح المستهلكين. لكن الإدارة والعديد من الجمهوريين يقاومون ذلك. تقديم المال للأبناك؟ طبعا! لكن تقديم المال للأمريكيين البسطاء؟ نحن آسفون- الخزانة فارغة! إن ذلك فوق طاقة هؤلاء الناس الطيبون في كابيتول هيل الذين يكرسون كل وقتهم لرعاية مصالح الوطن.

[وكما كان متوقعا عرض مرشح الرئاسة الديمقراطي، باراك أوباما، مخاوفه في خطاب دعا فيه إلى تحديث عملية التصحيح المالي مبنية على أساس أنشطة المؤسسات بدلا من تعريفهم كأبناك أو كسماسرة رهون. وقد قال: «لا يمكننا أن نوقع شيكا على بياض لواشنطن بدون أية رقابة أو محاسبة في الوقت، بينما انعدام الرقابة والمحاسبة هما بالدرجة الأولى اللذان أوصلانا إلى هذه الفوضى».

رد الفعل الأكثر غرابة ربما كان هو ذلك الذي أبداه المرشح الجمهوري، الذي لا يريد أن يتجاوزه غريمه (إذ أن الكلمات بخسة الثمن وهذه سنة انتخابات)، حيث قال: «هذه الترتيبات تزعجني بشكل عميق، لم يسبق أبدا في تاريخ أمتنا أن تركزت كل هذه القوة والمال في يد شخص واحد. عندما نتحدث عن حوالي تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب، لا يكون القول “ضع ثقتك في” كافيا». بل إن السيد ماك كاين صوت لصالح دعوة الديمقراطيين إلى فرض ضريبة سنوية تبلغ حوالي 400.000 دولار على المدراء التنفيذيين للشركات التي استفادت من خطة الإنقاذ بأموال عمومية. إن هذا يتناقض كليا مع موقف إدارة بوش، التي تصر على أن فرض الضريبة سوف لن يشجع الأبناك على المشاركة.

عمل كبار المسئولين الديمقراطيين في البرلمان ومجلس الشيوخ على توزيع اقتراحات تتضمن رقابة أشد، ومقترحات مختلفة من أجل السماح للحكومة بأخذ حصص في الشركات التي تشكل جزءا من المخطط والسماح للقضاء بكتابة الرهونات والحد من أجور المدراء التنفيذيين للبنوك التي تبيع الأصول للصندوق الحكومي. يقاوم السيد بولسون الموقف القائل بجعل أداء ثمن الأسهم أو نقلها إلى ملكية الحكومة كشرط مسبق لبيع الأصول للصندوق، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى أن البنوك التي على حافة الإفلاس هي وحدها من ستشارك في العملية.

وقد أدت هذه المواجهة إضافة إلى مطالبة الديمقراطيين بممارسة المزيد من الرقابة على الأموال المقدمة للأبناك، إلى حدوث جمود وتأخر تسبب في قلق الأسواق مرة أخرى. إذ من المفترض أنه عندما تأمر الأسواق، فيجب أن تطاع. ليس من المفترض في ممثلي الأمة المنتخبين أن يطرحوا أية أسئلة! وقد دعى الرئس بوش الكونغرس أن “يبقي فاتورة الإنقاذ مركزة على حل أزمة أسواقنا المالية”.

لكن الكونغرس يتعرض لضغط الرأي العام، الذي، كما رأينا، قد بدأ يصل نقطة الغليان. أعضاء الكونغرس يتعرضون يوميا لوابل من المكالمات الهاتفية والرسائل الالكترونية، التي يعبر من خلالها ناخبوهم عن غضبهم من هذه المنحة الفضائحية التي قدمت للأثرياء. إن تجاهل هذا المزاج ليس في مصلحتهم! ومن ثم فإنهم ترددوا في توقيع الصفقة. يلوم الكونغرس الإدارة على توريطهم في هذه الفوضى. والرئيس يلوم الكونغرس على عرقلة صفقة من المفترض فيها أن تنقد الاقتصاد الأمريكي من الانهيار (استعمل بوش هذا الكلمات بالضبط خلال خطاب متلفز غير مسبوق وجهه إلى الأمة).]]

يجتاح البرلمان مزاج سيء: رجال الكونغرس يتبادلون السباب ويكادون يتبادلون اللكمات. متى كان بالإمكان رؤية مثل هذه الأحداث في كابيتول هيل؟ ومتى كان بالإمكان رؤية الولايات المتحدة غارقة في حالة من الاضطراب الاقتصادي؟ ومتى كان بالإمكان رؤية الشعب الأمريكي في ظل هذه الحالة من التمرد والغضب؟ إن السبب وراء تصرف رجال الكونغرس هو كونهم يشعرون بلهيب النار وراء ظهورهم.

أي شيء يقومون به الآن سيكون خاطئا. فإذا ما وقعوا الصفقة فسيكسبون كره ملايين الأمريكيين العاديين. قالت سيدة، تم استجوابها الليلة الماضية من طرف التلفزيون البريطاني، في سياق سؤالها عن موقفها من خطة الانقاذ: «إنني عائدة للتو من وردية عمل من إحدى عشرة ساعة وإنني أعمل 60 ساعة في الأسبوع. وهم يريدون الآن أن يأخذوا 2.300 دولار من أجرتي من أجل إعطائها للأبناك!» إن هذا مثال عن موقف ملايين أبناء الشعب العاديين في الولايات المتحدة. لكن إذا ما هم رفضوا التوقيع، فإن ذلك سيتسبب في المزيد من الانهيارات الحادة في أسواق الأسهم في الولايات المتحدة، مما يهدد بحدوث انهيار كامل على شاكلة 1929. إنهم، بعبارة أخرى، عالقون بين المطرقة والسندان.

تشاؤم البورجوازية

تعاني البرجوازية من نوبات كآبة هوسية دورية، وتنتقل بسرعة من التفاؤل المتطرف إلى أعمق أعماق التشاؤم. وعلى جانبي المحيط الأطلسي، حيث ساد في السابق “حماس غير عقلاني”، نجد الآن سيادة الغم والحزن. لقد كان الأمر هكذا دائما، فالبرجوازية تتذبذب دائما بين التشاؤم والتفاؤل. فتارة تكون الحفلة في أوجها وتتحقق ثروات هائلة، وتارة أخرى ينقلب الوضع كله ويعم البؤس. وعندما يحدث الانهيار في النهاية يشبه الأمر صباح ليلة حفلة ماجنة. ففي الليلة السابقة كان الناس يسكرون بإفراط، لكن الآن ومع إشراقة نور الصباح البارد تكون القصة مختلفة جدا. حيث يدركون بألم مدى إفراطهم في الليلة الماضية. فيقسمون أغلظ الأيمان بأنهم لن يقربوا الخمور القوية مجددا، وهم صادقون فيما يقولون، إلى حين الحفلة القادمة.

ليس الانهيار المخزي للفقاعة المضارباتية الأخيرة استثناء عن القاعدة العامة. لا يتميز سوى بحدته التي لا تعكس سوى علو القمة التي يسقطون الآن منها. لقد كان ببساطة أضخم موجة ازدهار مضارباتي (أضخم فقاعة) في التاريخ. لقد كانت أكبر بكثير من الازدهار الذي سبق انهيار وول ستريت. إلا أنه وبالرغم من الحدة الواضحة للأزمة فإن الاقتصاديين البرجوازيين لا يزالون يحاولون طمأنة أنفسهم بفكرة أن الأشياء كانت ستكون أسوء. وقد علقت الفايننشل تايمز مؤخرا قائلة:

«بدأ الكساد الأعظم قبل أقل من 80 سنة، لكننا في قرن مختلف. ولا سواء كانت هذه أسوء أزمة سيواجهها العالم من الآن وحتى 2099 أم لا، فإن حقيقة أنه لم يقع أي حدث أسوء من الكساد ما بين سنوات الثلاثينات والآن هو في حد ذاته شيء جيد.» إن هذا التعليق مهم من ناحيتين: فنفس الأشخاص الذين ضلوا طيلة سنوات ينكرون أية إمكانية لتكرار مثل ما حصل سنة 1929 والأزمة الكبرى، هاهم الآن يقولون، دون خجل، أن ذلك ليس ممكنا فقط، بل أنه جيد لكونه لم يحدث… قبل الآن.

كتب دومينيك ستراوس خان قائلا: « […] ولأنه لم يحدث، على الأقل في الوقت الحالي، للاقتصاد العام، أي بداية كساد اقتصادي حاد. ربما كان عدم حدوث هذا الأخير هو الذي طمأن العديد وجعلهم يرون في انفجار الفقاعة العقارية مجرد عملية تصحيح، ومشاكل أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر الأمريكية (sub prime mortgage) مجرد سوء حظ وفي فشل مؤسسات مالية هامة مجرد أعراض جانبية.» (المصدر نفسه)

انهيار الأسعار الذي يحدث خلال الأزمة يعمل فقط على تعويض التضخم السابق. بهذا المعنى يمكن للمرء أن يتحدث عن “عملية تصحيح”. لقد سبق لنا أن أشرنا قبل وقت طويل إلى كيف يعمل الاقتصاديون البرجوازيون دائما على تغيير المصطلحات في وصف الانهيار الاقتصادي من أجل جعله يبدو أقل خطورة مما هو عليه في الواقع. ففي مرة استعملوا عبارة هلع، ثم أزمة، ثم كساد، ثم ركود، وها هم الآن وصلوا إلى عبارة تصحيح. فقبل كل شيء إذا ما نحن آمنا بالقدرات الشفائية العجائبية للسوق، الذي يستطيع بقدرة سحرية أن ينظم نفسه دون التدخل البشري الواعي، كيف يمكننا أن نرفض الإيمان بأن السوق “يصحح” نفسه؟

وقد كتبنا حول هذا الموضوع في World Perspectives 2008، ما يلي:

«يمكن حتى للزلزال أن يعتبر “تصحيحا” ضروريا، لا يعمل سوى على إعادة تشكيل القشرة الأرضية. ففي النهاية كل شيء يعود إلى طبيعته وتواصل الحياة طريقها كما في السابق. لكن هذا التحليل المطمئن لا يأخذ بعين الاعتبار الحجم الرهيب من الخسائر التي يسببها الزلزال: حيث يتسبب في اختفاء قرى من على وجه الأرض، ويقتلع الأشجار ويدمر المحاصيل ويخلف آلاف القتلى والجرحى. هذا علاوة على أن الحياة لا تعود إلى طبيعتها بسهولة بعد كل زلزال. إذا أن بعض الزلازل يكون مدمرا ويترك الكثير من معالم الدمار التي يستمر مفعولها طيلة العديد من السنوات.»

إن هذه الأسطر تصف بصدق نتائج ذلك “التصحيح”

دكتاتورية الرأسمال المالي

المرحلة التي نعيشها هي مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. ومن مميزات هذه المرحلة السيطرة المطلقة للرأسمال المالي. وقد تطورت هذه السيطرة في الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل أكبر من أي بلد متقدم آخر. بريطانيا، التي كانت ورشة العالم، تحولت إلى اقتصاد ريعي طفيلي، ينتج أقل ويسيطر عليه القطاع المالي والخدماتي. ولحدود الفترة الأخيرة كان هذا الواقع يصور باعتباره شيئا إيجابيا، سيحمي بريطانيا من اضطرابات الاقتصاد العالمي. لكن العكس هو الصحيح. فبسبب تقليدها الذليل للنموذج الأمريكي، صارت بريطانيا تنحدر نحو ركود اقتصادي مثل الولايات المتحدة ومن جد المحتمل أن تكون الأكثر تضررا. ومثل دودة طفيلية تتضخم على حساب الجسم المضيف، تضخم القطاع المالي بشكل كبير جدا نسبة إلى الاقتصاد، منهكا قواه ومهددا إياه بالدمار كليا.

من المسلم به أن كل من يصعد إلى أعلى يجب أن ينزل. ولعدة سنوات بدا الاقتصاد الأمريكي وكأنه يخرق قوانين الجاذبية الاقتصادية. والآن يجب دفع الثمن. لقد بدأ السقوط الآن وهو يسجل سرعة قياسية بسبب الارتفاعات الهائلة التي وصلتها المضاربات في القطاع العقاري خلال المرحلة التي سبقته. وقد وصل إلى سرعة أكبر بكثير من سرعة السقوط الذي عرفته أثمان المنازل خلال مرحلة الأزمة الكبرى، فخلال الربع الأول من سنة 2008 سقطت أسعار المنازل في الولايات المتحدة رسميا بـ 14,1%. بينما خلال سنة 1932، وهي السنة التي سجل فيها الانهيار أدنى مستوياته، سقطت أسعار المنازل بـ 10,5%. والجدير بالذكر هو أن هذه الأرقام لا تعكس بصدق خطورة الموقف. يقول بعض الاقتصاديين أن سقوط أسعار المنازل خلال الربع الأول من السنة سجل رقم 16% في الواقع. وهو أبعد من أن يكون قد توقف.

هذا يعني أنه لن يكون لتلك المبالغ الضخمة التي قدمت للأبناك أي تأثير في الحيلولة دون السقوط، أو في أفضل الحالات لن يكون لها سوى تأثير ظرفي قبل حدوث سقوط أكبر وأسرع. هذا هو منطق السوق الذي لا يتبع سوى قوانينه الخاصة. إن ما يسمى بخطة إعادة الاستقرار ليست كذلك سوى بالاسم فقط. وليست كل تلك الأقاويل عن إدخال النظام إلى الأسواق سوى ترهات فارغة. إن الاقتصاد الرأسمالي اقتصاد فوضوي بطبيعته. لا يمكن أن يكون مخططا ولا منظما. ومحاولة إدخال الاستقرار إلى القطاع المالي عبر ضخ مبالغ ضخمة من الأموال لن تؤدي إلا إلى زيادة ثروات الأثرياء. لكن لن يكون لها أي تأثير دائم على السوق.

وقاحة أصحاب الأبناك مثيرة للعجب. إنهم يطالبون الحكومة أن تشتري منهم ديونهم الميئوس منها، في نفس الوقت الذي يواصلون فيه التشبث بالأصول المربحة. لا أحد يعلم ما هي القيمة الحقيقية لهذه الأصول. تقول الأمثال أنه لا يجب أبدا شراء البيض دون النظر داخل السلة. إنها نصيحة وجيهة، لكن الحكومة ستقدم مبالغ هائلة من الأموال للبرجوازيين دون أن تنظر داخل السلة. إن الأزمة التي يعرفها النظام البنكي هي نتيجة لعملية خداع كبرى شارك فيها جميع أصحاب الأبناك بسرور كبير طيلة العقدين الأخيرين. لقد جعلت منهم أشخاصا فاحشي الثراء لكنها خلفت الآن مبالغ هائلة من الديون والرساميل الوهمية في حسابات المؤسسات المالية. كيف يمكن حل هذه المشكلة البسيطة؟ تلك مسألة سهلة! إجعل دافعي الضرائب يدفعون الفاتورة. إدفع الحكومة إلى خلق وكالة لشراء هذه الأصول وتحتفظ بها إلى حين أن تصبح “ناضجة” ويمكن إعادة بيعها مجددا للقطاع الخاص. هذا يعني تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح، أو إذا استعملنا عبارة غور فيدال الرائعة، الاشتراكية للأغنياء واقتصاد السوق الحرة للفقراء.

يدّعي الرأسماليون أنهم يقدمون هم أيضا التضحيات، لكن ما يقصدونه بقولهم ذاك هو أنهم يضحون بجزء يسير من أرباحهم المتضخمة، بينما يضحي العمال بمستوى عيشهم ومنازلهم. يصرخ أصحاب الأبناك من الألم فتأتي الحكومة مسرعة وفي يدها دفتر شيكات موقعة على بياض. يطالب أصحاب الأبناك الحكومة بـ “توفير السيولة”، لكن المشكلة هي أن الحكومة لا تمتلك أية سيولة. لا يمكنها أن تحصل على الأموال سوى من الضرائب. لكن فرض الضرائب يخفض الاستهلاك، المنخفض أصلا في الولايات المتحدة ويواصل الانخفاض. يمكن لهذا الإجراء أن يقلل مؤقتا من “معاناة” الأثرياء، لكن فقط على حساب مفاقمة معاناة ملايين الأمريكيين العاديين. لكن هذا لا يشكل في حد ذاته مدعاة للقلق طبعا، على اعتبار أنه من واجب الأمريكيين الوطنيين أن يعانوا في سبيل قضية السوق الحرة العظيمة. لكن مع الأسف سيكون لذلك تأثيرات أشد خطورة على الاقتصاد.

المزيد من تراجع الطلب سيؤدي إلى الرفع من معدلات البطالة. ستتعرض الشركات للإفلاس. سوف يعجز المزيد من الناس عن أداء ديونهم العقارية وعجز بطاقات الائتمان الخاصة بهم. بعبارة أخرى سوف تؤدي إلى تعميق الأزمة وسيجعلها أصعب على الحل. هذا علاوة على أن الولايات المتحدة قد تحولت خلال السنوات الأخيرة من أكبر بلد دائن في العالم إلى أكبر مدين. وسعي الحكومة نحو التكفل بالأصول الميئوس منها وضخ الرساميل في المؤسسات المالية سوف يفاقم بشكل هائل هذه المديونية. سوف يؤدي هذا حتما إلى المزيد من سقوط قيمة الدولار مقارنة مع العملات الأخرى. وهو ما سوف يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات في أسواق المال العالمية.

من المفترض في الأبناك المركزية أن تحول دون الهرولة نحو الأبناك والمؤسسات المالية من خلال طمأنة المودعين بأن الودائع البنكية موجودة في أمان وعبر توفير السيولة للمؤسسات المالية. لكن هناك حدود لقدرات الأبناك المركزية، وقد وصلت إلى هذه الحدود. لقد قامت لحد الآن ربما بأكثر ما يمكنها أن تقوم به. وفي حالة حدوث أزمات بنكية جديدة ستكون عاجزة عن التحرك. وبما أنه ليس لأي كان أية فكرة عن كم لا يزال الدين يسمم الاقتصاد العالمي، فإن مثل هذه الأزمات حتمية خلال المرحلة المقبلة. عاجلا أو آجلا ستنتهي بسقوط هذا البنك أو ذاك من البنوك الكبرى، الشيء الذي يمكنه أن يسبب صدمة كبرى للاقتصاد العالمي، مثل تلك التي سببها انهيار اكبر بنك نمساوي (Kredit-Anstalt) سنة 1931. لقد حصل ذلك بعد سنتين ونصف من انهيار وول ستريت في الولايات المتحدة وسجل بداية الانهيار المالي في أوروبا الوسطى وأبعد منها. من الممكن جدا أن نشهد حدوث شيء مماثل خلال المرحلة المقبلة.

ماركس والرأسمال الوهمي

ليس نقص المال هو سبب الأزمة، بل العكس تماما هو الصحيح، فالأزمة هي التي تسبب نقص المال. إن الاقتصاديين الرأسماليين بعقليتهم المصرفية يخلطون السبب بالنتيجة، والمظهر بالجوهر. عندما يدخل الاقتصاد في أزمة، تتقلص القروض ويطالب الناس بالمال عدا ونقدا بدلا عنها. هذه نتيجة الأزمة، لكنها بدورها تصبح سببا لها، حيث تؤدي إلى انخفاض الطلب وتخلق دورة لولبية نازلة.

يصر أصحاب الأبناك وأصدقائهم في الحكومة على أن سبب الأزمة هو واقع أن النظام المالي يمتلك رساميل قليلة جد. إن هذا موقف غريب. فخلال العقدين الأخيرين كان هناك كرنفال كبير لربح الأموال حقق خلاله أصحاب الأبناك أرباحا فاحشة. والآن يزعمون أنهم لا يمتلكون ما يكفي من الرساميل! في الحقيقة كانت هناك كمية ضخمة من الرأسمال المقترض في التداول، خلال فترة الازدهار، وهذه الوفرة الكبيرة في الرساميل في حد ذاتها تبين حدود الانتاج الرأسمالي. كانت هناك كميات ضخمة من الرساميل متوفرة للمضاربات لم تكن تجد منفذا وكان على البرجوازيين أن يجدوا طرقا أخرى لاستعمالها.

سبق لماركس أن أشار منذ وقت بعيد إلى أن حلم البرجوازية الأمثل هو تحقيق المال من المال، دون الحاجة إلى الدخول عبر مسلسل الإنتاج المضني. وقد بدا خلال المرحلة الأخيرة أنهم تمكنوا من تحقيق هذه الفكرة (ما عدا الصين حيث كان هناك تطور حقيقي لقوى الإنتاج). في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وإيرلندا والعديد من البلدان الأخرى، استثمرت الأبناك تريليونات الدولارات في المضاربات، وخاصة في قطاع السكن. كانت هذه هي القاعدة التي نمت على أساسها فضيحة أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر وازدهرت، معممة لمبالغ لا يمكن تصورها من الرساميل الوهمية.

حتى خلال زمن ماركس كانت هناك مبالغ هائلة من الرساميل قيد التداول؛ هذه الرساميل هي من تشكل قاعدة الرأسمال الوهمي. في تلك الأيام كان هناك احتيال القروض. إلا أنه إذا ما قورن بالوضع الحالي، تصير كل مضاربات الماضي تافهة. إن الكمية العامة للمضاربات على الصعيد العالمي مذهلة. دعونا نأخذ مثالا واحدا فقط: شركات مبادلة الديون. يسمح هذا السوق لطرفين أن يراهنا على عجز شركة ما عن أداء دينها. وقد نما هذا السوق إلى حوالي 90 تريليون دولار من الكميات المؤمنة نظريا. هذا يعني ربما حوالي أكثر من ضعف مجمل القروض في العالم. لكن العقود غير موجودة في أي مكان ما عدا دفاتر الشركاء. لا أحد يعلم الحجم الحقيقي للمضاربات، التي تعرض الاقتصاد العالمي لمخاطر هائلة. هذا يفسر الهلع السائد في وول ستريت وفي البيت الأبيض. إنهم يخشون، عن حق، أن تؤدي أية صدمة قوية إلى تحطيم كل بنيان سوق المال الدولي المهتز، الشيء الذي له عواقب مجهولة.

حتى خلال القرن التاسع عشر، وخلال أوج الازدهار، عندما كانت القروض سهلة وكانت الثقة في ارتفاع، كانت أغلبية المضاربات تتم بدون مال حقيقي. كان هناك مال وفير في بداية كل دورة ومعدل الفائدة منخفض. انخفاض معدل الفائدة يرفع من أرباح الشركات في بداية الدورة ويشجع النمو. لاحقا يرتفع معدل الفائدة، خلال فترة الازدهار، ليصل إلى نسبته المتوسطة. يعرف الطلب على القروض ارتفاعا ومن تم تميل معدلات الفائدة إلى الارتفاع خلال أوج الازدهار. لكن خلال الازدهار الأخير لم يحدث هذا السيناريو.

خلال السنوات الأخيرة اتبع الاحتياطي الفدرالي سياسة تهدف عن قصد إلى إبقاء معدلات الفائدة منخفضة (بل خلال مرحلة معينة كانت سلبية في الواقع بالنظر إلى معدل التضخم). يعتبر هذا التصرف تصرفا غير مسئول من وجهة نظر رأسمالية أرثوذوكسية. أدى إلى خلق فقاعة العقارات ووضعت بالتالي الأسس لحدوث الأزمة الحالية. لكن طالما كانت تحقق أرباح هائلة وكان المستثمرون سعداء، لا أحد كان يهتم. لقد انخرطوا جميعا في كرنفال مجنون لربح الأموال. حتى أكثر أصحاب الأبناك وقارا وأفضل الاقتصاديين ثقافة انخرطوا في الرقص على أنغام: “كل واشرب وكن سعيدا، فغدا سنموت!”

السبب الذي يجعلهم يشتكون اليوم من عدم توفرهم على ما يكفي من الرأسمال هو كون جزء كبير من أصولهم وهمي، نتيجة لعملية احتيال غير مسبوقة في القطاع المالي. طالما كان الازدهار مستمرا، لا أحد منهم كان يهتم. لكن الآن ومع انتهاء فترة الازدهار، صارت كل تلك الأصول موضع شك وتدقيق. أصحاب الأبناك، الذين كانوا في الأمس مستعدين لشراء كميات كبيرة من الدين من بعضهم البعض، لم يعودوا مستعدين لعمل ذلك. الارتياب والشك صارا عامين. واستبدل التفاؤل الكبير السابق بموقف البخل أثناء القرض والاقتراض. كل النظام البنكي، الذي يعتمد عليه دوران الرأسمال، صار يتجه نحو الشلل.

ما لم تتم إزالة جميع الأصول السيئة وإلى أن يتم ذلك، سوف تبقى العديد من المؤسسات تشكو من نقص الرأسمال الكافي لتوفير القروض للاقتصاد. وقد سبق لماركس أن وصف هذه المرحلة من الدورة الاقتصادية، حيث قال:

«من الواضح أن هناك نقص في وسائل الأداء خلال مرحلة الأزمة. قابلية صكوك التبادل للتحويل تحل محل السلع نفسها، وخلال هذه الأوقات بالضبط حيث تشتغل نسبة أكبر من الشركات بواسطة القروض تحديدا. يمكن للتشريعات البنكية الجاهلة والخاطئة، من قبيل تشريع 1844-1845، أن تزيد من مفاقمة الأزمة المالية. لكن ليس هناك من تشريع بنكي بإمكانه القضاء على الأزمة.

«في ظل نظام إنتاج تعتمد فيه كل استمرارية العملية الإنتاجية على القروض، يصير حدوث الأزمة مسألة حتمية، التسارع لوسائل الأداء، عندما تتوقف القروض فجأة ويصبح الدفع عدا ونقدا هو الوحيد من له الصلاحية. لذا تبدو الأزمة كلها، للوهلة الأولى، وكأنها فقط أزمة قروض ومال. وهي في الحقيقة مجرد مسألة قابلية تحويل حوالات التبادل إلى مال. لكن أغلبية هذه الحوالات تمثل عمليات بيع وشراء حقيقية، والتي يعتبر امتدادها إلى ما أبعد من حاجيات المجتمع، قبل كل شيء، أساس الأزمة بمجملها. وفي الوقت نفسه، تمثل كمية هائلة من حوالات التبادل هذه مجرد احتيال مفضوح، سرعان ما يختفى بمجرد تعرضه لضوء النهار مثل فقاعة صابون؛ إضافة إلى مضاربات فاشلة برأسمال أناس آخرين؛ وأخيرا رأسمال من سلع منخفضة القيمة أو غير قابلة للبيع مطلقا، أو عائدات لا يمكن أبدا تحقيقها مرة أخرى. لا يمكن طبعا لهذا النظام الاصطناعي القائم على التوسيع الإجباري لمسلسل الإنتاج، أن يشفى من خلال قيام بعض البنوك، من قبيل بنك إنجلترا، بإعطاء هؤلاء النصابين، مقابل أوراقهم، الرأسمال الذي ينقصهم وشراء كل السلع المنخفضة القيمة مقابل قيمتها الإسمية السابقة. وعلى سبيل المصادفة يبدو كل شيء مشوها هنا، طالما أنه في هذا العالم الورقي يختفي السعر الحقيقي وقاعدته الحقيقية، وتظهر فقط السبيكة والعملة المعدنية والكمبيالات والحوالات والسندات المالية. ويصبح هذا التشوه واضحا بشكل خاص في المراكز حيث تتركز كل معاملات البلد المالية، مثل لندن؛ تبدو كل العملية غير مفهومة؛ وهي أقل غموضا في مراكز الإنتاج.» (كارل ماركس، الرأسمال، المجلد 3، الفصل 30، الرأسمال المالي والرأسمال الحقيقي)

على الرأسماليين الآن امتصاص كل هذه الرساميل الوهمية من النظام. مثل رجل تسمم جسده، أو مثل مدمن على المخدرات يصارع ضد الآثار المرضية لإدمانه، يتوجب عليهم أن يطردوا السم خارج الجسد أو سيتعرضون للفناء. إلا أن هذه عملية مؤلمة وتخلق مخاطر جديدة للجسد. عندما ينكمش النظام وتتقلص القروض، يسحب الرأسماليون قروضهم من التداول. وهؤلاء الذين يعجزون عن الأداء يفلسون. تتصاعد البطالة نتيجة لذلك، وهذا بدوره يقلص الطلب، متسببا في حالات إفلاس جديدة وديون جديدة غير قابلة للاسترجاع. وهكذا فإن جميع العوامل التي ساعدت على تطوير الاقتصاد في المرحلة السابقة تتحول إلى نقيضها.

إفلاس الاقتصاديين البورجوازيين

لقد تشبث الاقتصاديون البورجوازيون بإصرار بالوهم القديم القائل بأن حدوث انهيار اقتصادي عالمي مسألة مستحيلة، وبأنهم تعلموا من دروس الماضي (بالضبط كما يتعلم السكير بعد كل صداع بسبب الكحول). قالوا أن الأزمة الاقتصادية ستبقى محصورة في الولايات المتحدة، وأن الاقتصاد الأمريكي ’سينفصل‘ بطريقة ما عن بقية العالم (مناقضين بهذا القول كل ما سبق أن قالوه عن العولمة)؛ وأن أوروبا والصين سيصبحان القوى المحركة الجديدة للاقتصاد العالمي وما إلى ذلك.

كم تبدو هذه الإدعاءات سخيفة اليوم! أسعار العقار تنهار على الصعيد العالمي. الاقتصاد العالمي يتباطأ. الاقتصاديات الأوروبية بدأت تتباطأ بشكل كبير، وبالنظر إلى حتمية إفلاس المزيد من الأبناك والنقص في الرساميل والقروض، سوف يواصل هذا المسلسل طريقه. صحيح أن ما يسمى بالاقتصاديات الصاعدة لا تزال تواصل نموها، لكن من غير الممكن أن تبقى بمنأى عن الأزمة العامة مع توقف تدفق الرساميل وتراجع أسعار السلع. بالطبع ستحدث هذه العملية مع مرور الوقت وبشكل غير مستو. بعض البلدان ستواجه الأزمة عاجلا، بينما أخرى ستواجهها آجلا. لكنهم في النهاية سوف يجَرٌُون جميعا إلى أتونها.

ليس من المهم في أي بلد ستبدأ الأزمة. الأمر المهم هو أن الأزمة، في ظل الظروف المعاصرة، ستنتقل بشكل حتمي من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وفي حالتنا هذه بدأت الأزمة في الولايات المتحدة، البلد الذي دفع جنون المضاربات إلى أقصى حدوده. لكن بعد ذلك فورا، وضدا على توقعات الاقتصاديين جميعها، انتقلت الأزمة إلى أيرلندا وإسبانيا وبريطانيا وكل أوروبا. وسوف تصل انعكاساتها إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. سوف تسقط البلدان الواحدة منها بعد الأخرى مثل حجارة الدومينو. ولن تنجو الصين بدورها، بالرغم من أنها لا تزال لحدود اللحظة تواصل التقدم.

خلال الأزمة يجد الرأسماليون أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى اتخاذ إجراءات استثنائية من أجل استعادة جزء من سوق متقلص. يلجئون إلى تخفيض الأسعار وسياسة الإغراق وغيرها من الأساليب من أجل التغلب على منافسيهم. وهم بقيامهم بذلك يعملون على مفاقمة الأزمة من خلال إثارتهم لدورة انكماشية لولبية نازلة. حيث يعمل الناس على تأجيل مشترياتهم انتظارا لأسعار أكثر انخفاضا، وبالتالي يدفعون الأسعار إلى المزيد من الانخفاض. نرى هذه الظاهرة بوضوح أكبر في سوق العقار.

تنتشر العدوى من بلد إلى آخر مثل وباء عصي على التحكم. سوف يبدو واضحا أن جميع البلدان قد صدرت بشكل مفرط (أي أنتجت بشكل مفرط) وكذلك استوردت بشكل مفرط (أفرطت في التجارة). (انظر كتاب الرأسمال، المجلد الثالث، الصفحة 181 [من الطبعة الانجليزية]) سوف يبدو بوضوح أن كل واحدة من تلك البلدان قد اقترضت بشكل مفرط وراكمت نيران التضخم والمضاربات، التي يجب الآن أن يتم إطفائها، مهما كان الثمن. أي أنها ليست مسألة خاصة بهذا البلد أو ذاك، ولا هذا البنك أو ذاك أو هذا المضارب أو ذاك، بل هي قضية النظام نفسه. صحيح أنه ليس هناك من كساد دائم إلى ما لانهاية. إذ على المدى البعيد سوف يتم تحقيق توازن جديد، وستستقر الأسعار وستستعاد الربحية وستبدأ دورة جديدة. لكن هذا ليس في المدى المنظور. فالسقوط لم ينتهي بعد، إنه قد بدأ للتو. ولا أحد يعلم كم من الوقت سيستمر. وعلى كل حال، كما سبق لكينز أن قال: “على المدى البعيد سنكون جميعنا في عداد الأموات”

من السهل أن يكون المرء حكيما بعد وقوع الحدث. الاقتصاديون البرجوازيون بارعون في توقع الأشياء بعد أن تكون قد حدثت بالفعل. إنهم يشبهون في هذا مؤلفي كتاب العهد القديم، الذين توقعوا بدقة فائقة أحداثا تاريخية كانت قد حدثت قبل عدة مئات من السنين. الناس السذج، من أمثال شهود يهوه، يتأثرون بشدة بهذا، حيث يستشهدون به كدليل على قدسية الكتاب المقدس. بينما يقابل الآخرون، من أصحاب الرؤية الأكثر علمية والأكثر نقدية، هذه ’التنبؤات‘ بالقهقهات العالية. نفس الأشخاص الذين سخروا منا، نحن الماركسيون، وأكدوا لنا أنه لن تكون هناك أية أزمات، هاهم الآن ينوحون ويفركون أياديهم. يخبروننا أننا نعيش أسوء أزمة منذ الثلاثينات، ويأملون أن لا يلاحظ أي أحد التناقض الفاضح بين ما يقولونه اليوم وبين ما كانوا يقولونه بالأمس فقط.

الحقيقة البسيطة هي ما يلي: إن الاقتصاديين البرجوازيين لم يتعلموا أي شيء من العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، ولم يتوقعوا أي شيء ولم يستبقوا أي شيء. لقد كانوا عاجزين عن أن يتوقعوا لا سواء فترات الازدهار ولا فترات الركود. لقد قضوا عقودا وهم يحاولون إقناعنا أن الدورة الاقتصادية قد اختفت، وأن البطالة الجماهيرية صارت مسألة من الماضي، وأن وحش التضخم قد تم تدجينه، وهكذا دواليك. جميع السياسيين الإصلاحيين قبلوا، بطبيعة الحال، هذا الهراء وكأنه حقيقة ثابتة. في بريطانيا افتخر غوردون براون قائلا: “إن دورة الازدهار والانحسار الاقتصادية قد اختفت”. وقد ترك الآن لكي يبتلع كلماته بينما يغرق الاقتصاد البريطاني في الركود. كل هذا يبين أن الاقتصاديين البرجوازيين لا يصلحون لشيء ما عدا تبرير نظام منحط ومفلس.

ما الذي توقعناه نحن

دعونا نقارن منظورات الماركسيين بمنظورات البرجوازيين. فعلى طرف النقيض مع الاقتصاديين البرجوازيين الذين ارتكبوا خطأ تصديق دعايتهم الخاصة، شرح التيار الماركسي حقيقة الوضع. ففي وثيقة: On a Knife’s Edge: Perspectives for the world economy الذي كتب سنة 1999، أكدنا ما يلي:

«في الماضي كان يقال أن دور الاحتياطي الفدرالي هو أن يضمن التوازنات عندما تكون الحفلة في أوجها. لكن الوضع لم يعد كذلك. ففي نفس الوقت الذي كان فيه آلان غرينسبان يعلن تأييده للاستقامة والتقشف، كان مستعدا لتقبل خلق أكبر عاصفة مضاربات مالية في التاريخ، بالرغم من أنه يعلم بالمخاطر المصاحبة لها. إنه يشبه الإمبراطور نيرون الذي كان يتسلى بينما روما تحترق. من خلال رفعه لمعدل الفائدة بربع نقطة لم يعمل، في الواقع، سوى على صب الزيت على نار المضاربات. وبهذه الطريقة تبين صدق الحكمة القديمة القائلة: “من تريد الآلهة تدميره تجعله مجنونا”.»

ونقرأ في نفس الوثيقة:

«العائقان الرئيسيان أمام تطور القوى المنتجة في العصر الحالي هما׃ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية. لكن الرأسمالية تتمكن لفترة محددة من الالتفاف حول هذه الحدود عبر سلسلة من الإجراءات، من قبيل تطوير التجارة العالمية ونشر القروض. لقد سبق لماركس أن شرح منذ وقت بعيد دور القروض في النظام الرأسمالي. إنها وسيلة يتمكن من خلالها السوق من الوصول إلى ما أبعد من حدوده الطبيعية. وبالطريقة نفسها، يمكن لتوسيع مجال التجارة العالمية أن يوفر مخرجا لمدة معينة، لكن فقط على حساب تحضير الشروط لحدوث أزمات أكثر كارثية في المستقبل:

«”الإنتاج الرأسمالي منشغل دائما بمحاولة التغلب على هذه الحدود الملازمة له، لكنه يتغلب عليها فقط بوسائل تضع هي أيضا نفس الحدود في طريقه بأحجام أكثر ضخامة.

«”إن الحدود الحقيقية التي تقف في وجه الإنتاج الرأسمالي هي الرأسمال نفسه” (ماركس، الرأسمال، المجلد 3، 15؛ 2-3 [من الطبعة الإنجليزية])

«تعتمد دورة الإنتاج الرأسمالية، من بين ما تعتمد عليه، على القروض. إن قوة إحدى حلقات السلسلة رهينة بقوة الحلقة الأخرى. يمكن للسلسلة أن تنقطع في العديد من النقاط. عاجلا أو آجلا سيتوجب أداء الدين نقدا. غالبا ما يتم نسيان هذه الحقيقة من طرف الذين اقترضوا خلال فترة الازدهار الرأسمالي. في المرحلة الأولى للتوسع الرأسمالي، تلعب القروض دور محفز للإنتاج: “يتقوى تطور عملية الإنتاج بفضل القروض، وتؤدي القروض إلى توسع العمليات الصناعية والتجارية” (ماركس، الرأسمال، المجلد 3، ص: 470 [الطبعة الإنجليزية])

«إلا أن هذا ليس سوى أحد وجوه العملة. التوسع السريع للقروض والاستدانة يدفعان الأسواق إلى ما أبعد من حدودها الطبيعية، لكن، وعند نقطة معينة، تعود هذه إلى وضعها الأصلي. خلال الازدهار، تبدو القروض وكأنها بدون نهاية. لكن وبمجرد ما تبدأ الأزمة، ينقشع الوهم. العائدات تتأخر والسلع لا تباع في الأسواق، وتنهار الأسعار. إن تطور السوق العالمية لا يقضي على هذه العملية الجوهرية، بل يعطيها فقط إطارا ضخما جدا لتعبر فيه عن نفسها. إن تراكم الديون في آخر المطاف يجعل الأزمة أكثر عمقا وأطول عمرا مما كانت ستكون عليه في حالة أخرى. تاريخ اليابان مؤخرا دليل كاف للبرهنة على ذلك. فبعد عقد من الازدهار الذي تميز بارتفاع سريع لأسعار الأصول والأسهم، انتهت الفقاعة بأن انفجرت بسبب ارتفاع حاد لمعدلات الفائدة. كان الوضع جد مشابه للوضع الذي تعيشه الولايات المتحدة اليوم. يوم 25 دجنبر من سنة 1989، رفع بنك اليابان معدل الفائدة، مما تسبب في سقوط حاد في أسواق الأسهم، لكن وبسبب استمرار أسعار الأرض في الارتفاع، كان من الضروري القيام برفع جديد لمعدل الفائدة. في النهاية ارتفعت معدلات الفائدة إلى 6% ومع نهاية العام سقطت أسعار الأسهم بشكل حاد بـ 40%. وبالرغم من كل شيء حافظ بنك اليابان على معدل الفائدة مرتفعا. آنذاك هنئ الاقتصاديون بنك اليابان على تسييره الحكيم للاقتصاد. لكن النتيجة كانت هي إطالة مدة الكساد عقدا من الزمن.

«مع العولمة، وإلغاء التقييدات على القروض والمضاربات المالية، صار حجم التوسع كبيرا إلى درجة غير مسبوقة على الإطلاق، وكذالك الحال مع إمكانية انهيار اقتصادي عالمي. إلا أن الأزمة لا تنتج عن الرساميل الوهمية ولا عن احتيال الأسواق المالية ولا عن الاستعمال المفرط للقروض. سبق لماركس أن شرح في الجزء الثالث من كتابه الرأسمال:

«”سنغض النظر أيضا عن هذه المضاربات والمعاملات التجارية المخجلة، التي يفضلها نظام الاقتراض. لن يمكن تفسير الأزمة إلا كنتيجة لتفاوت الإنتاج بين استهلاك الرأسماليين ومراكمتهم. إن تعويض الرأسمال المستثمر في الإنتاج معتمد بشكل كبير على القدرة الاستهلاكية لدى الطبقات الغير منتجة؛ بينما قوة العمال الاستهلاكية محدودة، بسبب قانون الأجور من جهة، ومن جهة أخرى بواقع أنهم لا يُستخدمون إلا إذا كان استخدامهم مربحا للطبقة الرأسمالية. السبب الرئيسي لجميع الأزمات الحقيقية يتمثل دائما في الفقر والاستهلاك المنخفض لدى الجماهير أمام ميل الإنتاج الرأسمالي إلى تطوير القوى المنتجة كما لو أن هناك قوة استهلاكية مطلقة لدى المجتمع لا نهاية لها.” (ماركس، الرأسمال، الجزء 3. ص. 472 [ط إ])

«توسع التجارة العالمية وانفتاح أسواق جديدة في آسيا يشكلان أيضا محركا مؤقتا، لكن فقط على حساب التسبب في انهيار أكثر ضخامة.»

لقد كُتبت هذه الأسطر قبل حوالي عقد من الزمان، عندما كانت الأغلبية الساحقة من الاقتصاديين البرجوازيين لا تزال تنكر إمكانية حدوث ركود عالمي. لدينا الحق في طرح السؤال التالي: من فهم سيرورات الاقتصاد العالمي أفضل من الآخر، ومن طرح التوقعات الصحيحة، هل الاقتصاديون البرجوازيون أم الماركسيون؟

هل يمكن للصين أن تنقذ العالم؟

هناك حكمة قديمة تقول أن الغريق يتشبث بقشة. البرجوازيون ومبررو نظامهم، الذين أثار عمق الأزمة مخاوفهم، يبحثون حولهم عن قشة تنقذهم من الغرق أكثر. وإلى حدود وقت قريب تركزت آمالهم على آسيا، والصين على وجه الخصوص. لكن الاقتصاد الصيني الآن مرتبط بقوة بالسوق العالمية وستعكس كل تقلباتها. نشرت الفاينانشل تايمز مؤخرا مقالا لجيوف دير، حمل عنوانا معبرا: Beijing’s burden: A slowing China bodes ill for the world economy.. [عبء بيجين: بطأ الاقتصاد الصيني نذير شؤم على الاقتصاد العالمي]

بالرغم من الركود الحاصل في الولايات المتحدة فإن الصادرات استمرت في النمو بقوة، حيث توسعت بـ 22 % خلال الثمانية أشهر الأولى من 2008. يرجع ذلك جزئيا إلى أن الشركات الصينية واصلت إيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها في اقتصاديات مزدهرة ناشئة أخرى. لكن هذا لا يعمل سوى على تأجيل القدر المحتوم. بعد الأزمة التي ضربت وول ستريت والكساد الذي تعرفه أوروبا واليابان، بدأ المستثمرون يتساءلون عن احتمال دخول الصين في أزمة. فبعد خمسة سنوات من النمو السريع، بدأ الاقتصاد الصيني منذ الآن يظهر مؤشرات واضحة عن التباطؤ. إن أية نسبة نمو أقل من 8 % سيكون لها عواقب وخيمة على الصين وعلى الاقتصاد العالمي. والاقتصاديون قلقون أيضا بخصوص القطاع البنكي في الصين.

هناك منذ الآن مؤشرات على المشاكل في سوق التصدير. فصناعة الملابس في غوانغدونغ تعاني من إجهاد حاد. حسب الإحصائيات الإقليمية، سقطت صادارت الملبوسات والملحقات، ما بين يناير ويوليوز، بـ 31 % مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية إلى 13,3 مليار دولار (7,2 مليار جنيه استرليني، 9,1 مليار اورو). صادرات السلع البلاستيكية والألعاب والمصابيح راكدة هي أيضا أو هي في انهيار. وقد تزامن هذا مع ضعف الطلب من جانب الولايات المتحدة، حيث تراجعت مبيعات التقسيط خلال يوليوز وأيضا خلال غشت. تراجعت صادرات غوانغدونغ إلى الولايات المتحدة بـ 6,3 % خلال السبعة أشهر الأولى من هذه السنة. لا يمكن أن يكون هذا مجرد صدفة.

الأورو القوي وارتفاع صادرات غوانغدونغ إلى أوروبا بـ 27%، عوضا ضعف الدولار وتقلص السوق الأمريكية. لكن هناك أدلة متزايدة على انكماش حاد في أوروبا، التي تعتبر بدورها أحد أكبر أسواق الصادرات الصينية. سوف ينتهي هذا حتما بالانعكاس على الصادرات الصينية. “يمكن لهذا أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة” كما قال الاقتصادي في ستاندارد تشارترد في شنغهاي، ستيفان غرين.

هناك قلق أكبر بخصوص سوق المنقولات، الذي كان أحد أهم عناصر ازدهار الاستثمار الذي قاد الاقتصاد الصيني خلال السنوات القليلة الماضية. المبيعات انهارت وتراجعت الأراضي قيد الإنشاء خلال شهر غشت، بينما إنتاج الصلب والإسمنت ومكيفات الهواء ضلت بدون تغيير أو تراجعت خلال الشهر، الشيء الذي يعتبر مؤشرا آخر على ضعف النشاط. يقول المحللون أن الموافقة على الرهن تراجعت بدورها بحدة خلال الأشهر القليلة. قال جيري لو، المحلل في مورغان ستانلي بشنغهاي: “نعتقد أن هناك احتمال كبير لحدوث كارثة في قطاع السكن في الصين”

إذا ما انهار سوق المنازل بحدة خلال السنة المقبلة، سيكون لذلك عواقب خطيرة على القطاع البنكي. إذا ما تراجع الناتج الداخلي الخام إلى أقل بكثير من 8 % خلال السنة المقبلة، سوف يتسبب هذا في سقوط أكثر حدة لأسعار العقار، وسيصاحبه انهيار للاستثمارات الخاصة. وسوف تكون العواقب الاجتماعية والسياسية هائلة.

هناك مؤشرات تحذيرية في جوانب أخرى من الاقتصاد. كان للانهيار الذي عرفته سوق البورصة تأثير سلبي على ثقة المستهلكين. لقد هبطت نسبة الزيادة في المداخيل المدينية بحدة هذه السنة. سقطت مبيعات السيارات خلال الستة أشهر الماضية بـ 6 % وعرفت الرحلات الجوية انخفاضا كبيرا خلال هذا الصيف. صرحت شركة Gome، التي تعتبر أكبر بائع للأجهزة الالكترونية في البلد، أن مبيعاتها لكل متر مربع في دكاكينها قد هبطت بـ 3 % خلال الربع الثاني.

خفضت الحكومة معدل الفائدة، مما يبين أنها تخشى حدوث أزمة. لكن هامش المناورة المتوفر لها فيما يخص السياسة المالية محدود بسبب الخوف من إشعال نار التضخم، الذي بلغ 8,7 % خلال شهر فبراير قبل أن يتراجع إلى 4,9 % خلال شهر غشت. قال رئيس البنك المركزي، زو كسياوشون (Zhou Xiaochuan)، في تصريح له هذا الشهر: “لقد تباطأ التضخم بالفعل خلال البضع أشهر الماضية، إلا أنه لا يمكننا الاطمئنان لأنه يمكن لمعدل التضخم أن يعود للارتفاع.”

حدوث ركود في الصين، أو حتى تباطؤ جدي في النمو سيكون له تأثير جد كبير على السوق العالمية، بدءا بالبلدان المنتجة للمواد الخام في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. أسعار النحاس، على سبيل المثال، تراجعت بـ 23 % خلال الشهرين الماضيين، جزئيا بسبب الخوف بخصوص استهلاك الصين للمعدن، الذي تراجع بأكثر من النصف هذه السنة.

حول المخادعين والمضاربين

هناك مزاج من الغضب المتصاعد والعداء ضد “السوق”، أي ضد الرأسمالية. وفي مواجهة هذا الغضب يحاول الساسة البرجوازيون من أمثال أليك سالموند، من الحزب الوطني الاسكتلندي، أن يبعدوا الغضب الشعبي عن الرأسمالية نفسها ويوجهونه ضد قطاع محدد من الطبقة السائدة: ’المخادعين والمضاربين‘.

فجأة صار من المعتاد لدى السياسيين أن يعملوا على إدانة هؤلاء الأشخاص الغامضين الذين أضروا بمؤسسات موقرة من قبيل بنك اسكتلندا. قيل لنا أن هذا السيد الجليل استمر في الوجود طيلة ثلاثة قرون وأنه نجا من الحروب النابليونية وانهيار وول ستريت والحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يقضي عليه سوى عصابة من أسماك القرش الجشعة التي ترتدي البذل الأنيقة والنظارات السوداء. إن هذا النوع من ’التفسيرات‘ لا يفسر شيئا على الإطلاق. كيف يمكن لحفنة من الأفراد الجشعين أن يمتلكوا كل هذه القدرة الهائلة؟ من هم هؤلاء الأشخاص؟ ما هي أسماؤهم؟ أي يقطنون؟ لا أحد يدري. إلا أنه من المفيد دائما خلال الأزمات إيجاد شخص لإلقاء اللوم عليه، وإذا ما تصادف أن كان ذلك الشخص مجهولا وغير قابل للتحديد فذلك أفضل بكثير.

فجأة بدأ هؤلاء ’المخادعون والمضاربون‘ يلعبون في الاقتصاد نفس الدور الذي تلعبه منظمة القاعدة في السياسة الدولية. في الواقع جميع أصحاب الأبناك والرأسماليين مخادعون ومضاربون. ويجب عليهم أن يكونوا كذالك لأن النظام الرأسمالي مبني على أساس الخداع والمضاربات. وهو مبني أيضا على الجشع. إن إنكار الجشع يعني إنكار آليات اشتغال اقتصاد السوق، المبني على أساس السعي نحو الربح، أي على الجشع. إن الجشع للربح هو ما يحرك في نهاية المطاف النظام الرأسمالي وهو الذي شكل دافعه منذ ظهوره. نعم لقد صاروا أكثر جشعا وصاروا يربحون أكثر! هذا ما قاله دافيد وولكر، رئيس مؤسسة بيتر. ج. بيترسون ومديرها التنفيذي والمراقب العام السابق للولايات المتحدة:

«هل هناك دروس يمكن استخلاصها من أزمة الرهون العقارية العالية المخاطر الأمريكية (sub prime mortgage)؟ الجواب هو نعم. كان من الضروري اتخاذ الإجراءات الأخيرة لأن الحكومة فشلت في إقامة بنية تحتية منظمة في العلاقة مع الرهونات والاشتقاقات وغيرها من السندات. كان الجشع مفرطا. شركتا فاني ماي وفريدي ماك ابتعدتا عن مهمتهما الأصلية وصارتا أكثر تركيزا على الربح والمكسب الشخصي بدل خدمة الصالح العام. الرقابة المتساهلة كانت نتيجة لضغط لوبيات وول ستريت القوية ولوبي فاني ماي وفريدي ماك» (الفاينانشل تايمز، 22 شتنبر 2008)

هذا صحيح جدا. بينما يتلقى العمال العلاوات مقابل النتائج التي يحققونها، فإن الرؤساء يعطون لأنفسهم مكافئات فاحشة سواء حققوا نتائج أم لا. عندما تحقق شركة ما نتائج جيدة يمكن للعمال أن يحصلوا على زيادة محددة في أجورهم أو علاوات، لكن الرؤساء يعطون أنفسهم الملايين كمنح. وعندما تسجل الشركة نتائج سيئة، لا يتلقى العمال أي شيء، لكن الرؤساء يواصلون تقديم المنح العليا لأنفسهم بإسراف. وعندما تصل الشركة إلى نقطة الإفلاس، يتعرض العمال للطرد مقابل تعويضات هزيلة أو بدون تعويضات (غالبا بدون حتى رواتب التقاعد)، بينما يغادر الرؤساء، المسئولون عن تخريب الشركة، ومعهم منح ورواتب تقاعد ضخمة.

إن هذه حقائق معروفة جدا. منذ سنين والعمال يتمتمون تذمرا من الظلم واللامساواة. لكن عندما كان الاقتصاد يتقدم، وعندما بدا وكأن السوق تقدم نتائج للجميع (ولو أنها نتائج جد متفاوتة)، وعندما كانت الجماهير خاضعة لحملة إعلامية مكثفة من طرف الجرائد والتلفزيون، وعندما كان السياسيون من جميع الأحزاب متفقين بإجماع، كان الجميع يقبل المقولة القائلة أن “ما هو جيد لـ’خالقي الثروات‘ (أي أرباب العمل) جيد بالنسبة إلي أيضا.”

غباء براون

لقد تكررت في هذا الجانب من الأطلسي نفس تلك السيرورة التي نراها تحدث في الولايات المتحدة، لكن فقط على شكل كاريكاتير أخرق ومثير للشفقة. ففي كونفرانس حزب العمال اشتكى براون من ’لا مسئولية‘ البورصة وقال أن المكافئات كانت ’غير مقبولة‘ من بعض النواحي. وقد ردد وزير المالية، أليستير دارلينغ، تعليقات رئيس الوزراء. لكن ’هجماتهم‘ تشبه قيام رجل بضرب كركدن بمنفضة من ريش. وقد كانت تصريحاتهم هزيلة جدا مقارنة حتى مع تصريحات ماك كين وباراك أوباما القاسية ضد وول ستريت.

إن الانحناء السهل الذي قام به براون ودارلينغ خلال مؤتمر حزب العمال يبين أنهما قضيا الكثير من الوقت منبطحين أمام بورصة لندن إلى درجة أنهما فقدا القدرة على رفع هاماتهما. في ظل وضع يوجد خلاله مئات آلاف العمال فجأة مهددين بفقدان مناصبهم ومنازلهم ومدخراتهم، يصبح في إمكان حتى أكثر الإصلاحيين تطرفا أن يعرف أن إدانة خداع أصحاب الأبناك وجشعهم مسألة تجلب الشعبية. إن هذا دليل على الإفلاس التام وعلى غباء هؤلاء الذين يطلق عليهم اسم قادة حزب العمال، الغير قادرين حتى على تبني ولو ذلك الهجوم الديماغوجي على كبريات الشركات الذي شنه أوباما وماك كين.

إنهم لم يصلوا حتى إلى درجة راديكالية كنيسة إنجلترا، التي قام إثنان من أشهر وجوهها بإدانة الممارسات الفاسدة التي قام بها المتاجرون الماليون. في مقال نشرته The Spectator، هاجم رئيس أساقفة كانتربري، الدكتور روان ويليامز، «المضاربات الورقية التي ليست لها أية نتيجة ما عدا أرباح المتاجرين فيها». وقال أنه عندما بدأت هذه المعاملات تسير بشكل سيء تسببت في «ضرر حقيقي وشديد».

أثار الدكتور ويليامز الانتباه إلى تجارة القروض، التي قال عنها أنها: «كانت بشكل غير مسئول… محرك الأرباح المالية الفلكية للعديد من الناس خلال السنوات الأخيرة». وقال أن الأزمة المالية الحالية: «تبين عنصر الوهم المتضمن في الوضع، تبين حقيقة توزيع ثروات لا تتصور، بمستويات من الوهم لا تتصور، وأوراق المضاربات بدون أية نتيجة ملموسة ما عدا أرباح المتاجرين». وواصل قائلا: «بالنظر إلى أن الخطر المحدق بالاستقرار الاجتماعي هائل جدا، فإنه لا حاجة إلى الزعم بأنه في إمكان عالم المال أن يتمتع بشكل دائم بالاستثناء من الرقابة والضبط الذي تعود عليه» (التشديد من عندي، آ و)

نجد هنا جوهر المسألة. ممثلو الرأسمالية (بمن فيهم الدينيون) يشعرون بالأرض تهتز تحت أقدامهم. إنهم يخشون من العواقب الاجتماعية والسياسية لهذه الأزمة، التي تشكل خطرا كبيرا على الاستقرار الاجتماعي، ويناشدون الحكومة وأرباب العمل بأن يقوموا بشيء ما قبل أن يفوت الأوان. لكن ماذا يقترح الدكتور ويليامز؟ يقول فقط أن: “إضعاف قبضة النظام المالي” شيء ضروري لتشجيع الشركات وخلق الثروة من أجل “تخليص كل السكان من الفقر”. إن هذا تطلع نبيل، لكنه مستحيل التطبيق على هذه الأرض الشريرة.

وقد كان زميله، الدكتور سينتامو، رئيس أساقفة يورك، أكثر قسوة منه. أعلن البنك البريطاني الكبير Lloyds TSB خلال الأسبوع الماضي أنه وافق على دفع مبلغ 12,2 مليار جنيه استرليني من أجل الاستيلاء على بنك HBOS بعد هبوط قيمة الأسهم في هذا الأخير. ومنذ إتمام هذا الاستيلاء قام العديد من المعلقين بانتقاد المتاجرين الذين باعوا أسهما مقترضة بسعر أدنى من قيمتها الحالية، مراهنين على أن الأسعار ستهبط أكثر قبل أن يعيدوا شرائها.

صرح الدكتور سينتامو خلال حفل العشاء السنوي للشركة الدولية المبجلة لأصحاب الأبناك: «وجدنا أنفسنا في نظام سوق بدا وكأنه أخذ قوانين التجارة من عالم آليس العجائبي.» وواصل قائلا: «بالنسبة إلى متفرج مثلي، يعتبر هؤلاء الذين حققوا 190 مليون جنيه استرليني من خلال العمل بشكل متعمد على بيع أسهم HBOS بأقل من ثمنها، بالرغم من وجود رأسمال أساسي كبير جدا، ورموا به بين أيدي بنك Lloyds TSB، هم بوضوح لصوص بنوك وسارقو أموال».

مثل هذه اللغة القوية من فم الرجل الرباني كانت جد غير متوقعة ومن الأكيد أنها تسببت في سوء الهضم لدى الشركة المقدسة. كما أن أصحاب الأبناك المجتمعون لم يكونوا سعيدين جدا بسماع تعليقات رئيس الأساقفة حول خطة وزارة المالية الأمريكية القاضية بإنفاق مبلغ 700 مليار دولار(382 مليار جنيه استرليني) لشراء القروض الميئوس منها التي هي في ملكية الأبناك وغيرها من المؤسسات المالية.

تحدث رئيس الأساقفة عن الحاجة إلى أنظمة مالية مستقرة إذا ما أردنا القضاء على الفقر، لكنه أضاف: «أحد سخريات الوضع بخصوص هذه الأزمة المالية هي أنها تبين أن القضاء على الفقر مسألة ممكنة جدا. خمسة ملايير دولار (2,7 مليار جنيه) هي المبلغ الضروري لإنقاذ حياة ستة ملايين طفل. لقد تمكن قادة العالم من أن يجدوا ضعف هذا المبلغ 140 مرة، لفائدة النظام البنكي خلال أسبوع. كيف يمكنهم أن يقولوا لنا أن الأعمال لصالح الفقراء مكلفة جدا؟»

وبينما أنا بصدد كتابة هذا المقال، يجتمع قادة العالم في الولايات المتحدة من أجل تحقيق تقدم في أهداف الألفية، ووضع أهداف لتقليص الفقر العالمي وتحسين مستويات العيش مع حلول سنة 2015. يمكننا أن نضع ثقتنا في الله ونأمل أن يكون لتحذيرات رئيس الأساقفة الصارمة التأثير المطلوب، لكن كل تجاربنا تقودنا إلى الشك في أن الحال سيكون كذلك.

بل حتى الفاينانشل تايمز أشارت:

«حتى خلال أوقات الازدهار، قلة هم الناس الذين يبتسمون بحرارة وهم يقارنون مداخيلهم الهزيلة مع المكافئات الضخمة التي تتلقاها الأقلية المحظوظة.

«الحسد البسيط صار غضبا مبررا الآن، أولا بفعل الضرر الذي سببه الانهيار المالي للأبرياء، والآن بفعل سلسلة الشيكات البيضاء التي أصبح دافع الضرائب مجبرا على توقيعها تحت الإكراه. وقد بدأت تظهر ردود الفعل. من المفيد تمييز العلاوات الضخمة عن الأجور والتي تشجع التهور. إن مسألة أجور القطط السمان لا تعني سوى حاملي الأسهم الذين يؤدون تلك الأجور، لكن مسألة مكافئة التهور مشكلة بالنسبة إلينا جميعا.

«لقد تلقى الكثير من المدراء الاستثماريين أجورا عالية على الإنجازات التي بدت باهرة لكنها كانت تحبل ببذور الكارثة. وهاهي الكارثة قد وصلت، تعرض المستثمرون للإبادة، ودافعوا الضرائب ينتظرون دورهم، لكن المدراء لا يزالون يحتفظون بالعلاوات التي جمعوها خلال سنوات الرخاء.»

لكن ومن أجل تعديل الميزان تضيف:

«علينا أن نعترف للسيد بروان والسيد دارلينغ أنهما لم يركزا على الأجور العليا بل على مخططات الدفع التي تكافئ المقامرين.»

إن حقيقة أن كل من يشترون الأسهم ويبيعونها هم مقامرون وأن المقامرة في البورصة هي شغلهم، مسألة يتم التستر عليها ببراعة.

يواصل صحفيو الفايننشل تايمز (الذين يتمكنون بطريقة ما من الاحتفاظ بمظهر الجدية) قائلين:

«تتوقف الخطوة التالية الآن على سلطات الخدمات المالية، على مراقبة بورصة لندن، لكن اكتشاف المشكلة أسهل من حلها. التحدي الآن هو مكافئة المدراء الاستثماريين على إنجازاتهم الحقيقية. لو أن هذا كان سهلا، لكان حملة الأسهم يقومون به بشكل دوري. ومن بين المقاربات الخاطئة تحديد العلاوات على أساس الانجازات البعيدة المدى، تأجيل الأداء إلى حين انقشاع الغبار، أو الإصرار على أن يغامر المدراء بجزء من ثروتهم. لكن من الصعب تخيل قواعد صارمة وسريعة.

«الطريق العملي للتقدم هو أن تدرس سلطات الخدمات المالية خططا محفزة كجزء من تصورها الشامل لاستقرار الشركات المالية. من المثير للتفاؤل توقع الكثير من هذا المجهود، لكن التشريعات بخصوص علاوات بورصة لندن ستكون لها نتائج عكسية تماما. حيث يمكن مراوغة مثل هذه القوانين بسهولة من خلال إخفاء المخاطر أو إرسالها إلى الخارج.»

من الواضح أن سياسات العماليين الجدد تحددها افتتاحيات الفايننشل تايمز الأخيرة.

“الاقتصاد المكثف”

سبق للينين أن أشار إلى أن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. وقد بدأت الأزمة الاقتصادية التي تجتاح العالم تمارس تأثيرا هائلا جدا على نفسية جميع الطبقات، بدءا من الرأسماليين أنفسهم. خلال المرحلة التي كانت فيها الرأسمالية تتقدم إلى الأمام، كان ضغط الأفكار البرجوازية على الطبقة العاملة ومنظماتها مضاعفا. في بريطانيا لم يحدث أي كساد اقتصادي جدي منذ أكثر من عقدين. ومن ثم فإن حجج السياسيين والاقتصاديين البرجوازيين (اللذين يشتغلون معا بتعاون وثيق) بخصوص محاسن ’السوق الحرة‘ العجائبية، كانت تجد صدى لها حتى بين صفوف الطبقة العاملة، لكن بوجه خاص بين صفوف قادتها.

كان هذا هو الأساس المادي للانحطاط التام للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية و’الشيوعية‘ في أوروبا وقادة النقابات في كل مكان. وفي بريطانيا، التي كانت في طليعة الثورة المضادة الرأسمالية خلال العقود الثلاثة الماضية، كان ذالك هو الحقل الذي نشأت فيه وازدهرت النزعة العمالية [نسبة إلى حزب العمال -المترجم-] الجديدة في ظل قيادة ريفيراند وأنطوني بلير.

لقد كانت تلك المرحلة بالنسبة لمناضلي حزب العمال، كابوسا بدا وكأنه لن ينتهي. بدا وكأنه ليست هناك من نهاية لانحطاط قادة المنظمات العمالية، وأنه ليس هناك من عمق يعجزون عن النزول إليه، وأنه ليس هناك من عمل حقير يستنكفون عن القيام به لإرضاء الطبقة السائدة والسوق طبعا. يأس المناضلين دفع بهم إلى الخمول وإخلاء المنظمات العمالية التقليدية، التي امتلأت بالوصوليين البرجوازيين الصغار الباحثين عن منصب شغل وعن الارتقاء الاجتماعي. هذا بدوره أدى إلى المزيد من الانحراف نحو اليمين، مما زاد في تعميق نفور العمال. كانت تلك حلقة مفرغة جهنمية تدور حول نفسها واستمرت لحد اللحظة. لكن الآن بدأت الأشياء تتغير بسرعة.

إن الوعي الإنساني محافظ بشكل عام. الناس بطبيعتهم يخشون التغيير ويتشبثون بما هو مألوف لديهم. العادة والروتين والتقاليد تجثم بثقل هائل على وعي الجماهير، التي تتخلف وراء الأحداث. لكن خلال اللحظات الحرجة في التاريخ تتسرع وثيرة الأحداث إلى النقطة الحرجة التي يقفز فيها الوعي من خلال الطفرة. ولقد وصلنا الآن إلى هذه النقطة الحرجة.

ما يصدق على الأمم المصنعة في العالم يصدق عشر مرات على ما يطلق عليه أحيانا اسم ’العالم الثالث‘. عدد البشر الذين يعيشون في ظل الفقر المدقع يتزايدون بشكل سريع في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وفي تقرير صدر مؤخرا عن الأمم المتحدة نجد أن ربع جميع الأطفال في البلدان النامية يعانون من نقص الوزن؛ وأكثر من 500,000 امرأة تموت سنويا أثناء الوضع أو لسبب تعقيدات مرتبطة بالحمل؛ وأن ثلث سكان المدن في البلدان النامية يعيشون في الأحياء الهامشية. وقد حذر تقرير لـ Inter-American Bank صدر هذا الصيف من أن ارتفاع الأسعار سيرمي بـ 26 مليون شخص في أمريكا اللاتينية إلى ظروف من العوز المطلق. هذا هو الحال بعد مرحلة طويلة من النمو الاقتصادي على الصعيد العالمي. هذا هو أفضل ما أمكن للرأسمالية أن تقدمه. ما الذي سيحدث في ظل ظروف الأزمة؟

إننا إذن أمام ظاهرة عالمية حبلى بالإمكانات الثورية. وهكذا فإن العولمة تعبر عن نفسها باعتبارها أزمة عالمية للنظام الرأسمالي.

ما هو الحل؟

يقال أن الأزمة الحالية هي نتاج لفشل نظام الرقابة ضد المغامرات الخطرة للنظام المالي، وخاصة في الولايات المتحدة. كما يقال أنه: “علينا أن نتأكد من عدم تكرار حدوث ذلك مجددا”. إن هذا مضحك فعلا! إذ طيلة العقود الثلاثة الماضية كان الاقتصاديون والسياسيون البرجوازيون يقولون عكس ذلك تماما: كانوا يقولون أن كل رقابة هي مسألة سيئة للاقتصاد ويجب إلغائها (وقد كان ينصح بتطبيق هذا بالنسبة للقطاع المالي خاصة).

ليست التصريحات الديماغوجية حول الحاجة إلى الحد من المكافئات المبالغ فيها والرقابة على أجور المدراء التنفيذيين، سوى كلام فارغ. كيف يمكن تحقيق هذه المعجزات؟ بأية آلية؟ لدى أصحاب الأبناك آلاف الطرق لتلافي الرقابة. إنهم يخفون دفاتر الحسابات مما يجعل من المستحيل اكتشاف نشاطاتهم المشبوهة. بل إنه حتى الحكومة الأمريكية تستخدم هذه الألاعيب من أجل التستر على الأبعاد الحقيقية لعجز ميزانيتها.

إن الحجج بخصوص مراقبة أسواق المال سخيفة، كما كان حال قرار الحضر (المؤقت) على ممارسة بيع الأوراق المالية المقترضة “selling short”. لكي يمكن للأسواق أن تشتغل من الضروري للناس أن يبيعوا ويشتروا الأسهم، وعليهم أن يقوموا بذلك على قاعدة التقديرات بخصوص ما إذا كانت أسعار الأسهم سترتفع أو ستنزل. إن الفكرة القائلة بأنه من المسموح شراء الأسهم فقط عندما تكون في ارتفاع هي فكرة شديدة السخافة.

وكالات تقييم أهلية الاقتراض، التي من المفترض فيها أن تميز القروض الجيدة من السيئة، اعتبرت بعض الرهون مضمونة دون النظر إلى ضعف الرهون. وبنفس الطريقة افترض مشترو الدين الأمريكي، الذي أصدرته شركتا فاني ماي وفريدي ماك، بمرح أن الحكومة الأمريكية قد تكفلت به. والنتيجة هي أن دافع الضرائب الأمريكي يقف الآن أمام أكثر من 5,000 مليار دولار من الرهون ولا يزال من السابق لأوانه توقع مبلغ الفاتورة النهائية.

الخلاصة واضحة جدا. إما أن تكون هناك سوق حرة مؤسسة على السعي نحو الربح، أو أن يكون هناك اقتصاد مخطط مؤمم. أما ’ترشيد الرأسمالية‘ فهي عبارة متناقضة. وقد وضعت الفاينانشل تايمز هذه المسألة بشكل واضح، حيث نجد في أحد مقالاتها:

«مهما كانت جرأة الأفكار التي يطرحها السياسيون من أجل كبح الأجور الضخمة المثيرة للجدل، فإن العقول اللامعة في القطاع المالي ستجد طريقة للالتفاف عليها أو أنها ستخرج من الجزء المراقب في الصناعة»

إن ما يلزم هو القضاء على هذا الكازينو الهائل الذي يقرر مصير ملايين البشر وتعويض فوضى الرأسمالية بمجتمع عقلاني مؤسس على الاقتصاد المخطط. يقال أن الإجراءات التي اتخذها بوش وبراون تمثل تأميما. إلا أنه ليس لهذه الإجراءات أية علاقة مع الفكرة الاشتراكية عن التأميم. ليس هدف تلك الإجراءات نزع السلطة الاقتصادية من بين أيدي الطفيليين الأثرياء الذين يمثلون ثقلا هائلا على كاهل المجتمع وعائقا في طريق التقدم. بل على العكس تمثل تلك الإجراءات محاولة لحماية مصالح هؤلاء الطفيليين من خلال منحهم مساعدات ضخمة منتزعة من جيوب الطبقة العاملة والطبقة الوسطى.

يعارض الاشتراكيون بشكل جذري هذه السياسات، التي ليست لها أية علاقة مع التأميم الحقيقي والتي ليست سوى شكل من أشكال رأسمالية الدولة، الهدف منها الحفاظ على النظام الرأسمالي. إنها سياسات تقود حتما إلى احتداد الاحتكار، والتسريحات الجماعية وإغلاق الأبناك وارتفاع أسعار الرهون وغيرها من الإجراءات المعادية للطبقة العاملة. يتلقى أصحاب الأبناك المكافئات على نشاطاتهم الإجرامية، من طرف الدولة التي تشتري منهم كل خسائرهم، وبعد ذلك تنفق المزيد من المبالغ الطائلة من أموال دافعي الضرائب من أجل جعل تلك الشركات مربحة، وعندما يتحقق ذلك يعاد بيعها لأصحاب الأبناك، الذين سيحققون هكذا ربحا مضاعفا على حساب المجتمع. بعد ذلك يمكنهم أن يعودوا مجددا إلى مضارباتهم واحتيالهم.

إن ما يلزم هو نزع زمام الاقتصاد من بين أيدي الخواص عبر تأميم الأبناك وشركات التأمين وكبريات الشركات مقابل أقل ما يمكن من التعويضات على أساس الحاجة فقط. فقط عندما تصير قوى الإنتاج بين أيدي المجتمع، حيث سيصبح من الممكن إقامة مخطط اشتراكي عقلاني للإنتاج، حيث ستتخذ القرارات لصالح المجتمع، وليس لصالح حفنة من الطفيليين الأثرياء والمضاربين.

هذا هو الهدف الرئيسي للاشتراكية. إنها فكرة ستصبح الآن مفهومة ومرحبا بها من طرف ملايين البشر الذين كانوا في السابق يعتبرونها كشيء شاذ وغريب. إن هؤلاء الذين تظاهروا في شوارع نيويورك ضد مخطط بوش لم يكونوا اشتراكيين. وربما كانوا قبل عام من الآن مدافعين عن السوق الحرة. إنهم لم يقرءوا ماركس في حياتهم أبدا ولا بد أنهم يعتبرون أنفسهم أمريكيين وطنيين. لكن الحياة تعلم وفي ظل وضع كهذا يتعلم الناس في أيام قليلة أكثر مما تعلموه طوال حياتهم. إن الطبقة العاملة الأمريكية تتعلم بسرعة. وكما سبق لفيكتور هوغو أن قال: «ليس هناك من جيش أقوى من فكرة حان وقتها.»

آلان وودز
لندن 26 شتنبر 2008

عنوان النص بالإنجليزية:

World capitalism in crisis

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *