كل الشروط الموضوعية للثورة كما حددها لينين ناضجة في إيران. إن الأحداث التي وقعت خلال الأيام القليلة الماضية مؤشر على بداية الثورة الإيرانية، التي سوف تمتد طيلة مرحلة تاريخية كاملة، بسبب غياب حزب ثوري جماهيري قادر على قيادة الجماهير في الوقت الحالي. إلا أن شروط بناء مثل هذا الحزب قد نضجت هي أيضا. سوف يبدأ العمال والشباب في إيران في البحث عن الأفكار الماركسية الاشتراكية الثورية الحقيقية.
كتبت يوم أمس أن الثورة الإيرانية قد بدأت. بأي معنى يعتبر ذلك صحيحا؟ لقد حدد لينين شروط الوضع الثوري في ما يلي: أولا، أن تكون الطبقة السائدة متصدعة الصفوف وغير قادرة على الحكم بنفس الأساليب كما من قبل. وهذا الشرط متوفر بوضوح في إيران. ثانيا، أن تكون الطبقة الوسطى متذبذبة بين الثورة والثورة المضادة، وهذه هي الحالة التي نشهدها الآن في إيران، حيث التحقت أقسام هامة من الطبقة الوسطى بجانب الثورة وصارت تتظاهر في الشوارع. ثالثا، أن يكون العمال مستعدين للكفاح، وقد شهدت إيران موجة متصاعدة من الإضرابات حتى قبل الانتخابات.
وحده الشرط الأخير هو المفتقد، أي: وجود حزب ثوري وقيادة ثورية، مثل الحزب البلشفي سنة 1917. إن وجود مثل هذا الحزب سيقدم للحركة الجماهيرية القيادة والتنظيم اللتين تحتاجهما من أجل النصر. إن وجوده سيعني إمكانية تحقيق نصر ثوري بأقل قدر ممكن من التكاليف والتضحيات. لكن وفي ظل غياب مثل هذا الحزب، سوف تمتد الثورة طيلة مرحلة كاملة، شهورا وربما سنوات، مع موجات مد وجزر.
ليست الثورة مسرحية من فصل واحد. فلقد تطورت الثورة الروسية سنة 1917 طيلة مرحلة امتدت ثمانية أشهر. وخلال هذه المرحلة كانت هناك فترات من الاندفاعات الهائلة، كما كان الحال خلال فبراير، لكن كانت هناك أيضا فترات من التعب والهزائم، بل والردة الرجعية أيضا، مثلما كان الحال خلال الفترة التي تلت أيام يوليوز. ومن شهر يوليوز حتى نهاية شهر غشت كانت هناك فترة من الردة الرجعية والتي اضطر خلالها البلاشفة أن ينتقلوا إلى السرية، وتم ضرب صحافتهم، وكان تروتسكي في السجن واضطر لينين إلى الفرار إلى فنلندا.
لقد بدأت الثورة الاسبانية، التي تشكل ربما أفضل مثال لما سوف يحدث في إيران، بإسقاط النظام الملكي (الذي جيء به بالانتخابات المحلية) خلال شهر أبريل من سنة 1931. لقد فتح ذلك مرحلة ثورية، استمرت طيلة سبعة سنوات، مع فترات مد وجزر، إلى أن تعرض عمال برشلونة للهزيمة خلال أيام ماي 1937. شهدنا خلال فترة السبعة سنوات تلك، ما يسمى بالسنتين السوداوتين (“El Bienio Negro”)، اللتان أعقبتا هزيمة كومونة أستورياس، سنة 1934، واستمرتا حتى تشكيل الجبهة الشعبية سنة 1936.
في ظل غياب حزب ثوري جماهيري، يمكن للثورة الإيرانية أن تمتد، مثلما حدث للثورة الإسبانية، طيلة عدة سنوات وستتميز بالاضطرابات والغليان، وبصعود حكومات مختلفة وسقوطها، وسطوع شمس قادة وأحزاب وأفولها، قبل أن تطرح في النهاية مسألة السلطة. إلا أن الأحداث التي تقع أمام أنظارنا تبين بوضوح حدوث تغير جوهري في الوضع بمجمله. لقد خرج الجني من قمقمه، الذي حبس فيه طيلة عقود من الزمن، وسيكون من المستحيل إجباره على العودة إليه.
عبر العديد من الملاحظين عن تفاجئهم بهذه الحركة التي بدت لهم وكأنها برق في سماء زرقاء. لكن شروط هذا الانفجار في الواقع كانت تتحضر خلال وقت طويل. إن غضب الجماهير يعكس كل تلك الإحباطات وذلك الغضب اللذين تراكموا طيلة الثلاثة عقود الماضية. إنه يعكس أيضا الوضع الاقتصادي المتدهور وانهيار مستويات المعيشة. لقد كان الاقتصاد هو النقطة المحورية التي دارت حولها الحملة الانتخابية وشكل مركز اهتمام الإيرانيين، بعد أربعة سنوات من الارتفاع الحاد في معدلات التضخم والبطالة.
بالرغم من أنه في ظل حكم أحمدي نجاد استفادت الفئات الأشد فقرا من صدقات مالية، تم تمويلها بفضل مداخيل النفط، فإن العديد من الفئات الأخرى اشتكت من أن ارتفاع السيولة قد أدى إلى ارتفاع حاد في الأسعار. وقد أوقف البرلمان صرف الإعانات على اعتبار أنها سوف تؤدي إلى مفاقمة معدل التضخم، المرتفع أصلا إذ يصل حوالي 24 %. إلا أن الأزمة الاقتصادية تعني الاقتطاعات والتقشف، وقد صرح وزير الاقتصاد، شمس الدين حسيني، يوم أمس أن خصخصة الشركات العمومية ستشكل “إطار” السياسة الاقتصادية الإيرانية مستقبلا.
إن هذا يفسر جزئيا الطبيعة الكفاحية للحركة المعارضة الغاضبة والعنيدة، والتي لسوء الحظ اتخذت من حسين موسوي رمزا لها، وهو الذي شكل وما يزال جزءا من جهاز الدولة الإيرانية. عندما يبدأ الشعب في التخلص من خوفه ويصير مستعدا لتحدي رصاص قوات الشرطة، في بلد مثل إيران، يعتبر ذلك بداية النهاية. إن ما يزيد من الإعجاب بهذه الحركة الجماهيرية الرائعة هو حجمها بالرغم من كونها غير منظمة وبدون قيادة.
بطولة الجماهير
إن العامل المحدد هو الدخول المفاجئ للجماهير إلى مسرح التاريخ. تظهر البطولة الهائلة للجماهير في المظاهرة الضخمة التي نظمت يوم أمس، في تحد للتحذيرات التي أطلقها النظام بكونه سوف يلجئ إلى إطلاق الرصاص. لقد خرج حوالي نصف مليون شخص على الأٌقل، متجاهلين تلك التحذيرات، والرصاص والمجازر من أجل المطالبة بالحرية في إيران. قتل ثمانية أشخاص يوم أمس [الاثنين] وسقط عدد غير محدد من الجرحى. ورغم ذلك ما تزال الحركة مستمرة في كامل قوتها.
شهد روبيرت فيسك، أحد أفضل الصحفيين البريطانيين، ما أسماه يوم تحديد مصير إيران، وبعث بتقرير جيدا عما حدث، يقول فيه:
«خرج مليون شخص في مظاهرة انطلقت من ساحة إنجيلوب (ساحة الثورة) في اتجاه ساحة أزدي (ساحة الحرية)، أمام أنظار قوات مكافحة الشغب العنيفة بطهران. كانت الحشود تغني وتصرخ وتردد الشعارات وتسب الرئيس بوصفه “غبار”.» وقد قال أحد الطلاب ساخرا: «لقد قال أحمدي نجاد عنا إننا غبار، ونحن نسميه عاصفة رملية!»
ويواصل فيسك قائلا:
«منذ الثورة الإيرانية سنة 1979، لم يسبق للجماهير المحتجة أن اجتمعت بمثل هذه الأعداد الضخمة، ولا بمثل هذه الشعبية الهائلة، في شوارع هذه المدينة المتقدة واليائسة. لقد اندفعوا واحتشدوا في ممرات ضيقة من أجل الوصول إلى الطريق السيار وهناك وجدوا قوات مكافحة الشغب المعتمرين لخوذات حديدية ومسلحين بالهراوات، يملئون كلا جانبي الطريق. إلا أن المتظاهرين تجاهلوهم بشكل كلي. رجال البوليس الذين شعروا بالرعب من هذا العدد الضخم المشكل من عشرات آلاف المتظاهرين، بدأوا يبتسمون بارتباك، ومما ثار استغرابنا أنهم هزوا رؤوسهم لتحية الرجال والنساء المطالبين بالحرية. من يمكنه أن يعتقد أن الحكومة قد ألغت هذه المظاهرة؟»
إننا نرى هنا الوجه الحقيقي للثورة. حيث تواجهت الجماهير بقوات مكافحة الشغب المخيفة لكنهم اكتفوا بتجاهلها. وقوات البوليس الذين واجهوا حركة جماهيرية، تذبذبوا وأفسحوا لها الطريق، وهم “يبتسمون بارتباك” ويحركون رؤوسهم تعاطفا. إن هذه الحادثة تكرار حرفي تقريبا لما سبق لتروتسكي أن وصفه في كتابه تاريخ ثورة أكتوبر:
«بعد الاجتماع الصباحي الذي عقده عمال شركة إيريكسون (Erikson)، أحد أهم الشركات الموجودة في منطقة فيبورغ (Vyborg)، خرجوا إلى ساحة سامسونييفسكي (Sampsonievsky)، في حشد كبير بلغ 2500 شخص، والتقوا بالقوزاق في إحدى الشوارع الضيقة. كان الضباط هم أول من قطعوا طريق العمال وبدأوا يشقون صفوفهم بصدور خيولهم، وورائهم جاء القوزاق، الذين ملئوا كل جوانب المكان. كانت لحظة حاسمة! لكن الفرسان مروا في صف طويل بحذر عبر ذلك الشريط الذي فتحه الضباط بين صفوف العمال. ويتذكر كيروف “أن بعض هؤلاء القوزاق ابتسموا في وجوه العمال، بل إن أحدهم غمز بعينه”. ولم تكن هذه الغمزة بدون معنى. فالعمال استقبلوا القوزاق بشجاعة لكن بدون عدوانية، وقد انتقلت شجاعتهم كالعدوى إلى صفوف القوزاق. وقد وجد القوزاقي الذي غمز بعينه من يقلده في ذلك. وبالرغم من المجهودات المتكررة من جانب الضباط، فإن القوزاق، وبدون أن يخرقوا نظام الانضباط صراحة، استنكفوا عن إجبار الحشد على التفرق، لكنهم مروا عبره في ما يشبه الجدول. لقد تكرر هذا الأمر ثلاث مرات أو أربع ومكّن من تقريب الجانبين إلى بعضهم البعض. حيث أن بعض القوزاق بدأوا يردون على أسئلة العمال بل ودخلوا معهم في نقاشات قصيرة. لقد بقوا منضبطين، لكن انضباطهم كان قشرة رقيقة يمكنها أن تخترق في أية لحظة. سارع الضباط إلى فصل قواتهم عن العمال، وبعد أن تخلوا عن فكرة تفريقهم، صفوا قواتهم عبر الشارع مثل حاجز لمنع المتظاهرين من الوصول إلى وسط الشارع. لكن حتى هذا لم يكن كافيا: فالقوزاق الذين وقفوا في أماكنهم بانضباط تام، لم يمنعوا العمال من المرور تحت خيولهم. إن الثورة لا تختار طريقها: إنها تقطع أولى خطواتها نحو النصر تحت بطن خيل القوزاق. هذا حادث معبر!»
تتضح لنا شجاعة المحتجين الإيرانيين الكبيرة عندما نعلم أن العديد منهم كانوا على علم بخبر المجزرة الهمجية التي تعرض لها خمسة إيرانيين في رحاب جامعة طهران والذين سقطوا بنيران ميليشيات الباسيج. ويصف فيسك الحادثة قائلا:
«عندما بلغت أبواب الجامعة صبيحة يوم أمس، كان هناك الكثير من الطلاب يبكون وراء السياج الحديدي للجامعة، ويصرخون قائلين: “مجزرة” ويرمون بالملابس السوداء عبر السياج. وفي هذا الوقت عادت قوات مكافحة الشغب مجددا لتقتحم الجامعة مرة أخرى.»
ويضيف فيسك قائلا:
«في بعض الأحيان، كادت مسيرة أنصار موسوي الناجحة أن تسحقنا وسط آلاف من الرجال والنساء المتظاهرين. يسقطون في حفر المجاري ويتعثرون في أجزاء الأشجار المكسورة ويحاولون مجاراة سرعة سيارته، وترفرف أعلام خضراء كبيرة أمام سيارة زعيمهم السياسي. ويغنون في انسجام تام، مرددين مرات متعددة نفس العبارات: “أيتها الدبابات، والرشاشات، والباسيجي، ليس لديكم أي تأثير الآن”. وعندما جاءت المروحيات الحكومية تزمجر فوق الرؤوس، رفعت تلك الحشود رؤوسها وصرخت بصوت غطى على صوت المروحيات: “أين صوتي؟”، إن الأفكار تتداعى بيسر خلال هذا اليوم العظيم، لكن ما يمكن قوله بحق هو إنها فترة تاريخية.»
وقد عبر هؤلاء المواطنين الذين لم يشاركوا في المظاهرة عن تضامنهم من نوافذ وأسطح منازلهم، كما يصف فيسك ذلك:
«[…] سقط أحد الرجال في الشارع، ووجهه مخضب بالدماء. لكن الجماهير واصلت طريقها، تلوح بالرايات الخضراء وتغني فرحا تحية لآلاف الإيرانيين الذين كانوا واقفين على الأسطح.
«في الجهة اليمنى، رأوا جميعا منزلا لأناس مسنين وفي شرفته جلس الرجل المسن والمقعد، الذي لا بد وانه تذكر سنوات حكم الشاه الممقوت، بل وربما حكم أبيه، رضا خان. وقامت سيدة تبلغ من العمر حوالي 90 سنة بالتلويح بمنديل اخضر، بل أطل رجل أكبر منها أيضا من الشرفة الضيقة ولوح بعكازه. بينما هللت الحشود معبرة عن فرحتها بهذا الرجل العجوز.
«وبفعل سيرنا إلى جانب هذه الأمواج العاتية من البشر، تملكنا جميعا شعور غريب بانعدام الخوف. من سيجرؤ على مهاجمتهم الآن؟ أية حكومة يمكنها أن تتجاهل شعبا من هذا الحجم وبهذا التصميم؟ إنها أسئلة خطيرة.»
أشار فيسك إلى أن المحتجين لم يكونوا فقط من الطبقة الوسطى والطلاب:
«لم يكن المتظاهرون مشكلين فقط من سيدات شمال طهران العصريات الشابات المتأنقات. فالفقراء أيضا كانوا هنا، والعمال ونساء في منتصف العمر المرتديات للتشادور. بعضهن يحملن أطفالهن الرضع على أكتافهن، أو أطفالهن على أيديهن، يتحدثن إليهم بين الفينة والأخرى وهن يحاولن أن يشرحن معنى هذا اليوم لعقول ربما لن تتذكر خلال السنوات المقبلة إنها كانت حاضرة هنا في هذا اليوم من الأيام»
إن هذه المظاهرات الجماهيرية الحاشدة تكرار حرفي لتلك التي شهدتها ثورة 1979، التي سطا عليها فيما بعد أية الله الخميني وعصابته الرجعية. لقد كان الشاه يمتلك جهازا قمعيا جبارا، لكن وبمجرد ما اصطدمت الجماهير به، انهار مثل قصر من الرمال. في البداية قامت قوات الباسيجي بمهاجمة الطلاب، لكن ومع حلول المساء، اضطر الباسيجي أنفسهم إلى الفرار أمام مئات المحتجين غرب المدينة. بعد ذلك وقع إطلاق النار في الضواحي، وتعرض هؤلاء الناس الذين جعلهم سوء الحظ يتأخرون في مغادرة ساحة أزادي، لإطلاق النار على يد قوات الباسيجي. بلغ عدد القتلى ثمانية، إضافة إلى عدد غير محدد من الجرحى.
النظام يتأرجح
لقد تمكنت هذه الحركة الجماهيرية الرائعة من تغيير كل شيء خلال 24 ساعة. فهاهي العنجهية التي عبر عنها محمود أحمدي نجاد قبل يوم واحد فقط، قد تبخرت. وبدل ذلك نشهد وجود مؤشرات عن الرعب في صفوف النظام. خلال يومي السبت والأحد لجأ النظام إلى القمع، والعنف والمجازر، لكن يوم الاثنين تغير كل شيء. لا بد أن السلطات شعرت وكأنها نهضت من النوم فوجدت نفسها قد استيقظت سنة 1979. هذه هي نفس الطريقة التي تم بها إسقاط الشاه قبل ثلاثين سنة، المظاهرات الجماهيرية واحتمال الإضراب العام.
إنهم يخشون الآن حدوث مواجهات عنيفة، بل وحتى اندلاع حرب أهلية ليسوا واثقين من قدرتهم على كسبها. عندما تخشى الطبقة السائدة من إمكانية فقدانها لكل شيء، تجدها دائما مستعدة للقيام بتنازلات وتقديم بعض الأشياء. تقدم السلطات الآن تنازل إعادة حساب الأصوات، لكنها لا تقبل بإجراء انتخابات جديدة. وقد جاء القرار بإجراء هذا التراجع من عند القائد الأعلى، الذي يعتبر السلطة الحقيقية في الدولة، والذي سبق له أن اعترف بنتيجة الانتخابات.
وافق علي خامنئي على إجراء تحقيق في نتائج الانتخابات، ربما من خلال النظر في إحصائيات إحدى مراكز الانتخابات أو اثنتين. لكن هذه التنازلات ضئيلة جدا وجاءت متأخرة جدا. إنها لن تعمل على إخماد غضب المحتجين، بل سوف تكون لها نتيجة عكسية. فكل خطوة إلى الوراء سيقوم بها النظام سوف تنظر إليها الجماهير باعتبارها مؤشرا عن الضعف وسوف تدفع بها إلى المزيد من النضال. لقد دعا موسوي إلى إلغاء الانتخابات، بينما يكتفي النظام بطرح إعادة إحصاء جزئية.
إن حدة الأزمة تؤثر على الاقتصاد. البرجوازيون الإيرانيون مرعوبون. وقد أشاعت نتائج الانتخابات الذعر في عالم الأعمال. صرحت الفايننشل تايمز اليوم قائلة:
«كان موقف عالم الأعمال يوم أمس واضحا في ردة فعله على إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للبلاد. فقد تراجعت بورصة طهران بحدة، بينما هدد تجار (bazaaris) ذوو نفوذ بأنهم سوف يغلقون المحلات اليوم احتجاجا.»
إن واقع كون هؤلاء التجار (bazaaris) الذين كانوا في السابق يشكلون أرسخ قاعدة دعم للنظام، قد صاروا يهددون بالإضراب، مؤشر على الحجم الذي وصلته الثورة التي لا تزال تمتد. إلا أن غياب قيادة جدية يعني أن لحظة الحسم النهائي سوف تؤجل. وقد كتبت الفايننشل تايمز، التي تعتبر أكثر صحف الرأسمال العالمي ذكاء، قائلة:
«يمكن لموجة الغضب هذه أن تتراجع سريعا، خاصة إذا ما اشتد القمع. إلا أن المحللين يراقبون ما إذا كانت ستؤدي إلى حركات عصيان مدني من جانب الشرائح الاجتماعية التي ساندت السيد موسوي، بمن فيهم رجال أعمال من التجار الإيرانيين الذين هددوا بالإضراب اليوم، والنقابات والطلاب، أو احتجاجات بعض رجال الدين الذين ساندوا بدورهم ترشيحه
«وقد صرح أحد المحللين قائلا: “من الآن فصاعدا سوف تحدث الكثير من الانتفاضات المتفرقة حول مختلف القضايا، مع بداية تنامي الشعور بين الناس بانعدام أي سبيل سلمي للتغيير”.»
ضعف القيادة
هذا المنظور مشابه لذلك الذي طرحته في مقال سابق يوم أمس. فحتى أشد الإضرابات قوة وأكثر المظاهرات كفاحية عاجزة عن حل المسألة المركزية: أي مسألة السلطة. ليس كافيا أن يبتسم بعض رجال الشرطة للمتظاهرين. فإذا لم تنتقل قوات الشرطة والجيش إلى جانب الشعب، فإن أسلحة الجمهورية الإسلامية ستبقى في أيدي إدارة أحمدي نجاد ورجال الدين الذين يحمونه. إن مسألة القيادة ما تزال ذات راهنية.
سنة 1999، سحق النظام موجة من المظاهرات الطلابية خلال أيام قلائل، إلا أن المحتجين اليوم يبدون أكثر عنادا. وقد أدت محاولات القمع إلى نتيجة عكسية. يسود جامعة طهران بركان من الغضب بعد الهجوم الهمجي الذي نظمته عصابات أحمدي نجاد المسلحة. اجتمع حوالي 400 طالب من أنصار الإصلاحيين، وقد غطى العديد منهم وجهه بطلاء أخضر لستر هويته الحقيقية، في وقت مبكر في مسجد بجامعة طهران وطالبوا أحمدي نجاد بالاستقالة. قال بعض هؤلاء الطلاب إن أعضاء من الميليشيات الإسلامية هاجموا الحي الجامعي حيث يقطن الطلاب. قال أحد الطلاب: “لقد ضربوا أصدقاءنا واختطفوا ما لا يقل عن 100 طالب. وليست لدينا أية معلومات عن مكان احتجازهم”. وقد قدم 120 أستاذا محاضرا استقالتهم احتجاجا على هذا الفعل.
لكن شجاعة المحتجين ليست صفة للقادة. إن الأشخاص مثل ميرحسين موسوي ليسوا قادة بل ينتمون إلى فئة الحوادث التاريخية. وينتمي كيرنسكي والأب غابون إلى نفس الصنف. إن مثل هذه الفئة من الناس يصعدون بسرعة إلى الواجهة، مدفوعين بمد أحداث تاريخية عظيمة، فيحققون شهرة مزيفة لفترة قصيرة من الزمن، بعد ذلك يختفون دون أن يتركوا أثرا، حيث يُبتلعون مثل الزبد في موج المحيط، إذ تجتاحها تيارات أخرى أكثر قوة. كان [موسوي] رئيسا للوزراء خلال الثمانينات، بعد ذلك اختفى من مسرح الأحداث، وخصص كل وقته لهوايته المفضلة: الرسم التجريدي. والآن شده التاريخ من خناقه ورمى به إلى واجهة مسرح الأحداث، حيث يمثل دورا بئيسا.
لكن وبالرغم من انتقاداته لسياسات النظام الداخلية والخارجية، فإن السيد موسوي لم يكن أبدا معارضا للجمهورية الإسلامية. لقد قدم نفسه، في الواقع، مثله مثل الرئيس، باعتباره “تصحيحيا” يطالب بالعودة إلى تطبيق القيم والمبادئ الحقيقية لثورة 1979 الإسلامية. إلا أنه زين خطابه بالمطالبة بالمزيد من الحريات الديمقراطية وبتسيير براغماتي للاقتصاد.
بل إن ترشيحه نفسه كان من قبيل المصادفة تقريبا. لقد كان يرفض الترشح للانتخابات لكنه دفع إلى ذلك، مرارا للوقوف إلى جانب الرئيس الإصلاحي السابق: محمد خاتمي. وبمجرد ما قدم ترشيحه، تلقى دعم أكبر هاشمي رفسنجاني، الشخصية السياسية القيادية في معسكر المحافظين والذي يترأس كلا من مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي هو الجهاز الأعلى الذي يحدد السياسة العامة، ومجلس الخبراء، الذي يعين القائد الأعلى.
وفي الوقت الذي توقع الجميع منه أن يكون وسطيا، سرعان ما بدأت حملة السيد موسوي تتبنى شعارات الإصلاحيين، وبحماس أكبر. وخلال التجمعات التي نظمها وجه خطاباته نحو الطبقة الوسطى المدينية المتعلمة، وهاجم تطرف الرئيس وسخر من سياسته الاقتصادية الشعبوية.
وبينما الإصلاحيون الشباب، الذين تظاهر الكثير منهم، يوم أمس، في شوارع طهران مرة أخرى، في مسيرات سلمية انتهت بأحداث عنف، يتطلعون إليه لكي يأتي بتغيير جذري، فإن السيد موسوي لديه أفكار أخرى. كتب فيسك عن المظاهرة قائلا:
«ميرحسين موسوي كان بينهم، ممتطيا سيارته وسط دخان العوادم والحرارة، متجهما ومذهولا وغير مصدق أن مثل هذه المظاهرة الضخمة يمكنها أن تندلع في خضم اليأس الذي ساد بعد المجزرة التي حدثت بعد الانتخابات. يمكن أن يكون قد خسر رسميا انتخابات الجمعة الماضية، لكنه حقق يوم أمس نصره الانتخابي في شوارع العاصمة. والذي انتهى كما كان متوقعا بإطلاق النار وإراقة الدماء.»
تقدم لنا عين فيسك الفاحصة هنا وصفا دقيقا للحالة النفسية للزعيم الإصلاحي، “متجهم ومذهول وغير مصدق” بسبب حجم القوى التي استثارها والتي هو عاجز، مثل أي ساحر مبتدئ، عن السيطرة عليها. لقد أشارت الصحف البرجوازية إلى تذبذبات موسوي. فالفايننشل تايمز صرحت:
«إنه يبدو ممزقا بين الدعوة إلى مواصلة الاحتجاجات وبين وقفها لمنع حدوث العنف وسقوط قتلى كما حدث ليلة أمس […] لقد دعا السيد موسوي في البداية إلى إلغاء احتجاجات يوم أمس خوفا من اندلاع العنف مجددا، لكنه انظم بعد ذلك إلى المتظاهرين في الشوارع. إن المأزق الذي يواجهه هو أن هذه المظاهرات تشكل أكبر احتجاج جماهيري شهدته إيران منذ ثورة 1979 الإسلامية.»
دعا موسوي أنصاره إلى عدم المشاركة في مسيرة كانت مبرمجة اليوم في العاصمة، وقد صرح الناطق باسمه قائلا: «يدعو موسوي أنصاره إلى عدم الالتحاق بمسيرة اليوم من أجل حماية أرواحهم. إن المسيرة قد ألغيت». لكن وبينما أنا أكتب هذه الأسطر يذيع المذياع خبر تجمع حشود كبيرة في شوارع طهران، وتقول التقارير إن المظاهرات ستكون أضخم من يوم أمس.
ما يزال احتمال وقوع مواجهات دموية أمرا قائما. وها هو تعليق أحد الصحفيين:
«تشع مشاعر الغضب والكراهية من عيون كلا الطرفين، ومهما كانت النتيجة ستغضب البعض […] فقوات الشرطة حاولت أن تحافظ ما أمكن على سلوك حضاري، لكن ليس الجميع ينصتون إلى قادة الشرطة. […] ليس من السهل تهدئتهم. ما الذي يحدث عندما تنكسر سلسلة القيادة، وعندما يتجه كلا الطرفين إلى المواجهة ولا ينصتون إلى قادتهم؟ إن الوضع سيصبح جد خطير.»
لكن وبالنظر إلى حجم الغضب الجماهيري، فإنه لن يكون بالإمكان توقع تطورات مثل هذه الأوضاع. مجرد حدوث مواجهة دموية، قد تدفع الوضع كله إلى الانفجار. لقد تم طرح فكرة الإضراب العام. إن لجوء الدولة إلى أعمال إرهابية على نطاق واسع سيواجه بموجة من الإضرابات والاحتجاجات التي يمكنها بسهولة أن تتحول إلى انتفاضة على شاكلة ما حدث سنة 1979. إن موسوي يحاول بيأس أن يمنع حدوث هذا. وقد نقل عنه أنه قال: «باعتباري شخصا يحب رجال الشرطة، أطلب منهم أن يتلافوا القيام بردود أفعال عنيفة ضد الشعب وأن لا يتسببوا في ضرب ثقة الشعب في هذا الجهاز الهام.»
لقد توقعنا هذا
لقد توقعنا نحن الماركسيون حدوث هذه الاحتجاجات قبل وقوعها. لقد سبق لنا أن قلنا، قبل حوالي عشر سنوات، إن مظاهرات الطلاب الضخمة كانت بمثابة “الطلقة الأولى للثورة الإيرانية.” ولم ينتبه إلى هذا التوقع سوى أناس قلائل. إلا أن إيران بقيت في مقدمة منظورات التيار الماركسي الأممي. وفي خطاب ألقيته في المؤتمر العالمي للتيار الماركسي الأممي، شهر غشت من سنة 2008، قلت ما يلي:
«إن إيران ناضجة لحدوث الثورة. فهناك لدينا كل الشروط التي حددها لينين للثورة: انشقاق في القمة، غليان بين صفوف الطبقة الوسطى، وطبقة عاملة جبارة ذات تقاليد ثورية، وموجات من الإضرابات الهامة، الخ. إن العامل الوحيد الذي ما يزال مفقودا لحد الآن هو العامل الذاتي، أي الحزب الثوري. إن العمل الذي يقوم به رفاقنا الإيرانيون يكتسي أهمية عظيمة بالنسبة للتيار الماركسي الأممي. يجب علينا أن نقدم الدعم لهم.
« إن الوضع في إيران يشبه كثيرا جدا الوضع الذي كان سائدا في روسيا قبل ثورة 1905. عليكم بالانتباه بمجرد ما ستبدأ الجماهير الإيرانية في التحرك. يمكن للثورة القادمة أن تسير في العديد من الطرق، لكن هناك شيء واحد يمكننا أن نكون واثقين منه: هو إنها لن تكون ثورة أصولية! لقد أدت السنوات الثماني والعشرين من وجود الملالي في السلطة إلى ضرب كلي لمصداقيتهم في أعين الجماهير والشباب. أغلبية السكان شباب؛ وسوف يكونون منفتحين على الأفكار الماركسية الثورية. إن الثورة الإيرانية ستغير كل الوضع في الشرق الأوسط، وستبين أن الموقف المعادي للإمبريالية ليس بحاجة إلى الأصولية. وسوف يكون لها تأثير على المنطقة بأسرها.»
لقد تأكدت هذه الكلمات بشكل تام من خلال الأحداث الأخيرة. لقد أخذت الثورة الإيرانية وقتا طويلا لكي تنضج، لكنها خرجت إلى النور أكثر قوة بفضل ذلك. إن الانتفاضات البطولية السابقة التي خاضها الطلاب الإيرانيون سحقت بالقمع الدموي واعتقال القادة، لكن وكما توقعنا آنذاك، لم تكن تلك الهزائم سوى نكسة مؤقتة.
«بالنظر إلى غياب القيادة، يمكن للقمع أن يؤدي إلى إيقاف الحركة مؤقتا، لكن فقط مقابل التسبب في حدوث تحركات أكثر عنفا وأكثر جموحا في المستقبل.» (The First Shots of the Iranian Revolution، 17 يوليوز 1999). لقد تأكد هذا التوقع بشكل كامل من خلال الأحداث. إن النضال سيتواصل، عبر فترات تقدم وتراجع حتمية، إلى حين حدوث المواجهة الحاسمة.
وقد كتبت آنذاك حول المهمات العاجلة للحركة الثورية ما يلي:
«لقد أبان عمال إيران وشبابها بشكل متكرر عن إمكانات ثورية عظيمة. إن ما يجب القيام به الآن هو إعطاء الحركة شكلا منظما وبرنامجا علميا ومنظورات واضحة. طريق المساومات والتعاون الطبقي لن يؤدي إلى أي حل مطلقا. إن الشرط المسبق لتحقيق النجاح هو الحركة المستقلة للطبقة العاملة، إلى جانب حلفائها الموضوعيين، والقيام بقطيعة حاسمة مع البرجوازية اللبرالية. من الضروري تشكيل لجان للمعارك، من أجل تنظيم الحركة، والتنسيق بينها على الصعيد المحلي والجهوي والوطني. من الضروري التحضير لميليشيات الدفاع الذاتي ضد العصابات الرجعية، مع توجيه الدعوة في نفس الوقت لقاعدة الجيش لكي تأتي إلى جانب الشعب.
«وفوق كل شيء، من الضروري طرح برنامج ملموس لربط النضال من أجل الحقوق الديمقراطية، بالمطالب البرنامجية لحل المشاكل الملحة للطبقة العاملة، والفلاحين والعاطلين والنساء والشباب. إن برنامجا من هذا القبيل سوف يتضمن حتما قطيعة جذرية مع الرأسمالية وسيضع النضال من أجل سلطة العمال والتحرك نحو الاشتراكية في إيران على رأس جدول الأعمال. إن الشرط المسبق لنجاح النضال هو المشاركة النشيطة للطبقة العاملة، وخاصة عمال قطاع النفط. وبمجرد ما سيأخذ عمال إيران السلطة بين أيديهم، سيعطون الانطلاقة لحركة ستنتشر كالحريق عبر هشيم منطقة الشرق الأوسط بأسرها. سوف يكون لثورتهم تأثير أكبر حتى مما كان لثورة 1917 الروسية، خاصة إذا ما تمت قيادتها على يد حزب ماركسي واع. إن خلق مثل هذا الحزب إذن هو أشد المهام استعجالا أمام طليعة العمال والطلاب الإيرانيين. بتسلحها بأفكار صحيحة وبرنامج وإستراتيجية علميين، ستصبح الطبقة العاملة الإيرانية جبارة لا تقهر»
ليس هناك الكثير مما يمكننا أن نضيفه إلى هذا. إننا لم نعد الآن نناقش منظورات مجردة، بل صرنا نناقش وقائعا. إن الحركة الرائعة التي يخوضها العمال والطلاب الإيرانيون هي الرد النهائي على جميع هؤلاء المرتابين والجبناء الذين يشكون في قدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع. إن الثورة الإيرانية قد بدأت وقدرها أن تمر عبر سلسلة من المراحل قبل أن تجد في النهاية طريقها. إلا أننا متيقنون من أنها سوف تنتصر في النهاية. وعندما ستأتي هذه اللحظة، سيكون لها صدى ثوريا في كل الشرق الأوسط، وآسيا والعالم يأسره.
إننا ندعو كل عمال العالم إلى أن يمدوا أيديهم لمساعدة إخواننا وأخواتنا الإيرانيين.
- فليسقط الطغيان والقمع!
- عاشت الثورة الإيرانية!
- يا عمال العالم اتحدوا!
آلان وودز
الثلاثاء: 16 يونيو 2009
عنوان النص بالإنجليزية:
The Iranian Revolution: what does it mean and where is it going?