الرئيسية / البلشفية: الطريق نحو الثورة / البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

مقتل حاكم أوتوقراطي

في الأول من مارس سنة1881 كانت عربة القيصر ألكسندر الثاني تسير على طول قناة كاترين في سانت بيترسبورغ، عندما، فجأة، ألقى عليها شاب ما يشبه كرة الثلج. أخطأت القذيفة هدفها، فترجل القيصر، الذي لم يكن قد أصيب بأذى، للتحدث إلى بعض القوزاق الجرحى. في تلك اللحظة، اندفع إرهابي ثان، غرينيفيتسكي، إلى الأمام، قال: “من السابق لأوانه أن تشكر الله”، وألقى قنبلة أخرى تحت قدمي القيصر. وبعد ساعة ونصف على ذلك، توفي إمبراطور روسيا العظمى. شكل هذا العمل تتويجا لواحدة من أبرز الفترات في التاريخ الثوري، فترة واجهت خلالها حفنة من الشباب والشابات المخلصين والأبطال كل قوة الدولة القيصرية الروسية. لكن نجاح الإرهابيين في تصفية الوجه الأبرز للاستبداد الممقوت، شكل في نفس الآن ضربة مميتة لما كان يسمى بحزب إرادة الشعب الذي نظم ذلك الهجوم.

كانت ظاهرة النارودنيك الروسية (“الشعبويون”، رجال الشعب) نتاجا للتخلف الشديد للرأسمالية الروسية. فقد سار اضمحلال المجتمع الإقطاعي بوتيرة أسرع من وتيرة تشكل البرجوازية. وفي ظل هذه الظروف، عملت قطاعات من المثقفين، وخاصة الشباب، على القطع مع النبلاء والبيروقراطية ورجال الدين وبدأوا في البحث عن وسيلة للخروج من ذلك المأزق الاجتماعي. لكنهم عندما نظروا حولهم بحثا عن قاعدة دعم داخل المجتمع، لم تجذبهم البرجوازية الضعيفة والرجعية والمتخلفة، ولا الطبقة العاملة التي كانت ما تزال في مهدها، غير منظمة وأمية سياسيا وضئيلة عدديا، لا سيما بالمقارنة مع ملايين الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية المضطهدة والمسحوقة داخل المجتمع الروسي.

ولذلك كان من المفهوم أن ينظر المثقفون الثوريون إلى “الشعب”، في شخص الفلاحين، باعتباره القوة الثورية المحتملة الرئيسية داخل المجتمع. وتجد هذه الحركة جذورها في نقطة التحول الكبرى في التاريخ الروسي سنة 1861. تحرير الأقنان الذي تحقق في ذلك العام، لم يكن بأي حال من الأحوال، نتيجة للرغبة الخيرة المستنيرة لألكسندر الثاني، مثلما يزعم الكثيرون. لقد جاءت نتيجة الخوف من حدوث انفجار اجتماعي بعد الهزيمة المذلة التي تعرضت لها روسيا في حرب القرم الكارثية 1853 – 1856، والتي عملت، مثلها مثل الحرب اللاحقة مع اليابان، على فضح ضعف النظام القيصري. لم تكن تلك هي المرة الأولى، ولا المرة الأخيرة، التي كشفت فيها الهزيمة العسكرية إفلاس الاستبداد، وقدمت دفعة قوية لحركة التغيير الاجتماعي. لكن مرسوم تحرير الأقنان لم يحل أيا من المشاكل المطروحة، بل جعل حياة جماهير الفلاحين أسوأ بكثير. فقد استولى الملاكون الكبار بطبيعة الحال على أفضل قطع الأراضي، وتركوا المناطق الجرداء للفلاحين. وكانت النقاط الاستراتيجية مثل المياه والمطاحن عادة في أيدي الملاكين الكبار الذين أجبروا الفلاحين على دفع ثمن الوصول إليها. والأسوأ من ذلك هو أن الفلاحين “الأحرار” كانوا مرتبطين بقوة القانون بالبلدية، أو المير (mir)، التي كانت عليها مسؤولية جماعية في جمع الضرائب. لم يكن مسموحا لأي فلاح أن يغادر المير دون إذن. وقد أعيقت حرية الحركة بواسطة نظام جوازات السفر الداخلية. تحولت البلدية، في الواقع، إلى “الحلقة الأدنى في حلقات النظام البوليسي المحلي”.[1]

ولجعل الأمور أسوأ، سمح الإصلاح للملاكين الكبار باقتطاع وامتلاك خمس (وفي بعض الحالات خمسي 5/2) الأراضي التي كان الفلاحون يزرعونها سابقا. وقد اختاروا دائما أفضل الأجزاء وأكثرها إنتاجية -الغابات والمروج والمناطق المسقية والمراعي والطواحين، وما إلى ذلك- مما أعطاهم السيطرة المطلقة على الفلاحين “الأحرار”. وعاما بعد عام غرقت أعدد أكبر من الأسر الفلاحية بشكل ميؤوس منه في الديون والفقر نتيجة لهذا الاحتيال.

كان تحرير الأقنان محاولة للقيام بالإصلاح من فوق لمنع اندلاع الثورة من تحت. ومثله مثل كل الإصلاحات الهامة، كان نتيجة للحراك الثوري. كان الريف الروسي يغلي بانتفاضات الفلاحين. وفي العقد الأخير من عهد نيقولا الأول، كانت هناك 400 انتفاضة للفلاحين، وعدد مماثل في السنوات الست التالية (1855-1860). وفي غضون 20 سنة، ما بين 1835 و1854، تعرض 230 من الملاكين العقاريين والجباة للقتل، إضافة إلى 53 آخرين في السنوات الثلاث السابقة لعام 1861. وقد استقبل إعلان التحرير بموجة أخرى من الاضطرابات والانتفاضات التي تعرضت لقمع وحشي. وتعرضت الآمال التي خلقها جيل كامل من المفكرين التقدميين حول أفكار الإصلاح، لخيانة قاسية على يد نتائج التحرير، والذي تحول إلى مجرد عملية احتيال ضخمة. الفلاحون، الذين اعتقدوا أن الأرض صارت ملكا لهم، تعرضوا لكل أنواع الخداع. كان عليهم أن يقبلوا فقط بتلك المخصصات المنصوص عليها في القانون (بالاتفاق مع المالك) وكان عليهم أن يدفعوا رسوم الاسترداد على مدى 49 عاما بفائدة 6%. ونتيجة لذلك، احتفظ الملاكون العقاريون بحوالي 71.500.000 ديسياتين من الأرض، بينما حصل الفلاحون، الذين يمثلون الأغلبية الساحقة في المجتمع، على 33.700.000 ديسياتين فقط.

في السنوات التي تلت عام 1861، قام الفلاحون، الذين كبلتهم التشريعات القمعية و“القطع الأرضية الهزيلة” والذين سحقهم ثقل الديون، بتنظيم سلسلة من الانتفاضات المحلية اليائسة. لكن الفلاحين كانوا دائما، على مر التاريخ، غير قادرين على لعب دور مستقل في المجتمع. يعطون الدليل على الشجاعة الثورية العظيمة والتضحية، لكن جهودهم للتخلص من حكم مضطهـِدهم لا تنجح إلا إذا قادت حركتهم الثورية طبقة أكثر قوة وتجانسا ووعيا من المدن. في غياب هذا العامل تعرضت انتفاضات الفلاحين “jacqueries”[2] [بالفرنسية في الأصل] خلال العصور الوسطى وما بعدها، بشكل حتمي لأقسى الهزائم، وهو ما يعتبر نتيجة لتشتت الفلاحين بطبيعتهم وافتقارهم إلى التماسك الاجتماعي وعدم وجود وعي طبقي لديهم.

في روسيا، حيث كانت أشكال الإنتاج الرأسمالية ما تزال في مرحلتها الجنينية، لم تكن توجد أية طبقة ثورية في المدن. إلا أن طبقة، أو بدقة أكبر فئة من الطلاب والمثقفين المفقرين في أغلبيتهم، الرازنوشينتسي (Raznochintsy) أو “البروليتاريا الفكرية”، أثبتت حساسية كبيرة لمزاج السخط المتراكم في أعماق الحياة الروسية. بعد سنوات أعلن الإرهابي ميشكين في محاكمته أن “حركة المثقفين لم تخلق بشكل مصطنع، بل هي صدى الاضطرابات الشعبية”[3]. وكما هو الحال دائما، لم تكن قدرة المثقفين على لعب دور اجتماعي مستقل أكبر من قدرة الفلاحين. ومع ذلك فإنه يمكنها أن تكون بمثابة مقياس دقيق للأمزجة والتوترات المتصاعدة داخل المجتمع.

في عام 1861، وهو ذاته عام تحرير الفلاحين، كتب الكاتب الروسي الديمقراطي العظيم ألكسندر هيرزن، من منفاه في لندن، على صفحات جريدته Kolokol (الجرس) يحث الشباب الروسي على الذهاب إلى “الشعب”! وقد جاء اعتقال كتاب بارزين مثل تشيرنيشيفسكي (الذي تأثرت كتاباته بماركس والذي كان له تأثير كبير على لينين وجيله) وديمتري بيساريف، ليظهر استحالة إصلاح ليبرالي سلمي. وبحلول نهاية عقد الستينات كانت أسس حركة ثورية جماهيرية من الشباب الشعبوي قد وضعت.

أثارت الظروف المروعة للجماهير في روسيا، خلال مرحلة ما بعد الإصلاح، الغضب والسخط في نفوس أفضل قطاعات المثقفين. ولم يؤد إلقاء القبض على أكثر العناصر الديمقراطية راديكالية، بيساريف وتشيرنيشيفسكي، سوى إلى تعميق غضب المثقفين ودفعهم أبعد إلى اليسار. وبينما تكيف الجيل القديم من الليبراليين مع الردة الرجعية، كان جيل جديد من الراديكاليين الشباب قد بدأ يظهر في الجامعات، جسدتهم شخصية بازاروف في رواية “الآباء والأبناء” للكاتب تورغينيف. كانت السمة المميزة لهذا الجيل الجديد هي نفاذ الصبر وكره الليبراليين، الذين تعامل معهم بازدراء. لقد آمن بحماس بأفكار الانقلاب الثوري الكامل وإعادة بناء جذري للمجتمع من أعلى إلى أسفل.

في غضون 12 شهرا من التحرير، انتقل “القيصر المصلح” نحو الردة. انطلقت حملة قمع ضد المثقفين. ووضعت الجامعات تحت الرقابة القمعية لوزير التعليم الرجعي، الكونت ديمتري تولستوي، الذي فرض نظاما تعليميا يهدف إلى سحق التفكير الحر وخنق الخيال والإبداع. اضطرت المدارس إلى تخصيص 47 ساعة في الأسبوع لتعليم اللاتينية و36 ساعة لليونانية، مع التركيز الشديد على النحو. واستبعدت العلوم الطبيعية والتاريخ من المناهج باعتبارها مواد يحتمل أن تكون هدامة، وتقوى بشكل صارم نظام الرقابة على التفكير تحت أعين مفتشي المدارس. وأفسحت أيام “الإصلاح” المفرحة الطريق لسنوات قاتمة من الرقابة البوليسية والقمع. وتكرس السير نحو الردة الرجعية بعد فشل الانتفاضة البولندية عام 1863. أغرقت الثورة في الدماء: قتل آلاف البولنديين في المعركة، وشنق المئات في أعمال القمع التي تلت ذلك. وقد أَعدَم الكونت الوحشي مورافيوف شخصيا 128 بولنديا ورحل 9423 من الرجال والنساء. وكان مجموع عدد المنفيين إلى روسيا ضعف هذا الرقم. شهد بيتر كروبوتكين، الذي صار لاحقا منظر اللاسلطوية، معاناة المنفيين البولنديين في سيبيريا، حيث كان يرابط كنقيب شاب في الحرس الإمبراطوري، وكتب:

«رأيت البعض [منهم] في لينا، واقفين نصف عراة في كوخ، حول قدر هائل مليء بالماء المالح، يخلطون السائل الثقيل بعصي طويلة، في درجة حرارة جهنمية في حين كانت بوابة الكوخ مفتوحة على مصراعيها لإحداث تيار قوي من الهواء الجليدي. كان هؤلاء الشهداء على يقين من أنهم بعد عامين من هذا العمل سيموتون من الإرهاق»[4].

لكن تحت جليد الردة الرجعية، كانت بذور نهضة ثورية جديدة تنبت بسرعة. وحالة الأمير كروبوتكين هي مثال صارخ على كيف يحرك هبوب الرياح قمم الأشجار أولا. هذا العضو السابق في فيلق الحرس الإمبراطوري، الذي ولد لعائلة أرستقراطية، تأثر مثله مثل كثير من معاصريه، بالمعاناة الرهيبة للجماهير ودفع لكي يصل إلى استنتاجات ثورية. وباعتباره باحثا مدققا، وصف كروبوتكين في مذكراته بوضوح التطور السياسي لجيل كامل، سأل نفسه قائلا: «لكن كيف يحق لي الاستمتاع بهذه المباهج الكبرى، بينما كل ما يحيط بي هو البؤس والكفاح من أجل لقمة متعفنة من الخبز؛ وبينما كل ما أنفقه لأعيش في هذا العالم من الملذات الكبرى يجب أن ينتزع من أفواه أولئك الذين يزرعون القمح والذين ليس لهم ما يكفي من الخبز لإطعام أطفالهم؟».

أظهرت القسوة الباردة تجاه البولنديين الوجه الآخر “للقيصر المصلح”، ذلك الرجل الذي، على حد تعبير كروبوتكين، «وقع بمرح المراسيم الأكثر رجعية، ثم بعد ذلك أصبح غير راض عنها»[5]. لقد دفع نظام الحكم الاستبدادي الفاسد والمنحط، واليد الميتة للبيروقراطية، وهيمنة التصوف الديني والظلامية، كل القوى الحية في المجتمع إلى التمرد. وكتب الشاعر نيكراسوف: «مر هو مذاق الخبز الذي صنعه العبيد». دفعت الثورة ضد العبودية بالطلاب الثوريين الشباب للبحث عن مخرج. وباستعمال عبارة هيرزن، صار شعارهم: “V Narod!” (إلى الشعب!). تركت الكلمات التي قالها هيرزن انطباعا لا يمحى على هؤلاء الشباب الشجعان والمخلصين: «اذهبوا إلى الشعب… ذلك هو مكاننا… تظاهروا… لكي لا يخرج من بينكم بيروقراطيون جدد، بل جنود للشعب الروسي».[6]

“التوجه نحو الشعب”

كانت هذه الحركة، المشكلة أساسا من شباب الطبقة العليا، ساذجة ومشوشة، لكنها كانت أيضا تتميز بالشجاعة ونكران الذات بشكل تام، وتركت وراءها إرثا لا يقدر بثمن من أجل المستقبل. وفي نفس الوقت الذي عمل فيه لينين على انتقاد الطابع الطوباوي لبرنامجهم، وجه دائما تحية حارة للبسالة الثورية التي اتصف بها النارودنيون الأوائل. لقد فهم أن الحركة الماركسية في روسيا قامت على ما راكمه هؤلاء الشهداء، الذين تخلوا بقناعة عن الثروة ووسائل الراحة لمواجهة الموت والسجون والمنفى للكفاح من أجل عالم أفضل. كان من المتوقع وجود الارتباك النظري في حركة كانت ما تزال في مهدها. إن غياب طبقة عاملة قوية، وعدم وجود أية تقاليد واضحة أو نموذج من الماضي ليضيء طريقهم، وليل الرقابة المظلم الذي منعهم من الوصول إلى معظم كتابات ماركس، كل هذا حرم الشباب الثوريين الروس من فرصة فهم الطبيعة الحقيقية للسيرورات التي تجري في المجتمع.

كان معظم الشباب ينظرون إلى ماركس باعتباره “مجرد اقتصادي”، في حين أن عقيدة باكونين حول “التدمير الحازم”، ودعوته إلى العمل المباشر، كانت تبدو أكثر انسجاما مع روح جيل تعب من الكلام ويتحرق شوقا للنتائج. يتذكر بافل أكسلرود، في مذكراته، كيف أن نظريات باكونين اجتاحت عقول الشباب الراديكالي ببساطتها الشديدة[7]. “الشعب”، وفقا لباكونين، كان ثوريا واشتراكيا بالفطرة، منذ العصور الوسطى، مثلما يتضح من انتفاضة بوغاشوف (Pugachov)، وحتى قطاع الطرق، الذين يشكلون نموذجا جيدا ليقتدى به! كل ما هو مطلوب لإشعال ثورة شاملة، كما قال، هو أن يقوم الطلاب بالذهاب إلى القرى ويرفعوا راية الثورة. الانتفاضات المحلية ستشعل فورا الحريق العام، وبذلك سينهار النظام القائم بأكمله.

استعاد تروتسكي في فقرة مؤثرة روح هؤلاء الرواد الشباب قائلا:

«شباب وشابات، معظمهم من الطلاب السابقين، يبلغ عددهم نحو ألف في المجموع، حملوا الدعاية الاشتراكية إلى جميع أنحاء البلاد، وخاصة في الروافد الدنيا للفولغا، حيث يوجد إرث انتفاضتي بوغاشوف ورازين[8]. تميزت هذه الحركة، التي تلفت الأنظار باتساع نطاقها ومثاليتها، التي هي المهد الحقيقي للثورة الروسية، كما هي طبيعة المهد، بالسذاجة الشديدة. لم تكن عند الدعاة لا منظمة قائدة ولا برنامج واضح. لم تكن لديهم أية خبرة تآمرية. ولماذا ينبغي أن تكون لديهم؟ فهؤلاء الشباب، بعد أن قطعوا مع أسرهم ومدارسهم، وبدون عمل ولا علاقات شخصية أو التزامات، ودون خوف من السلطات الأرضية أو السماوية، اعتبرواأنفسهم التجسيد الحي للانتفاضة الشعبية. الدستور؟ البرلمانية؟ الحرية السياسية؟ كلا، إنهم لن ينحرفوا عن طريقهم بهذه الخدع الغربية. إن ما يريدونه كان هو الثورة الكاملة، من دون انتقاص أو مراحل وسيطة»[9].

في صيف عام 1874، ذهب المئات من الشباب، المنحدرين من الطبقة العليا أو الوسطى، إلى القرى وهم يحترقون بفكرة تحريض الفلاحين على الثورة. بافل أكسلرود، الذي صار لاحقا أحد مؤسسي الحركة الماركسية الروسية، يتذكر القطيعة الجذرية التي قام بها هؤلاء الثوار الشباب مع طبقتهم قائلا:

«كان على كل من يرغب في العمل من أجل الشعب التخلي عن الجامعة ونبذ وضعه المتميز وأسرته، ويدير ظهره حتى للعلم والفن. كان عليهم قطع جميع الأواصر التي تربطهم بالطبقات الاجتماعية العليا، وحرق الجسور وراءهم. وبكلمة واحدة: كان عليهم أن ينسوا طوعا أي طريق ممكن للتراجع. كان على الداعية، إذا جاز التعبير، إحداث التحول الكامل لجوهره الداخلي، حتى يشعر بأنه واحد من الطبقات الدنيا من الشعب، ليس فكريا فقط، بل في سلوكه اليومي المعتاد أيضا»[10].

لم يكن لهؤلاء الشبان والشابات الشجعان أي برنامج محدد، ما عدا العثور على طريق إلى “الشعب”. وهم يرتدون ملابس عمل قديمة اشتروها من محلات الملابس المستعملة في الأسواق، ويحملون جوازات سفر مزورة، كانوا يسافرون إلى القرى على أمل تعلم حرفة تمكنهم من العيش والعمل دون ان يتم كشفهم. لم يكن ارتداء ملابس الفلاحين حركة مسرحية كما قد يبدو لأول وهلة. يشير كروبوتكين إلى أن:

«الفجوة بين الفلاحين وبين المثقفين كبيرة في روسيا، والاتصال بينهم أمر نادر الحدوث بحيث أن مجرد ظهور رجل يلبس ثوب المدينة في القرية كاف ليوقظ الفضول العام؛ لكن حتى في المدينة، إذا كان شخص يظهر من كلامه ولباسه أنه ليس عاملا ووجد وهو يتحدث إلى العمال فسيثير ذلك شكوك الشرطة فورا»[11].

للأسف، تأسست هذه الروح الثورية المثيرة للإعجاب على نظريات خاطئة من حيث الجوهر. كانت الفكرة الصوفية القائلة بوجود “طريق خاص نحو الاشتراكية لروسيا”، التي يمكنها أن تقفز بطريقة ما من البربرية الإقطاعية إلى مجتمع لا طبقي، وتخطي مرحلة الرأسمالية، مصدر سلسلة لا تنتهي من الأخطاء والمآسي. النظرية الخاطئة تؤدي حتما إلى الكارثة في الممارسة العملية. كان النارودنيون مدفوعين بالارادوية الثورية، أي بالفكرة القائلة بأنه يمكن تحقيق الثورة بفضل الإرادة والعزيمة الحديدية لمجموعة صغيرة من الرجال والنساء المخلصين. إن العامل الذاتي[12]، بالطبع، حاسم في تاريخ البشرية. وقد أوضح كارل ماركس أن الرجال والنساء يصنعون تاريخهم، لكنه أضاف أنهم لا يصنعونه خارج سياق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية القائمة بشكل مستقل عن إرادتهم.

محاولات المنظرين النارودنيين لإيجاد “مسار تاريخي خاص” لروسيا، مختلف عن مسار أوروبا الغربية، قادهم حتما إلى طريق المثالية الفلسفية والنظرة الصوفية إلى الفلاحين. الارتباك النظري لباكونين، الذي كان انعكاسا للعلاقات الطبقية المتخلفة جدا وغير المكتملة في روسيا، وجد جمهورا جاهزا بين صفوف النارودنيين، الذين كانوا يبحثون عن تبرير إيديولوجي لتطلعاتهم الثورية الغامضة.

من خلال قلبه للواقع رأسا على عقب، صور باكونين المير (mir) – أي الوحدة الأساسية للنظام القيصري في القرية، كعدو للدولة. كل ما كان ضروريا هو ذهاب الثوار إلى القرية وإيقاظ الفلاحين الروس “الثوريين بالغريزة” للنضال ضد الدولة، وهكذا تكون المشكلة قد حلت دون اللجوء إلى “السياسة” أو أي شكل من أشكال التنظيم الحزبي. المهمة ليست النضال من أجل المطالب الديمقراطية (بما أن الديمقراطية تمثل، هي أيضا، شكلا من أشكال الدولة، وبالتالي تعبيرا آخر عن الاستبداد) بل تحطيم الدولة “بشكل عام” واستبدالها باتحاد طوعي للمجتمعات المحلية، على أساس المير، بعد تطهيره من سماته الرجعية.

لقد اتضحت العناصر المتناقضة المكونة لهذه النظرية سريعا عندما حاول الشباب النارودنيون وضعها موضع التطبيق. فقد استقبلت النصائح الثورية للطلاب بالشك، أو حتى العداء الصريح، من قبل الفلاحين الذين سلموا في كثير من الأحيان القادمين الجدد إلى السلطات.

وصف جيليابوف، أحد القادة المستقبليين لحزب نارودنايا فوليا (إرادة الشعب)، بشكل واضح جهود الشباب النارودنيين اليائسة لكسب الفلاحين قائلا: “مثل سمك يضرب رأسه في الجليد”.[13] على الرغم من ظروف الظلم والاستغلال الرهيبة فإن الفلاح الروسي، الذي كان يعتقد أن “الجسد ملك للقيصر، والروح ملك لله والظهر ملك للإقطاعي” أثبت أنه محصن ضد الأفكار الثورية للنارودنيين. ويتردد صدى صدمة وخيبة أمل المثقفين في ما قاله أحد المشاركين في الحركة: «لقد كنا مؤمنين بشكل أعمى باقتراب الثورة إلى درجة أننا لم نلاحظ أن الفلاحين لم يكونوا يمتلكون الروح الثورية التي أردناهم أن يمتلكوها. لكننا لاحظنا أنهم جميعا يريدون أن يتم تقسيم الأرض بينهم. كانوا يتوقعون أن الإمبراطور سيعطي الأمر وسيتم تقسيم الأرض… معظمهم كانوا يتصورون أنه كان سيقوم بذلك قبل فترة طويلة لو لم يتم منعه من قبل كبار ملاك الأراضي والمسؤولين، الذين يمثلون الأعداء الألداء للإمبراطور وللفلاحين على حد سواء».

في كثير من الأحيان كان للمحاولة الساذجة للظهور بمظهر الفلاحين جانب تراجيدي- كوميدي، كما يتذكر ديبوغوري موكرييفيش، الذي كان أحد المشاركين في الحركة: «لم يكن الفلاحون يسمحون لنا بالمبيت عندهم ليلا: إذ من الواضح تماما أنهم لم يكونوا يحبون ملابسنا القذرة الممزقة الخشنة. كان هذا آخر ما كنا نتوقعه عندما ارتدينا في البداية على شاكلة العمال»[14].

تحطمت معنويات النارودنيين، الذين كانوا ينامون في العراء وهم يعانون الجوع والبرد والتعب، وأقدامهم تنزف بسبب المسافات الطويلة التي كانوا يمشونها بأحذية رخيصة، أمام الجدار الصلب للامبالاة الفلاحين. وتدريجيا، وبشكل حتمي، عاد هؤلاء الذين لم يعتقلوا إلى الوراء، محبطين ومستنزفين، إلى المدن. تحطمت حركة “الذهاب إلى الشعب” بسرعة بسبب موجة من الاعتقالات، حيث اعتقل أكثر من 700 عضو في عام 1874 وحده. لقد كانت هزيمة مكلفة. لكن خطب التحدي الحماسية والبطولية التي القى بها الثوار المعتقلون، في قفص الاتهام، عملت على تأجيج حركة جديدة انطلقت على الفور تقريبا.

كان النارودنيون يقسمون بـ “الشعب” في كل جملة. لكنهم بقوا معزولين تماما عن الجماهير الفلاحية التي كانوا يمجدونها. في الواقع تركزت الحركة برمتها في أيدي المثقفين. كتب تروتسكي قائلا:

«لم تكن عبادة النارودنيين للفلاحين وكومونتهم سوى صورة طبق الأصل للادعاءات المتكلفة حول “البروليتاريا الفكرية” بكونها صاحبة الدور الرئيس، إن لم يكن الوحيد، للتقدم. لقد تطور كامل تاريخ المثقفين الروس بين هذين القطبين من الفخر ونكران الذات، واللذان يشكلان وجهان لعملة ضعفها الاجتماعي»[15].

لكن هذا الضعف الاجتماعي للمثقفين كان يعكس فقط الحالة المتخلفة للعلاقات الطبقية في المجتمع الروسي. كان التطور السريع للصناعة ونشوء طبقة عاملة حضرية قوية، والذي سينتج عن تدفق هائل لرؤوس الأموال الأجنبية خلال تسعينيات القرن التاسع عشر، ما يزال بشرى من مستقبل يبدو بعيدا. وبالتالي فإن المثقفين الذين كانوا مضطرين للاعتماد على مواردهم الذاتية، سعوا إلى الخلاص في نظرية “الطريق الروسي الخاص نحو الاشتراكية”، استنادا إلى عنصر الملكية المشتركة التي كانت موجودة في المير.

نظريات حرب العصابات والإرهاب الفردي التي أصبحت مألوفة بين بعض الأوساط في الآونة الأخيرة تكرر بشكل كاريكاتوري الأفكار البالية للنارودنيين والإرهابيين الروس. فمثلهم مثل هؤلاء الأخيرين، يحاولون إيجاد قاعدة بين صفوف الفلاحين في العالم الثالث، وبين صفوف البروليتاريا الرثة، وأي طبقة أخرى باستثناء البروليتاريا. لكن ليست لمثل هذه الأفكار أية علاقة بالماركسية. لقد أوضح ماركس وإنجلز أن الطبقة الوحيدة القادرة على إنجاز الثورة الاشتراكية وإقامة دولة عمالية سليمة، مما يؤدي إلى مجتمع لا طبقي، هي الطبقة العاملة. وهذا ليس من قبيل الصدفة. وحدها الطبقة العاملة، بحكم دورها في المجتمع والإنتاج، وخاصة الإنتاج الصناعي الواسع النطاق، من يمتلك الوعي الطبقي الاشتراكي الفطري. وليس من قبيل الصدفة أن الأساليب الكلاسيكية لنضال البروليتاريا تعتمد على العمل الجماعي الجماهيري: الإضرابات والمظاهرات والمتاريس والإضراب العام.

وعلى النقيض من ذلك، فإن المبدأ الأول لكل الطبقات الاجتماعية الأخرى هو النزعة الفردية المميزة لصاحب الملكية ومستغل عمل الآخرين، سواء كان كبيرا أو صغيرا. وإذا نحينا جانبا البرجوازية، التي يعتبر العداء للاشتراكية الشرط الأول لوجودها، نجد الطبقة الوسطى، بما في ذلك الفلاحين، الطبقة الاجتماعية الأقل قدرة على اكتساب الوعي الاشتراكي. تقف فئاتها العليا من الفلاحين الأثرياء، والمحامين والأطباء والبرلمانيين، على مقربة من البرجوازية. لكن حتى الفلاحين الفقراء الذين لا يملكون أرضا في روسيا، وعلى الرغم من أنهم يشكلون في الواقع بروليتاريا ريفية، كان وعيهم متخلفا جدا عن وعي إخوانهم في المدن. كانت الرغبة الوحيدة عند الفلاح الذي لا يملك أرضا هي امتلاك الأرض، أي أن يتحول إلى مالك صغير. إن الإرهاب الفردي و“حرب العصابات” بأشكالها المتعددة، هي أساليب البرجوازية الصغيرة، وخاصة الفلاحين، لكنها أيضا أساليب الطلاب والمثقفين والبروليتاريا الرثة. صحيح أنه في ظل ظروف معينة، وخاصة في عصرنا الحاضر، يمكن كسب جماهير الفلاحين الفقراء إلى فكرة الملكية الجماعية، كما رأينا ذلك في إسبانيا عام 1936، لكن الشرط المسبق لمثل هذا التطور هو وجود حركة ثورية للطبقة العاملة في المدن. وصلت الطبقة العاملة إلى السلطة في روسيا عن طريق تعبئة الفلاحين الفقراء، ليس على أساس شعارات اشتراكية، بل على أساس “الأرض لمن يزرعها!”. هذا الواقع، في حد ذاته، يظهر إلى أي مدى كانت جماهير الفلاحين الروس بعيدة عن الوعي الاشتراكي حتى في عام 1917.

بالنسبة للنارودنيين، الذين كانوا يفتقرون إلى الأساس النظري السليم وينطلقون من مفهوم مرتبك وغامض عن العلاقات الطبقية (“الشعب”)، كان الموقف الماركسي حول الدور القيادي للبروليتاريا يبدو وكأنه مجرد كلام فارغ. “ما علاقة الطبقة العاملة بهذا؟”، “لا بد أن ماركس وإنجلز لم يفهما الوضع الخاص بروسيا!”. وحتى عندما كان النارودنيون يعطون اعتبارا لدور العمال في المدن، فإنهم كانوا ينظرون إليهم وكأنهم مسخ، وكأنهم “فلاحون في المصانع”، قادرين فقط على لعب دور المساعدين للفلاحين في الثورة، أي على العكس تماما مع العلاقة الحقيقية للقوى الطبقية الثورية، كما أثبتت الأحداث اللاحقة.

وكتتويج للمفارقة، فإنه على الرغم من كل أحكام المنظرين النارودنيين، كانت المنطقة الوحيدة تقريبا التي وجدت فيها النداءات الثورية صدى لها هي: بين صفوف “فلاحي المدن” المحتقرين، كما كانوا يسمون عمال المصانع. ومثل مغاوير حرب العصابات الحديثة، نهج أنصار Zemlya i Volya (الأرض والحرية) سياسة سحب العمال الثوريين من المصانع وإرسالهم إلى الريف. بليخانوف، قبل أن يصبح ماركسيا، شارك في هذا النوع من النشاط، وكان قادرا على رؤية العواقب، وقد كتب أن:

«عامل المصنع، الذي عمل في المدينة لعدة سنوات، لم يكن مرتاحا للعودة إلى الريف، وكان يذهب إلى هناك على مضض… فقد أصبحت عادات الريف ومؤسساته لا تطاق بالنسبة إلى شخص قد بدأ يتطور قليلا…
كان هؤلاء أناسا محنكين وشديدي الإخلاص ومقتنعين بعمق بالأفكار الشعبوية. لكن محاولاتهم الانغراس في الريف لم تؤد إلى نتيجة. وبعد انتقالهم بين القرى بقصد البحث عن مكان مناسب للاستقرار (حيث كان ينظر إلى بعضهم كغرباء)، استسلموا وانتهوا بالعودة إلى ساراتوف حيث أقاموا علاقات مع العمال المحليين. ومهما كان ذهولنا من هذا الاغتراب عن “الشعب” الذي يشعر به أبنائه الحضريون فإن الحقيقة كانت واضحة، وكان علينا أن نتخلى عن فكرة إشراك العمال في شؤون الفلاحين البحتة»[16].

وفقا للنظرية النارودنية كان عامل المدينة أبعد عن الاشتراكية من الفلاحين. وهكذا اشتكى منظم نارودني مسؤول عن العمل بين العمال في أوديسا من أن «الرجال في ورشات العمل، أفسدتهم الحياة الحضرية وصاروا غير قادرين على فهم صلاتهم مع الفلاحين، كانوا أقل انفتاحا على الدعاية الاشتراكية»[17]. ومع ذلك فإن النارودنيين قاموا ببعض العمل بين العمال وحصلوا على نتائج مهمة. وكان المبادر لهذا العمل الريادي هو نيكولاي فاسيليفيش شايكوفسكي. أنشأت مجموعته حلقات للدعاية في أحياء العمال في بيترسبورغ، حيث كان كروبوتكين واحدا من الدعاة. لقد أجبر الواقع قطاعات من النارودنيين على أن يقفوا لأول مرة وجها لوجه أمام “المسألة العمالية” التي طردتها نظريات باكونين من الباب الأمامي، فعادت للدخول من خلال النافذة. وحتى في هذه المرحلة المبكرة جدا، كانت الطبقة العاملة الروسية، على الرغم من ضئالة عددها، قد بدأت تضع بصمتها على الحركة الثورية.

كان موقف العمال من هؤلاء “السادة الشباب” ايجابيا. أوصى العامل البيترسبورغي إ. أ. باشكين زملائه العمال قائلا: «عليكم أن تأخذوا الكتب من الطلاب، لكن عندما يبدأون في تعليمكم الترهات، عليكم طردهم». ربما كان بليخانوف يفكر في باشكين عندما أبدى ملاحظته حول عدم رغبة العمال في الذهاب إلى الأرياف للعمل. اعتقل باشكين في شتنبر 1874، وعند إطلاق سراحه في عام 1876 قال لبليخانوف: «ما زلت على استعداد، كما من قبل، للعمل من أجل الدعاية الثورية، لكن فقط بين العمال… لا أريد أن أعود إلى الريف بأي شكل من الأشكال. إن الفلاحين مجرد غنم، إنهم لن يفهموا الثورة أبدا»[18].

وفي حين كان المثقفون النارودنيون يتصارعون مع المشاكل النظرية للثورة المستقبلية، كانت البشائر الأولى للوعي الطبقي آخذة في الظهور في المراكز الحضرية. كان انعتاق الأقنان يمثل عملا جماعيا للعنف ضد الفلاحين في مصلحة تطور الرأسمالية في المجال الفلاحي. كان الملاكون العقاريون، في الواقع، “يطهرون العقارات” لصالح الرأسمالية، كما أوضح لينين، ويسرعون عملية التمايز الداخلي للفلاحين من خلال تبلور فئة من الفلاحين الأغنياء (الكولاك) في القمة وكتلة من الفلاحين الفقراء في القاع. ومن أجل الهروب من الفقر المدقع في الريف، هاجر الفلاحون الفقراء بأعداد ضخمة إلى المدن، بحثا عن فرص عمل. في الفترة ما بين 1865 و1890، ارتفع عدد العاملين في المصانع بنسبة 65%، وارتفع عدد العاملين في قطاع التعدين بنسبة 106%. يعطي أ. ج. راشين الأرقام التالية عن عدد العمال في روسيا الأوروبية[19]:

المجموعالتعدينالمصانع والورشاتالسنة
6741655091865
11803408401890

عرف تطور الصناعة دفعة قوية، خاصة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر. ارتفع عدد سكان سان بيترسبورغ من 668.000 في عام 1869 إلى 928.000 عام 1881. شهد وعي هؤلاء العمال، الذين انتزعوا من جذورهم الريفية وقذف بهم في مرجل حياة المصنع، تحولا سريعا. وقد عكست تقارير الشرطة تصاعد السخط والجرأة بين صفوف القوى العاملة، ويقول أحد تلك التقارير: «إن الأساليب القاسية والمبتذلة، التي يستخدمها أرباب المصانع، أصبحت لا تطاق بالنسبة للعمال، لقد أدركوا بوضوح أنه لا يمكن تصور المصنع دون عملهم». قرأ القيصر الكسندر التقارير وكتب بقلم الرصاص في الهامش: “سيئة جدا”.

سمح نمو هذه الاضطرابات العمالية بإنشاء أول مجموعات العمال المنظمة. تأسس اتحاد عمال الجنوب على يد أ. زاسلافسكي (1844-1878). ابن عائلة نبيلة أفلست، ذهب “نحو الشعب” ما بين 1872 و1873، وبعد أن أصبح مقتنعا بعدم جدوى هذا التكتيك، بدأ العمل الدعائي بين العمال في أوديسا. من هذه الحلقات العمالية، التي كانت تعقد اجتماعات أسبوعية وبأعداد قليلة، ولد الاتحاد. انطلق برنامجه من فرضية أنه «لا يمكن للعمال الحصول على الاعتراف بحقوقهم إلا من خلال ثورة عنيفة قادرة على تدمير كافة الامتيازات واللا مساواة، وتحويل العمل إلى أساس للرفاه الخاص والعام»[20]. تطور نفوذ الاتحاد سريعا إلى أن تحطم باعتقالات دجنبر 1875. حكم على الزعماء بالأعمال الشاقة. وحكم على زاسلافسكي بعشر سنوات، تقوضت حالته الصحية بسبب الظروف القاسية في السجن، فأصبح مختلا ومات بمرض السل في السجن.

التطور الأكثر أهمية كان هو الاتحاد الشمالي للعمال الروس، الذي تأسس بشكل غير قانوني في خريف عام 1877 بقيادة خالتورين وأوبنورسكي. فيكتو أوبنورسكي، ابن ضابط صف متقاعد، كان حدادا ثم صار ميكانيكيا. وبينما كان يعمل في مصانع مختلفة في سانت بيترسبورغ، أصبح يشارك في حلقات العمال الدراسية، واضطر إلى الهرب إلى أوديسا لتجنب الاعتقال، حيث اتصل مع اتحاد زاسلافسكي. سافر إلى الخارج كبحار، حيث تأثر بأفكار الحركة الاشتراكية الديموقراطية الألمانية. وعاد إلى سانت بيترسبورغ، حيث التقى بلافروف وأكسيلرود، القياديان البارزان في الحركة النارودنية. كان ستيبان خالتورين شخصية مهمة في الحركة الثورية أواخر السبعينات. كان مثله مثل أوبنورسكي، حدادا وميكانيكيا، بدأ نشاطه داخل مجموعة شايكوفسكي، حيث عمل داعية. في سلسلة تراجمه للمناضلين العماليين الروس، قدم بليخانوف صورة خالدة لهذا الثوري العمالي:

«عندما كانت نشاطاته [خالتورين] ما تزال قانونية، التقى عن طيب خاطر بالطلاب، وحاول إقامة التعارف معهم، والحصول على كل أنواع المعلومات منهم واقتراض الكتب منهم. وفي كثير من الأحيان كان يبقى معهم حتى منتصف الليل، لكنه نادرا ما كان يعطي آرائه الخاصة. كان مضيفه يتحمس مسرورا بحصوله على فرصة تنوير عامل جاهل، ويتحدث بإسهاب، ويشرح النظريات بالطريقة الأكثر “شعبية”. ينظر ستيبان باهتمام، ويدقق النظر في المتحدث. وبين الحين والآخر تعكس عيناه الذكيتان سخرية لطيفة. كان عنصر السخرية حاضرا دائما في علاقاته مع الطلاب… لكنه مع العمال يتصرف بطريقة مختلفة جدا… ينظر إليهم على أنهم أكثر صلابة وأنهم، إذا جاز التعبير، ثوريين أكثر طبيعية ويراعيهم برفق كممرضة عطوفة. يعلمهم ويشتري لهم الكتب ويخدمهم، يحقق السلام بينهم عندما يتشاجرون ويوبخ المذنبين. أحبه رفاقه كثيرا، كان يعرف هذا، وفي المقابل قدم لهم حبا أعظم. لكني لا أعتقد أن خالتورين، حتى في علاقاته معهم، تخلى أبدا عن تحفظه المعتاد… كان لا يتحدث في الجموعات إلا نادرا وعلى مضض. كان بين عمال بيترسبورغ أشخاص يشبهونه من حيث التعليم والكفاءة، كان هناك أشخاص رأوا عوالم أخرى وعاشوا في الخارج. إن سر التأثير الهائل لما يمكن أن يسمى بديكتاتورية ستيبان يكمن في الاهتمام الدؤوب الذي كرسه لكل شيء. حتى قبل بدء الاجتماع كان يتحدث مع الجميع لمعرفة الحالة الذهنية العامة، وكان يقيم جميع جوانب المسألة، وهكذا كان، بطبيعة الحال، الأكثر استعدادا من بين الجميع والمعبر الأفضل عن المزاج العام»[21].

كان خالتورين مثالا نموذجيا لنوع محدد من المناضلين: العامل الداعية النشيط داخل الحلقات خلال المرحلة الأولى للحركة العمالية الروسية. لكن حتى هو انجر إلى الأنشطة الإرهابية في الفترة اللاحقة، ونظم محاولة مذهلة لاستهداف حياة القيصر.

“الأرض والحرية”

في تلك الأثناء كان من تبقوا من الحركة النارودنية يحاولون إعادة تجميع قواتهم في المدن تحت راية جديدة. في عام 1876 تم تأسيس منظمة زيمليا إ فوليا، من طرف نتانسونس والكسندر ميخائيلوف وجورج بليخانوف. كانت المنظمة السرية الجديدة بقيادة مجلس عام مع لجنة تنفيذية منتخبة أصغر (أو المركز الإداري). وتحت قيادة هذه الهيئات كان هناك قطاع الفلاحين وقطاع العمال وقطاع الشباب (الطلاب)، إضافة إلى جناح عسكري “للحماية ضد الممارسات التعسفية للبوليس”. استند برنامج زيمليا إ فوليا على فكرة مشوشة حول “اشتراكية الفلاحين”، وتحويل كل الأرض إلى ملكية الفلاحين وضمان حق تقرير المصير لجميع أجزاء الإمبراطورية الروسية. نادوا بأن تكون السلطة في روسيا في يد كومونات فلاحية ذات حكم ذاتي. إلا أن كل هذا كان خاضعا للهدف المركزي المتمثل في الإطاحة الثورية بالحكم المطلق، والتي كان من المقرر أن تنفذ “بأسرع وقت ممكن”، وكان ذلك التسرع الشديد راجع إلى فكرة منع تقويض كومونات الفلاحين (المير) بفعل التطور الرأسمالي! وبالتالي، فإن الآباء الأصليين لفكرة “الاشتراكية في بلد واحد” كانوا هم النارودنيون، الذين سعوا لتخليص المجتمع من ويلات الرأسمالية من خلال تبني فكرة وجود “مسار خاص للتطور التاريخي” بالنسبة لروسيا، على أساس تفرد مفترض لفلاحي روسيا ومؤسساتها الاجتماعية.

في السادس من دجنبر عام 1876، خرجت مظاهرة غير قانونية ضمت حوالي 500 متظاهر – أغلبهم من الطلاب – على بعد خطوات من كاتدرائية كازان، حيث رفعت شعارات “الأرض والحرية” و“تحيا الثورة الاشتراكية!”، واستمع المتظاهرون لخطاب طالب يبلغ من العمر 21 سنة، يدعى جورج بليخانوف، الذي تسبب له خطابه الثوري في سنوات من المنفى والعمل السري. بليخانوف الذي ولد عام 1855، لعائلة أرستقراطية من تامبوف، كان، مثله مثل كثير من أبناء جيله، قد تربى نظريا على قاعدة كتابات مدرسة عظيمة من المؤلفين الديمقراطيين الروس: بيلينسكي ودوبروليوبوف، وقبل كل شيء، شيرنيشيفسكي. التحق بالحركة النارودنية عندما كان مايزال مراهقا، وشارك في مهام خطيرة، بما في ذلك تحرير الرفاق المعتقلين وحتى تصفية عميل استفزازي. ورغم أنه اعتقل عدة مرات، فقد نجح دائما في الهرب من معتقليه.

بعد خطابه الجريء اضطر بليخانوف للفرار إلى الخارج، إلا أن التقدير الذي كان يتمتع به مكنه من أن ينتخب، في غيابه، عضوا في “الحلقة الأساسية” لمنظمة زيمليا إ فوليا. وبعد عودته إلى روسيا، عام 1877، عاش مؤسس الماركسية الروسية المستقبلي حياة سرية صعبة. مسلحا بقبضة معدنية (knuckle duster) ومسدس يحتفظ به تحت وسادته ليلا، سافر أولا إلى ساراتوف، بالفولغا، حيث صار لاحقا مسؤولا عن “قطاع العمال” في زيمليا إ فوليا. وكان لتجربته الأولى في العمل مع عمال المصنع تأثير عميق على تفكيره، مما ساعده بلا شك على القطع مع الأحكام المسبقة للنارودنيين وإيجاد الطريق إلى الماركسية.

في شهر دجنبر عام 1877، وقع انفجار في مخزن للبارود في مصنع للأسلحة في جزيرة فاسيليفسكي، قتل خلاله ستة عمال وجرح عدد أكبر بكثير. تحولت جنازة العمال إلى مظاهرة. وكتب بليخانوف بيانا انتهى بالعبارة التالية:

«أيها العمال! الآن هو الوقت المناسب لفهم السبب. يجب ألا تتوقعوا المساعدة من أي أحد. ولا تتوقعوها من طبقة النبلاء! لقد أمضى الفلاحون فترة طويلة وهم يتوقعون المساعدة من طبقة النبلاء، وكان كل ما حصلوا عليه هو أسوء الأراضي وأثقل الضرائب، أثقل حتى من ذي قبل… هل أنتم أيضا، يا عمال المدن، ستتحملون هذا إلى الأبد؟»[22].

تلقى كاتب البيان الرد بعد وقت أقل مما كان هو، أو أي شخص آخر، يتوقعه. لقد خلقت الطفرة الاقتصادية، التي نشأت عن الحرب الروسية التركية (1877-1878)، الظروف لانفجار غير مسبوق للإضرابات، قادها القسم الأكثر اضطهادا واستغلالا بين صفوف الطبقة العاملة، أي عمال النسيج. لم تكن تلك المرة الأخيرة التي تحرك فيها عمال النسيج الأكثر اضطهادا بسرعة أكبر بكثير من عمال الصناعات المعدنية. وبمبادرة من عدد من العمال الثوريين اتجه العمال إلى “الطلبة” لطلب المساعدة.

بليخانوف، الذي كان رئيس قطاع العمال داخل زيمليا إ فوليا، وجد نفسه عمليا على رأس الحركة. لكن للأسف لم تكن لدى النارودنيين أية فكرة عما يجب القيام به مع الحركة العمالية، التي لم تكن تدخل ضمن تصورهم عن الكون. في غضون عامين شهدت سان بيترسبورغ 26 إضرابا. وهي الموجة التي لم يسبق لها مثيل إلا خلال موجة الإضرابات الهائلة لسنوات التسعينات من القرن التاسع عشر. لعب أعضاء منظمة اتحاد الشمال دورا بارزا في هذه الإضرابات، وخلال الشهور الأولى لعام 1879، بلغت المنظمة أوجها حيث صارت تضم 200 عامل منظم و200 عامل آخر في الاحتياط، موزعين بعناية في مصانع مختلفة. كانوا جميعا مرتبطين بهيئة مركزية. كانت الحلقات العمالية تمتلك مكتبة أيضا، وكانت كتبها توزع بعناية بين المجموعات السرية المختلفة وتستخدم على نطاق واسع حتى من قبل العمال خارج الاتحاد. أنشأ خالتورين، واسع الحيلة، مطبعة سرية. ودخل أوبنورسكي في اتفاق مع مجموعة من العمال في وارسو، وهي الخطوة التي شكلت “أول مثال للعلاقات الودية بين العمال الروس والبولنديين”، كما لاحظ بليخانوف بارتياح[23].

لكن وبعد أشهر من ظهور العدد الأول لجريدة الاتحاد، غير الشرعية، رابوتشايا زاريا (فجر العمال)، حطمت الشرطة محل الطباعة واجتاحت معظم أعضاء الاتحاد بموجة من الاعتقالات والأشغال الشاقة والسجن والمنفى. كانت نتيجة تحطيم هذا التنظيم الصلب الأول للطبقة العاملة كارثية. استخلص خالتورين وغيره استنتاجات متشائمة وتحولوا نحو الإرهاب. استغرق الأمر من الحركة عشر سنوات وعددا لا يحصى من التضحيات المجانية للتخلص من التكتيك الإرهابي.

منذ البداية انقسمت الحركة الثورية في روسيا بفعل الجدل بين “المعلمين” و“الانقلابيين”، وهما الخطان اللذان اشتهرا على نطاق واسع مع مواقف كل من لافروف من جهة وباكونين من جهة أخرى. أدى فشل الحركة “نحو الشعب” بهذا الخلاف إلى حد الانشقاق. في فترة 1874-1875، كان هناك آلاف السجناء السياسيين في روسيا، من الشباب الذين دفعوا ثمن تحديهم بفقدان حريتهم. أفرج عن بعضهم في وقت لاحق بكفالة ووضعوا تحت المراقبة. ونفي آخرون إلى سيبيريا بأمر إداري، بينما البقية استمروا ببساطة يتعفنون في السجن في انتظار المحاكمة. وقرر بعض أولئك الذين بقوا نشطاء وأحرارا العودة إلى القرى، لكن هذه المرة كمعلمين وأطباء، وكرسوا وقتهم وطاقاتهم للعمل التعليمي المتواضع وانتظار أيام أفضل. لكن بالنسبة للآخرين، كان انفضاح خطأ نظرية باكونين حول كون “الفلاحين ثوريين بشكل غريزي” يعني ضرورة البحث عن طريق مختلف تماما.

لم تكن زيمليا إ فوليا أبدا منظمة جماهيرية. كان بضع عشرات من الأعضاء، معظمهم من الطلبة والمثقفين في سن العشرينيات أو الثلاثينيات، هم من يكونون نواتها الصلبة النشطة. لكن بذور الانحلال كانت موجودة منذ البداية. سعى أنصار لافروف إلى “فتح عيون الشعب” من خلال الدعاية السلمية. قال لافروف: “يجب علينا ألا نثير عاطفة الشعب، بل وعيه الذاتي”[24]. المحاولات اليائسة لاستفزاز حركة جماهيرية للفلاحين عن طريق الدعاية فتحت المجال لنظرية جديدة قلبت الباكونينية رأسا على عقب. فمن “نفي السياسة” وخاصة المنظمة السياسية، انعطف قسم من النارودنيين 180 درجة وأسسوا منظمة إرهابية سرية وجد ممركزة -نارودنايا فوليا- والتي كانت مصممة لإثارة الحركة الثورية للجماهير من خلال “الدعاية بالأفعال”.

كشف الإذلال العسكري الذي تعرضت له روسيا القيصرية، من جديد، في الحرب الروسية التركية، إفلاس النظام وأعطى دفعة جديدة للمعارضة. كان قادة نارودنايا فوليا مصممين على شن حرب ضد الحكم المطلق على شكل عمليات إرهابية فردية، والتي من شأنها أن تشعل “من فوق” شرارة الثورة. كان قسم من الشباب يحترقون بفارغ الصبر. وكلمات جيليابوف، الذي صار لاحقا قياديا في نارودنايا فوليا، تلخص كل شيء:

«إن التاريخ يتحرك ببطء شديد. إنه يحتاج إلى دفعة. وإلا فإن الأمة كلها ستتعفن قبل أن يتمكن الليبراليون من فعل أي شيء.
ماذا عن الدستور؟
إنه شيء جيد.
حسنا، ماذا تريد، هل العمل من أجل وضع دستور أو إعطاء دفعة للتاريخ؟
أنا لا أمزح، نحن نريد أن نعطي الآن دفعة للتاريخ»[25].

تبين هذه الأسطر الأربعة بشكل واضح العلاقة بين الحركة الإرهابية والحركة الليبرالية. لم يكن لدى الإرهابيين برنامج مستقل خاص بهم. لقد اقترضوا أفكارهم من الليبراليين، الذين بدورهم اتكئوا عليهم لدعم مطالبهم.

في خريف عام 1877، تم تقديم ما يقرب من 200 شاب وشابة للمحاكمة بتهمة “الذهاب إلى الشعب”. كانوا قد أمضوا بالفعل ثلاث سنوات في السجن دون محاكمة، وكانت هناك حالات عديدة من سوء المعاملة التي يلقاها السجناء من طرف حراس ومسؤولين همجيين. بالنسبة للثوار كانت سوء المعاملة والتعذيب والإهانة، التي كان السجناء يتعرضون لها بشكل ممنهج، القطرة التي أفاضت الكأس. وقد تسببت حالة فظيعة خاصة في اندلاع سخط واسع النطاق في يوليوز 1877. عندما قام قائد شرطة بيترسبورغ سيء السمعة، الجنرال تريبوف، بزيارة مركز الاحتجاز الأولي، رفض شاب “سياسي” يدعى بوغوليوبوف الوقوف له. فحكم عليه بالجلد 100 جلدة بأمر من تريبوف. نقطة التحول الحاسمة كانت في يناير 1878 عندما قامت فتاة شابة تدعى زاسوليتش بإطلاق النار على تريبوف. كان الهدف من وراء هذا العمل، الذي خططت له زاسوليتش ونفذته لوحدها، الانتقام لسوء معاملة السجناء السياسيين. وبعد قضية زاسوليتش، أصبح التحول نحو “الدعاية من خلال الفعل” تيارا لا يقاوم، خاصة عندما اعتبرتها هيئة المحكمة، وضد كل التوقعات، غير مذنبة.

في البداية اعتبر استخدام الإرهاب تكتيكا محدودا لإطلاق سراح الرفاق المعتقلين، وتصفية جواسيس الشرطة، والدفاع عن النفس ضد الإجراءات القمعية للسلطات. لكن للإرهاب منطق خاص به. وبعد فترة قصيرة من الزمن، استولى الهوس الإرهابي على المنظمة. منذ البداية كانت هناك شكوك بشأن “التكتيكات الجديدة”، وقد ارتفعت أصوات نقدية في صفحات الجريدة الرسمية للحزب، حيث تقول إحدى المقالات:

«يجب أن نتذكر أن تحرير الجماهير الكادحة لن يتحقق من خلال هذا المسار (الإرهابي). ليست للإرهاب علاقة مع النضال ضد أسس النظام الاجتماعي. وحدها الطبقة من يمكنها أن تقاوم الطبقة. وبالتالي فإن الجزء الأكبر الرئيسي من قواتنا يجب أن يتركز على العمل بين صفوف الشعب»[26].

تسبب اعتماد التكتيكات الجديدة في حدوث انقسام داخل صفوف الحركة، بين الإرهابيين وبين أتباع لافروف الذين دافعوا عن ضرورة فترة طويلة من التحضير والدعاية بين الجماهير. في الواقع كان الاتجاه الأخير قد بدأ يبتعد عن الحركة الثورية، ويتبنى الدعوة إلى سياسة “الإنجازات الصغيرة” ونهج “شيئا فشيئا” والمقاربة التدريجية. لم يعد الجناح اليميني للحركة النارودنية يتميز عن الليبرالية، في حين استعد جناحها الأكثر راديكالية للاعتماد كليا على قوة الرصاصة وخليط “الكيمياء الثورية” النيتروجلسرين.

في الآونة الأخيرة، بذلت محاولات عديدة من قبل الإرهابيين المعاصرين لتمييز أنفسهم عن أسلافهم الروس. يقال إن الإرهابيين النارودنيين كانوا يؤمنون بالإرهاب الفردي، والحلول محل حركة الجماهير، في حين أن أنصار “الكفاح المسلح” أو “حرب عصابات المدن” المعاصرين يرون أنفسهم فقط باعتبارهم الجناح المسلح للنضال الجماهيري، الذي يهدف إلى تحريض الجماهير على النضال. إلا أن أنصار نارودنايا فوليا لم يدعوا أبدا أنهم يعملون كحركة مكتفية ذاتيا. كان هدفهم المعلن هو إشعال فتيل حركة جماهيرية، استنادا إلى الفلاحين، من شأنها قلب نظام الحكم وتشييد الاشتراكية. كان هدفهم المفترض أيضا هو “تحريض” الحركة الجماهيرية من خلال إعطاء مثال شجاع.

لكن السياسة لها منطقها الخاص. وكل نداءات نارودنايا فوليا باسم الجماهير، كانت مجرد ستار من الدخان يخفي وجود غياب كلي للثقة في القدرة الثورية لتلك الجماهير نفسها. وللحجج التي قدمت منذ أكثر من قرن من الزمان في روسيا لتبرير الإرهاب، أوجه تشابه كثيرة مع حجج جماعات “حرب عصابات المدن” في الآونة الأخيرة: “نحن مع الحركة الجماهيرية، لكن الدولة قوية جدا” وهلم جرا. وهو نفس ما أكده الإرهابي موروزوف:

«من خلال مراقبة الحياة الاجتماعية المعاصرة في روسيا نتوصل إلى استنتاج مفاده أنه بسبب السلوك التعسفي والعنف الذي تنهجه الحكومة، ليس ممكنا القيام بأي نشاط من طرف الشعب على الإطلاق. لا وجود لا لحرية التعبير ولا لحرية الصحافة للعمل عن طريق الإقناع. ونتيجة لذلك، فإنه من الضروري على كل مناضل طليعي، أولا وقبل كل شيء، وضع حد لنظام الحكومة الحالية، وللنضال ضدها ليست هناك من وسيلة سوى حمل السلاح. ونتيجة لذلك سوف نقاتل ضدها بأسلوب ويليام تيل، حتى نصل إلى اللحظة التي نحقق فيها المؤسسات الحرة التي سيكون من الممكن لنا في ظلها أن نناقش بحرية في الصحافة وفي الاجتماعات العامة، جميع القضايا السياسية والاجتماعية، ونقرر فيها عن طريق التمثيل الحر للشعب»[27].

كان النارودنيون شجعانا، لكنهم فاقدون للبوصلة ومثاليون اقتصرت أهدافهم على الجلادين سيئي السمعة، ورؤساء الشرطة المتورطين في الممارسات القمعية، وما شابه ذلك. وفي كثير من الأحيان كانوا يقدمون أنفسهم بعد ذلك للشرطة من أجل استخدام محاكماتهم كمنصة لتوجيه الاتهام إلى النظام القائم. لم يكونوا يزرعون القنابل لقتل النساء والأطفال، أو حتى لقتل الجنود العاديين. والمناسبات النادرة التي قتلوا خلالها أفرادا من الشرطة، كانت للاستيلاء على الأسلحة. لكن وعلى الرغم من هذا، كانت أساليبهم خاطئة تماما، وذات نتائج عكسية، وأدانها الماركسيون بشدة.

لا تعمل النظريات “الحديثة” المزعومة لحرب عصابات المدن سوى على تكرار كاريكاتوري للأفكار القديمة ما قبل الماركسية للإرهابيين الروس. ومن المثير للسخرية جدا أن هؤلاء الناس، الذين كثيرا ما يدعون أنهم “ماركسيون لينينيون”، لا يملكون أدنى فكرة عن أن الماركسية الروسية إنما نشأت من النضال العنيد ضد الإرهاب الفردي. كان الماركسيون الروس يصفون الإرهابي بازدراء بأنه “ليبرالي يحمل قنبلة”. كان الليبراليون الآباء يتحدثون باسم “الشعب”، لكنهم كانوا يعتبرونه أجهل من أن يولوه ثقتهم للعمل المسؤول من أجل إصلاح المجتمع. كان دوره – من وجهة نظرهم – يقتصر على أن يصوت كل بضع سنوات، ويتفرج على الليبراليين في البرلمان وهم يقومون بأعمالهم. أما الليبراليون الأبناء فلم يكن لديهم سوى الاحتقار للبرلمان. كانوا يتبنون الثورة، وبطبيعة الحال، “الشعب”. إلا أن هذا الأخير، وبسبب جهله، كان غير قادر على فهمهم. وبالتالي فإنهم سيلجئون إلى “الكيمياء الثوري” والقنبلة والمسدس. لكن، وتماما كما كان من قبل، تم تخفيض دور الجماهير إلى مجرد متفرجين سلبيين. تنظر الماركسية إلى التغيير الثوري للمجتمع كفعل واع تقوم به الطبقة العاملة. والشيء التقدمي هو الذي يعمل على رفع وعي العمال بقوتهم الخاصة، أما الشيء الرجعي فهو الذي يميل إلى خفض وعي العمال بدورهم. ودور الإرهاب الفردي، انطلاقا من وجهة النظر هذه، هو رجعي بالكامل.

وبالتالي، فإن سياسة الإرهاب الفردي تكون أكثر ضررا لقضية الجماهير بالضبط عندما تنجح. إن محاولة إيجاد طرق مختصرة في السياسة كثيرا ما تؤدي إلى الكارثة. ما هي الاستنتاجات التي من المفترض أن يستخلصها العمال من عمل إرهاب فردي ناجح بشكل مذهل؟ فقط هذه: أنه من الممكن لهم تحقيق غاياتهم دون أية ضرورة لعمل تحضيري طويل وشاق لبناء النقابات والمشاركة في الإضرابات وغيرها من النضالات الجماهيرية الأخرى والتحريض والدعاية والتعلم. كل هذا من شأنه أن يبدو بدون جدوى، بينما كل ما هو مطلوب هو الحصول على قنبلة ومسدس، ليتم حل المشكلة.

يقدم تاريخ القرن العشرين بعض الدروس المأساوية لما يحدث عندما يحاول الثوار تعويض الحركة الواعية للطبقة العاملة بممارسات بطولية لأقلية مسلحة. في أغلب الأحيان، وكما كان الحال مع نارودنايا فوليا، تؤدي محاولة تحدي قوة الدولة من خلال مثل هذه الأساليب إلى هزيمة رهيبة وتعزيز نفس جهاز القمع الذي كان من المفترض أن يتم قلبه. لكن حتى في تلك الحالات التي تمكنت فيها، على سبيل المثال، حرب العصابات من إسقاط النظام القديم، فإنه لا يمكن أبدا أن تؤدي إلى إقامة دولة عمالية سليمة، ناهيك عن الاشتراكية. ستؤدي، في أحسن الأحوال، إلى دولة عمالية مشوهة (نظام بونابارتي بروليتاري) يخضع فيه العمال لحكم فئة بيروقراطية. إن هذه النتيجة، في الواقع، تحدد مسبقا بفعل الهيكلة العسكرية للمنظمات الإرهابية ومنظمات حرب العصابات، وبفعل هيكل القيادة الاستبدادي وغياب الديمقراطية الداخلية، وقبل كل شيء حقيقة أنها تعمل خارج الطبقة العاملة وبشكل مستقل عنها. لا يعتبر الحزب الثوري الحقيقي نفسه مجموعة من المخلصين الذين نصبوا أنفسهم

لإنقاذ الجماهير، بل يسعى إلى إعطاء تعبير منظم وواع لحركة العمال أنفسهم. وحدها الحركة الذاتية الواعية للبروليتاريا من يمكنها أن تؤدي إلى التحويل الاشتراكي للمجتمع.

حاول قسم من حركة زيمليا إ فوليا القديمة مقاومة الاتجاه نحو الإرهاب، لكنه نحي جانبا. وقد فشلت محاولة التوصل إلى حل وسط، في المؤتمر فورونيج، يونيو 1879، في منع الانشقاق الذي حدث أخيرا في أكتوبر من ذلك العام، مع اتفاق رسمي من كلا الجانبين على حل التنظيم. تم تقسيم الأموال واتفق الطرفان على عدم استخدام الإسم القديم. اعتمد الفصيل الإرهابي اسم نارودنايا فوليا (إرادة الشعب)، في حين تبنى النارودنيون أنصار مدرسة “القرية” اسم شيرني بيريديل (إعادة التوزيع الأسود)، مرددين للفكرة النارودنية القديمة حول الثورة الزراعية. ومن رحم هذه المنظمة الأخيرة، وبقيادة بليخانوف، خرجت القوى الأولى للماركسية الروسية.

ميلاد الحركة الماركسية الروسية

كانت الآفاق قاتمة جدا أمام تيار بليخانوف. كان تكتيك “الذهاب إلى الشعب” القديم قد أفلس. واستمر موقف الفلاحين الرافض للنارودنيين مثلما كان في الماضي. وتخلى العديد من النارودنيين في النهاية عن الأمل وعادوا أدراجهم إلى حياة أكثر بهجة في المدن. بليخانوف الذي كان قد تأثر ربما بتجربته السابقة كرئيس “لقطاع العمال”، اقترح على أعضاء منظمة شيرني بيريديل ضرورة القيام بالتحريض بين عمال المصانع. أعاد بليخانوف إحياء علاقاته السابقة مع العمال، ومن بينهم ستيبان خالتورين من الاتحاد الشمالي للعمال الروس. لكن التيار كان يدفع بقوة لصالح الإرهاب حتى بين العمال المتقدمين. خالتورين نفسه شارك، في فبراير 1880، في محاولة لاغتيال القيصر. كان أنصار شيرني بيريديل معزولين تماما. وجاءت الضربة القاضية في يناير 1880 عندما اكتشفت الشرطة المطبعة السرية، بعد وقت قصير من إصدار المجموعة للعدد الأول من جريدتها، فقامت باجتثاث المنظمة بأكملها في روسيا. وكما لاحظ تروتسكي في وقت لاحق، لم يكن مستقبل الاتجاه غير الإرهابي بين صفوف الحركة النارودنية ليكون ظاهرة مستقلة، بل فقط مرحلة انتقالية وجيزة وملتبسة نحو الماركسية.

أما على الجانب الآخر، فقد بدا أنصار نارودنايا فوليا يحققون نجاحات مذهلة. وبشكل لا يصدق تمكنت منظمة صغيرة، لا يزيد عدد أعضائها عن بضع مئات من الرجال والنساء، من تحويل القيصر إلى سجين فعلي داخل قصره. تدفق التيار، لبعض الوقت، بشكل لا يقاوم في صالح نارودنايا فوليا، التي كانت تمثل العناصر الأكثر عزما وثورية بين الشباب. المنظمة الجديدة، الممركزة للغاية والتي تعمل في سرية تامة، كانت تحت قيادة لجنة تنفيذية مكونة من أ. إ. جيليابوف وأ.د. ميخائيلوف وم. ف. فرولينكو ون. أ. موزوروف وفيرا فينغر وصوفيا بيروفسكايا، وآخرون. وبالمقارنة مع الحركة النارودنية القديمة، شكل برنامج نارودنايا فوليا تقدما، حيث تبنى نضالا سياسيا واضحا ضد الحكم المطلق. في وقت لاحق كتب لينين، الذي كان يحيي دائما البطولة ونكران الذات عند النارودنيين، في نفس الوقت الذي كان ينتقد بحزم تكتيك الإرهاب الفردي، ما يلي: «لقد قام أعضاء نارودنايا فوليا بخطوة إلى الأمام عندما تبنوا النضال السياسي، لكنهم فشلوا في ربطه بالاشتراكية»[28].

طالب برنامج نارودنايا فوليا بتشكيل “هيئة تمثيلية شعبية دائمة” منتخبة بالاقتراع العام، وإعلان الحريات الديمقراطية، ونقل ملكية الأراضي إلى الشعب، واتخاذ تدابير لوضع المصانع في أيدي العمال. جذبت الحركة العديد من العناصر الأكثر شجاعة وتضحية بالنفس، بمن فيهم خالتورين، من الاتحاد الشمالي للعمال. لقد أظهر جرأة كبيرة وقدرة مبهرة على المبادرة بحصوله على وظيفة نجار على متن اليخت الإمبراطوري. وبعد أن تمكن من كسب الثقة الرسمية كعامل نموذجي، تمكن، في فبراير 1880، من زرع قنبلة قوية داخل قصر الشتاء، حيث كان يعمل في بعض الإصلاحات، وتفجير قصر القيصر في وسط عاصمته! لكن رد فعل الدولة كان هو تصعيد وتيرة القمع، وفرض دكتاتورية شرسة تحت قيادة الجنرال ميليكوف. كانت حالة خالتورين مأساوية بشكل خاص. لقد أحس، في وقت مبكر، بالتناقض بين الحاجة إلى بناء الحركة العمالية وبين الإرهاب، كما يشرح ذلك فنتوري:

«كان خالتورين منقسما باستمرار بين حماسه للأعمال الإرهابية وبين واجباته بوصفه منظما عماليا. وقد عبر عن مشاعره بالقول إن المثقفين يجبرونه على أن يبدأ من الصفر بعد كل عمل من أعمال الإرهاب والخسائر الحتمية المرتبطة به. وفي كل مناسبة كان يقول: “لو يعطوننا فقط قليلا من الوقت لتقوية أنفسنا”. لكنه استسلم هو أيضا للرغبة الجارفة في اتخاذ إجراءات فورية مما قاده إلى المشنقة معهم»[29].

النجاحات التي حققها الإرهابيون كانت هي نفسها تتضمن بذور تفككهم. لقد أطلق اغتيال القيصر، في عام 1881، العنان لحملة من القمع أخلى فيها الإرهاب الفردي ضد الوزراء ورجال الشرطة الطريق أمام إرهاب جهاز الدولة بأكمله ضد الحركة الثورية بشكل عام. قال كروبوتكين:

«لقد تم تقسيم روسيا إلى عدد من المناطق، ووضعت كل منطقة تحت حكم حاكم عام تلقى الأمر بشنق المتهمين بلا رحمة. وأعدم كوفالسكي وأصدقائه الذين بالمناسبة لم يقتلوا أحدا بطلقاتهم. وصار الشنق ممارسة يومية. أعدم 23 شخصا في غضون عامين، من بينهم صبي يبلغ 19 عاما قبض عليه وهو يوزع بيانا ثوريا في محطة للسكك الحديدية: كان هذا العمل هو التهمة الوحيدة الموجهة إليه. لقد كان طفلا، لكنه مات ميتة الرجال»[30].

حكم على فتاة تبلغ من العمر 14 عاما بالنفي مدى الحياة إلى سيبيريا لأنها حاولت تحريض حشد من الناس لتحرير بعض السجناء الذين كانوا يساقون إلى حبل المشنقة. فأقدمت على الانتحار غرقا. كما قضى السجناء سنوات في سجون الاعتقال الاحتياطي، التي كانت أوكارا لحمى التيفوئيد، حيث مات 20% منهم في سنة واحدة وهم ينتظرون المحاكمة. كان السجناء يردون على المعاملة الوحشية التي يتلقونها من قبل حراس السجن بخوض إضرابات عن الطعام، والتي كانت السلطات تجابهها بالتغذية القسرية. حتى أولئك الذين تمت تبرئتهم استمروا منفيين في سيبيريا، حيث كانوا يموتون جوعا ببطء بسبب الطعام الرديء الذي تقدمه لهم السلطات. زاد كل هذا من اشتعال سخط الشباب الذين كانوا يحترقون رغبة في الانتقام. تم استبدال ضحايا الإرهاب الأبيض بمنخرطين جدد، انتهى بهم المطاف هم أيضا ضحايا جدد في حلقة “قمع – إرهاب – قمع” الجهنمية. هَلك جيل كامل بهذه الطريقة، وفي نهاية المطاف، تمكنت الدولة، التي لا ترتكز على الأفراد من جنرالات ورؤساء شرطة، من أن تخرج أقوى من أي وقت مضى، على الرغم من أن نارودنايا فوليا نجحت في اغتيال عدد من أبرز المسؤولين في النظام القيصري.

وعد المدعي العام الجديد، الوزير بوبيدونوستسيف، بعهد من “الحديد والدم” للقضاء على الإرهابيين. وقدمت سلسلة من القوانين الصارمة للحكومة سلطات كاسحة جديدة للاعتقال وممارسة الرقابة والترحيل، مما أصاب ليس فقط الثوار، بل حتى التيارات الليبرالية الأكثر اعتدالا. تزايد الاضطهاد القومي مع منع جميع الإصدارات باللغات غير الروسية. صدرت قوانين لتعزيز سيطرة كبار الملاكين على الفلاحين. واجتاحت موجة الردة الرجعية المدارس والجامعات، وكانت تهدف إلى سحق كل أشكال التفكير المستقل وكسر روح التمرد بين الشباب. وخلافا لتوقعات الإرهابيين، لم تكن هناك انتفاضة جماهيرية، ولا حركة عامة للمعارضة. وبسرعة تحولت كل آمال جيل التضحية البطولية بالنفس إلى رماد. تضرر الجناح الإرهابي للحركة النارودنية بموجة من الاعتقالات. وبحلول عام 1882، تعرضت نواتها المركزية للتصفية وأرسل قادتها إلى السجن، فانشطرت حركة النارودنيين إلى ألف شظية. لكن، وفي نفس الوقت الذي كان فيه نعي الحركة النارودنية يسمع بوضوح، كانت هناك حركة جديدة تحقق انتصارات سريعة في بقية أوروبا، وكان هناك بروز لموازين قوى طبقية جديدة في روسيا المتخلفة نفسها.

لسنوات كانت أفكار ماركس وإنجلز (ولو في شكل غير مكتمل ومبتذل) مألوفة للثوريين الروس. كان ماركس، وانجلز خاصة، قد شاركا في جدالات مع منظري الحركة النارودنية. لكن الماركسية لم يكن لها أبدا أنصار كثر في روسيا. كان إنكارها للإرهاب الفردي ورفضها لوجود “طريق روسي خاص نحو الاشتراكية” وللدور القيادي المزعوم للفلاحين في الثورة، أشياء من الصعب على الشباب الثوري القبول بها. وبالمقارنة مع نظرية باكونين حول “الدعاية بالأفعال”، كانت فكرة أنه يجب على روسيا أن تمر عبر مدرسة الرأسمالية المؤلمة تبدو دعوة إلى السلبية والانهزامية.

كان الجيل القديم من النارودنيين لا يخفي ازدرائه للنظرية. وعندما كانوا يلجؤون إلى الحجج الإيديولوجية، فإنهم كانوا في الحقيقة يقومون بذلك فقط بشكل لاحق ولتبرير الانعطافات العملية للحركة. وفي المقابل كانوا يتبنون فكرة الدور المركزي للفلاحين، و“المهمة التاريخية الخاصة” المزعومة لروسيا والوحدة السلافية والإرهاب. وبعد أن كسروا رؤوسهم في الجدار الصلب، وبدلا من الاعتراف النزيه بأخطائهم ومحاولة العمل على استراتيجية وتكتيك بديلين، شرع منظرو الحركة النارودنية في إعادة التأكيد على الأفكار القديمة المفلسة، وبذلك غرقوا أعمق من أي وقت مضى في مستنقع الارتباك.

كان أول عمل قام به هذا الاتجاه الجديد، الذي يمثله بليخانوف وعدد صغير من المتعاونين، هو بناء أسس متينة للمستقبل على أساس الأفكار الصحيحة والنظرية الصحيحة والتكتيكات والاستراتيجية العلميتين. وكانت هذه هي المساهمة العظيمة لبليخانوف، والتي بدونها كان من غير الوارد تحقق التطور المستقبلي للبلشفية. ورغم أنه كان ما يزال، على حد تعبيره، “نارودنيا حتى النخاع”، سعى بليخانوف إلى الإجابة على المشاكل التي تطرحها أزمة الإيديولوجية النارودنية من خلال القيام بدراسة جادة لأعمال ماركس وإنجلز. وبعد أن اضطر إلى الفرار إلى الخارج، في يناير عام 1880، التقى وناقش مع ماركسيين فرنسيين وألمان كانوا آنذاك منخرطين في صراع إيديولوجي عنيف مع اللاسلطويين. وكان هذا اللقاء مع الحركة العمالية الأوروبية نقطة تحول حاسمة في تطور بليخانوف.

في حياة السرية بروسيا لم يكن متوفرا سوى عدد قليل من كتابات ماركس وإنجلز، وخاصة تلك المتعلقة بالمسائل الاقتصادية. كان بليخانوف، مثله مثل غيره من أبناء جيله، يعرف كتاب ماركس رأس المال، والذي اعتبرته الرقابة القيصرية كتابا أصعب وأشد تجريدا من أن يشكل خطرا. ومن المشكوك فيه ما إذا كان بوليس الرقابة أنفسهم قد تمكنوا من فهمه، وبالتالي فإنهم ظنوا أنه لا يمكن للعمال أن يفهموه. وبعد أن تحرروا، لبعض الوقت، من ضغوط المشاركة المباشرة في النضال الثوري في روسيا، تمتع بليخانوف والآخرون من ميزة هائلة تمثلت في القدرة على الوصول إلى الأدبيات التي كان من غير الممكن الحصول عليها في روسيا. وهو ما شكل مصدر إلهام لهم.

دراسة بليخانوف للفلسفة الماركسية، والكتابات حول الصراع الطبقي والمفهوم المادي للتاريخ ألقت ضوءا جديدا كليا على منظورات الثورة في روسيا. وبدأت الأفكار الإرهابية والفوضوية والنارودنية القديمة تنهار الواحدة تلو الأخرى تحت وطأة النقد الماركسي. وقد لخص بليخانوف في وقت لاحق تلك التجربة قائلا:

«أي شخص لم يعش معنا تلك الأوقات بالكاد يمكنه أن يتصور الحماس الذي انخرطنا به في دراسة الأدب الاشتراكي الديمقراطي، والذي بطبيعة الحال احتلت فيه أعمال المنظرين الألمان المقام الأول. وبقدرما تعرفنا عن كثب أكثر على الأدب الاشتراكي الديمقراطي، بقدرما أصبحنا على بينة أكثر من نقاط ضعف مواقفنا السابقة، وأصبحنا أكثر قناعة بصحة تطورنا الثوري… لقد قادتنا نظريات ماركس، مثل خيط أريادن، خارج متاهة التناقضات التي كانت محشوة في عقولنا بفعل تأثير باكونين»[31].

ومع ذلك، فإن القطيعة مع الماضي لم يكن من السهل تحقيقها. فدويتش وزاسوليتش على وجه الخصوص كانا ما تزال لديهما أوهام بخصوص الإرهابيين. في الواقع، عندما وصل إلى المجموعة خبر اغتيال القيصر، صاروا جميعا، باستثناء بليخانوف، لصالح العودة إلى نارودنايا فوليا. وكان على التجربة أن تستمر. لكن بليخانوف استوعب أن كوادر حزب العمال الماركسي الروسي المستقبلي لا يمكن أن يسقطوا من الغيوم. مثلت نارودنايا فوليا تقليدا لجيل كامل من المناضلين ضد القيصرية. ومثل هذه الحركة، التي تجللت بدماء عدد لا يحصى من الشهداء الثوريين، لا يمكن أن تمسح من الذاكرة بسهولة. وبسبب تقاليدها تحديدا، كانت الحركة النارودنية، حتى في فترة انحطاطها، ما تزال قادرة على اجتذاب العديد من الشباب والشابات، الذين يبحثون بارتباك عن الطريق إلى الثورة الاجتماعية. ومن بين هؤلاء كان هناك ألكسندر أوليانوف، شقيق لينين، الذي اعدم بسبب دوره في مؤامرة ضد حياة ألكسندر الثالث عام 1887. كان لينين نفسه يتعاطف مع النارودنيين ومن المؤكد أنه بدأ حياته السياسية مؤيدا لنارودنايا فوليا. وقد كان إنقاذ هؤلاء الناس من الممارسات الإرهابية العقيمة أول واجب على كاهل الماركسيين الروس.

على الرغم من صغر حجم منظمة بليخانوف فإنها تسببت في خلق حالة استنفار بين صفوف قادة النارودنيين، الذين حاولوا على الفور خنق صوت الماركسية عن طريق إجراءات بيروقراطية. اصطدمت محاولات المنظمة لإيجاد الطريق نحو الشباب الثوري في روسيا بجدار صلب من العقبات التي أقامها قادة الجناح اليميني للحركة النارودنية والذي كان يسيطر على الصحافة الحزبية. رفض محررو جريدة “فيستنيك نارودنايا فوليا” حتى طباعة مؤلف بليخانوف الرائد الموجه ضد اللاسلطوية: “الاشتراكية والنضال السياسي”. في البداية، بدا تيخوميروف، قائد نارودنايا فوليا آنذاك، مستعدا لقبول طلب مجموعة بليخانوف الانضمام إلى المنظمة كتيار، لكن بعد نشر “الاشتراكية والنضال السياسي”، سرعان ما غير رأيه وحظر قبول أية مجموعة منظمة داخل نارودنايا فوليا. كان من الواجب عليهم أولا أن يحلوا مجموعتهم، ثم سيتم النظر في كل طلب عضوية كل واحد بشكل فردي. صارت استحالة المصالحة عندها واضحة للجميع، وفي شتنبر عام 1883، شكل الماركسيون مجموعة تحرير العمل الروسية.

عندما حدث الانقسام لم تكن المجموعة تضم أزيد من خمسة أعضاء: بليخانوف وأكسلرود وفيرا زاسوليتش الذين كانوا جميعهم وجوها معروفة في الحركة النارودنية. كانت فيرا زاسوليتش تتمتع بشهرة كبيرة في أوروبا نتيجة لعملية تريبوف. وليف دويتش (1855-1941)، زوج زاسوليتش، والذي كان محرضا نارودنيا نشيطا في جنوب روسيا في نهاية عقد السبعينات [من القرن التاسع عشر]. وكان دور فاسيلي نيكولايفيتش إيغنانوف (1854- 1885) أقل شهرة. كان قد نفي إلى روسيا الوسطى بسبب مشاركته في المظاهرات الطلابية. وقدم مبالغ كبيرة من الأموال مكنت المجموعة من بدء نشاطها، قبل وفاته، في عز شبابه بشكل مأساوي، بسبب السل الذي منعه من لعب دور فعال في الحركة. اعتقل دويتش في ألمانيا عام 1884، ثم أرسل إلى روسيا حيث تعرض لحكم بالسجن لمدة طويلة، وأدت وفاة إغنانوف إلى تخفيض عضوية المجموعة إلى ثلاثة أشخاص فقط.

انتصبت أمامهم سنوات عديدة من النضال الشاق المعزول في سرية تامة مملة. لقد تطلب الأمر شجاعة خاصة من طرف أقلية صغيرة لتأخذ قرارا واعيا بالنضال ضد التيار، معزولة عن الجماهير، وفي ظروف المنفى القاسية، وبأقل الموارد وضد الجميع تقريبا. لم تكن تلك هي المرة الأخيرة التي تحولت فيها القوى الماركسية الروسية إلى مجرد “صوت في الصحراء”. وكان الشيء الوحيد الذي دعمهم هو ثقتهم في أفكارهم ونظرياتهم ومنظوراتهم. هذا على الرغم من حقيقة أن أفكارهم بدت وكأنها تتعارض مع الواقع. كانت الحركة العمالية في روسيا ما تزال في مراحلها المبكرة. صحيح أنه كانت هناك بدايات لحركة الإضرابات، لكنها كانت إلى حد بعيد خارج نطاق الاشتراكيين. والمجموعات العمالية الصغيرة التي كانت موجودة كانت ما تزال تحت هيمنة أفكار النارودنيين. وصوت مجموعة تحرير العمل الضعيف لم يكن مسموعا في المصانع. كما كان من الصعب الوصول حتى إلى الطلاب، الذين كانوا ما يزالون تحت تأثير الميولات اللاسلطوية والارهابية.

في رسالة إلى أكسلرود، كُتبت في أواخر مارس عام 1889، قال بليخانوف: «الكل (سواء من“الليبراليين” أو “الاشتراكيين”) مجمعون على أن الشباب لن يستمعوا إلى أولئك الذين يتحدثون علنا ضد الإرهاب. ونظرا لهذا علينا أن نكون حذرين».

تعرضت مجموعة تحرير العمل، بمجرد تشكيلها، لهجمات شرسة من جميع الجهات بسبب “خيانتها” المزعومة للحركة النارودنية “الثورية”. ومن المنفى كتب تيخوميروف إلى رفاقه في روسيا يحذرهم من الدخول في أية علاقة مع جماعة بليخانوف. وكان لحملة الافتراءات والتشويهات تأثير كبير. علق الباكونيني القديم، زوبوفسكي، ساخرا: “أنتم أيها الناس لستم ثوريين، بل مجرد طلبة لعلم الاجتماع”. وكان الموضوع الثابت لهذه الهجمات هو أن أفكار ماركس لا يمكن تطبيقها على روسيا، وأن برنامج بليخانوف كان “نسخة طبق الأصل للبرنامج الألماني”[32].

شهدت سنوات الثمانينيات النصر الحاسم للأفكار الماركسية داخل الحركة العمالية الأوروبية. وبسبب عزلتهم عن الحركة في روسيا، اقترب أعضاء مجموعة تحرير العمل بشكل غريزي من الأحزاب القوية داخل الأممية الاشتراكية. كتب بليخانوف ورفاقه لصحافتها، وتحدثوا في مؤتمراتها، وخاصة مؤتمرات الحزب الألماني، حزب ماركس وإنجلز وليبكنخت وبيبل. لقد استمدوا القوة المعنوية من الإنجازات العظيمة التي كانت تحققها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. كانت القوى الماركسية الروسية صغيرة، لكنها شكلت كتيبة داخل صفوف الجيش البروليتاري العظيم، الذي كان يضم ملايين الأعضاء في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا. كان ذلك دليلا حيا على تفوق الماركسية، ليس في فقرات كتاب رأس المال، بل في إحصاءات العضوية النقابية وفروع الحزب والأصوات الانتخابية والفرق البرلمانية.

لكن حتى دعم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية لم يكن مطلقا. فطيلة سنوات عديدة حافظ قادتها على علاقات ودية مع قادة الحركة النارودنية مثل لافروف. في الواقع كان قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية ينظرون بارتياب إلى ما كان يبدو لهم وكأنه ليس أكثر من مجموعة عصبوية منشقة غريبة الأطوار. وقد تسببت حدة بليخانوف في الجدل ضد شخصيات نارودنية معروفة أمميا في نشر الذعر. كتب بليخانوف: «في الواقع، إن نضالنا ضد أنصار باكونين تسبب في بعض الأحيان في ظهور مخاوف حتى بين الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية. لقد اعتبروه في غير محله. كانوا يخشون أن تؤدي دعايتنا، من خلال التسبب في انقسام الحزب الثوري، إلى إضعاف طاقة النضال ضد الحكومة».

ولا بد أن الأكثر إيلاما كانت هي التحفظات التي أعرب عنها انجلز في مراسلاته مع فيرا زاسوليتش. لقد قبل انجلز استحالة بناء الاشتراكية في بلد متخلف مثل روسيا كنقطة انطلاق لتحليله. وماركس نفسه، في مقدمة عام 1882 للطبعة الروسية من البيان الشيوعي، وكتابات أخرى، لم يستبعد إمكانية بناء مجتمع لا طبقي في روسيا على أساس مجتمع القرية (المير)، لكنه ربط ذلك بشكل وثيق بمنظور الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أوروبا الغربية. وقد كتب: «إذا أصبحت الثورة الروسية شرارة للثورة البروليتارية في الغرب، بحيث يكمل كل منهما الآخر، فيمكن للملكية المشتركة الروسية الحالية للأرض أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لتطور شيوعي»[33]. في رسالته إلى زاسوليتش، بتاريخ 23 أبريل 1885، عبر إنجلز نفسه عن حذره من كتاب بليخانوف “اختلافاتنا”. لكن وبالرغم من ذلك فإن العجوز إنجلز عبر عن اعتزازه بأنه: «يوجد بين الشباب الروس حزب يقبل صراحة ودون لبس بالنظريات التاريخية والاقتصادية العظيمة لماركس والذين قطعوا بشكل حاسم مع جميع التقاليد اللاسلطوية والسلافية التافهة لأسلافهم»[34].

لم يكن هذا موقف العديد من قادة الأممية الاشتراكية الديمقراطية الذين نظروا بارتياب إلى تلك الحفنة الصغيرة من الماركسيين الروس. فقادة الحركة العمالية الغربيين، الذين كانوا يستندون بالفعل على أحزاب قوية تتمتع بدعم جماهيري واسع، كانوا يشككون في احتمالات إنشاء حزب عمالي ماركسي ثوري في روسيا. ورغم احترامهم الظاهري لبليخانوف وجماعته، فقد كانوا فيما بينهم يحكون رؤوسهم حيرة. كانوا يتسائلون عما هو الهدف من كل تلك الصراعات التي لا تنتهي حول مسائل نظرية غامضة؟ هل كان من الضروري حقا الانقسام حول تلك المسائل؟ لماذا لا يستطيع هؤلاء الروس توحيد جهودهم والعمل معا؟

بدا موقفهم المتشكك مبررا بالنظر إلى صغر حجم المجموعة وبطء تطورها. وفي المقابل كان النارودنيون منظمة أكبر بكثير، ويمتلكون موارد أكثر، ونفوذا أكبر بما لا يقاس داخل وخارج روسيا. لكن ومع ذلك فإن مجموعة بليخانوف، التي كانت تبدو تافهة، كانت تمثل جنين حزب ثوري جماهيري قوي، سوف يتمكن في فترة وجيزة نسبيا، قدرها 34 سنة، من قيادة العمال والفلاحين الروس إلى الاستيلاء على السلطة وإقامة أول دولة عمالية ديمقراطية في التاريخ.

مجموعة تحرير العمل

«لا يمكن للحركة الثورية في روسيا أن تنتصر إلا كحركة ثورية عمالية. بالنسبة لنا لا يوجد طريق آخر ولا يمكن له أن يوجد». (من خطاب بليخانوف في مؤتمر الأممية الاشتراكية، باريس عام 1889).

قال هيغل ذات مرة: «عندما نريد أن نرى شجرة بلوط في قوة جذعها وامتداد أغصانها، وكثافة أوراقها، لن نرضى بأن تقدم لنا، عوض ذلك، ثمرة بلوط»[35]. إلا أنه يوجد داخل البذرة السليمة لكل نبتة أو جنين كل حيوان جميع المعلومات الوراثية اللازمة لتطورهما المستقبلي. وهو الأمر الذي يصدق كذلك على تطور التيار الثوري. و“المعلومات الجينية” هنا هي النظرية، التي تحتوي داخلها على مخزن غني من الدروس القائمة على الخبرات المتراكمة. النظرية هي الأساس: وكل التطور اللاحق يقوم على هذا. وعلى الرغم من صغر حجم مجموعة تحرير العمل وبدائية أشكال تنظيمها وغياب الاحترافية في عملها، فإن مساهمتها العظيمة كانت هي وضع الأسس النظرية للحركة. وبالضرورة اقتصر العمل الأولي للمجموعة على كسب المناضلين واحدا تلو الآخر، وتكوين وتدريب الكوادر والتأكيد على المبادئ الأساسية للماركسية.

كتب بليخانوف: «إننا نريد من كل قلوبنا العمل على إنتاج أدبيات تكون في متناول فهم عموم الفلاحين والجماهير العاملة؛ لكننا مع ذلك مضطرون، في الوقت الراهن، لحصر جهودنا الأدبية على دائرة ضيقة من القادة العماليين “المثقفين” إلى هذا الحد أو ذاك»[36]. لقد أسهمت كتابات بليخانوف، خلال تلك الفترة، في وضع الأساس النظري لبناء الحزب. وما يزال الكثير منها من بين الكتابات الماركسية الكلاسيكية حتى وقتنا الحالي، على الرغم من أنها لا تحظى بالاهتمام الكافي من قبل دارسي الماركسية. وليس من قبيل الصدفة أن لينين كان قد أوصى بشدة بإعادة نشر كتابات بليخانوف الفلسفية بعد الثورة، عندما كان الرجلان قد صارا منذ فترة طويلة أعداء سياسيين. إن “الاشتراكية والنضال السياسي”، و“اختلافاتنا”، وقبل كل شيء تحفة بليخانوف: “في تطور النظرة الأحادية للتاريخ”، هي إعادة تأكيد ناجح على الأفكار الأساسية للمادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.

ألقى هجوم بليخانوف القادة النارودنيين في حالة من الفوضى. وبسبب عدم قدرتهم على تقديم إجابة متماسكة على النقد الماركسي، لجأوا إلى الشكاوى المريرة والمزاعم الحاقدة حول المجموعة الجديدة. زعمت جريدة “فيستنيك نارودنايا فوليا” (العدد الثاني، 1884) أنه «بالنسبة لهم [الماركسيين] يعتبر الجدل مع نارودنايا فوليا أكثر أهمية من الصراع ضد الحكومة الروسية وضد مستغِلي الشعب الروسي الآخرين»[37].

كثيرة جدا هي المرات التي سمعنا فيها، نحن الماركسيين، مثل هذه الادعاءات طوال تاريخنا! بسبب “جريمة” الإصرار على الوضوح النظري ومحاولة رسم خط واضح لترسيم الحدود بينها وبين التيارات السياسية الأخرى، تتهم الماركسية دائما “بالعصبوية”، وبالوقوف ضد “وحدة اليسار”، وهلم جرا. ومن المفارقات العظيمة للتاريخ هي أن أحد النقاد النارودنيين الرئيسيين ضد بليخانوف، تيخوميروف، والذي اتهم المجموعة بتعطيل الوحدة الثورية والقبول بنير الرأسمال، انتقل هو نفسه بعد ذلك إلى معسكر الرجعية الملكية. وهذه ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي انتهى فيها دعاة “الوحدة” غير المبدئية إلى الاتحاد مع أعداء الطبقة العاملة!

ومع ذلك فإن العمل على اختراق الحركة الثورية في روسيا واجه صعوبة هائلة. وقد طرح نقل الأدبيات غير الشرعية إلى داخل روسيا مشاكل عويصة. تم تجنيد عمال وطلاب يدرسون في الخارج لإدخال الكتابات غير الشرعية إلى روسيا عند عودتهم إلى عائلاتهم خلال العطل. وفي عدة مرات تم إرسال أفراد من المجموعة إلى روسيا لإقامة اتصالات. كانت هذه الرحلات خطرة للغاية وانتهت في كثير من الأحيان بالاعتقال. كان عدد الناس في الداخل الذين تمكنوا من إقامة اتصال مباشر مع المجموعة قليلا وفي فترات متباعدة، وكانوا يعاملون مثل شذرات الذهب. في 1887-1888، كانت هناك محاولة لاقامة اتحاد للاشتراكيين الديمقراطيين الروس في الخارج، بقيادة الطالب رافاييل سولوفييشيك، الذي كان قد غادر روسيا في عام 1884. لكنه اختلف مع المجموعة وعاد إلى روسيا، حيث اعتقل عام 1889 وحكم عليه بالسجن لمدة طويلة، ثم أصبح مختلا عقليا وأقدم على الانتحار. عضو آخر في المجموعة نفسها، غريغور غيكوفسكي، وهو طالب شاب في زيوريخ، اعتقل في آخن وسلم إلى الحكومة القيصرية. حكم عليه بالسجن، وأقدم هو أيضا على الانتحار. كان هناك العديد من مثل هاتين الحالتين. كانت ذراع السلطات القيصرية طويلة. وقد واجهت المجموعة باستمرار خطر تسلل جواسيس الشرطة والعملاء الاستفزازيين إليها. وكان أحد هؤلاء الجواسيس هو كريستيان هاوبت، وهو عامل تم تجنيده من قبل الشرطة لاختراق المنظمات الاشتراكية الديمقراطية الروسية في المنفى. وبعد فضحه من طرف الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني كجاسوس للشرطة، طرد من سويسرا.

والأسوء من ذلك كله كان هو الإحساس بالعزلة السياسية الكاملة، والذي تفاقم من جراء المشاحنات والصراعات الحتمية لحياة المنفى. المهاجرون النارودنيون، الذين اكتووا بانتقادات بليخانوف، نفسوا عن مشاعرهم عن طريق الاحتجاجات القوية ضد تسميتهم “بالباكونينيين” وطالبوا باعتذار علني. كانت غالبية المنفيين الساحقة من النارودنيين، ومعادية شرسة للمجموعة الجديدة التي كانوا يعتبرونها مجموعة من الخونة والمنشقين. بعد مرور سنوات، أشارت زوجة بليخانوف إلى أن «أعضاء نارودنايا فوليا وميخايلوفسكي (ن. ك) كانوا، في ذلك الوقت، يسيطرون على قلوب وعقول المهاجرين والطلاب الروس في جنيف»[38].

«بعد اغتيال الكسندر الثاني، اجتاحت فترة من اليأس القاتل روسيا كلها… وفرضت السقوف الرصاصية [السجون] لحكومة الكسندر الثالث صمت القبور. وسقط المجتمع الروسي في قبضة الاستسلام التام، وواجه نهاية كل الآمال في تحقيق إصلاح سلمي، وما بدا وكأنه فشل لجميع الحركات الثورية. في مثل هذا الجو لا يمكن أن تظهر إلا النزعات الميتافيزيقية والصوفية»[39].

بهذه الكلمات وصفت روزا لوكسمبورغ هذا العقد القاتم من الردة الرجعية. كان القيصر الجديد الكسندر الثالث، رجلا عملاقا، قويا بما يكفي لثني حدوة حصان بيديه، لكنه كان غبيا. وكان الحاكم الحقيقي لروسيا هو بوبيدونوستسيف، معلم القيصر السابق، ووكيل المجمع المقدس، والذي يعتقد أن الديمقراطية الغربية فاسدة، وأن النظام البطريركي الروسي وحده النظام الصالح، وأنه يجب فرض الصمت على الصحافة، وأن المدارس يجب أن تكون تحت سيطرة الكنيسة، وأن حكم القيصر يجب أن يكون مطلقا. كان من المفروض على كهنة القرية الإبلاغ عن أي من الرعايا المشبوهين سياسيا إلى الشرطة، وكانت حتى خطبهم تخضع للرقابة. وتم اضطهاد كل الديانات غير الأرثوذكسية وغير المسيحية. واعتبرت أفكار تولستوي بشكل خاص خطيرة على الكنيسة والدولة. تولستوي نفسه تعرض للطرد. وتعرض كل احتجاج طلابي للقمع بقسوة.

كانت تلك أوقاتا صعبة. كان هناك تراجع على جميع المستويات وانحسار إيديولوجي وردة جبانة. كان الاتجاه النارودني القديم في مأزق تام. وبعد أن أحرق هؤلاء “الثوار الجذريين” أصابعهم بالإرهاب، انعطفوا 180 درجة وانتهوا في نهاية المطاف في معسكر الليبراليين الخونة، وصاروا يعظون بسياسة “الإنجازات الصغيرة” الجبانة والعمل الثقافي التربوي المسالم. وفي تعليقه على اضمحلال الحركة النارودنية كتب مارتوف:

«لقد كان سقوط [منظمة] إرادة الشعب في الوقت نفسه انهيارا للحركة الشعبوية ككل. تعرضت دوائر واسعة من المثقفين الديمقراطيين لإحباط عميق وخيبة أمل في “السياسة” وفي مهمتهم البطولية الخاصة. القيام بمساهمة متواضعة في خدمة القطاعات الليبرالية من بين الطبقات المالكة: كان هذا هو الشعار الذي بموجبه دخل قسم من المثقفين، الذين استمروا موالين للشعبوية، إلى حقبة الثمانينيات الرمادية»[40].

اضطرت مجموعة تحرير العمل، على مدى السنوات العشر الأولى أو نحو ذلك من وجودها، لخوض معركة صعبة ضد التيار. ومن أجل إيجاد الطريق إلى جيل الشباب، كان بليخانوف مضطرا إلى التعاون مع جميع أنواع العناصر المشوشة وشبه النارودنية. من بين تلك المجموعات كانت هناك واحدة تصدر جريدة ضيقة الانتشار تدعى سفوبودنايا روسيا (روسيا الحرة) والتي أعلنت في المقال الافتتاحي لعددها الأول استحالة “تنظيم العمال والفلاحين حول العمل الثوري”، ووقفت ضد رفع مطالب قد تخيف المتعاطفين مع الليبرالية. وكان الاتصال مع روسيا يشبه مهمة حاطب الليل. ولم يكن الوضع مع المنفيين أحسن حالا. ويظهر الإحباط الذي أصاب المجموعة في مراسلات بليخانوف مع أقرب معاونيه. وحتى النشاط الأدبي للمجموعة كان محفوفا بالصعوبات. عاشت مجموعة تحرير العمل في جو من الأزمة المالية المستمرة. وبسبب كونها مجموعة صغيرة من حيث العدد، وبنطاق محدود لجمع الأموال، عادة ما كانت تعتمد على ما يعرف في المسرح الأمريكي بـ “الملائكة”، أي المتعاطفين الأثرياء المستعدين لتمويل مشاريعها الأدبية. في بعض الأحيان لم يكن هؤلاء الناس حتى اشتراكيين، مثل غيرييف الذي قدم المال لإصدار الجريدة الدورية [تصدر كل ثلاثة أشهر – م-] “سوسيال ديمقراط”. وبشكل عام، كانت إصدارات المجموعة غير منتظمة للغاية. وفي بعض الأحيان كانت المهمة تبدو أقرب إلى الاستحالة. في صيف عام 1885، كتب بليخانوف إلى أكسلرود بعبارات من يشارف على اليأس: «لكننا في الحقيقة نقف على هاوية من كل أنواع الديون، ولا أعرف ولا يمكنني التفكير فيما يمكننا التشبث به لمنع أنفسنا من السقوط. إن الأوضاع سيئة»[41].

طيلة سنوات الثمانينيات المظلمة عاش بليخانوف وعائلته في فقر مدقع. في بعض الأحيان كان يعطي دروسا خاصة في الأدب الروسي مقابل راتب صغير، ويعيش في أرخص “نزل” في ملكية جزار كان يطعمهم حصرا بالحساء واللحم المسلوق! سوء الظروف الغذائية والمعيشية قوضت وضعه الصحي. ولفترة من الوقت أصيب بشكل خطير بمرض ذات الجنب (Pleurisy)[42]، الذي استمر أثره عليه بقية حياته. مجموعة تحرير العمل، التي كانت تشتغل في ظل صعوبات هائلة وتعاني من ضغط قاس من جميع الجهات، تمكنت من الحفاظ على وحدتها بفضل الإيمان بأفكارها، لكن أيضا بفضل السلطة الأخلاقية والسياسية الهائلة لبليخانوف. كان بليخانوف داخل المجموعة هو الزعيم دون منازع. وقد أدت تلك العزلة نفسها بالأعضاء إلى الاتحاد في دائرة متماسكة بشكل وثيق، ملتحمين معا بروابط سياسية وشخصية قوية. ليس عبثا أنهم اكتسبوا لاحقا لقب “العائلة”، والتي كان بليخانوف ربها بدون جدال. لقد كان من الناحية الفكرية يفوق الآخرين، كما وجد بينهم شعور قوي بالاعتماد المتبادل ناتج عن سنوات من النضال والتضحية في قضية مشتركة. وبالتالي لم يكن من المستغرب في مثل هذه الظروف أن تختلط المسائل الشخصية بالمسائل السياسية. كان بليخانوف عماد قوة الآخرين، هو من يمنحهم الدعم المعنوي في أوقات الشك والأزمات الشخصية.

كانت مأساة أناس مثل أكسلرود وزاسوليتش ذات طابع مزدوج. ففي ظل ظروف تاريخية مختلفة كان يمكن لهاتين الشخصيتين الموهوبتين أن تلعبا دورا أكبر بكثير في تشكيل الأحداث. كان لسنوات العزلة الطويلة في المنفى تأثير كارثي على نموهما النفسي والفكري. وبعد أن عملا في ظل بليخانوف، توقف تطورهما إلى درجة أنهما لم يتمكنا من التكيف، عندما تغيرت الظروف، وخسرتهما الحركة الثورية. وبالنظر للظروف التي اضطرت مجموعة تحرير العمل إلى الاشتغال في ظلها على مدى عقود، كان من الحتمي تقريبا أن تتسلل إليها آثار عقلية الحلقات الصغرى. لم يكن لهذه العوامل أهمية كبيرة في السنوات الأولى، خلال الفترة الطويلة البطيئة من الإعداد النظري والحلقات الدعوية الصغرى. فقط في وقت لاحق، عندما واجهت الحركة الماركسية الروسية ضرورة تجاوز حدود مرحلة الدعاية، حيث ظهرت الصفات السلبية لمجموعة تحرير العمل.

طيلة عقدين من الزمن استمر عدد أعضاء مجموعة تحرير العمل هو نفسه تقريبا. ومن مؤسسيها، توفي ف. ن. إيغناتوف في وقت مبكر جدا مما منعه من أن يترك تأثيرا كبيرا. وكان ليف دويتش قلب وروح الجانب التنظيمي للعمل، من قبيل القيام بالترتيبات اللازمة لطباعة الأدبيات وتوزيعها. وكان بافل أكسلرود داعية موهوبا ترك انطباعا كبيرا على الشابين لينين وتروتسكي. كان اسمه لفترة طويلة مرتبطا باسم بليخانوف. وقد عانت فيرا زاسوليتش، المناضلة الصادقة وطيبة القلب والمتسرعة، أكثر من الآخرين من صدمة المنفى. كانت متشوقة دائما إلى رأب الفجوة بين مجموعة تحرير العمل وبين الجيل الجديد من الثوريين في روسيا، مما جعلها تقف دائما للدفاع عن الشباب، والتغلب على مقاومة بليخانوف وتشجيع المبادرات الجديدة، التي كانت غير ناجحة في غالب الأحيان، مع مجموعات الشباب في المنفى.

العمل الدؤوب للماركسيين أعطى في نهاية المطاف ثماره. وقد كان السبب الحقيقي لاحتجاج النارودنيين ضد “العصبوية” و“المنشقين”، هو التأثير الذي كان للأفكار الماركسية على أتباعهم. من الصعب أن نبالغ في تقدير التأثير الذي مارسته كتابات من قبيل “خلافاتنا” (1885) على الثوار الشباب داخل روسيا، الذين كانوا يبحثون بجهد عن وسيلة للخروج من مأزق الحركة النارودنية، التي كانت آنذاك في مرحلة انحطاط بديهي. بلغ التحول نحو اليمين لقادة الحركة النارودنية أوجه مع إعلان تيخوميروف -الذي كان هدفا للكثير من النقد من طرف بليخانوف- تخليه عن المعسكر الثوري، حيث نشر في عام 1888 كتيبا بعنوان “لماذا لم أعد ثوريا”.

كان لانهيار النارودنية الثورية القديمة تأثير عميق في أوساط الشباب داخل روسيا، مما خلق حالة استقطاب بين العناصر الإصلاحية المؤيدة لليبرالية وبين أفضل العناصر من الشباب، الذين كانوا يسعون لإيجاد الطريق إلى الثورة. وحوالي نهاية عام 1887، كتب س. ن. غينسبرغ، الذي كان قد عاد مؤخرا من روسيا، بلهجة قلقة إلى القيادي النارودني ب. ل. لافروف:

«لقد مارست “خلافاتنا” و“الاشتراكية والنضال السياسي” تأثيرهما القوي، والذي لا يمكننا إلا أن نتعايش معه… بسببهما تحطمت أهمية الفرد وأهمية المثقفين في الثورة تماما. ولقد رأيت شخصيا الأشخاص الذين حطمتهم نظرياته. والشيء الخطير هو لهجته الجريئة كما لو أنه مقتنع بصواب موقفه، ونفيه لكل ما كان من قبل، وتحويله لجميع أسلافه إلى عدم. كل هذا له بالتأكيد تأثير»[43].

تبين رسالة غينسبرغ كيف أنه، ودون علم الماركسيين في المنفى، كانت هناك تجمعات جديدة تتبلور في الداخل، تناقش إخفاقات الماضي وتعمل على تقييم التجربة وتبحث عن طريق جديد. وهنا سقطت أفكار بليخانوف على أرض خصبة. ومع مطلع عقد التسعينيات بدأت المجموعة تتمتع بنفوذ هائل في أعين أعداد متزايدة من الشباب الماركسي، وصار اسم بليخانوف معروفا في كل حلقات الدعاية السرية وفي كل مراكز الشرطة في روسيا.

التطور المركب واللامتكافئ

بحلول نهاية عقد الستينيات [من القرن 19 -م-]، لم يكن هناك سوى 1600 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية في البلاد كلها. لكن خلال العقدين التاليين ازداد هذا الرقم 15 مرة. وفي السنوات العشر ما بين 1892 و1901، تم بناء ما لا يقل عن 26.000 كيلومتر من خطوط السكك الحديدية. وإلى جانب المركزين الصناعيين التقليديين: موسكو وسان بيترسبورغ، نشأت مراكز جديدة في مناطق مثل البلطيق وباكو ودونباس. ما بين 1893 و1900 شهد إنتاج النفط زيادة بمقدار الضعفين، وارتفع إنتاج الفحم ثلاث مرات. الواقع أن تطور الصناعة [في روسيا -م-] لم يكن له ذلك الطابع العضوي لتطور الرأسمالية في بريطانيا، والذي وصفه ماركس في كتابه “رأس المال”. قدم تحرير الأقنان عام 1861 الأساس المادي لتطور الرأسمالية، لكن البرجوازية الروسية جاءت إلى مسرح التاريخ متأخرة مما حال بينها وبين الاستفادة من هذه الفرصة. لا يمكن للرأسمالية الروسية السقيمة والمتخلفة أن تتنافس مع البرجوازية القوية والمتقدمة في أوروبا الغربية وأمريكا. ومثلما هو الحال اليوم في البلدان المستعمرة سابقا، كانت الصناعة الروسية تعتمد بشكل كبير على رؤوس الأموال الأجنبية التي تمارس هيمنة ساحقة على الاقتصاد، وبصورة رئيسية من خلال سيطرتها على النظام المصرفي والمالي:

كتب تروتسكي:

«تم اندماج رأس المال الصناعي مع رأس المال البنكي في روسيا بشكل كامل لا يمكنك أن تجده في أي بلد آخر. لكن خضوع الصناعة الروسية للأبناك كان يعني، لنفس الأسباب، خضوعها لسوق الأوراق المالية في أوروبا الغربية. والصناعة الثقيلة (المعادن، الفحم، النفط) كانت كلها تقريبا تحت سيطرة الرأسمال المالي الأجنبي، الذي أنشأ لنفسه في روسيا نظاما بنكيا مساعدا ووسيطا. وكانت الصناعة الخفيفة تسير في نفس الطريق. كان الأجانب يملكون عموما حوالي 40% من مجموع رؤوس الأموال المستثمرة في روسيا، لكن هذه النسبة كانت أكبر من ذلك بكثير في فروع الصناعة الرئيسية. ويمكننا أن نؤكد دون أية مبالغة أن مركز مراقبة الأسهم التي تصدرها البنوك والمصانع والمعامل الروسية كان موجودا خارج البلاد، وكانت مشاركة رؤوس الأموال الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية أكبر من ضعف مثيلتها الألمانية»[44].

أعطى اختراق المجتمع الروسي من قبل الرأسمال الأجنبي دفعة قوية للتطور الاقتصادي، وأخرج روسيا من 2.000 سنة من الهمجية وأدخلها إلى العصر الحديث. لكن هذا بالضبط أدى إلى خلق وضع اجتماعي متفجر. حيث انتزع أعدادا كبيرة من الفلاحين من روتين الحياة الريفية الجامدة ورمى بهم إلى جحيم الصناعة الرأسمالية الكبرى.

وجدت النظرية الماركسية حول التطور المركب واللامتكافئ تعبيرها الأكثر وضوحا في العلاقات الاجتماعية المعقدة للغاية في روسيا في مطلع القرن [العشرين -م-]. فجنبا إلى جنب مع الأنماط الإقطاعية وشبه الإقطاعية، وحتى ما قبل الإقطاعية، شيدت أكثر المصانع حداثة، والتي بنيت برأسمال فرنسي وبريطاني على أحدث طراز. هذه بالضبط هي الظاهرة التي نراها الآن في كل ما يسمى بالعالم الثالث، وظهرت بشكل أكثر جلاء في التطور الذي شهدته بلدان جنوب شرق آسيا خلال النصف الأول من عقد التسعينيات [من القرن العشرين -م-]. وهو ما يقدم صورة مشابهة للتطور الذي شهدته روسيا قبل مائة سنة بالضبط. ومن الممكن جدا أن تكون النتيجة السياسية متشابهة. إن تطور الصناعة في مثل هذا السياق يعمل كحافز للثورة. وتوضح روسيا مدى السرعة التي يمكن لذلك أن يحدث بها. ومع التطور العاصف الذي شهدته الرأسمالية الروسية في الثمانينات والتسعينات [من القرن 19-م-] جاء النهوض العاصف بدوره للبروليتاريا. كانت موجة الإضرابات التي شهدها عقد التسعينيات هي المدرسة التحضيرية لثورة عام 1905.

في غضون 33 سنة فقط، ما بين 1865 و1898، تضاعف عدد المصانع التي تشغل أكثر من 100 عامل، من 706.000 مصنع، إلى 1.432.000. وبحلول عام 1914، كان أكثر من نصف جميع العمال الصناعيين يعملون فعلا في مصانع تشغل أكثر من 500 عامل، وما يقرب من ربع المصانع تشغل أكثر من 1.000 عامل، وهي النسبة الأعلى بكثير مما كانت عليه في أي بلد آخر. وبالفعل في عقد التسعينيات وظفت سبعة مصانع كبيرة في أوكرانيا ثلثي كل عمال المعادن في روسيا، في حين كانت باكو تضم تقريبا جميع العاملين في قطاع النفط. في الواقع كانت روسيا، حتى عام 1900، أكبر منتج للنفط في العالم[45].

ومع ذلك، فعلى الرغم من التطور العاصف للصناعة، فإن السمة العامة للمجتمع الروسي ظلت هي التخلف الشديد. كانت أغلبية السكان ما تزال تعيش في القرى، حيث شهد التطور السريع للتمايز الطبقي دفعة قوية بفعل الأزمة في الزراعة الأوروبية في الثمانينيات وأوائل عقد التسعينيات. أدى انخفاض سعر الحبوب إلى خراب فئات واسعة من الفلاحين، والذين وصف تشيخوف بشكل باهر، في قصصه القصيرة: “في الوادي الضيق” و“موزهيكس”، الظروف المروعة التي كانوا يعيشون فيها. أصبح منظر الريفي شبه البروليتاري، المحروم من الأرض، وهو يتجول بين القرى بحثا عن عمل، مشهدا مألوفا. وعلى الطرف الآخر من الطيف الاجتماعي ظهرت طبقة جديدة من الرأسماليين القرويين الصاعدين -الكولاك- الذين كانوا يزدادون ثراء على حساب فقراء القرية، وكان في إمكانهم شراء الأراضي من ملاك الأراضي القدامى، وهو الوضع الذي تصفه بخفة دم وبصيرة مسرحية تشيخوف الشهيرة “بستان الكرز”.

وعلى الرغم من كل محاولات النظام القيصري لدعم مجتمع القرية القديم، المير، والذي كان من المفترض، وفقا للمنظرين النارودنيين، أن يوفر الأساس للاشتراكية الفلاحية، فإنه كان يتفكك بسرعة على أساس طبقي. أولئك الذين لم يتمكنوا من العثور على عمل في القرية تدفقوا إلى المدن، مما وفر جيشا هائلا من العمالة الرخيصة للشركات الرأسمالية التي أنشئت حديثا. خلق التطور السريع للصناعة حالة استقطاب طبقي متزايد داخل صفوف الفلاحين، مع تبلور فئة من الفلاحين الأغنياء، أو الكولاك، وكتلة من فقراء الريف الذين لا يملكون أرضا والذين تدفقوا على نحو متزايد إلى المدن بحثا عن عمل. والصراع العنيف بين الماركسيين والنارودنيين حول حتمية أو عدم حتمية تطور الرأسمالية في روسيا، صار يحسم بشكل تام من قبل الحياة نفسها. وكانت كتابات لينين الأولى، مثل “التطورات الاقتصادية الجديدة في حياة الفلاح”، و“حول ما يسمى مسألة السوق” و“تطور الرأسمالية في روسيا”، موجهة لتصفية الحساب مع النارودنيين، لكنها وعلى عكس كتابات بليخانوف، كانت تعتمد على لغة الحقائق والأرقام والحجج الدامغة.

تطور الرأسمالية في روسيا كان يعني أيضا تطور البروليتاريا والتي سرعان ما أخبرت المجتمع بأسره بعزمها على وضع نفسها في طليعة النضال من أجل التغيير. سرعان ما خلق الطابع شديد التمركز للصناعة الروسية جيوشا من العمال الصناعيين، المنظمين والمنضبطين، ووضعهم في مواقع إستراتيجية داخل المجتمع والاقتصاد. وقد بين تصاعد حركة الإضرابات بوضوح ارتفاع الثقة والوعي الطبقي عند الطبقة العاملة الروسية في تلك الفترة.

1894-18901889-1885السنوات
181221عدد الإضرابات
170.000223.000عدد العمال المشاركين
(المصدر: Istoriya KPSS, vol. 1, p: 96)

ابتداء من ربيع 1880، تعرضت الصناعة لأزمة استمرت عدة سنوات. شهدت تلك الفترة ارتفاع معدلات البطالة، حيث عمل أرباب العمل بقسوة على تخفيض أجور العمال البئيسة أصلا. وبالإضافة إلى جميع المشاكل الأخرى، كان العمال يتعرضون باستمرار لجميع أنواع الاضطهاد والقوانين التعسفية التي كانت تهدف إلى تأبيد خضوعهم، وعلى رأسها جميعا كانت هناك عادة فرض غرامات على سلسلة كاملة من الاعتداءات الحقيقية أو المتخيلة ضد أرباب العمل. السخط والاستياء المتراكمين بين العمال انفجرا أخيرا في موجة من الاحتجاجات العمالية ما بين عامي 1885 و1886 في موسكو وفلاديمير وياروسلافل، والتي بلغت ذروتها في الإضراب الذي شهده مصنع نيكولسكوي الذي كان يملكه ت. س. موروزوف.

شهد عمال شركة موروزوف، الذين كان يبلغ عددهم 11.000 عامل، اقتطاعات في أجورهم بما لا يقل عن خمس مرات في غضون عامين. وفي نفس الوقت فرضت غرامات قاسية جدا على العامل الذي يغني أو الذي يتحدث بصوت عال أو الذي يمر أمام مكتب المدير وهو يعتمر قبعته، وهلم جرا. بلغت هذه الغرامات في كثير من الأحيان ربع أجر العامل، وأحيانا النصف. ويوم 07 دجنبر 1885، انفجر كل الغضب والإحباط المكبوتين، طيلة سنوات من المضايقات الصغيرة والسرقة والتعسف، بقوة هائلة. وكان القيادي في ذلك الإضراب، بيوتر أنيسيموفيتش مواسيينكو (1852-1923)، ثوريا محنكا، وعضوا سابقا في منظمة خالتورين، الاتحاد الشمالي للعمال الروس، وكان قد قضى فترة في المنفى في سيبيريا. كان رجلا مميزا، وواحدا من تلك القيادات الطبيعية للطبقة العاملة. في وقت لاحق كتب مواسيينكو: “لقد تعلمت أولا أن أفهم، ثم أتحرك”.

عبر العمال الغاضبون عن غضبهم بتحطيم مخزن الغذاء بالمصنع، حيث كان نظام المصنع يرغمهم على شراء المواد الغذائية بأسعار مبالغ فيها، ومنزل رئيس العمال المكروه، شورين. قام حاكم إقليم فلاديمير، الذي ارتعب من عنف الانفجار، بإرسال الجيش وقوات القوزاق إلى المعمل. قدم العمال للحاكم مطالبهم، لكنهم قوبلوا بالقمع. ألقي القبض على ستمائة عامل. وحاصرت القوات المصنع واضطر العمال للرجوع إلى العمل تحت تهديد السلاح. ومع ذلك استمرت الأجواء متوترة إلى درجة أن المصنع لم يعمل بكامل طاقته إلا بعد مرور شهر.

انتهى إضراب عمال مصنع موروزوف بالهزيمة. ومع ذلك فإن التأثير الذي كان له على عقول العمال في جميع أنحاء روسيا أعد الطريق لاندلاع الإضرابات الجماهيرية الحاشدة التي شهدها العقد القادم. أثناء محاكمة المضربين، التي تمت في فلاديمير شهر ماي 1886، تقدم مواسيينكو والمتهمين الآخرين بدفاع حماسي تحول إلى اتهام كاسح لظروف العمل في المصنع، إلى درجة أن التهم ضدهم ألغيت وجاء الحكم لصالح العمال. خلق الحكم الذي صدر عن محاكمة موروزوف صدى قويا في المجتمع الروسي. وبسبب قلقها كتبت الجريدة الرجعية موسكوفيسكي فيدموستي:

«لكن من الخطورة بمكان المزاح مع جماهير الشعب. ما الذي سيفكر فيه العمال، بعد الحكم بالبراءة الذي أصدرته محكمة فلاديمير؟ إن خبر هذا القرار ينتشر بسرعة البرق عبر كل هذه المنطقة الصناعية. مراسلنا، الذي غادر فلاديمير مباشرة بعد إعلان الحكم، سمع عنه في كل المحطات…»[46].

أظهر إضراب موروزوف القوة الكامنة الهائلة للبروليتاريا. ولم يغب الدرس عن النظام القيصري، والذي، رغم دعمه الكامل لمالكي المصانع، قرر أنه يجب تقديم تنازلات للعمال. وهو ما قام به في 03 يونيو 1886، عندما صدر قانون الغرامات الذي يحد من المبلغ الذي يمكن فرضه على العمال، وينص على أن العائدات لا ينبغي أن تذهب لجيوب أرباب العمل، بل تودع في صندوق خاص لصالح العمال. وكما هو الحال دائما، كان الإصلاح نتيجة جانبية للنضال الثوري للعمال من أجل تغيير المجتمع. ومثلما كان الحال مع تشريع “قانون العشر ساعات” الذي صدر في بريطانيا في القرن الماضي، فإن قانون الغرامات جاء محاولة لتهدئة العمال ومنعهم من السير في اتجاه ثوري، وفي الوقت نفسه محاولة للاستناد على العمال للحد من مطالب الليبراليين البرجوازيين. لم تمنع هذه التشريعات “الخيرة” حملة القمع الوحشي للإضرابات والاعتقالات بالجملة والترحيل ضد قادة العمال في الفترة المقبلة. كما لم يؤد القانون الجديد إلى الغاية المرجوة منه أي تلطيف حدة الإضرابات. لقد ألهم إضراب موروزوف العمال، في حين أظهرت التنازلات التي منحها النظام الاستبدادي الجبار للعمال ما يمكنهم تحقيقه من خلال النضال بشجاعة من أجل مصالحهم. في عام 1887، تجاوز إجمالي عدد الإضرابات عدد تلك التي سجلت خلال العامين السابقين معا. بعد ذلك بعامين، اضطر قائد الشرطة، بليهف، أن يقدم تقريرا إلى الكسندر الثالث، يخبره فيه أن عام 1889 كان «أكبر من عامي 1887 و1888 فيما يتعلق بالاضطرابات التي تسببت فيها ظروف العمل في المصانع»[47].

كان تصاعد حركة الإضراب يشير إلى تزايد وعي العمال بأنفسهم كطبقة وكقوة داخل المجتمع. وكانت الفئات الطليعية، التي يمثلها أناس من قبيل مواسيينكو، تتلمس طريقها نحو الأفكار التي يمكنها أن تسلط الضوء على حالتهم وتبين لهم الطريق إلى الأمام. وكانت لهذه الحركة سمة مزدوجة. فمن ناحية، كانت هذه التحركات العفوية ترافقها في كثير من الأحيان بعض أشكال اللوديزم (Luddism)[48]. والتي، بالرغم من طبيعتها غير المنظمة وغير الواعية، أعلنت للعالم دخول الطبقة العاملة الروسية إلى مسرح التاريخ؛ ومن ناحية أخرى، قدمت دليلا لا يدحض على صحة الحجج النظرية لبليخانوف ومجموعة تحرير العمل. وفي نار الصراع الطبقي، تم وضع الأساس آنذاك لكي تتكاتف القوى الماركسية، التي كانت ما تزال ضعيفة عدديا، والقوى الجبارة، لكن غير المنسجمة بعد، للبروليتاريا الروسية.

من وجهة النظر الماركسية، تتجاوز أهمية الإضراب مجرد النضال من أجل المطالب الفورية بخصوص ساعات العمل والأجور وظروف الاشتغال والعيش. الأهمية الحقيقية للإضرابات، حتى عندما تفشل، هو أن العمال يتعلمون. ففي خضم الإضراب يصبح العمال وزوجاتهم وأسرهم، بشكل حتمي واعين بدورهم كطبقة. يتوقفون عن التفكير والتصرف مثل العبيد، ويبدأون في رفع أنفسهم إلى مكانة بشر حقيقيين لديهم عقل وإرادة. من خلال تجربتها في الحياة والنضال، ولاسيما خلال الأحداث الكبرى، تبدأ الجماهير في تغيير نفسها. وبدءا من الفئة الأكثر نشاطا ووعيا، يصبح العمال ساخطين بعمق على أوضاعهم، ويبدأون في الإحساس بنقاط ضعفهم. وتفرض الهزائم، أكثر من الانتصارات، على العامل المناضل ضرورة التوصل إلى فهم واضح لطريقة اشتغال المجتمع وأسرار الاقتصاد والسياسة.

ينتج نمو الصناعة الرأسمالية نفسها جيشا عظيما من البروليتاريا. لكن حتى أفضل الجيوش ستتعرض للهزيمة إذا كانت تفتقر إلى الجنرالات والضباط ذوي التكوين الجيد في شؤون الحرب. لقد أعلنت معارك الإضرابات العاصفة لعقد الثمانينيات للعالم أن الكتائب الجبارة للبروليتاريا الروسية مستعدة وراغبة في خوض الكفاح. لكنها كشفت أيضا عن ضعف الحركة وطبيعتها العفوية وغير المنظمة وغير الواعية، وافتقارها إلى التوجيه والقيادة. كان الجيش موجودا؛ الشيء الذي كان ضروريا هو إعداد هيئة الأركان العامة المستقبلية. وقد توصل أفضل العمال إلى هذا الاستنتاج. وبفضل الجدية والاستقلالية في التفكير التي تميز المناضلين العماليين في جميع أنحاء العالم، قرر هؤلاء أن يبدأوا في التعلم.

مرحلة الحلقات الصغرى

لم تُخض المعارك الفكرية الضارية في العقد الماضي دون جدوى. إذ بدأ عدد متزايد من الشباب في روسيا ينظرون للماركسية كوسيلة لتغيير المجتمع. وبالنسبة لهؤلاء الرجال والنساء الشباب، لم يعد شعارهم هو “توجهوا نحو الشعب”، بل “توجهوا نحو العمال”! وفي ظل الظروف السائدة، كان من الضروري القيام بذلك العمل في ظل السرية الصارمة. وكان الأسلوب المعتاد لحلقة الدعاية السرية هو تشكيل نوع من المدارس في المناطق الصناعية حيث يتم، تحت ستار محاربة الأمية للكبار، شرح الأفكار الأساسية للاشتراكية لمجموعات صغيرة من العمال. شهدت هذه المرحلة العديد من المناضلين والمناضلات الذين صارت أسماء معظمهم غريبة وغير مألوفة للقارئ المعاصر. لا بد أن السلطات القيصرية نظرت إلى تلك المجموعات الصغيرة، التي نشأت في المدن الواحدة بعد الأخرى، باعتبارها نتيجة لبعض الفيروسات الخبيثة والمجهولة.

لم يتمكن النارودنيون، على الرغم من كل الجهود التي بذلوها، من ربط الأواصر مع “الشعب”، ولا كان في إمكانهم أن يأملوا أبدا في القيام بذلك، على أساس نظرياتهم وبرامجهم وأساليب اشتغالهم الخاطئة. إلا أن هذه المشكلة، التي بدت مستعصية، وجدت حلا لها بسهولة تامة من قبل الماركسيين. لقد تم تشييد جسر متين بسرعة لربط الماركسيين بالعمال. في جميع المراكز الرئيسية للصناعة ظهرت حلقات الدراسة والأقسام التعليمية و“مدارس الأحد”، مما زرع بذور جيل جديد كليا من الماركسيين الثوريين العمال، الذين شكلوا العمود الفقري لحزب ثورة أكتوبر المستقبلي. وهكذا بدأ ما يسمى بمرحلة الدعاية (Orkruzhovshchina) -المشتقة من الكلمة الروسية التي تعني حلقة الدراسة-. هناك، وبعد يوم عمل مرهق، في ظل ظروف مروعة، كان العديد من العمال الصناعيين بأيديهم الخشنة، يصارعون التعب الذهني والبدني، يقضون ساعات طويلة وهم يتصارعون مع الفصول الصعبة لكتاب ماركس رأس المال، ذلك الكتاب نفسه الذي اعتبرته الرقابة القيصرية أصعب من أن يمثل خطرا. وكانت رغبة العمال في التعلم كبيرة إلى درجة أنهم كانوا ينتزعون صفحات مجلد رأس المال من أجل توزيعها، فصلا فصلا، بين أكبر عدد ممكن من الناس.

من خلال صفحات أرشيف الشرطة، مرت وجوه وأعداد الثوريين الذين ألقي القبض عليهم بانتظام رتيب، وكأنهم فيروسات كثيرة يتم عزلها وإزالتها حفاظا على سلامة النظام السياسي. تعرض معظم هؤلاء الرجال والنساء للنسيان منذ فترة طويلة، لكن بفضل التضحيات الجسام لهؤلاء الأبطال والشهداء، تم بناء الحركة العمالية الروسية. ربما يشكل كتاب كروبسكايا حول لينين التقرير الأكثر وضوحا للكيفية التي كانت تعمل بها حلقات الدعاية الماركسية المبكرة تلك. كان الاتصال يتم من خلال حلقة الدراسة العمالية، حيث تتم المزاوجة بمهارة بين تدريس المعارف الأساسية وبين التعريف بالأفكار الأولية، على الأقل، للاشتراكية. من بين تلك المجموعات كانت هناك مدرسة مساء الأحد للكبار بسمولينسك، في معقل الطبقة العاملة في شيليسيلبورغ، حيث كانت ناديجدا كروبسكايا تقدم الدروس. كان المحاضرون الشباب يتمتعون بالشعبية بين العمال، والذين أسسوا معهم علاقة وثيقة جدا. كتبت كروبسكايا: «كان العمال الذين ينتمون إلى المنظمة يذهبون إلى المدرسة للتعرف على الناس ويحددون أولئك الذين يمكن كسبهم إلى الحلقة والمنظمة»[49]. وفي مكان آخر كتبت:

«لقد كان هناك نوع من المؤامرة الصامتة. كنا فعلا قادرين على التحدث عن أي شيء في المدرسة، رغم أنه من النادر أن يكون هناك قسم بدون جاسوس؛ كان على المرء أن يمتنع عن استخدام الكلمات الرهيبة من قبيل: “القيصر”، “الإضراب” وغيرها، ويمكنه عندها أن يشير لأكثر المشاكل الأساسية. لكن من الناحية الرسمية كان ممنوعا مناقشة أي شيء على الإطلاق: في إحدى المناسبات عملوا على إغلاق ما يسمى بمجموعة الاستذكار، لأن مفتشا جاء، بشكل غير متوقع، واكتشف أن حساب الأجزاء العشرية كان يدرس هناك، في حين أنه، وفقا للمنهج، لا يسمح بتدريس سوى القواعد الأربع للحساب»[50].

في نفس الوقت الذي كان فيه بليخانوف ومعاونوه يأسسون مجموعة تحرير العمل الروسية في الخارج، كانت أول حلقة اشتراكية ديمقراطية حقيقية (أي ماركسية) قد ظهرت في سان بيترسبورغ، شكلها طالب بلغاري شاب، يدعى ديميتر بلاغويف (1856 – 1924)، الزعيم المستقبلي للحزب الشيوعي البلغاري. في عام 1884، اتخذت جماعته اسم “حزب الاشتراكيين الديمقراطيين الروس”، بل وبدأت بنشر جريدة تدعى رابوتشي (العمال). لكن المجموعة لم تستمر طويلا حيث حطمتها الشرطة. لكن السيرورة آنذاك كانت قد بلغت مرحلة متقدمة جدا بحيث لم يعد في إمكان إجراءات الشرطة أن توقفها. في العام التالي تم تشكيل مجموعة اشتراكية ديمقراطية أخرى في العاصمة، بروابط أوثق، هذه المرة، مع الطبقة العاملة. ضمت مجموعة ب. ف. توشيسكي عمالا متدربين وحرفيين وأطلقت على نفسها “أخوية حرفيي سان بيترسبورغ”.

أبعد من ذلك في منطقة الفولغا بروسيا الوسطى، في قازان، نظم نيكولاي فيدوسييف (1871-1898) مجموعة من الطلاب، كان من بين أعضائها طالب شاب يدعى فلاديمير أوليانوف، والذي صار يعرف فيما بعد باسم لينين. كانت البذور الأولى قد زرعت، وكان الأعضاء الأوائل قد بدأوا يلتحقون، وإن بأعداد صغيرة، في قازان ونيجني نوفغورود وسمارة وساراتوف وروستوف أون دون، وبلدات أخرى في المنطقة. تفككت هذه المجموعة عندما ألقي القبض على فيدوسييف في صيف عام 1889. وبعد سنوات عديدة، في دجنبر عام 1922، كان على لينين كتابة سيرة موجزة عن فيدوسييف للجنة تاريخ الحزب حيث أشاد بحرارة «بذلك الثوري الموهوب بشكل استثنائي والمخلص بشكل استثنائي»[51].

لقد ثابر الدعاة الماركسيون بعناد في مهمتهم، بينما كانوا يعملون ضد عوائق هائلة وفي ظل صعوبات لا تطاق ومعرضين دائما لأخطار شخصية. كثيرون منهم لم يعيشوا ليروا نتيجة عملهم. لم يقاتلوا في المعارك العظيمة النهائية، ولم يتمكنوا من رؤية الهياكل القديمة الممقوتة للمجتمع وهي تسقط. كانت مهمتهم هي أصعب المهمات على الإطلاق: مهمة البداية الشاقة؛ مهمة بناء الحركة من لا شيء؛ مهمة كسب المناضلين والمناضلات بصبر واحدا بعد الآخر؛ مهمة الشرح والجدل والإقناع؛ والقيام بآلاف المهام اليومية الروتينية المملة لبناء المنظمة، والتي تمر دون أن يلاحظها المؤرخون، لكن التي تقع في قلب المشروع التاريخي العظيم. وعلى الرغم من كل الصعوبات، بدأ العمل البطيء الدؤوب الذي أنجزه هؤلاء الماركسيون يؤتي ثماره الآن. بدأت الجماعات الماركسية في الظهور في جميع أنحاء روسيا. وفي تقليد لمجموعة تحرير العمل، أطلقوا على أنفسهم رابطات النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة. وفي نفس الوقت كانت حركة العمال قد بدأت تأخذ طابعا جماهيريا. ثم، ومثل صاعقة من سماء صافية، حدث شيء حول الوضع بشكل كامل.

في عام 1891 وعام 1892، اجتاحت مجاعة رهيبة البلاد، مما تسبب في موت أعداد هائلة من الناس في القرى وارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية. أودت المجاعة والكوليرا والتيفوس بأرواح 40 مليون نسمة، وأبيدت قرى بأكملها، وخاصة في منطقة الفولغا. أغرق الفلاحون الجوعى المدن، وهم على استعداد لقبول العمل بأي ثمن. هذا الوضع، إلى جانب الانتعاش الاقتصادي، الذي وللمفارقة تزامن مع المجاعة، أنتج موجة من الإضرابات، خاصة في وسط روسيا وغربها، حيث مراكز صناعة النسيج. ورافقت تلك الإضرابات اشتباكات مع الشرطة والقوزاق، ولا سيما في إضراب عمال النسيج البولنديين في لودز عام 1892.

أدت المجاعة إلى فضح إفلاس النظام الأوتوقراطي وفساد وعدم كفاءة البيروقراطية. وكان لمصير ملايين الجوعى تأثير عميق على الشباب. اندلعت الحركة الطلابية من جديد في موسكو وقازان. وكان للجو الكفاحي العام في المجتمع تأثير على الليبراليين أيضا. والزيمستفوات، التي كانت قد أخضعت من طرف نظام ألكسندر الثالث الرجعي، عادت إلى الحياة مع المجاعة. نظم الليبراليون، المستندون على الزيمستفوات، حملات الإغاثة من المجاعة في جميع أنحاء روسيا. ليبراليو الزيمستفو، والذين كان الكثير منهم من بقايا حركة “التوجه نحو الشعب” لسنوات السبعينيات، كانوا يخففون وخز ضمائرهم من خلال إنشاء مطابخ الحساء. لقد بذلوا قصارى جهدهم لإعطاء النضال ضد المجاعة طابعا مسالما غير مسيس، وذلك في انسجام مع سياستهم العامة القائمة على “الإنجازات الصغيرة”. لكن الهياج الاجتماعي والسياسي الذي أثارته المجاعة ورد الفعل الفوضوي للإدارة القيصرية عليها، أدى إلى إثارة المثقفين، وتوفير العديد من المنخرطين الجدد لصفوف الماركسيين، الذين كانوا منخرطين في معركة شرسة ضد ممثلي التيار النارودني الليبرالي. وتنعكس مرارة الصراع في حكاية ذكرتها كروبسكايا عن واحدة من تدخلات لينين الأولى، بعد وقت قصير من وصوله إلى سان بيترسبورغ:

«كإجراء أمني تم تنظيم الاجتماع تحت ستار حفلة لأكل الفطائر (…) وكان السؤال المطروح هو ما الطريق الذي ينبغي علينا أن نتبع. وبدا أننا لم نكن متفقين حول الإجابة. قال أحدهم إن العمل في لجنة محاربة الأمية كان ذا أهمية كبيرة. ضحك فلاديمير إيليتش، وبدت ضحكته قاسية إلى حد ما (لم أسمعه أبدا يضحك بهذه الطريقة مرة أخرى). وقال: “حسنا، إذا كان شخص ما يريد أن ينقذ البلد من خلال العمل في لجنة محاربة الأمية، فلندعه يمضي قدما”»[52].

بليخانوف الذي كان يراقب الوضع بعناية من بعيد، فهم على الفور أن تغييرا جوهريا كان يجري، مما يتطلب تحولا في الأساليب المستخدمة حتى الآن من قبل الماركسيين الروس. فضحت المجاعة إفلاس الحكم المطلق إلى درجة لم يسبق لها مثيل. وبدأت فكرة وجود مجلس نيابي، زيمسكي سوبور، تكسب التعاطف بين صفوف المثقفين الليبراليين. انتهز بليخانوف الفرصة بسرعة. وفي كراسه “خراب عموم روسيا”، الذي نشر في العدد الرابع لجريدة سوتسيال ديموقراط (Sotsial Demokrat)، أوضح بليخانوف أن أسباب المجاعة لم تكن طبيعية، بل اجتماعية. وانطلاقا من حالة الفوضى الناجمة عن فساد وعدم كفاءة السلطات القيصرية، أوضح الحاجة إلى تنظيم الدعاية والتحريض على نطاق واسع، وربط المطالب الملموسة للجماهير بالهدف المركزي الذي هو الإطاحة بالحكم المطلق.

وبطبيعة الحال، صار لشعار زيمسكي سوبور في أيدي الليبراليين طابع إصلاحي تماما، وبالتالي طوباوي. لكن بليخانوف، الذي عبر عن غريزة ثورية حقيقية، أعطى لذلك المطلب مضمونا نضاليا كفاحيا، كوسيلة لتعبئة الجماهير وكسب أفضل قطاعات المثقفين الديمقراطيين لفكرة خوض صراع مفتوح ضد النظام القيصري. وكتب:

«يجب على كل هؤلاء الروس النزهاء، الذين لا ينتمون إلى عالم صناع المال والكولاك والبيروقراطيين الروس، أن يبدأوا في وقت واحد في التحريض من أجل الزيمسكي سوبور»[53].

شكل مقال بليخانوف أول محاولة ملموسة للتعامل مع مسألة كيفية ربط الحركة العمالية بحركة الطبقات المضطهَدة الأخرى ضد العدو المشترك، أي النظام القيصري. في ظل ظروف الاستعباد القيصري، كانت التحالفات المؤقتة والعرضية مع العناصر الأكثر راديكالية من بين البرجوازية الصغيرة، أو حتى الليبراليين البرجوازيين، أمرا لا مفر منه. لكن هذه الاتفاقات، رغم ذلك، لا تفترض مطلقا وجود أي اتفاق برنامجي. بل على العكس من ذلك، كان الشرط المسبق لها على وجه التحديد هو أن يسير كل حزب تحت رايته الخاصة: “نسير متفرقين ونضرب معا”، وفي الوقت الذي كان الماركسيون يدافعون فيه عن الليبراليين والديمقراطيين البرجوازيين الصغار ضد الاضطهاد القيصري، وكانوا يتوصلون معهم أحيانا إلى اتفاقات عرضية حول مسائل عملية مثل نقل الأدبيات غير القانونية [إلى داخل روسيا]، والدفاع عن الرفاق المعتقلين، وما إلى ذلك…، كانوا [الماركسيون] يسلطون عليهم دائما انتقادات صارمة ومتواصلة بسبب تذبذبهم والتباسهم. كان الهدف من هذه السياسة هو الاستفادة من كل فرصة لدفع الحركة إلى الأمام وفي نفس الوقت تعزيز موقف الماركسية ووجهة النظر الطبقية المستقلة للبروليتاريا، بنفس الطريقة التي يستخدم بها متسلق الجبال بمهارة كل شق وكل نتوء في الصخر لرفع نفسه إلى القمة.

كان التوجه الرئيسي لحجة بليخانوف هو أن “الخراب الاقتصادي الشامل لبلادنا لا يمكن تفاديه إلا عن طريق التحرر السياسي التام”. لقد طرحت المشاكل المروعة للجماهير بشكل مباشرة مسألة النضال الثوري ضد القيصرية، والذي سوف تلعب فيه الطبقة العاملة دورا رئيسيا. في حين لم يكن أي أحد، في تلك المرحلة، يتحدث عن إمكانية حدوث الثورة الاشتراكية في روسيا، كان الاستخدام الصحيح للمطالب الديمقراطية الثورية، مثل عقد مجلس زيمسكي سوبور، يلعب بلا شك دورا تحريضيا هاما في حشد القوى الثورية حول البرنامج الماركسي. ليست لهذه السياسة أية علاقة مطلقا مع سياسات المناشفة والستالينيين الذين حاولوا، تحت ستار “توحيد جميع القوى التقدمية”، إخضاع الحركة العمالية لما يسمونها بالبرجوازية التقدمية. لقد وجه بليخانوف، ولينين على وجه الخصوص، انتقادا صارما لفكرة “الجبهة الشعبية” التي كان النارودنيون يدافعون عنها حتى في ذلك الوقت. وقد رد بليخانوف، قبل أن يصبح منشفيا، وعندما كان ما يزال يدافع عن أفكار الماركسية الثورية، على أولئك الذين اتهموه بإخافة الليبراليين بالعبارات التالية: «على أي حال، نحن نعتبر أن أكثر أنواع “الخوف” ضررا هو إخافة الاشتراكيين بشبح إخافة الليبراليين»[54].

من الدعاية إلى التحريض

فاجأت السياسة الجديدة، التي أكدت على ضرورة التحريض الثوري الجماهيري، الكثيرين. ولم يتأخر الاقتصاديون المستقبليون، من قبيل بوريس كريشيفسكي، في انتقاد فرقة تحرير العمل بسبب “نزعتها الدستورية” المزعومة، حيث لم يفهموا ضرورة رفع الشعارات الديمقراطية جنبا إلى جنب مع المطالب الطبقية الأولية للبروليتاريا. وفي الوقت نفسه، فإن العديد من المناضلين القدامى، حتى في روسيا، كانوا مترددين في الاعتراف بتغير الوضع. العادات القديمة لحلقات الدعاية الصغيرة رفضت أن تختفي بسهولة. وفي كثير من الحالات، لم يتحقق الانتقال إلى التحريض الجماهيري إلا بعد جدالات حادة وانقسامات. في مقالته “حول: مهام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي خلال المجاعة في روسيا (1892)”، قدم بليخانوف التعريف الماركسي الكلاسيكي للفرق بين الدعاية والتحريض: «يمكن للعصبة أن تكتفي بالدعاية بالمعنى الضيق للكلمة، لكن الحزب السياسي لا يمكنه ذلك أبدا… يقدم الداعية العديد من الأفكار إلى شخص واحد أو عدد قليل من الناس… لكن التاريخ تصنعه الجماهير… وبفضل التحريض يصقل ويتقوى الارتباط الضروري بين “الأبطال” وبين “الحشود”، بين “الجماهير” وبين “قادتها”».

شدد بليخانوف على ضرورة قيام الماركسيين بالانغراس بين أوسع فئات الجماهير بواسطة شعارات التحريض، بدءا بالمطالب الاقتصادية الأكثر إلحاحا، مثل يوم العمل من ثماني ساعات: «وهكذا سوف يقتنع جميع العمال – حتى أكثرهم تخلفا- بوضوح بأن تطبيق على الأقل بعض التدابير الاشتراكية هو أمر مهم للطبقة العاملة… إن مثل هذه الإصلاحات الاقتصادية، مثل تقصير يوم العمل، جيدة وإن حققت فوائد مباشرة فقط للعمال»[55].

وهذا ما يفند كذبة الإصلاحيين المعارضين للماركسية الذين يزعمون أن الماركسيين “ليسو مهتمين بالإصلاحات”. على العكس من ذلك، لقد كان الماركسيون على مر التاريخ في طليعة النضال من أجل تحسين أوضاع العمال، يناضلون من أجل أجور أعلى وظروف عمل أفضل وساعات أقصر ومن أجل الحقوق الديمقراطية. لا يوجد الفرق بين الماركسية والإصلاحية في “القبول” أو عدم القبول بالإصلاحات (يكفيك أن تطرح المسألة بهذه الطريقة لكي يظهر لك أنه ادعاء سخيف). الموقف الماركسي هو أن الإصلاحات الجدية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تعبئة قوة الطبقة العاملة في النضال ضد الرأسماليين ودولتهم، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن السبيل الوحيد لترسيخ المكاسب التي حققها العمال وضمان كل حاجياتهم هو تحطيم سلطة رأس المال وإنجاز التغيير الاشتراكي للمجتمع، وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون النضال اليومي من أجل الإصلاحات في ظل الرأسمالية، والذي يساعد على تنظيم وتدريب وتثقيف الطبقة العاملة، وتحضير الشروط للقضاء النهائي على أعدائها.

كان تطور الرأسمالية الروسية نفسها هو ما خلق الظروف للانتقال إلى العمل التحريضي الشامل. فخلال عقد التسعينيات واصل منحنى حركة الإضرابات في التصاعد، وقد وقفت سان بيترسبورغ على رأس الحركة. فهناك كانت أقوى كتائب الطبقة العاملة، أي: عمال الصلب، والذين كان 80% منهم يتركزون في مصانع كبيرة، مثل مصنع بوتيلوف. كانت سان بيترسبورغ هي المكان الذي تنمو فيه الطبقة العاملة بأسرع وتيرة. فما بين عام 1881 وعام 1900، نمت الطبقة العاملة في العاصمة بنسبة%82، بينما نمت في موسكو بنسبة 51% في نفس الفترة. وكانت نسبة عالية نسبيا من البروليتاريين في بيترسبورغ يعرفون القراءة والكتابة: 74%، مقابل 60% لبقية روسيا.

كانت ساكنة جديدة وشابة. في عام 1900، كان أكثر من ثلثي سكان سان بيترسبورغ قد ولدوا خارج المدينة، أما بالنسبة للعمال فقد جاء أكثر من 80% منهم من خارجها. لقد جاءوا من جميع أنحاء الإمبراطورية، فلاحون جوعى ومفلسون، يبحثون بيأس عن عمل. أولئك الذين كانوا محظوظين دخلوا مصانع النسيج والمعادن الكبيرة. وكان القطاع العمالي الحاسم في سان بيترسبورغ هو صناعة الصلب، بينما ساد في موسكو قطاع صناعة النسيج. كان أكثر من نصف عمال سان بيترسبورغ يشتغلون في مصانع كبرى تضم 500 عامل أو أكثر، في حين اشتغل ما يقرب من خمسي العمال في مصانع عملاقة تضم أكثر من 1.000 عامل. بينما الذين واللائي لم يحالفهم/هن الحظ في إيجاد عمل، فقد صاروا متسولين أو باعة متجولين أو عاهرات.

كان يوم العمل طويلا: ما بين 10 و14 ساعة، وكانت ظروف العمل مروعة وشروط السلامة منعدمة. في كثير من الأحيان كان العمال مجبرين على العيش في أكواخ مكتظة، حيث زاد من سوء ظروف السكن الهواء الملوث والمياه القذرة وضعف خدمات الصرف الصحي، وهو ما أعطى لسان بيترسبورغ سمعتها بكونها العاصمة الأسوء من حيث الشروط الصحية في أوروبا. كانت أوضاع عمال النسيج وحشية بشكل خاص، حيث العمل لساعات طويلة جدا والقيام بأعمال رتيبة وسط ضجيج يصم الآذان، في ظروف غير صحية، وحرارة ورطوبة عاليتين. تظهر انعكاسات هذا الوضع على صحة العمال من خلال تقرير لمفتش حكومي: «… يمكن التأكد من ذلك بالعين المجردة من خلال المظهر الخارجي [للعمال]. إنهم يعانون من الهزال ومنهكين وشاحبين وصدورهم غارقة: إنهم يعطون الانطباع بكونهم مرضى خرجوا للتو من المستشفى»[56].

كان حوالي نصف عمال النسيج من النساء. إلا أن هذه الشريحة الأكثر استغلالا بين صفوف الطبقة العاملة، والتي كانت تتشكل أساسا من فلاحات وصلن حديثا إلى المدينة وعاملات بدون مؤهلات، أعطت الدليل على كفاحيتها. وقد ظهرت الإمكانيات الثورية لعمال النسيج بالفعل في إضرابات عامي 1878 و1879، عندما تمت أول محاولة لربط الإضرابات بالحركة الثورية. لقد أصابت تلك الإضرابات السلطات بالخوف وأجبرتها على تقديم تنازلات. قانون الشغل الأول، الذي صدر في 01 يونيو 1882، نص على منع تشغيل الأطفال دون سن 12 سنة في المصانع، وتحديد يوم عمل الأطفال، الذين يبلغون ما بين 12 و15 سنة، في ما بين ثمانية و15 ساعة. وكان هناك قانون آخر عام 1885 حظر العمل ليلا في بعض فروع الصناعة، الخ.

لم يتمكن العمال من التمتع بثمار انتصارهم. لقد كانت الإضرابات انعكاسا لطفرة اقتصادية، تتعلق بالحرب الروسية التركية، لكن خلال الركود الذي تلى ذلك، أخذ الرأسماليون ثأرهم. خلال عقد الثمانينيات تسبب ركود شديد في موجة ضخمة من تسريح العمال والبطالة، خاصة في قطاع صناعة الصلب. تم رمي الآلاف من العمال وأسرهم إلى براثن الفقر المدقع. أما أولئك الذين بقوا في المصانع فقد كانوا مضطرين لإحناء رؤوسهم وصر أسنانهم غيظا بينما أصحاب المصانع يخفضون الأجور بلا رحمة. ومع بداية عقد التسعينات، بدأ الاقتصاد يتعافى مرة أخرى. وصار التغير ملحوظا بشكل خاص عام 1893 وما بعده. انطلاق المشاريع الكبرى لبناء السكك الحديدية حفز النمو في صناعة الصلب في سان بيترسبورغ وجنوب روسيا. وكانت حقول النفط والفحم مزدهرة. وعلى الفور بدأت نسائم جديدة للصراع الطبقي في الهبوب. فتبلورت فكرة التحريض على الفور في مخيلة الشباب داخل روسيا. وبالفعل كان العديد من الشباب قد بدأوا يفقدون صبرهم من قيود العمل في حلقات الدعاية. وقد انطلقت الشرارة من عند الاشتراكيين الديمقراطيين في المناطق الغربية من ليتوانيا وبولندا، حيث أظهر إضراب لودز ومظاهرة عيد العمال 1892 الطبيعة المتفجرة للوضع.

كانت روسيا القيصرية، على حد تعبير لينين الشهير: “سجنا حقيقيا للشعوب”. وقد شهد الاضطهاد القومي ارتفاعا في حدته في فترة الردة الرجعية الشاملة التي أعقبت اغتيال ألكسندر الثاني. وتحت إشراف بوبيدونوستسيف القمعي عمل كلبا حراسة النظام الأوتوقراطي، أي: الشرطة والكنيسة الأرثوذكسية، على سحق كل ما تشتم فيه رائحة المعارضة، من المفكرين المستقلين، مثل ليو تولستوي، إلى الكاثوليكية البولندية واللوثريين البلطيق واليهود والمسلمين. الزواج الذي يتم في الكنائس الكاثوليكية لم يكن معترفا به من قبل الحكومة الروسية. وتحت حكم نيكولا الثاني، صادرت الدولة ممتلكات كنيسة المسيحيين الأرمن. وتم إغلاق أماكن العبادة الخاصة بالكالميك والبوريات[57]. ورافقت عملية الترويس[58] القسرية ما يشبه عملية التحويل الإلزامي إلى الإيمان الأرثوذكسي.

تطورت الصناعة في وقت مبكر جدا في الجهات الغربية للإمبراطورية الروسية، في ليتوانيا ومملكة بولندا. هذه المناطق التي كانت أكثر تصنيعا من الشرق، وأكثر ثقافة وكانت تعرف وجود تأثير ألماني قوي، شهدت تغلغلا سريعا للحركة الاشتراكية الديمقراطية. لكن الحركة العمالية هناك كانت معقدة جدا بسبب المسألة القومية. كان العمال والفلاحون في بولندا والبلطيق المضطهدون قوميا من قبل روسيا القيصرية، يتحملون نيرا مزدوجا. خلق تقطيع أوصال بولندا، التي قسمت بين روسيا والامبراطورية النمساوية المجرية وبروسيا، شعورا مريرا بالاضطهاد القومي، والذي كانت لآثاره عواقب وخيمة على التطور المستقبلي للحركة العمالية. وقد تركت ذكريات هزيمة 1863، والقمع المروع الذي أعقبها، كراهية هائلة لروسيا بين البولنديين.

السلطات الروسية، التي كانت لها حساسية خاصة تجاه الاضطرابات في المحافظات البولندية، عملت على سحق المجموعات الاشتراكية الديمقراطية البولندية الأولى بحملة شرسة من الاعتقالات والتعذيب وأحكام طويلة بالسجن مع الأعمال الشاقة. لكن الحركة، مثلها مثل وحش متعدد الرؤوس، كانت تعوض كل رأس يقطع بخلق رأسين جديدين على الفور. وسرعان ما تحولت منطقة البلطيق إلى قاعدة للتحريض والدعاية الماركسيين، وشكلت معبرا لدخول الأدبيات غير القانونية والمراسلات بين فرقة تحرير العمل في المنفى والمجموعات الماركسية السرية في الداخل. قال برنار باريز في تعليقه على الوضع في بولندا:

«كانت جامعة وارسو مروسنة [فرض الطابع الروسي -م-] بشكل كامل، وكانت تدرس للبولنديين أدبهم باللغة الروسية؛ في عام 1885 فرضت اللغة الروسية في المدارس الابتدائية كلغة للتدريس؛ وأرسل عمال السكك الحديدية البولنديون للخدمة في أجزاء أخرى من الإمبراطورية؛ وفي عام 1885 تم منع البولنديين من شراء الأراضي في ليتوانيا أو بولهينيا، حيث كانوا يشكلون أغلبية الطبقة البورجوازية»[59].

حركة العمال اليهود

من المفارقات أن النظام القيصري كان هو من شجع التنمية الصناعية في بولندا ليجعل منها ما يشبه “نافذة متجر”، وفي محاولة يائسة منه كذلك لدرء تطور الحركة القومية. لكن تطور الصناعة بالذات هو ما أدى إلى تقويض النظام وخلق موجة من الاستياء في البلدات والمدن بالمناطق الحدودية الغربية لروسيا. كانت ظروف العمل مروعة والأجور هزيلة، بينما كانت الأرباح تتراوح عادة ما بين 40% و50%، ولم يكن من الغريب تحقيق 100% من الأرباح. خلق استغلال العمال الوحشي هذا ظروفا مواتية لانتشار الدعاية الاشتراكية. وفي خضم الردة الرجعية القاتمة، تأسس الحزب المعروف باسم البروليتاريا، “باكورة الحركة الاشتراكية الحديثة في بولندا”[60]، على يد الطالب لودفيغ فارجينسكي. شكلت مجموعة الطلاب الاشتراكيين التي أسسها فارجينسكي حلقات للعمال وأنوية نقابات عمالية جنينية. وفي عام 1882، التأمت المجموعات المختلفة لتشكيل منظمة البروليتاريا، والتي قادت سلسلة من الإضرابات، بلغت ذروتها في الإضراب الجماهيري في وارسو، والذي تعرض لقمع شرس من قبل قوات القمع. حكم على العديد من قادة منظمة البروليتاريا بفترات طويلة من السجن. وشنق أربعة منهم. لم يكن حظ فارجينسكي أفضل، إذ حكم عليه بالسجن لمدة 16 عاما مع الأعمال الشاقة، في قلعة شلوسيلبورغ الشهيرة بالقرب من سان بيترسبورغ، حيث مات ميتة بطيئة.

بعد هذه الاعتقالات، تحولت منظمة البروليتاريا عمليا إلى أشلاء. وفي الوقت الذي انضمت فيه الشابة روزا لوكسمبورغ إلى الحركة، لم يكن قد بقي منها سوى بعض الأطلال فقط. استخدم ليو يوغيش، ابن عائلة يهودية ثرية، ثروته الشخصية الكبيرة لتمويل بناء مجموعة اشتراكية جديدة في فيلنا في عام 1885. لعب الاشتراكيون الديمقراطيون بفيلنا لاحقا دورا رائدا، وطوروا أسلوب التحريض الجماهيري بين العمال، والذي اتبعه الماركسيون لاحقا في جميع أنحاء روسيا. استفادت قوات البروليتاريا البولندية الفتية من دفعة قوية من طرف قوات الطبقة العاملة اليهودية التي كانت قد استيقظت للنضال حديثا.

عاش غالبية اليهود في بولندا والمحافظات الغربية، التي كانت قد أعلنت ابتداء من عام 1881 بكونها المكان الوحيد الذي يسمح لليهود بالعيش فيه. في عام 1886 طرد اليهود بشكل جماعي من جميع الوظائف الإدارية واستبعدوا من معظم المهن. لم يسمح سوى لـ 10% من اليهود فقط بالالتحاق بالجامعة (05% في موسكو وسان بيترسبورغ). وابتداء من عام 1887، تم تطبيق نفس القاعدة على المدارس الثانوية. وفي عام 1888، تم تسجيل كل اليهود الذين يستلمون منحة دراسية حكومية كمسيحيين أرثوذكس. كان الأطفال يُعمَّدون ضد رغبات آبائهم. اليهود الذين صاروا أرثوذكس كان يفرض عليهم الطلاق دون أي طلب منهم. وفرضت ضرائب خاصة على المعابد ولحوم الكوشير. وفي محاولة منها لتقسيم وإرباك العمال، نظمت السلطات مذابح دموية ضد اليهود؛ تم نهب المنازل وقتل الرجال والنساء والأطفال وتشويههم من قبل غوغاء من حثالة البروليتاريا بالتواطؤ مع الشرطة.

كان السكان اليهود في هذه المناطق، الذين كان أغلبهم من الحرفيين والتجار الصغار، يعيشون بشكل دائم على حافة الهاوية. وقد وفرت الفئة الأكثر اضطهادا في المجتمع، أي العمال والحرفيون اليهود، أرضا خصبة بطبيعة الحال لانتشار الأفكار الثورية. ليس من قبيل المصادفة أن الثوريين اليهود وفروا للحركة الماركسية عددا من القادة أكبر من نسبة الحجم الذي كانوا يمثلونه داخل المجتمع. مدينة فيلنا، بتركيزها الكبير من العمال والحرفيين اليهود، كانت واحدة من أولى معاقل الحركة الاشتراكية الديمقراطية في الإمبراطورية الروسية. ابتداء من عام 1881 وصولا إلى ثورة أكتوبر، كان اندلاع تلك الأعمال الوحشية الهمجية العنصرية تهديدا دائما معلقا فوق رؤوس الشعب اليهودي. حرض مرتكبوا المذابح الفئات المتخلفة من بين الفلاحين البولنديين والروس ضد اليهود، مستغلين في ذلك النعرات الدينية (غالبا ما كان يتم اختيار مناسبة عيد الفصح لتنظيم تلك المذابح)، وكراهية الصورة النمطية للتاجر ومقرض المال اليهودي. لكن الأغلبية الساحقة من اليهود كانوا عمالا وحرفيين فقراء. في عام 1888، ذكرت لجنة حكومية أن 90% من اليهود هم: «كتلة تعيش على حد الكفاف، وسط الفقر وأسوء الظروف الصحية. وحتى البروليتاريا نفسها تشكل أحيانا هدفا للانتفاضات الشعبية الصاخبة [أي المذابح]…»[61].

لحركة العمال اليهود في غرب روسيا وبولندا وليتوانيا تاريخ طويل. لقد خلقت موجة الإضرابات التي اجتاحت هذه المناطق ابتداء من عام 1892 غليانا كبيرا بين جميع القوميات المضطهَدة، وخاصة اليهود، الذين عانوا من الاضطهاد القومي الأكثر تطرفا. بدأت الحياة الثقافية تظهر على شكل نهضة قومية. والمثقفون اليهود الذين تحرروا من ثقل ثقافة متحجرة استمرت لـ 2.000 سنة، صاروا منفتحين على أكثر الأفكار راديكالية وثورية. وبدلا من نزعة التفرد والانعزالية القديمة، سعوا بشغف للاتصال مع الثقافات الأخرى، ولا سيما الثقافة الروسية. ومنذ عام 1885، ساهم قسم من طلاب اليشيفا (Yesivah)[62] الفقراء، الذين كانوا يتعلمون ليصيروا حاخامات، في تأسيس المنظمة النارودنية الثورية في فيلنا. ثم صار العمال اليهود المنخرطون في النضال يتعلمون بشغف اللغة الروسية من أجل قراءة الكتب واكتشاف الأفكار الجديدة بأنفسهم.

قام العمال اليهود بتأسيس جمعيات صداقة (كاسي Kassy)، والتي كانت تجمع الأموال من أجل المنفعة المتبادلة منذ وقت طويل – ربما منذ طرد اليهود من الاتحادات المهنية في ألمانيا وبولندا-. تعود طريقة تنظيم هياكلها إلى اتحادات القرون الوسطى نفسها، أو الاتحادات الحرفية البريطانية الأولى، بطقوسها وعطلها السنوية والسرية الصارمة فيما يتعلق بجميع شؤونها. وكان الحرفيون والعمال المنظمون في كاسي محافظين في أفكارهم، ومعادون للأفكار الاشتراكية ومرتبطون عادة بالكنيس. لكن العبئ المزدوج الذي كان على العمال اليهود تحمله، حيث كانوا يعانون من الاضطهاد كعمال وكيهود، خلق ظروفا مواتية للغاية لانتشار الأفكار الثورية والاشتراكية بينهم. كتب أكيموف: «اجتاحت حركة عفوية أعماق المجتمع اليهودي، مثل رياح قوية، من خلال الفئات التي كانت تبدو جامدة وغير قادرة على فهم أية أفكار واعية أو توجيه نفسها بها»[63]. ولهذا السبب بالتحديد، لعب العمال والمثقفون الاشتراكيون اليهود دورا في الحركة الثورية الروسية أكبر بكثير من حجمهم العددي.

لم تكن الأموال التي يتم جمعها من قبل كاسي تستعمل فقط لتقديم الإعانات للمرضى وما شابه ذلك، بل أيضا لشراء نسخ من التوراة! لكن في ظل المناخ الجديد للصراع الطبقي، استخدمت أموال العمال على نحو متزايد لدعم نزاعات العمل. حدث أول إضراب موثق للعمال اليهود في فيلنا عام 1882، وكان إضرابا لعمال الغزل والنسيج، والذي لعبت فيه النساء دورا رئيسيا إلى حد كبير. كانت العناصر الأكثر نشاطا هي الحرفيون اليهود وصاغة المجوهرات وصناع الأقفال والخياطون والنجارون وعمال المطابع وصناع الأحذية. ومع مطلع عام 1895، كانت هناك 27 منظمة حرفية في فيلنا وحدها، تضم ما مجموعه 962 عضوا. «داخل الحركة العمالية اليهودية نفسها، كان الحرفيون هم من يشكلون الطليعة، وورائهم جاء عمال مصنع السجائر وأعواد الثقاب». هذه التركيبة الطبقية للحركة العمالية اليهودية، كانت بلا شك عاملا من عوامل الدور المحافظ الذي لعبته المنظمة اليهودية: البوند، في السنوات الأولى للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي.

كانت الفئات الأكثر تقدما داخل المجتمع اليهودي بعيدة عن التأثر بتلك النزعة القومية اليهودية التي دعا إليها الصهاينة في وقت لاحق. بل على العكس من ذلك، فقد رأت خلاص الشعب اليهودي في رفض النزعة التقليدية القديمة والدخول في صلب الحياة الثقافية والسياسية الروسية. كتب ناشط اشتراكي في تلك الفترة: «لقد كنا من دعاة التعايش، لم نكن حتى نتخيل حركة جماهيرية يهودية منفصلة. لقد رأينا أن مهمتنا هي إعداد الكوادر للحركة الثورية الروسية، وتكييف تلك الكوادر مع الثقافة الروسية»[64]. ارتدى اليهود الاشتراكيون الديمقراطيون اللباس الروسي وحملوا الكتب الروسية وتحدثوا الروسية قدر الإمكان.

داخل الحلقات الاشتراكية استيقظ جيل كامل من الشباب اليهودي على الحياة السياسية والثقافية. والشيء الأكثر إثارة للاعجاب هو شجاعة الفتيات اليهوديات الشابات ذوات الأصول العمالية، اللائي كن مصممات على المشاركة في الحركة، على الرغم من العداء التام الذي واجهنه من طرف الشيوخ. قالت إحدى المشاركات:

«أتذكرهن الآن، عاملات مصنع الصناديق وعاملات مصنع الصابون وعاملات مصنع السكر، عضوات الحلقة التي كنت أسيرها… شاحبات، هزيلات، بأعين حمراء، وعليهن علامات تعرضهن للضرب، ومنهكات بشكل رهيب. كن يجتمعن في وقت متأخر من المساء. وكنا نجلس حتى الساعة الواحدة صباحا في غرفة سيئة التهوية مع مصباح غاز صغير مشتعل. وفي كثير من الأحيان كان الأطفال الصغار ينامون في نفس الغرفة وكانت نساء المنزل منتبهات لخطر هجوم الشرطة. كانت الفتيات تستمعن إلى النقاش وتطرحن الأسئلة، ينسين تماما المخاطر، وينسين أن الوصول إلى منزلهن سيحتاج منهن ثلاثة أرباع الساعة، ملفوفات في معاطف بالية باردة ممزقة، عبر الوحل والثلوج الكثيفة؛ وأنه عليهن أن يطرقن الباب ويتحملن سيلا من الشتائم واللعنات من طرف آبائهن؛ وأنه يمكن ألا يجدن في المنزل ولو قطعة من الخبز وسيكون عليهن أن يذهبن إلى النوم جائعات… ثم ينهضن بعد بضع ساعات ليسرعن إلى العمل. رغم كل ذلك كن يستمعن بشغف إلى العروض حول التاريخ الثقافي، وفائض القيمة… والأجور، والحياة في بلدان أخرى… كم كانت عيونهن تضيء بالفرحة عندما يقدم مسير/ة الحلقة عددا جديدا من جريدة ييديشير أربايتر (Yidisher Arbayter)[65] وأربايتر شتيم (Arbayter Shtimme)[66]، أو حتى منشورا جديدا! كم من المآسي كانت تلك العاملات الشابات يعانينها في منازلهن عندما يتم اكتشاف أنهن يخالطن مجموعات الأخوديسنيكرز (Akhudusnikers)، “الإخوة والأخوات”، وأنهن يقرأن الكتب الممنوعة؛ كم من الشتائم واللكمات والدموع! إلا أن كل ذلك لم يكن يجدي نفعا. كانت الأمهات تشتكين الوضع لبعضهن البعض قائلات: “ذلك يجذبهن مثل المغناطيس”».

هناك، في ليتوانيا وروسيا البيضاء، كان العمال اليهود والمثقفون اليهود المتشبعون كليا بالثقافة الروسية ينظمون نوعا من التحريض أوسع نطاقا بكثير من نشاط الدعاية المحدود الذي كان يتم في بقية روسيا. كانوا يصدرون منشورات وكتبا بلغة جماهير العمال اليهود – اليديشية (لغة اليهود الذين يعيشون في ألمانيا وبولونيا والجزء الغربي من روسيا، تقوم أساسا على اللغة الألمانية، رغم أنها تتضمن العديد من العبارات العبرية) –[67] والتي كانت تتطرق للمطالب الملحة للجماهير. في ذلك الوقت، جاء طالب يبلغ من العمر 19 عاما، يدعى يوري مارتوف، كان قد طرد من سان بيترسبورغ بسبب نشاطه الثوري، ووصل إلى فيلنا، التي كانت بالفعل مركزا مزدهرا للحركة الاشتراكية الديمقراطية. يتذكر مارتوف كيف أثيرت مسألة التحريض من قبل العمال أنفسهم، حيث أقنعوا الماركسيين بأن يتجاوزوا حدود العمل داخل الحلقات، وكتب قائلا:

«في عملي، دخلت في نقاشين مفصلين حول أهداف وأساليب الحركة الاشتراكية، لكن الحياة الحقيقية استمرت في التدخل… فإما أن أعضاء الحلقة يثيرون هم أنفسهم مسألة بعض الأحداث التي وقعت في مصنعهم… أو أن يظهر شخص ما من معمل آخر ويكون علينا قضاء الوقت في مناقشة الأوضاع هناك»[68].

نجاح مجموعة فيلنا شجع أعضائها على نشر كتيب بعنوان: “حول التحريض”، كتبه أركادي كريمر ومارتوف، وتسبب في ضجة في ذلك الوقت، وأصبح يعرف باسم “برنامج فيلنا”. الفكرة المركزية لتلك الوثيقة، على الرغم من آثار “النزعة العفوية” المتضمنة فيها، هي أن مهمة تحرر الطبقة العاملة يجب أن تكون من صنع العمال أنفسهم، و قد أثارت الكثير من الاهتمام في الفترة ما بين 1893-1897، عندما كانت تجري نقاشات حامية في كل مكان حول الانتقال إلى التحريض. لقد مثلت أساسا رد فعل صحي ضد عقلية “الحلقات الصغرى” الضيقة، ورغبة في إقامة اتصالات مع الجماهير. وجه الكتيب الجديد تحديا جريئا للظروف القائمة، إذ أعلن:

«إن الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية تسير في الطريق الخطأ. لقد حصرت نفسها في حلقات مغلقة. ينبغي عليها الاستماع لنبض الحشود وقيادتها. يمكن للحركة الاشتراكية الديمقراطية ويجب عليها قيادة الجماهير العاملة، لأن نضال البروليتاريا يؤدي حتما إلى نفس الهدف ونفس المثل التي اختارها الاشتراكيون الديمقراطيون الثوريون بوعي»[69].

رابطة سان بيترسبورغ للنضال

في خريف عام 1893 كان الاشتراكيون الديمقراطيون في سان بيترسبورغ قد بدأوا بالكاد يتعافون من الضربة التي تلقوها بعد إلقاء القبض على زعيمهم، ميخائيل ايفانوفيتش بروسنييف. من الممكن التعرف على توجه المجموعة حتى ذلك الوقت في ما قاله بروسنييف نفسه:

«دورنا الرئيسي والجوهري [كان هو] تحويل المشاركين… في الحلقات العمالية إلى اشتراكيين ديمقراطيين متطورين بالكامل وواعين بالكامل، والذين يمكنهم، في نواح كثيرة، تعويض الدعاة المثقفين»[70].

ومنذ عام 1891، كانت المجموعة قادرة على حشد 100 شخص في جنازة الثوري العجوز ن. ف. شيلغونوف. وكانت لديها اتصالات في المصانع الكبيرة وجميع الأحياء العمالية الرئيسية. كان العمل قد بدأ على يد طلاب شباب، لكن تدريجيا بدأ التكوين الطبقي للمجموعة يخضع للتغيير. حمل الطلاب على كاهلهم المهمة الشاقة لخلق كوادر عمالية أو “أمثال بيبل الروس”[71]، كما كانوا يقولون. بعد موجة الاعتقالات التي أبعدت بروسنييف، وغيره من القادة عام 1892، تمت إعادة بناء المجموعة على يد س. أ. رادشينكو. وقد ضمنت المجموعة عددا من الطلاب بالمعهد التقني، والذين كان قدر بعضهم أن يلعبوا دورا كبيرا في تطور الحزب، بمن فيهم ناديا كروبسكايا، زوجة لينين في المستقبل ورفيقة حياته.

كانت الطريقة الأساسية لاشتغال المجموعة هي تنظيم حلقات دراسية للعمال في المصانع الرئيسية. وكان استقطاب العمال إلى الحلقة يتم من خلال العلاقات الفردية، بالطريقة المذكورة أعلاه من قبل كروبسكايا. كان هؤلاء العمال يطورون مستواهم النظري، ثم يصبحون هم أنفسهم منظمين لحلقات أخرى. وبهذه الطريقة تم إنشاء شبكة تتوسع باستمرار من الحلقات الدراسية العمالية. لينين، الذي كان قد وصل إلى سان بيترسبورغ في خريف عام 1893، شارك كمحاضر في تلك الحلقات تحت اسم مستعار هو: نيكولاي بتروفيتش. وقد وصفت كروبسكايا عمل لينين داخل الحلقة قائلة:

«كان فلاديمير إيليتش مهتما بأدق التفاصيل التي تصف ظروف عمل وعيش العمال. ومع أخذه للخصوصيات بعين الاعتبار، سعى إلى فهم ظروف حياة العامل ككل، حاول أن يجد ما يمكن للمرء أن يستخدمه من أجل الاقتراب بشكل أفضل من العامل بالدعاية الثورية. كان معظم المثقفين في تلك الأيام يفهمون العمال بشكل سيء. كان المثقف يأتي إلى الحلقة ويلقي على العمال نوعا من المحاضرات. ولفترة طويلة دارت ترجمة مخطوطة لكتاب إنجلز “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” بين الحلقات. كان فلاديمير إيليتش يقرأ مع العمال من كتاب رأس المال لماركس، ويشرحه لهم. بينما كان يخصص النصف الثاني من الحصة لطرح الأسئلة على العمال حول أوضاعهم وظروف عملهم. كان يوضح لهم كيف ترتبط حياتهم مع كامل بنية المجتمع، ويشرح لهم كيف يمكن تحويل النظام القائم. كان الجمع بين النظرية والممارسة هو ميزة عمل فلاديمير إيليتش داخل الحلقات. وتدريجيا، بدأ أعضاء آخرون في حلقتنا يستعملون أيضا هذا النهج»[72].

قامت تلك الحلقات بعمل هام في تجميع كوادر الطبقة العاملة الواحد بعد الآخر. لكنها خلقت أيضا بعض العادات المحافظة التي صارت لاحقا عقبة أمام تطور الحركة. اعترف الشاب مارتوف بشعوره بالإهانة من تعامل عامل ماركسي، عضو في مجموعة بروسنييف، معه حيث بدلا من دعوته للانضمام إلى المنظمة، قدم له كومة من الكتب عن التاريخ القديم وأصل الأنواع. كتب مارتوف:

«س… الذي ترعرع في الفترة السابقة من الركود الاجتماعي الكامل، لم يكن قادرا، على ما يبدو، على أن يتصور أية طريقة أخرى لتدريب ثوري ما عدا تكليفه، على مدى سنين طويلة، بامتلاك تصور نظري شامل عن العالم، يكون تتويجه هو القبول به في العمل الفعلي. بالنسبة لنا، نحن الذين كنا قد قرأنا بالفعل خطابات عمال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في فاتح ماي 1891، واهتزت مشاعرنا بمظاهر إفلاس النظام في مواجهة المجاعة، لم يكن من المقبول نفسيا بالنسبة لنا إخضاع أنفسنا لمثل هذه الفترة الطويلة من الانتظار»[73].

ترك “منعطف فيلنا” تأثيرا كبيرا على الحركة في روسيا، وكان محل نقاش ساخن في الحلقات. جلب مارتوف معه نسخة من الكراس إلى سان بيترسبورغ في خريف 1894. وفي مذكراتها عن لينين، كتبت كروبسكايا أنه:

«عندما ظهر كراس فيلنا حول التحريض في العام التالي، كانت الأرض معبدة بالفعل بالكامل للقيام بالتحريض من خلال المنشورات. كان المطلوب فقط هو البدء بالعمل. أصبحت طريقة التحريض، على أساس الحاجيات اليومية للعمال، متجذرة بعمق في عمل حزبنا. لم أفهم تماما كم هو مثمر هذا الأسلوب في العمل إلا بعد بضع سنوات عندما كنت أعيش كمهاجرة في فرنسا حيث لاحظت كيف أنه خلال الإضراب الهائل لعمال البريد في باريس، وقف الحزب الاشتراكي الفرنسي جانبا ولم يتدخل مطلقا في الإضراب. كان يقول إن تلك مهمة النقابات. كانوا يعتقدون أن عمل الحزب هو النضال السياسي فحسب. لم تكن لديهم أية فكرة عن ضرورة ربط النضال السياسي بالنضالات الاقتصادية والصناعية»[74].

في عام 1895، كانت مجموعة لينين مكونة من حوالي 10 إلى 16 عضوا، كانوا ينظمون بينهم العمل في ما بين 20 و30 حلقة دراسية عمالية، والتي كانت بدورها تضم ما بين 100 و150 عاملا[75]. كانت المجموعة ترتبط بالحلقات العمالية من خلال منظمي المنطقة. وبحلول نهاية العام كانت قد صارت تنشط عمليا في جميع المناطق العمالية. في شهر نوفمبر خطت المجموعة خطوة حاسمة عندما قامت مجموعة اشتراكية ديمقراطية أنشئت حديثا، كان من بين أعضائها مارتوف، بالاندماج مع “القدامى” لتشكيل رابطة سان بيترسبورغ للنضال من أجل تحرير العمل، وهو الاسم الذي اعتمد باتفاق مع مجموعة تحرير العمل لبليخانوف، وبناء على اقتراح من مارتوف على ما يبدو. تم تقسيم العمل داخل المجموعة: المالية والاتصال مع مجموعات المثقفين الثوريين وطباعة المنشورات، وما إلى ذلك. وقد حافظت المجموعة على الاتصال مع مطابع سرية تديرها مجموعة من النارودنيين بسان بيترسبورغ، الخ. وكان لينين ومارتوف هما قائدي المجموعة.

«حسنا، يا أخي، لا أستطيع التفكير ما الذي يحصل لهم في هذه الأيام، إذ صاروا فجأة يرسلون لنا هؤلاء السياسيين الموجيك! فيما سبق كانوا يبعثون لنا بأناس من الطبقة العليا والطلاب، أناس محترمون حقا. أما الآن فلا يأتي إلى هنا سوى أمثالك: مجرد موجيك عادي، مجرد عامل!»[76].

بهذه الكلمات استقبل أحد السجانين في معتقل تاغانسكايا المناضل م. ن. ليادوف، أحد قادة رابطة عمال موسكو في عام 1895. وبطريقته الخاصة، استوعب الحارس العجوز التغيير العميق الذي حدث في الحركة الثورية الروسية في تسعينيات القرن 19. كان النمو السريع نسبيا لرابطة بيترسبورغ يعكس تغييرا في الظروف الموضوعية. لقد قدم تصاعد حركة الإضرابات فرصا واسعة غير مسبوقة للتحريض من خلال المنشورات الشعبية. لاقى التحريض الجماهيري نجاحا فوريا ومكن القوات الماركسية الضعيفة من الاتصال مع فئات أوسع فأوسع من العمال. انخرط الشباب، ومعظمهم من الأعضاء الجدد مع فهم غير عميق بالنظرية الماركسية، بحماس في نشاط التحريض في المعامل، غالبا حول قضايا “خبزية”. وكان لهذا نتائج مذهلة، حيث حققوا نجاحا فوريا حتى بين الفئات الأكثر تخلفا وجهلا والأكثر اضطهادا داخل الطبقة العاملة.

خلال إضراب واحد فقط، وفقا لفيدور دان، وزعت الرابطة أكثر من 30 منشورا[77]. وتم التحريض عبر إجراء حوار مع العمال. كان مناضلو الرابطة ينصتون بانتباه لشكاوى العمال، ويكتبون الملاحظات حول مطالبهم ويجمعون التقارير عن النضالات في مختلف المصانع. ثم كانوا يعيدون هذه المعلومات إلى العمال في قالب تحريضي، إضافة إلى توجيهات تنظيمية وفضح مناورات الإدارة والسلطات، ونشر نداءات التضامن. هكذا أصبحت حركة إضرابات تسعينيات القرن 19 مدرسة تحضيرية عملاقة للنضال، ساهمت في تثقيف جيل كامل من العمال والماركسيين. وفي ظل غياب حركة عمالية شرعية منظمة، كانت المنشورات الصغيرة تحدث ضجة كبيرة. كان ظهور المنشور يخلق موجة من الحماس في أماكن العمل. وكان العمال كلما تمكنوا من مراوغة العين الساهرة للمشرف عليهم، يتجمعون في مجموعات صغيرة (كان المكان المفضل للاجتماع هو “النادي”، أي: مرحاض المصنع)، حيث تتم قراءة المنشور بصوت مرتفع أمام مجموعة من العمال لا يكفون عن إبداء استحسانهم بالقول: “أحسنت قولا” و“أنت محق تماما”. ويتذكر تاختاريف أن «رد فعل العمال في الغالب يكون هو قولهم: “إلى المدير! أرسلوها إلى المدير!”، وأنه بعد وقت قصير جدا تنتشر الشائعات حول المنشورات في جميع المصانع بسان بيترسبورغ. وسرعان ما لم يعد المثقفون محتاجين إلى البحث عن العمال، حيث أن العمال هم من بدأوا يبحثون بشوق عن “الطلاب” ويطلبون منهم المنشورات»[78].

نجاح هذا النهج الجديد يظهر في سيرة تروتسكي الذاتية، حيث يقول: «لقد وجدنا العمال مهتمين بالدعاية الثورية أكثر مما كنا نتخيل ولو في أحلامنا. الفعالية المذهلة لعملنا أصابتنا بما يشبه نشوة الخمر. كنا نعرف، من خلال الحكايات الثورية، أنه بفضل الدعاية يمكن كسب العمال واحدا بعد الآخر. وكان الثوري الذي يكسب اثنان أو ثلاثة عمال إلى الاشتراكية يعتقد أنه قام بعمل جيد، أما بالنسبة لنا فإن عدد العمال الذين انضموا إلى المجموعة أو يريدون الانضمام إليها كان يبدو غير محدود. كان النقص الوحيد الذي لدينا يتعلق بالمادة التعليمية والأدبيات. كان المعلمون مضطرين لأن ينتزعوا من أيدي بعضهم البعض بالتناوب نسخة واحدة متسخة من البيان الشيوعي لماركس وإنجلز كانت قد ترجمت من طرف العديد من الناس في أوديسا، مع العديد من الثغرات والتشويه للنص الأصلي.

سرعان ما بدأنا ننتج أدبيات بأنفسنا، كان هذا حقا بداية عملي الثوري، والذي تزامن تقريبا مع بداية أنشطتي الثورية. كتبت التصريحات والمقالات ونسختها كلها بأحرف كبيرة لطباعتها بالهكتوغراف. في ذلك الوقت لم نكن نعرف حتى بوجود الآلات الكاتبة. كنت أنسخ الحروف بأقصى قدر من العناية، معتبرا أنه من المشرف جعلها واضحة بما فيه الكفاية بحيث يستطيع حتى الشخص الأقل قدرة على القراءة والكتابة قراءة تصريحاتنا من دون أي مشكلة. كان هذا العمل يستغرق مني حوالي ساعتين للصفحة الواحدة. وفي بعض الأحيان لم أكن أقف منتصبا لمدة أسبوع، ولم أكن أقطع عملي لفترة وجيزة إلا من أجل الاجتماعات والدراسة في الحلقات.

لكن كم هو عظيم ذلك الشعور الذي كنت أحسه عندما تصلني الأخبار من المصانع وورشات العمل بأن العمال يقرأون بنهم تلك الأوراق الغامضة المطبوعة بالحبر الأرجواني، ويمررونها بينهم من يد إلى يد وهم يناقشونها! كانوا يصورون المؤلف وكأنه شخص غريب جبار يتمكن بطريقة ما من الدخول إلى المصانع ويعرف ما كان يدور في ورشات العمل، وبعد مرور 24 ساعة يصدر تعليقه على الأحداث في منشورات يدوية مطبوعة حديثا»[79].

نجد رد فعل العمال العاديين تجاه المنشورات في ما كتبه تاختاريف، الذي كتب هذه التعليقات عندما كانت ما تزال ماثلة في ذهنه، في عام 1897:

«“ فقط فكر في هذا الوقت الذي نعيش فيه!… لقد كنا نعمل ونعمل، ولم نكن نرى أبدا ضوء النهار. كنت ترى بأم عينيك كيف يحتالون علينا، لكن ماذا يمكنك أن تفعل حيال ذلك؟… لكن الآن لدينا أولادنا الذين يلاحظون كل شيء، في كل مكان، ويفضحونه. قل ذلك لسويوز (الرابطة)، أتسمعني، علينا أن نجعلهم يعرفون عن هذا”
“من يمرر المنشورات؟”
“الطلاب، على ما أعتقد. وبكل تقوى رسم العامل علامة الصليب على صدره وقال: فليمنح الله الصحة الجيدة لأولئك الناس الذين يطبعون المنشورات”»[80].

من خلال المشاركة بنشاط في الدعاية، تمكنت القوى الماركسية الصغيرة من لعب دور أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. وقد لاقت المناشير الصغيرة المطبوعة بالهكتوغراف استجابة فورية. في كثير من الأحيان كان مجرد ظهور هذه المناشير يكفي لإغراق المصنع كله في حالة من الحماس والنقاش، ويمارس تأثيرا كبيرا على مجرى النضال. نجاح هذا التحريض، على وجه التحديد، سرعان ما جذب انتباه الشرطة القيصرية. والسلطات، التي كانت تدرك جيدا المزاج الكفاحي لعمال بيترسبورغ، تعاملت بجدية مع ما يمكن لتلك المنشورات تحقيقه. في فبراير وأبريل من عام 1896، ظهر منشور يتحدث عن مطالب العمال في أحواض بناء السفن في بيترسبورغ، فأصدر وزير الداخلية، خوفا من الإضراب، أمرا بإجراء تحقيق نصح قائد الميناء بالاستجابة لمطالب العمال.

ومع ذلك، فإن الانتقال من الدعاية داخل مجموعات صغيرة إلى التحريض الجماهيري لم يتحقق دون ألم أو بدون صراعات وتوترات داخلية. بالنسبة للكثيرين، كان العمل السري قد صار نمط حياة، وكان له روتين معين صار البعض معتادين عليه. إن الفترة الطويلة من الوجود داخل حلقات سرية صغيرة عززت نوعا من “العقلية الحلقية” الضيقة. ومن المفارقات أنه على الرغم من الصعوبات والمخاطر المرتبطة بتلك الحلقات، فقد كان لها جانب “مريح”. فظروف الحياة داخل الحلقة لا تتطلب الكثير من النشاط الخارجي المستمر. والمرء ينتقل حصرا بين الرفاق أو العمال المتقدمين، داخل الحلقات حيث الجميع يعرفون عمليا بعضهم البعض. وفي المقابل بدا التحريض بين الجماهير وكأنه قفزة في الظلام. فالروتين سوف يتعطل وستتغير الأفكار وأساليب العمل بشكل جذري. وليس من المصادفة أن الاقتراح قوبل بنوع من عدم الثقة والعداء من جانب فئة “كبار السن”. حذر كراسين و س. إ. رادشينكو من العواقب الوخيمة التي ستحدث في حالة اتباع التكتيك الجديد: فهو من شأنه أن يقوض العمل السري ويتسبب في حدوث اعتقالات جماعية واسعة ويعرض الرفاق للخطر ويخرب العمل.

تم طرح مسألة “المنعطف الجديد” أولا وقبل كل شيء داخل الحلقات الضيقة للمناضلين القدامى، ثم قدمت للمناقشة في تجمعات أوسع للعمال، حيث قرأت ونوقشت مقتطفات من كتيب كريمر حول التحريض. يتذكر عضو حلقة سان بيترسبورغ، ف. إ. بابوشكين، رد فعله على المقترحات الجديدة: «لقد تمردت بشكل كامل ضد التحريض، على الرغم من أنني رأيت ثماره الأكيدة في التصاعد العام للحماس بين جماهير العمال. لأنني كنت خائفا كثيرا من موجة أخرى من الاعتقالات [مثل تلك التي أصابت بعض “المخضرمين”، بمن فيهم لينين، في دجنبر 1895] وظننت أن الجميع سيهلك الآن. لكن اتضح أنني كنت مخطئا».

يتذكر مارتوف كيف احتج له بابوشكين بغضب على الطرق الجديدة: «هنا تبدأ برمي المنشورات في كل الاتجاهات وخلال شهرين تكون قد دمرت ما تطلب بناءه سنوات طويلة… إن الشباب الجدد، الذين ترعرعوا في هذا النشاط التحريضي، سوف يكونون سطحيين في تصوراتهم»[81]. وقد أظهرت التطورات اللاحقة أن مخاوف بابوشكين كان لها ما يبررها. فبعض أولئك الذين تبنوا بحماس نشاط “التحريض” واستخفوا بالنظرية وبـ “ضيق الأفق الحلقي” لم يكونوا سطحيين فقط، بل كانوا انتهازيين صريحين. ومع ذلك، فعلى الرغم من عنصر المبالغة عند الشباب، فقد كان رد الفعل ضد “العقلية الحلقية” تصحيحا ضروريا ضد التيار المحافظ الذي، لو كان قد بقي دون رادع، لكان قد حول الحركة الجماهيرية إلى مجرد عصبة. بعد سنوات عديدة، كان تروتسكي يفكر في هذه الفترة عندما كتب أن:

«كل حزب عمالي، كل تيار، يمر خلال مراحله الأولى، من خلال فترة الدعاية الخالصة أي: تدريب كوادره. إن فترة الوجود كحلقة ماركسية تطور دائما عادات مقاربة مجردة لمشاكل الحركة العمالية. وكل من لم يتمكن من تخطي حدود هذه المرحلة في الوقت المناسب يتحول إلى عصبوي محافظ»[82].

وكمثال عن كيف كان العمل محتجزا بفعل المواقف المحافظة نسوق النقاش الذي جرى بين الماركسيين في موسكو حول كيفية تخليد يوم فاتح ماي عام 1895. يتذكر ميتسكيفيش الرعب الذي أثاره عندما اقترح تنظيم اجتماع سري في الغابات:

«عندما طرحت المسألة على رفاقي، قرروا الاحتفال بصورة سرية دون إثارة الانتباه. لقد كانوا خائفين من إفساد عملنا وكانوا يخشون من الاعتقال. قال الرفاق: “إنه من السابق لأوانه التحدث علانية، فقواتنا ما تزال صغيرة جدا للعمل العلني، إن فكرة تنظيم احتفال كبير هي فكرة للمثقفين”»[83].

لكن الحياة نفسها كانت تعد مفاجأة كبيرة: انعطافة مفاجئة في الوضع قلبت جميع المخططات القديمة رأسا على عقب. يوم 23 ماي 1896، دق إضراب نظمه عمال مصنع للنسيج، في منطقة نارفا بسان بيترسبورغ، ناقوس اندلاع موجة قوية من الإضرابات. نظم عمال النسيج اعتصاما سرعان ما تطور إلى إضراب. كانت السرعة الهائلة التي انتشر بها الإضراب مؤشرا على المزاج المتفجر الذي تراكم على مدى العقد السابق. اجتاحت موجة إضرابات كبرى العاصمة، وللمرة الأولى وجد ماركسيو سان بيترسبورغ أنفسهم على رأس حركة جماهيرية للطبقة العاملة.

الظروف التي أحدثتها موجة الإضرابات وفرت للقوى الماركسية الصغيرة فرصا هائلة لنشر نفوذها. لكن في الفترة الأولى كثيرا ما ضاعت الفرص بسبب مقاومة الفئات الأكثر تحفظا للأساليب الجديدة. وهكذا، خلال الإضراب المهم الذي شارك فيه 2.000 عامل نسيج في إيفانوفو- فوزنيسينسك في أكتوبر 1895، عارض قادة رابطة العمال المحليين في البداية اقتراحا بأن يقوموا بإرسال محرضين لربط الاتصال مع العمال المضربين، والذهاب إلى مصانع أخرى لتنظيم الدعم للإضراب. وفي نهاية المطاف تم التوصل إلى حل وسط بأن الرابطة لن تتبنى أية مسؤولية عن الإضراب، لكن في المقابل ستسمح لأعضائها بالمشاركة فيه على مسؤوليتهم الخاصة! لقد نشبت خلافات مماثلة في جميع المجموعات الاشتراكية الديمقراطية. لكن تدريجيا تم قبول الطرق الجديدة، وبدأت تحقق نتائج مذهلة.

لم يحصر الماركسيون أنفسهم في حدود التحريض على المسائل الاقتصادية، بل حاولوا أيضا أن يطرحوا على العمال أفكارا سياسية. بعد اعتقالات دجنبر 1895، أصدرت مجموعة بيترسبورغ منشور: “من هو الاشتراكي ومن هو المجرم السياسي؟”. خلال الفترة الأولى للتحريض، وفي الوقت الذي كانوا ينطلقون فيه من المظالم الفورية التي يعانيها العمال، بذل الماركسيون كل جهودهم لتوسيع آفاق العمال على مسائل سياسية شاملة، وربط النضال من أجل المطالب الفورية بالنضال من أجل الهدف المركزي الذي هو الإطاحة بالحكم المطلق. ومن خلال المشاركة الجريئة في التحريض، نما تأثير الماركسية بخطوات سريعة بين فئات أوسع فأوسع من الطبقة العاملة. وعلى الرغم من صغر حجم قواهم، والوضع الموضوعي الصعب جدا، تمكن الماركسيون أخيرا من كسر الحواجز التي تفصلهم عن الجماهير. صار الطريق الآن مفتوحا لبناء حزب قوي وموحد للبروليتاريا الروسية.

الماركسية الشرعية

توفي ألكسندر الثالث يوم 01 نوفمبر 1894، وخلفه ابنه نيكولا الثاني. وبمناسبة زواج العاهل الجديد، في شهر يناير من العام التالي، استجمع ليبراليو الزيمستفو شجاعتهم وقدموا له ملتمسا، في شكل تهنئة، قالوا فيه: «نأمل أن يكون صوت احتياجات الشعب مسموعا دائما من طرف جلالتكم». لكن رد نيكولا القاطع شكل مثالا كلاسيكيا حقيقيا للإذلال السياسي، حيث قال: «أنا سعيد لرؤية ممثلي كل الطبقات مجتمعين للتعبير عن مشاعر الولاء. وأنا مؤمن بصدق هذه المشاعر التي ميزت دائما كل روسي. لكنني أدرك أنه برزت، في الآونة الأخيرة، في بعض مجالس الزيمستفو، أصوات لأشخاص حملتهم بعيدا أحلام لا معنى لها حول مشاركة ممثلي الزيمستفو في شؤون الإدارة الداخلية. فليكن معلوما للجميع أنني، مع حرصي على تكريس كل طاقاتي لخدمة مصالح الشعب، سوف أحافظ على مبدأ النظام الأوتوقراطي بنفس الحزم وبدون تردد كما كان عليه في عهد والدي».

كان نبلاء الزيمستفو مجبرين على الإنصات بصمت بينما كان دلو المياه الجليدية هذا يسكب فوق رؤوسهم. لم يكلف القيصر نفسه حتى عناء قراءة الخطاب، الذي كلف به خادما له. وقد كتب شاهد عيان قائلا:

«خرج ضابط صغير الشأن وفي يده قطعة من الورق. بدأ في الغمغمة بكلام ما، بينما ينظر إلى الورقة من حين لآخر. ثم صرخ فجأة: “أحلام لا معنى لها”. هنا فهمنا أننا نتعرض للتوبيخ لسبب ما. حسنا، لكن لماذا يصرخ؟»[84].

وفي مشهد خليق بفنان كبير، قيل إن الإمبراطورة الشابة وقفت صلبة وجامدة ولم تنحن أمام المندوبين وهم يتسللون بصمت. ولم يسمح لروديشيف، مؤلف “عريضة تفير”، حتى بحضور الاستقبال ومنع من العيش في سان بيترسبورغ. تبين هذه الحادثة، أكثر من أية كلمات، العجز المطلق لليبراليين الروس وجبنهم عشية القرن العشرين.

كانت تلك هي السنوات التي انكفأ خلالها المثقفون البرجوازيون على أنفسهم، وانشغلوا بالروحانيات والنزعة الصوفية والمواد الإباحية و“الفن لأجل الفن”. وشهد الفن والأدب صعود النزعة الرمزية بإيحاءاتها الباطنية والمدرسة “التجريدية”. كل ذلك كان مجرد انعكاس ليس فقط لوعكة نهاية القرن عند المثقفين، بل للشعور العام بالمأزق والعجز الذي أعقب انهيار نارودنايا فوليا. وكما سبق لماركس أن لاحظ فإن التاريخ يكرر نفسه المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمهزلة. وفي نسخة كاريكاتورية مثيرة للشفقة للحركة النارودنية، لبس الشباب الليبراليون ثياب الفلاحين وأصبحوا “تولستويين” [نسبة إلى تولستوي – م-]، يساهمون في الأنشطة الاجتماعية والخيرية للإغاثة من المجاعة وحملات مكافحة الأمية، وما شابه ذلك.

خلق تنامي نفوذ الأفكار الماركسية بين المثقفين ظاهرة غريبة. فالنجاحات الباهرة التي حققتها الإيديولوجية الماركسية في النضال ضد النارودنية كانت قد بدأت تثير اهتمام فئة من المثقفين البرجوازيين في الجامعات، الذين استهوتهم الماركسية كنظرية اجتماعية وتاريخية، دون أن يفهموا حقا مضمونها الطبقي الثوري. كانت البرجوازية الفتية تسعى جاهدة لإيجاد صوت لها ولتأكيد مصالحها الخاصة وتقديم مبرر نظري لحتمية التطور الرأسمالي في روسيا. استغلت بعض الأفكار، التي طرحتها الماركسية في النضال ضد النارودنية، بحماس من طرف قسم من مفكري البرجوازية. ولفترة قصيرة من الزمن، تمتعت “الماركسية” في شكل أكاديمي مخصي، برواج معين بين الأساتذة الليبراليين “اليساريين”.

في المراحل الأولى، عندما كانت القوى الماركسية صغيرة وتفتقر إلى النفوذ، وكانت الثورة الاشتراكية مجرد صدى لمستقبل يبدو بعيد المنال، بدا وكأن هؤلاء المثقفين الهواة يمثلون اتجاها محددا داخل الحركة الماركسية الروسية. ونظرا للصعوبات الهائلة التي كانت تواجهها الحركة الثورية غير الشرعية، فإنها قبلت خدماتهم بترحيب. لقد قدموا المال وساهموا في نشر الأدب الماركسي، وفي غياب صحافة ماركسية حقيقية، سهلوا نشر الأفكار الماركسية، ولو في شكل مخفف، على صفحات المجلات القانونية في كافة أنحاء روسيا. قدم هذا الوضع بعض الإمكانيات للماركسيين، الذين سمح لهم بالكتابة على صفحات الجرائد البرجوازية الشرعية، مثل نوفو سلوفو ونشالو (التي ينبغي عدم الخلط بينها وبين نشالو التي أصدرها تروتسكي في عام 1905) وسمارسكي فيستنيك، وذلك دائما شريطة ألا “تذهب بعيدا جدا”، بطبيعة الحال. وبهذه الطريقة نشأ ذلك المسخ الهجين الذي عرف بـ “الماركسية الشرعية”، والتي من أهم ممثليها الرئيسيين كان ب. ب. ستروفه، وم. إ. توغان بارانوفسكي وس. ن. بولغاكوف ون. أ بردياييف.

بسبب الرقابة كان على جميع الكتابات الماركسية المبكرة في روسيا أن تخرج على شكل كتاب، مما يجعلها عملية مكلفة. تكلف ستروفه بنشر كتابه من ماله الخاص. كان التعطش للأفكار الماركسية، ولو في شكلها المخفف، كبيرا إلى درجة أن كل نسخ الكتاب بيعت في غضون أسبوعين. بوتريسوف، الذي كان قد ورث ثروة، استخدم أمواله لتمويل نشر كتاب بليخانوف “النظرة الأحادية للتاريخ”. ونظرا للصعوبات الهائلة للعمل السري، كان من الضروري استغلال كل ثغرة شرعية لنشر الأفكار الماركسية. وما لم يكن من الممكن قوله علنا في المنشورات الشرعية كان من الممكن استكمال شرحه من خلال صحافة الحزب السرية. وهكذا، ولسنوات عديدة، لم يكن في مقدور الماركسيين الروس تسمية أنفسهم باسم “الاشتراكيين الديمقراطيين”، بل كانوا مضطرين عوض ذلك إلى استخدام عبارات مثل “الديمقراطيين الحازمين”. لكنهم، كما أشار تروتسكي بعد سنوات عديدة، لم يسلموا من سلبيات ذلك، إذ أن عددا من الأشخاص المرتبطين بالحزب تخلوا عن الماركسية وتحولوا بالفعل إلى “ديمقراطيين حازمين”، بل إن بعضهم لم يكونوا حازمين جدا! لتطوير تيار ماركسي سليم من الضروري قبل كل شيء أن تكون قادرا على تسمية الأشياء بمسمياتها. لم يكن من الممكن إصلاح الضرر الذي تسبب فيه الماركسيون الشرعيون والاقتصادويون إلا من خلال جريدة ماركسية سرية حقيقية. وكان هذا هو الانجاز العظيم لجريدة لينين إيسكرا (الشرارة).

كان التعاون مع الماركسيين الشرعيين، على الرغم من كل المشاكل، مفيدا ومرحلة ضرورية لم يكن من الممكن تجنبها في سبيل تطوير الحركة خلال أيامها الأولى. الغالبية العظمى من أولئك الذين تعاملوا مع الماركسية في شبابهم قطعوا في وقت لاحق علاقتهم مع الحركة وانتقلوا إلى جانب الثورة المضادة. لكنهم لعبوا دورا مفيدا في البداية. بعضهم، على الأقل، خضع لتحول حقيقي. لكن الغالبية منهم سرعان ما تعافوا من “فيروس الاشتراكية”. كان من السهل عليهم أن يبرروا أوجه القصور في طريقة تعبيرهم بإكراهات العمل الشرعي والحاجة إلى الهروب من الملاحقات والاعتقال وهلم جرا. وطالما كانت المهام الرئيسية للحركة ما تزال ذات طابع نظري، إلى حد ما، وموجهة أساسا ضد النارودنيين أعداء البرجوازية، فإن هذا التعاون تم، في الواقع، بشكل جيد إلى هذا الحد أو ذاك. وقد كان الماركسي الشرعي – ستروفه – هو الذي كتب بيان المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي!

كانت ماركسيتهم هزيلة وعاجزة، ماركسية “مخصية”، تفتقر إلى الحياة والنضال والحيوية الثورية. وليس من قبيل الصدفة أن الماركسيين الشرعيين رفضوا الديالكتيك لصالح الفلسفة الكانطية الجديدة. وعلى الرغم من مظهر التفرد الذي بدت عليه والدور الخاص نوعا ما الذي لعبته في بدايات الحركة في روسيا، فإن نفس تلك “الماركسية” المجردة وغير الديالكتيكية وغير الثورية تظهر دائما في أوساط الجامعات في جميع البلدان، في كل مرحلة من مراحل تطور الحركة. لقد كانوا [الماركسيون الشرعيون]، في الواقع، مثالا مبكرا على ما أصبح يعرف لاحقا باسم “رفاق الطريق”. على الرغم من مغازلتهم الفكرية للماركسية، فإنهم استمروا، في أسلوب حياتهم ونفسيتهم، ينتمون إلى طبقة عدوة. وبعد سنوات عديدة لخص ستروفه عقلية الماركسيين الشرعيين في المقطع التالي:

«بصراحة إن الاشتراكية لم تخلق أبدا أية مشاعر داخلي، فبالأحرى أن تجذبني… لقد أثارت الاشتراكية اهتمامي بشكل رئيسي باعتبارها قوة إيديولوجية، قوة… يمكن استخدامها إما للحصول على الحريات المدنية والسياسية أو ضد تلك الحريات»[85].

للوهلة الأولى، قد تظهر أفكار الماركسيين الشرعيين ذات أهمية تاريخية فقط الآن. لكن بعد القيام بفحص دقيق يمكن للمرء أن يستشف بالفعل الخطوط العريضة للنزاعات الهامة التي اندلعت لاحقا. تقوم الفكرة الأساسية التي دافع عنها ستروفه وشركاؤه على ما يلي: الشروط المادية للاشتراكية غائبة في روسيا، التي هي بلد متخلف وشبه إقطاعي؛ والنضال ضد النظام القيصري نضال من أجل الديمقراطية البرجوازية، وليس من أجل الاشتراكية؛ ولذلك ينبغي على حزب العمال أن يضع جانبا كل الأوهام المستحيلة ويعتمد واقعيا على المساعي الحميدة لليبراليين البرجوازيين التدريجيين لإقامة النظام الجديد. وتشبه هذه، في جوهرها، النظريات التي تبناها لاحقا المناشفة والستالينيون (هي، في الواقع، نفس النظرية). كان المفهومان المتناقضان من حيث الجوهر: الثورة أو الإصلاح، التعاون الطبقي أو السياسة البروليتارية المستقلة، قد ظهرا بالفعل في جدالات لينين وبليخانوف ضد الماركسية الشرعية والاقتصادويين في النصف الثاني من تسعينيات القرن التاسع عشر. في ذلك الوقت لا أحد من الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ماركسيين شكك في الفكرة القائلة بأن روسيا كانت عشية ثورة ديمقراطية برجوازية. نبعت هذه الفكرة من مجمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتاريخي. كان الصراع الرئيسي ضد الاستبداد، ضد الهمجية الإقطاعية وضد ميراث “الثقافة البيروقراطية والقنانة”، كما وصفها لينين لاحقا. كان حجر الزاوية في حجة الماركسيين ضد النارودنيين هو على وجه التحديد حتمية المرحلة الرأسمالية واستحالة مسار مستقل خاص “لاشتراكية الفلاحين” في روسيا.

تحول منظور الثورة الاشتراكية، بالنسبة للماركسيين الشرعيين، إلى احتمال نظري ضبابي ينتمي إلى وقت ما في المستقبل البعيد. وكان هذا المنظور آمنا للغاية، وعمليا لم يكن يلزمهم بشيء. بالنسبة لهم كان الجانب الثوري للماركسية يبدو غير واقعي تماما، في حين بدت لهم الحجج الاقتصادية عن النصر الحتمي للرأسمالية في روسيا أفكارا عملية جدا. تتضمن كتابات إنجلز التي ألفها في أواخر حياته، وعلى وجه الخصوص مراسلاته مع زاسوليتش والماركسيين الروس الآخرين، نقدا عميقا بارعا لهذا التصور الميت البعيد عن الماركسية الثورية الحقيقية. ففي الوقت الذي أكد استحالة بناء الاشتراكية في بلد فلاحي متخلف مثل روسيا، شدد انجلز على الحاجة إلى الإسقاط الثوري الديمقراطي للحكم المطلق، وهو ما سيفتح الطريق أمام الثورة الاشتراكية في أوروبا الغربية. وفي خاتمة كتاب “حول العلاقات الاجتماعية في روسيا”، الذي كتبه عام 1894، طرح انجلز المسألة على هذا النحو:

«سوف تعطي الثورة الروسية كذلك دفعة جديدة للحركة العمالية في الغرب وتخلق لها شروطا جديدة وأفضل للصراع، وبالتالي ستدفع عجلة انتصار البروليتاريا الصناعية الحديثة، وهو النصر الذي بدونه لا يمكن لروسيا الحالية، سواء على أساس مجتمع [القرية] أو على أساس الرأسمالية، أن تحقق التحول الاشتراكي للمجتمع»[86].

وبتطبيق رائع للديالكتيك، بين إنجلز كيف أن انتصار الاشتراكية في الغرب سيؤثر بدوره على روسيا وسيمكنها من الانتقال مباشرة من الظروف شبه الإقطاعية إلى الشيوعية. يقف هنا الديالكتيك الثوري، مقابل منطق “التطور” الصوري، حيث السبب يصير نتيجة والنتيجة تصير سببا. الثورة الروسية، حتى على أساس الديمقراطية البرجوازية، سوف تحرض الثورة البروليتارية الأوروبية والتي بدورها ستؤثر على روسيا لإنتاج تحول اجتماعي جذري. سوف يمكن انتصار الثورة الاشتراكية في الغرب العمال والفلاحين الروس من إنجاز الثورة البروليتارية في روسيا والشروع في التحويل الاشتراكي للمجتمع. في ظل هذه الظروف لن تكون مستبعدة، من الناحية النظرية، تلك الفكرة النارودنية القديمة عن التحول من الكومونة القروية إلى الشيوعية.

لم يتمكن ستروفه أو طوقان- بارانوفسكي أبدا من فهم هذه الصيغة الجريئة، بسبب تصورهم المجرد الذي يمثل صورة كاريكاتورية جامدة وميكانيكية للماركسية. تذكر كروبسكايا في مذكراتها أن ستروفه “كان هو أيضا اشتراكيا ديمقراطيا في ذلك الوقت”، لكنها تضيف أنه «كان عاجزا تماما عن القيام بأي عمل داخل المنظمة، ناهيك عن العمل السري، لكنه كان يسعد، بدون شك، بأن يقدم النصائح»[87]. هذه الأسطر القليلة تشرح بأمانة جوهر تلك الفئة من البرجوازيين والمثقفين أبناء الطبقة الوسطى الذين“سافروا” مع الحزب، معتبرين أنفسهم جزءا منه، لكنهم لم يكونوا أبدا كذلك، وكانوا دائما يضعون قدما في المعسكر الآخر. وعبر هذه الفئة كان ضغط الطبقات الأخرى يمر، دون وعي أو بشكل نصف واع، إلى داخل الحزب، وهو ما كانت له نتائج وخيمة على قوى الماركسية الشابة وغير الناضجة بعد.

مال ستروفه، لبعض الوقت، إلى اليسار، نتيجة للحركة العامة للمثقفين في اتجاه الماركسية تحت ضغط الطبقة العاملة في الفترة العاصفة لسنوات التسعينات. كما أن النقد الإيديولوجي الحازم من طرف لينين وبليخانوف لعب أيضا دورا في ذلك. ليس هناك شك في أن النقد الذي وجهه ستروفه للبرجوازية الروسية، في البيان الذي كتبه للمؤتمر الأول، قد كان صدى للنقاشات الحادة مع لينين قبل بضع سنوات:

«وما الذي لا تحتاجه الطبقة العاملة الروسية؟ إنها محرومة تماما مما تستفيد منه نظيراتها في الخارج بحرية وبشكل سلمي، أي: المشاركة في تسيير الدولة وحرية التعبير والصحافة وحرية تكوين الجمعيات والتجمع، وبكلمة واحدة كل تلك الأسلحة والوسائل التي تستخدمها البروليتاريا الأوروبية الغربية والأمريكية لتحسن موقفها في الوقت الذي تكافح من أجل تحررها النهائي ضد الملكية الخاصة والرأسمالية من أجل الاشتراكية. لكن البروليتاريا الروسية لا يمكنها أن تحقق الحرية السياسية التي تحتاجها إلا بالاعتماد على نفسها فقط.
كلما توغلتَ نحو شرق أوروبا، كلما وجدتَ البرجوازية أكثر ضعفا وأكثر جبنا وانحطاطا في المجال السياسي، وكلما ازداد حجم المهام الثقافية والسياسية التي تقع على كاهل البروليتاريا. يجب على الطبقة العاملة الروسية أن تحمل على أكتافها القوية قضية الفوز بالحرية السياسية. هذه خطوة ضرورية، وإن كانت الخطوة الأولى فقط، نحو تحقيق المهمة التاريخية العظيمة للبروليتاريا، نحو خلق نظام اجتماعي لن يكون في ظله أي مجال لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان»[88].

لكن ستروفه، مثله مثل العديد من المثقفين رفاق نصف الطريق، لم يتمكن أبدا من فهم الديالكتيك. هذا الضعف النظري الأساسي، إلى جانب ميل أبناء الطبقة الوسطى المعتاد إلى الراحة والملذات وحبهم للحياة الرغدة إضافة إلى العجز العضوي عن التضحية الشخصية، هو ما يفسر تطوره اللاحق. قطع ستروفه في وقت لاحق مع الماركسية، وفي عام 1905 انضم إلى حزب الكاديت البرجوازي وأنهى أيامه مهاجرا أبيضا. وانتهى بيردياييف مدافعا عن التصوف الديني وعرف آخرون تحولا مماثلا. إن بيان ستروفه الذي كتبه سنة 1898 يمثل إدانة قاسية للبرجوازية الروسية، مما يشكل رثاء مناسبا سواء لستروفه أو لظاهرة الماركسية الشرعية بشكل عام.

لينين ومجموعة تحرير العمل

في شتاء 1894- 1895، وخلال اجتماع في بيترسبورغ لممثلي المجموعات الاشتراكية الديمقراطية من مختلف أنحاء روسيا، صدر قرار لصالح نشر أدبيات أكثر شعبية للعمال في الخارج. وتم تكليف كل من لينين وإ. أ. سبونتي من اتحاد عمال موسكو بمسؤولية التفاوض حول هذه المسألة مع مجموعة بليخانوف لتحرير العمل. وفي ربيع عام 1895 ذهب في البداية سبونتي ثم لينين إلى سويسرا لإقامة الاتصالات مع المجموعة. ويظهر الأثر الذي خلفه هذا الاتصال بين صفوف المهاجرين في مراسلات بليخانوف وأكسلرود:

«إن وصول إ. أ. سبونتي وبعده، بدرجة أكبر بكثير، ف. إ. لينين (أوليانوف)، كان حدثا كبيرا في حياة مجموعة تحرير العمل؛ لقد كانا عمليا أول الاشتراكيين الديمقراطيين الذين وصلوا إلى الخارج بطلب من أولئك الذين كانوا يقومون بالعمل النشط داخل الحلقات الاشتراكية الديمقراطية لمفاوضات شبيهة بالمفاوضات التجارية مع المجموعة»[89].

حتى تلك اللحظة، كان دور أعضاء مجموعة تحرير العمل في المنفى يقتصر على تتبع النضالات العظيمة التي كانت تجري داخل روسيا والتعليق عليها. كما أن تجارب إخفاقات الماضي مع الناس القادمين من الداخل جعلتهم حذرين في تعاملهم. لكن القادمين الجديدين تمكنا سريعا من إقناعهم بأنه يوجد الآن أساس حقيقي لانتشار الأفكار الماركسية داخل روسيا. وانضمت قوات الجيل الجديد من الشباب إلى قوة المناضلين القدامى في المنفى. عاد المبعوثان إلى روسيا بالتزام من طرف مجموعة تحرير العمل بالبدء في إصدار جريدة ماركسية: رابوتنيك (Rabotnik- العامل)، في حين سيتم نشر جريدة أخرى أوسع انتشارا في الداخل تحت عنوان رابوتشييه ديلو (Rabocheye Dyelo – قضية العمال). حينذاك بدا مستقبل الماركسية الروسية مضمونا.

لكن وبعد فترة وجيزة من عودة لينين إلى روسيا وقعت الكارثة. ففي ليلة 19 دجنبر وبينما كان يجري إعداد العدد الأول من رابوتشييه ديلو للطابعات، قامت الشرطة بمداهمة واسعة النطاق قبضت خلالها على معظم القادة. عندما اعتقل لينين نفى بهدوء انتمائه إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وعندما سئل لماذا كان يحمل معه كتابات غير شرعية، هز كتفيه وقال إنه أخذها من شقة شخص نسي اسمه. وفي محاولة شجاعة لخداع الشرطة لجعلها تظن أنها اعتقلت الأشخاص الخطأ، أصدر القادة الناجون من الاعتقال، وعلى رأسهم مارتوف، إعلانا مطبوعا بالاستنسل للعمال، يقولون فيه: «إن رابطة النضال… ستستمر في عملها. لقد فشلت الشرطة. لن يتم تحطيم الحركة العمالية بالاعتقالات والنفي ولن تتوقف الإضرابات والنضالات حتى تحقيق التحرر الكامل للطبقة العاملة من نير رأس المال»[90]. لكن الحيلة فشلت، ويوم 05 يناير 1896، ألقي القبض على مارتوف والآخرين.

خطط لينين، أثناء وجوده في السجن، لكتابة عمل نظري كبير هو كتاب “تطور الرأسمالية في روسيا”، كما أنه تمكن من الحفاظ على المراسلات مع المنظمة من خلال استخدام ماهر لأساليب سرية بدائية لكنها فعالة. كانت الرسائل تكتب بالحليب بين سطور الكتب، ليتم إظهارها بلون بني مائل إلى الصفرة عند تعريضها لنار شمعة. كان يصنع “المحبرة” من لباب الخبز ويبتلعها عندما يقترب منه أحد الحراس. وقد كتب مرة: “لقد ابتلعت اليوم ست محابر”. بهذه الطريقة كتب البيان المعنون بـ “إلى حكومة القيصر” والذي طبع على الهكتوغراف وتم توزيع مئات النسخ منه. انطلق جهاز الشرطة يبحث بشكل محموم عن المؤلف دون أن يتبادر إلى ذهنهم أنه كان بالفعل ضيفا في سجون جلالة القيصر. وعلى الرغم من كل شيء، حافظ لينين على حس النكتة لديه وكتب لأمه قائلا: «أنا في وضع أفضل بكثير من وضع معظم مواطني روسيا. لا يمكن للبوليس أبدا أن يجدني»[91]. بينما كان حظ بعض السجناء الآخرين أقل. فأحد قادة رابطة بيترسبورغ: فانييف الذي اعتقل مع لينين، أصيب بداء السل – الذي ما يزال أحد ويلات السجون الروسية حتى اليوم- ولم يتعاف منه أبدا. بينما أصيب آخر بالجنون.

كان لاعتقال “القدامى” تأثير خطير للغاية على تطور المنظمة. إذ بعد إبعاد الكوادر الأكثر خبرة والأكثر تقدما من الناحية السياسية، سقطت القيادة في أيدي شباب كان بعضهم بدون أي تكوين. كان متوسط عمر “المخضرمين” في الواقع حوالي 24 أو 25 سنة. كان اسم لينين داخل الحزب هو ستاريك (أي الرجل العجوز)، مع أنه كان يبلغ 26 سنة! وكان الشباب الذين احتلوا الآن مناصب قيادية يبلغون من العمر 20 سنة أو أقل. لقد كانوا متحمسين ومخلصين للقضية لكن تكوينهم السياسي كان ضعيفا. وقد ظهر الفرق سريعا. مارس النجاح الملفت للنظر الذي حققه التحريض تأثيرا قويا على عقول الشباب والمثقفين الذين كانوا يتطورون بعيدا عن أفكار النارودنية والإرهاب الفردي التي فقدت مصداقيتها. التحق أعضاء جدد بالحركة لكن المستوى النظري العام تراجع. كان الانتصار قد تحقق في النضال ضد عقلية حلقات الدعاية الضيقة، لكن وفي سياق حرصهم على توسيع النفوذ الجماهيري للحركة الاشتراكية الديمقراطية من خلال التحريض الاقتصادي، اتجه قسم من الطلاب الأكثر حماسا إلى طرح القضية بطريقة أحادية الجانب. في 1895- 1896 ظهرت في بيترسبورغ مجموعة في المعهد التكنولوجي بقيادة طالب طب موهوب ونشيط يدعى كـ. م. تاختاريف، والتي بدأت تقول بأنه يجب على الحزب الاشتراكي الديمقراطي ألا يعتبر نفسه “قائدا” للعمال، بل عليه فقط أن يضع نفسه في “خدمتهم” من خلال مساعدتهم في الإضرابات.

كان نمو نفوذ الماركسيين كبيرا إلى درجة أنه تم تعويض القادة المعتقلين بسرعة كبيرة، لكن نوعية القيادة كانت قد تعرضت لضربة قاسية. تمكن التيار الذي كان يقوده تاختاريف من كسب المواقع بسرعة أمام “القدامى” الذين تم الدفع بهم إلى الهامش في كل مكان. لقد أسكرت النجاحات العملية للتحريض هؤلاء “النشطاء” الذين كانوا يسعون وراء طريقة سهلة بعيدا عن مشكلة بناء الحزب الثوري المعقدة. وشرعوا في البداية، بشكل غير واع، في التكيف مع الأفكار المسبقة للفئات الأكثر تخلفا من بين صفوف الطبقة العاملة، بحجة أن الأفكار السياسية كانت صعبة للغاية بالنسبة للجماهير وأن السياسة، على أي حال، لا تهم العمال الذين يهتمون فقط بتحسين أوضاعهم الاقتصادية.

الخلاف مع الاقتصادويين

كما يحدث في كثير من الأحيان، عبَّر الخلاف السياسي العميق عن نفسه، في البداية، كخلاف حول مسائل ثانوية عرضية. قبل إرسالهم إلى المنفى في سيبيريا، في فبراير 1897، سمح البوليس للينين وعدد من القادة الآخرين بقضاء ثلاثة أيام في بيترسبورغ لترتيب امورهم، وهي الفترة التي استغلوها لإجراء مناقشة مع أعضاء قياديين في الرابطة. انعقد اجتماع ساخن بينهم وبين القادة الجدد، الذين كانوا يستعدون لإقامة مجموعات للعمال وللمثقفين منفصلة عن بعضها البعض. وبرز خلاف حاد حول مسألة إنشاء “صندوق للعمال” على أساس غير سياسي. ودون إنكار إمكانية العمل في مثل هذه الحقول، أكد لينين، بدعم من مارتوف وغيره، بشكل أساسي على ضرورة بناء رابطة النضال باعتبارها منظمة ثورية. بينما اقترحت القيادة الجديدة، عمليا، تلطيف برنامج الرابطة لجعله، كما زعموا، أكثر جاذبية للعمال. كان من شأن مثل ذلك التمييع للمنظمة في تلك المرحلة المبكرة من تطورها أن يكون قاتلا. دافع لينين بحزم عن ضرورة تثقيف كوادر عمالية وإعطائها بعد ذلك مناصب قيادية، لكن دون الانحطاط بالمنظمة لتصير في مستوى العمال الأكثر تخلفا. وقال: «إذا كان هناك أي عامل واع يستحق الثقة، دعوه يدخل إلى الحلقة المركزية [للرابطة]، هذا كل شيء».[92]

الشيء الذي كان يكمن وراء مواقف “الشباب” هو الرغبة الانتهازية في ايجاد “طريق مختصر” نحو الجماهير، رغبتهم في أن يحصدوا حيث لم يزرعوا، إضافة إلى ازدراء للنظرية بالكاد كانوا يخفونه. كانت هذ هي السمات المشتركة لجميع الأنواع المختلفة من النزعة “الإقتصادوية”، وهي ظاهرة لم تكن قائمة على نظرية أو سياسة منسجمتين بقدرما كانت مزاجا غير محدد سائد بين صفوف فئات معينة من الشباب، الطلابي خصوصا، الذين التحقوا بالحركة الاشتراكية الديموقراطية في تسعينيات القرن 19، والذين كانوا يفتقرون إلى ذلك الأساس النظري المتين الذي ميز الجيل السابق من الماركسيين الروس. بالنسبة للجيل الأول من الماركسيين الروس كان التحريض الاقتصادي مجرد جانب واحد فقط من عملهم الذي ربط دائما بين الدعاية والتحريض وحاول طرح القضايا الأوسع. وكانت الرابطة قد نجحت في كسب بعض الأعضاء من الحركة النارودنية القديمة بفضل النقاش السياسي. ومن ناحية أخرى كانت المهمة الرئيسية لحركة الإضرابات هي الانطلاق من مستوى الوعي الواقعي للعمال والعمل على رفع وعيهم وجعلهم يدركون، من خلال تجربتهم الخاصة في النضال، ضرورة التغيير الاجتماعي الشامل. كانت المنشورات التحريضية المحلية محدودة جدا في نطاقها للقيام بذلك وكانت هناك الحاجة إلى جريدة ماركسية لا تعكس فقط حياة ونضالات البروليتاريا، بل أيضا تقدم للعمال تعميما لتلك التجربة، أو بعبارة أخرى: جهاز سياسي ثوري قادر على توحيد حركة الإضرابات مع الحركة الثورية ضد الحكم المطلق.

كان لينين ومارتوف يشتغلان على هذا المشروع بالضبط حينما ألقي القبض عليهما. لكن القادة الجدد لرابطة سان بيترسبورغ للنضال كانت لديهم أفكار أخرى. ينبغي أن نضع في الاعتبار أننا نتعامل مع منظمة كوادر ما تزال في بداياتها الأولى، تحاول وضع المبادئ الأساسية سواء في السياسة أو التنظيم، وهي، علاوة على ذلك، مجموعة تشتغل في ظروف سرية خطيرة، تعرضت للتو لموجة من الاعتقالات. بالنسبة للينين ليست الأشكال التنظيمية عقيدة جامدة أو بديهيات رياضية، بل جزء من سيرورة حية تتغير وتتكيف مع الظروف. وبالتالي فإن موقفه بشأن هذه المسألة لم يتحدد وفقا لمبادئ مجردة، بل بناء على حاجيات اللحظة.

لم تكن هذه الظاهرة التي وصفناها للتو تقتصر على روسيا، فقد تزامنت مع حملة إدوارد برنشتاين في ألمانيا لمراجعة الأفكار الماركسية. وفي كل مكان رفع شعار “حرية النقد” الذي استعمل ستارا لتسريب أفكار دخيلة وتحريفية إلى داخل الحزب. وبدأت نفس الخلافات تطفو على السطح في المنفى، داخل صفوف منظمة اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس، التي تأسست عام 1894، وكانت تتكون أساسا من الطلاب الذين انضموا مؤخرا للحركة الماركسية. كان الاتحاد منظمة مستقلة تنظيميا عن مجموعة تحرير العمل، وكانت لها سيطرة فعلية على شبكة الاتصالات مع روسيا. كانت مسؤولة عن جمع الأموال والمطبعة وتنظيم نقل الكتابات السرية والحفاظ على الاتصال مع الداخل. إلا أن مجموعة تحرير العمل، ومن أجل الحفاظ على رقابتها على المجال الإيديولوجي، أصرت على حقها في تحرير منشورات الاتحاد، بما في ذلك جريدة رابوتنيك.

مع وجود غالبية القادة في المنفى السيبيري، لم يتبق سوى أعضاء مجموعة تحرير العمل في المنفى لخوض النضال ضد هذا التيار الجديد. وحوالي نهاية عام 1897 بدأ الطالب س. ن. بروكوبوفيتش، الذي كان حتى ذلك الحين متعاونا مع مجموعة تحرير العمل، في طرح مواقف مماثلة. لا بد أن ذلك شكل ضربة موجعة للمجموعة، في وقت بدا كما لو أن تعاونهم مع الشباب داخل روسيا قد بدأ أخيرا يسير على أساس سليم. في البداية لجأ بليخانوف، الحريص على تجنب الانشقاق، إلى اعتماد لهجة تصالحية على غير عادته. وفي رسالة إلى أكسلرود، مؤرخة في 01 يناير 1898، كتب يقول: «… علينا أن ننشر عمله حول التحريض، إنه ليس سيئا من وجهة نظري، وعلينا أن نشجع “المواهب الشابة” وإلا فإنهم، كما تعرف، سوف يبدأون في الشكوى بأننا نهمشهم».[93]

جزء كبير من الاحتكاك الأولي بين المجموعتين نتج، بدون شك، عن استياء الشباب من النفوذ السياسي لبليخانوف. لقد شعروا بالإهانة والتهميش من طرف المخضرمين واستاءوا من الرقابة الإيديولوجية الصارمة التي كانت تمارس عليهم. وعلى الرغم من محاولات بليخانوف لأن يكون تصالحيا، فإن الصراعات أصبحت أكثر تواترا. وسرعان ما هاجم الطلاب ما كان يمثل، باعتراف الجميع، الجانب الضعيف لمجموعة تحرير العمل، أي: الجانب التنظيمي. بدأوا في تعقب الثغرات التنظيمية، وطالبوا بالاطلاع على الحسابات المالية، التي كانت بالتأكيد في حالة من الفوضى. وبعد أن سجلوا نقطة هنا، انتقل الشباب إلى قضايا أخرى. وجدت الحلقة الصغيرة حول بليخانوف نفسها محاصرة بشكل متزايد من جميع الجهات. فالمجموعة التي كانت تفتقر إلى المداخيل وتعتمد اعتمادا كبيرا على “الشباب” في اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس للاتصال مع روسيا، وجدت نفسها الآن أمام صعوبات هائلة. بدأ تأثير الضغوط على معنويات وأعصاب أعضائها يظهر في العلاقات المتوترة بشكل متزايد بين بليخانوف وأكسلرود. وبحلول شهر أبريل عام 1898، ظهرت علامات واضحة على الإحباط بين أعضاء المجموعة، حين بدأ اكسلرود يتسائل حول ما إذا كان للمجموعة أي سبب في الوجود وبدأت فيرا زاسوليتش، التي كانت تدعي المرض، في الحديث عن التوقف عن النشاط.

في سيرته التي كتبها عن بليخانوف، لخص س. هـ. بارون موقف الطلاب من مجموعة تحرير العمل، قائلا:

«ألم يكن إغراق بليخانوف، العضو الرئيسي في المجموعة، في الأعمال النظرية والفلسفية المجردة دليلا على اغترابه عن الواقع الروسي؟ … وبحجة أن الماركسيين المخضرمين قد فقدوا الاتصال مع الوضع في روسيا وكانوا سيئي الاطلاع على احتياجاته، تم رفض بقائهم في قيادة الحركة. وحتى لو كانت لدى المجموعة رؤية أكثر واقعية للمطالب الراهنة، فإن بطأها وعدم كفاءتها جعلاها غير قادرة على القيام بالدور القيادي الذي تدعيه لنفسها. وطالما استمرت مقاليد القرار في يدها فإنه لا يمكن إنجاز المهام الأساسية. إن أولئك الذين أسسوا الحركة وأعطوها دفعة عظيمة في البداية تحولوا الآن إلى عقبة أمامها. إلا أنهم رغم ذلك يرفضون افساح المجال لأولئك المؤهلين بشكل أفضل والذين يمتلكون في نفس الوقت فهما واضحا للحاجيات ويمتلكون الطاقات الضرورية للتعامل معها. وكان آخر اتهام مماثل وجهوه لهم هو أن الموقف النقدي المبالغ فيه الذي تتبناه المجموعة وتعصبها تجاه الآراء المخالفة قد أعاقا تطور عقول أدبية جديدة ما أحوج الحركة إليها… لقد شن النقاد نوعا من حرب العصابات ضد المجموعة من خلال تنظيم المعارضة ضد القادة المخضرمين والهجوم على صلاحياتهم والتعبير عن قلة الاحترام لسلطتهم. إن ما كانوا يهدفون له بوضوح هو الحد من نفوذ القادة المخضرمين وربما فكروا حتى في عزلهم تماما والاستيلاء على قيادة الحركة».

كانت التوترات بين مجموعة تحرير العمل وبين الجيل الجديد من الشباب في روسيا مفهومة إلى حد ما. فبليخانوف، الذي خاض نضالا عنيدا للدفاع عن النظرية الماركسية، كان مترددا في السماح للوافدين الجدد بالمشاركة في العمل الأدبي والنظري. وقد أظهر التطور السياسي اللاحق لهؤلاء الأخيرين أنه كانت لبليخانوف أسباب وجيهة لهذا التخوف. ومن ناحية أخرى لم يكن بليخانوف شخصا يسهل العمل معه. فنزعته الأرستقراطية المتحفظة وانعدام الحساسية لديه كانت توغر الصدور عليه وتبعث على الاستياء منه وخاصة بين الرفاق الشباب الذين كان ينتقدهم بشكل دائم. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تروتسكي الشاب، الذي اصطدم بدوره لاحقا مع العجوز، وصفه بأنه “Maître de tous types de froideur”[94] (أستاذ لجميع أنواع البرودة). ومع ذلك فإن ما يكمن وراء هذه الحملة هو أنانية المثقفين التي تفاقمت من جراء الإحباطات المعتادة والصراعات الشخصية وصعوبات حياة المنفى. ومن ناحية أخرى كان ازدراء النظرية والنداءات الغوغائية إلى نهج “السياسة العملية” و“النشاط” نابعا من غطرسة المثقفين التي كانوا يخفون بها جهلهم المطبق. وقد لخص بارون موقف بليخانوف من هؤلاء الناس على النحو التالي: «إن انشغالهم بالمسائل الإدارية العملية يجعلهم مجرد بيروقراطيين وأشخاصا يفتقدون للعاطفة الثورية وذوي روح أضيق من أن تكون قادرة على فهم المنظورات العظيمة للحركة»[95].

حاولت فيرا زاسوليتش، كالعادة، التوفيق بين بليخانوف وبين “الشباب”. لكن مع حلول نهاية عام 1897، أخذت الأمور منحى خطيرا. فحتى ذلك الحين كانت الصراعات بين الاتحاد وبين مجموعة تحرير العمل تقتصر أساسا على المسائل التنظيمية وليس السياسية. لكن ظهور جريدة رابوتشايا ميسل (فكر العمال) أحدث تغييرا جذريا في الوضع.

رابوتشايا ميسل

في تلك المرحلة لم يكن من الصحيح الحديث عن الانحراف “الاقتصادوي” باعتباره تيارا مكتمل الهوية. لكن هذه المناقشة كشفت عن وجود اتجاهات مقلقة وتيار انتهازي جنيني أقلق “المخضرمين”، الذين تأكدت أسوأ مخاوفهم مع ظهور “رابوتشايا ميسل”، التي صدر عددها الأول بسان بيترسبورغ في أكتوبر 1887. عبرت تلك الجريدة عن أفكار التيار الجديد بأكثر الطرق وضوحا وفظاظة. وقد أوضح العدد الأول موقف الجريدة حيث جاء فيه:

«طالما كانت الحركة مجرد وسيلة لتهدئة ضمير المثقف المعذب (!) فإنها استمرت غريبة عن العامل نفسه… لقد تم نسيان القاعدة الاقتصادية للحركة بفعل المحاولة المستمرة لتذكر المثل الأعلى السياسي… بقي العامل المتوسط خارج الحركة… كان النضال من أجل المصالح الاقتصادية هو النضال الأكثر حزما والأقوى من حيث عدد الأشخاص الذين يفهمونه ومن حيث الكفاحية التي يدافع بها الشخص العادي عن حقه في الوجود. هذا هو قانون الطبيعة. إن السياسة دائما ما تتبع الاقتصاد بلطف، وكنتيجة عامة تنقطع أغلال السياسة “في الطريق”[96]. النضال من أجل الوضع الاقتصادي (؟)، النضال ضد الرأسمالية في مجال المصالح الحيوية اليومية، والإضرابات كوسيلة لهذا النضال، هذا هو شعار الحركة العمالية»[97].

الفكرة الأساسية التي تعرب عنها هذه الأسطر هي أن العمال لا يمكنهم أن يفهموا “السياسة” وليسو بحاجة إليها. والخلاصة المنطقية لهذه الفكرة هي أنه لا حاجة للحزب الثوري. إن ما يكمن وراء الدعوة الديماغوجية إلى استقلال العمال عن القيادة الفكرية هو، في الواقع، استقلال العمال عن الماركسية. إن الخطر الضمني لهذه الفكرة واضح، إذ لو تم القبول بحجج الاقتصادويين لتم إغراق الحزب بالفئات المتخلفة سياسيا من العمال. وبالفعل ففي الاجتماع الذي انعقد بين القادة الجدد لرابطة بيترسبورغ وبين لينين ومارتوف، عندما تمتعا بإطلاق سراح مشروط، في فبراير 1897، اقترح تاختاريف أن يتم قبول مندوبي النقابة (المجموعة المركزية للعمال) بشكل تلقائي داخل الرابطة. دافع لينين عن إدخال العمال إلى الحزب لكنه، في نفس الوقت، عارض إلغاء الحدود بين الحزب، الذي يمثل القطاع الأكثر تقدما من العمال، وبين المنظمات العمالية الواسعة، وخاصة في الوقت الذي كان فيه الحزب يصارع من أجل الوجود في ظل ظروف السرية الصعبة والخطيرة.

يلقى تيار الاقتصادويين بشكل عام، ورابوتشايا ميسل على وجه الخصوص، بطبيعة الحال، ترحيبا حارا في أيامنا هذه من طرف الصحافة البرجوازية المعادية للبلشفية، المستعدة لترويج أكثر الافتراءات وقاحة من أجل دعم أي تيار وقف ضد لينين. جوهر الافتراء هو تقريبا على النحو التالي: كان الاقتصادويون ديمقراطيين يدافعون عن “فتح الحزب” للعمال، في حين كان لينين متآمرا نخبويا وعازما على الحفاظ على القيادة في أيدي زمرة صغيرة من المثقفين الذين يهيمن عليهم هو نفسه. والمثال الكلاسيكي عن هذا هو كتاب أ. كـ. ولدمان: The Making of a Worker’s Revolution، والذي هو محاولة واضحة لاستخدام جدال الاقتصادويين عصا لضرب لينين. لكن للأسف “الحقائق أشياء عنيدة”، فبعد بحث حثيث اكتشف ولدمان أخيرا أنه كان هناك في الواقع عامل (واحد فقط) في هيئة تحرير رابوتشايا ميسل، بينما كان كل قادة رابوتشايا ميسل مثقفين من مجموعة تختاريف، انتهى المطاف بمعظمهم ليبراليين وأعداء شرسين للاشتراكية، وهو ما يفسر المعاملة المتعاطفة التي يلقونها في كتب التاريخ البرجوازية. كما اضطر ولدمان، ويا للمفاجئة! للاعتراف، في الصفحة 130 من كتابه، بأن «أنصار رابوتشايا ميسل، وعلى الرغم من سيطرتهم على القيادة، فشلوا في استقطاب ممثلي العمال إلى سويوز بوربي (رابطة النضال)، في تناقض صارخ مع التزاماتهم النظرية».

كما لم تسفر محاولتهم كسب ود “الجماهير”، من خلال ابتذال مستوى الخطاب معها، عن نجاح كبير. لا ينبغي لجريدة عمالية ثورية حقيقية أن تكتفي بأن تعكس الموقف الحالي والوعي الحالي للعمال، بل عليها أن تنطلق من المستوى الحالي للوعي وتعمل جاهدة على رفعه إلى مستوى المهام التي يطرحها التاريخ. وإلى جانب المواد التحريضية التي تتعامل مع الحياة اليومية ومشاكل العمال، ينبغي عليها أن تتضمن مقالات أكثر شمولية (الدعاية) وكذلك بعض المقالات النظرية. حتى ولدمان، المدافع المتحمس عن رابوتشايا ميسل، اضطر إلى الاعتراف بأنه «بعد بضعة أعمدة تصبح مملة تلك القصص التي لا نهاية لها عن “الاحتيال” و“الغش” من طرف أرباب العمل والعنف والاعتداءات من طرف رؤساء العمال [المراقبين]، والتي تتخللها تعابير صاخبة عن السخط»[98]. قد يشتري العامل مثل هذه الجريدة مرة واحدة أو مرتين، لكنه بعد أن يدرك أنها لا تعمل سوى على تكرار ما يعرفه بالفعل، وأنها لا تبذل أية محاولة لرفع مستوى فهمه أو لتعليمه أي شيء جديد، فإنه سوف يصاب بالملل حتما ويتوقف عن قراءتها. إذ لماذا ينبغي على المرء، في آخر المطاف، أن يشتري جريدة تخبره بما يعرفه بالفعل؟

المنظرون الفكريون لرابوتشايا ميسل، الذين حولوا بالكلمات العمال إلى صنم، أظهروا في الممارسة العملية احتقارهم لهؤلاء العمال من خلال تخفيض مستوى الجريدة، التي كانت مجرد نشرة تمجد الإضرابات. وفي سياق رغبتهم في أن يوسعوا “شعبيتهم” ويصدروا “جريدة جماهيرية”، وضع الاقتصادويون أنفسهم في مؤخرة الطبقة العاملة، وهو ما اتضح خلال الإضراب الكبير في مصنع ماكسويل وبول شهر دجنبر عام 1898. فالعمال المضربون، الذين تعرضوا لقمع وحشي من طرف الشرطة، قرروا الدفاع عن أنفسهم. وقد أظهرت رسائل العمال، التي وصلت إلى أيدي الاشتراكيين الديموقراطيين، أن هؤلاء العمال هم أكثر تقدما وثورية مما كان الاقتصادويون يعتقدون. كتبت إحدى العاملات من منطقة فيبورغ ما يلي:

«لا تعرفون كم كان ذلك مخجلا بالنسبة لي ولنا جميعا. كانت لدينا الرغبة في التسكع في شارع نيفسكي [شارع الطبقة الراقية الرئيسي وسط بيترسبورغ] أو في المدينة. إنه لأمر مقزز حقا أن يموت المرأ في حفرة مثل الكلاب حيث لا يمكن لأحد حتى أن يراه… وهناك شيء آخر أريد أن أقوله لكم: على الرغم من أنهم اعتقلوا الكثير منا، وربما لم يتركوا أحدا، فإننا سنبقى صامدين».

 وقال عامل آخر: “من المؤسف أنه لم تكن لدينا لافتة. في المرة القادمة ستكون لدينا لافتة ومسدسات”[99]. رحب الفرع المحلي للحزب الاشتراكي الديمقراطي بهذا التطور وأرسل مقالا حماسيا لمحرري رابوتشايا ميسل في الخارج، لكن أعضاء هيئة التحرير في المنفى أرفقوا الخبر ببيان انتقدوا فيه العمال على تعريض أنفسهم للقمع. وعندما توصلت مجموعة سان بيترسبورغ بذلك العدد شعر أعضاؤها بالسخط إلى درجة أنهم رفضوا توزيع الجريدة لعدة أشهر.

في كتيب كريمر الشهير، حول التحريض، تم شرح العلاقة بين التحريض الاقتصادي وبين النضال السياسي بشكل واضح، حيث أكد على أنه «بغض النظر عن مدى اتساع الحركة العمالية، فإن نجاحها لن يصير مضمونا إلا عندما تقف الطبقة العاملة بحزم على أساس النضال السياسي»، وأن: «حسم السلطة السياسية هو الاختبار الرئيسي للبروليتاريا المناضلة… وهكذا فإن مهمة الاشتراكي الديمقراطي تتمثل في التحريض المستمر بين عمال المصانع على أساس الاحتياجات والمطالب الصغيرة الفعلية. والنضال الناجم عن هذا التحريض سوف يدرب العمال على الدفاع عن مصالحهم الخاصة ويزيد من شجاعتهم ويمنحهم الثقة في قواهم الخاصة وإدراك ضرورة الوحدة ويجعلهم، في آخر المطاف، يواجهون أسئلة أكثر جدية تحتاج إلى حل. إن الطبقة العاملة، التي تم تحضيرها بهذه الطريقة لخوض نضال أكثر جدية، ستتوصل إلى حل أكثر قضاياها إلحاحا».

لكن الاقتصادويين فسروا هذا بطريقة أحادية الجانب تماما. فقد حولوا التحريض الاقتصادي و“النضالية” المفرطة إلى دواء لكل داء، وأعطوا للنظرية الثورية عمليا دورا ثانويا غير مهم. وبهذه الطريقة تحولت فكرة صحيحة إلى نقيضها، مما فسح المجال “لنظرية المراحل” المعادية للماركسية والتي صار لها، في وقت لاحق، تأثير كارثي بين أيدي المناشفة والستالينيين. كتب أحد الاقتصادويين (كريشيفسكي):

«إن المطالب السياسية، والتي هي في طبيعتها مشتركة بين كل أنحاء روسيا، يجب أن تتوافق في البداية مع الخبرة المستخلصة من النضال الاقتصادي لشريحة معينة من العمال. فقط على أساس هذه التجربة يصير من الممكن والضروري الانتقال إلى التحريض السياسي»[100].

تعبر هذه الأسطر بشكل واضح جدا عن الطبيعة الانتهازية للنزعة الإقتصادوية، والتي تنبع من الرغبة في إيجاد طريق مختصر نحو الجماهير عن طريق تمييع البرنامج الماركسي والتخلي عن المطالب “الصعبة” بحجة أن الجماهير ليست مستعدة لها. كانت هذه الظاهرة في الجوهر مشابهة لسياسة “الإنجازات الصغيرة” التي كان الشعبويون الليبراليون ينادون بها. وكانت تنسجم تماما مع النزعة الانتهازية الجبانة للماركسيين الشرعيين، الذين كانوا في الواقع يمثلون الجناح اليساري لليبرالية البرجوازية. وكان المتضمن في أفكار الاقتصادويين هو الخوف من الدخول في مواجهة مع السلطات القيصرية، من خلال تجنب المطالب السياسية ومحاولة تقديم نشاط الحركة الاشتراكية الديمقراطية على أنها “علاقة خاصة” بين العمال وأرباب العمل في المصانع، تاركين مسألة السلطة السياسية للآخرين. في الواقع كان مضمون كل حجج الاقتصادويين هو أن الحركة الاشتراكية الديمقراطية يجب أن تكيف نفسها بشكل سلبي مع الحدود الضيقة للشرعية أو شبه الشرعية الممنوحة لها من طرف الدولة القيصرية.

من خلال حصر أنفسهم في المطالب الاقتصادية كانوا يأملون تجنب غضب السلطات. وبهذا المعنى كانت النزعة الإقتصادوية صورة طبق الأصل للموقف الذي اتخذته الحركة الماركسية الشرعية. كانت بمثابة التخلي عن النضال الثوري وتسليم قيادة الحركة إلى الليبراليين. لكن مثل هذه الخطة لم تكن لتنجح، فإذا كان الاقتصادويون على استعداد للتخلي عن السياسة في النضال الديمقراطي الثوري ضد القيصرية، فإن الدولة القيصرية لم تكن مستعدة، بأي حال من الأحوال، لتقف بمعزل عن الصراع بين العمال والرأسماليين، حيث تعرضت الإضرابات للهجوم من طرف الشرطة والقوزاق ونفذت موجات متتالية من الاعتقالات ضد أكثر الفئات نشاطا ووعيا داخل الحركة العمالية.

ووفقا لتقرير الوفد البلشفي إلى مؤتمر الأممية الثانية في أمستردام، سنة 1904، لم يكن متوسط أمد حياة المجموعات الاشتراكية الديمقراطية في روسيا في ذلك الوقت يزيد عن ثلاثة إلى أربعة أشهر. وقد اكتسحت الموجة المستمرة من الاعتقالات الأعضاء الأكبر سنا والأفضل تكوينا من الناحية النظرية والأكثر خبرة، وتم استبدالهم بشباب عديمي الخبرة وضعيفي الاستعداد. كان هذا الواقع عنصرا هاما في النهوض السريع للاقتصادويين خلال النصف الأخير من عقد التسعينيات. إن الحزب الذي يعاني من هذا النزيف الكبير، والملزم بتجديد قيادته بسيل مستمر من الشباب عديمي الخبرة والسذج من الناحية النظرية، سيعاني حتما من انحطاط إيديولوجي معين وتراجع عام في مستواه السياسي. وعندما تكون الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب من الطلاب والمثقفين، فإن خطر الانحطاط السياسي للحزب وتدفق الأفكار الغريبة إلى داخله يصبح أكبر ألف مرة. الحزب الثوري الذي يفقد كوادره يفقد عموده الفقري، وعندما يفقد بوصلته النظرية يزيغ حتما عن مساره. وبدلا من أن يتدخل في حركة الطبقة العاملة، من أجل توفير القيادة السياسية الواعية لها، يصير مثل هذا الحزب قادرا فقط على السير في ذيلها. كان للماركسيين الروس كلمة معبرة لوصف هذا الاتجاه وهي: خفوستيزم (Khvostism = الذيلية). وبينما تمثل الماركسية الثورية القسم الأكثر وعيا بين صفوف الطبقة العاملة، فإن الإقتصادوية وجميع التيارات الإصلاحية الأخرى تجسد القسم الآخر النقيض. لم تكن الإقتصادوية أبدا اتجاها إيديولوجيا متجانسا.

لكن وعلى الرغم من كل المشاكل والنكسات كانت الحركة الجديدة تنمو بسرعة. تأسست مجموعات اشتراكية ديمقراطية في تفير وأرخانجيلسك ونيجني نوفغورود وكازان وساراتوف وخاركوف وكييف وييكاتيرينوسلاف وأوديسا وتفليس وباتوم وباكو ووارسو ومينسك وريغا، والعديد من المراكز الهامة الأخرى. ولأول مرة صار من الممكن للمرء الحديث عن منظمة ماركسية لعامة روسيا حقا. لكن الوضع الذي اضطرت هذه المجموعات للإشتغال في ظله لم يكن مساعدا على الوضوح الفكري والتماسك التنظيمي. كانت الاتصالات بينها صعبة وغير منتظمة وكانت تتعطل باستمرار. كانت الاعتقالات تؤدي، في كثير من الأحيان، إلى تحطيم بعض تلك المجموعات وظهور أخرى جديدة. وفي ظل هذه الظروف بدت مهمة إنشاء قيادة ثابتة وفعالة داخل روسيا شبه مستحيلة. وبشكل حتمي مالت تلك المجموعات الاشتراكية الديمقراطية المحلية إلى امتلاك نظرة ضيقة نوعا ما. إن غياب روابط مستقرة مع قيادة ممركزة على الصعيد الوطني والمشاكل الناجمة عن ظروف السرية وعدم نضج أغلب الأعضاء وقلة خبرتهم، كان يعني غلبة الطابع المحلي والهواية على الجزء الأكبر من العمل. وقد كان عدم اهتمام الاقتصادويين بالنظرية وإصرارهم الضيق الأفق على المهام العملية للعمل الجماهيري والتحريض، مجرد الوجه الآخر لنفس العملة. ربما كان من الممكن وصف الانحرافات الاقتصادوية لجزء من الشباب الروسي بكونها أخطاء إيديولوجية، لولا حقيقة أنها تزامنت مع ظاهرة أممية أكثر خطورة بكثير.

تحريفية برنشتاين

في عام 1898، وبمناسبة الذكرى الخمسين لكتابة البيان الشيوعي، أصيب بليخانوف بالرعب عند اطلاعه على مقال للزعيم الألماني البارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، برنشتاين، الذي صدر في صحيفة Die Neue Zeit (الأزمنة الحديثة)، والذي شكك في الأفكار الأساسية للماركسية. كتب بليخانوف قائلا: «لماذا؟ إن هذا إنكار كامل لكل من التكتيكات الثورية وللشيوعية. كادت هذه المقالات أن تسقطني مريضا طريح الفراش». كانت تلك مجرد الطلقة الاولى في حملة متواصلة شنها برنشتاين في صحافة الحزب الألماني لصالح “مراجعة” الماركسية. قال برنشتاين إن الماركسية تجاوزها التاريخ. وليست النظريات، “الحديثة” المزعومة، للقادة الإصلاحيين داخل الحركة العمالية في وقتنا الحالي، سوى منتجات مقلدة خرقاء لمفاهيم أعرب عنها باقتدار أكبر برنشتاين قبل مائة عام.

كان من بين ما قاله برنشتاين إن تركز الإنتاج الصناعي يسير بوتيرة أبطأ بكثير مما توقعه ماركس؛ كما أظهر العدد الكبير للشركات الصغيرة حيوية المشاريع الخاصة (“كل صغير جميل”، كما يقولون في أيامنا هذه!)؛ وبدلا من حدوث الاستقطاب بين العمال والرأسماليين، فإن وجود العديد من الفئات المتوسطة (“الطبقات الوسطى الجديدة”) يعني أن المجتمع أكثر تعقيدا بكثير مما اعتقد ماركس؛ وبدلا من “فوضى الإنتاج”، صار من الممكن التحكم في الرأسمالية إلى حد أن الأزمات أصبحت أقل تواترا وأقل حدة (الكينزية و“الرأسمالية الموجهة”)؛ والطبقة العاملة، فضلا عن كونها أقلية في المجتمع، مهتمة فقط بالتحسين الفوري للشروط المادية لوجودها (“الارتقاء الاجتماعي”).

وبطبيعة الحال لم تسقط هذه الأفكار من السماء. إنها كانت تعكس ضغط فترة طويلة من الازدهار الاقتصادي الرأسمالي الذي استمر لما يقارب عقدين من الزمن، والتي انتهت مع الحرب العالمية الأولى. أدت هذه الفترة من الهدوء النسبي والاجتماعي ومن التحسينات النسبية في مستويات المعيشة، على الأقل للفئات العليا من البروليتاريا في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا، إلى تنامي الوهم في أن الرأسمالية كانت في طريقها إلى حل تناقضاتها الأساسية. كما أدى النمو السريع لقوة ونفوذ الأحزاب العمالية والنقابات إلى نشوء شريحة جديدة من مسؤولي النقابات والبرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية والبيروقراطيين الحزبيين الذي ابتعدوا، سواء في ما يتعلق بظروفهم المعيشية أو بأفكارهم، عن الطبقة التي كان من المفترض أنهم يمثلونها. هذه الشريحة، التي صارت تعيش ظروفا مريحة وتحقق نجاحا واضحا في ظل الرأسمالية، وفرت القاعدة الاجتماعية للنزعة التحريفية، والتي هي ردة فعل برجوازية صغيرة ضد عواصف وإجهاد الصراع الطبقي، وميلها إلى حياة الراحة والرغبة في تحقيق انتقال سلمي وهادئ إلى الاشتراكية، في المستقبل البعيد.

في البداية كان رد فعل أكسلرود على مقالات برنشتاين في Die Neue Zeit أكثر تسامحا من رد فعل بليخانوف، الذي كان غاضبا جدا. في الواقع وصل كل من أكسلرود وزاسوليتش إلى درجة الإحباط بسبب ذلك الخلاف. وزاسوليتش، على وجه الخصوص، كانت قد بدأت تعذبها الشكوك. وحده بليخانوف من بقي ثابتا وسلح رفاقه وانخرط في المعركة. إن مقالات بليخانوف ضد برنشتاين وكونراد شميدت (في الفلسفة، دفاعا عن المادية الديالكتيكية) أظهرته في أبهى صورة له: مقاتل لا يكل ولا يمل في الدفاع عن الأفكار الأساسية للماركسية. كما شن أبرز ممثلي الجناح اليساري داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، روزا لوكسمبورغ وبارفوس، هجوما مضادا شرسا، لكن ما صدم بليخانوف أكثر من أي شيء آخر كان هو رد فعل كاوتسكي.

كاوتسكي، الذي كان يعتبر حارس الماركسية الأرثوذكسية بامتياز، كان أيضا صديقا شخصيا لبليخانوف. لكنه الآن لم يسمح فقط باستخدام Die Neue Zeit – التي كان رئيس تحريرها- لشن تلك الانتقادات اللاذعة المعادية للماركسية، بل إنه ايضا امتنع في البداية عن انتقاد برنشتاين في الصحافة. في ضوء التطورات اللاحقة صار صمت كاوتسكي مفهوما. كانت ماركسية كاوتسكي ذات طابع سكولاستيكي مجرد في كل ما قدمه من أطروحات مدرسية عن الثورة والصراع الطبقي. وفي حين اعتبر بليخانوف برنشتاين عدوا يجب مهاجمته وفضحه وطرده، إذا لزم الأمر، فإن كاوتسكي كان ما يزال يرى فيه الرفيق الذي أخطأ، والذي يجب ألا تفسد أخطاءه النظرية العلاقة الودية معه. وقد تبين موقف كاوتسكي بوضوح في خطاب كتبه إلى أكسلرود، يوم 09 مارس 1898، حيث هنأه على مقالاته ضد برنشتاين بالعبارات التالية:

«أنا مهتم جدا برأيك في إدي [برنشتاين]. في الواقع أخشى أننا نفقده… لكنني مع ذلك لم أفقد الأمل وأتمنى أنه عندما يدخل في اتصال شخصي معنا، ولو كتابة، سوف يعود شيء ما من ذلك المقاتل القديم إلى هاملت (كذا)، وأنه سوف يعود، مرة أخرى، إلى توجيه انتقاداته ضد العدو وليس ضدنا»[101].

وعندما أجبره بليخانوف أخيرا على كتابة رد علني، حرص كاوتسكي على اختيار أكثر العبارات نعومة، وكاد يعتذر له تقريبا على القيام بذلك: «لقد أجبرنا برنشتاين على إعادة النظر في الأمور ولهذا يجب علينا أن نشكره». بليخانوف الذي أصابه هذا بالحنق كتب رسالة مفتوحة إلى كاوتسكي بعنوان: “لماذا علينا أن نشكره؟” والتي طرح فيها، من بين أمور أخرى، السؤال التالي بوضوح: «من الذي سيدفن الأخر؟ هل برنشتاين هو الذي سيدفن الاشتراكية الديمقراطية، أم أن الاشتراكية الديمقراطية هي التي ستدفن برنشتاين؟»[102].

وفي حين كان رد أعضاء مجموعة تحرير العمل بشكل حاد على محاولة برنشتاين تمييع تعاليم ماركس الثورية، فإنه تمكن من ايجاد معجبين به بين الروس. قبل ذلك كانت انحرافات الاقتصادويين تفتقر إلى أساس نظري متماسك. أما الآن فقد تمسكوا، بدءا من المنفيين، بقوة بأفكار برنشتاين لتبرير نزعاتهم الانتهازية. وعلى الرغم من أن رابوتشايا ميسل سعت إلى تجنب السياسة مثلما يتجنب المرأ الطاعون، فإنه كان لها خط سياسي واضح جدا: خط إصلاحي ومعاد للثورة، كتبت:

«إن تطوير تشريعات المصنع وتأمين العمال ومشاركة العمال في الأرباح وتطور النقابات، سوف يؤدي تدريجيا إلى تحويل المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي… ليس تفاقم فقر البروليتاريا وليس تفاقم الصراع بين الرأسمال والعمل وليس تفاقم التناقضات الداخلية للإنتاج الرأسمالي هو ما سيؤدي إلى الاشتراكية، بل نمو وتطور قوة ونفوذ البروليتاريا هو ما سيؤدي إليها»[103].

كان منظرو رابوتشايا ميسل من الطلاب والمثقفين، ومن خلالهم كان تأثير اللبراليين البرجوازيين يمر إلى الحركة العمالية. لم يكن إعجابهم الواضح ببرنشتاين من قبيل الصدفة، فلقد شكلوا النسخة الروسية الخاصة لظاهرة التحريفية العالمية والتي كانت بدورها تعبيرا عن مصالح “التقدميين” من أبناء الطبقة الوسطى في الغرب، الذين اقتربوا من الحركة العمالية عندما صار من الواضح أن هذه الأخيرة قد تمكنت من التحول إلى فاعل اجتماعي قوي وبالتالي أصبحت مصدرا محتملا للوظائف والمكانة الاجتماعية والدخل. في الواقع سبق لإنجلز أن حذر الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، منذ بداياتها الأولى، من التأثير الضار لهؤلاء “Katheder Sozialisten”، أناس مثل دوهرنغ الذين تطوعوا بكرم لتقديم خدماتهم للحركة العمالية بهدف دفعها نحو طريق التعاون الطبقي الإصلاحي.

ومع ذلك فإن المقارنة ليست صحيحة إلا في حدود معينة فقط. فالسياق الاجتماعي الذي نشأت في ظله الحركة الإقتصادوية مختلف جدا عن ذلك الذي ظهرت في ظله التحريفية الألمانية وازدهرت. وتماما مثلما كانت البرجوازية الروسية ضعيفة وهزيلة مقارنة مع البرجوازيات الألمانية والفرنسية والبريطانية القوية، فإن البرنشتاينيين الروس كانوا الحلقة الأضعف في الحركة الانتهازية العالمية. لم تكن لديهم أفكار خاصة بهم ما عدا الأفكار المزاجية والأحكام المسبقة السائدة بين المثقفين. كل المتاع الايديولوجي الذي امتلكوه كان من إنتاج الألمان والبريطانيين. للإصلاحية قاعدة مادية، فقد كانت الرأسمالية في بريطانيا وألمانيا وفرنسا ما تزال لديها دورا تقدميا لتلعبه في تطوير القوى المنتجة وكانت مرحلة الازدهار الاقتصادي، التي سبقت الحرب العالمية الأولى وتحسن أوضاع قسم من الجماهير وما ترتب عن ذلك من تلطيف في العلاقات بين الطبقات، هي الأساس الاجتماعي والاقتصادي لصعود التحريفية البرنشتاينية. لكن البذور التي ازدهرت في تربة التقدم الاقتصادي في الغرب أثبتت أنها عقيمة تقريبا في التربة الروسية القاسية. ففي روسيا لم تكن هناك أرستقراطية عمالية كبيرة، بل فقط كتلة من البروليتاريين المفقرين المستعبدين على نطاق واسع في الصناعة. ولم تتمكن الأفكار الإقتصادوية من العثور على صدى لها بين صفوف الطبقة العاملة سوى في مكان واحد فقط.

مع وجود جميع القادة الأكثر خبرة تقريبا في السجن، تراجع المستوى النظري والسياسي للأعضاء المتوسطين إلى نقطة منخفضة للغاية وأصبحت الأفكار الإقتصادوية منتشرة على نطاق واسع في اللجان المحلية. وقد ظهرت النتيجة العملية لهذا الوضع في يوم فاتح ماي 1899، عندما رفعت مجموعة من الشباب في بيترسبورغ لافتة تدعو إلى إقرار يوم عمل من عشر ساعات، عوض الشعار المقبول أمميا والمطالب بيوم عمل من ثماني ساعات، وهو الفعل الذي ندد به العدد الأول من جريدة زاريا (Zaryaas) باعتباره “خيانة للحركة الاشتراكية الديمقراطية الأممية”[104].

من أجل وضع الحركة في روسيا على أساس وطيد، كان لا بد من وضع حد لهذه الحالة. فالحاجة الملحة لحزب موحد مع قيادة مستقرة، وقبل كل شيء الحاجة لصحيفة ماركسية لعموم روسيا، ظهرت واضحة للجميع. لم يصبح توحيد حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي اقتراحا قابلا للتطبيق إلا مع إصدار إيسكرا لينين. لكن قبل ذلك كانت هناك محاولة لبناء الحزب من خلال مؤتمر تأسيسي.

المؤتمر الأول للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي

على الساعة العاشرة من صباح يوم 01 مارس 1898 (17 مارس حسب التقويم القديم)، اجتمع تسعة أشخاص في شقة عامل بالسكك الحديدية، يدعى روميانتسيف، في بلدة مينسك. كان الغرض من اللقاء ظاهريا هو الاحتفال بيوم تسمية[105] زوجة روميانتسيف. في الغرفة المجاورة كان المجتمعون يحتفظون بموقد مشتعل، ليس بسبب البرد، بل لإحراق الوثائق في حال حدوث مداهمة من طرف الشرطة. كان هذا الاجراء الاحترازي ضروريا بشكل واضح بالنظر إلى قرب مكان الاجتماع من ثكنة للشرطة وكون التسعة أشخاص المعنيين هم قادة المجموعات الاشتراكية الديمقراطية في موسكو وكييف و بيترسبورغ وييكاتيرينوسلاف، فضلا عن هيئة تحرير جريدة رابوتشايا غازيتا (مجلة العمال) ومنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين اليهود -البوند-. في هذه الظروف انعقد أول وآخر مؤتمر للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية على الأراضي الروسية في ظل القيصرية. كانت قد اتضحت الحاجة، منذ عدة سنوات، لعقد مؤتمر لإضفاء الطابع الرسمي على وجود الحزب وانتخاب قيادة له وتوحيد المجموعات المحلية. ومن زنزانته في السجن، كان لينين قد تمكن، في وقت سابق، من تهريب مشروع برنامج للحزب، كتبه بشق الأنفس بالحليب بين سطور أحد الكتب.

وقد تم بالفعل إحراز بعض التقدم. فقد وافقت المجموعات السرية على تسمية نفسها رابطات النضال من أجل تحرر الطبقة العاملة، بل وإصدار جريدة سرية بعنوان رابوتشي ديلو (قضية العمال). وتم تشكيل لجنة سرية في كييف لغرض طباعة الجريدة، التي ظهر عددها الأول في غشت 1897 (على الرغم من أنها أرخت بشهر نوفمبر لأسباب أمنية). كما عهد إلى منظمة كييف بوضع الترتيبات لعقد المؤتمر، بالنظر إلى تمكنها من النجاة من أسوء موجات الاعتقالات. ومع ذلك فإن محاولة عقد المؤتمر داخل روسيا، في ظل تلك الظروف، كانت محفوفة بالصعوبات. لم يتم استدعاء بعض المجموعات، مثل مجموعة الشباب في بيترسبورغ ومجموعات أوديسا ونيكولاييف واتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين بالخارج، بالنظر إلى المخاطر الأمنية. بينما رفضت مجموعة خاركوف، من ناحية أخرى، المشاركة بحجة أن تأسيس الحزب مهمة سابقة لأوانها.

لم يكن من قبيل الصدفة أن عقد المؤتمر الأول في مينسك. كانت المناطق البولندية والغربية، كما سبق لنا أن رأينا، بؤرا للتحريض الثوري المناهض للنظام القيصري، حيث اجتمع الاضطهاد الاجتماعي والقومي لخلق وضع متفجر. وقد كانت حركة إضرابات عقد التسعينيات بمثابة نقطة تجميع لغضب القوميات المضطهَدة ومشاعر المرارة والكراهية المتراكمة لديها، وخاصة بين صفوف اليهود. أدت حركة العمال والحرفيين اليهود إلى إقامة اتحاد العمال اليهودي العام لليتوانيا وبولندا وروسيا في عام 1897، قبل عام من عقد المؤتمر الأول للحزب الروسي نفسه. كان البوند خلال السنتين أو الثلاث سنوات الأولى بعد تشكيله، كما قال زينوفييف: “التنظيم الأقوى والأكثر عددا داخل صفوف حزبنا”[106]. وفي وقت المؤتمر الأول كان البوند يتمتع بأكبر الموارد وأكبر عدد من الأعضاء بين الجماعات الاشتراكية الديمقراطية الروسية الأخرى، كان يمتلك 14 منظمة محلية (أو “لجان” كما كانت تعرف آنذاك) في وارسو ولودز وبيلوستوك ومينسك وغوميل وغرودنو وفيلنا ودفنسك وكوفنو وفيتيبسك وموغيليف وبيرديشيف وجيتومير وريغا. كما وجدت أيضا لجان أصغر في العديد من المناطق الأخرى، بما في ذلك كييف وأوديسا وبريست ليتوفسك.

لكن منظمة البوند كانت دائما أقرب إلى حركة نقابية منها إلى حزب ثوري. وحتى أكيموف اعترف بأن المستوى السياسي لقادتها كان منخفضا: «أعتبر هذا بمثابة قصور لا شك فيه عند البوند: إن البروليتاريا اليهودية تفتقر إلى المنظرين»[107]. في الواقع، وكما رأينا من قبل، لم يكن القسم الأكبر من أعضائها مشكلا من البروليتاريين، بل من الحرفيين. تألفت القيادة من لجنة مركزية من ثلاثة أعضاء ينتخبون في مؤتمر يعقد كل سنتين. على المستوى المحلي كان البوند ينظم المجموعات النقابية (والتي غالبا ما تترجم بشكل خاطئ باسم “المجالس المهنية”) ولجان الدعاية ولجان المثقفين وحلقات النقاش ولجان التحريض، والتي كانت، على ما يبدو، تعمل بشكل مستقل إلى حد ما عن بعضها البعض. كانت المجموعات النقابية تضم ما بين 05 و10 أعضاء من البوند يشتركون في مهنة معينة، وكانت تعين من طرف اللجنة المركزية، ويبدو أنها كانت تجتمع بشكل منتظم لمناقشة المسائل النقابية. فقط بعد شهر غشت من عام 1902 قام البوند، تحت ضغط الإيسكرا، بتشكيل لجان ثورية تجمع العمال الأكثر تقدما بشكل منفصل ومستقل عن المجموعات النقابية. كانت كل هياكل البوند مبنية على أساس غير ماركسي تماما، من خلال فصلها الصارم بين العمال في المجموعات النقابية وبين المثقفين الذين كانوا يعملون بشكل مستقل في اللجان الخاصة بهم.

على الرغم من أوجه القصور التي كان البوند يعانيها فإن العمال والحرفيين الاشتراكيين اليهود لعبوا دورا هاما خلال الأيام الأولى للحركة. وقد كان انعقاد المؤتمر الأول في مينسك اعترافا بهذا الدور. وحده البوند من كان يمتلك الموارد اللازمة لتنظيم مثل هذا المؤتمر رغم رقابة الشرطة القيصرية. وبفضل مهاراتهم التنظيمية تمكن المؤتمر من إكمال أشغاله بنجاح في ست جلسات جرت على مدى ثلاثة أيام. وبما أنه لم تتم صياغة أية تقارير فإن كل ما نعرفه عن أشغاله موجودة عمليا في القرارات. وتحت ضغط البوند تم الاتفاق على أن «يدخل الاتحاد العام لعمال روسيا وبولندا إلى الحزب كمنظمة مستقلة خاصة في تلك المسائل التي تتعلق بالبروليتاريا اليهودية»[108].

كان من شأن هذا التنازل الذي قدم للأحكام القومية المسبقة للبوند أن يثير جدالا كبيرا في الفترة اللاحقة، عندما احتلت المسألة القومية مكانا مركزيا في نقاشات الماركسيين الروس. فلينين الذي ناضل بحزم ضد اضطهاد الأقليات القومية بجميع مظاهره ودافع عن حقوق القوميات المضطهَدة، بما في ذلك حقها في تقرير المصير، أصر في نفس الوقت على ضرورة الحفاظ على وحدة منظمات العمال وناضل ضد أي توجه لتفريقهم على أسس قومية.

تمكنت الحركة الاشتراكية الديمقراطية، كما رأينا، من تحقيق تقدم مذهل بين العمال والحرفيين اليهود في المنطقة الحدودية الغربية للإمبراطورية الروسية. لكن قيادة منظمة العمال اليهود (البوند) تماهت بشكل وثيق مع وجهة نظر الإصلاحيين الاقتصادويين. أدى عدم وجود مركز قيادي قوي إلى تفاقم النزعات المحلية، والتي كانت لها آثار ضارة خاصة على العلاقة بين الاشتراكيين غير الروس ونظرائهم الروس. بدأت قيادة البوند تطور نظرة قومية ضيقة كانت ستؤدي، لو تركت لحالها، إلى عواقب خطيرة للغاية بالنسبة للعمال اليهود أنفسهم، باعتبارهم أقلية مضطهَدة. قال أوسيب بياتنتيسكي إنه في عام 1902: «كان العمال اليهود هم أول من حققوا التنظيم، وكان العمل بينهم أسهل مما كان بين العمال الليتوانيين والبولنديين والروس. ولم يقم المركز القيادي للعمال اليهود بأي عمل بين العمال غير اليهود ولم يرغب في القيام بذلك».

وفي الوقت نفسه أدت الانقسامات القومية إلى تقسيم حتى المنظمات القاعدية للطبقة العاملة. لم تكن هناك ولو نقابة واحدة في غرب روسيا تقبل بعضوية العمال من جميع الجنسيات. الأحزاب نفسها، والتي كانت مقسمة على أسس قومية، حافظت على نقاباتها الخاصة: الاشتراكيون الديمقراطيون الليتوانيون والاشتراكيون الديمقراطيون البولنديون، والبوند بطبيعة الحال. ولعبت دورا سلبيا للغاية في تكريس الانقسامات التي كانت تضر بشكل خطير بقضية العمال بشكل عام وقضية العمال اليهود على وجه الخصوص. كان العمال اليهود يؤيدون الوحدة بشكل غريزي، لكن القادة أصروا على إبقائهم منفصلين. يذكر بياتنيتسكي اجتماعا حضره للجنة للبوند:

«حيث تمت مناقشة حقيقة أنه نظرا لعدم وجود الوعي الطبقي عند العمال الروس فإنهم كانوا يعرقلون النضال الاقتصادي للعمال اليهود، إذ عندما يخوض هؤلاء الأخيرين الإضراب يقوم العمال الروس بالاستيلاء على مناصب شغلهم. وجاء قرارهم بشأن هذه المسألة مبنيا على حكمة سليمان: يجب أن يقوم بعض العمال الروس بالتحريض بين رفاقهم»[109].

كانت التقاليد الحرفية الضيقة والطبيعة الحرفية الصغيرة للكثير من المشاريع في تلك المنطقة هي القاعدة الاجتماعية التي قامت عليها المنظمة الاشتراكية الديمقراطية اليهودية (البوند) وتطورت. أظهر صاغة المجوهرات والإسكافيون والخياطون والنقاشون وعمال التجميع والدباغون، في فيلنا، ميلا إلى أفكار الإقتصادوية أكبر مما أظهره عمال النسيج والمعادن في بيترسبورغ. لكن حتى في فيلنا نفسها كان السبب الحقيقي لهذه الظاهرة يقع على عاتق الارتباك الأيديولوجي للقيادة. حتى فلاديمير أكيموف، الاقتصادوي المتعصب، وجد نفسه مجبرا على الاعتراف، في كتابه عن السنوات الأولى للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، بأن العمال الاشتراكيين الديمقراطيين في فيلنا كانوا يشتكون من أن الحزب “ليس سياسيا بما فيه الكفاية”.

«كان العمال أنفسهم هم الذين طالبوا بإدخال العنصر “السياسي” في التحريض الاشتراكي الديمقراطي. كانوا هم الذين عقدوا العزم على فضح أخطاء النظام السياسي وطرح مسألة افتقار الناس للحقوق وصياغة مصالح العمال باعتبارهم مواطنين. لكن المنظمة الثورية، التي كانت تأمل في قيادة (!!) الحركة العمالية نحو الأفكار الاشتراكية الديمقراطية، كانت تخشى من أن لا تفهم من قبل الجماهير العاملة (!)، ومن أن تفقد نفوذها إذا ما هي رفعت الآن مطالبها الخاصة بالحقوق “السياسية” باعتبارها مطالب البروليتاريا. هل كانت الطبقة العاملة واعية سياسيا بما فيه الكفاية لتفهم وتعي مصالحها الخاصة؟ لم يكن القادة متأكدين من ذلك وترددوا في التحرك»[110].

توضح هذه الأسطر القليلة، أفضل من أي شيء آخر، موقف الازدراء الذي يكنه الاقتصادويون للعمال الذين من المفروض أنهم يتكلمون باسمهم. الفكرة الأساسية هي الانعدام التام للثقة في قدرة العمال العاديين على فهم الحاجة إلى النضال السياسي. ومع ذلك فإن الحاجة للتغيير الاجتماعي والسياسي تواجه العمال في كل مرحلة من مراحل النضال. إن العمال الذين ينطلقون من النضال الإقتصادي ضد أرباب الأعمال الفرادى يصلون حتما، في لحظة معينة، إلى الاستنتاج بضرورة إحداث تغيير شامل للمجتمع. وقبل ذلك بوقت طويل تفهم البروليتاريا، كما يثبت ذلك كل تاريخ الحركة العمالية منذ الحركة الشارتية فصاعدا، ضرورة النضال من أجل كل مطلب سياسي وديمقراطي جزئي يسهم في تعزيز موقفها وتطوير منظماتها الطبقية وخلق شروط أفضل لخوض نضال ناجح ضد مضطهديها.

وبالنظر إلى التاريخ الدموي للنظام القيصري الروسي كان الحفاظ على موقف مبدئي بشأن المسألة القومية يطرح بلا شك صعوبات هائلة. وكدليل على درجة انعدام الثقة والتوتر بين القوميات قرر الحزب الاشتراكي الديمقراطي الليتواني، بعد بعض التردد، عدم حضور مؤتمر الحزب “الروسي”، مما أثار استياء دزيرجينسكي، الذي كتب في وقت لاحق: «كنت ألد عدو للنزعة القومية واعتبرت أن أكبر خطأ في عام 1898، حينما كنت في السجن، كان عدم مشاركة الاشتراكيين الديمقراطيين الليتوانيين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الموحد»[111].

وبالمثل فإن المؤتمر قدم بعض التنازلات لضغوط اللجان المحلية الحريصة على استقلاليتها. يقول القرار:

«إن اللجان المحلية ستقوم بتنفيذ توجيهات اللجنة المركزية بالطريقة التي تراها مناسبة في شروطها المحلية. وفي حالات استثنائية تحتفظ اللجان المحلية بالحق في رفض تنفيذ مطالب اللجنة المركزية، مع إبلاغها عن أسباب ذلك الرفض. وفي كل الأمور الأخرى ستعمل اللجان المحلية بطريقة مستقلة تماما، مسترشدة فقط ببرنامج الحزب»[112].

تم انتخاب لجنة مركزية من ثلاثة أعضاء؛ وتم الاتفاق على إصدار بيان. واعترف باتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في الخارج ممثلا للحزب في الخارج. واعتبرت رابوتشايا غازيتا الجريدة الناطقة باسم الحزب. لكن الآمال التي أثارها المؤتمر لم يتم الوفاء بها. كتب أحد المشاركين (توشابسكي) في مذكراته:

«خرجنا من المؤتمر بشعور من الإيمان الفرح بقضيتنا. وعند صولي إلى كييف قدمت تقريرا إلى الرابطة ولجنة العمال. تمت الموافقة بالكامل على قرارات المؤتمر. وبدا الأمر كما لو أن العمل سوف يتقدم الآن إلى الأمام بشكل أفضل وأكثر نجاحا مما كان عليه في الماضي. لكن بعد أسبوع واحد فقط على عودتي كانت منظمة كييف قد سحقت»[113].

وقبل انتهاء شهر على المؤتمر كان خمسة من أصل تسعة مشاركين قد اعتقلوا، بمن فيهم أحد أعضاء اللجنة المركزية. كان الإنجاز الوحيد للجنة المركزية هو نشر البيان المتفق عليه، الذي كتبه ستروفه، الذي كان قد بدأ يتجه نحو اليمين، لكنه قام فيه بعمل جيد مثل آخر خدمة يقدمها للقضية التي سرعان ما خانها. حقق المؤتمر الأول كل ما كان قادرا على تحقيقه. فالحزب تحقق على الأقل كإمكانية وراية وبيان. لكن الظروف في روسيا جعلت من المستحيل توحيد الحزب على أساس مبدئي. كل ما كان في مقدور المؤتمر القيام به هو تحديد الاتجاه. ومن 1898 حتى عام 1917 لم يعقد أي مؤتمر آخر للحزب على الاراضي الروسية. لقد أثبتت التجربة استحالة بناء مركز سياسي قادر على الاستمرار، في ظروف السرية، داخل روسيا. انتقل مركز ثقل المنظمة حتما إلى الخارج، حيث كان في مقدور القوى الماركسية الثورية إعادة تنظيم نفسها، في ظل ظروف آمنة نسبيا، والاستعداد للمرحلة المقبلة، أي: تنفيذ ما تم الشروع فيه في مينسك عام 1898.

من الناحية العملية لم يغير المؤتمر سوى أشياء قليلة جدا. قال تروتسكي، الذي كان قد سمع عنه في السجن في خيرسون، إنه “بضعة أشهر بعد ذلك، لم يعد أحد يتحدث عن المؤتمر”[114]. وبعد الموجة الأولى من الإثارة، غرقت اللجان المحلية مرة أخرى في روتين العمل المحلي والاكتفاء بإصدار منشورات وبيانات لا حصر لها في اتصال مع حركة الإضرابات التي استمرت في الانتشار. وواصلت المجموعات داخل روسيا في العمل باتصالات ضعيفة أو منعدمة مع بعضها البعض، وبدون أي شكل من أشكال القيادة السياسية الممركزة. وإلى الارتباك السياسي السائد انضافت الفوضى التنظيمية وأساليب الهواية في العمل.

رابوتشييه ديلو

من المفارقات أن انعقاد المؤتمر الأول تزامن مع دخول مجموعة تحرير العمل في أزمة عميقة. كانت العلاقات مع الشباب المنفيين على حافة الانهيار. ولم يؤد مؤتمر اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين في الخارج، الذي انعقد في زيوريخ في نوفمبر 1898، إلا إلى تأكيد عزلة مجموعة تحرير العمل. كانت للشباب في ذلك الاجتماع الأغلبية وقد استخدموها للسيطرة على الاتحاد. ونظرا للخلافات الحادة في الرأي التي ظهرت آنذاك داخل الاتحاد، لم يجد مناضلو مجموعة تحرير العمل أي خيار سوى الاستقالة من مناصبهم. كان قادة الاتحاد، ولا سيما كريشيفسكي وإيفاشين وتيبلوف، يميلون نحو مواقف الاقتصادويين، لكنهم كانوا يشعرون بالحرج من النزعة الإصلاحية والبيرنشتينية الصريحة لرابوتشايا ميسل، التعبير الأكثر تطرفا للإقتصادوية، والممثلة في الاتحاد من طرف س. ن. بروكوبوفيتش وزوجته ي. د. كوسكوفا. لذلك قرروا التخلي عن صحيفة رابوتنيك، وإصدار جريدة خاصة بهم هي: رابوتشييه ديلو، وذلك تماشيا مع قرارات مؤتمر مينسك.

في حين تبنت رابوتشايا ميسل دفاعا واضحا وصريحا عن نظرية برنشتاين وعن الإقتصادوية، مثلت رابوتشييه ديلو، كما لاحظ لينين، نزعة «فضفاضة وغير محددة، لكنها لهذا السبب أكثر ثباتا وأكثر قدرة على فرض نفسها في أشكال متنوعة»[115]. صدرت الجريدة باعتبارها لسان حال اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في الخارج، ما بين 1899 و1902، بهيئة تحرير موجودة في باريس ومطبعة في جنيف. ضمت هيئة تحريرها متحدثين بارزين باسم الإقتصادوية مثل ب. ن. كريشيفسكي وأ. س. مارتينوف. وقد انتقل مارتينوف هذا في وقت لاحق من الإقتصادوية، عبر المنشفية، نحو الستالينية، دون الحاجة إلى تعديل مبادئه الأساسية في أي مرحلة من المراحل.

ومنذ البداية لعب الرابوتشيون لعبة القط والفأر مع الأفكار الماركسية، زاعمين أن خلافاتهم مع مجموعة تحرير العمل ليست سياسية بل تنظيمية وتكتيكية. ومع ذلك فإن الصلة بين رابوتشييه ديلو وبين البرنشتاينية واضحة من خلال المقالات التي ظهرت في الصحافة الاشتراكية الأوروبية، والتي كتبها محررو رابوتشييه ديلو دفاعا عن برنشتاين وميلرند (الزعيم الاشتراكي الانتهازي الفرنسي الذي شارك في حكومة ائتلافية برجوازية في السنوات الأولى من القرن العشرين). يعود الفضل إلى أنصار رابوتشييه ديلو في اختراع نظرية المراحل سيئة الذكر، والتي تبناها المناشفة بشكل معدل، في وقت لاحق، ثم تبناها الستالينيون بعدهم. تقول هذه النظرية الميكانيكية الإصلاحية الفجة إنه قبل أن يصبح العمال جاهزين للقيام بالثورة الاشتراكية عليهم أولا أن يمروا من خلال عدد من المراحل. حيث عليهم أن يكتفوا في المرحلة الأولى بالتحريض الاقتصادي المحض، ثم بعد ذلك التحريض السياسي المرتبط ارتباطا مباشرا بالتحريض الاقتصادي، ومن ثم التحريض السياسي الخالص! لكن العمال الروس، في الواقع، لم ينتظروا الاقتصادويين ليحددوا لهم متى سيصيرون مستعدين للتحريض السياسي، بل إنهم بدءوا في خوض الصراع السياسي، كما اتضح في التطور المتصاعد للإضرابات السياسية والمظاهرات في السنوات الأولى من القرن العشرين.

كانت تلك أسوء اللحظات في حياة مجموعة تحرير العمل. دفعت العزلة وضغوط الصراعات التكتلية إلى السطح بكل الخلافات المتراكمة داخل المجموعة، وكانت أخطر الخلافات على وجه الخصوص تلك التي ظهرت حينها بين أكسلرود وبليخانوف. كان لأكسلرود سبب وجيه للشكوى، حيث كان عليه طيلة سنوات أن يحمل عبء العمل مع الاتحاد، وتحمل وطأة هجمات الشباب، في حين كان بليخانوف غارقا في العمل الأدبي، بل إنه أهمل مؤخرا حتى ذلك العمل. تجاهل بليخانوف لفترة طويلة مناشدات أكسلرود له بالتدخل ضد التيار الجديد، وبدلا من ذلك حاول أن يتعاون مع الجريدة الجديدة، التي كانت قد بدأت تكسب الشعبية. أسباب موقفه ربما كانت متنوعة: فقد يكون سبب ذلك أنه كان غارقا في النضال ضد برنشتاين، مما جعله يستنكف عن إضاعة الوقت والجهد في التورط في ما بدا له وكأنها مشاحنات تافهة، أو أنه قلل من حجم الخطر، الذي اعتبره مرحلة عابرة ونزق الشباب. وأغلب الظن هو أنه كان يخشى حدوث انشقاق مع الشباب مما كان من شأنه أن يؤدي إلى قطع علاقاته مع روسيا ويتعرض للاتهام بأنه يقوض عمل الرفاق في الداخل. كان افتقاد قاعدة دعم داخل روسيا مشكلة خطيرة لبليخانوف ورفاقه.

ولكن مع مطلع عام 1899، لم يعد بليخانوف قادرا على التحمل أكثر. كانت القشة الأخيرة التي قصمت الظهر هي عندما تفاخر برنشتاين بأن غالبية الاشتراكيين الديمقراطيين الروس كانوا أقرب إلى أفكاره من قربهم لأفكار بليخانوف. وقد اصطف الماركسيون الشرعيون أيضا ستروفه وبولياكوف وبيردياييف علنا وراء النزعة التحريفية. وكان الشيء الأخطر من كل ذلك هو سيطرة الشباب الاقتصادويين، ابتداء من دجنبر 1898، على فرع الحزب الاشتراكي الديمقراطي بسان بيترسبورغ. بليخانوف الذي صار يدرك آنذاك أن التيار الاقتصادوي، الذي كان غير متبلور حتى تلك الفترة، قد صار الآن تنويعة روسية خاصة لتحريفية برنشتاين، قرر الاشتغال على رد شامل، فألف مقاله الشهير “دليل موجه إلى هيئة تحرير رابوتشييه ديلو”، والذي ظهر في عام 1900. أتبعه بمقال آخر: “مرة أخرى الاشتراكية والنضال السياسي”، الذي نشر في الصحيفة النظرية الجديدة زاريا، والذي انتقد فيه محاولة رابوتشييه ديلو طمس الفوارق بين الطليعة الثورية الواعية وبين جماهير الطبقة العاملة، كتب قائلا:

«إن الطبقة العاملة كلها شيء، والحزب الاشتراكي الديمقراطي شيء آخر، لأنه لا يشكل سوى كتيبة من الطبقة العاملة، وفي البداية هو كتيبة صغيرة جدا… أعتقد أنه يجب على حزبنا، الذي يمثل الطليعة المتقدمة للبروليتاريا وشريحتها الأكثر انسجاما وثورية، أن يبدأ الصراع السياسي فورا»[116].

وقد ألقى بليخانوف بنفسه حينذاك في ذلك الصراع، بغض النظر عما إذا كان سيتسبب في حدوث الانقسام. وقد تلقت ثقته الجديدة بالنفس دفعة قوية نتيجة للأحداث التي كانت تجري على بعد آلاف الأميال، في سيبيريا.

من أعماق المنفى في سيبيريا، تابع لينين، وغيره من المنفيين الاشتراكيين الديمقراطيين، بقلق سير الأحداث. وللمفارقة كان من السهل نسبيا بالنسبة لهم الحفاظ على حد أدنى معين من النشاط السياسي، إذ لم يكن عهد معسكرات اعتقال ستالين وهتلر قد بزغ بعد. كان التعامل مع المنفيين السياسيين يختلف إلى حد كبير ما بين القسوة البالغة وبين الظروف الملائمة نسبيا. لكن السلطات القيصرية كانت تكتفي، في معظم الأحوال، بالاعتماد على المسافات الشاسعة التي تفصل المراكز الحضرية عن المستوطنات المعزولة على ضفاف نهر ينسي باعتبارها دفاعات كافية ضد انتشار الأفكار الثورية. عادة لم يكن يتم حبس السجناء السياسيين، لم تكن هناك حاجة لذلك. كانوا يوضعون تحت رقابة مسؤولين محليين لم يكونوا يؤدون المهمة بحماس كبير في كثير من الأحيان. ونتيجة لذلك كان في إمكان الثوريين في المنفى متابعة الأحداث بسهولة نسبية، وتلقي الكتب والصحف وإجراء المراسلات، وحتى عقد اجتماعات غير شرعية. لينين، وفي الوقت الذي كان يشتغل فيه على كتابه الرأسمالية في روسيا، كان يتتبع باهتمام جدالات بليخانوف ضد برنشتاين. وجاءت أنباء الأزمة داخل الاتحاد واستقالة بليخانوف بمثابة ضربة مؤلمة. وقد تسبب انتصار تيار الاقتصادويين في بث الذعر بين المنفيين. بدأ لينين في كتابة سلسلة من المقالات الجدالية من قبيل: “مهمتنا العاجلة”، ومقال: “تيار تراجعي داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية” ومقال “Profession de Foi”[117]، حيث عرض أفكار التيار الإقتصادوي لنقد لا يرحم.

كان الحدث الذي أغضب المنفيين هو ظهور مقال “الكريدو” (Credo) سيئ السمعة الذي كتبته كوسكوفا في وقت مبكر من عام 1899. وحتى مؤلفة الوثيقة نفسها احتجت دائما بأنها لم تكن مخصصة للنشر. بيد أنه مع ذلك ليس هناك شك في أن مقال الكريدو كانت لديه ميزة التعبير بطريقة واضحة جدا عن الأفكار الأساسية للإقتصادويين. وقد كتب لينين مقاله الشهير احتجاج الاشتراكيين الديمقراطيين الروس[118] للرد على المقال، وعقد اجتماع للمنفيين السبعة عشر، الذين اجتمعوا في قرية ييرماكوفسكو بسيبيريا، في أواخر صيف 1899. صادق المجتمعون بالإجماع على نص لينين، الذي تم إرساله إلى الخارج حيث تم نشره من طرف بليخانوف.

تستحق كلمات الكريدو أن تنقل حرفيا:

«هذا التغيير [في الحزب] لن يتحقق فقط من خلال تقديم دعم أكثر نشاطا للنضال الاقتصادي وتعزيز المنظمات الاقتصادية، بل أيضا، وهذا هو الأهم، من خلال تغيير موقف الحزب من الأحزاب المعارضة الأخرى. الماركسية المتعصبة والماركسية السلبية والماركسية البدائية (والتي تتبنى تصورا تبسيطيا جدا عن الانقسام الطبقي في المجتمع) ستفسح المجال لماركسية ديمقراطية. ويجب أن يشهد الوضع الاجتماعي للحزب داخل المجتمع الحديث عملية تغيير حادة. سوف يعترف الحزب بالمجتمع: وسيتم تحويل مهامه النقابية الضيقة، والعصبوية في معظم الحالات، إلى مهام اجتماعية، وسيتم تحويل سعيه إلى الاستيلاء على السلطة إلى السعي من أجل التغيير والسعي لإصلاح المجتمع الحالي على أسس ديمقراطية متكيفة مع الوضع الراهن، بهدف حماية حقوق (جميع حقوق) الطبقات الكادحة بالطريقة الأكمل والأكثر فعالية…
إن الحديث عن حزب سياسي عمالي مستقل هو مجرد نتاج لزرع أهداف غريبة وإنجازات غريبة على أرضنا… بالنسبة للماركسي الروسي ليس هناك سوى طريق واحد: المشاركة، أي المساعدة، في النضال الاقتصادي للبروليتاريا، والمشاركة في النشاط الليبرالي المعارض»[119].

منطق الكريدو واضح جدا: ينبغي على الطبقة العاملة ألا تسعى إلى إنشاء حزبها الثوري الخاص بها، بل عليها أن تقتصر على العمل النقابي “العملي” وترك المهمة السياسية لإصلاح النظام الحالي لليبراليين البرجوازيين.

تمثل كتابات لينين الجدالية ضد الاقتصادويين، بدءا من “الاحتجاج”، استمرارية كلاسيكية لأفكار ماركس وإنجلز الأساسية حول مسألة البروليتاريا وحزبها. لا تبدأ البروليتاريا تدريجيا في فهم إمكاناتها التاريخية، لتصبح قوة حقيقية عوض أن تبقى مجرد إمكانية خام، إلا بقدر ما تبدأ في تنظيم نفسها باعتبارها طبقة مستقلة عن الطبقات الأخرى.

يبدأ تاريخ الحركة العمالية مع النقابات، التي تمثل التنظيم الأساسي للطبقة العاملة، والتي هي «ليست فقط ظاهرة طبيعية، بل أيضا ضرورية في ظل الرأسمالية و… وسيلة هامة للغاية لتنظيم الطبقة العاملة في نضالها اليومي ضد الرأسمالية ولإلغاء العمل المأجور». لكن وبمجرد تأسيسها لا يمكن للنقابات أن تحصر مجال نشاطها في المطالب الاقتصادية، بل تميل حتما إلى الانتقال إلى النضال على الصعيد السياسي. إن الأمر يتعلق هنا ليس بنضالات متفرقة لمجموعات فردية من العمال ضد أصحاب العمل، بل بنضال البروليتاريا ككل ضد الطبقة البرجوازية ككل وضد دولتها. بحكم الضرورة تدخل البروليتاريا وحزبها في اتصال مع طبقات أخرى، الفلاحين والطبقة الوسطى، ويكون عليها إقامة علاقات عمل مع مجموعات أخرى، لكنها تقوم بذلك انطلاقا من وجهة نظر مصالحها المستقلة باعتبارها طبقة. إن دورها، في الواقع، هو أن تضع نفسها على رأس جميع الطبقات المضطهَدة والمستغَلة الأخرى لإجراء تحويل جذري في المجتمع. وكما كتب لينين: «وحده حزب الطبقة العاملة المستقل من يمكنه أن يكون بمثابة حصن قوي في الكفاح ضد الاستبداد، وفقط من خلال التحالف مع هذا الحزب، فقط من خلال دعمه، يمكن لجميع المكافحين الآخرين من أجل الحرية السياسية لعب دور فعال»[120].

وهكذا فمنذ البدايات الأولى للحركة في روسيا، تم رسم خط فاصل واضح بين اتجاهين: الأول هو الاتجاه الماركسي الثوري، الذي استند إلى الطبقة العاملة وربط منظور الإطاحة الثورية بالنظام القيصري بالنضال من أجل هيمنة الطبقة العاملة داخل المعسكر الديمقراطي الثوري، وعارض بحزم كل المحاولات الرامية إلى إخضاعها لليبراليين والبرجوازية “التقدمية”. والثاني هو التيار الإصلاحي الذي، وفي الوقت الذي كان يتبنى الماركسية بالأقوال، كان يبشر عمليا بسياسة التعاون الطبقي والتبعية لليبراليين. هذا، في جوهره، هو أساس الخلاف بين الماركسيين وبين الاقتصادويين. وقد تكرر نفس الصراع، بأشكال مختلفة، مرات عديدة في تاريخ الحركة الثورية الروسية، وما زال متواصلا، بأسماء مختلفة، لكن بنفس الحجج من حيث الجوهر، حتى يومنا هذا.

إن ما هو مطلوب في الواقع هو تكوين الكوادر الثورية وتثقيفها على قاعدة النظرية والممارسة الماركسية وانخراطها في حركة الطبقة العاملة، بدءا من فئتها الأكثر نشاطا ووعيا. يجب أن يكون التكوين الطبقي للحزب بروليتاريا بشكل حاسم. يمكن للطلاب والمثقفين أن يلعبوا دورا هاما بتخصيبهم للحركة بأفكارهم والمساعدة في نموها، لكن على شرط أن يعملوا على القطع بحزم مع أصولهم الطبقية ويتبنوا، ليس بالكلمات فقط، بل بالممارسة اليومية، وجهة النظر البروليتارية. كانت المشكلة مع الاقتصادويين هي أنهم لم يكونوا يروا وجه البروليتاريا، بل فقط مؤخرتها.

لم يكن من المستغرب على الإطلاق أن تبدأ الحركة في روسيا على يد المثقفين. إن هذا قانون تقريبا، خاصة في حالة روسيا، بالنظر إلى كل تاريخ وظروف الحركة الثورية الروسية خلال عقدي السبعينات والثمانينات. لكن في ظل الظروف الجديدة، بدأ الوضع برمته يتحول. بدأ جيل جديد من العمال الثوريين يصعدون بسرعة إلى الواجهة، وقد كانوا الخريجين الأوائل “لمدرسة” الحلقات الماركسية لعقد التسعينات. للمرة الأولى بدأ العمال، في العديد من المجالات، يأخذون تسيير اللجان بين أيديهم. لم يكن ذلك، كما يزعم البعض زورا، نتيجة للنظريات الديمقراطية للمفكرين الاقتصادويين، الذين كانوا، كما سبق لنا أن رأينا، على الرغم من نزعتهم العمالوية، مترددين للغاية في إفساح المجال للعمال في اللجان القيادية كما كان لينين يطالب. كان ذلك نتيجة إلى الموجة المستمرة من الاعتقالات، التي كانت تبعد باستمرار القادة الأكثر خبرة.

كان الاتجاه السائد في الاشتراكية الديمقراطية، في ذلك الوقت، يتبنى مفهوما مركزيا متشددا للتنظيم، ليس باعتباره نظرية مسبقة للتنظيم، بل بسبب الحاجة إلى تلافي الانفضاح والاعتقال، وهو ما يمثل أهم المتطلبات الأساسية للوجود في ظل نظام بوليسي. كانت كلمة المركز بمثابة قانون، ولم يكن يمكن أن يكون هناك أي مجال للتسيير الديمقراطي العادي. كانت هناك لجنة قيادية مركزية صغيرة، لا تخضع للانتخابات، وتطعم صفوفها عبر الانتقاء. وتحت إشرافها كانت هناك سلسلة من لجان الدعاية والتحريض وجمع الأموال والطباعة، وهلم جرا. في ظل الظروف القائمة آنذاك كان هذا النمط من التنظيم ضرورة قصوى. وحتى ذلك لم يمنع من اختراق المنظمة من قبل عملاء استفزازيين، نجحوا، في كثير من الأحيان، في الحصول على مناصب قيادية داخل الحزب. ومع ذلك فإنه غالبا ما تمت المبالغة كثيرا في تبني مبدأ المركزية من طرف المثقفين الذين كانوا يهيمنون على اللجان. أصر لينين منذ البداية على ضرورة تدريب كوادر عمالية وترقيتهم إلى الهيئات القيادية. لكن هذا غالبا ما اصطدم مع ضيق أفق وعدم اكتراث الفئة القيادية التي كانت تحرس مواقعها بحرص شديد وفسرت فكرة المركزية بطريقة أحادية الجانب، وكانت تجد دائما مائة سبب لعدم إشراك عمال جدد في اللجان.

تغير الوضع بشكل كامل بفعل موجة من الاعتقالات شهدها النصف الأخير من عقد الثمانينات. وبين عشية وضحاها اضطرت فئة من العمال، الذين لم يسبق لهم أبدا تجربة القيادة، إلى تولي زمام الأمور. يصف العامل بروكوفييف رد فعله على الاعتقال المفاجئ لقادة المنظمة في موسكو عام 1893 قائلا: «كنت مكتئبا ومريضا وأشعر بالخجل. لقد وجدت نفسي فجأة بدون قادة. كانت تلك ضربة رهيبة. عندما أخبرت رفاقي بدأنا نتأوه وجلسنا كما لو كنا في جنازة»، لكنهم بعد ذلك خلصوا إلى أنه: «… ليس هناك من خيار سوى الصمود ومواصلة العمل بأنفسنا. لذلك شرعنا في العمل بمفردنا». وقد طور عمال مثل بابوشكين في سان بيترسبورغ ملكاتهم في هذه الفترة. أظهر بابوشكين، عندما كان منفيا في ييكاتيرينوسلاف في الجنوب، الذي كان مركزا يغلي بالثورة، قدرته على قيادة المنظمة دون مساعدة من أحد.

أدت الفوضى العامة، إلى جانب التأثير السلبي لأفكار الاقتصادويين، إلى تقسيم المنظمة في العديد من المناطق إلى مجموعتين منفصلتين واحدة للعمال وواحدة للمثقفين. طبقت هذه الطريقة الخاطئة في ييكاتيرينوسلاف، حيث أدت بشكل حتمي إلى خلق الظروف لنمو عدم الثقة والعداء المتبادل. كتب بابوشكين:

«أتذكر أن المثقفين كثيرا ما كانوا ينتقدون اللغة غير الراقية للمنشورات [العمالية]، وفي النهاية تم اختصار أحد تلك المنشورات وتغييره بعض الشيء من قبل لجنة “المدينة”، مما أثار اصطداما مباشرا هدد بحدوث انشقاق تام بين العمال والمثقفين»[121].

وبشكل عام فإن تطور الرابطة العمالية بموسكو لم يختلف جوهريا عن تطور رابطة سان بيترسبورغ للنضال، التي شكلت نموذجا لبقية البلاد، والتي ما زلنا نتخذها نقطة مرجعية أساسية لنا. عانت المنظمة في موسكو من سلسلة من الاعتقالات، خاصة بعد 1896، عندما ترأس زوباتوف قسم شرطة موسكو واستفاد من خدمات بعض الخونة للحصول على معلومات عن الرابطة وإرسال عملاء استفزازيين إلى داخلها.

بعد كل موجة من الاعتقالات كانت المنظمة تجدد نفسها بعمال جدد تعلموا في الممارسة العملية الثقة في قدرتهم وابداعهم. وبعد سنوات قليلة، ذكر لينين بحزم “أعضاء اللجان”، الذين ليست لديهم الثقة في قدرة العمال على قيادة الحزب، بأن عمالا مثل بابوشكين قد قاموا بذلك بالضبط في تلك الفترة. لكن وعلى الرغم من ذلك فقد دخل الحزب القرن 20 وهو في حالة سيئة للغاية. بحلول عام 1900 بدا كما لو أن تيار الاقتصادويين قد انتصر بشكل تام. في المنطقة الغربية كانت للاقتصادويين اليد العليا. وفي أوكرانيا أيضا كانت لهم مكانة بارزة. وقد دعمت لجنة كييف فعلا خط الكريدو الأكثر تطرفا بين الاقتصادويين. ومع ذلك فقد كانت هناك دلائل تشير إلى أن الحالة المزاجية بين القواعد قد بدأت تتحول ضد هذا الوضع. بتأثير من عمل بابوشكين الدؤوب، وقفت منظمة ييكاتيرينوسلاف، التي كانت تضم في مطلع القرن العشرين حوالي 24 حلقة مع ما يقارب 200 عامل منخرط فيها، ضد النزعة الإقتصادوية.

في يناير 1900، قامت منظمة ييكاتيرينوسلاف بإصدار جريدة يوجني رابوتشي (العامل الجنوبي). نشرت ما مجموعه 13 عددا حتى أبريل 1903، عندما توقفت عن الصدور. وقفت يوجني رابوتشي ضد الإقتصادوية، لكنها كانت تفتقر إلى أساس نظري صلب بما فيه الكفاية وكانت تسقط في التذبذب. وكنتيجة طبيعية للنزعة الحلقية المحلية والهواية التي كانت سائدة آنذاك، كانت هيئة التحرير تتكون من ممثلي اللجان المحلية الذين لم يكن يجمعهم موقف واحد، وهو الأمر الذي انعكس في تذبذب الصحيفة في الموقف من الصراع بين إيسكرا وبين التيار الإقتصادوي، على الرغم من أنها اندمجت في النهاية مع إيسكرا.

ظهر اتجاه مشابه مثلته مجموعة صغيرة تحلقت حول صحيفة بوربا (النضال)، وهي صحيفة أصدرها ديفيد ريازانوف. وإدراكا من لينين للمواهب الأدبية التي يتمتع بها ريازانوف وحرصا منه على تأمين دعمه لإيسكرا وزاريا، فقد عمل كل ما في مقدوره لكي يقنعه بالعمل المشترك، على الرغم من أن مجموعة بوربا لم تكن تقوم بالكثير في الممارسة العملية، وكانت تتألف من مجموعة من المثقفين في باريس. وداخل روسيا لم تنضم إليها سوى لجنة أوديسا. كانت [مجموعة بوربا] مثالا نموذجيا لعصبة مثقفين صغيرة، كان نشاطها يقتصر حصريا على العمل الأدبي، وكانت أفكارها خليطا من أجزاء وقطع مستعارة من التيارات الأخرى، لكن ادعائها الوقوف فوق كل التيارات الأخرى وضعها في واقع الأمر في موقف أقل بكثير من أي منها. تظهر مجموعات مماثلة على السطح باستمرار في تاريخ الحركة الثورية، ودائما ما تلعب دورا مشؤوما، في حالة ما إذا لعبت أي دور أصلا.

محاولة بوربا للعب دور “الوسيط النزيه” بين إيسكرا ورابوتشييه ديلو أدت على الفور إلى اصطدامها مع التيار الماركسي الحازم. حاول ريازانوف الضغط على إيسكرا بوقف التعاون معها إلا إذا خففت من انتقادها لرابوتشييه ديلو. لكن عندما لم يكن لهذا الابتزاز أي تأثير، عمل على حل “مجموعة دعم إيسكرا” في باريس وبدأ يشكو من أن إيسكرا “قد انتهكت الحياد التنظيمي”[122]. وفي النهاية تخلى لينين عن مهمة كسبه. لم تلعب مجموعة بوربا، على الرغم من ادعاءاتها الكبيرة، أي دور آخر. ففي المؤتمر الثاني لم يتم الاعتراف بها، وسرعان ما حلت المجموعة نفسها. في وقت لاحق عاد ريازانوف للظهور في عام 1909 باعتباره استاذا في مدرسة كابري لكتلة فبريود (إلى الأمام) المتطرفة (والتي ينبغي عدم الخلط بينها وبين جريدة أصدرها لينين بنفس الاسم عام 1904). كان ريازانوف، على الرغم من أخطائه، مثقفا موهوبا بدون شك. وبعد الثورة أصبح مديرا لمعهد الماركسية اللينينية، إلى حين تصفيته، مثله مثل آخرين كثيرين غيره، على يد ستالين.

ميلاد إيسكرا

أدت مشاركة القادة الروس المنفيين في الصراع إلى ترجيح الكفة بشكل حاسم لصالح بليخانوف. وشكل لينين، الذي كان ما يزال في سيبيريا، تحالفا ثلاثيا، “ترويكا”، مع مارتوف وبوتريسوف، وهو التحالف الذي اتخذ، بإصرار من لينين، خطوات لإقامة الأواصر مع مجموعة تحرير العمل. وكانت فكرته الأساسية هي إعادة بناء الحزب حول صحيفة ماركسية حقيقية. كان من الواضح أن هذا المشروع لم يكن ممكنا إلا إذا انضموا إلى بليخانوف في المنفى الأوروبي. بعد أن أنهى فترة محكوميته في المنفى، سافر لينين، في أوائل عام 1900، بشكل غير قانوني إلى سان بيترسبورغ، حيث التقى فيرا زاسوليتش، التي كانت قد جاءت مبعوثة لإقامة الاتصالات مع الداخل. شهدت الأشهر التالية الاستعدادات لنشر جريدة جديدة (إيسكرا)، وشهدت سلسلة من الزيارات للمجموعات الاشتراكية الديمقراطية في أنحاء مختلفة من روسيا الأوروبية، حيث تفاجأ لينين، ورفاقه في الفكر، بحجم الترحيب الذي لاقته أفكارهم من قبل قسم كبير من القواعد. وبحلول صيف عام 1900، كان كل شيء جاهزا لإقامة الاتصال المباشر مع مجموعة بليخانوف.

سافر لينين إلى سويسرا في يوليوز تغمره آمال كبيرة. لكن ارتفاع معنوياته لم يدم طويلا، إذ أن أعصاب بليخانوف، بعد التجربة المريرة للانقسام في الاتحاد، كانت جد متوترة. كان متجهما ومستاء وشديد الشك في القادمين الجدد. أظهرت المناقشات التي تمت بين بليخانوف وأكسلرود وزاسوليتش من جهة، وبين لينين وبوتريسوف من جهة أخرى جوا متوترا للغاية. أحس لينين وبوتريسوف بالصدمة من طريقة بليخانوف المتشددة والوقحة في التعامل. في بعض الأحيان كان يبدو أن المفاوضات قريبة من الانهيار. وقد عبر لينين في مقاله “كيف كادت الشرارة أن تنطفئ”[123] -الذي كتبه بعد عودته وبينما الأحداث الأخيرة ما تزال حية في ذهنه- عن الانطباع المؤلم الذي خلقه له سلوك بليخانوف: «لقد اختفى “افتتاني” ببليخانوف كما لو كان بفعل السحر، وشعرت بالإهانة والمرارة إلى درجة لا تصدق. لم يسبق لي في حياتي أبدا، أبدا، أن نظرت إلى أي رجل آخر بذلك القدر من الاحترام الصادق وذلك التبجيل، لم يسبق لي أبدا أن وقفت أمام أي رجل بمثل ذلك “التواضع” ولم يسبق لي أن “طردت” بمثل تلك القسوة».

يمكن فهم سلوك بليخانوف. لقد كانت له سلسلة من التجارب السيئة مع الشباب القادمين من الداخل، وكان ما يزال يعاني من آثار الانقلاب الذي نظمه الشباب في الاتحاد بالخارج. إضافة إلى أنه كان هناك أيضا اختلاف في الرأي بشأن كيفية المضي قدما. اضطر لينين والآخرون، بسبب رغبتهم في الحفاظ على أكبر قدر ممكن من قوات الحركة في روسيا، إلى أن يقدموا عددا من التنازلات لستروفه، بما في ذلك ما ورد في مشروع الإعلان الأصلي حول أن جريدة إيسكرا ستكون مفتوحة أمام مختلف التيارات السياسية. التقط بليخانوف هذا الخطأ وعمل على تنفيس غضبه المتراكم على القادمين الجدد المندهشين. ألقى هذا الحادث الضوء على الوضع داخل مجموعة تحرير العمل. كانت الفترة الطويلة من العزلة عن الحركة العمالية في روسيا قد تركت آثارها على المنظمة.

بعد سنوات عديدة، في عام 1922، عندما كانت ثورة أكتوبر قد بلغت بالفعل خمس سنوات من عمرها، وكان بليخانوف قد توفي قبل أربع سنوات، أوضح تروتسكي كلا من جانبي القوة والضعف لدى بليخانوف بالعبارات التالية:

«كان بليخانوف يتحدث مثل مراقب، مثل ناقد، مثل داعية، لكن ليس مثل زعيم. لقد منعه مصيره كله من فرصة التواصل مباشرة مع الجماهير وتعبئتهم للعمل وقيادتهم. لقد جاءت جوانب ضعفه من نفس المصدر الذي جاءت منه نقاط قوته: كان رائدا، كان أول من أدخل الماركسية إلى الأراضي الروسية… لم يكن زعيم البروليتاريا النشيطة، بل كان مجرد داعية نظري. لقد دافع بالجدال عن المنهج الماركسي، لكن لم تكن له الفرصة لتطبيقه على أرض الواقع. وعلى الرغم من أنه عاش لعدة عقود في سويسرا، فإنه بقي منفيا روسيا. لم تثر اهتمامه اشتراكية البلديات والكانتونات الانتهازية السويسرية بمستواها النظري المنخفض للغاية. لم يكن هناك حزب روسي، لكن مجموعة تحرير العمل كانت قد حلت بالنسبة لبليخانوف محل ذلك الحزب، وهي المجموعة التي كانت مجرد حلقة مغلقة من المتعاطفين (بليخانوف، أكسلرود، زاسوليتش ودويتش، الذي كان محكوما بالأشغال الشاقة). وكلما سعى بليخانوف أكثر لتقوية الجذور النظرية والفلسفية لمجموعته كلما افتقد لتلك الجذور السياسية. وكمراقب للحركة العمالية الأوروبية، لم يول انتباها كبيرا لمظاهر ضيق الأفق السياسي والجبن والميل إلى المساومات داخل الأحزاب الاشتراكية، لكنه كان دائما على أهبة الاستعداد للتصدي للتشويهات النظرية في الأدب الاشتراكي. لقد كان هذا الفصل الخاطئ بين النظرية والممارسة، الذي نشأ من وضع بليخانوف نفسه، مسألة مضرة له. لقد أثبت أنه غير مستعد للأحداث السياسية الكبيرة على الرغم من استعداده النظري الكبير»[124].

كشف الاجتماع مع لينين وبوتريسوف مدى تخلف أعضاء مجموعة تحرير العمل عن متطلبات المرحلة الحالية للحركة. فطرق التعامل غير الرسمية والرخاوة التنظيمية والخلط بين المسائل الشخصية وبين القضايا السياسية، والتي هي السمة المميزة للحياة داخل حلقة الدعاية الصغيرة، تصبح عوائق هائلة بمجرد ما يصير تنظيم حزب جماهيري والتدخل الجدي في الحركة الجماهيرية على جدول الأعمال. يعود الفضل في تجنب حدوث الانشقاق إلى قدرة لينين الهائلة على الصبر وأيضا إلى حقيقة أن عواقب الانشقاق كانت واضحة للجميع. لكن على الرغم من إقامة علاقات عمل جيدة إلى حد معقول، فإن الأسباب العميقة للصراع بقيت بدون حل وكان من الحتمي ظهورها من جديد بقوة مضاعفة في المستقبل. الحل الوسط الذي تم التوصل إليه في نهاية المطاف بين الجانبين نص على أن تكون لإيسكرا هيئة تحرير مكونة من ستة أعضاء، هم الثلاثي لينين ومارتوف وبوتريسوف وثلاثة أعضاء من مجموعة تحرير العمل هم بليخانوف وأكسلرود وزاسوليتش، مع منح بليخانوف صوتا إضافيا. كان زمام السيطرة على الجريدة النظرية، زاريا (الفجر)، فعليا في أيدي بليخانوف. لكن العلاقات بين الأعضاء القدامى لمجموعة تحرير العمل وبين الأعضاء الجدد لهيئة التحرير أصيبت بأضرار جسيمة. كتب لينين:

«ظاهريا كان كما لو أن شيئا لم يحدث: حيث استمر الجهاز التنظيمي يعمل كما كان يعمل من قبل، لكن حبلا كان قد انقطع في غضون ذلك، وبدلا من بناء علاقات شخصية جيدة، سادت علاقات جافة شبيهة بعلاقات الشغل، مع الحساب المستمر وفقا لمبدأ: si vis pacem, para bellum [إذا كنت ترغب في السلام عليك الاستعداد للحرب]»[125].

تم نشر إعلان هيئة تحرير إيسكرا[126] في شهر شتنبر. وقد بدا وكأنه إعلان حرب على كل التيارات الأخرى داخل الحركة العمالية الروسية. وعلى عكس المشروع الأصلي الذي وضعته الترويكا [لينين ومارتوف وبوتريسوف – م -]، ندد الإعلان بالاسم ليس فقط ببرنشتاين ورابوتشايا ميسل، بل أيضا برابوتشييه ديلو وستروفه (أصر بليخانوف على التنديد بهذا الأخير على وجه الخصوص). كانت المسودة الأولية التي كتبها لينين قد صيغت بعبارات عامة أكثر ميلا للمصالحة، لكن النسخة المعدلة كتبت بلهجة أكثر حدة:

«قبل أن نتمكن من أن نتحد، ولكي يتسنى لنا أن نتحد، يجب علينا أولا وقبل كل شيء أن نرسم بيننا حدودا حازمة وواضحة. وإلا فإن وحدتنا ستكون من وحي الخيال المحض، حيث سيتم إخفاء الارتباك السائد، وتعرقل عملية القضاء عليه. وبالتالي فإنه من المفهوم أننا لا ننوي أن نجعل جريدتنا مجرد مخزن لوجهات النظر المختلفة، بل على العكس من ذلك يتعين علينا أن نصدرها على أساس توجه محدد بدقة. ويمكن التعبير عن هذا التوجه بكلمة: الماركسية، وبالكاد هناك حاجة إلى أن نضيف أننا نتبنى التطوير المنسجم لأفكار ماركس وإنجلز ونرفض بشكل قاطع “التصحيحات” المراوغة والغامضة والانتهازية التي قام بها إدوارد برنشتاين، وب. ستروفه وغيرهما»[127].

كانت الإدانة الصريحة للماركسية الشرعية بذكر ممثلها الأبرز بالاسم نقطة تحول. لكن رغم ذلك فإن ستروفه لم يقم بالقطع فورا مع الماركسية، حتى أنه أسهم بمقالة أو مقالتين في الأعداد الأولى للجريدة. إلا أن أول لقاء لستروفه مع لينين في المنفى، أواخر عام 1900، أدى إلى مواجهة مفتوحة. كانت مطالب ستروفه المتغطرسة بإعطائه السيطرة على الخط التحريري للجريدة بداية القطيعة. إن العلاقة بين الماركسيين وبين الجناح اليساري للتيار الليبرالي، الذي عرف باسم الماركسية الشرعية، كانت كما أوضح لينين، في وقت لاحق، أول مثال على اتفاق عرضي بين الماركسيين الروس وبين تيار سياسي آخر. دون تقديم أي تنازلات مبدئية ومع الحفاظ على النقد الحازم للانحرافات السياسية للماركسيين الشرعيين، كان لينين على استعداد للدخول في اتفاقات عملية معهم من أجل دفع عجلة العمل في روسيا ومراوغة الشرطة والرقابة والوصول إلى جمهور أوسع من ذلك الذي كان من الممكن الوصول إليه مع القيود الضيقة للعمل غير الشرعي. لكن كان هناك تناقض أساسي منذ البداية. كان التياران متعارضان جذريا، وفي نهاية المطاف كان لا بد من التغلب على ذلك التناقض عن طريق انتصار أحدهما على الآخر.

في مرحلة من المراحل بدا كما لو أن أنصار النزعة الإقتصادوية والتحريفية قد فازوا، لو حدث ذلك كانت الحركة العمالية الروسية ستجد نفسها مقيدة إلى عربة الليبرالية. وكانت الوسيلة التي من خلالها سيتم فرض هذه التبعية السياسية هي الماركسية الشرعية. أدى إصدار الإيسكرا، مع موقفها الحازم من النزعة الإقتصادوية والتحريفية ودفاعها العنيد عن استقلالية الطبقة العاملة والانتقاد الصارم لليبراليين، إلى تحويل الوضع بشكل جذري. الآن وجد ستروفه وحلفاؤه أنفسهم في موقف دفاعي. ومع ذلك استمر ستروفه يحاول استخدام اسمه ونفوذه للسيطرة على الجريدة الجديدة، لدفعها وحثها على الوصول إلى توافق فاسد مع الأفكار القديمة التي فقدت مصداقيتها. لم تكن شكوى ستروفه من أن لينين كان يحاول “استخدامه” لتقنع أيا كان، بالنظر إلى أنه هو نفسه [ستروفه] كان في الفترة السابقة قد استخدم بكلبية نفوذه الكبير للتأثير على قوات الاشتراكية الديمقراطية الروسية، الضعيفة وغير الناضجة، لتمييع وتشويه أفكارها الأساسية وتحويلها إلى مجرد ذيل لليبرالية.

على عكس الانطباع الذي يخلقه المؤرخون البرجوازيون، لم يكن هناك أي شيء شائن أو خياني في موقف لينين من الخصوم السياسيين مثل ستروفه. كان الدخول في مثل تلك الاتفاقات العملية يتم بحرية من كلا الطرفين، وكان كلاهما يدخلونها بعيونهم مفتوحة. وكما رأينا فقد تعرض لينين لانتقادات شديدة من قبل بليخانوف الذي اعتبر أنه قدم الكثير من التنازلات لستروفه. كان ذلك جزءا من شخصية لينين، حيث أنه كان دائما صارما جدا فيما يتعلق بالمبادئ السياسية، بينما كان دائما مرنا للغاية بشأن المسائل التنظيمية وفي تعامله مع الناس. كان لينين يعرف كيف يقدر الناس ذوي الموهبة، والذين مهما كانت أوجه القصور عندهم، كان يسعى بمنتهى الصبر للاستفادة من قدراتهم على بناء الحركة. إلا أنه كان هناك أيضا جانب آخر: فبمجرد ما يقتنع لينين بأن أحدهم عدو للأفكار الماركسية لا يمكن إصلاحه، كان لا يتردد في استخلاص جميع الاستنتاجات الضرورية وخوض نضال سياسي لا هوادة فيه ضده. وفي هذا الصدد كان موقف لينين مناقضا بشكل صارخ لموقف أعضاء مجموعة تحرير العمل.

لم يكن أعضاء المجموعة القديمة، وخاصة زاسوليتش وأكسلرود، قادرين على دفع أنفسهم لإحراق الجسور التي كانت ما تزال تربطهم بتلك الفئة من المثقفين شبه الليبراليين، رفاق نصف الطريق، مثل ستروفه، حتى بعد عام 1902 عندما صار انتقالهم إلى معسكر اللبرالية البرجوازية واضحا للجميع. ومع ذلك فقد كان بليخانوف هو الذي طلب بأن يشن لينين هجوما علنيا على ستروفه في بيان هيئة التحرير! لقد أظهرت هذه الحادثة أيضا الاختلاف الكبير في أسلوب وشخصية الرجلين. وقد عبرت زاسوليتش مرة عن ذلك بوضوح بالكلمات التالية: «جورج (بليخانوف) كلب سلوقي: إنه يقبض ضحيته من القفا وفي النهاية يطلقها، لكنك أنت (لينين) كلب بلدغ: لا تدعها تفلت»[128].

ومنذ عام 1895 كان أكسلرود قد انتقد لينين على هجماته الشديدة التي شنها على ستروفه في مقاله “المحتوى الاقتصادي للنارودنية ونقد كتاب السيد ستروفه”[129]، حيث اشتكى قائلا:

«لديك موقف هو العكس تماما مع موقف المقال الذي كنت أكتبه للمختارات [المقال كما هي العادة لم ينته ولم يصدر أبدا]. إنك تخلط مواقفنا من الليبراليين بمواقف الاشتراكيين من الليبراليين في الغرب. وقد كنت للتو بصدد كتابة مقال للمختارات بعنوان “مطلب الحياة الروسية”، والذي كنت سأوضح فيه أنه في هذه اللحظة التاريخية، قد تلاقت المصلحة المباشرة للبروليتاريا في روسيا مع المصالح الرئيسية للعناصر التقدمية الأخرى بين صفوف الشعب…
أجاب أوليانوف مبتسما: أتعرف، لقد قال بليخانوف نفس الشيء بالضبط عن مقالتي. لقد عبر ببلاغة عن فكرته حيث قال: “أنت تدير ظهرك لليبراليين ونحن ندير وجهنا لهم…”»[130].

كانت معارضة لينين العنيدة لليبراليين على خلاف تام مع موقف بقية أعضاء هيئة التحرير القدامى. وقد عارضتها زاسوليتش على وجه الخصوص:

«بدأت زاسوليتش في الشكوى، بلهجتها المميزة الخجولة، التي تستعملها دائما في مثل هذه المناسبات، من أننا نهاجم الليبراليين أكثر من اللازم. وقد كانت تلك نقطة حساسة بالنسبة لها.
قالت: “انظر كم هم حريصون على ذلك”، وهي تتلافى النظر في اتجاه لينين، على الرغم من أنها كانت تقصده هو بالتحديد، وأضافت “طالب ستروفه الليبراليين الروس بعدم التخلي عن الاشتراكية لأنهم إذا فعلوا ذلك سيواجهون نفس مصير الليبراليين الألمان؛ كان يقول إنه عليهم أن يحذوا حذو الاشتراكيين الراديكاليين الفرنسيين”.
قال لينين بابتسامة مرحة: “علينا أن نضربهم أكثر”، كما لو أنه كان يريد إغاظة فيرا إيفانوفا.
فردت بيأس: “هذا لطيف! إنهم يأتون إلينا، ونحن نضربهم”»[131].

كانت إيسكرا صحيفة ناجحة جدا لأنها أجابت عن عدد من الاحتياجات. فقد كانت صحيفة عمالية نموذجية. كانت تستعمل لغة سهلة، دون أي أثر للابتذال، يمكن لأي عامل ذكي أن يفهمها، وكانت الرد النظري على أفكار الاقتصادويين وحلفائهم. وبعد تلك السنوات الطويلة من الارتباك الأيديولوجي، كان رد فعل العمال الاشتراكيين في روسيا تجاه الصحيفة الجديدة مشابها لموقف أرسطو عندما شبه الفيلسوف أنكساغوراس بكونه “الرجل العاقل بين السكارى”. عرضت الصحيفة في صفحتها الأولى جملة مقتبسة من رسالة الديسمبريين إلى الشاعر بوشكين عندما كان في المنفى في سيبيريا: “سوف تشعل الشرارة اللهب”، وهي العبارة التي صارت حقيقة بعد ما يقرب من قرن على كتابتها.

فإلى جانب الفضح المنهجي لجرائم النظام القيصري في الداخل، كانت تعرض شرحا مفصلا للسياسة الخارجية، وتعري تعقيدات ومناورات الدبلوماسية البرجوازية. وكانت تتتبع عن كثب حياة الحركة العمالية العالمية. لكن إيسكرا كانت، قبل كل شيء، صحيفة تعكس بدقة حياة الطبقة العاملة ونضالاتها وتطلعاتها. كانت تخصص في كل عدد مجالا واسعا لنشر تقارير موجزة من المصانع والأحياء العمالية، التي كان مراسلو إيسكرا يجمعونها بشق الأنفس داخل روسيا ويهربونها بطرق سرية. وبهذه الطريقة كان العمال من مختلف أنحاء روسيا يتعرفون، غالبا بعد أشهر من التأخير، على أخبار نضالات إخوانهم وأخواتهم في أجزاء أخرى من البلاد والخارج. لا عجب أن الجريدة كانت تلاقي نجاحا باهرا في الداخل. فزاد عدد لجان الحزب المحلية المرتبطة بالجريدة بسرعة، وفتح آفاقا جديدة يوميا، لكنه فرض أيضا أعباء ثقيلة على جهاز الحزب الضعيف في المنفى.

في العدد السابع لإيسكرا (غشت 1901)، عبرت رسالة من عامل نسيج عن الحماس الكبير الذي كان العمال المتقدمون في روسيا يستقبلون به أعدادها:

«عندما أظهرت جريدة إيسكرا لبعض رفاقي العمال قرأناها حتى صارت النسخة في حالة يرثى لها بكثرة الانتقال من يد إلى يد، إننا نقدرها أكثر بكثير من جريدة ميسل، على الرغم من أنه لا يوجد فيها مقال لنا. إن إيسكرا تكتب عن قضيتنا، عن قضية عموم روسيا التي لا يمكن تقييمها بالكوبيكات أو قياسها بالساعات: عندما تقرأ الصحيفة تفهم لماذا رجال الدرك والشرطة يخافون منا نحن العمال ومن المثقفين الذين نتبعهم. إنهم يشكلون تهديدا حقيقيا، ليس لجيوب أرباب العمل فقط، بل أيضا للقيصر ولأرباب العمل ولكل الآخرين… لن يمر الآن الكثير من الوقت قبل أن تشتعل نار العمال. كل ما هو مطلوب هو الشرارة وعندها ستندلع النار. كم هي صادقة تلك العبارة التي تقول: “سوف تشعل الشرارة اللهب!”. في الماضي كان كل إضراب حدثا هاما، لكن الجميع يرى اليوم أن الإضرابات وحدها ليست كافية وأنه يجب علينا الكفاح من أجل الحرية، وكسبها من خلال النضال. الجميع اليوم، كبارا وصغارا، حريصون على القراءة لكن الشيء المحزن هو أنه لا توجد كتب. يوم الأحد الماضي، جمعت 11 شخصا وقرأت لهم مقال: “بما نبدأ”، وقد ناقشناه حتى وقت متأخر من المساء. كم تمكن [المقال] من التعبير بشكل جيد عن كل شيء، كم استطاع الوصول إلى جوهر الأمور… لذا قررنا أن نبعث رسالة إليكم ونطلب منكم كيف يمكنكم تعليمنا ليس فقط كيف نبدأ، بل كيف نعيش وكيف نموت»[132].

أراد بليخانوف وأكسلرود أن يتم إصدار الصحيفة في سويسرا، حيث يمكنهما ممارسة الرقابة عليها. بينما كان لينين ومارتوف وبوتريسوف عازمين على إصدارها في مكان آخر، وانتقلوا إلى ميونيخ. في واقع الأمر لم يستوعب أعضاء مجموعة تحرير العمل تماما أهمية إيسكرا باعتبارها وسيلة لتنظيم الحزب. لقد ركزوا اهتمامهم على زاريا، التي كانت تصدر بطريقة شرعية في شتوتغارت، بين أبريل 1901 وغشت 1902، عندما صدرت أربعة أعداد في ثلاث نشرات. وكان العضو الوحيد من مجموعة تحرير العمل الذي كان حريصا على المشاركة في إيسكرا هي فيرا زاسوليتش، التي سافرت إلى ميونيخ بجواز سفر بلغاري مزور. هبط الجزء الأكبر من ثقل العمل التنظيمي للجريدة على كاهل لينين. وقد لعبت زوجته ناديجدا كروبسكايا دورا هاما جدا في التعامل مع المراسلات الكثيرة مع روسيا والتي كانت تصل إليهم بشكل غير مباشر، عبر عناوين الرفاق الألمان، والذي كانوا يحيلونها إلى كروبسكايا.

وكانت مهمة تنظيم شبكة نقل غير شرعية مهمة حافلة بالصعوبات. وحسب أوسيب بياتنيتسكي (اسمه الحركي فريتاغ)، والذي صار في وقت لاحق المسؤول عن هذا العمل، كان نقل إيسكرا من برلين إلى ريجا ثم فيلنا فبيترسبورغ يستغرق عدة أشهر. كما أنه لم يكن عملا خاليا تماما من الأخطاء من جميع الأنواع. وضح بياتنيتسكي، في سيرته الذاتية، مذكرات بلشفي (Zapiski Bol’shevika)، كيف كانوا يستفيدون من خدمات الطلاب الروس لتمرير الوثائق والجريدة إلى روسيا من خلال حقائب تحتوي على فجوات سرية. كانت تلك الحقائب تصنع في مصنع صغير في برلين. وقد حقق طلبا كبيرا على منتوجه. لكن سرعان ما انتبه حرس الحدود إلى الخدعة، إذ تعلموا البحث في تلك الحقائب التي اتضح أنها من نفس النوع ! بعد ذلك بدءوا في استخدام الحقائب العادية، مع إدخال ما بين 100 و150 نسخة من الجريدة مخبأة تحت قاع مزيف من الورق المقوى. لكن الطلب على إيسكرا فاق باستمرار الإمدادات، فكان ينبغي إيجاد وسائل جديدة. كان في الإمكان إدخال ما بين 200 و300 نسخة في صدريات وتنانير خيطت خصيصا لذلك الغرض. وحتى مع ذلك، كان من الضروري استكمال هذه الأساليب بإنشاء مطابع سرية داخل روسيا، كانت تطبع إيسكرا باستعمال النسخ التي كان يتم تهريبها من الخارج. تم تأسيس مطابع من هذا النوع في موسكو وأوديسا وباكو. وقد استنزفت تفاصيل هذا العمل الكثيرة قدرا هائلا من الوقت والطاقة، كما أنها استنزفت الكثير من المال، الذي كان يجمع من المتعاطفين من طرف وكلاء إيسكرا في برلين وباريس وسويسرا وبلجيكا، الذين كانوا يبحثون بشكل دائم عن الأموال والمسافرين الذين هم على استعداد لحمل الجريدة وإقامة الاتصالات والعناوين الآمنة وما إلى ذلك.

ما العمل؟

في وقت إصدار إيسكرا، كان الحزب في روسيا بالكاد موجودا كقوة منظمة. ففي خضم الارتباك الإيديولوجي أدت الانقسامات التكتلية إلى سلسلة من الانشقاقات وتشكل مجموعات صغيرة. في بيترسبورغ وحدها، في مطلع القرن العشرين، كانت هناك “مجموعة التحرير الذاتي للطبقة العاملة” و“مجموعة العمال للنضال ضد رأس المال” و“راية العمال” و“الاشتراكي” و“الاشتراكي الديمقراطي” و“مكتبة العمال” و“منظمة العمال”، وغيرها من المجموعات التي كانت كلها تدعي التحدث باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. كانت الكثير من هذه المجموعات متأثرة بأفكار الاقتصادويين. وكانت هناك سمة مشتركة بينها هي الرغبة في امتلاك صورة “بروليتارية نقية”. دافعت المجموعة الأولى المذكورة أعلاه [“مجموعة التحرير الذاتي للطبقة العاملة”] عن فكرة أن مصالح المثقفين تتعارض مع مصالح العمال. وهذا ما يفسر لماذا انشقت رابطة بيترسبورغ للنضال نفسها، بعد أن تم الاستيلاء عليها من طرف رابوتشايا ميسل، الفصيل الإقتصادوي المتطرف، إلى مجموعتين واحدة للعمال والأخرى للمثقفين! بطبيعة الحال لا تعبر هذه المواقف عن اتجاه بروليتاري حقيقي، بل إنها، على العكس تماما، تكشف عن أوهام المثقفين الذين يتخيلون أن السبيل لكسب العمال هو تقديم التنازلات للأحكام المسبقة السائدة بين الفئات الأكثر تخلفا داخل الطبقة العاملة. وبنفس الطريقة التي حاول بها النارودنيون القدامى، “الذهاب إلى الشعب”، وكانت النتائج كارثية، حاول الثوري البرجوازي المتوسط كسب ود العمال بـ “التواضع” أمامهم، لكنه كان في الواقع يظهر بذلك نقصا مثيرا للشفقة في فهمه للطبقة العاملة، وفي نفس الآن ازدراء عميق الجذور بها.

تكتسي كتابات لينين حول التنظيم، التي تعود إلى تلك المرحلة، أهمية فائقة. لقد شرح ببراعة فكرة كون الجريدة منظم جماعي في أعمال مثل “بما نبدأ؟” و“رسالة إلى الرفيق” و“ما العمل؟”[133]. في المقالة الأولى المذكورة أعلاه يوجد جوهر أفكار لينين واضحا:

«لا يقتصر دور الجريدة على نشر الأفكار ولا على التثقيف السياسي وتجنيد الحلفاء السياسيين. إن الجريدة ليست فقط داعية جماعيا ومحرضا جماعيا، إنما هي أيضا منظم جماعي… وبمساعدة الجريدة، ومن خلالها، سيتكون بشكل طبيعي تنظيم دائم سينخرط ليس فقط في أنشطة محلية، بل أيضا في عمل عام منتظم، وسيدرب أعضاءه على تتبع الأحداث السياسية باهتمام، وتقدير أهميتها وتأثيرها في مختلف فئات السكان، وتطوير أساليب فعالة لتأثير الحزب الثوري في هذه الأحداث. إن مجرد القيام بالمهمة التقنية المتمثلة في تزويد الجريدة بالمواد بانتظام وتوزيعها بانتظام، ستفرض الحاجة إلى شبكة من العملاء المحليين للحزب الموحد، الذين سيحافضون على صلة ثابتة ببعضهم البعض، ويعرفون الوضع العام للأمور، ويعتادون على أن ينفذوا بانتظام وظائف عملهم الجزئية ضمن العمل الروسي العام، ويمتحنون قواهم في تنظيم مختلف الأعمال الثورية»[134].

ربما ليس هناك عمل آخر في تاريخ الماركسية تعرض للهجوم مثلما تعرض له كتاب لينين “ما العمل؟”، الذي ألف بين أواخر 1901 وأوائل عام 1902، وكان القصد منه تصفية الحساب نهائيا مع الاقتصادويين، وبالتالي تميز في جميع فصوله بطابع جدالي للغاية. ومما لا شك فيه هناك حمولة غنية من الأفكار موجودة في هذا العمل، الذي يتضمن، رغم ذلك، نواقص نظرية جدية. ففي حين جادل بشكل صحيح ضد عبادة الاقتصادويين للـ “العفوية”، سمح لينين لنفسه بالوقوع في خطأ المبالغة في فكرة صحيحة وتحويلها إلى نقيضها. وقد أكد على وجه الخصوص على أن الوعي الاشتراكي: «لا يمكن للعمال أن يحصلوا عليه إلا من الخارج. ويبين تاريخ جميع البلدان أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة غير الوعي التريديونيوني فقط، أي القناعة بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أرباب العمل ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال، الخ».

هذا العرض الأحادي الجانب والخاطئ للعلاقة بين الطبقة العاملة وبين الوعي الاشتراكي لم يكن من اختراع لينين في الأصل، بل لقد استعاره مباشرة من كاوتسكي، الذي كان يعتبره في ذلك الوقت المدافع الرئيسي عن الماركسية الأرثوذكسية ضد برنشتاين. في الواقع اقتبس لينين باستحسان كلام كاوتسكي حول أن:

«العلم ليس بيد البروليتاريا، بل بيد المثقفين البرجوازيين [خط التشديد من كارل كاوتسكي]: فمن عقول بعض أعضاء هذه الفئة انبثقت الاشتراكية الحديثة نفسها هي أيضا، وهم من نقلها إلى أكثر البروليتاريين تطورا من الناحية الفكرية، والذين أخذوا بعد ذلك يدخلونها في نضال البروليتاريا الطبقي حيث تسمح الظروف. وبالتالي فإن الوعي الاشتراكي عنصر يؤخذ من الخارج (von Aussen Hineingetragenes) وينقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي، وليس شيئا ينبثق منه بصورة عفوية (urwûchsig)»[135].

تبرز هنا صيغة كاوتسكي بكل فظاظتها. صحيح أن النظرية الماركسية، التي هي أسمى تعبير عن الوعي الاشتراكي، لم تكن من صنع الطبقة العاملة، بل هي نتاج لأفضل ما تم تحقيقه من طرف الفكر البرجوازي، في شكل الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإنجليزي والاشتراكية الفرنسية. ومع ذلك فإنه ليس صحيحا القول بأن البروليتاريا، إذا ما تركت لنفسها، ليست قادرة على الوصول سوى إلى مستوى الوعي النقابي (أي النضال من أجل تحسين الوضع الاقتصادي في كنف الرأسمالية). فقبل أكثر من عشر سنوات من صدور البيان الشيوعي، تمكنت الطبقة العاملة البريطانية، من خلال الحركة الشارتية[136] -التي وصفها لينين نفسه بأنها أول حزب عمالي ثوري جماهيري في العالم- من أن تذهب بالفعل أبعد من حدود مجرد الوعي النقابي، حيث انتقلت من فكرة الإصلاحات الجزئية والعرائض إلى فكرة الإضراب العام (“العطلة الوطنية الكبرى”) وحتى الانتفاضة المسلحة (رجال “القوة المادية”، وانتفاضة نيوبورت[137]). وبالمثل نجح عمال وعاملات باريس في الواقع -ودون وجود حزب ماركسي واع في القيادة- في الاستيلاء على السلطة، ولو لبضعة أشهر، في عام 1871. ولنتذكر أن ماركس نفسه قد استفاد من تجربة كومونة باريس، والتي منها استخرج فكرته عن الديمقراطية العمالية (“ديكتاتورية البروليتاريا”). وبنفس الطريقة لم تكن فكرة السوفييتات (المجالس) من اختراع لينين أو تروتسكي، بل كانت ابداعا عفويا للبروليتاريا الروسية خلال ثورة 1905.

هل هذا يعني أن الماركسيين ينكرون أهمية العامل الذاتي، أي الحزب الثوري والقيادة؟ على العكس تماما. يظهر كل تاريخ الحركة العمالية العالمية أن البروليتاريا بحاجة إلى الحزب الثوري والقيادة الثورية من أجل الاستيلاء على السلطة. لكن العامل الذاتي لا يمكن صنعه بواسطة “التشكل العفوي”. لا يمكن أن يأتي نتيجة للأحداث أو أن يرتجل عندما تدعوا الحاجة إليه. يجب أن يتم بناؤه مسبقا بعمل شاق على مدى سنوات، وربما عقود. لكن مسألة بناء الحزب الثوري ومسألة الحركة العمالية شيئان مختلفان. يمكن أن تسير العمليتان في خطين متوازيين لفترة طويلة دون أن تتقاطعا. الطبقة العاملة تتعلم من التجربة وتستخلص الاستنتاجات الثورية ببطء وبصعوبة كبيرة. وقد سبق لإنجلز أن أوضح أن هناك فترات في التاريخ تكون فيها عشرون عاما مثل يوم واحد. وتحت وطأة العادة والروتين والتقليد، تبقى الجماهير في نفس الحالة القديمة، حتى تجبرها الأحداث الكبرى قسرا على الخروج منها. وفي المقابل، يضيف إنجلز، هناك فترات أخرى يمكن لعشرين عاما أن تتركز في غضون 24 ساعة.

لقد أثبتت الطبقة العاملة مرارا وتكرارا أنها تريد السير نحو حسم السلطة. كانت البروليتاريا الإسبانية، كما أوضح تروتسكي، قادرة على إنجاز عشر ثورات في الفترة ما بين 1931 و1937. في صيف عام 1936، تمكن العمال في كتالونيا، ومرة أخرى دون قيادة ماركسية، من تحطيم الجيش الفاشي، وتمكنوا فعلا من أخذ السلطة بين أيديهم. أما عدم نجاحهم في تأسيس دولة عمالية وتعزيز قبضتهم على السلطة ونشر الثورة إلى بقية أسبانيا، فلم يكن ذنبهم، بل تقع مسؤولية ذلك على عاتق القادة اللاسلطويين والنقابيين لنقابتي الفدرالية اللاسلطوية الايبيرية (FAI) والكنفدرالية الوطنية للشغل (CNT) وحزب POUM (الحزب العمالي للتوحيد الماركسي). لقد دق هؤلاء القادة المسمار الأخير في نعش الثورة الإسبانية بسبب رفضهم الاجهاز على بقايا الدولة البرجوازية وتأسيس دولة عمالية جديدة على أساس مجالس منتخبة ديمقراطيا للمصانع وممثلي الميليشيات. وفي جميع الأحوال كان ما حدث في كاتالونيا وأجزاء أخرى من إسبانيا، في عام 1936، أبعد بكثير من “الوعي النقابي”. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن فرنسا عام 1968، وعن كل حالة تحاول الطبقة العاملة فيها البدء في أخذ مصيرها بين أيديها.

لا تسقط الأفكار من السماء، بل تتشكل على أساس التجربة. وفي سياق تجربتها تستخلص البروليتاريا حتما بعض الاستنتاجات العامة حول دورها في المجتمع. في ظل ظروف معينة، في معمعة الأحداث العظيمة، يمكن تسريع عملية التعلم بشكل هائل. لكن حتى خلال الفترات العادية من التطور الرأسمالي، يستمر خُلد[138] التاريخ العجوز في الحفر عميقا في وعي البروليتاريا. وفي لحظات حاسمة، يمكن للأحداث ان تنفجر فوق رأس الطبقة العاملة قبل أن يتوفر لهذه الأخيرة الوقت الكافي لاستخلاص جميع الاستنتاجات الضرورية. ليس دور الطليعة الواعية على الإطلاق هو “تعليم العمال كما لو أنهم مجرد أطفال”، لكن دورها هو زرع الوعي في الرغبة العفوية للطبقة العاملة في تغيير المجتمع. ليس في هذه الفكرة أية ذرة للنزعة المثالية. الحياة نفسها تعلم، كما كان لينين يقول دائما. من خلال تجربة حياة الاستغلال والاضطهاد، تكتسب الطبقة العاملة الوعي الاشتراكي، بدءا من فئاتها الأكثر نشاطا والتي تقود الطبقة ككل. هذا بالضبط هو أساس العملية التاريخية التي أدت إلى ولادة النقابات والأحزاب القوية للأمميتين الثانية والثالثة. توجد عناصر الوعي الاشتراكي وفكرة التغيير الجذري للنظام الاجتماعي في القوانين الأساسية لعدد لا يحصى من النقابات ودساتيرها، مع تأكيد على رغبة جامحة في التغيير. الصراع الطبقي نفسه يخلق لا محالة ليس فقط الوعي الطبقي، بل يخلق الوعي الاشتراكي أيضا. من واجب الماركسيين إخراج ما هو موجود بالفعل، وإعطاء التعبير الواعي لما هو موجود في شكل عفوي أو شبه واع.

أولئك الذين يكررون ميكانيكيا خطأ “ما العمل؟” بعد ما يقرب من قرن من الزمان، يفعلون ذلك دون أن يدركوا أن لينين نفسه اعترف، في وقت لاحق، أن هذه الصيغة غير الصحيحة كانت مجرد مبالغة جدالية. وعندما جرت، في المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، محاولة لاستخدام هذه الصيغة ضده، أجاب لينين:

«نحن جميعا نعرف الآن أن “الاقتصادويين” قد تطرفوا في أحد الاتجاهات. ولتصويب الأمور كان على شخص ما أن يسحب في الاتجاه الآخر، وهذا ما قمت به»[139].

 وفي سيرته عن ستالين علق تروتسكي قائلا:

«إن مؤلف “ما العمل؟” نفسه اعترف في وقت لاحق بالطبيعة المتحيزة، وبالتالي الخاطئة لنظريته، والتي كان قد استخدمها بين قوسين كبطارية في المعركة ضد “الإقتصادوية” واحترامها لعفوية الحركة العمالية»[140].

لكن وعلى الرغم من هذا العيب، شكل كتاب “ما العمل؟” معلمة بارزة في تاريخ الماركسية الروسية. في ذلك الكتاب أثبت لينين بشكل قاطع ضرورة التنظيم، والحاجة إلى ثوريين محترفين تكون مهمتهم الأساس هي بناء الحزب، والحاجة إلى حزب عمالي حقيقي لعموم روسيا. لكي تتمكن البروليتاريا من الاستيلاء على السلطة، يجب عليها أن تتنظم. والفشل في تحقيق هذه المهمة يعني، كما أوضح تروتسكي، أن الإمكانيات الثورية للطبقة العاملة سوف تتبدد دون جدوى، مثل البخار التي يتبدد في الهواء هباء عندما لا يتركز بواسطة المكبس.

الفكرة الأساس التي تتخلل كتاب “ما العمل؟” هي الحاجة إلى تدريب كوادر عمالية، وليس مجرد مناضلين نقابيين واعين، بل عمالا يمتلكون فهما واضحا للأفكار الماركسية: «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالإنتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا» [التشديد من عندي: آلان وودز].

إن ما يطرحه لينين هنا ليس على الإطلاق التقليل من قدرة العمال على الفهم، بل على العكس تماما. إن همه الأساس هو مكافحة الأحكام المسبقة البرجوازية الصغيرة بأن “العمال لا يمكنهم أن يفهموا النظرية” وأنه يجب على أدبيات الحزب أن تقتصر على الشعارات الاقتصادية والمطالب العاجلة. وعلى العكس من ذلك، أصر لينين على أنه:

«من الضروري على العمال ألا يحصروا أنفسهم في الحدود الضيقة بشكل مصطنع لـ “الأدب الموجه للعمال”، بل عليهم أن يتعلموا بدرجة متزايدة إتقان الأدب العام. سيكون أكثر صدقا أن نقول “ألا يتم حصرهم”، عوض “ألا يحصروا أنفسهم” لأن العمال أنفسهم يرغبون في قراءة، وهم يقرأون، كل ما هو مكتوب للمثقفين، وفقط بعض المثقفين (السيئين) هم من يعتقدون أنه يكفي أن يقال “للعمال” أشياء قليلة عن ظروف المصنع وتكرر على مسامعهم مرارا وتكرارا أشياء معروفة منذ زمن طويل»[141].

مع الانطلاق من المشكلات المباشرة التي تواجه الطبقة العاملة، والنضال من أجل جميع أنواع المطالب الجزئية، من الضروري أن نتجاوز الخاص ونربط الصلة مع العام، ينبغي الانطلاق من نضال مجموعات العمال ضد أصحاب العمل الأفراد، إلى نضال الطبقة العاملة ككل ضد البرجوازية ودولتها. أقام لينين بطريقة بارعة العلاقة الجدلية الموجودة بين التحريض والدعاية والنظرية وشرح الطريقة التي يمكن بها للقوى الماركسية الصغيرة، من خلال كسبها للفئات الأكثر تقدما بين صفوف الطبقة العاملة، أن تكسب بعد ذلك البروليتاريا ومن خلالها تكسب كل الشرائح المضطهَدة الأخرى في المجتمع من فلاحين وقوميات مضطهَدة ونساء. كان الاقتصادويون في البداية ناجحين لأنهم اكتفوا بمجرد التكيف مع الأحكام المسبقة للفئات الأكثر تخلفا بين العمال. لكن العمال، كما يقول لينين، ليسوا مجرد أطفال يمكن تغذيتهم بذلك الحساء الهزيل. إنهم لا يريدون أن يسمعوا ما يعرفونه بالفعل. لدى العمال تعطش للمعرفة، ومن واجب الماركسيين أن يرووا ذلك العطش. مع الانطلاق من المشاكل العاجلة للطبقة العاملة، من الضروري رفع مستوى وعيها لكي تصل إلى فهم كامل لدورها في المجتمع، وارشادها لطريق الخروج من المأزق.

يقظة جديدة

شهدت بداية القرن العشرين في روسيا مرحلة نمو صناعي سريع، ساهم في المزيد من تقوية الطبقة العاملة التي وصل عددها حينها إلى حوالي ثلاثة ملايين. ما بين سنة 1894 و1902 ارتفعت نسبة العمال المشتغلين في المصانع التي تضم ما بين 100 و150 عامل، إلى 52,8%، بينما ارتفعت نسبة العمال الذين يشتغلون في مصانع تضم ما بين 500 عامل وألف عامل إلى 72%. أما الزيادة الأهم فقد كانت تلك التي شهدتها المصانع الأكبر التي تشغل أكثر من ألف عامل، والتي سجلت ما لا يقل عن 141%. في تلك الفترة كان 1.155.000 عامل يشتغلون في 458 معملا. وقد عكس التكوين الطبقي للحركة الثورية هذا التغير العميق في العلاقات الاجتماعية، فبين سنة 1884 و1890، كان العمال يمثلون فقط 15% من عدد المعتقلين لأسباب سياسية، لكن نسبة العمال بين المعتقلين لأسباب سياسية وصلت ما بين 1901 و1903، إلى 46%، أي حوالي النصف. وتكشف إحصائيات حركة الإضرابات السيرورة السريعة لموجة التسييس بين صفوف الطبقة العاملة:

السنوات190119021903
الإضرابات السياسية%22,1%20,4%53,2
الإضرابات الاقتصادية%77,9%79,6%46,8
(المصدر: Istoriya KPSS, vol. 1, p: 357)

تزامن إصدار إيسكرا مع بداية حراك ثوري جديد. وكانت المظاهرات الحاشدة التي نظمها عمال خاركوف في 01 ماي 1900 إشارة انطلاق لمرحلة عاصفة من مظاهرات الشوارع. كتب قائد الدرك الجنرال سبيريدوفيش قائلا:

«لقد استوعبت الحركة الاشتراكية الديمقراطية المعنى التحريضي الهائل للخروج إلى الشوارع. ومنذ تلك اللحظة أخذت على عاتقها المبادرة في الدعوة إلى المظاهرات، وتمكنت من أن تستقطب إلى صفوفها أعدادا متزايدة باستمرار من العمال. وفي العديد من المرات كانت تلك المظاهرات ناتجة عن الإضرابات»[142].

كان المزاج الكفاحي الذي اكتسح المصانع يعكس تصاعد التوتر الاجتماعي نتيجة الأزمة الصناعية لسنوات 1900 و1903، عندما قام 3.000 مصنع بإغلاق أبوابه وتسريح حوالي 100.000 عامل. قام أرباب العمل بتخفيض الأجور في محاولة لحل الأزمة وضرب المكتسبات التي تحققت بفضل إضرابات عقد التسعينيات. ونتيجة لذلك سرعان ما تسيست الحركة وصارت أكثر جذرية. تحول إضراب دفاعي، في مصنع أوبوخوف للأسلحة بسان بيترسبورغ، في ماي 1901، إلى اصطدام دموي مع قوات القمع، عندما رد العمال الهجوم باستعمال الحجارة والقضبان الحديدية. وقد صارت هذه المعركة العمالية البطولية تعرف باسم “دفاع أوبوخوف”. وقد تعرضت لانتقام وحشي حيث تم اعتقال 800 عامل حكم على العديد منهم بالأشغال الشاقة. إلا أنها كانت دليلا واضحا على أن الحركة قد بلغت مرحلة جديدة، حيث صار العمال مستعدين للانتقال نحو الهجوم والاصطدام بالدولة. وهكذا ذهب العمال، بتجربتهم النضالية الخاصة، أبعد بكثير من حدود “نظرية المراحل” الاقتصادوية التافهة.

سنة 1902 اندلع إضراب عام في روستوف- نا- دونو مع مظاهرات حاشدة ضمت عشرات الآلاف من عمال المصانع والسكك الحديدية. أرسلت الدولة قوات البوليس والقوزاق التي قتلت العديد من العمال. وقد تحولت جنازات هؤلاء العمال إلى مظاهرات سياسية. وصلت الحركة الإضرابية إلى أوجها سنة 1903، عندما اكتسحت موجة من الإضرابات السياسية المنطقة الجنوبية، ووصل تأثيرها إلى تيفليس وباكو وأوديسا وكييف وييكاتيرينوسلاف. لقد أعطت حركة الطبقة العاملة دفعة هائلة لنضالات الفلاحين، حيث اندلعت انتفاضات فلاحية في إقليم بولتافا وخاركوف. أرسلت الدولة 10.000 جندي لقمع الانتفاضات، لكن الحركة امتدت إلى منطقة الأرض السوداء الوسطى والفولغا وجورجيا. وتعرضت قصور الملاكين العقاريين للإحراق عندما نهض الفلاحون وناضلوا ضد مضطهِديهم، وفي هذا السياق كتب أحد الملاكين العقاريين من فورونيزه سنة 1901: «الجو مليء بالأخطار، ترى في كل يوم الحرائق في الأفق: سحابة دموية تزحف على الأرض»[143].

وسرعان ما انتشر المزاج الثوري بين الطلاب. وفي ظل تلك الظروف اتخذ مطلب يبدو ظاهريا مطلبا محدودا، من قبيل استقلالية الجامعة، طابعا ديمقراطيا ثوريا. ولسحق كفاحية الطلاب لجأت السلطات القيصرية إلى إجراءات قمعية من قبيل فرض الخدمة العسكرية على الطلاب، على سبيل المثال. تم اعتقال عشرات الآلاف في المظاهرات الجماهيرية، لكن هذا لم يؤد إلا إلى المزيد من صب الزيت على النار. وعلى الرغم من أن الأغلبية الساحقة من الطلاب كانوا ينحدرون من الطبقات الغنية وكانوا قريبين من اللبراليين في مواقفهم السياسية، فإنهم صاروا يرون في الطبقة العاملة حليفا لهم في النضال ضد الاستبداد. وانتهى الأمر بالعديد منهم في صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية. في شتاء 1901- 1902 شارك ما يقارب 30.000 طالب في إضراب عام ضد الحكومة. في عددها الثاني أرسلت إيسكرا دعوة إلى العمال لـ “مد يد المساعدة للطلاب”. وعلى عكس الاقتصادويين المتصلبين، الذين كانوا ينظرون بارتياب إلى الحركة الطلابية أو أي شيء آخر يسير أبعد من حدود المطالب النقابية، فهم لينين الإمكانية الثورية للحركة الطلابية بالرغم من تكوينها غير العمالي. كتب زينوفييف:

«في نفس الوقت الذي دافع فيه لينين وأنصاره عن سيادة البروليتاريا، دافعوا عن موقف يقول إذا ما كانت الطبقة العاملة هي العامل الرئيسي وإذا كانت القوة الأساسية والجوهرية للثورة، فإنه عليها أن تستعين بجميع أولئك الذين يريدون النضال بأي قدر كان ضد الاستبداد»[144].

ساعدت حركة الجماهير الثورية في إخراج الانتلجنسيا من تشاؤمهم العميق. أدى تأسيس الحزب الاشتراكي الثوري، سنة 1902، إلى عودة الحياة إلى الحركة البرجوازية الصغيرة الثورية تحت راية النارودنية والإرهاب الفردي. قام الطالب كاربوفيش بإطلاق النار على وزير التعليم بوغوبليبوف، كما قام لاغوفسكي بإطلاق النار على بوبيدونوستسيف. كان المزاج الإرهابي بين صفوف الطلاب دليلا على الأزمة الثورية التي كانت تتطور. وفي الوقت الذي عبر فيه الماركسيون الروس عن تعاطفهم مع الطلاب فإنهم لم يخفوا انتقاداتهم للطريق المسدود الذي كان تكتيك الإرهاب الفردي يمثله. لقد تم تعويض وزير رجعي بآخر، وبقيت الدولة سليمة، بل في الواقع ازدادت قوة. بينما تعرضت الحركة لقمع شديد.

شقاء الجماهير أعطى قدرا من الشجاعة للبراليين الذين بدأوا يستعملون السلطات المحدودة التي كانت توفرها لهم سلطات الزيمستفو. في بداية القرن كانت العديد من الزيميستفوات تحت سيطرة اللبراليين الذين حاولوا استعمالها منبرا يمكنهم من خلاله التقدم بمطالبهم إلى الحكومة. وبدأ الممثلون السياسيون للبرجوازية الروسية، الذين أحسوا بأن الأرض قد بدأت تهتز تحت أقدامهم، ينتظمون بتردد. كان إصدار جريدة غير شرعية في المنفى، أوسفوبوجديني، (التحرير)، سنة 1902، هو الخطوة الخجولة الأولى نحو تأسيس الحزب اللبرالي لاحقا. شكل هذا الحدث القطيعة النهائية مع الماركسية للتيار الماركسي الشرعي بزعامة بيتر ستروفه، الذي صار رئيس تحرير أوسفوبوجديني. حاولت البرجوازية اللبرالية، بالرغم من كل شعاراتها حول الديمقراطية، التوصل إلى مساومة مع النظام الاستبدادي من أجل طرح دستور محدود. كانت المشكلة هي أن النظام كان يفضل الاكتفاء بالاعتماد على سوط القوزاق على الاعتماد على اللبراليين، الذين كانوا عاجزين عن التحكم في الجماهير. لكن قسما من الحكومة، ممثلا في وزير الاقتصاد وايت، حاول الاستناد إلى الزيميستفوات من أجل الحصول على قاعدة للدعم. ومع بداية سنة 1901، كتب وايت مذكرة سرية تحت عنوان: “الاستبداد والزيميستفو”، والذي نشر بشكل غير شرعي في المنفى بمقدمة لم يكتبها سوى بيتر ستروفه شخصيا.

في مقدمته أوضح بيتر ستروفه قطيعته النهائية مع الماركسية، وتقمص دور مستشار للحكومة. كتب ستروفه: «لا شك في أنه يوجد بين صفوف الموظفين الكبار أشخاص لا يتعاطفون (!) مع السياسة الرجعية (…). عليها [أي: الحكومة] أن تنتبه، قبل فوات الأوان، للخطر المميت لدفاعها الدائم عن النظام الارستقراطي. عليها، حتى قبل أن تواجه الثورة، أن تتوقف عن الوقوف ضد التطور الطبيعي والضروري تاريخيا (!) للحرية وتقلص من “سياستها المتشددة”»، الخ الخ.

توترات في صفوف هيئة التحرير

في مقاله “مضطهدو الزيمستفو وهنبعل الليبرالية”[145]، قام لينين برد حازم على ستروفه، وقد كتب:

«لا مكان للخضوع في السياسة، وحده التبسيط والسذاجة ما يجعل المرء يعتبر أسلوب فرق تسد (Divide et impera) البوليسي القديم، والتنازل عن التافه من أجل الحفاظ على ما هو أساسي، وإعطاء الشيء بيد واستعادته باليد الأخرى، دليلا على الخضوع»[146].

كان مضمون ذلك المقال كله إدانة صارمة للبرالية. منذ البدايات الأولى للحركة العمالية الروسية كان الموقف من الأحزاب البرجوازية يمثل حجر الزاوية في النهج الثوري. لقد عبر لينين دائما عن موقف حازم بخصوص هذه المسألة. ومن المعبر أن هذا الهجوم على ستروفه واللبراليين تسبب في حدوث خلاف داخل صفوف هيئة تحرير الايسكرا. وقد وقف بليخانوف وأكسليرود مندهشين أمام فجائية هذا الجدال.

كتب بليخانوف رسالة لأكسليرود عبر له فيها عن شكوكه قائلا:

«إن موقف الكاتب من مقدمة المذكرة صحيح بشكل كلي، ولا مجال لتخفيف حدته، على الرغم من أنه لم يرق كثيرا لفيرا زاسوليتش. لكنه استعمل نبرة خبيثة تجاه اللبراليين واللبرالية في روسيا. وهناك مسألة أخرى، من المهم أن تقرأ بتمعن الفصل الذي يناقش أهمية العمل داخل الزيمستفو. أنت هو خبيرنا في مجال التكتيك وأنت من يمكنه أن يحكم ما إذا كان الكاتب على حق. لدي انطباع بأن ثمة خطأ ما»[147].

اضطر لينين على مضض لأن يضيف في النهاية فقرة بنبرة تصالحية. لكن ورغم ذلك فإن الفكرة الأساسية للمقال واضحة بشكل تام: وهي أن اللبراليين البرجوازيين قد أبانوا بشكل كامل عن جبنهم وعجزهم، وبسبب افتقارهم للسلطة لجئوا إلى التضرع للنظام الأوتوقراطي لكي يقدم بعض التنازلات، واستغلوا بلا حياء التهديد بثورة قد تأتي من تحت؛ والتي سوف يخونونها حتما مقابل مساومة متعفنة مع الحكومة، التي تغازلهم بالوعود الكاذبة، «لكي تقبض على رقبتهم وتجلدهم بسوط الردة الرجعية. وعندما سيحدث هذا أيها السادة لن ننسى أن نقول: إنكم تستحقون ذلك!». لم يكن صدفة ذلك الخلاف حول مقال لينين، مع المعرفة التي قدمتها التجربة. إذ على الرغم من انتقادات بليخانوف لستروفه، فقد كان هناك تيار بين أعضاء مجموعة تحرر العمل لم يكن يرى ضرورة القطيعة الجذرية مع تلك الفئة من المثقفين البورجوازيين لتيار الماركسية الشرعية، الذي كان قد صار يتجه بوضوح نحو اليمين واللبرالية البورجوازية. كان لينين وكروبسكايا يلقبان زاسوليتش وبوتريسوف بـ “Struvefreundliche Partei”، وهو ما يمكننا ترجمته بشكل تقريبي بعبارة: “تيار التعامل بشكل طيب مع ستروفه”.

العادات القديمة تقاوم الموت. إذا تركنا جانبا بليخانوف الذي كان شخصا متميزا بالرغم من كل أخطاءه، فإن بقية أعضاء المجموعة القديمة كانوا قد أصبحوا عاجزين أكثر فأكثر عن التكيف مع المرحلة الجديدة. عموما وحدهم القادة المتميزين جدا من يمتلكون القدرة على الانتقال الضروري من مرحلة تاريخية، بمتطلباتها الخاصة، إلى مرحلة أخرى مختلفة تماما. وليس من المصادفة أن تكون كل مرحلة انتقال مصحوبة بالأزمات والانشقاقات، حيث يتم التخلي عن شريحة من الاشخاص الذين يعجزون عن التكيف مع الظروف الجديدة. إن بناء حزب عمالي جماهيري لا يتوافق مع أساليب الهواية في العمل وانعدام الرسميات، والتي تميز المرحلة الأولى لنشاط الدعاية. كانت ضرورة تحقيق عمل أكثر احترافية واحدة من المحاور الأساسية لكتابات لينين في تلك المرحلة، وفي هذا السياق كتبت كروبسكايا:

«ضرورة تنظيم العمل على أساس عملي، بحيث لا يكون للعامل الشخصي أي دور في العمل، بحيث لا يكون للنزوات والعلاقات الشخصية، التي تشكلت تاريخيا، أي تأثير على القرار»[148].

كانت النزعة المحلية وغياب الاحترافية، التي استمرت موجودة في العديد من اللجان، تعرقل العمل في وقت كانت تنفتح فيه امكانيات كبرى. لم يكن هناك مجال لأي نزعة للبحث عن التوافقات والمساومات أو تأبيد هذه الفوضى. وقد لاقت رسالة إيسكرا، التي قامت على ضرورة الدفاع عن النظرية الماركسية ومن أجل حزب موحد وعمل أكثر احترافية، ترحيبا من طرف العمال. لكن في نهاية عام 1901 لم يكن هناك سوى تسعة ممثلين لإيسكرا في كل روسيا وكان تيار إيسكرا ما يزال أقلية. في البداية كان العديد من أعضاء اللجان المحلية مرتابين تجاهها أو حتى معادين لها. وهكذا ففي المؤتمر الثاني، علق أحد المؤتمرين قائلا:

«أتذكر مقال “بم نبدأ”؟ الذي نشر في العددين 03 و04 لإيسكرا. لقد وجده الكثير من الرفاق النشيطين داخل روسيا مفتقرا للباقة؛ بينما رأى آخرون أن تلك الخطة كانت رائعة، بينما اعتبرته الأغلبية نابعا عن الحماس. ثم أتذكر الكره الذي عبرت عنه أغلبية اللجان تجاه إيسكرا؛ أتذكر حدوث سلسلة من الانشقاقات…»[149].

لقد تم بناء تيار إيسكرا تدريجيا بعمل صبور تركز حول الجريدة نفسها. إيسكرا التي بدأت جريدة شهرية صارت لاحقا تصدر كل نصف شهر. وتمكنت ببطئ، لكن بثبات، من بناء شبكة من المراسلين العمال في المصانع والأحياء العمالية لتوزيع الجريدة وجمع المساهمات المالية بشكل منتظم وربط الاتصال مع مختلف المنظمات وتأسيس محيط من المتعاطفين. كان الدور الحاسم في هذا العمل هو الذي لعبه العدد المتزايد من ممثلي إيسكرا والرجال والنساء الذين كرسوا حياتهم بشكل كامل للعمل الثوري. لقد تمكنوا، في ظروف العمل السري الصعبة والخطيرة، من إنجاز مهمة بناء التيار داخل روسيا، وحافظوا على علاقة منتظمة مع القيادة في الخارج، ونظموا النقل غير الشرعي للأدبيات السياسية، وأقاموا مطابع سرية، الخ. يعطينا تعليق تروتسكي عن تلك المرحلة، التي لعب هو خلالها دورا نشيطا داخل إيسكرا، صورة حية عن طبيعة عمل وأسلوب عيش هؤلاء الناس:

«كانت المهمة العاجلة لإيسكرا هي أن تنتخب من بين العمال المحليين العناصر الأكثر تميزا وتوظفهم في خلق جهاز مركزي قادر على قيادة النضال الثوري في جميع أنحاء البلد. كان عدد المنخرطين في إيسكرا كبيرا ويزداد كل لحظة. لكن عدد الإيسكريين الحقيقيين، العناصر الجديرة بثقة المركز الموجود في الخارج، كان محدودا بحكم الضرورة: لم يكن يتجاوز عشرين إلى ثلاثين شخصا. إن أكثر ما يميز عضو إيسكرا هو انفصاله عن مدينته وإقليمه بهدف بناء الحزب. كانت “االنزعة لمحلية”، في معجم إيسكرا، مرادفا للتخلف والتفاهة والرجعية تقريبا. كتب جنرال الدرك سبيريدوفيتش قائلا: “متحدين في مجموعة تآمرية للمحرضين المحترفين، ينتقلون من مكان إلى آخر حيث يريدون تشكيل لجان للحزب ويقيمون العلاقات مع أعضائهم ويقدمون لهم الأدبيات غير الشرعية ويساعدونهم على تشكيل مطابع سرية ويجمعون في نفس الآن المعلومات من أجل إيسكرا. يتسللون إلى اللجان المحلية ويقومون بدعايتهم ضد الاقتصادويين ويقصون خصومهم الايديولوجيين، وبهذه الطريقة يخضعون اللجان لنفوذهم”. قدم ذلك الدركي المتقاعد في هذه الأسطر وصفا صحيحا بشكل كامل للإيسكريين. لقد كانوا أعضاء نظام يسير فوق حدود المنظمات التي كانوا لا يرون فيها سوى مكان حيث يجب ممارسة التأثير».[150]

كانت المراكز الثلاثة الأولى لتوزيع إيسكرا موجودة في الجنوب (بولتافا) والشمال (بسكوف) والشرق (سمارا) ولاحقا موسكو في الوسط. لقد تم تأسيس التيار حول راية الجريدة، وبناء على نظرية لينين “الجريدة منظم جماعي” تم تشكيل شبكة من المراسلين العمال في المصانع من أجل توزيع الجريدة وإنتاج المقالات وجمع المساهمات المالية وربط الاتصال مع المنظمات الأخرى وخلق محيط محلي من العلاقات. كانت الجريدة مركز كل عمل التيار. انعكست مرحلة انعدام التنظيم والفوضى في تكاثر الجرائد والمناشير المحلية. كانت إيسكرا قوة جبارة للتوحيد، وحدت اللجان المحلية عبر كل روسيا وأعطتها رابطا ثابتا بالمركز القيادي في الخارج. هكذا بدأ العمل المنهجي لكسب اللجان داخل روسيا لتيار إيسكرا. كان العمل محفوفا بالصعوبات. لم يكن عملاء إيسكرا مضطرين فقط لمراوغة الجهاز البوليسي اليقظ دائما، بل كانوا مضطرين في بعض الأحيان حتى للنضال من أجل الدخول إلى اللجان.

بعض المؤرخين البورجوازيين المعاصرين يتهمون إيسكرا باللجوء إلى المناورات من أجل كسب النفوذ، وهو اتهام خاطئ، فقد كان الاقتصادويون، العاجزين تماما عن الدفاع عن أفكارهم أمام النقد الماركسي، هم من لجئوا إلى استعمال أساليب بيروقراطية من أجل إسكات صوت خصومهم. كان توكاريف، القائد الاقتصادوي للجنة سان بيتر سبورغ، متحمسا لطرد أي متعاطف مع إيسكرا، حتى نال لقب فيشيبالو (أي الغوريلا). لقد وفر تقدم الحركة الثورية حقلا خصبا لانتشار أفكار إيسكرا؛ وفي العديد من المناطق أدى الصراع من أجل النفوذ داخل اللجان إلى حدوث الانشقاق. لكن اللجان المعادية لإيسكرا كانت دائما تضعف وتختفي بينما استمر عدد لجان إيسكرا النشيطة في التزايد. لم يكن نجاح إيسكرا هذا ليمر دون أن يلاحظه جهاز البوليس، فتم اعتقال عدد كبير من المتعاونين معها في نهاية عام 1901 وبداية 1902. لكن ذلك لم يؤد إلى وقف تقدم التيار.

الاقتصادويون في تراجع

كانت القاعدة الرئيسية التي بقيت مساندة لاقتصادويي تيار رابوتشي ديلو هي منظمة المنفيين السياسيين، “اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين في الخارج”. وكانت محاولة تحقيق الوحدة على أساس مبدئي قد فشلت بعد المؤتمر التوحيدي الذي انعقد بداية عام 1901. غادر أنصار إيسكرا الاتحاد في شتنبر، وأنشأوا في الشهر الموالي “رابطة الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين في الخارج”. اقتصادويي اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين في الخارج، الذين رأوا أن الوضع في روسيا يخرج من تحت سيطرتهم، قرروا توجيه ضربة استباقية بالدعوة سريعا لعقد مؤتمر للحزب، كانوا يأملون أن يعطيهم بعض الامتياز.

كان أتباع رابوتشي ديلو على اتصال مع حزب البوند الذي، وبصرف النظر عن دعمه العام للاقتصادويين، كان له اهتمام خاص بمسألة عقد المؤتمر. كان البوند يطالب ليس فقط بالاستقلال الذاتي داخل الحزب، بل وبالحق الحصري في الكلام باسم حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي -الذي تأسس في المؤتمر الأول لكن لم يتنظم بشكل صحيح إلا في عام 1903- فيما يخص الشؤون اليهودية. أدى ذلك إلى اندلاع مواجهة مباشرة مع إيسكرا، التي اعتبرت، كما قالت كروبسكايا، أن «هذه التكتيكات انتحارية بالنسبة للبروليتاريا اليهودية. لا يمكن للعمال اليهود ان ينتصروا بمفردهم. ولا يمكنهم الانتصار إلا باندماجهم مع القوى الأخرى للبروليتاريا في جميع روسيا»[151].

ولمنع إيسكرا من عقد مؤتمر يعرفون أنهم سيكونون فيه أقلية، لجأ الاقتصادويون والبوند إلى القيام بمناورة. في نهاية مارس 1902، دعوا إلى ما أسموه مؤتمر بيلوستوك. وكانت الفكرة هي استبعاد إيسكرا، لكن غياب التمثيلية الكافية في الاجتماع كان واضحا جدا (في الواقع، كان الحضور أقل حتى مما كان عليه خلال المؤتمر الأول)، مما أفشل المناورة. بالإضافة إلى ذلك كانت إيسكرا قد علمت بالاجتماع وبعثت ممثلا عنها، فيدور دان، الذي حضر دون دعوة وتوصل إلى دفع الحاضرين إلى التخلي عن إطلاق اسم مؤتمر على الاجتماع، وأطلقوا عليه اسم كونفرانس مهمته انتخاب لجنة تنظيمية للتحضير للمؤتمر. بعد ذلك بوقت قصير، ألقي القبض على أغلبية المندوبين في المؤتمر، إلى جانب عضوين في اللجنة التنظيمية. عندها سقطت كل مهام عقد المؤتمر على كاهل إيسكرا. وفي اجتماع جديد عقد في بسكوف، في نوفمبر 1902، تم تشكيل لجنة تنظيمية جديدة، كانت هذه المرة مشكلة في غالبيتها من أنصار إيسكرا. وبدأت الأعمال التحضيرية للمؤتمر الثاني بجدية.

كانت المهمة التي تواجه إيسكرا هائلة جدا. كان مجرد نقل الصحيفة كابوسا. كانت تهرب إلى روسيا في حقائب مزدوجة القاع، ملزمة كما لو كانت كتبا، وكانت ترسل مع البحارة والطلاب، عبر مرسيليا وستوكهولم ورومانيا وبلاد فارس وحتى مصر. وكانت كميات كبيرة من الجرائد تضيع في الطريق. تقدر كروبسكايا أن الجرائد التي كانت تصل إلى وجهتها لا تتجاوز 10%. وكانت المراسلات مع الداخل غير منتظمة. في كثير من الأحيان لم يكن أنصار إيسكرا على اتصال منتظم مع المركز في لندن، وهو ما كان يفقد لينين أعصابه في بعض الأحيان. وحتى عندما كانت الرسائل تصل، لم تكن المشاكل قد انتهت. كثيرا ما كانت العناوين غير مقروءة أو منتهية الصلاحية. لم يكن من الممكن قراءة الرسائل المشفرة لأن الحليب أو عصير الليمون الذي كتبت به يكون قد فقد صلاحيته. وكان العمل ينقطع في كثير من الأحيان بسبب الاعتقالات.

لكن وعلى الرغم من كل المشاكل، تمكنت إيسكرا من التقدم بوتيرة ثابتة. كان نشر صحيفة نصف شهرية منتظمة هو مفتاح نجاح إيسكرا. وعلى عكس طابع الهواية الذي كان يميز الصحف المحلية المتنافسة، كانت إيسكرا تكتب وتطبع بطريقة احترافية. كانت الاحترافية هي السمة المميزة لعملها. وليس من قبيل الصدفة أن لينين قد ركز كثيرا على أهمية ذلك في كتابه “ما لعمل؟”.

نجاح إيسكرا في روسيا زاد إلى حد كبير من نفوذ لجنة التحرير التي كان مقرها لندن، والتي كانت بمثابة المركز الذي ينطلق منه ليس فقط التوجيه النظري فحسب، بل أيضا التوجيهات العملية. لكن، وعلى غفلة من المناضلين، كانت هناك توترات خطيرة ومتنامية بين الشخصيات البارزة في إيسكرا. فبينما كانت التحضيرات للمؤتمر تتقدم وكان التاريخ الحاسم يقترب، بدأت تلك التوترات أيضا تصير أكثر فأكثر حدة. كان معظم العمل على كاهل لينين وزوجته نادجدا كونستانتينوفنا كروبسكايا. كان لينين هو المحرر الحقيقي للجريدة، وكروبسكايا المتفانية والدؤوبة حققت المعجزات في العمل التنظيمي والحفاظ على المراسلات الهائلة مع الداخل. كان ذلك عنصرا هاما في نجاح إيسكرا. كان هناك أشخاص آخرون متفانون في العمل، مثل بلومنفلد، المسؤول عن طباعة إيسكرا، والذي كتبت عنه كروبسكايا قائلة: «كان منضدا ممتازا ورفيقا رائعا، كان لديه حماس متقد لعمله. (…) كان رفيقا يمكن للمرء أن يثق فيه بشكل كامل. وأي عمل يقوم به يتمه بإتقان».

لعب مارتوف دورا هاما على المستوى الأدبي، وكان بليخانوف عملاقا نظريا. لكن في الممارسة العملية لم يكن بقية الأعضاء الآخرين، من المخضرمين في مجموعة بليخانوف، يلعبون سوى دور صغير جدا، أو لا شيء على الإطلاق. كان هؤلاء المناضلين القدامى قد اعتادوا طيلة عقود على الحلقات الصغيرة للمنفيين السياسيين، والتي تتميز بغياب كلي للعلاقات الرسمية وهيمنة العلاقات الشخصية، والتي تتفوق أحيانا على السياسية، فصاروا أكثر فأكثر عجزا عن التكيف مع متطلبات الوضع الجديد. كان أعضاء مجموعة تحرير العمل قد علقوا أهمية كبيرة على القدرة التنظيمية لدويتش، لكنه عندما جاء أخيرا إلى لندن، سرعان ما أتضح أن سنوات المنفى الطويلة قد تركت عليه بصماتها. وبعد فترة قصيرة قضاها في لندن، غير دويتش رأيه وعاد إلى الأجواء الأكثر بهجة بين المنفيين السياسيين في باريس، تاركا لينين تحت عبء الإعداد للمؤتمر. وتتذكر كروبسكايا الوضع خلال الأشهر المرهقة التي سبقت المؤتمر الثاني:

«لقد وقع كل عمل اللجنة التنظيمية والإعداد للمؤتمر، في الواقع، على كاهل فلاديمير إليتش. كان بوتريسوف مريضا، إذ لم تتمكن رئتاه من تحمل ضباب لندن وكان قد ذهب للعلاج في مكان ما، وكان مارتوف متعبا من لندن وحياته وحيدا فذهب إلى باريس حيث كان مثل سمكة خارج الماء»[152].

كانت لجنة التحرير تتألف من ستة أعضاء (لينين وبليخانوف وأكسلرود وزاسوليتش ومارتوف وبوتريسوف)، والذين كثيرا ما كانوا يتورطون في نزاعات مريرة. وفي الفترة التي سبقت المؤتمر، كانت هناك معركة بين لينين وبليخانوف حول مسودتي البرنامج اللتان كان كل منهما قد كتب واحدة. وفي جو التوتر الشديد، كانت نبرة النقاش تحتد في كثير من الأحيان. وعندما قدم بليخانوف مسودته، في يناير 1902، أثار لينين ومارتوف تجاهها بعض الانتقادات، والتي اعتبرها بليخانوف، كما كانت العادة دائما، بمثابة إهانة شخصية له. وعندما اقترح الرفاق أن يتم التصويت على مشروع البرنامج نقطة بنقطة، كان رده هو مغادرة الاجتماع. وفي وقت لاحق كتب لينين مسودة بديلة نوقشت في جو متوتر جدا. كانت هناك مشاهد من الغضب والتهديدات والإنذارات. ويقدم لنا وصف كروبسكايا لذلك الاجتماع صورة حية عن الحياة الداخلية للجنة تحرير إيسكرا في تلك الفترة:

«كان يتم إعداد برنامج الحزب للمؤتمر. ولمناقشته جاء إلى ميونيخ كل من بليخانوف وأكسلرود. هاجم بليخانوف بعض مقاطع البرنامج التي وضعها لينين. لم تكن فيرا ايفانوفنا متفقة على جميع النقاط مع إليش، لكنها لم تتفق تماما مع بليخانوف كذلك. كما اتفق أكسلرود مع لينين حول بعض النقاط. كان الاجتماع شاقا جدا. أرادت فيرا ايفانوفنا الاعتراض على بليخانوف، لكنه اعتمد موقفا متصلبا، وعقد يديه فوق صدره ونظر إليها نظرة جعلت أعصابها تهتز تماما. وعندما حان وقت التصويت، قال أكسيلرود، الذي كان قد اتفق مع لينين بشأن هذه المسألة، إنه يعاني من صداع في الرأس وإنه يريد الذهاب في جولة على الأقدام. غضب فلاديمير إيليتش غضبا شديدا وقال: “لا يمكننا العمل بهذه الطريقة، هل يمكن وصف مثل هذا النقاش بأنه نقاش عملي؟”»[153].

كان الخلاف المبدئي حول موقف بليخانوف بأن الرأسمالية الروسية كانت قد بدأت “تصير نمط الإنتاج المهيمن”. يبدو هذا للوهلة الأولى مجرد تصريح بسيط، لكنه في مشروع لينين كان يعني التأكيد على نضج الظروف الموضوعية في روسيا لقيام البروليتاريا بالدور القيادي، وأضاف لينين: «إذا لم تكن الرأسمالية قد صارت بعد الشكل المهيمن، ألا ينبغي لنا أن نؤجل، ربما، الحركة الاشتراكية الديمقراطية؟».

إصرار لينين على هذه النقطة، وإحجام بليخانوف عن قبول ذلك، يوضح التكوين النفسي والسياسي المختلف تماما للرجلين: فلينين الواقعي الثوري، الذي لا يتحمل الصيغ المجردة، كان دائما على استعداد لاستخلاص استنتاجات عملية جريئة والبحث عن التطبيق الملموس والثوري للنظرية؛ بينما بليخانوف لم تكن مواهبه النظرية العظيمة مصحوبة بغريزة ثورية وكان مفصولا عن متطلبات الحركة الواقعية. كانت صيغ بليخانوف النظرية العامة، باعتبارها إعلانا عاما للمبادئ، قد لعبت دورا تقدميا في النضال ضد النارودنية، لكنها لم تعد صالحة في المرحلة الجديدة للصراع الطبقي في روسيا. لقد اشتكى لينين من أن مسودة بليخانوف ليست مرشدا للعمل الثوري، بل كتابا مدرسيا لطلاب «العام الأول الذين يتحدث لهم عن الرأسمالية بشكل عام، وليس عن الرأسمالية الروسية»[154].

ومع ذلك فإن جوهر الخلاف لم يركز كثيرا على القضايا الأساسية، كما ركز على تحديد طريقة جديدة للعمل وعلى مفهوم مختلف لدور البرنامج. كانت هناك أفكار مجردة في مشروع بليخانوف، اعتبرها لينين أكاديمية جدا وغير ملموسة بشكل كاف. كان [بليخانوف] صوت داعية منفي وليس صرخة موحدة لحزب جماهيري ثوري جديد. أما بالنسبة إلى بليخانوف فلا شك في أنه كان هناك بعض الحقد الشخصي في هجماته ضد لينين، والتي تضمنت عبارات توجه عادة، كما اشتكى مارتوف، للأعداء السياسيين. وقد عمل بليخانوف على ملء مشروع لينين بالخطوط المزدوجة والملاحظات والتعليقات الساخرة حول الأسلوب، وما إلى ذلك.

وصلت العلاقات بين لينين وبليخانوف إلى نقطة القطيعة. لينين الذي، باسم الحفاظ على الوحدة، تحمل بصبر جميع الإهانات من جانب بليخانوف، وصل صبره إلى نهايته، وقال بمرارة: «بالطبع، أنا لست سوى حصان، لست سوى أحد أحصنة الحوذي بليخانوف، لكن الحقيقة هي أنه حتى أكثر الأحصنة صبرا سينهار بسبب فارس متطلب جدا»[155]. عند نقطة معينة أخذ لينين يفكر في إخراج كل شيء إلى العلن، وتوضيح خلافاته مع بليخانوف أمام قواعد الحزب، لكنه في النهاية ضبط نفسه، إذ خشي من الضرر الذي قد يسببه هذا الانقسام عشية المؤتمر. ومع ذلك فإن التجربة المريرة لهذه المعارك التي لا نهاية لها اقنعته تدريجيا باستحالة الاستمرار على الأسس القديمة. في أواخر مارس، كتب إلى أكسلرود قائلا:

«ما يخيفني كثيرا هو أنه في ظل عدم وجود تغيير في تركيبة الناخبين، وفي حالة عدم وجود اتفاق حول كيفية التصويت ومن سيصوت، وما المعنى الذي ينبغي أن يعطى لعملية التصويت، فإن مؤتمر زيوريخ لن يحل، مرة أخرى، أي شيء»[156].

أدى تراكم أعباء العمل المفرط والمشاغل المتعلقة بالصعوبات المستمرة في التواصل مع روسيا وضغط الصراع داخل لجنة التحرير، إلى تقويض صحة لينين، فأصيب بمرض يطلق عليه اسم نار سان أنتوني، والذي تمظهر على شكل التهاب في النهايات العصبية للظهر والصدر. لم يكن لينين وكروبسكايا يمتلكان المال للذهاب إلى طبيب إنجليزي فاضطر إلى الخضوع لعلاج منزلي مؤلم. ولدى وصوله إلى جنيف انهارت صحته تماما، وكان عليه أن يقضي أسبوعين في السرير عشية انعقاد المؤتمر. وحده ضغط أكسلرود وزاسوليتش من أجبر بليخانوف على التراجع والاعتذار. وفي النهاية تم التوصل إلى حل توفيقي، لكن الحادثة أدت إلى تسريع تدهور الحالة المأساوية للجنة التحرير. كان ​​مارتوف وزاسوليتش هما من يقومان عادة بالتوفيق بين لينين وبليخانوف. كان مارتوف، وهو شخص يتمتع بموهبة كبيرة، قد جاء من داخل روسيا، مثله مثل لينين، لكن مزاجه ونمط حياته جعلاه يقترب من زاسوليتش ​​والآخرين.

اشترك كل من زاسوليتش ومارتوف وأليكسييف في حياة بوهيمية في منزل كان بليخانوف يطلق عليه بسخرية اسم “العرين”. وقد قدمت لنا كروبسكايا وغيرها صورة حية عن فيرا زاسوليتش التي كانت تقفل غرفتها على نفسها، وهي تقرأ مقالة وتدخن سيجارة تلو الأخرى، وتعيش على أكواب لا نهاية لها من القهوة السوداء القوية. وكتب لوناتشارسكي:

«أعتبر مارتوف أحد البوهيميين الساحرين، كان يشبه الطلاب في مظهره، كان يتردد باستمرار على المقاهي، غير مبال بالراحة، يناقش على الدوام وكان غريب الأطوار بعض الشيء»[157].

كان لدى لينين دائما احترام كبير للمواهب الفكرية التي كان يتميز بها مارتوف. يمثل مارتوف، في الواقع، أحد أكثر الشخصيات تراجيدية في تاريخ الحركة الثورية الروسية. لقد كان، كما كتب تروتسكي:

«كاتبا موهوبا وسياسيا محنكا وذا فكر نفاذ ومتفوقا في مدرسة الماركسية، لكنه دخل تاريخ الثورة البروليتارية بسمعة سيئة جدا. كان فكره يفتقد للشجاعة، وكان ذكاءه يفتقر إلى الإرادة. ولم تكن مثابرته كافية، بل إنه دمرها. (…) كان مارتوف يمتلك بدون شك الغريزة الثورية، كان أول رد فعل يقوم به تجاه الأحداث الكبرى يكشف دائما وجود طموح ثوري عنده، لكنه بعد بذل مثل ذلك الجهد يتعرض فكره، الذي لا يجد المساندة من طرف الإرادة، إلى التفكك والغرق، كما ظهر عندما اندلعت الشرارة الأولى للثورة»[158].

أدى شعور الأعضاء الأكبر سنا بأنهم يتخلفون عن الواقع إلى خلق استياء ضد لينين كانوا بالكاد يستطيعون إخفاءه. وعلى سبيل المثال، أعرب أكسلرود عن أسفه من أن إيسكرا كان مقرها لندن بدلا من سويسرا. وقد كان عمل لجنة التحرير يتعرض للعرقلة لأن الأعضاء الستة كانوا ينقسمون في كثير من الأحيان إلى مجموعتين متساويتين. كان لينين يبحث بفارغ الصبر عن رفيق شاب من روسيا مؤهل لدمجه في لجنة التحرير وبالتالي كسر حالة الجمود التي تعيشها. فاستغل لينين بسرعة فرصة مجيء تروتسكي، الذي كان قد هرب للتو من سيبيريا، لهذا الغرض.

تروتسكي، الذي كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر 22 عاما، كان قد فرض بالفعل اسمه ككاتب ماركسي؛ وكان يوقع باسم Pero (الريشة). في الطبعات الأولى من مذكراتها عن لينين، قدمت كروبسكايا وصفا صادقا لموقف لينين المتحمس تجاه تروتسكي، “النسر الشاب”. وبما أن تلك السطور قد اختفت من جميع الطبعات اللاحقة، فإننا سنعمل هنا على اقتباسها بالكامل:

«التوصيات الودية لصالح “النسر الشاب” وتلك المحادثة الأولى جعلت فلاديمير إيليتش يولي اهتماما خاصا بالوافد الجديد. تحدث معه طويلا وبشكل عميق وذهبا معا في نزهة على الأقدام.
سأله فلاديمير إيليتش عن زيارته لصحيفة يوجني رابوتشي [العامل الجنوبي، التي اتخذت موقفا مترددا بين إيسكرا وخصومها]. وأعرب عن سروره البالغ للطريقة الدقيقة التي صاغ بها تروتسكي موقفه. لقد أحب قدرة تروتسكي على أن يفهم بسرعة جوهر الخلافات وأن يدرك، خلف البيانات حسنة النية، وجود رغبات في الحفاظ على استقلالية المجموعات الصغيرة تحت ستار الدفاع عن الصحيفة الشعبية.
وفي ذلك الوقت نفسه، جاءت دعوة من روسيا تطالب بإلحاح شديد إعادة إرسال تروتسكي. بينما أراد فلاديمير إيليتش منه البقاء في الخارج للمساعدة في عمل إيسكرا.
نظر بليخانوف على الفور إلى تروتسكي بريبة: رآى فيه نصيرا للفئة الشابة داخل لجنة تحرير إيسكرا (لينين ومارتوف وبوتريسوف) وتلميذا للينين. وعندما أرسل فلاديمير إيليتش إلى بليخانوف مقالا لتروتسكي، أجاب: “أنا لا أحب أسلوب ريشتك”، فرد عليه فلاديمير إيليتش: “إن الأسلوب هو مجرد مسألة تكتسب، لكن الرجل قادر على التعلم وسيكون مفيدا جدا”»[159].

وفي مارس 1903، طلب لينين رسميا إدراج تروتسكي بوصفه العضو السابع في لجنة التحرير. وفي رسالة موجهة إلى بليخانوف، كتب:

«أقدم إلى جميع أعضاء لجنة التحرير اقتراحا بإدماج الريشة عضوا كامل العضوية في اللجنة. (لأني أفهم أنه من أجل إدماج عضو لا يكفي الحصول على أغلبية، بل هناك حاجة إلى قرار بالإجماع).
لدينا حاجة كبيرة إلى عضو سابع لأنه سيبسط عملية التصويت (ستة عدد زوجي) وأيضا لأنه سيعزز صفوف اللجنة. لقد واضب الريشة على الكتابة في جميع الأعداد طيلة عدة أشهر. وهو، بصفة عامة، يعمل من أجل إيسكرا بنشاط شديد، ويلقي الخطب (وبنجاح هائل)، وما إلى ذلك. بالنسبة لقسم مقالاتنا ذات الراهنية وأشياء أخرى سيكون ليس فقط مفيدا جدا، بل إنه أيضا لا غنى عنه على الإطلاق. إنه بدون شك رجل ذو قدرة أعلى من المتوسط​​، مقتنع وحيوي وواعد. ويمكنه أن يسهم بشكل كبير في مجال الترجمة والأدبيات الشعبية. يجب علينا استقطاب القوى الشابة: وهذا من شأنه تحفيزهم وتشجيعهم على اعتبار أنفسهم كتابا محترفين. كون أن لدينا عدد قليل من هذه الشريحة واضح كما يظهر من خلال: 1) صعوبة العثور على محررين للترجمات و2) ندرة المقالات التي تحلل الوضع الداخلي و3) ندرة الأدب الشعبي. والأدب الشعبي هو المجال الذي يرغب الريشة أن يشتغل فيه.
الحجج المحتملة ضد المقترح: 1) صغر سنه 2) احتمال عودته قريبا (ربما) إلى روسيا 3) في أسلوب الريشة (بدون مزدوجتين) آثار لأسلوب صحافة الإثارة وقدر كبير من التباهي، الخ.
إضافة 1) اقتراح الريشة ليس لموقع مستقل، بل للعمل داخل اللجنة. وداخلها سوف يكتسب الخبرة. إنه يمتلك بدون شك “حدس” رجل الحزب، رجل ينتمي لتيارنا؛ أما فيما يتعلق بالمعرفة والخبرة، فإنه يمكن اكتسابهما. كما أنه لا شك في كونه يعمل بجد. من الضروري اختياره من أجل إشراكه وتشجيعه…»[160].

بيد أن بليخانوف، الذي تكهن بأن تروتسكي سيدعم لينين، مما سيضعه في موقع الأقلية، رفض بشدة ذلك الاقتراح. وتضيف كروبسكايا قائلة: «بعد ذلك بوقت قصير، ذهب تروتسكي إلى باريس، حيث بدأ يحقق نجاحا كبيرا»[161].

تعتبر هذه الشهادة، التي كتبتها رفيقة عمر لينين، أكثر إثارة للاهتمام لكونها كتبت في عام 1930، عندما كان تروتسكي قد طرد من الحزب ويعيش في المنفى في تركيا وتحت حظر شامل داخل الاتحاد السوفياتي. لم تنج كروبسكايا من غضب ستالين إلا لكونها كانت أرملة لينين. وفي وقت لاحق اضطرت تحت ضغوط لا تطاق لأن تحني رأسها وتقبل بشكل سلبي تشويه الحقائق التاريخية، رغم أنها في النهاية رفضت بحزم الانضمام إلى جوقة تمجيد ستالين، الذي كان له موقع ثانوي في صفحات سيرتها عن لينين، وهو ما كان في الحقيقة يعكس موقعه الحقيقي.

كانت تجربة السنوات الثلاث الماضية قد أظهرت ضرورة وضع الحزب على أسس جديدة. كان من الضروري إحداث قطيعة حاسمة مع الماضي وإنهاء عقلية الحلقات الصغرى وأساليب الهواة والضعف التنظيمي وإرساء الأسس لحزب عمالي جماهيري قوي وموحد. وبالنظر إلى الأضرار التي تسببت فيها النزعة المحلية والحاجة إلى التكيف مع ظروف السرية الصعبة، ركز لينين كثيرا على الحاجة إلى المركزية.

كان على المؤتمر المقبل أن يختار قيادة في ظل وضع كان فيه أهم القادة السياسيين موجودين في المنفى. بالطبع كان من الضروري أن تكون لمنظمات الحزب داخل روسيا تمثيلية في الهيئات القيادية، لكن لينين عارض فكرة أن تتخلى لجنة تحرير إيسكرا -التي كانت مسؤولة كليا عن إعادة بناء الحزب- عن القيادة.

تروتسكي، الذي كان، كما رأينا، قد فر للتو من سيبيريا، فوجئ بصيغة لينين:

«لقد جئت إلى الخارج ولدي اقتناع بأن لجنة التحرير يجب أن تكون “خاضعة” للجنة المركزية. وهذه، في روسيا، فكرة غالبية أنصار إيسكرا. “كلا، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك”، رد لينين عندما تحدثنا عن هذا. “إن القوى غير متكافئة، كيف يريدون توجيهنا من روسيا؟ لا يمكن أن يكون ذلك… نحن نشكل مركزا ثابتا، نحن الأقوى إيديولوجيا وسنوجه الحركة من هنا”»[162].

لا أحد كان ليتوقع أن تيار إيسكرا سينشق خلال المؤتمر القادم (الثاني) حول مسألة الهيئات القيادية.

المؤتمر الثاني

شهد شتاء 1902-1903 “صراعا حادا بين التيارات”[163]، لكن التفوق السياسي والتنظيمي لإيسكرا بدأ تدريجيا يحسم الميدان. بدأت اللجان تعلن، الواحدة بعد الأخرى، انضمامها للمؤتمر. فقط عدد قليل من اللجان من أعربت عن وجود تحفظات. انتقدت يوجني رابوتشي إيسكرا بسبب معاملتها القاسية لليبراليين. وبيأس حاول أتباع رابوتشييه ديلو زرع الانشقاق داخل عدد من اللجان المحلية، عن طريق تحريض العمال ضد “المثقفين”. للأسف لعبت الأخطاء والحماقات التي ارتكبها أنصار إيسكرا لصالح المعارضة في بعض المناطق. ففي سان بيترسبورغ مكنوا أنصار رابوتشي ديلو من إلغاء قرار دعم المؤتمر. لكن هذا، رغم كل شيء، لم يكن سوى زوبعة في فنجان. وفي الوقت الذي انعقد خلاله المؤتمر، لم تقرر سوى لجنة واحدة فقط (لجنة فورونيز) أن تنآى بنفسها عنه.

انعقد المؤتمر أخيرا، يوم 17 يوليوز 1903، في بروكسل، حيث عقد دوراته 13 الأولى. لكن المضايقات البوليسية أجبرت المؤتمر على الانتقال إلى لندن حيث أعاد عقد أشغاله تحت ستار ناد للصيادين، وعمل على تغيير مكان اللقاء بشكل دوري لتجنب الانكشاف. في المؤتمر الأول مثلت المنظمات داخل روسيا من طرف خمس لجان محلية فقط، أما المؤتمر الحالي فكان بإمكانه أن يفتخر بأنه يمثل عدة آلاف من الأعضاء، الذين لديهم تأثير على مئات الآلاف من العمال. وكانت غالبية المندوبين من الشباب، ومعظمهم تحت سن الثلاثين سنة. لينين، الذي كان يبلغ آنذاك 33 سنة، كان يعتبر من المخضرمين. كانت سرعة وتيرة الأحداث الثورية في روسيا مدرسة لتطوير الكوادر الماركسية الشابة. وحدهم الأعضاء السابقون في منظمة بليخانوف، تحرير العمل، هم من وقفوا ممثلين للجيل الثوري الأكبر سنا، الذي ينتمي إلى عصر مختلف، بل تقريبا إلى عالم مختلف.

كان شرط قبول انتداب المجموعات للمؤتمر هو أن تكون قد وجدت طيلة ما لا يقل عن 12 شهرا كمنظمة نشطة. لم توجه الدعوة إلى العديد من اللجان المحلية (فورونيز وسمارة وبولتافا وكيشينف) لأنها لم تستوف هذا الشرط. كان هناك 43 مندوبا مع 51 صوتا. ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه في العديد من المناطق كانت هناك أكثر من لجنة محلية واحدة، وأعطي لكل وفد صوتان، سواء كان هناك مندوب واحد حاضر أو أكثر. وأعطيت للجنة المركزية للبوند ثلاثة أصوات (واحد لمنظمة البوند في الخارج)، وأعطي لمنظمتي بيترسبورغ، صوت واحد لكل منهما. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك 14 شخصا حاضرا مع صوت استشاري، من بينهم اثنان من ممثلي الحركة الاشتراكية الديمقراطية البولندية والليتوانية والذين وصلا خلال الدورة العاشرة.

تم تخصيص قدر كبير من الوقت لنقاش مسألة مكان البوند داخل الحزب. وكانت لذلك النقاش أهمية بالغة في توضيح الموقف الماركسي تجاه المسألة القومية. ترجع الأهمية التاريخية لذلك إلى حقيقة أنه من دون موقف واضح من المسألة القومية، لم يكن من الممكن أبدا للثورة الروسية أن تنجح. يعطي تروتسكي في كتابه “تاريخ الثورة الروسية”، تعريفا موجزا لموقف البلاشفة من المسألة القومية: «لقد فهم لينين في وقت مبكر حتمية تطور الحركات القومية في روسيا، وخاض طيلة سنوات عديدة نضالا عنيدا -لا سيما ضد روزا لوكسمبورغ- من أجل تلك الفقرة الأكثر شهرة في برنامج الحزب القديم حول حق تقرير المصير، أي في الانفصال التام كدول. لم يكن الحزب البلشفي بهذا يدافع عن الانفصال، لقد تبنى فقط الالتزام بالنضال الحازم ضد كل شكل من أشكال الاضطهاد القومي، بما في ذلك الاحتفاظ بالقوة بهذه القومية أو تلك داخل حدود الدولة. فقط بهذه الطريقة يمكن للبروليتاريا الروسية أن تفوز تدريجيا بثقة القوميات المضطهَدة.

لكن هذا كان جانبا واحدا فقط من المسألة، لقد كان للسياسة البلشفية في مجال المسألة القومية جانب آخر أيضا، يبدو مناقضا للأول، لكنه في واقع الأمر مكمل له. ففي إطار الحزب، والمنظمات العمالية بشكل عام، أصرت البلشفية على المركزية الصارمة، ووقفت بحزم ضد النزعات القومية التي قد تدفع بالعمال ضد بعضهم البعض أو تشق وحدتهم. وبينما ترفض البلشفية رفضا قاطعا قيام الدولة البرجوازية بفرض الجنسية الإلزامية، أو حتى لغة الدولة، على أقلية قومية، فإنها، في الوقت نفسه، جعلت مهمتها الأهم هي تحقيق أكبر قدر ممكن من الوحدة بين عمال مختلف القوميات عن طريق الانضباط الطبقي الطوعي. وبالتالي فإنها ترفض رفضا قاطعا مبدأ الفدرالية القومية في بناء الحزب. المنظمة الثورية ليست صورة طبق الأصل للشكل الذي ستكون عليه الدولة في المستقبل، بل هي وسيلة بنائها. يجب أن تتكيف الوسيلة مع شكل المنتج، لكنها لا يجب أن تشبهه بشكل تام. وهكذا فإنه يمكن لمنظمة ممركزة ضمان نجاح النضال الثوري، رغم أن المهمة هي تدمير القهر الممركز للقوميات»[164].

لعب البوند دورا مهما في الأيام الأولى للحركة، مما أعطاه مكانة كبيرة ومكنه من ممارسة تأثير حاسم على المؤتمر الأول، حيث دخل إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي باعتباره منظمة مستقلة ذاتيا. أدى ضعف الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى أن يحافظ البوند، عمليا، على وجود مستقل حتى المؤتمر الثاني، وطور نزعات قومية قوية. وفي المؤتمر الثاني تحدث البونديون، في الواقع، كحزب مستقل، غير مستعد للدخول إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلا على أساس فدرالي فضفاض، الشيء الذي كان يعني إضفاء الشرعية على وجود منظمات مستقلة للعمال اليهود. وقد برر ليبر، المتحدث باسم البوند، ذلك على أساس الوضع الخاص للعمال اليهود، الذين يعانون ليس فقط من الاضطهاد الطبقي بل أيضا من الاضطهاد العنصري، وهو الاضطهاد الذي ليس للعمال الروس نفس الدرجة من الاهتمام بمكافحته. وفي رده على ليبر، قال مارتوف:

«الفكرة الكامنة وراء هذا المشروع هي افتراض أن البروليتاريا اليهودية تحتاج إلى منظمة سياسية مستقلة لتمثيل مصالحها القومية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي في روسيا. وبصرف النظر عن مسألة تنظيم الحزب على أساس فدرالي أو على أساس استقلال ذاتي، فإنه لا يمكننا أن نسمح بأن يكون لأي فريق داخل الحزب الحق في تمثيل مجموعة أو نقابة أو مصالح قومية لأي من أقسام البروليتاريا. تلعب الاختلافات القومية دورا ثانويا بالنسبة للمصالح الطبقية المشتركة. أي نوع من التنظيم سيكون لدينا إذا ما حدث، على سبيل المثال، أن قرر عمال من قوميات مختلفة، في ورشة عمل معينة، أن يضعوا مصالحهم القومية فوق أي اعتبار آخر؟»[165].

بطبيعة الحال، يمكن لأسباب عملية بحتة، أن تعطى درجة معينة من الاستقلال الذاتي لمجموعات قومية ما داخل الحزب. لكن هذه العملية، تكون ذات طابع تقني بحت، تنشأ من الحاجة، على سبيل المثال، لنشر الأدبيات باللغات المختلفة للجماعات المعنية. لم يكن هناك أي اعتراض على أن يتمتع البوند بالاستقلالية اللازمة لإنتاج أدبيات الحزب باللغة اليديشية أو القيام بالتحريض بأدبيات خاصة بين العمال اليهود والحرفيين، الخ. لكن ما كان البوند يطلبه هو الحق الحصري في التحدث باسم البروليتاريا اليهودية، وأن يكون له، في الواقع، الحق في احتكار الشؤون اليهودية داخل الحزب. وعندما تم رفض مطالب البوند بشكل حاسم، غادر مندوبوه المؤتمر. وسرعان ما تبعهم في ذلك ممثلا الجناح اليميني الآخران، الاقتصادويان مارتينوف وأكيموف، اللذين كانا حاضرين كممثلين عن اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس المهاجرين في الخارج، واللذين انسحبا عندما اعترف المؤتمر برابطة الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين، المنافسة، باعتبارها الممثل الوحيد للحزب في الخارج. وقد أدى هذا الانسحاب إلى تغيير حاسم في ميزان القوى داخل المؤتمر.

أضيفت لأحداث هذا المؤتمر، على مر السنين، كومة كبيرة من الخرافات والافتراءات والأكاذيب. فخلاله، كما يزعم، ظهرت البلشفية مكتملة ومسلحة بالكامل، مثلما خرجت أثينا من رأس زيوس. لكن التحليل الدقيق يكشف أن الانقسام بين “البلاشفة” (“الأغلبية”) و“المناشفة” (“الأقلية”)، أو بشكل أكثر دقة بين “المتصلبين” وبين “الناعمين”، في عام 1903، لم يكن بأي حال من الأحوال انقساما نهائيا، بل فقط استباقا للخلافات التي ستحدث في المستقبل.

كانت لمجموعة إيسكرا، من الناحية العددية، أغلبية واضحة بـ 33 صوتا. بينما كان للمعارضين الصريحين لإيسكرا ثمانية أصوات، ثلاثة اقتصادويين وخمسة بونديين. بينما كانت الأصوات المتبقية لعناصر مترددة غير حاسمة لموقف معين، وهم الذين أطلق عليهم لينين فيما بعد اسم “الوسط” أو “المستنقع”.

في البداية، كان كل شيء يبدو أنه يسير بسلاسة لصالح إيسكرا. كان هناك إجماع كامل في معسكرها بشأن جميع المسائل السياسية. ثم فجأة بدأ كل شيء يتغير. فخلال الدورة الـ 22، وبينما كانت أشغال المؤتمر متواصلة طيلة أسبوعين، بدأت تظهر الخلافات بين لينين ومارتوف. كان تبلور اتجاهين داخل معسكر إيسكرا مسألة غير متوقعة تماما. كانت هناك توترات بطبيعة الحال، لكن لم يكن هناك شيء من شأنه أن يبرر حدوث انشقاق. فحول عدد من المسائل الثانوية (دور اللجنة المنظمة، ومجموعة بوربا ويوجني رابوتشي)[166]. صار من الواضح أن بعض أنصار إيسكرا صوتوا مع اليمين و“المستنقع”. لكن هذه الأمور بدت وكأنها مجرد حوادث عرضية. أما في كل المسائل المهمة، فقد استمر معسكر إيسكرا موحدا. لكن وفجأة تحطمت الوحدة بسبب صدام مفتوح بين لينين ومارتوف حول مسألة تنظيمية.

كانت الفقرة الأولى من قانون الحزب تتعلق بمسألة: “من هو العضو؟”. مشروع لينين كان ما يلي: «عضو حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي هو الذي يقبل ببرنامجه ويدعم الحزب سواء ماليا أو بالمشاركة الشخصية في واحدة من منظمات الحزب». وقد عارض مارتوف هذا الشرط وطرح بديلا عنه الصيغة التالية: «يعتبر عضوا في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كل من يعترف ببرنامجه ويؤيده ماديا، ويقدم له بانتظام مساعدة شخصية تحت قيادة إحدى منظماته». في الظاهر يبدو أنه ليس هناك سوى فارق طفيف بين الصيغتين. لكن لم يظهر المغزى الحقيقي من الفرق بينهما بشكل واضح إلا في وقت لاحق. أشار تروتسكي إلى ذلك قائلا: «لم تكن الخلافات قد اتضحت بعد، كان الجميع يتلمسون طريقهم فقط ويتعاملون مع أشياء غير ملموسة»[167]. لكن وراء اقتراح مارتوف كان هناك نوع من “الليونة”، وموقف تصالحي وصل إلى حد إزالة الفرق بين الأعضاء وبين المتعاطفين، بين المناضلين الثوريين وبين المتعاونين العرضيين. في اللحظة التي كان يجب أن تتركز خلالها كل طاقات إيسكرا على مكافحة النزعة الفوضوية المائعة القديمة وعقلية الحلقات الصغرى، كان موقف مارتوف يمثل خطوة كبيرة إلى الوراء. لا عجب أن أدى إلى اندلاع صراع حاد داخل معسكر إيسكرا، داخل وخارج أروقة المؤتمر. في الأشهر والسنوات التي تلت المؤتمر، تم اختلاق أساطير حول هذا الحادث، تزعم بعضها أن لينين دافع عن المركزية الديكتاتورية وعن إنشاء حزب تآمري صغير، في حين كان هدف مارتوف بناء حزب ديمقراطي واسع، من شأنه أن يسمح للعمال بالمشاركة فيه. لكن كلتا الفكرتان خاطئتان تماما.

في البداية لا بد أن نوضح أن جميع أنصار إيسكرا كانوا متفقين على ضرورة وجود حزب قوي ممركز. وقد كان هذا واحدا من الأسباب الرئيسية للنضال ضد نزعة البوند الفيدرالية القومية، والذي لعب فيه مارتوف وتروتسكي الدور الرئيسي. ومباشرة قبل مناقشة البند الأول، نجد في المحضر أن مارتوف يقول: «أود أن أذكر الرفيق ليبر أن المبدأ التنظيمي لدينا ليس استقلالا ذاتيا واسعا بل مركزية صارمة»، وبالمناسبة كان البوند نفسه منظمة ممركزة إلى حد كبير. إن معارضته المزعومة للمركزية لا تطبق إلا في وجه الحزب ككل، وكانت تعكس فقط دفاعه غير النزيه عن المصالح الفئوية الخاصة به. أما بالنسبة للحجة الديماغوجية القائلة بأن المقصود بصيغة مارتوف كان هو “فتح الحزب للعمال”، فإنها هي أيضا تحريف للحقيقة. في بداية النقاش فضح أكسلرود المسألة من خلال المثال التالي، الذي كشف عن حقيقة ما كان وراء الاقتراح: «وبالفعل، دعونا نأخذ، على سبيل المثال، أستاذا يعتبر نفسه اشتراكيا ديمقراطيا ويعلن نفسه على هذا النحو. إذا ما اعتمدنا صيغة لينين سنرمي في البحر بجزء من أولئك الذين، حتى ولو لم يكن من الممكن قبولهم مباشرة في منظمة ما، فإنهم على الرغم من ذلك أعضاء… يجب علينا أن نحرص على ألا نترك خارج صفوف الحزب هؤلاء الأشخاص الذين يربطون أنفسهم بوعي بالحزب، على الرغم من أنهم ربما ليسو نشيطين بشكل كبير».[168]

لا توجد الطبقة العاملة ومنظماتها في الفراغ، بل هي محاطة بطبقات وفئات اجتماعية أخرى. وضغط الطبقات الأخرى والرأي العام البرجوازي، وخصوصا الضغوط من الفئات الوسطى والطبقة المتوسطة، والمثقفين الذين يحيطون بمنظمات العمال، ضغط موجود دائما. إن مطالب هذه الفئات بأنه يجب على العمال أن يكيفوا برنامجهم وأساليبهم وهياكلهم التنظيمية لتتناسب مع أحكامها المسبقة ومصالح البرجوازية الصغيرة، تمثل ضغطا مستمرا. لقد تركت الفترة الطويلة من القرب والتعايش مع أبناء الطبقة الوسطى الجذريين، في شخص الماركسيين الشرعيين، بصماتها على وعي الأعضاء كبار السن داخل فرقة تحرير العمل. كانوا يتحركون بين شرائح اجتماعية معزولة عن الطبقة العاملة، وشكلوا صداقات شخصية مع أساتذة الجامعات والمحامين والأطباء الجذريين شبه الماركسيين الذين كانوا يساعدونهم بالهبات المالية وكلمات التشجيع، لكنهم لم يكونوا مستعدين لتلويث أياديهم بالعمل الثوري العملي. «أنا أؤيد أهدافك، لكن أن أعلن أني اشتراكي فتلك مسألة غير ملائمة ومحفوفة بالمخاطر. فكر في وظيفتي وموقعي ومستقبلي المهني»، وما إلى ذلك. وبشكل غير واع، أو ربما بشكل شبه واع، كان أكسلرود وزاسوليتش ومارتوف يتصرفون بكونهم المتحدثين باسم هذه الفئة الاجتماعية، وأداة لنقل ضغوط الطبقات الأخرى إلى داخل صفوف حزب العمال.

وجد بليخانوف نفسه في موقف صعب بسبب هذا الانقسام، حيث أن أصدقاءه وزملاءه مدى الحياة وقفوا ضده. وللمرة الأولى في حياتها، وقفت زاسوليتش علنا ضد مرشدها. لا بد أن ذلك كان صدمة له، لكن ما يحسب له هو أنه قاوم الضغط في المؤتمر. كانت كل غريزته الثورية تقول له إن لينين كان على حق. وفي سياق النقاش هدم بلا رحمة حجج أكسلرود ومارتوف، حيث قال:

«وفقا لمشروع لينين، فقط شخص ينضم إلى منظمة معينة من منظمات الحزب يمكن اعتباره عضوا في الحزب. يقول أولئك الذين يعارضون مشروعه إن هذا سوف يسبب صعوبات لا لزوم لها. لكن ما هي هذه الصعوبات؟ إنهم يتحدثون عن أشخاص لا يرغبون في الانضمام، أو لا يستطيعون الانضمام، إلى واحدة من منظماتنا. لكن لماذا لا يمكنهم ذلك؟ باعتباري شخصا شارك هو أيضا في المنظمات الثورية الروسية، أقول إنني لا أعترف بوجود ظروف موضوعية قاهرة تمنع أي شخص من الانضمام. أما بالنسبة لهؤلاء السادة الذين لا يريدون الانضمام، فنحن لا حاجة لنا بهم.
لقد قيل هنا إن بعض الأساتذة الذين يتعاطفون مع أفكارنا قد يجدون أنه من المهين لهم الانضمام إلى منظمة محلية من منظمات الحزب. وفي هذا الصدد أتذكر قول إنجلز بأنه عندما تصير مضطرا لأن تتعامل كثيرا مع الأساتذة، يجب عليك أن تكون مستعدا للأسوء (ضحك).
أعطي مثالا، وهو، في الواقع، مثال سيء للغاية: لو أن أستاذا ما لعلم المصريات يعتبر أنه، بسبب كونه يحفظ عن ظهر قلب أسماء جميع الفراعنة ويعرف كل الصلواة التي كان المصريون يقدمونها للثور أبيس، سيكون من الحاط بكرامته الانضمام إلى منظمتنا، فإننا لسنا بحاجة لذلك الأستاذ.
إن الحديث عن رقابة الحزب على الأشخاص الذين هم خارج المنظمة يعني اللعب بالكلمات. هذه الرقابة مستحيلة عمليا».

وبعد مناقشات ساخنة، تمت الموافقة على صيغة مارتوف بنسبة 28 صوتا مقابل 23، لكن ذلك تم فقط بسبب العناصر المترددة في فريق إيسكرا إلى جانب الاقتصادويين والبوند و“الوسط” الممثل بالتيار المتحلق حول جريدة يوجني رابوتشي. ومع ذلك فإن الانقسام لم يكن قد اكتسب بعد صفة محددة. أظهر لينين، في سياق المناقشة، أنه ما يزال حريصا على التوصل إلى اتفاق:

«أولا، فيما يتعلق باقتراح أكسلرود اللطيف (أنا لا أتكلم بسخرية) بـ “عقد صفقة”، أود أن أستجيب عن طيب خاطر لهذا النداء لأنني لا أرى مطلقا أن اختلافنا حيوي إلى درجة أن يكون مسألة حياة أو موت بالنسبة للحزب. سوف لن نموت بالتأكيد بسبب نقطة سيئة في القوانين[169].

من وجهة النظر الماركسية لا يمكن للمسائل التنظيمية أبدا أن تكون حاسمة. لا توجد قوانين ثابتة أبدية تحكم طريقة تنظيم الحزب الثوري. يجب أن تتغير القوانين والهياكل التنظيمية مع الظروف المتغيرة وتماشيا مع تطور الحزب. لينين الذي جادل بحماس من أجل تقييد حق العضوية داخل الحزب في عام 1903، هو نفسه الذي دافع، في ظل ظروف تاريخية مختلفة، في عام 1912، أي عندما كان الحزب يتحول إلى قوة جماهيرية تمثل الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة النشيطة في روسيا، عن أنه ينبغي على الحزب أن يفتح أبوابه لأي عامل يعتبر نفسه بلشفيا، وهي الصيغة التي تردد، على ما يبدو، عبارة مارتوف الشهيرة بأنه «يجب أن يصير كل مضرب قادرا على إعلان نفسه عضوا في الحزب». هل هذا يعني أن لينين كان مخطئا وأن مارتوف كان على حق في عام 1903؟ إن مثل هذا الاستنتاج تعبير عن سوء فهم مطلق للعلاقة الجدلية بين طريقة عمل الحزب الثوري وبين المرحلة المحددة التي يمر من خلالها كل من الحزب وحركة الطبقة العاملة. يجب أن يبنى المنزل على أسس متينة. وفي عام 1903، كان الحزب ما يزال يخطو أول خطوات مترددة تجاه كسب النفوذ بين الجماهير. كان من الضروري التشديد الكبير على المبادئ السياسية والتنظيمية الأساسية، وقبل كل شيء الحاجة إلى كوادر عمالية تمتلك فهما واضحا للأفكار ولأساليب العمل الماركسية. وكان هذا أكثر ضرورة في ضوء الفترة الفوضوية التي سبقت. كان ترك الأبواب مفتوحة في تلك المرحلة الملموسة سيؤدي إلى نتائج كارثية، على الرغم من أنه في لحظة مختلفة سيكون من الضروري أن تفعل ذلك بالضبط.

المعنى الحقيقي لانقسام 1903

مهما كانت العواقب المستقبلية لانقسام 1903 كبيرة، فإن الاختلافات التي ظهرت في المؤتمر كانت ما تزال ذات طابع خام غير منظور. إن التأكيد على أن البلشفية والمنشفية قد ظهرا في المؤتمر الثاني باعتبارهما بالفعل تياران سياسيان واضحي المعالم هو قول لا أساس له من الصحة. لقد كان هناك إجماع كامل حول كافة القضايا السياسية داخل تيار إيسكرا. لكن مع ذلك كانت هناك دائما مصالح قوية تدفع لمحاولة تحميل تلك الخلافات أكثر بكثير مما تحمله في الواقع. هذا ليس من قبيل الصدفة، إذ أن كلا من المؤرخين الستالينيين والمؤرخين البرجوازيين لديهم مصلحة قوية في خلط اللينينية بالستالينية، والستالينيون في حاجة لإثبات أن تروتسكي كان منشفيا منذ 1903 فما فوق.

لم يتبلور التيار السياسي المتمثل في المنشفية بشكل واضح إلا خلال مرحلة ما بعد المؤتمر. كانت الحدود ما تزال مشوشة. فبليخانوف، الذي صار لاحقا اشتراكيا وطنيا، وقف في البداية مع لينين، بينما تروتسكي، الزعيم المستقبلي لثورة أكتوبر ومؤسس الجيش الأحمر، وجد نفسه مؤقتا في معسكر الأقلية. وخلافا للزعم الستاليني بأن تروتسكي كان منشفيا منذ 1903 فصاعدا، فإن الواقع هو أنه انشق عن جماعة مارتوف في شتنبر 1904، وبعد ذلك بقي رسميا خارج كلا التيارين حتى عام 1917. كان تروتسكي، على الصعيد السياسي، يقف دائما أقرب بكثير إلى البلاشفة، لكنه من الناحية التنظيمية كان له وهم بأنه من الممكن توحيد كلا جناحي الحزب. لقد أثبت التاريخ لاحقا أن ذلك مستحيل. لكن تروتسكي لم يكن الوحيد الذي ارتكب ذلك الخطأ، كما سنبين لاحقا.

لكن وعلى الرغم من هذه الحقيقة الواضحة، فإن الستالينيين استمروا طيلة عقود في الاستشهاد برد الفعل المتهور الذي قام به تروتسكي (كان سنه آنذاك 23 عاما) خلال المؤتمر الثاني باعتباره دليلا على منشفيته المزعومة. وهكذا نقرأ تصريحات من قبيل: «تبين خطب المؤتمر التي ألقاها لينين (؟) والبلاشفة الآخرون أنه في ما يخص القضية الأساسية المتعلقة ببرنامج الحزب (!) وقوانينه، كان تروتسكي في نفس المعسكر مع المناشفة الآخرين وناضلوا بشراسة ضد خط البلاشفة الثوري (!)»[170].

تعود جذور هذا الافتراء المنحط إلى الحملة ضد التروتسكية التي انطلقت في 1923-1924، عندما كان لينين على فراش الموت، مشلولا وعاجزا. زينوفييف، الذي شكل كتلة سرية مع كامينيف وستالين، بهدف تشكيل القيادة التي ستخلف لينين بعد وفاته، وصل إلى درجة كتابة “تاريخ” مزعوم للبلشفية كان الهدف الرئيسي من ورائه تشويه سمعة تروتسكي عن طريق فبركة روايات كاذبة ومغرضة عن تاريخ الحزب. وفيما يتعلق بعام 1903، يشير زينوفييف إلى «الرفيق تروتسكي الذي كان في ذلك الوقت منشفيا»[171].

ومن جهتهم يحاول المؤرخون البرجوازيون، مثل ليونارد شابيرو، تشويه حجج لينين في الدفاع عن المركزية لتصويره وكأنه ديكتاتور لا يرحم، يضرب بالديمقراطية عرض الحائط. كان انقسام عام 1903، في الواقع، ذا طابع عرضي إلى حد كبير. لا أحد كان يتوقع أن هذا الانقسام قد يحدث. المشاركون أنفسهم أصيبوا بالصدمة والذهول بسبب الانعطاف غير المتوقع للأحداث. وتتضح حقيقة أن لينين لم يكن يرى في الانقسام قطيعة نهائية في محاولاته المتواصلة لتحقيق الوحدة مع الأقلية خلال الأشهر التي تلت المؤتمر. ذكرت كروبسكايا أنه خلال إحدى المرات عندما أشارت إلى احتمال وجود انقسام دائم، رد لينين: «سيكون هذا ضربا من الجنون»[172].

إن ما كان وراء انشقاق 1903 ذاك هو صعوبة تجاوز مرحلة حياة الحلقات الصغرى. كل انتقال من مرحلة لتطور الحزب إلى أخرى يستتبع حتما بعض الاحتكاك الداخلي. لقد سبق لنا أن أشرنا إلى الضغوط والتوترات التي حدثت، في وقت سابق، خلال الانتقال من مرحلة الدعاية إلى التحريض. والآن تكررت نفس المشاكل، لكن مع نتائج أكثر خطورة بكثير. كان الهدف الرئيسي للتيار الماركسي، الممثل في إيسكرا، هو إخراج الحزب من المرحلة الجنينية لحياة الحلقات الصغرى (kustarnichestvo) ووضع الأساس المتين لحزب عمالي ماركسي قوي وموحد في روسيا. لكن مارتوف كان قد بدأ، حتى قبل المؤتمر، في التذبذب والتعبير عن الشكوك حول ما إذا كان من المرغوب فيه أصلا عقد مؤتمر للحزب، وما إذا لم يكن من الأفضل الاكتفاء بعقد مؤتمر لتيار إيسكرا؟ كان التردد يعكس نزعة المحافظة والروتين والخوف عند المناضلين القدامى من السير في اتجاه جديد.

العادات المتأصلة في جماعة صغيرة من المنفيين تمردت غريزيا ضد التخلي العنيف عن الطرق القديمة. وبينما كان إجراء انتخابات رسمية وانضباط الأقلية لإرادة الأغلبية والعمل المنضبط، أفكارا مقبولة من الناحية النظرية، فقد اتضح أنه من الصعب تبنيها عمليا. كان أعضاء جماعة بليخانوف القديمة، الذين اعتادوا على حياة مجموعة صغيرة غير رسمية من الأصدقاء، يتمتعون منذ فترة طويلة بسلطة سياسية هائلة باعتبارهم مناضلين قدامى وأعضاء في هيئة تحرير جريدة إيسكرا المرموقة، وهي المكانة التي لم يبق لها ما يبررها من خلال الدور الذي صاروا يلعبونه. أحس أكسلرود وزاسوليتش بالخوف اللاإرادي من فقدان سلطتهما الشخصية، وابتلاع فرديتهما داخل البيئة الجديدة، التي يسيطر عليها الجيل الجديد من الكوادر الشابة القادمة من داخل روسيا. وتظهر تقارير المؤتمر كم كان تافها الدور الذي لعبه القدامى، باستثناء بليخانوف طبعا. لا بد أنهم شعروا بالضياع التام.

يمكن لعنصر الأنفة الشخصية أن يلعب دورا مدمرا جدا في كل المنظمات عموما، وليس فقط في السياسة. يمكن للصراعات الصغيرة من أجل المواقع والخصومات الشخصية والطموحات أن تتسبب في مشاكل في أندية كرة القدم والمعابد البوذية ومجموعات الحياكة، حيث لا توجد مشاكل إيديولوجية أو مبدئية. ويمكنها في بعض الظروف أن تتسبب في الانشقاق والمشاجرات السامة جدا داخل المنظمات الثورية، بما فيها المنظمات اللاسلطوية، التي لا تتبنى، من الناحية النظرية على الأقل، المركزية في التنظيم، على الرغم من أنها في الواقع غالبا ما تهيمن عليها بعض الطغم والأفراد الديكتاتوريين. تصير المشكلة أكثر حدة بوجه خاص في المنظمات الصغيرة المعزولة عن الجماهير، وخاصة تلك التي تسود فيها العناصر البرجوازية الصغيرة. لم يتصور مناضلو مجموعة تحرير العمل القدامى أبدا أن قرارات المؤتمر سوف تبدل وضعهم في الحركة. كانوا يعتقدون أن الأمور سوف تستمر كما كانت من قبل، ولم يكونوا يتصورون إزالتهم من المناصب التي كانوا يشغلونها دائما من قبل. عندما اقترح لينين انتخاب هيئة تحرير من ثلاثة أعضاء أحدث ذلك ضجة فاجأته بشكل كامل، خاصة وأن ذلك الاقتراح كان قد تم قبوله بالفعل من طرف المحررين قبل المؤتمر، لكن ذلك القبول كان سطحيا فقط. أصاب الاقتراح المحررين القدامى المعزولين بصدمة قوية وجرح عميق. تجولوا في أروقة المؤتمر يشتكون من وقاحة لينين المزعومة.

وحرصا على وحدة الحزب، عملت كل من منظمة إيسكرا ومجموعة تحرير العمل على حل نفسيهما رسميا في المؤتمر. لكن عندما طرحت مسألة تصفية يوجني رابوتشي، شن أنصارها صراعا أخيرا لأجل الاحتفاظ بها باعتبارها جريدة “شعبية”، وهو المفهوم الذي رفضته الأغلبية بشدة. كان المقترح المتفق عليه بين قيادة إيسكرا قبل المؤتمر هو تشكيل لجنة مركزية من ثلاثة أعضاء (من داخل روسيا)، وهيئة تحرير من ثلاثة أعضاء ومجلس للحزب يتكون من كلا الهيئتين، إضافة إلى عضو واحد آخر (بليخانوف). ومع ذلك سرعان ما ظهرت التوترات حول تشكيل اللجنة المركزية. كان الإيسكريون “المتشددون” يدافعون عن لجنة مركزية مكونة بالكامل من أنصار إيسكرا. بينما أراد الإيسكريون “الناعمون”، بقيادة مارتوف، أن يعطوا تمثيلية لهيئة تحرير يوجني رابوتشي وطرحوا قائمة خاصة بهم للمرشحين. كان هذا مؤشرا على أن تيار الناعمين، الذي كان يمثله مارتوف، يحاول التوصل إلى حل وسط مع التيار المتذبذب الوسطي المتحلق حول يوجني رابوتشي. وقد أدت محاولته تأجيل اتخاذ قرار بشأن هذه القضية إلى إثارة ضجة في القاعة. لكن الخلاف حول يوجني رابوتشي لم يكن شيئا يذكر بالمقارنة مع الأحداث العاصفة التي ميزت الدورة اللاحقة.

لم يكن اقتراح لينين لهيئة تحرير من ثلاثة أعضاء انعكاسا لنزعة مركزية دكتاتورية، بل كان مجرد تعبير عن واقع الحال. ليس هناك شك في أن المنطق كان إلى جانب لينين بشكل كامل، وهو ما كان بليخانوف مجبرا على الاعتراف به. هيئة التحرير المشكلة من ستة أعضاء لم تتمكن حتى من الاجتماع ولو لمرة واحدة. في 45 عددا من جريدة إيسكرا في ظل ستة محررين، كان هناك 39 مقالا كتبه مارتوف، و32 مقالا كتبه لينين، و24 مقالا كتبه بليخانوف، و08 مقالات كتبها بوتريسوف، و06 مقالات كتبتها زاسوليتش وفقط 04 مقالات كتبها أكسلرود. هذا على مدى ثلاث سنوات! كل العمل الفني كان على كاهل لينين ومارتوف. وقد كتب لينين بعد المؤتمر قائلا: «في الواقع أود أن أضيف إن هذا الثلاثي [لينين، مارتوف وبليخانوف] قد استمر دائما طوال هذه الثلاث سنوات يشكل، في 99 حالة من أصل مائة، الجهاز المركزي الحاسم، الحاسم سياسيا (وليس حرفيا)»[173]. إن فكرة وجود عضو في هيئة تحرير الصحيفة الرسمية للحزب وهو لا يشارك شخصيا في العمل ومساهمته الوحيدة هي تقديم مقال بشكل عرضي للنشر، هي فكرة لا تنسجم مع طبيعة منظمة بروليتارية مكافحة.

في البداية، كان العضوان الشابان في هيئة التحرير: مارتوف وبوتريسوف متفقين مع التغيير، لكنهما تحت ضغط محموم من طرف زاسوليتش وأكسلرود، غيرا رأييهما. اقترح تروتسكي إعادة انتخاب هيئة التحرير من ستة أعضاء. لكن انسحاب البوند وأنصار رابوتشييه ديلو كان يعني أن المتشددين داخل إيسكرا قد صاروا الآن أغلبية. تم التصويت بإسقاط اقتراح تروتسكي، وتم انتخاب هيئة تحرير جديدة مكونة من لينين وبليخانوف ومارتوف، عندها أعلن مارتوف رفضه المشاركة فيها. صار الانقسام بين الأغلبية المتشددة (Bol’shinstvo) والأقلية الناعمة (Menshinstvo) واقعا. وعندما ظهر الانقسام بشكل واضح تماما، اتخذ طابعا عنيفا. في الدورة التي نوقش خلالها تكوين هيئة التحرير كان الجو عاصفا وفي بعض الأحيان “هستيريا”، كما كتب البلاشفة في وقت لاحق في تقريرهم إلى مؤتمر أمستردام للأممية الاشتراكية (1904).

يتضح السخط، الذي أثارته هذه النتيجة بين الثوريين الشباب، في مذكرات تروتسكي عن هذه المناسبة:

«في عام 1903 كان الحل الوحيد هو إخراج أكسلرود وزاسوليتش من هيئة التحرير. كنت أكن لهما كل الاحترام، وكان هناك عنصر من المودة الشخصية كذلك. لينين بدوره كان يحترمهما كثيرا لما فعلاه في الماضي. لكنه بدأ يعتقد أنهما صارا عائقا للمستقبل. قاده هذا إلى الاستنتاج بأنه يجب إزالتهما من موقعهما في القيادة. لم يكن من الممكن أن أوافق على ذلك. بدا أن كل كياني يحتج ضد هذا القطع القاسي مع الشيوخ بينما كنا على عتبة بناء حزب منظم. كان سخطي على موقفه هو ما أدى بي حقا للقطيعة معه خلال المؤتمر الثاني. بدا لي سلوكه لا يغتفر، بدا لي رهيبا وفاحشا في نفس الوقت، رغم أنه سياسيا كان موقفا صحيحا وضروريا، من وجهة نظر المنظمة. إن القطيعة مع الشيوخ كانت مسألة حتمية في جميع الحالات. لقد فهم لينين ذلك قبل الجميع، وقام بمحاولة للحفاظ على بليخانوف من خلال فصله عن زاسوليتش وأكسلرود. لكن هذه المحاولة بدورها كانت عقيمة تماما، كما أثبتت الأحداث اللاحقة»[174].

خلال الأشهر التي تلت المؤتمر، أثار أنصار الأقلية الصراخ والعويل بمزاعمهم حول “الميول الديكتاتورية” و“المركزية القاسية” عند لينين. لم يكن لهذه المزاعم أي أساس في الواقع، وكانت بمثابة ستار لتغطية السلوك الفوضوي الذي قامت به مجموعة مارتوف، والذين، على الرغم من التعهدات التي قدموها خلال المؤتمر، رفضوا الانضباط لقرار الأغلبية وشنوا حملة مشؤومة ضد القيادة المنتخبة ديمقراطيا في المؤتمر. لقد كسروا أبسط قواعد السلوك التي تطبق داخل أي حزب، وطالبوا بأن يكون للأقلية الحق في التقرير، وحاولوا فعليا تخريب عمل الحزب، من خلال رفض التعاون مع أجهزته المنتخبة. إن الحزب الثوري ليس ناد للمناظرات، بل هو منظمة للكفاح، ومع ذلك فإن فكرة أن الحزب البلشفي بنية أحادية، حيث القادة يوجهون الأوامر بينما القواعد تطيع، هي افتراء باطل خبيث. على العكس من ذلك، لقد كان الحزب البلشفي الحزب الأكثر ديمقراطية في التاريخ. فحتى في أكثر مراحل العمل السري صعوبة، وفي قلب الثورة وخلال أكثر أيام الحرب الأهلية خطورة، بقي النظام الداخلي للحزب، وخصوصا أعلى هيئة فيه، أي المؤتمر، ساحة نقاش مفتوح وصريح مع صراع بين مختلفة الأفكار. لكن هناك حدود لكل شيء. ففي النهاية يجب على الحزب، الذي لا يريد الاقتصار على الكلام فقط، بل يريد العمل كذلك، أن يتوصل إلى قرارات ويعمل على تنفيذها على أرض الواقع.

إن الموقف من تنظيم الحزب والانضباط هو، في العمق، مسألة طبقية. يتعلم العامل الانضباط في تجربة الحياة اليومية بالمصنع. تعلمه تجربة الإضرابات درسا مهما حول ضرورة العمل المنضبط الجماعي باعتباره شرطا مسبقا للنجاح. ومن ناحية أخرى تعتبر فكرة التنظيم والانضباط مسألة صعبة الفهم بالنسبة للمثقف. إنه يميل لرؤية الحزب وكأنه على وجه التحديد ناد كبير للمناقشات، لشرح وجهات النظر بخصوص كل مسألة. لقد عكست الفردانية الفوضوية للأقلية، في العمق، وجهة نظر البرجوازي الصغير مع عجزه العضوي عن الانضباط وميله إلى خلط المسائل الشخصية مع المبدأ السياسي. مهما بلغت درجة ثقافتهم ومهما قرءوا، فإن المثقفين الذين لم يتبنوا شخصيا وجهة نظر الطبقة العاملة، يصلون إلى الإفلاس الكامل، وذلك على وجه التحديد عندما تبدأ المهمة الحقيقية للحركة، أي عندما تدخل حيز العمل. “لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بطرق مختلفة”، كما أوضح ماركس “لكن المهمة تغييره”.

ارتباك في صفوف القواعد

إن الصورة الكاريكاتيرية عن لينين التي تقدمه وكأنه “ديكتاتور لا يرحم” ومناور خبيث يدوس بقسوة على رفاقه من أجل تركيز السلطة بين يديه، افتراء لا يتوافق مع الحقائق. في مذكراتها عن لينين تقدم كروبسكايا صورة حية عن الألم الذي عاشه لينين بسبب الخلاف مع مارتوف:

«في بعض الأحيان كان يرى بوضوح أن القطيعة مسألة لا مفر منها. بدأ رسالة كتبها مرة إلى كلير [كيرجيجانوفسكي] قائلا إن هذا الأخير لا يمكنه ببساطة أن يتخيل الوضع الحالي، حيث على المرء أن يدرك أن العلاقات القديمة قد تغيرت بشكل جذري، وأن الصداقة القديمة مع مارتوف على وشك الانتهاء؛ وأن الصداقات القديمة ستنسى، وأن الصراع سيبدأ. فلاديمير إيليتش لم ينه تلك الرسالة ولم يبعثها. كان من الصعب للغاية عليه القطع مع مارتوف. عملهما مع بعضهما في سان بيترسبورغ وفي إيسكرا القديمة جعلهما قريبين من بعضهما البعض… بعد ذلك ناضل فلاديمير إيليتش بشراسة ضد المناشفة، لكن كلما أظهر مارتوف بعض الميل إلى تصحيح خطه، كان موقفه القديم منه يعود إلى الحياة. كان هذا هو الحال، على سبيل المثال، في باريس، عام 1910، عندما عمل فلاديمير إيليتش ومارتوف معا في هيئة تحرير Sotsial Demokrat (الاشتراكي الديمقراطي). عند عودته إلى البيت من المكتب، كان فلاديمير إيليتش كثيرا ما يقول لي بابتهاج إن مارتوف ينتهج خطا سليما، بل وحتى يعارض دان. بعد ذلك في روسيا، كان فلاديمير إيليتش سعيدا جدا بموقف مارتوف خلال أيام يوليوز [عام 1917] ليس لأنه كان في صالح البلاشفة، بل لأن مارتوف وقف موقفا جديرا بالمناضل الثوري. وقد كان فلاديمير إيليتش بالفعل مريضا جدا، عندما قال لي مرة بحزن: “يقولون إن مارتوف يحتضر هو أيضا”».

كان هذا الموقف مألوفا في شخصية لينين وهو ما يتم تجاهله في كثير من الأحيان. بعيدا عن الرومانسية لم يكن لينين يسمح لنفسه أبدا أن يخلط بين مشاعر الحب والكراهية الشخصية وبين قضايا المبدأ السياسي. لكن لينين كان يعترف بمؤهلات الآخرين ولم يكن يتخلى عنهم بسهولة. كانت مشاعر الحقد الشخصي غريبة تماما عن هذا الرجل الذي أظهر طيلة حياته أعظم مشاعر الإخلاص للرفاق. وخلال الأشهر التي تلت المؤتمر قام لينين نفسه بمحاولات متكررة لإعادة الوحدة، بل وحتى اقترح تقديم سلسلة من التنازلات التي كانت، في الواقع، بمثابة التخلي عن المواقع التي فازت بها الأغلبية في المؤتمر. تتذكر كروبسكايا قائلة:

«بعد المؤتمر، لم يعترض فلاديمير إيليتش عندما اقترح غليبوف إعادة دمج أعضاء هيئة التحرير القدامى، فأن تسير الأمور بالطريقة القديمة أفضل من أن يحدث الانشقاق. لكن المناشفة رفضوا. وفي جنيف، حاول فلاديمير إيليتش تسوية الأمر مع مارتوف، وكتب إلى بوتريسوف يحاول إقناعه بأنه لا يوجد سبب للصراع. وكتب أيضا إلى كالميكوفا (العمة) عن الانقسام، وشرح كيف جرت الأمور. لم يستطع تصديق أنه لا يوجد أي حل»[175].

لم يكد المؤتمر ينتهي حتى اقترب لينين من مارتوف في محاولة للتوصل إلى اتفاق. كتب مارتوف إلى أكسلرود في رسالة مؤرخة بـ31 غشت:

«رأيت لينين مرة واحدة [منذ المؤتمر]. طلب مني أن أقدم له اقتراحاتي حول التعاون. قلت له إني سأقدم له ردا رسميا عندما سنناقش هذا الاقتراح الرسمي معا، لكنني في غضون ذلك رفضت. لقد تحدث كثيرا عن حقيقة أنه برفضنا التعاون نكون بصدد “معاقبة الحزب”، وأن لا أحد توقع منا أن نقاطع الصحيفة. بل إنه صرح علنا أنه مستعد للاستقالة إذا ما صدر القرار بذلك من طرف هيئة التحرير القديمة، وأنه يعتزم العمل بجهد مضاعف كمتعاون»[176].

لو كان الأمر متعلقا بلينين لكان قد تم تفادي الانقسام بسرعة. لكن رد فعل الأقلية، الهستيري تقريبا، جعل من المستحيل التوصل إلى اتفاق. شنت الأقلية، التي هزمت في المؤتمر، سلسلة من الهجمات العنيفة ضد لينين وضد الأغلبية. نشر مارتوف كراسة يتهم فيها لينين بالتسبب في “حالة حصار” داخل الحزب. تولدت أجواء ساخنة، تجاوزت في حدتها أهمية القضايا التي كانت تبدو مطروحة. وصف أوسيب بياتنيتسكي، الذي كان مسؤولا عن توزيع إيسكرا في برلين، الدهشة والذعر الذين انتشرا بين صفوف القواعد عند توصلهم بالتقرير عن المؤتمر:

«استمعنا إلى تقارير كلا الجانبين عن المؤتمر، وبعد ذلك بدأت على الفور الدعاية لصالح هذا الاتجاه أو ذاك. شعرت بنفسي ممزقا إلى اثنين. فمن جهة كنت آسفا للإساءة التي وجهت لزاسوليتش وبوتريسوف وأكسلرود وعزلهم من هيئة تحرير الإيسكرا… ومن جهة أخرى كنت متفقا تماما مع الهيكل التنظيمى للحزب المقترح من قبل لينين. كان عقلي مع الأغلبية، لكن مشاعري، إذا جاز التعبير، كانت مع الأقلية»[177].

لم يكن بياتنيتسكي وحده في موقفه من الانقسام، قال لوناتشارسكي:

«ضربنا خبر الانشقاق مثل صاعقة في سماء صافية. كنا نعرف أن المؤتمر الثاني سيشهد الحسم النهائي للصراع ضد تيار قضية العمال [الاقتصادويين]. لكن حدوث انقسام يضع مارتوف ولينين في مواجهة بعضهما البعض، بينما بليخانوف يقف في منتصف الطريق بين الاثنين، هو شيء لم نستطع استيعابه مطلقا. الفقرة الأولى من النظام الأساسي الحزب… هل كان هذا شيئا يبرر حقا حدوث الانشقاق؟ والتعديل في توزيع المهام بين أعضاء هيئة التحرير، ما بال هؤلاء الناس في الخارج، هل فقدوا عقولهم؟»[178].

هذا الكلام للوناتشارسكي، الذي أصبح أحد مساعدي لينين الرئيسيين خلال السنتين اللاحقتين، كان انعكاسا أمينا لرد فعل أغلبية أعضاء الحزب تجاه الانشقاق الذي حصل في المؤتمر الثاني. كان المزاج السائد ضد الانقسام، الذي لم يكن المغزى الحقيقي وراءه واضحا حتى للفاعلين الرئيسيين فيه.

يمكن فهم سبب الغموض الذي ساد بين صفوف القواعد. ففي تلك المرحلة لم تكن هناك اختلافات سياسية واضحة بين الأغلبية والأقلية. ومهما كان سيئا سلوك المارتوفيين، الذين عكست هجماتهم الحاقدة ومقاطعتهم لأعمال الحزب جرح كبرياء المثقفين الفردانيين، غير الراغبين في إخضاع ميولهم الشخصية لإرادة الأغلبية، فإن الاختلافات الحقيقية بين البلشفية والمنشفية كانت ما تزال بعيدة عن أن تكون محددة بوضوح خلال تلك المرحلة. صحيح أن بذور تلك الاختلافات كانت موجودة بالفعل في عام 1903، لكنها لم تكن قد اكتسبت آنذاك بعد مضمونا سياسيا محددا. بل كانت بالأحرى اختلافا في المواقف كما يتضح في توصيف لينين للاتجاهين بكونهما “الحازمين” و“الناعمين”. ومع ذلك، فإن الصدام بين هذين الاتجاهين كان ينذر بلا شك بالانشقاق المستقبلي بين البلشفية والمنشفية، الذي لم يحدث بشكل نهائي إلا عام 1912، بعد حوالي عشر سنوات من المحاولات المتواصلة من جانب لينين لتوحيد الحزب على أساس مبدئي. لينين نفسه شرح أسباب ذلك الانقسام في الفقرة التالية:

«من خلال دراستي لسلوك المارتوفيين منذ المؤتمر، رفضهم التعاون في الجهاز المركزي (على الرغم من دعوتهم بشكل رسمي من طرف اللجنة التنظيميةورفضهم العمل في اللجنة المركزية، ودعايتهم من أجل المقاطعة، كل ما يمكنني قوله هو أن هذه محاولة حمقاء، غير جديرة بأعضاء الحزب، لتخريب الحزب، ولماذا؟ فقط لأنهم غير راضين عن تشكيل الهيئات المركزية؛ لنتحدث بشكل موضوعي، كان هذا فقط هو السبب الذي أدى إلى افتراق طرقنا، في حين أن الاعتبارات الذاتية (الشتائم والإهانات والافتراءات والطرد، الخ) ليست سوى ثمار للأنا المجروحة والخيال المريض»[179].

رفض المارتوفيون كل محاولات لينين للمصالحة، وواصلوا الضغط من خلال شن حملة تحريض. كانوا أقوياء بشكل خاص في الخارج. كان لديهم المال وصلات وثيقة مع قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. في شتتبر 1903، قام فريق مارتوف بالخطوة الأولى في اتجاه الانقسام من خلال إنشاء “مكتب للأقلية”، بهدف الاستيلاء على الهيئات القيادية للحزب بكل الوسائل المتاحة. بدءوا في نشر كتاباتهم التكتلية الخاصة لتوزيعها في روسيا. وعلى الرغم من كل هذا، استمر لينين يعلق الآمال على المصالحة. في 04 أكتوبر 1903، تم عقد اجتماع بين لينين وبليخانوف ولينغنيك عن الأغلبية، ومارتوف وأكسلرود وزاسوليتش وبوتريسوف عن الأقلية. كانت الأغلبية على استعداد لتقديم تنازلات، لكن عندما كان رد فعل الأقلية هو المطالبة بتغيير مجموع قرارات المؤتمر، صار من الواضح أن هذا الاتفاق مستحيل. إن القبول بهذا الطلب كان يعني إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء إلى الوضع الذي كان سائدا قبل المؤتمر الثاني.

للصراع بين الكتل منطقه الخاص. فمن خلال تنصلهم من المؤتمر الثاني، ومحاربتهم للشكليات التنظيمية تحت شعار “النضال ضد المركزية” المزعوم، بدأ موقف الأقلية تجاه القضايا التنظيمية يصبح تدريجيا مشابها لوجهات نظر الاقتصادويين الذين كانوا، بالأمس فقط، على خلاف معهم. و“التكتل” العرضي الذي شكله المناشفة في المؤتمر مع الاقتصادويين اليمينيين، والذي كان لينين قد أشار له بالفعل، تحول تدريجيا إلى اندماج. أشار الاقتصادوي المتطرف أكيموف، بسخرية خبيثة، إلى تقارب الأقلية مع وجهات النظر الإقتصادوية الانتهازية القديمة، قائلا:

«إن اقتراب الإيسكريين “الناعمين” ممن يسمون بالاقتصادويين فيما يخص القضايا التنظيمية والتكتيكية صار أمرا معترفا به من قبل الجميع باستثناء “الناعمين” أنفسهم. إلا أنهم على استعداد للاعتراف بأنه “يمكننا أن نتعلم الكثير من الاقتصادويين”.
حتى أثناء [المؤتمر] الثاني، دعم مندوبو الاتحاد [أي الاقتصادويون] المناشفة وصوتوا لصيغة مارتوف. واليوم جميع أعضاء الاتحاد السابق [أي اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في الخارج الذي يسيطر عليه الاقتصادويون] يرون بأن تكتيكات “الناعمين” أقرب للصواب، وأنها تنازل عن وجهة نظرهم. وعندما حلت منظمة عمال بيترسبورغ [اقتصادوية] نفسها أعلنت عن اندماجها مع المناشفة»[180].

وصلت الخلافات أوجها خلال المؤتمر الثاني للرابطة الاشتراكية الديمقراطية الثورية الروسية في الخارج، الذي انعقد بجنيف في أكتوبر 1903. بعد مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، حاولت الأقلية إيجاد قاعدة دعم لموقفها. كانت الرابطة الاشتراكية الديمقراطية الثورية الروسية في الخارج بالكاد مجموعة متحلقة حول جريدة، أصدرت باسمها بضعة منشورات، لكن أنشطتها كانت شبه منعدمة، وهو الوضع المنطقي بما أن مركز الثقل آنذاك كان قد أصبح داخل روسيا. مباشرة بعد الانقسام، قرر المارتوفيون الدعوة إلى عقد مؤتمر للرابطة في جنيف. وقد تم ذلك بطريقة تكتلية؛ حيث لم يتم إخبار أنصار الأغلبية المعروفين بالاجتماع، في حين تم استقدام أنصار الأقلية من مناطق بعيدة مثل بريطانيا. قدم لينين التقرير عن مؤتمر الحزب بكلمات محسوبة، لكنه تعرض لهجوم شرس من طرف مارتوف، مما أدى إلى تسميم الأجواء منذ البداية.

في المؤتمر الثاني للحزب، تقرر اعتبار الرابطة الاشتراكية الديمقراطية الثورية الروسية في الخارج منظمة رسمية للحزب في الخارج، لها نفس وضع لجان الحزب المحلية في روسيا. كان ذلك يعني بوضوح أنها ستكون تحت رقابة اللجنة المركزية، لكن الأقلية، التي كانت تسيطر على الرابطة، لم تقبل بهذا، ووضعت قواعد جديدة تعطي للرابطة الاستقلالية عن اللجنة المركزية، بهدف تحويلها إلى قاعدة للعمل التكتلي ضد الأغلبية. اقترح لينغنيك أن هذا سيرفع للجنة المركزية وعندما قوبل الاقتراح بالرفض، استاء ممثلو الأغلبية وانسحبوا من المؤتمر.

وصف بياتنيتسكي، الذي كان آنذاك عاملا تقنيا شابا في الإيسكرا، حيرته من الصراع التكتلي المرير في المؤتمر، حيث كانت قوى الأقلية والأغلبية منقسمة بالتساوي:

«افتتح المؤتمر. جلس المناشفة في جانب، بينما جلس البلاشفة في الجانب الآخر. كنت أنا الوحيد الذي لم يقرر بعد بشكل نهائي الانتماء إلى هذا الجانب أو ذاك. أخذت مقعدي مع البلاشفة وصوتت معهم. كان البلاشفة بقيادة بليخانوف. في نفس اليوم، على ما أعتقد، غادر البلاشفة، بقيادة بليخانوف، المؤتمر. لكنني رغم ذلك بقيت هناك. وكان واضحا بالنسبة لي أن رحيل البلاشفة، أي الأغلبية، من منظمة الحزب المركزية ومجلس الحزب سيجبر الأقلية إما على الإذعان لقرارات المؤتمر الثاني أو القطع معها. لكن ما الذي يمكنني فعله؟ لا شيء. يمكن لكلا الجانبين أن يتباهيا بوجود قادة عظام بين صفوفهم، أعضاء مسؤولون في الحزب يعلمون بالتأكيد ما كانوا يفعلون. وعند حضوري جلسات مؤتمر الرابطة، بعد رحيل البلاشفة، قررت أخيرا الانضمام إلى هؤلاء الأخيرين وانسحبت بدوري من المؤتمر»[181].

في اجتماع مرتجل على عجل في مقهى قريب، ندد بليخانوف بسخط بسلوك الأقلية واقترح خطة للنضال ضدهم. ومع ذلك، فإنه في قرارة نفسه كان غارقا في الشكوك. في البداية كان حاسما في الدفاع عن موقف لينين، الذي كان يعلم أنه صحيح، لكن أعصابه بدأت تضعف بمجرد ما بدأ يظهر بوضوح أن فجوة لا يمكن تجاوزها قد بدأت تنفتح بين الأغلبية وبين أصدقائه ورفاقه القدامى. بدأ يتسائل ما إذا كان قد فعل الشيء الصحيح بوقوفه إلى جانب لينين؟ هل كان الأمر يستحق تمزيق الحزب من أجل بضعة قواعد؟ لقد عمل لينين وبليخانوف على بذل كل تنازل ممكن للأقلية، لكن هؤلاء الأخيرين كانوا يطالبون بالاستسلام التام. ما السيء في ذلك؟ ما السيء في إعادة دمج جميع المحررين القدامى من أجل تحقيق السلام؟ وعلى كل حال إن النظام القديم، بجميع أعطابه، كان أفضل من هذا الوضع.

كان لينين، بدوره، لصالح تقديم التنازلات، بل وفكر حتى في إعادة إدماج المحررين القدامى. لكن التجربة أظهرت أن كل تنازل يقدم للأقلية لم يكن يؤدي سوى إلى زيادة تعنتها. وعلى مضض، قبل لينين التحدي الذي فرضه الجانب الآخر، لأن المزيد من التنازلات ستؤدي إلى الإساءة لمصالح الحزب. كان القطع مع مارتوف مؤلما للغاية، بل صدمة للينين الذي اعترف لكروبسكايا أن هذا كان أصعب قرار اتخذه في حياته. لكن بالنسبة للينين كانت مصالح الحزب والطبقة العاملة والاشتراكية أكثر أهمية من أي اعتبارات شخصية.

كان بليخانوف من نوع مختلف تماما. كان ضحية “البحر الميت لحياة المهجر التي تجر المرء إلى القاع”[182]، أثبت بليخانوف أنه غير قادر على تحقيق الانتقال إلى المرحلة التاريخية الجديدة، مرحلة الثورة التي وضعت مهام جديدة على كاهل الحزب وقيادته. الشيء الذي كان عجيبا ليس كونه استسلم، بل بالأحرى كونه وقف في البداية إلى جانب لينين. يحسب له أنه حاول على الأقل القيام بالانتقال، ليس فقط في هذه المناسبة، إذ أنه في وقت لاحق، في عام 1909، مال مرة أخرى إلى اليسار ودخل في تكتل مع البلاشفة. لكن تلك كانت آخر محاولاته قبل أن ينحرف نهائيا إلى اليمين، لينتهي بشكل مأساوي في معسكر الشوفينية الرجعية في السنوات الأخيرة من حياته. تروتسكي قال مرة إنه من أجل أن تكون ثوريا، لا يكفيك أن تمتلك الفهم النظري. يجب أن تمتلك أيضا قوة الإرادة. فبدونها يكون الثوري مثل “ساعة بعقرب مكسور”. هذه الجملة تصف بدقة نقطة ضعف بليخانوف الذي، وعلى الرغم من مساهمته الهائلة، انتهت أخيرا بتقويضه وتحطيمه.

شهد مساء يوم 18 أكتوبر حدوث القطيعة مع بليخانوف. ففي اجتماع للأغلبية، بعد أيام فقط من اقتراحه شن نضال شامل ضد المارتوفيين، انعطف 180 درجة ودافع عن تحقيق السلام بأي ثمن. قال: «لا يمكنني إطلاق النار على رفاقي. أفضل أن أتلقى رصاصة في الدماغ على الانشقاق. هناك لحظات يكون فيها حتى على الحكم المطلق الاستسلام»[183]. وقدم مطالبه في شكل إنذارا: إما أن تقبل، أو أنه سيستقيل من هيئة التحرير. كان انشقاق بليخانوف ضربة قوية للأغلبية. لينين الذي كانت له شكوك جدية لكنه ما يزال يأمل في تسهيل الوحدة، استقال من هيئة التحرير بعد ذلك بفترة وجيزة. لكن خطوة بليخانوف لم تؤد إلى توحيد الحزب، بل كان لها تأثير معاكس. استعمل المارتوفيون نجاحهم فقط لتمرير مطالب جديدة: إعادة دمج أنصار الأقلية في اللجنة المركزية ومجلس الحزب والاعتراف بالنقاش الذي حدث في المؤتمر الثاني لرابطة الاشتراكيين الديمقراطيين في الخارج. بليخانوف الذي استسلم في المرة الأولى، استسلم مرة أخرى لجميع هذه المطالب، التي كانت ستؤدي، في الواقع، إلى تغيير كل القرارات الصادرة عن مؤتمر الحزب.

بدا موقف الأغلبية قاتما للغاية. صارت الأقلية تسيطر الآن على الجهاز المركزي للحزب، أي إيسكرا، والرابطة في الخارج ومجلس الحزب. وحدها اللجنة المركزية بقيت، من الناحية النظرية، مع الأغلبية. لكن الأغلبية كانت محرومة من وسيلة لإيصال صوتها. وتدريجيا، توقفت إيسكرا عن نشر المقالات والرسائل التي كان أنصار الأغلبية يبعثونها. في هذه الأثناء، استغل المناشفة إلى أقصى حد علاقاتهم وصداقاتهم الشخصية مع قادة الأممية الاشتراكية. بينما لم يكن للبلاشفة منفذ كبير إلى صحافة الأممية الاشتراكية.

في مذكراته، يذكر ليادوف محادثة أجراها مع كاوتسكي عبر خلالها هذا الأخير عن سخطه: «ماذا تريد؟ نحن لا نعرف لينينك هذا. إنه رجل جديد بالنسبة لنا. أما بليخانوف وأكسلرود نحن جميعا نعرفهم جيدا جدا. نحن معتادون على معرفة الوضع في روسيا من خلال شروحاتهم. وغني عن القول إننا لا نستطيع أن نصدق تأكيدك بأن بليخانوف وأكسلرود أصبحا فجأة انتهازيين. هذا سخيف!»

روزا لوكسمبورغ

عندما ذهب ليادوف عند رئيس تحرير الصحيفة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية Vorwarts مع طلب بنشر المراسلات حول الوضع داخل الحزب الروسي، قيل له إن Vorwarts «لا يمكنها أن تخصص مساحة كبيرة لأخبار الحركة في الخارج، وخاصة الحركة الروسية، التي ما تزال غير ناضجة ولا يمكنها أن تقدم سوى القليل جدا من الفائدة للحركة الألمانية». يمكن بالفعل تمييز الخطوط العريضة للتطورات المستقبلية من هذه النبرة المتعجرفة المتعالية المشوبة بضيق الأفق القومي. لم يكن لموظفي الحزب الألماني “العمليين” هؤلاء أي اهتمام بالقضايا النظرية. وفي حين كانوا يكيلون المديح للماركسية بالكلمات، كانوا منغمسين في الروتين اليومي لمهام الحزب والنقابات العمالية. ما الذي يمكن للحزب الألماني بنقاباته القوية وفريقه البرلماني الكبير أن يتعلمه من النزاعات الداخلية لحزب أجنبي صغير؟ كانت الأممية قد صارت بالنسبة لقسم كبير من القادة الألمان كتابا مختوما بسبعة أقفال.

كان الشيء الذي أضر أكثر بقضية البلاشفة هو موقف الجناح اليساري داخل الحزب الألماني. استمر لينين إلى حدود عام 1914، يعتبر نفسه مناصرا لكارل كاوتسكي، زعيم اليسار الأرثوذكسي داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لكن كاوتسكي رفض السماح بتخصيص مساحة للينين في جريدته Die Neue Zeit لشرح وجهة نظر البلاشفة. وفي إحدى رسائله كتب كاوتسكي:

«على الرغم من أنه ما تزال بالكاد بارقة أمل ضئيلة في قدرة الاشتراكيين الديمقراطيين الروس على التغلب على خلافاتهم، فإنه لا يمكنني أن أكون لصالح تعرف الرفاق الألمان على كنه تلك الاختلافات. لكن إذا تعرفوا عليها من مصدر آخر، سيكون علينا بالطبع آنذاك اتخاذ موقف واضح»[184].

وتحت ضغط المناشفة وقف كاوتسكي ضد لينين، لكنه فعل ذلك بحذر. فطالما أن الانقسام في روسيا لم يؤثر على الحياة الداخلية للحزب الألماني، فليست هناك حاجة لإعطائه أهمية كبرى، على أمل أن تحل الأمور من تلقاء نفسها. إذ على كل حال إذا تمكن الحزب الألماني من استيعاب الجميع، بدءا من برنشتاين على اليمين وصولا إلى روزا لوكسمبورغ وبارفوس على اليسار، فإنه يتعين على الرفاق الروس أن يعملوا على السير معا دون انشقاق حول مسائل تافهة.

وبهذه الطريقة كانت حجج المناشفة فقط هي من وصلت إلى أسماع الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية. وروزا لوكسمبورغ، التي تعرضت للتضليل بفعل تقارير المناشفة الكاذبة والمغرضة عن الخلافات، كتبت مقالا نشره كاوتسكي في Die Neue Zeit تحت عنوان محايد: “مسائل تنظيمية للاشتراكية الديمقراطية الروسية”. وقد تم نشر هذا المقال باللغة الإنجليزية تحت عنوان مضلل لم يستخدم أبدا خلال حياة روزا لوكسمبورغ: “اللينينية أو الماركسية؟” في هذه المقالة رددت روزا لوكسمبورغ هراء المناشفة حول “المركزية المتطرفة” و“الأساليب الديكتاتورية” المنسوبة زورا إلى لينين. كان رد لينين على هذا المقال بالضبط هو الذي رفض كاوتسكي نشره. حطم لينين، في رده، كل تلك الخرافات التي اختلقها المناشفة حول أفكاره عن التنظيم، وهي الخرافات التي ينشرها بدأب أعداء البلشفية. لقد سبق للينين الرد على هذه المزاعم:

«تقول الرفيقة لوكسمبورغ، على سبيل المثال، إن كتابي [خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء] هو تعبير واضح ومفصل عن وجهة نظر “المركزية المتصلبة”. وبالتالي فإن الرفيقة لوكسمبورغ تفترض أنني أدافع عن نظام معين للتنظيم ضد آخر، لكن الواقع ليس كذلك. لقد دافعت، من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة من كتابي، عن المبادئ الأساسية لأي تنظيم حزبي يمكن تصوره. ليس كتابي معنيا بالاختلافات بين نظام معين وآخر، بل بمسألة كيف يمكن لأي نظام أن يستمر وينتقد ويصحح بطريقة تنسجم مع فكرة الحزب»[185].

لم يكن موقف روزا لوكسمبورغ من قبيل الصدفة. فقد كانت منخرطة منذ سنوات عديدة في نضال عنيد ضد التيار البيروقراطي والإصلاحي داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. كانت تشاهد بجزع تشكل جيش واسع من موظفي النقابات العمالية والحزب في تيار محافظ قوي. كانت تعرف هذه الظاهرة أفضل من أي شخص آخر، أفضل حتى من لينين الذي كان يخوض أول تجربة مباشرة له مع الحزب الألماني. فهمت روزا لوكسمبورغ أن هذا الجهاز البيروقراطي الضخم يمكنه أن يتحول في اللحظة الحاسمة للصراع الطبقي، إلى كابح عملاق لنضالات الجماهير. وهذا ما اتضح في غشت عام 1914، عندما تأكدت أسوأ مخاوف روزا لوكسمبورغ كلها.

تكفي ولو لمحة خاطفة على كتيب روزا لوكسمبورغ لكي يظهر أن الأفكار التي كانت تجادل ضدها حقا ليست أفكار لينين (التي تعرفت عليها فقط من خلال الكاريكاتير الذي قدمه المناشفة عنها)، بل ذلك الانحطاط البيروقراطي والإصلاحي الذي كانت تعرفه جيدا جدا في حزبها، الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. كم هي كلمات هذه الثورية العظيمة ملائمة لوصف الوضع الراهن داخل حزب العمال البريطاني وأمثاله من الأحزاب الأوروبية! كتبت:

«مع نمو الحركة العمالية، تصبح النزعة البرلمانية نقطة انطلاق للسياسيين الوصوليين. وهذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الطموحين الفاشلين من الأوساط البرجوازية يتزاحمون على راية الأحزاب الاشتراكية. إن القوة المادية والنفوذ الكبيرين للمنظمات الاشتراكية الديمقراطية الكبيرة مصدر آخر للانتهازية المعاصرة.
يلعب الحزب دور حصن لحماية الحركة العمالية ضد الانحراف في اتجاه المزيد من البرلمانية البرجوازية. ولكي تنتصر هذه الميول يجب تدمير الحصن. يجب عليهم تذويب القطاعات النشيطة والواعية طبقيا بين صفوف البروليتاريا في الحشود الواسعة من “الناخبين”»[186].

إن النضال من أجل التحويل الاشتراكي للمجتمع لا يستبعد، بطبيعة الحال، المشاركة في الانتخابات أو في البرلمان. بل على العكس من ذلك، كانت الطبقة العاملة في جميع البلدان في طليعة الكفاح من أجل الحقوق الديمقراطية، وسوف تستخدم كل الحقوق القانونية والدستورية من أجل تحسين موقعها ووضع نفسها في موقع قيادي لتغيير المجتمع. كما أن بناء منظمات نقابية قوية هو بدوره جزء حيوي في مسيرة إعداد الطبقة العاملة لإنجاز المهام التاريخية الملقاة على كاهلها. لكن لهذه السيرورة وجهان اثنان. إن الطبقة العاملة ومنظماتها لا توجد في الفراغ، وتحت ضغط الطبقات الأخرى، تصير المنظمات، التي بناها العمال لأجل تغيير المجتمع، منظمات مشوهة ومنحطة. إن ضغط الرأي العام البرجوازي ينيخ بثقله على الفئات القيادية داخل تلك المنظمات.

لقد طورت الطبقة الحاكمة ألف طريقة وطريقة لإفساد واستيعاب حتى أكثر المناضلين النقابيين نزاهة وكفاحية إذا ما كانوا يفتقرون إلى تكوين نظري صلب في النظرية الماركسية ومنظوراتها. إن انعزال فئة من المسؤولين النقابيين المتفرغين، والذين ينفصلون بشكل متزايد عن الواقع في أماكن العمل، إضافة إلى جميع أنواع المنح والامتيازات الصغيرة التي يتلقونها، يؤدي إلى خلق عقلية متميزة ومغتربة عندهم، ولا سيما عندما لا يشارك العمال في النضالات الجماهيرية، والذين هم بمثابة الرقيب على القيادة. لكن خلال عقود طويلة من الازدهار النسبي والعمالة الكاملة والسلام بين الطبقات، يكون الاتجاه السائد هو عدم مشاركة القواعد بنشاط في الحياة الداخلية لمنظماتهم، والثقة في القادة والمسؤولين للحصول على وظيفة. كان هذا هو الوضع الذي ساد في ألمانيا على مدى عقدين تقريبا قبل كارثة الحرب العالمية الأولى، عندما عززت بيروقراطية محافظة، ماركسية بالكلمات، لكن إصلاحية في الممارسة العملية، قبضتها على الحركة العمالية تدريجيا؛ وهي السيرورة التي تكررت في فرنسا وفي كل بلدان أوروبا الغربية الأخرى. وما كان صحيحا بالنسبة للنقابات كان مائة مرة صحيحا بالنسبة للفريق البرلماني في الرايخستاغ[187]. قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان، الذين كان يهيمن داخل صفوفهم المثقفون والسياسيون المحترفون، ذوو مستوى معيشي يختلف عن ملايين العمال الذين يمثلونهم، اتجهوا نحو اليمين، وتخلصوا من رقابة الطبقة العاملة عليهم وتحولوا، في نهاية المطاف، إلى فئة اجتماعية متميزة ومحافظة.

وكرد فعل ضد هذا الوضع، أعطت روزا لوكسمبورغ أهمية بالغة للحركة العفوية للطبقة العاملة، ورفعت فكرة الإضراب العام الثوري إلى مستوى المبدأ تقريبا. رد الفعل المبالغ فيه هذا أدى بها بشكل حتمي إلى سلسلة من الأخطاء. ويمكن للمرء أن يقول إنها في كل خلافاتها مع لينين، بما في ذلك هذا الخلاف، كانت دائما على خطأ. ومع ذلك لا يمكن أيضا إنكار أن كل تلك الأخطاء يمكن إرجاعها إلى غريزة ثورية حقيقية، وإيمان لا حدود له في الطاقة الإبداعية للطبقة العاملة وعدائها الشديد للوصوليين والبيروقراطيين الذين يمثلون، على حد تعبير تروتسكي، “أكثر القوى محافظة في المجتمع بأسره”. لقد جرى تبني شكوك روزا لوكسمبورغ حول “مركزية لينين القاسية” المزعومة، ولنفس السبب، من طرف يساريين ألمان آخرين مثل الكسندر. ل. هيلفاند، الشهير باسمه الحركي بارفوس، والذي كانت أعماله تثير إعجاب لينين، وكذلك إعجاب تروتسكي الذي، بعد أن قطع مع المناشفة، عمل بشكل وثيق معه لفترة من الزمن.

في سنوات لاحقة، اعترف تروتسكي بأنه كان مخطئا وأن لينين كان محقا بخصوص المسائل التنظيمية. تضمن كراسه “مهامنا السياسية”، الذي نشر في خضم الصراع التكتلي، العديد من الانتقادات ضد لينين، والتي وصفها مؤلفها لاحقا بأنها “غير ناضجة وخاطئة”[188]. ومع ذلك، فحتى ذلك الكراس يحتوي على أكثر من ذرة من الحقيقة فيما يتعلق بجانب معين من البلشفية، وهي سيكولوجية وقواعد سلوك الموظفين الحزبيين، تلك الشريحة من “العمليين” و“رجال ونساء التنظيم” الذين كان على لينين نفسه الدخول في صراع مرير ضدهم بعد أشهر قليلة فقط على ظهور كراسة تروتسكي المثيرة للجدل.

حاول لينين تجنب الحرب، ورفض الرد على الهجومات المتواصلة الموجهة ضده. لكن نتيجة محاولة بليخانوف أقنعته بأنه لا حل آخر ممكن لهذا الوضع. وقد اتضح ذلك بجلاء من خلال مقال وقعه بليخانوف في العدد 52 من إيسكرا، بعنوان: “من أين يجب ألا نبدأ”، والذي هو محاولة مخزية لتوفير تبرير نظري لاستسلام صاحب المقال. تحولت إيسكرا الآن، تحت سيطرة المحررين الجدد، إلى جهاز تكتلي في يد الأقلية. كانت الأغلبية ما تزال تسيطر على اللجنة المركزية. لكن بعد أن تمكنت الأقلية من إعادة دمج المحررين القدامى في هيئة التحرير، صارت لها أغلبية في مجلس الحزب، وهو أعلى سلطة في الحزب. وبحلول نهاية العام، كان لينين قد وصل إلى الاقتناع بأن السبيل الوحيد لحل الأزمة هي الدعوة إلى عقد مؤتمر جديد للحزب.

وكما كان متوقعا فإن أنصار الأقلية، الذين كانوا يسيطرون آنذاك على مجلس الحزب اعترضوا على اقتراح لينين. لكن عندما قدم لينين طلبه إلى اللجنة المركزية، التي تسيطر عليها الأغلبية نظريا، اصطدم بمقاومة غير متوقعة من طرف مؤيديه. وفي أعمال لينين، نجد الرسائل تلو الرسائل التي بعثها لينين حيث يسعى جاهدا لإقناع أعضاء اللجنة المركزية بصحة المقترح. لكن البلاشفة في اللجنة المركزية رفضوا ما اعتبروه قطيعة نهائية مع المناشفة. قال لينين بمرارة: «أعتقد أننا نمتلك فعلا أناسا بيروقراطيين وشكليين داخل اللجنة المركزية بدلا من الثوريين. المارتوفيون يبصقون في وجوههم وهم يمسحون البصاق ويقولون لي: “لا جدوى من القتال”»[189].

الحرب مع اليابان

لم يكن قرار لينين القطع مع المناشفة في هذه المرحلة من قبيل الصدفة. لقد كان النقاش الأساسي، حتى ذلك الوقت، مركزا على المسائل التنظيمية، لكن الآن بدأت الأمور تأخذ طابعا جديدا تماما، وهو ما كان يعكس بدوره تحولا مفاجئا وحادا في الوضع السياسي. كانت المظاهرات الطلابية، وما تلاها من الإضرابات السياسية والمظاهرات العمالية، في عام 1902، مؤشرات عن تطور سريع لوضع قبل- ثوري. اندلع إضراب عام سياسي في شهري يوليوز وغشت 1903، أعقبته فترة هدوء قصيرة، لتندلع موجة إضرابات جديدة في صيف عام 1904. واندلعت سلسلة من الإضرابات في بيترسبورغ وإيفانوفو- فوزنيسينسك ونيجني نوفغورود، والقوقاز حيث هز إضراب كبير مركز النفط في باكو خلال شهر دجنبر. وتحت ضغط الطبقة العاملة، بدأ الليبراليون البرجوازيون يعلنون مطالبهم بطرح دستور. النظام الذي شعر بالأرض تهتز تحت قدميه أصيب بالذعر. وبكلبية كتب وزير الداخلية، بليهف، رسالة إلى وزير الدفاع، الجنرال كيروباتكين، قال له فيها: “إن ما نحتاج إليه، من أجل درء الثورة، هو حرب صغيرة منتصرة”.

كانت روسيا القيصرية، على الرغم من تخلفها وطابعها شبه الإقطاعي، واعتمادها على العواصم الغربية، واحدة من الدول الإمبريالية الرئيسية في مطلع القرن العشرين. وقد شاركت، جنبا إلى جنب مع القوى الامبريالية الأخرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في عملية تقسيم العالم إلى مستعمرات ومناطق النفوذ. وكانت بولندا وبلدان البلطيق وفنلندا والقوقاز وأراضي الشرق الأقصى وآسيا الوسطى، في واقع الأمر، مستعمرات للدولة القيصرية. لكن الطموحات التوسعية للقيصرية كانت بدون حدود. كانت عيون سان بيترسبورغ النهمة مركزة على تركيا وبلاد فارس، وقبل كل شيء على الصين حيث كانت أسرة المانشو المتحللة غير قادرة على منع تقسيم الصين من قبل قطاع الطرق الإمبرياليين، خاصة بعد هزيمة ما يسمى بانتفاضة بوكسر عام 1900، عندما احتلت روسيا منشوريا كلها. هذا التوسع الجشع في اتجاه الشرق الأقصى دفع روسيا إلى الاصطدام بالقوة اليابانية الصاعدة الشابة. فسر الامبرياليون اليابانيون ما قامت به روسيا على أنه محاولة لمنع تقدمهم في آسيا. في صيف 1903، فاز حزب الحرب في طوكيو. وفي جوف ليل فبراير 1904، هاجم اليابانيون الأسطول الروسي في بورت آرثر، باستخدام نفس التكتيكات التي لجئوا إليها في بيرل هاربر عام 1941. وهكذا ضمنت اليابان السيطرة على البحار وبدأ صراع دموي أدى إلى سقوط بورت آرثر بعد 11 شهرا مع فقدان 28.200 جندي روسي، أي نصف الحامية. وبعد ثلاثة أسابيع انطلقت الثورة الروسية الأولى.

صحيفة إيسكرا الجديدة، تحت سيطرة المناشفة، اتخذت في البداية موقفا غامضا من الحرب، وحصرت نفسها في الدعوة إلى السلام. وجه لينين نقدا صارما ضد هذه الفكرة، موضحا أن نصر القيصرية في الحرب من شأنه أن يعزز النظام لفترة من الزمن، في حين أن الهزيمة العسكرية لروسيا ستعني حتما اندلاع الثورة. وجه انتقاد لاذعا للحملة العسكرية الروسية واستخدمها وسيلة لفضح طبيعة النظام المنحطة والفاسدة. لا علاقة لنزعة لينين الأممية الثورية مع النزعة المسالمة، فقد كانت تقوم على تحليل طبقي للحرب باعتبارها استمرارا للسياسة بوسائل أخرى.

وقد كتب في مقاله “سقوط بورت آرثر”:

«إن قضية الحرية الروسية وكفاح البروليتاريا الروسية (والعالمية) من أجل الاشتراكية يعتمد إلى حد كبير على الهزائم العسكرية للحكم المطلق. لقد تقدمت هذه القضية كثيرا بفعل الكارثة العسكرية التي ألقت الرعب في قلوب جميع حراس النظام القائم الأوروبيين. على البروليتاريا الثورية أن تقوم بالتحريض المتواصل ضد الحرب، لكن دون أن تنسى، في الوقت نفسه، أن الحروب حتمية طالما بقي النظام الطبقي. إن العبارات المبتذلة عن السلام على طريقة جوريس [جان جوريس، 1859-1914، القيادي البارز في الجناح الإصلاحي داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي] لا تفيد الطبقة المضطهَدة التي هي ليست مسؤولة عن الحرب البرجوازية بين الدول البرجوازية، والتي تبذل كل ما في وسعها لإسقاط جميع البرجوازيين، والتي تعرف فداحة معاناة الشعب حتى في زمن الاستغلال الرأسمالي “السلمي”»[190].

كان هدف الحكم المطلق هو تخفيض حدة الصراع الطبقي من خلال خلق تكتل على أساس الوحدة الوطنية. أما الليبراليون فقد كشفوا بشكل نهائي عن طبيعتهم الرجعية. لقد تعارضت كراهيتهم للنظام الاستبدادي، الذي كان يمنعهم من اقتسام كعكة الدولة، مع طمعهم في احتمال تحقيق أرباح كبيرة الآن بفضل الحرب والاستيلاء على مستعمرات جديدة في الشرق. وقد حث الماركسي السابق ستروفه الطلاب على دعم سياسة الحرب. لكن الحرب التي كانت قد أدت في البداية إلى إضعاف الحركة الثورية، سرعان ما أعطتها دفعة قوية. وقد فضح منظر الجيش الروسي، الذي كان يزعم أنه لا يقهر، وهو ينهار مثل بيت من ورق في أول اختبار جدي، الطبيعة المتعفنة للنظام القيصري. وبدأت التصدعات تظهر في قمة النظام.

وجد استياء الشباب الطلاب تعبيرا عنه في انتشار النزعة الإرهابية. في 15 يوليوز تعرض وزير الداخلية القمعي، فيكتور بليهف، لعملية اغتيال على يد الاشتراكي الثوري إيجور سيتونوف. بعد أربعين عاما على ذلك كتب القيادي اللبرالي، ب. ن. ميليوكوف، يصف المزاج الذي كان سائدا في المجتمع في ذلك الوقت: “لقد فرح الجميع بخبر اغتياله”[191]. قرر النظام المذعور من مد الثورة المتزايد تقديم بعض التنازلات. تم استبدال بليهف بالأمير سفياتوبولسك ميرسكي، كما قرر النظام القيام ببعض الإصلاحات الليبرالية لتلافي حدوث الثورة. تسببت الهزائم العسكرية المهينة في فقدان الحرب للشعبية بشكل مطلق، ليس فقط بين صفوف الجماهير، بل أيضا بين صفوف الليبراليين البرجوازيين، الذين تحولوا بمهارة من النزعة الوطنية إلى الانهزامية. بدأ النظام، المرعوب من خطر ثورة من تحت، في تقديم تنازلات لليبراليين البرجوازيين. وبدأ سفياتوبولسك ميرسكي يخلق ضجة حول “الحقبة الجديدة”.

في شهر نوفمبر سمح للزيمستفوات بعقد مؤتمر في سان بيترسبورغ. كان لتيار أوسفوبوجيدني الليبرالي آنذاك تأثير كبير داخل الزيمستفوات وكان القوة الرئيسية وراء حملة الدعاية لها. اقترحت إيسكرا المناشفة المشاركة في حملة الزيمستفوات ودعم الليبراليين بقدر ما كانوا مستعدين للنضال ضد الحكم المطلق. قالت إنه لأجل ذلك يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين تخفيف مطالبهم حتى لا يخيفوا حليفهم السياسي، ويجب عليهم تعديل برنامجهم لأجل تحقيق الوحدة ضد الرجعية. لم يكد المناشفة يعلنون دعمهم لليبراليين حتى شن لينين هجوما عنيفا عليهم. في مقالته “حملة الزيمستفو وخطة الإيسكرا”، شن لينين هجوما صارما ضد دعاة التعاون الطبقي ودافع عن سياسة طبقية ثورية مستقلة:

«إن السادة اللبراليين الذين يخافون من المنشورات ويخافون من كل شيء يتخطى دستور الامتيازات المشروطة، سيخافون دائما من شعار “جمهورية ديمقراطية” ومن الدعوة إلى انتفاضة شعبية مسلحة. لكن البروليتاريا الواعية طبقيا سترفض بسخط فكرة أن نتنكر لهذا الشعار وتلك الدعوة، أو أن ننقاد عموما في نضالنا بهلع ومخاوف البرجوازية»[192].

أصبح الموقف من الليبراليين على الفور السؤال الأساسي الذي حددت من خلاله جميع التيارات الاشتراكية الديمقراطية موقفها. قال زينوفييف بحق:

«برزت مسألة موقف الطبقة العاملة من البرجوازية بحدة مرة أخرى، وهو نفس السؤال الأساسي الذي اصطدمنا به في كل مرحلة من مراحل تاريخ الحزب والذي يمكننا أن نرجع إليه، في نهاية المطاف، كل خلافاتنا مع المناشفة»[193].

في الخريف، أصدرت المنظمة اللبرالية سويوز أوسفوبوجدينيا (رابطة الحرية) دعوة لتنظيم حملة مأدبات للضغط على الحكومة للقيام بإصلاحات. نظم المحامون والأطباء وأساتذة الجامعات والصحفيون اجتماعات شبه شرعية على شكل مأدبات عشاء حيث تلقى الخطب ويتم تبادل الأنخاب لصالح إصلاح دستوري معتدل. ومع ذلك فإن جبن الليبراليين البرجوازيين يظهر في حقيقة أنهم لم يرفعوا حتى مطلب جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام، بل اكتفوا فقط بمطالب غامضة حول تمثيل الشعب على أساس ديمقراطي واسع.

بدأ قادة المناشفة، تحت ضغط الليبراليين البرجوازيين، يبتعدون في الواقع عن المواقف الماركسية الثورية. توصيفهم الغامض وشبه السلمي للحرب كان ربما أول تعبير علني عن هذه الحقيقة. بدأت الخلافات مع المناشفة تنتقل بشكل واضح من مجرد خلافات تنظيمية إلى خلافات سياسية. وبدأ المناشفة اليمينيون، مثل فيدور دان، يحصلون على اليد العليا داخل صفوف الأقلية. قلص المناشفة دور البروليتاريا إلى مجرد تابع للقادة الليبراليين. وبهذه الطريقة كان المناشفة يأملون إقامة “جبهة واسعة” من أجل الديمقراطية، تضم جميع “القوى التقدمية”. كانت نفسية المناشفة مشبعة بعدم الثقة في الإمكانيات الثورية للطبقة العاملة. كان من المفروض على العمال عدم رفع مطالب أكثر من اللازم، أو التعبير عن مواقف جذرية جدا قد تخيف الليبراليين. وقد نشرت إيسكرا بيانات من هذا القبيل:

«إذا ألقينا نظرة على ساحة النضال في روسيا، ماذا نرى؟ لا نرى سوى قوتين اثنتين: الاستبداد القيصري والبرجوازية الليبرالية، التي هي الآن منظمة وتمتلك وزنا نوعيا هائلا. بينما جماهير الشغيلة في المقابل مذررة ولا يمكنها أن تفعل شيئا؛ نحن لا وجود لنا كقوة مستقلة؛ وبالتالي فإن مهمتنا تتمثل في دعم القوة الثانية، أي البرجوازية الليبرالية، وتشجيعها وعدم التسبب، في أي حال من الأحوال، في إخافتها عبر طرح مطالبنا البروليتارية المستقلة الخاصة»[194].

في عدد نوفمبر 1904 اقترحت إيسكرا المناشفة المشاركة في حملة مأدبات الزيمستفو. اقترحت، في الواقع، دعم ما يسمى بالجناح الليبرالي اليساري داخل أوسفوبوجيدني:

«في ما يتعلق بالزيمستفوات الليبرالية والدوما نحن نتعامل مع أعداء عدونا، على الرغم من أنهم لا يرغبون أو لا يستطيعون المضي بعيدا حتى الآن في صراعهم معه بالشكل الذي تتطلبه مصالح البروليتاريا؛ لكنهم من خلال حديثهم العلني ضد الحكم المطلق ومواجهتهم له بمطالب تهدف إلى القضاء عليه (!) يشكلون في الحقيقة حلفاء لنا [بمعنى نسبي للغاية طبعا] حتى ولو [أنهم] غير حازمين بما فيه الكفاية في تطلعاتهم…
وأضافوا: لكن في حدود النضال ضد الحكم المطلق، وخصوصا في المرحلة الحالية، يتمثل موقفنا من البرجوازية الليبرالية في تشجيعها أكثر ودفعها إلى الانضمام إلى المطالب التي سترفعها البروليتاريا، بقيادة الاشتراكية الديمقراطية. سنرتكب خطأ فادحا إذا ما نحن وضعنا لأنفسنا هدف إجبار الزيمستفوات، أو غيرها من مؤسسات المعارضة البرجوازية، من خلال تدابير التخويف، أو استعملنا تأثير الذعر من أجل إجبارها على إعطائنا الآن وعدا رسميا بتقديم مطالبنا للحكومة. من شأن مثل هذا التكتيك أن يضر بالاشتراكية الديمقراطية لأنه سيحول حملتنا السياسية إلى وسيلة للضغط في يد الرجعية»[195].

ما معنى هذا الاقتباس؟ إنه يعني في جوهره:

أ) دعم البرجوازية الليبرالية (“بقدر ما”).
ب) على الطبقة العاملة أن تلعب دورا ثانويا وراء الليبراليين.
ج) يجب ألا نخيف البرجوازية (وبعبارة أخرى: تلطيف اللهجة والتخلي عن المبادئ والاستسلام).
د) كل هذا بزعم عدم دعم الرجعية وباسم “النضال ضد الرجعية”.

رد لينين على الفور على الإيسكرا في منشور مؤرخ بـ 20 نوفمبر (حسب التقويم الجديد). لم تكن لديه جريدة آنذاك، حيث أن فبريود لم تبدأ في الصدور إلا في يناير عام 1905. لينين الذي ندد باقتراح المناشفة تشكيل كتلة مع الليبراليين، اقترح الاستفادة من حملة الزيمستفو لتنظيم مظاهرات عمالية كفاحية ضد كل من القيصرية والليبراليين المخادعين الجبناء. إن الفارق الحقيقي بين البلشفية والمنشفية هو الفرق بين الاستقلال الطبقي والتعاون الطبقي، بين الماركسية والتحريفية، بين الثورة والإصلاحية. لكن الأمر استغرق عدة سنوات وتجربة الحرب والثورة والثورة المضادة، لكي تصبح الطبيعة الحقيقية لهذه الاختلافات واضحة تماما.

غريزة العمال الطبقية تمردت ضد فكرة التحالف مع البرجوازية. كانت هناك مناقشات حادة في صفوف المناشفة. وفي جنيف وروسيا تبنى العديد من العمال المناشفة بشكل غريزي موقفا متناقضا تماما مع موقف محرري إيسكرا وقريبا من موقف البلاشفة. في ظل الظروف الصعبة للغاية للنضال ضد الدكتاتورية القيصرية، لا يمكن للمرء، بطبيعة الحال، أن يستبعد إقامة اتفاقات عرضية ومؤقتة حتى مع الليبراليين البرجوازيين. لكن الشرط الأول لمثل هذه الاتفاقات بالنسبة للينين كان دائما الاستقلال الكامل للطبقة العاملة وحزبها: لا لخلط الرايات، لا للتكتلات السياسية مع البرجوازية، لا للمساومات على البرنامج أو المبادئ. بالطبع لا يمكن للعمال أن يتجاهلوا أي فرصة لطرح مطالبهم. وقد دافع لينين على أنه يجب على العمال أن يذهبوا إلى تلك التجمعات الشرعية ويحاولوا تحويلها إلى مظاهرات كفاحية.

وضح سوموف، وهو مؤيد سابق لرابوتشييه ديلو تحول لاحقا إلى المناشفة، أن «جميع الخطب التي ألقيت في المأدبات كانت تنتقد بشدة كلا من مبادئ وتكتيكات الليبراليين الانتهازيين وتسخر من قرارات المأدبات الضعيفة ومشاريع العرائض». وتبين الحادثة التالية، التي وقعت في يكاتيرينوسلاف، كيف اختار العمال الاشتراكيون الديمقراطيون التدخل في مأدبات الليبراليين:

«في اللحظة المناسبة، ظهرت مجموعة من العمال أمام طاولة أعضاء مجلس البلدة، وبدء أحد أعضاء المجموعة في الكلام. حاول الرئيس منعه، لكنه استسلم أمام إصرار العمال، واختتم كلمته وسط اهتمام واسع من طرف الحضور بالقول: “أنتم ونحن نمثل طبقات اجتماعية متناقضة، لكن يمكن أن توحدنا الكراهية لنفس العدو، أي النظام الاستبدادي. يمكن أن نكون حلفاء في نضالنا السياسي. لهذا يجب عليكم التخلي عن طريق الليونة السابق، عليكم أن تنضموا بجرأة وعلنا إلى مطلبنا: فليسقط الاستبداد! من أجل جمعية تأسيسية منتخبة من قبل الشعب بأكمله! من أجل الاقتراع العام المباشر والمتساوي والسري!”.
بعد الخطاب، تناثرت في القاعة بيانات لجنة كوبان لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي. في اليوم التالي، أصدرت اللجنة منشورا (من ألف نسخة) تصف فيه أحداث الاجتماع وتنشر خطاب الاشتراكية الديمقراطية بالكامل»[196].

في أماكن أخرى أدت تدخلات مماثلة من قبل هؤلاء الضيوف غير المدعوين إلى مشاجرات مع الشرطة والقوزاق. أفشلت تدخلات هؤلاء “الصغار المجانين” خطط الليبراليين، الذين حاولوا إبقاء العمال بعيدين عن الاجتماعات. وفي لقاء لحوالي 400 طبيب في سان بيترسبورغ، تم رفض حضور نحو 50 عامل، لكن ضغط المندوبين أدى إلى التراجع عن القرار. أدى تدخل العمال للمطالبة بالحق في الإضراب إلى خلق استقطاب قوي بين الأطباء تسبب في انفضاض الاجتماع وسط حالة من الفوضى. وكان هناك العديد من مثل هذه الحالات. في مقاله “مظاهرات جيدة من طرف البروليتاريين وحجج سيئة لبعض المثقفين”، التي ظهرت في العدد الأول من الصحيفة البلشفية فبريود[197]، أشاد لينين بهذه التكتيكات بوصفها مظهرا من مظاهر الروح القتالية والقدرة على الإبداع عند الطبقة العاملة. أما المناشفة، فعلى النقيض من ذلك، كانوا مستعدين لتخفيف مطالبهم حتى لا يخيفوا الليبراليين، والتضحية باستقلال الحزب من أجل الوحدة معهم، وباختصار إخضاع الطبقة العاملة لما يسمى بالجناح التقدمي للرأسماليين. وهي السياسة التي تبناها ستالين في وقت لاحق تحت شعار “الجبهة الشعبية”. أما لينين فقد صب جام نقده على الفكرة قائلا:

«هل يمكن بشكل عام أن يتم الاعتراف من حيث المبدأ بصحة تبني حزب العمال لمهمة تقديم مطالب سياسية للديمقراطيين الليبراليين أو لأعضاء الزيمستفو، “والتي عليهم أن يدعموها إذا كان لهم أي حق في التحدث باسم الشعب؟” كلا، هذا النهج خاطئ من حيث المبدأ، ولن يؤدي إلا إلى الإضرار بالوعي الطبقي للبروليتاريا، وسيؤدي إلى السفسطة الأكثر عقما»[198].

كون أن الأساس الحقيقي لانقسام البلاشفة والمناشفة لم يظهر واضحا إلا بعد المؤتمر الثاني، هي مسألة أكدها العديد من الكتاب، بدءا من لينين الذي كتب أن “البلشفية باعتبارها تيارا أخذت شكلا واضحا في ربيع وصيف 1905”[199]. لم تبدأ الخلافات السياسية في الظهور إلا خلال عام 1904. وكتب سليمان شوارتز ما يلي:

«وراء الاتهامات المتبادلة، بقيت الخلافات السياسية العميقة خفية. ولأن تلك الخلافات لم تكن واعية تماما فقد أقحمت العاطفة أكثر في النزاع، الذي بدا بالنسبة للأجانب والأعضاء الأقل تطورا داخل الحركتين وكأنه مشاحنات داخل الحزب. لم تظهر الخلافات السياسية إلى العلن إلا في أواخر 1904»[200].

قال فيدور دان، أحد أهم قادة المناشفة:

«اليوم، وبعد فوات الأوان من وجهة النظر التاريخية، صار من النافل التأكيد أن الخلافات التنظيمية التي قسمت صفوف الإيسكرا، في المؤتمر الثاني، إلى بلاشفة ومناشفة، كانت مجرد غطاء للفروقات الفكرية والسياسية الوليدة، التي كانت أكثر عمقا، وفوق كل شيء، أكثر ثباتا من الخلافات بين الاقتصادويين وإيسكرا، التي صارت جزءا من الماضي وجرت تصفيتها تماما من طرف المؤتمر. لم تكن خلافات تنظيمية، بل سياسية تلك التي قسمت بسرعة كبيرة صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية إلى تيارين تقاربا أحيانا ثم اصطدما مع بعضهما البعض أحيانا أخرى، لكنهما بقيا من حيث الجوهر حزبين مستقلين استمرا في الصراع مع بعضهما البعض حتى في الوقت الذي كانا فيه ما يزالان اسميا في إطار حزب واحد… لكن في ذلك الوقت، في بداية القرن، كان الطابع السياسي للانقسام بعيدا عن الوضوح، ليس فقط بالنسبة للمتتبعين على الهامش، بل حتى للمشاركين في النضال التكتلي أنفسهم»[201].

قطيعة تروتسكي مع المناشفة

في مؤلفه الأخير “ستالين” أشار تروتسكي إلى أن الاختلافات الحقيقية لم تكن خلافات حول المركزية مقابل الديمقراطية، ولا حتى “الصلابة” مقابل “الليونة”، بل كانت أعمق بكثير. كتب قائلا:

«صحيح أن الحزم والعزم شرطان مسبقان للشخص لقبول البلشفية، لكن هذه الأوصاف ليست حاسمة في حد ذاتها، فقد كان هناك عدد كبير من الأشخاص الحازمين بين صفوف المناشفة والاشتراكيين الثوريين، بينما لم يكن من النادر جدا أن نجد أناسا مترددين بين صفوف البلاشفة. ليست الصفات النفسية والشخصية هي كل ما يميز البلشفية التي هي، قبل كل شيء، فلسفة للتاريخ ومفهوم سياسي»[202].

وفي سيرته الذاتية يتذكر تروتسكي كيف مال قسم من القادة السابقين نحو الليبراليين:

«أصبحت الصحافة أكثر جرأة والأعمال الإرهابية أكثر تواترا. بدأ الليبراليون يستيقظون ونظموا حملة من المأدبات السياسية. صعدت المسائل الأساسية للثورة بسرعة نحو السطح. وصارت المفاهيم المجردة تأخذ في ذهني شكلا اجتماعيا ملموسا. كان المناشفة، وخاصة فيرا زاسوليتش، يضعون آمالا كبيرة على الليبراليين»[203].

موقف تروتسكي من الليبراليين واضح في المقال الذي نشر في إيسكرا منتصف مارس 1904، حيث وصفهم بأنهم “فاترون غامضون ويفتقرون إلى الحزم وميالون للخيانة”. كان هذا بالذات هو المقال الذي دفع بليخانوف إلى تقديم إنذار نهائي لمحرري إيسكرا يطالب فيه بطرد تروتسكي من هيئة التحرير. بعد ذلك اختفى اسم تروتسكي من إيسكرا وتوقف تعاونه مع المناشفة على جميع المستويات. كانت “جريمة” تروتسكي في تلك السنوات هي “النزعة التوفيقية”، أو بتعبير آخر: الدفاع عن الوحدة. لكن هذه النزعة التوفيقية كانت محاولة لإعادة توحيد الحزب، وهو الموقف الذي كان يشترك معه فيه العديد من أعضاء معسكر البلشفية والحزب بشكل عام. لم يكن أبدا دعوة للتصالح مع أعداء الطبقة العاملة من الليبراليين وما يسمى بالبرجوازية التقدمية، وهي الفكرة التي قضى لينين كامل حياته النضالية في الكفاح ضدها.

لم يكن هناك أي خلاف بين لينين وتروتسكي بشأن هذه المسألة. كتب تروتسكي: «كنت على اتفاق تام مع لينين حول هذه المسألة، والتي أصبحت أكثر أهمية كلما تعمقنا فيها. في عام 1904، وخلال حملة المأدبات الليبرالية، التي وصلت بسرعة إلى طريق مسدود، طرحت سؤال “ماذا بعد؟” وأجبت عنه بالطريقة التالية: لا يمكن تجاوز المأزق إلا بواسطة إضراب عام تليه انتفاضة البروليتاريا التي سوف تقود الجماهير ضد الليبرالية. فاقم هذا الموقف خلافاتي مع المناشفة».

لقد كان دعم المناشفة لليبراليين، وعلى وجه الخصوص دعمهم لحملة مأدبات الزيمستفو، هو ما دفع تروتسكي إلى القطع مع المناشفة في شتنبر 1904. وردا على أكاذيب الستالينيين بأنه كان منشفيا منذ عام 1903، قال تروتسكي:

«كانت تلك العلاقة مع الأقلية في المؤتمر الثاني وجيزة. ولم تمض سوى عدة أشهر حتى بدأ يظهر اتجاهان داخل صفوف الأقلية. طالبت باتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق الوحدة مع الأغلبية في أقرب وقت ممكن، لأنني كنت أعتقد أن الانفصال كان حدثا عرضيا لا أكثر. أما بالنسبة للآخرين فقد كان الانقسام الذي عرفه المؤتمر الثاني بداية تطور نحو الانتهازية. قضيت سنة 1904 كلها أجادل مع المجموعات القيادية داخل المناشفة حول المسائل السياسية والتنظيمية. وتركزت النقاشات على مسألتين: الموقف من الليبرالية والموقف من البلاشفة. وقفت بدون هوادة ضد محاولات الليبراليين الاستناد على الجماهير، وفي الوقت نفسه، وبسبب ذلك، طالبت بعزم أشد باتحاد تياري الاشتراكية الديمقراطية الاثنين»[204].

وعلى الرغم من أن الخلافات السياسية بين البلشفية والمنشفية كانت قد بدأت تصعد إلى الواجهة، فإن كثيرا من القادة البلاشفة لم يفهموا موقف لينين ومالوا للتقليل من حدة الاختلافات. كان الاتجاه السائد بين تيار البلشفية داخل روسيا مدافعا عن المصالحة. لم تفهم الغالبية العظمى من نشطاء الحزب أسباب الانقسام، ورفضوه. في الواقع، حتى أقرب المتعاونين مع لينين كانوا يقفون ضده. وفي فبراير 1904، وبعد فترة طويلة من التردد، قررت اللجنة المركزية داخل روسيا رفض دعوة لينين لعقد مؤتمر بأغلبية خمسة أصوات مقابل واحد، وهو ما يعادل إدانة علنية لموقف لينين. كان أولئك الذين صوتوا ضده هم كرجيجانوف وكراسين وغالبيرين وغوساروف ونوسكوف (صوتت زيملياشكا لصالح الدعوة). كان هؤلاء المناضلون قد عملوا بشكل وثيق مع لينين منذ تأسيس إيسكرا، أو حتى قبل ذلك، ولعبوا دورا بارزا في تنظيم التيار الماركسي الثوري في روسيا، كيف يمكن أن يتصرفوا بهذه الطريقة؟

لقد كانوا، من نواح كثيرة، نموذجا للمناضلين البلاشفة، مناضلون لا يعرفون الكلل وعمالا حزبيين مخلصين ومنظمين جيدين ومنضبطين ومستعدين للتضحية بالنفس، لكنهم كانوا ما يمكن تسميته “العمليين”، الذين يتمثل عملهم في إنجاز مئات المهام التنظيمية التفصيلية. بدون مثل هؤلاء الأشخاص لا يمكن لأي حزب ثوري أن ينجح. لكن هناك أيضا جانب سلبي لعقلية “أعضاء اللجان” البلاشفة، كما كان يطلق عليهم: محدودية تنظيمية معينة وضيق النظرة وآفاق نظرية محصورة. يميل مثل هؤلاء حتما إلى النظر بنوع من الازدراء للتفاصيل الدقيقة للتاريخ وينظرون إلى مثل تلك الخلافات التي حدثت في المؤتمر الثاني بأنها مجرد خلافات مهاجرين، بدون أهمية عملية. وإذا كان الأغلبية منهم قد انحازوا في البداية إلى لينين وبليخانوف، فإن هذا لم يكن نابعا من أي التزام إيديولوجي عميق، بل لأن الموقف التنظيمي للأغلبية بدا لهم أكثر انسجاما مع “روح الحزب” الذي كان القوة المحركة لحياتهم.

لكن بعد انشقاق بليخانوف بدأت الأمور تبدو أكثر تعقيدا. بدأت الأغلبية السابقة تبدو الآن إلى حد كبير وكأنها أقلية، على الأقل داخل الهيئات القيادية. صار يبدو أن عزلة لينين الكاملة تأكيد لضعفه. وبالنسبة “للعمليين” بدت حجج بليخانوف أكثر قوة. لماذا كل هذه الضجة حقا؟ حاول لينين، في كتابه “خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء”، أن يوضح القضايا المبدئية التي يدور حولها الخلاف، لكن العديد من “أعضاء اللجان” لم يقتنعوا. في يناير 1904، كان لينين قد نظم أخيرا مكتبا للجان الأغلبية للدعوة للمؤتمر. تم إرسال عضوين من اللجنة المركزية، لينغنيك وايسن، إلى روسيا لهذا الغرض، لكنهما تعرضا للاعتقال. وفي الوقت نفسه، انتصر غالبية البلاشفة التوفيقيين داخل اللجنة المركزية على نصير لينين الوحيد: زيملياشكا. بدأت القيادة البلشفية تنهار. غوساروف المحبط توقف عن النشاط النضالي، واستقال كرجيجانوفسكي من اللجنة المركزية. بقية أعضاء اللجنة المركزية كراسين ونوسكوف وغالبيرين -وهم جميعا من البلاشفة التوفيقيين- شرعوا في التحضير لانقلاب لامبدئي.

في فصل الصيف، عندما كان لينين يقضي فترة نقاهة في جبال الألب السويسرية، عقد الثلاثي اجتماعا سريا للجنة المركزية ومرروا ما أصبح يعرف باسم “إعلان يوليوز”، حيث دعوا إلى المصالحة بين البلاشفة والمناشفة، والذي كان في الواقع بمثابة الاستسلام لشروط الأقلية. قبلوا بـ “شرعية” هيئة تحرير إيسكرا الجديدة و“تفوق الجهاز المركزي في كل ما يتعلق بالدفاع عن المبادئ الأساسية لتكتيكات وبرنامج الاشتراكية الديمقراطية الأممية وتوضيحها”.

شكلت هذه الإجراءات إدانة علنية للينين، الذي جردوه من الحق في تمثيل اللجنة المركزية في الخارج. بل إنهم أصروا حتى على الحق في فرض الرقابة على كتابات لينين (“نشر كتاباته… سيتم في كل مرة بالاتفاق مع أعضاء لجنة التنسيق”)[205]. ومنعوا التحريض لصالح عقد المؤتمر الثالث. وعلاوة على ذلك تم تعيين نوسكوف لإعادة تنظيم العمل التقني للحزب في الخارج، مما يعني تصفية مؤيدي لينين من قبيل بونش- برييفش، الذي كان مسؤولا عن نشر الأدبيات البلشفية في الخارج، وليادوف الذي كان مسؤولا عن الشؤون المالية. وبالإضافة إلى ذلك تم ضم ثلاثة بلاشفة توفيقيين وثلاثة مناشفة إلى اللجنة المركزية. عندما توصل لينين في النهاية بخبر ما كان يحدث، كتب رسالة غاضبة جدا إلى اللجنة يطعن في شرعية أفعالها. وبعث رسالة أخرى إلى أعضاء اللجان البلشفية يفضح فيها أنشطة اللجنة المركزية. بل إنه بعث حتى برسالة إلى إيسكرا يطلب منها عدم نشر الإعلان الفاقد للشرعية. لكن المحررين، وفي تجاهل منهم لطلب لينين، نشروه في العدد 72 تحت عنوان “إعلان اللجنة المركزية”. لم يتبق شيء للينين سوى أن يقطع جميع العلاقات مع التوفيقيين.

صار الوضع قاتما بالفعل. كان كل ما تم تحقيقه في المؤتمر الثاني قد تحول إلى خراب. سقطت الهيئات القيادية، الواحدة تلو الأخرى، في يد الأقلية. بدا وكأن المارتوفيين قد انتصروا على طول الخط. وبدا لينين معزولا تماما. ومع ذلك فإن نصر المناشفة كان قد تحقق، في الواقع، عن طريق المناورة في القمة. لكن على مستوى القاعدة كانت الأمور مختلفة. كان عدد متزايد من اللجان ينادي بضرورة عقد مؤتمر جديد باعتباره السبيل الوحيد لحل الأزمة. لجان الحزب في بيترسبورغ وموسكو وييكاتيرينوسلاف وريغا والاتحاد الشمالي وفورونيج ونيجيغورد، وربما الأكثر إثارة للاستغراب باكو وباتومي والاتحاد القوقازي، أعلنت دعمها [للبلاشفة]. وحتى في الخارج وقفت المجموعات الاشتراكية الديمقراطية في باريس وجنوة وبرلين ضد المناشفة. ووفقا لرسالة كتبها لييبيموف إلى نوسكوف في خريف عام 1904:

«لقد تسببت مسألة الإعلان [إعلان اللجنة المركزية] في فوضى عارمة. هناك فقط شيء واحد واضح: جميع اللجان، باستثناء خاركوف والقرم وغورنوزافسدك والدون، هي لجان تابعة للأغلبية… حصلت اللجنة المركزية على تصويت بالثقة كاملة في عدد ضئيل جدا من اللجان»[206].

بتشجيع من الاستجابة التي لقيها من داخل روسيا، نظم لينين اجتماعا تشاوريا (Conference) من 22 بلشفيا في سويسرا، شهر غشت عام 1904، والذي تبنى نداء لينين “إلى الحزب”، الذي أصبح دعوة لعقد المؤتمر الثالث للحزب. وصف لينين بنزاهته المعروفة الأزمة الخطيرة التي كان الحزب يمر من خلالها، وأضاف: «ومع ذلك، فإننا نعتبر أن المرض الذي يعاني منه الحزب هو جزء من آلام النمو. نحن نعتبر أن السبب الكامن وراء الأزمة هو انتقال حياة الاشتراكية الديمقراطية من شكل الحلقات إلى شكل الحزب؛ إن جوهر الصراع الداخلي هو الصراع بين عقلية الحلقات الصغرى وبين عقلية الحزب. وبالتالي فإنه فقط عن طريق معالجة هذا المرض سيمكن لحزبنا أن يصبح حزبا حقيقيا».

 في هذه اللحظة فقط بدأ لينين يشير إلى القوى الطبقية التي تكمن وراء الانشقاق:

«وأخيرا، يتشكل القسم الأكبر من كوادر المعارضة، بشكل عام، من تلك العناصر داخل حزبنا التي تتكون أساسا من المثقفين. الانتلجينسيا هي دائما أكثر فردانية من البروليتاريا، وذلك بسبب ظروف حياتها وعملها بالذات، والتي لا تعلمها بشكل مباشر العمل الجماعي المنظم. وبالتالي فإن المثقفين يجدون صعوبة في التكيف مع حياة الانضباط داخل الحزب، وهؤلاء منهم الذين لا يتكيفون معها من الطبيعي أن يعلنوا التمرد ضد الحدود التنظيمية اللازمة، ويرفعوا فوضويتهم الغريزية إلى مرتبة مبدأ للنضال، بعد أن يطلقوا عليها اسم الرغبة في “الاستقلالية الذاتية”، والدعوة إلى “التسامح”، الخ.
قسم الحزب في الخارج، حيث عاشت الحلقات منذ مدة طويلة نسبيا، وحيث يتجمع منظرون من مختلف الأطياف، وحيث تشكل الإنتلجينسيا الأغلبية بالتأكيد، هو القسم الذي كان لا بد أن يكون أكثر ميلا إلى وجهات نظر “الأقلية”، والتي صارت نتيجة لذلك الأغلبية الفعلية. أما داخل روسيا، من جهة أخرى، حيث صوت البروليتاريا المنظمة هو الأعلى، وحيث إنتلجنسيا الحزب بدورها، بفعل كونها على اتصال أوثق وأكثر مباشرة معها، يتم تدريبها بعقلية أكثر بروليتارية، وحيث مقتضيات النضال اليومي تجعل الإحساس بضرورة الوحدة المنظمة أكثر قوة، نجد معارضة شديدة لعقلية الحلقات والنزعات الفوضوية التخريبية»[207].

وبحلول الخريف صارت الآفاق أمام البلاشفة تبدو أكثر إشراقا. تدريجيا تم تشكيل فريق قيادي جديد مع وصول قادمين جدد من روسيا، أناس مثل بوغدانوف ولوناتشارسكي وأولمينسكي. بعد شهر النقاهة في جبال الألب، تحسنت كثيرا حالة لينين الصحية. كتبت كروبسكايا: «كان الأمر كما لو أنه استحم في تيار الجبل وتخلص من آثار كل ما حيك ضده من المؤامرات الدنيئة»[208]. بدأت تصل تقارير مشجعة من روسيا، حيث كان يتم توزيع نداء “إلى الحزب” بشكل سري داخل لجان الحزب. وفقا لكروبسكايا، بحلول منتصف شتنبر وقفت 12 لجنة، من أصل 20 لجنة تمتلك الحق الكامل في التصويت، لصالح عقد المؤتمر، وكان العدد ما يزال في تزايد. ابتداء من هذه اللحظة صار البلاشفة قوة منظمة حقيقية داخل روسيا. وبحلول نهاية العام تم تأسيس مركز تنظيمي بلشفي داخل روسيا، بدعم من 13 لجنة من لجان الحزب. ومع ذلك كان الوضع ما يزال هشا للغاية.

على عكس خصومهم، كان البلاشفة يعانون من نقص حاد في الأموال. وفي البداية كانت مسألة إصدار جريدة غير واردة. وكبديل مؤقت، أنشأ لينين وبونش- برييفيتش “دار النشر لأدبيات الحزب الاشتراكي الديمقراطي”، التي بدأت مع مطلع شهر شتنبر تنشر مقالات فردية للينين ومعاونيه. كانت هذه بداية على الأقل. لكن المناشفة كانوا يمتلكون كل الوسائل فيما يخص المنشورات. لم يكونوا يسيطرون فقط على جريدة إيسكرا المرموقة، بل كانت لديهم أيضا موارد جيدة من المال من متعاطفين أثرياء. ولم يترددوا في استخدام هذا التفوق سلاحا في الصراع الفصائلي. تتذكر كروبسكايا بمرارة كيف مارس المناشفة الضغوط على المتعاطفين ليوقفوا تقديم المساعدة للأغلبية: «لدينا، إيليتش وأنا، بعض الأشياء القوية لنقولها عن هؤلاء “المتعاطفين” الذين لم يكونوا ينتمون إلى أي منظمة ويتصورون أن تبرعاتهم التافهة يمكنها أن تؤثر على مجرى الأحداث داخل حزبنا البروليتاري!»[209].

كانت مسألة الأموال من الخارج بلا شك عاملا في استسلام البلاشفة-التوفيقيين في اللجنة المركزية للمركز الذي يسيطر عليه المناشفة في الخارج.

على الرغم من افتقارهم للموارد، قرر البلاشفة إصدار جريدة جديدة تحت اسم فبريود (إلى الأمام). وفي اجتماع عقد في جنيف، يوم 03 دجنبر، تم انتخاب هيئة تحرير مؤلفة من لينين وف. ف. فوروفسكي وم. س. أولمينسكي وأ. ف. لوناتشارسكي، وكروبسكايا سكرتيرة. وكما جرت العادة، تمت مواجهة نقص الموارد المالية بتقديم التضحية الشخصية. ناضل الجميع لتوفير المال الضروري. سلم فوروفسكي جزءا من مبلغ حصل عليه مقابل حقوق الطبع. وباع أولمينسكي ساعة يد ذهبية. بطريقة أو بأخرى، تم تجميع مبلغ 1.000 فرنك، والذي كان كافيا بالكاد لإصدار عدد ونصف. لكن لم يصب أحد بالإحباط أمام هذا الوضع. وقد صدر العدد الأول من أول صحيفة بلشفية حقيقية بشكل منتظم يوم 22 دجنبر 1904. وبعد حوالي أسبوعين أصيب المنفيون السياسيون الروس بالدهشة لسماع هتافات صاخبة لباعة الجرائد في شوارع جنيف: “الثورة في روسيا! الثورة في روسيا!”

آلان وودز
ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي


هوامش:

[1] Bernard Pares, A History of Russia, p: 404.

[2] يشير هذا المصطلح إلى الانتفاضات الفلاحية الكثيرة التي شهدتها فرنسا في أواخر العصور الوسطى. وكان لديها دائما طابع عنيف للغاية.

[3] Trotsky, The Young Lenin, p: 29.

[4] P. Kropotkin, Memoirs of a Revolutionary, vol. 1, p: 253.

[5] Ibid., vol. 2, pp: 20 and 25.

[6] S.H. Baron, Plekhanov. The Father of Russian Marxism, Spanish edition, p: 21.

[7] P. Axelrod, Perezhitoe i Peredumannoe, pp: 111-112.

[8] إميليان بوغاشوف، قائد من القوزاق، قاد انتفاضة كبيرة للقوزاق والأقنان ضد طبقة النبلاء في عام 1773، في عهد كاترين العظمى. حقق التمرد في البداية النجاح، مع مصادرة الكثير من الأراضي والاستيلاء على سلسلة من الحصون الإمبراطورية. استولى المتمردون على كازان وكان في إمكانهم الاستيلاء على موسكو، لكن وعلى الرغم من اندلاع الانتفاضات في عدد من المدن، فقد أثبت تمرد الفلاحين أنه غير قادر على ربط الأواصر مع الجماهير الحضرية في النضال ضد العدو المشترك: طبقة النبلاء والحكم الأوتوقراطي. ورغم أن المتمردين أعلنوا إلغاء القنانة، فإنهم افتقروا إلى برنامج سياسي متماسك قادر على خلق حركة ثورية جماهيرية واسعة. نقطة الضعف القاتلة هذه، بالإضافة إلى الميولات المحلية وانعدام التنظيم والانضباط، قوضت في نهاية المطاف الثورة. فتفكك التمرد وأعدم بوغاشوف في موسكو في يناير 1775.
ستيبان رازين، وهو متمرد قوزاقي آخر، أبحر حتى نهر الفولغا على رأس أسطول قراصنة في 1670 داعيا الفلاحين إلى الانتفاضة. لكن بعد تعرضه للخيانة من طرف قائد قوزاقي، ألقي القبض عليه وأرسل إلى موسكو حيث تم إعدامه في 06 يونيو 1671.

[9] Trotsky, The Young Lenin, p: 28.

[10] From Axelrod, The Working Class and the Revolutionary Movement in Russia, quoted in Baron, Plekhanov, p: 25.

[11] Kropotkin, op. cit. vol. 2, p: 119.

[12] يقصد الماركسيون بـ “العامل الذاتي” العامل الواعي في التاريخ، أي نشاط الرجال والنساء لتغيير حياتهم ومصائرهم، في مقابل الظروف الموضوعية، التي يخلقها التطور الاجتماعي، والتي توفر الأساس لمثل تلك النشاطات. إنه يعني بدقة أكبر دور الحزب الثوري والقيادة الثورية في النضال من أجل التغيير الاشتراكي للمجتمع.

[13] D. Footman, Red Prelude, p: 86.

[14] D. Footman, op. cit. pp: 47 and 49. (التشديد من آلان وودز).

[15] Trotsky, The Young Lenin, p: 25. (التشديد من آلان وودز).

[16] Fyodr Dan, The Origins of Bolshevism, pp: 162-163.

[17] F. Venturi, The Roots of Revolution, p: 511.

[18] Ibid., p: 800. in both quotes.

[19] A.G. Rashin, Formirovaniye Rabochego Klassa Rossiy, p: 12.

[20] Venturi, op. cit. pp: 515 and 516.

[21] Ibid. p: 543.

[22] Ibid. p: 548.

[23] Ibid. p: 556.

[24] Ibid. p: 556.

[25] Footman, op. cit.p: 87.

[26] J. Martov, Obshchestvennoe i Umstvennoe Techeniye v Rossii 1870-1905 gg, p:44.

[27] Baron, op. cit. p: 56. (التشديد من آلان وودز)

[28] Lenin, Collected Works, Working Class and Bourgeois Democracy, vol. 8, p: 72.

[29] Venturi, op. cit., p: 706.

[30] Kropotkin, op. cit., vol. 2, p: 238.

[31] Baron, op. cit., p: 95.

[32] Baron, op. cit., p: 166.

[33] Marx and Engels, Selected Works, vol. 1, pp: 100-101.

[34] Marx and Engels, Selected Correspondence, p: 364.

[35] G.W.F. Hegel, The Phenomenology of Mind, p: 75.

[36] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 132. (التشديد من آلان وودز)

[37] Ibid., p: 136.

[38] Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p: 87.

[39] J.P. Nettl, Rosa Luxemburg, vol. 1, p: 44.

[40] F. Dan, op. cit., p: 141.

[41] Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, pp: 21 and 66.

[42] ذات الجنب Pleurisy هو التهاب يصيب الجنبة أو البلورا Pleura وهي غشاء مزدوج الطبقة يحيط بالرئتين ويفصلهما عن جدار الصدر. وفي العادة، تحدث ذات الجنب كمضاعفة لبعض الأمراض الأخرى مثل الالتهاب الرئوي – المترجم.

[43] Ibid., p: 61.

[44] Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 32.

[45] F. Dan, The Origins of Bolshevism, 150 and B.H. Sumner, A Survey of Russian History, pp: 324-331.

[46] LCW, Explanation of the Law on Fines Imposed on Factory Workers, vol. 2, p: 38.

[47] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 100.

[48] اللوديزم (Luddism) هو الاسم الذي يطلق على إحدى حركات العمال الإنجليز في السنوات الأولى للثورة الصناعية. ألقى هؤلاء العمال اللوم في ارتفاع البطالة على الآلات، فقاموا بتحطيمها.

[49] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 17.

[50] N.K. Krupskaya, Memories of Lenin, (1893-1917), p: 6.

[51] LCW, A Few Words About N.Y. Fedoseyev, vol. 33, p: 453.

[52] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 12-13.

[53] V. Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903, p: 16.

[54] G. Plekhanov, Sochineniya, vol. 1, p: 403.

[55] V. Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903. p: 17.

[56] G.D. Surh, 1905 in St Petersburg: Labour, Society and Revolution, p: 54.

[57] الكالميك: شعب منغولي بوذي الديانة يعيش أساسا في كالميك، منطقة جنوب غرب روسيا على بحر قزوين. يتحدث لغة خاصة تدعى: الكالميكية.
البوريات: شعب من أصل منغولي يعيش في سيبيريا. وبورياتيا هي إحدى الجمهوريات الروسية ذات حكم ذاتي، في جنوب المنطقة الوسطى من سيبريا. المترجم.

[58] فرض الثقافة والدين واللغة، الخ، الروسية -المترجم-

[59] B. Pares, op. cit., p: 465.

[60]  P. Frolich, Rosa Luxemburg, p: 20.

[61]  Nora Levin, Jewish Socialist Movements 1871 -1917, p: 16.

[62] اليشيفا مدارس يهودية لتدريس الكتب المقدسة عند اليهود (التلمود والتوراة) -المترجم-

[63]  V. Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895 -1903, p: 209.

[64] N. Levin, op. cit., pp: 226 – 234.

[65] ييديشير أربايتر: “العامل اليهودي”، اسم جريدة كانت تصدرها الحركة الاشتراكية اليهودية آنذاك. -المترجم-

[66] أربايتر شتيم: “صوت العامل”، اسم جريدة كانت تصدرها الحركة الاشتراكية اليهودية آنذاك. -المترجم-

[67] توضيح موجودة في الترجمة الاسبانية، ص: 93.

[68] نفس المصدر، كلا الاستشهادين من الصفحة 240.

[69]  Ibid.,pp:  240-241.

[70] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 159.

[71] أوغست بيبل: اشتراكي ديمقراطي ألماني، ولد يوم 22 فبراير 1840 وتوفي يوم 13 غشت 1913، قيادي داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، رفيق ماركس وإنجلز. -المترجم-

[72] Krupskaya, Memories of Lenin, (1893-1917), pp: 6-7.

[73] J. Martov, Zapiski Sotsial Demokrata, p. 92, quoted in A.R. Wildman, The Making of a Worker’s Revolution-Russian Social Democracy 1891-1903, p: 37.

[74] Krupskaya, Memories of Lenin, (1893-1917), p: 7.

[75] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 222.

[76] I. Verkhovtsev, (ed) Bor’ba za Sozdanie Marksistskoi partii v Rossii (1894-1904), p: 3.

[77] F. Dan, op. cit., p: 205.

[78] A.R. Wildman, op. cit., p: 63.

[79] Trotsky, My Life, p: 110.

[80] Wildman, op. cit., p: 64.

[81] Ibid., p: 53.

[82] Trotsky, Writings, 1935-1936, p: 153.

[83] Wildman, op. cit., pp: 54-55.

[84] Slavonic and East European Review, vol. xxii, no. 34, p: 350.

[85] Ibid.

[86] Marx and Engels, Selected Works, vol. 2, p: 410.

[87] Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp:29-30.

[88]  KPSS v rezolyutsiyakh i resheniyakh s’yezdov. Konferentsii y plenumov tsk, vol. 1, p: 15 (التشديد من آلان وودز)

[89] Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p: 127.

[90] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 228.

[91] R. Payne, The Life and Death of Lenin, p: 112.

[92] Wildman, op. cit., p: 99.

[93] Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p: 182.

[94] بالفرنسية في النص الأصلي -المترجم-.

[95]  Baron, op. cit., pp: 254 -255.

[96] بالفرنسية في النص الأصلي – المترجم.

[97] F. Dan, op. cit., p: 217.

[98]  A.K. Wildman, op. cit., p: 132.

[99] Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p: 71.

[100] F. Dan, op. cit., pp: 216 – 218.

[101]  Perepiska G.V. Plekhanova i P.B. Aksel’roda, pp: 208 -209.

[102]  Baron, Plekhanov—the father of Russian Marxism, p: 238.

[103] Wildman, op. cit., p: 141.

[104] Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903, p: 262.

[105]  : يوم التسمية (the name-day) احتفال ذو أصول مسيحية يقوم على احتفال الشخص باليوم الذي يوافق تاريخ ميلاد أو وفاة القديس صاحب الاسم الأصلي (يوحنا مثلا أو بولس الخ).

[106]  Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p: 51.

[107]  Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903, p: 223.

[108]  KPSS v rezolyutsiyakh i resheniyakh, vol. 1, p: 16.

[109] O. Piatnitsky, Zapiski Bol’shevika, pp: 25 – 26.

[110]  Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903, p: 215.

[111] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 260.

[112] KPSS v rezolyutsiyakh i resheniyakh, vol. 1, p: 17.

[113] Istoriya KPSS, vol. 1, p: 265.

[114]  Trotsky, My Life, p: 117.

[115] LCW, What Is To Be Done? vol. 5, p: 349.

[116] Akimov, On the Dilemmas of Russian Marxism 1895-1903.

[117] See LCW, vol. 4, pp. 215-221 and 255-296.

[118]  Ibid., pp: 167 -182.

[119] النص الكامل لمقال الكريدو منشور في أعمال لينين الكاملة، مقال: احتجاج من طرف الاشتراكيين الديمقراطيين الروس. المجلد 04، ص ص: 171- 174 [الطبعة الانجليزية] – التشديد من آلان وودز-

[120] Ibid., pp:176-177 and 181.

[121] Wildman, op. cit., pp: 93 and 106.

[122] LCW, To P.B. Axelrod, April 25, 1901, vol. 34, p: 60.

[123] Ibid. pp: 333 -349.

[124]  Trotsky, Political Profiles, pp:85 -87.

[125]  LCW, How the ‘Spark’ was nearly Extinguished, vol. 4, p: 348.

[126]  LCW, vol. 4, pp: 351 -356.

[127] : انظر مسودة لينين الأولية في الأعمال الكاملة – بالانجليزية – تحت عنوان (Draft of a Declaration of the Editorial Board of Iskra and Zarya, vol. 4. 320-330). الاستشهاد هنا مقتطف من الأعمال الكاملة -بالانجليزية- المجلد 4، ص. ص: 354- 355.

[128] Trotsky, Lenin, p: 99.

[129]  LCW, vol. 1, pp: 333 -507.

[130]  Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p: 270.

[131]  Trotsky, My Life, p: 171.

[132]  Iskra, No 7.

[133] Where to Begin (LCW, vol. 5, pp. 17-24), Letter to a Comrade (LCW, vol. 6, pp: 235-252) and What Is To Be Done? (LCW, vol. 5, pp. 349-529).

[134] LCW, Where to Begin, vol. 5, pp: 22-23.

[135] LCW, vol. 5, pp: 375 and 383 – 384. (التشديد من آلان وودز)

[136] حركة ظهرت في بريطانيا عام 1836م، أصدر أعضائها وثيقة مطالب (Chart) تضمنت، على سبيل المثال، حق الاقتراع العام لكل الرجال الذين بلغوا 21 عاما، وتطبيق نظام الانتخابات السرية المتساوية، الخ. وقاموا بجمع التوقيعات لها لإرسالها إلى البرلمان البريطاني.

[137] انتفاضة نيوبورت: انتفاضة قام بها الشارتيون في نيوبورت يوم 03 نوفمبر 1839.

[138] الخُلْد -أو الفأر الاعمى- حيوان صغير من الثدييات يعيش في أنفاق يحفرها بمخالبه وأسنانه.

[139]  LCW, Second Congress of the RSDLP, vol. 6, p: 491. (التشديد من آلان وودز)

[140]  Trotsky, Stalin, p: 58.

[141]  LCW, vol. 5, pp: 369 – 384, note.

[142] Trotsky, Stalin, p: 28.

[143] N. Levin, Jewish Socialist Movements 1871-1917, p. 282.

[144]  G. Zinoviev, History of the Bolshevik Party, 66.

[145] مقال كتبه لينين، يونيو 1901، لانتقاد المذكرة السرية “الحكم المطلق والزيمستفو”، التي كتبها الوزير القيصري س. ي. وايت، ونشرت في الخارج بصورة غير قانونية.

[146] LCW, vol. 5, p. 70.

[147] Perepiska GV Plekhanova i PB Aksel’roda, p. 270. (التشديد من آلان وودز)

[148]  N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 67.

[149] 1903, Minutes of the Second Congress of the RSDLP, p: 181.

[150]  L. Trotsky, Stalin, p. 39.

[151] N.K. Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, 1924 edition, vol. 1, p. 89.

[152] Ibid., p. 63 footnote and p. 88.

[153] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 67.

[154] Leninskiy Sbornik, vol. 2, p: 65 – 84.

[155] Leninskiy Sbornik, vol. 3, p: 395.

[156] Pis’ma PB Aksel’roda i YO Martova, p: 60.

[157] A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, pp: 132–133.

[158] L. Trotsky, Political Profiles, pp. 97-98.

[159] N.K. Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, pp. 85-86.

[160] LCW, To G.V. Plekhanov, 2 March, 1903, vol. 43, pp. 110-111. (التشديد من آلان وودز)

[161] Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, 1924 edition, vol. 1, p: 86.

[162] Trotsky, My Life, p: 157.

[163]  N.K. Krupskaya, O Vladimirye, 1924 edition, vol. 1, p. 81.

[164]  Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp: 890-891.

[165]  1903, Minutes of the Second Congress of the RSDLP, p: 81.

[166] للمزيد من الشروحات المفصلة، انظر كتاب لينين: خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء.

[167]  Trotsky, My Life, p: 160.

[168] 1903, Minutes of the Second Congress of the RSDLP, p: 308 – 311 (التشديد من آلان وودز-).

[169]  1903, Minutes of the Second Congress of the RSDLP, p. 321 and p. 326. (التشديد من آلان وودز-).

[170]  V. Grigenko and others, The Bolshevik Party’s Struggle against Trotskyism (1903-February 1917), p: 30.

[171]  Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p: 85.

[172]  Istoriya KPSS, vol. 1, p: 486.

[173]  LCW, To Alexandra Kalmykova, September 7, 1903, vol. 34, p: 162.

[174] L. Trotsky, My Life, p. 162.

[175]  N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp. 98–99 and p. 98

[176]  Pis’ma PB Aksel’roda i YO Martova, p: 87.

[177]  O. Piatnitsky, Zapiski Bol’shevika, p. 54.

[178]  A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, p. 36

[179]  LCW, Account of the Second Congress of the RSDLP, September 1903, vol. 7, p. 34.

[180]  V. Akimov, A Short History of the RSDLP, p: 332.

[181]  O. Piatnitsky, op. cit., p: 63.

[182]  N.K. Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, p. 54.

[183]  S.H. Baron, Plekhanov, p. 327.

[184]  Istoriya KPSS, vol. 1, p. 518, p. 523 and p. 524.

[185] LCW, vol. 7, p: 474.

[186]  R. Luxemburg, Leninism or Marxism?, p. 98 (التشديد من آلان وودز).

[187] مجلس النواب الألماني – المترجم-

[188] L. Trotsky, Stalin, p: 62.

[189]  LCW, To the Central Committee of the RSDLP, February 1904, vol. 34, p: 233.

[190]  LCW, The Fall of Port Arthur, vol. 8, p. 53.

[191]  S.S. Schwarz, The Russian Revolution of 1905, the Workers’ Movement and the Formation of Bolshevism and Menshevism, p: 32.

[192]  LCW, Zemstvo Campaign and Iskra’s Plan, vol. 7, p: 503.

[193]  G. Zinoviev, History of the Bolshevik Party, p: 108 (التشديد من آلان وودز).

[194]  G. Zinoviev, History of the Bolshevik Party, pp. 107 -108.

[195] S.S. Schwarz, The Russian Revolution of 1905, the Workers’ Movement and the Formation of Bolshevism and Menshevism, p. 38.

[196] Ibid., p. 41 and p. 48.

[197]  LCW, vol. 8, pp. 29 -34.

[198]  Ibid., p: 508.

[199]  LCW, vol. 16, p: 380.

[200]  S. Schwarz, The Russian Revolution of 1905, the Workers’ Movement and the Formation of Bolshevism and Menshevism, p. 32.

[201]  F. Dan, The Origins of Bolshevism, p. 250.

[202]  L. Trotsky, Stalin, p. 50.

[203]  L. Trotsky, My Life, p: 166 (التشديد من آلان وودز).

[204]  I. Deutscher, The Prophet Armed, p. 86, p. 166. p. 165. (التشديد من آلان وودز)

[205] Istoriya KPSS, p: 509

[206]  Ibid., p:509.

[207]  LCW, To the Party, vol. 7, pp. 455 -456.

[208]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 106.

[209]  Ibid., p: 98.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *