ناقشت جريدة الشيوعي، في عددها الثالث، مواقف وتصورات حزب النهج الديمقراطي المغربي اعتمادا على الحوار الذي أجرته جريدة النهج الديمقراطي مع الرفيق عبد الله الحريف، وإذ ننشره على صفحات موقعنا نروم تعميم هذا النقاش بين رفاقنا في النهج الديمقراطي وكافة التيارات اليسارية المناضلة.
في عددها 133[1] أجرت جريدة النهج الديمقراطي، حوارا صحفيا هاما مع الرفيق عبد الله الحريف، الكاتب الوطني للنهج الديمقراطي، وتكمن أهمية هذا الحوار في أن الرفيق عبد الله الحريف قد أوضح فيه الخطوط العريضة لتصور الرفاق في النهج الديمقراطي لمجموعة من القضايا النظرية والسياسية والتنظيمية التي تهم قضية التغيير الثوري في بلدنا.
ونظرا لأهمية الأفكار الواردة في هذا الحوار، ولقدرتها على تلخيص مجمل تصورات الرفاق في النهج الديمقراطي، قررنا، نحن مناضلو/ات رابطة العمل الشيوعي، الفرع المغربي للتيار الماركسي الأممي، فتح نقاش مع الرفاق حولها، رغبة منا في توضيح نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف بيننا والإسهام في الاستفادة المتبادلة من تلاقح الأفكار بين المناضلين الاشتراكيين، خدمة لقضية التغيير في هذا البلد وعالميا.
في سياق تقديمها لهذا الحوار أوضحت جريدة النهج الديمقراطي تصورها للوضع الموضوعي العام محليا وعالميا بكونه يتميز بتعمق « التناقضات الطبقية في المغرب بشكل متسارع، كانعكاس لتناقضات النظام الرأسمالي التبعي المأزوم هيكليا، والذي تتفاقم أزمته بفعل انفجار أزمة نمط الإنتاج الرأسمالي […]» وأشارت إلى «احتداد غير مسبوق يتمظهر في نضالات اجتماعية تخوضها مختلف الطبقات الشعبية، ونضال من أجل الديمقراطية وضد الاستبداد والاضطهاد والقهر ونضال ضد الهيمنة الامبريالية والصهيونية على بلادنا وعلى العالم العربي. »
وهو التحليل الذي نراه صائبا، وقد سبق لنا أن شرحنا موقفنا في هذا الصدد، في العديد من وثائقنا المخصصة لدراسة الوضع العام بالمغرب وعالميا، حيث أكدنا على أنه «لسنا بحاجة إلى لغة الأرقام لكي نعرف أن الآفاق أمام النظام القائم بالمغرب مكفهرة. خاصة بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية العالمية والتي لا يدعي حتى أكثر المنظرين البرجوازيين تفاؤلا بقرب انتهائها. يكفي أن نعرف أن الملك السابق الحسن 2 كان قد ألقى خطابا أواخر سنوات حياته يؤكد فيه أن المغرب مقبل على السكتة القلبية! وقد كان المغرب آنذاك في المرتبة 123 عالميا، والآن وبعد عقد من حكم الملك “الحداثي”، صار المغرب يحتل المرتبة 126».
وتضيف جريدة النهج الديمقراطي في مقدمتها قائلة: «وفي المقابل تعيش أغلب القوى السياسية والنقابية والمدنية الديمقراطية “الاشتراكية” التراجع ليس فقط على مستوى تواجدها الجماهيري، بل أيضا على مستوى فكرها ومواقفها السياسية.»
نعم إن القوى “الاشتراكية” الديمقراطية/ الإصلاحية تعيش أزمة تاريخية عميقة لم تشهدها قط في تاريخها، وهذا طبيعي إذ في غياب الإصلاحات لا وجود للإصلاحية، الشيء الذي يدفع بتلك القوى الإصلاحية إلى الاندماج بالدولة البرجوازية والتحول إلى وسيلة في يدها لتدمير الإصلاحات وتنفيذ الهجمات على الطبقة العاملة وعموم الكادحين.
ولا بد أن لهاتين الخلاصتين الهامتين: أزمة النظام الرأسمالي من جهة، وإفلاس الإصلاحية من جهة أخرى، انعكاسات سياسية وتنظيمية في الواقع، إذ أنهما تؤكدان راهنية الخيار الاشتراكي الثوري تنظيرا وتنظيما وممارسة. الشيء الذي يلقي على كاهل المناضلين الاشتراكيين الثوريين مهمة طرح برنامج كفيل بالتعبير عن مطالب الجماهير الحيوية وربطها بمهمة القضاء على الرأسمالية وحسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة ومصادرة وتأميم القطاعات الاقتصادية الكبرى ووضعها تحت الرقابة العمالية الديمقراطية وتسييرها في إطار اقتصاد اشتراكي مخطط.
وفي الوقت الذي ينبغي فيه على المناضلين الاشتراكيين أن يناضلوا من أجل جميع المطالب الديمقراطية، حتى أشدها بساطة، يتوجب الاقتناع بأنه ليس هناك من مكسب ديمقراطي حقيقي وثابت ودائم مادامت الرأسمالية قائمة، وأن السياسة الماركسية الحقيقية ترى أنه لا يجب أن نجعل من أي مطلب ديمقراطي، مَهْمَا كان، سقفا لنا أو بديلا عن مهمة حسم السلطة السياسية من طرف الطبقة العاملة وبناء المجتمع الاشتراكي.
وعليه فإن إعلاننا عن اتفاقنا مع تصور الرفاق في النهج الديمقراطي للوضع الموضوعي وإفلاس الاشتراكية الديمقراطية، ليس مجرد اتفاق نظري مجرد، بل هو تأكيد على التزام بجميع التبعات، وهذه الخلاصات تجعل مهمة بناء الحزب الثوري الذي سيحمل على عاتقه مهمة قيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة السياسية، مهمة راهنية ينبغي على جميع الاشتراكيين الثوريين أن يعبئوا جهودهم لانجازها.
وفي نفس المقدمة يضيف الرفاق في النهج الديمقراطي قائلين: إن الحوار مع الرفيق عبد الله الحريف جاء من أجل «تسليط الضوء على هذا الواقع وعلى تصور النهج الديمقراطي لحل معضلة انجاز مهام التغيير الديمقراطي الجذري ذي الأفق الاشتراكي.»
هنا لا بد أن نشير إلى أن أهم ما يستوقفنا في هذه الجملة هو الحديث عن “مهام التغيير الديمقراطي الجذري ذي الأفق الاشتراكي”، والذي يحيل مباشرة إلى نظرية الثورة عبر مرحلتين: مرحلة تكون مهمتها انجاز المهام الديمقراطية ومرحلة ثانية، تشكل “أفقا”، هي مرحلة انجاز المهام الاشتراكية، وهي النظرية الستالينية- الماوية، ذات الجذور المنشفية الأصيلة، القائمة على الفصل بين المهام الديمقراطية “الجذرية” (الإصلاح الزراعي، حقوق القوميات، المساواة بين الجنسين، الخ) وبين المهام الاشتراكية (تدمير الدولة البورجوازية، مصادرة وتأميم وسائل الإنتاج والأبناك ووضعها تحت الرقابة العمالية، الخ) والتي تظل أفقا، أو كما كان ماو يقول: “بعد خمسين سنة أو مائة سنة”.
إن هذا الفصل الميكانيكي بين المهمتين (“مهام الحد الأدنى” و”مهام الحد الأقصى”) هو ما يوفر الأساس النظري لممارسة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، التي تقتصر على النضال الإصلاحي في ظل النظام الرأسمالي دون المساس بالملكية الخاصة والدولة البرجوازية، وترك النضال من أجل الاشتراكية “أفقا” سرعان ما يتوارى خلف الممارسة “الواقعية” والنضال من أجل “ما هو ممكن” .. الخ.
طبعا نحن لا نقول هذا انطلاقا من أحكام مسبقة جاهزة اتجاه الرفاق في النهج الديمقراطي، إذ نعلم علم اليقين أنه يوجد داخل النهج الديمقراطي مناضلون ومناضلات اشتراكيون/ات ثوريون/ات حقيقيون/ات، ويوجد داخله مناضلات ومناضلون افنوا زهرة حياتهم في المعتقلات والسجون وقدموا جليل التضحيات من أجل التغيير الثوري في هذا البلد، لكننا نقوله لأنه هو النتيجة الموضوعية (بغض النظر عن النوايا الحسنة) لذلك الشعار “الغامض”: “التغيير الديمقراطي الجذري ذو الأفق الاشتراكي”.
وبالتالي فرغبة منا في المساهمة في تطوير تصورات رفاقنا في باقي التيارات اليســــارية التقدمية الأخرى (وفي نفس الوقت الاستفادة منها) ومساعدتها على التقدم إلى الأمام، نميل إلى تنبيه الرفاق في النهج الديمقراطي إلى هذا الخطأ النظري الذي تترتب عليه الكثير من الأخطاء السياسية والتنظيمية، والذي أدى إلى فشل الكثير من الثورات وضياع العديد من التضحيات.
نحن في رابطة العمل الشيوعي نعتقد أن النضال من أجل التغيير الديمقراطي الجذري غير ممكن إلا إذا ادمج بالنضال من أجل حسم العمال للسلطة السياسية والاقتصادية؛ إذ وحده تأميم الأرض والأبناك والشركات الكبرى والقضاء على جهاز الدولة البرجوازية، ما سيمكن من إعطاء الأرض لمن يزرعها وتوفير الإمكانيات المادية والسياسية للقضاء على الأمية والمساواة بين الرجل والمرأة… الخ.
لنأخذ مثالا ملموسا: نتفق جميعا على انه لا يمكن الحديث عن ثورة ديمقراطية جذرية حقيقية بدون تحقيق المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، لكن الشرط المسبق والضروري لتحقيق هذه المساواة الكاملة فعلا وعلى ارض الواقع (وليس في الدساتير والقوانين فقط) هو تحويل العمل البيتي إلى عمل عمومي اجتماعي مأجور، من خلال توفير المغاسل والمطاعم العمومية ذات الجودة العالية وبأثمان مناسبة للأسر العمالية والفقيرة، في كل مدينة وكل قرية، وتوفير رياض الأطفال والحضانات ذات الجودة العالية …الخ. لتتمكن نساء الطبقة العاملة من التحرر الفعلي والمشاركة النشيطة في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية الخ.
لكن هذا الشرط، الذي توفرت جميع الظروف الموضوعية لتحقيقه على ارض الواقع، سيبقى مستحيلا ما دام النظام الرأسمالي قائما وبقيت وسائل الإنتاج والثروات مركّزة في يد أقلية من الرأسماليين الذين يستفيدون ليس فقط من استغلال العاملات والعمال في المعامل والإدارت وغيرها، بل أيضا من استغلالهن في منازلهن من خلال ذلك العمل العبودي والقاسي والممل الذي يقمن به بدون أجر في بيوتهن لصيانة أزواجهن وأبنائهن وتنظيف ملابسهم وملأ بطونهم ليصبحوا قادرين على استقبال يوم استنزاف جديد.
لا يمكن للدولة الرأسمالية أن تصدر قرارا يقضي بتوفير تلك المطاعم وتلك المغاسل وتلك الحضانات للعمال وأبنائهم، وكل ما يمكن تحقيقه في ظل المجتمع الرأسمالي هو تلك الخدمات مقابل أسعار تجعل العمال عاجزين عن الاستفادة منها وتجعلها في أحسن الحالات في مستطاع الفئة العليا من البرجوازية الصغرى، والبرجوازية الكبرى بطبيعة الحال.
كما أنه لا يمكن الحديث عن تغيير ديمقراطي جذري دون توفير الحق في الوصول إلى وسائل الإعلام واستخدامها من طرف الجميع بدون استثناء. لكن كيف يمكن تحقيق هذا ووسائل الإعلام ودور النشر في يد الدولة الرأسمالية وفي يد أقلية من الرأسماليين. لا يمكنك أن تستعمل شيء لا تملكه! وبالتالي لا يمكن الحديث عن حرية الصحافة والإعلام دون مصادرة كبريات وسائل الإعلام ووضعها تحت الرقابة الديمقراطية لمجالس العمال والفلاحين الفقراء، أي الأغلبية الساحقة في المجتمع.
نعم إننا في المغرب نعيش تحت نير شكل آخر من القمع، المتمثل في الرقابة الوقحة والسافرة والإجهاز الهمجي على كل صوت مخالف أو معارض، إذ لا تتوفر عندنا حتى تلك الديمقراطية البرجوازية الشكلية المبنية على “قل كل ما تريد، إن استطعت ذلك، بينما نفعل نحن ما نريد”، بل تعمل على مصادرة كل رأي يخالف التوجه السائد.
لكن النضال ضد هذا الشكل من القمع لا يمكنه أن ينتصر ويصير وطيدا إلا بالقضاء النهائي على جهاز الدولة الذي ينتجه وعلى الطبقة الاجتماعية التي تستفيد منه، وطرح البديل. وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا في ظل دولة عمالية، دولة مجالس العمال والفلاحين الفقراء، التي لا تتمتع بمجرد سلطة شكلية زائفة تقتصر على ترديد الشعارات، بينما القطاعات الاقتصادية الحيوية في يد الرأسماليين، بل بسلطة فعلية على الاقتصاد المؤمم والمسير والمراقب ديمقراطيا من طرف العمال.
هذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنه لا يجب علينا أن نناضل ضد جميع تمظهرات ذلك القمع ونكافح من أجل تحقيق وتحصين جميع المكاسب الممكن تحقيقها في ظل النظام القائم، إذ نحن أيضا – كما يقول لينين- وعلى عكس الفوضويين نناضل من أجل الإصلاحات، بل وحتى ابسطها، لكننا لا ننظر إلى الإصلاحات نظرة مثالية ساذجة، بل نفهم أنها مهددة دائما بالتراجع كلما اختلت موازين القوى لصالح الطبقة السائدة ودولتها، وأنها لا تصبح ثابتة ووطيدة إلا بالإجهاز على النظام القائم، كما أننا نعتبر أن النضال الإصلاحي ليس سوى معركة للتحضير من اجل الحرب الفاصلة.
“السيرورات الثلاث”
فيما يلي سوف نركز نقاشنا أساسا على مفهوم “السيرورات الثلاث” الذي يؤكد الرفاق في جريدة النهج الديمقراطي على أنه يحتل موقعا مركزيا في التصور السياسي لحركتهم.
يقول الرفيق الحريف في هذا الصدد ما يلي: «تحديد السيرورات الثلاث ينطلق من فهم التناقضات التي تخترق المجتمع المغربي ومن استيعاب الوسائط التي يمر عبرها الصراع الطبقي. ففي المغرب، هناك تناقض أساسي بين الرأسمالية التبعية والنظام المخزني والإمبريالية من جهة، وبين الطبقة العاملة وعموم الكادحين من جهة أخرى. وهو تناقض عدائي والمحرك الأساسي للصراع الطبقي في بلادنا. ويتم حل هذا التناقض بواسطة القضاء على النظام الرأسمالي التبعي في بلادنا والانفتاح على الأفق الاشتراكي.»
نحن نتفق مع الرفاق في أن التناقض بين الطبقة العاملة وعموم الكادحين وبين الطبقة السائدة والإمبريالية، تناقض عدائي وهو المحرك الأساسي للصراع الطبقي في بلادنا. وهو صراع لا يمكن حسمه، كما يعبر الرفاق بحق، إلا بواسطة القضاء على النظام الرأسمالي التبعي في بلادنا. لكن ما يدخل الغموض في مقولة الرفاق هو فصلهم لمهمة القضاء على النظام الرأسمالي التبعي في بلادنا وبين بناء الاشتراكية، وهو الغموض الذي تتسبب فيه عبارة “والانفتاح على الأفق الاشتراكي”.
من وجهة نظرنا ليس القضاء على النظام الرأسمالي ممكنا إلا بتحطيم جهاز الدولة البورجوازية، ومصادرة أملاك الرأسماليين والأرض والقطاعات الاقتصادية الكبرى ووضعها تحت الرقابة العمالية، في إطار مجالس العمال والنقابات، وهي بالضبط الثورة الاشتراكية، وليس أي شيء آخر، بينما تعبير “الانفتاح على الأفق الاشتراكي”، غامض لأنه لا يجيب عن سؤال طبيعة النظام الذي سيسود خلال “المرحلة الفاصلة” بين القضاء على النظام الرأسمالي وبين الوصول إلى “الأفق الاشتراكي”. إلا إذا كان الرفاق سيكررون نفس الكلام المنشفي/ الستاليني- الماوي عن المرحلة “الديمقراطية الشعبية” و”الطريق اللارأسمالي”، وما إلى ذلك من المقولات الخاطئة والغريبة عن الماركسية والتي تسببت في هزائم فادحة للحركة الثورية.
ويستمر الرفيق قائلا: «نعني بعموم الكادحين الفلاحين الفقراء والمعدمين وكادحي الأحياء الشعبية الذين يشتغلون في إطار ما يسمى بالقطاع الغير مهيكل» وهو تحديد نتفق فيه مع الرفاق، ونعتبره حاسما لإغلاق الباب أمام كل غموض أو لبس. وهم إلى جانب الطبقة العاملة يشكلون، كما عبر الرفيق بحق، الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي وهم العمود الفقري لأي تغيير ثوري.
ثم يستمر ليؤكد على حاجة الطبقة العاملة وعموم الكادحين إلى بناء تنظيمهم السياسي المستقل عن باقي الطبقات[2]. ويقول إن هذا التنظيم الذي يستهدف القضاء على الرأسمالية في بلادنا لابد له أن يرتكز على الماركسية. وهو ما نعلن اتفاقنا التام والمطلق معه لأن النظرية الماركسية هي الفكر الوحيد القادر على إعطاء الطبقة العاملة في بلادنا وعالميا بوصلة وبرنامجا علميا يمكنها من انجاز مهمتها التاريخية أي: التغيير الاشتراكي للمجتمع، وبتعبير الرفيق «القضاء على الرأسمالية».
ويقول الرفيق، بحق، مستشهدا بلينين، إن ماركس وإنجلز وضعا حجر الأساس للعلم الذي على الشيوعيين أن يطوروه في مختلف الاتجاهات وإلا تخلفوا عن الحياة، ويضيف إنه «لا مفر من الاستفادة من اجتهادات القادة الشيوعيين» وهو الشيء الذي نتفق معه بشكل تام، على اعتبار أنه من الضروري الاستفادة مما راكمته الحركة العمالية والشيوعية من أفكار، والعمل بشكل دائم على تطوير الماركسية، مع الحفاظ على جوهرها الثوري والمادي الجدلي.
لكن الرفيق عندما يحدد ما الذي يعنيه بالقادة الشيوعيين يشير إلى ماو جنبا إلى جنب مع لينين! حيث يقول: « خاصة لينين وماو»، مما يجعلنا نطرح السؤال الآتي: هل فعلا ينتمي لينين وماو إلى نفس الفكر ونفس الممارسة ويدافعان عن نفس المشروع وعن نفس الطبقة؟
من وجهة نظرنا الجواب هو: كلا! إذ أن لينين منظر ومناضل ماركسي حقيقي، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى الانتماء إلى مشروع البروليتاريا والاعتماد على نضالها المستقل وتنظيماتها الذاتية (النقابات، الأحزاب، لجان المعارك والسوفييتات) من أجل حسم السلطة السياسية وبناء المجتمع الاشتراكي، أفنى كل حياته في الدفاع عن النظرية الماركسية وبناء الحزب المستقل للطبقة العاملة وتمكينها من البرنامج والتكتيكات المناسبة لانجاز المهام التاريخية المنوطة بها، وهو ما تحقق سنة 1917 (25 أكتوبر) عندما قاد الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وعموم الكادحين إلى الاستيلاء على السلطة السياسية وتحطيم جهاز الدولة البرجوازي وإقامة دولة المجالس العمالية المستندة إلى الفلاحين.
أما ماو تسي تونغ فهو مناضل وطني قاد جيشا للفلاحين في نضال مسلح في البوادي، بعيدا عن الطبقة العاملة في المدن ودون مشاركتها النشطة وبدون الاعتماد عليها أو على حزبها المستقل. بل إنه عندما تمكن جيش التحرير الشعبي من الاستيلاء على السلطة عمل على منع تشكيل السوفييتات وسحق تلك التي كانت قد تشكلت (سوفييتات شنغهاي على سبيل المثال) ومنع أي تحرك مستقل للطبقة العاملة (انظر مقالة: الثورة الصينية 1949).
لقد دافع لينين عن أن تحرر العمال من صنع العمال أنفسهم، بينما نظرية ماو قائمة على جيش التحرير الشعبي الذي ينطلق من البوادي ويحاصر المدن .. الخ.
وبينما نجد لينين يصر على ضرورة النضال ضد الإقطاع والرأسماليين، نجد ماو تسي تونغ يدافع عن التحالف مع البرجوازية “الوطنية” و”الإقطاع المستنير” ..الخ.
ليس المجال، طبعا، كافيا لتحديد جميع أوجه الفرق الموجودة بين التصور اللينيني (أي الماركسي الثوري البروليتاري) وبين التصور الماوي (الفلاحي)؛ لذا سنكتفي بهذا ونعود إلى طرح سؤال آخر أكثر مباشرة على الرفاق في النهج الديمقراطي: ما الذي يمكن أن يستفيده الرفاق في النهج الديمقراطي وكل المناضلين الماركسيين في المغرب من فكر ماو تسي تونغ؟ هل اللجوء إلى البوادي وتشكيل القواعد الحمراء المتحركة؟ على افتراض صحة هذا الخيار نظريا وإمكانيته وفعاليته عمليا، ألا يرى الرفاق أن البادية المغربية لم تعد تشكل سوى أقل من 47%، ويوجد بها نسبة كبيرة من العمال الزراعيين البروليتاريينوالأجراء والفلاحين المعدمين والحرفيين الخ؟ مما يجعل الفلاحين، الذين كانوا يشكلون في الصين حوالي 80% من سكان البلاد، لا يشكلون في المغرب إلا نسبة تقل بكثير عن 40%.
أم سيستفيدون منه تشكيل جيش للفلاحين، أو الدعوة إلى التحالف مع “البرجوازية الوطنية”، الخ؟!
إن الانتماء إلى لينين والاستفادة منه تجعلنا مطالبين بالنضال إلى جانب الطبقة العاملة ووسطها ومن أجلها ومعها، ونحاول في كل حين الدفاع عن استقلاليتها وبناء أدوات نضالها وسلطتها والارتكاز على أشكال نضال الطبقة العاملة التقليدية (الإضرابات، المظاهرات، الإضراب العام والانتفاضة المسلحة.)، حتى عندما تكون الطبقة العاملة أقلية قليلة في المجتمع من الناحية الكمية، أو “جزيرة في محيط من الفلاحين” كما كان لينين يقول عن الطبقة العاملة الروسية.
إن الانتماء إلى لينين والاستفادة منه تجعلنا نرفض التصورات الغريبة عن طبقتنا التي تحكم على الطبقة العاملة بالعجز وتدعو إلى البحث عن طلائع أخرى، أو التوجه نحو الشعب/الفلاحين، كما كانت بعض التيارات تفعل في روسيا آنذاك، والتي وجه لها لينين نقدا حادا، فبالأحرى عندما تكون الطبقة العاملة أغلبية المجتمع ولا يكون الفلاحون سوى “طبقة” يتضاءل عددها باستمرار بسبب الزراعات العصرية التي تشغل الأجراء والإفلاس المفروض عليهم …
نعتبر أنه ليس للحركة الثورة بالمغرب أي شيء تستفيده من تلك التصورات البرجوازية الصغيرة، الغريبة عن الماركسية، والتي لم تنشأ وتتطور إلا نتاجا لضعف الحركة الشيوعية والهزائم التي تعرضت لها الطبقة العاملة، في الصين وغيرها.
من وجهة نظرنا لقد حان للرفاق في النهج الديمقراطي أن يحسموا بشكل واضح هذا اللبس النظري على أساس تحليل علمي لطبيعة المشروع الذي يدافعون عنه وثانيا على أساس تحليل علمي للواقع المغربي في القرن الواحد والعشرين وليس على أساس تقديس المفاهيم التي أنتجت في سبعينيات القرن العشرين[3].
مسألة الحزب أو “التنظيم السياسي”
في هذا السياق يقول الرفيق الحريف إنهم في النهج الديمقراطي يفرقون بين “الحزب” و”التنظيم السياسي”، ويضيف: “إننا نقول بالتنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة وعموم الكادحين وليس الحزب لاعتبارين اثنين: أولا يمكن أن يفرز الواقع الموضوعي للصراع الطبقي جبهة قد تضم أكثر من حزب واحد يعبر عن مصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين، ثانيا أننا نقول بأن تشكل الشعب المغربي قد افرز مناطق لها خصوصيات اثنوثقافية، لذلك من المشروع أن تتوفر على تنظيمات سياسية خاصة بها تعبر عن مصالح الكادحين في هذه المناطق وتتوحد في إطار جبهة هي التنظيم السياسي المستقل للطبقة العاملة وعموم الكادحين.”
وهكذا فإن الرفاق في النهج الديمقراطي لا يتحدثون عن الحزب لأنه “يمكن أن يفرز الواقع الموضوعي للصراع الطبقي جبهة قد تضم أكثر من حزب واحد”!! إن هذه الجملة بطبيعتها تفترض عكسها، إذ يمكن للواقع الموضوعي للصراع الطبقي ألا يفرز “جبهة”!! ثم أنه حتى إذا تحقق الاحتمال الأول وليس الثاني، أي إذا ما افرز الواقع الموضوعي جبهة قد تضم أكثر من حزب، فآنذاك لنطلق عليها اسم جبهة بكل بساطة، أما أن نبني خطوة سياسية تنظيمية على أساس احتمال (“يمكن”، “قد”) فهذا خطأ فادح.
نقول هذا لأننا نرى أن جري الرفاق وراء تلك الـ “يمكن” والـ “قد” ووراء تلك الجبهة (مع تيارات أغلبها لا وجود له على الأرض) سيضيع عليهم وقتا ثمينا للعمل الجدي، خاصة وأن اغلب التيارات العصبوية الميكروسكوبية التي تنفخ أوداجها، على طريقة الضفدع الذي يريد أن يحاكي الفيل، ليست تحرك في الواقع ولو أصبعها الصغير لإنجاز مهمة بناء حزب عمالي حقيقي، وكل ما تتقنه هو الجري في المتاهات “النظرية” والإفرازات “الفكرية” والتنميقات الإيديولوجية حول المفاهيم والمصطلحات (انظر مثلا مضمون التقرير الذي صدر في نفس العدد ص: 6 عن الجامعة الصيفية).
إن ما ينبغي على كل تيار ماركسي واشتراكي جدي أن يقوم به هو العمل الآن فورا على بناء جنين الحزب اللينيني ولو من خلايا أولية وعلى أساس مجموعة أو مجموعات صغيرة في البداية وتمكينها من كل مقومات التحول إلى الحزب الثوري المستقبلي، ونعني أساسا النظرية الماركسية والبرنامج الانتقالي الثوري والتصور السياسي الواضح والكوادر الماركسية المنخرطة في الصراع، دون انتظار الآخرين أو الغرق معهم في إفرازاتهم العقيمة التي لا تمتلك في اغلب الأحيان أية علاقة مع الواقع.
بعد ذلك “يمكن” للواقع أن “يفرز” أو لا “يفرز”، فإن “أفرز” جبهة لن يكون على الرفاق آنذاك سوى أن يسموها جبهة.
لا يتحدث رفاقنا في النهج عن الحزب لأن الواقع “قد” يفرز جبهة “قد” تضم أكثر من حزب واحد، فلنفترض أن الواقع أفرز تلك الجبهة التي “قد” تضم أكثر من حزب واحد، ماذا سيكون موقع الرفاق في النهج الديمقراطي فيها وهم لم يشكلوا حزبا وانتظروا ما يمكن للواقع أن يفرزه؟ هل سيسارعون آنذاك إلى إطلاق نقاش حول تشكيل الحزب للانخراط في تلك الجبهة أم ماذا؟
والسبب الثاني الذي يدفع الرفاق في النهج الديمقراطي إلى عدم الحديث عن الحزب (حسب تعبير الرفيق عبد الله الحريف دائما) هو “أن تشكل الشعب المغربي قد افرز مناطق لها خصوصيات اثنوثقافية لذلك من المشروع أن تتوفر على تنظيمات سياسية خاصة بها تعبر عن مصالح الكادحين”.
مرة أخرى نجد نفس السبب الذي يجعل مسألة تشكيل الحزب ضرورة ملحة هو الذي يدفع الرفاق في النهج إلى عدم “الحديث عن الحزب” والاكتفاء بالحديث عن “التنظيم السياسي”، إذ من وجهة نظرنا نعتبر أنه بما أن “تشكل الشعب المغربي قد افرز مناطق لها خصوصيات اثنوثقافية” فإن هذا هو ما يفرض على الماركسيين أن يبذلوا كل جهودهم من اجل بناء الحزب البلشفي الذي يعبر عن مصالح الطبقة العاملة ومصالح الكادحين، بغض النظر عن الخصوصيات الاثنوثقافية، ويوجههم من خلال برنامج ثوري شامل على أساس طبقي يتجاوز الإثنيات والثقافات واللغة وغيرها. ألم تكن الاختلافات والخصوصيات الاثنوثقافية بل والدينية والعرقية ..الخ التي كانت تقسم الطبقة العاملة الروسية، هي التي جعلت لينين يؤكد على ضرورة الحزب الثوري الموحد؟ ألم يقف لينين بحزم ضد كل تلك المحاولات التي كانت بعض التيارات (البوند مثلا) تقوم بها من اجل تنظيم الطبقة العاملة على أسس عرقية أو قومية أو لغوية.
نعم يجب على الماركسي أن ينتبه بشكل كبير إلى خصوصيات الحقل الذي يشتغل فيه، لكنه يقوم بهذا بهدف توحيد صفوف الطبقة العاملة تنظيميا وسياسيا حول راية برنامج موحد، وحتى عندما تحاول بعض التيارات القومية البرجوازية والبرجوازية الصغرى تقسيم صفوف العمال والكادحين على أسس قومية فإن الماركسي يتدخل ليفضح تلك المناورات وينادي بوحدة العمال، بغض النظر عن العرق واللغة والجنس والخصوصيات الاثنوثقافية الخ.
إن الماركسية منذ بداياتها الأولى نظرية تدافع عن وحدة الطبقة العاملة عالميا في إطار حزب عالمي موحد للثورة (الأممية) فبالأحرى على المستوى القطري.
نرى أن ما يدفع الرفاق في النهج الديمقراطي إلى جعل إمكانية تشكيل جبهة في المستقبل واحترام الخصوصيات الاثنوثقافية سببا في عدم حديثهم عن الحزب، هو رغبتهم في توحيد قوى اليسار الجذري والمناضلين والتيارات الاشتراكية بعيدا عن العصبوية وبمراعاة لخصوصية كل منطقة، وهذا في حد ذاته دافع نبيل. لكن توحيد صفوف اليسار الجذري، من وجهة نظرنا، يتحقق بالطريقة الماركسية الحقيقية من خلال برنامج ثوري علمي موحد، وليس على أساس التنازلات للأوهام البرجوازية الصغيرة وضيق الأفق القومي.
وفي ما يخص «السيرورة الثانية» من بين السيرورات الثلاث، المشار إليها سابقا، يقول الرفيق عبد الله الحريف: «إنها ترتبط بحل التناقض الرئيسي بين الطبقة العاملة وعموم الكادحين وباقي الطبقات الشعبية من جهة، والكتلة الطبقية السائدة والنظام المخزني والامبريالية من جهة أخرى»
ويضيف: «إننا نعتبر أن الطبقات الوسطى تعاني من هيمنة الامبريالية والكتلة الطبقية السائدة ومن استبداد المخزن، لذلك فهي طبقات في مصلحتها التحرر من هيمنة الكتلة الطبقية السائدة والامبريالية ومن استبداد المخزن، وهي بالتالي مؤهلة موضوعيا للمساهمة في نضال التحرر الوطني والبناء الديمقراطي»، ويضيف أيضا: «إن النهج الديمقراطي يعتبر المرحلة الحالية هي مرحلة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي […] وأن الأداة لحل هذا التناقض هي جبهة وطنية تضم الطبقة العاملة وعموم الكادحين والطبقة الوسطى»
نحن أيضا في رابطة العمل الشيوعي نعتقد أن موقع “الطبقات الوسطى” (أو بتعبير أدق البرجوازية الصغرى) إلى جانب التغيير الثوري وأنه يجب على الطبقة العاملة أن تقودها ورائها، لكن تصورنا لهذه المهمة يختلف تماما عن تصور الرفاق في النهج الديمقراطي، إلا أنه وقبل أن ندخل في التفصيل في طرح تصورنا وأسسه النظرية، نرى من اللازم البدء بتوضيح موقفنا من بعض القضايا الهامة الواردة في كلام الرفيق:
أولا: يستعمل الرفيق مصطلح “الكتلة الطبقية السائدة” للدلالة على تكتل مفترض بين طبقتين، هما: “البرجوازية الكمبرادورية والملاكين العقاريين الكبار.”[4]
وهي النظرة التي تضع مختلف مكونات الطبقة السائدة الواحدة منها إلى جانب الأخرى وتصور العلاقة بينها باعتبارها تحالفا بين طبقات مختلفة، الشيء الذي نعتبره خاطئا إذ أن كل عناصر الطبقة السائدة هي جزء من طبقة واحدة مالكة لوسائل الإنتاج (الأرض والآلات) والرأسمال المالي، تختلف فيما بينها فقط فيما يخص شكل أو الطريقة التي تستولي من خلالها على فائض القيمة، لكنها جميعا أجزاء من طبقة سائدة واحدة، والنمط السائد الذي يحدد وجودها هو نمط الإنتاج الرأسمالي (التبعي).
ليست هناك أية حجة موضوعية واقعية للدفاع عن هذا التصور القائل بوجود طبقات متعددة سائدة متحالفة مع بعضها البعض، في إطار تكتل. ليس للطبقات الاجتماعية وجود بدون أنماط إنتاج محددة، إذ أن الطبقات لا توجد في المجرد. وبالتالي فإن تعدد الطبقات السائدة يعني تعددا لأنماط الإنتاج السائدة، نمط إنتاج خاص للبورجوازية “الكومبرادورية” ونمط إنتاج خاص للملاكين العقاريين، الخ. وهذا غير صحيح.
إن لجوء ماو والماويين إلى الفصل المصطنع بين البورجوازية من جهة وبين “البورجوازية الكومبرادورية” والملاكين العقاريين من جهة أخرى، بل وحتى الاضطرار إلى فبركة نوع خاص من البورجوازيات هو “البورجوازية الكومبرادورية”، لم يكن نابعا من اعتبارات نظرية وواقعية بل فقط من اعتبارات تكتيكية هي الرغبة في خلق تحالف مع نوع من البورجوازية (أطلق عليها اسم الوطنية، والتقدمية وغيرها من الأسماء اللطيفة) ضد نوع آخر من البورجوازيات (أطلق عليها اسم التبعية الخ). [5]
سوف نكتفي هنا بهذه الأسطر، نظرا لضيق المجال، على وعد أننا سوف نعود إلى هذا الموضوع لاحقا في أعداد أخرى بتفصيل أكبر. لننتقل إلى نقاش المصطلح الآخر: “النظام المخزني”.
يضع الرفاق “النظام المخزني” إلى جانب “الكتلة الطبقية السائدة” وكأنه كيان قائم بذاته.
بينما هو في الواقع ليس سوى أداة في يد الطبقة المسيطرة، بالرغم من كل مظاهر الاستقلالية التي قد تبدو عليه.
إن الدولة (الموظفون، الجيش، البوليس، الخ)، وفق التحديد الماركسي، هي أداة للسيطرة الطبقية في يد طبقة محددة، والدولة المغربية ببيروقراطيتها المدنية والعسكرية هي أداة للسيطرة الطبقية في خدمة الطبقة الرأسمالية السائدة، كبار أصحاب وسائل الإنتاج والأبناك، وليست طبقة قائمة بذاتها.
إن “المخزن” أي جهاز الدولة (البوليس والجيش والبيروقراطية والمؤسسة الملكية)، شكل من أشكال الأنظمة البونابراتية، والتي سبق لماركس منذ زمن بعيد أن حلل طبيعتها[6]. وهو أداة للسيطرة الطبقية في يد الطبقة الرأسمالية وليس كيانا فوق الطبقات أو موجود إلى جانب الطبقات، بالرغم من كل محاولاته للظهور بتلك الصورة.
نعم إن جهاز الدولة هذا (خاصة المؤسسة الملكية) ما زال يحتفظ بطقوس متخلفة قروسطوية (الراعي والرعية، البيعة، الحق الإلهي النسب الشريف، الخ) إلا أنه يحتفظ بتلك الطقوس بالضبط من أجل ممارسة مهمته في تأبيد سيطرة الطبقة الرأسمالية السائدة بشكل أكثر فعالية.
هذا فيما يخص هذين المصطلحين أما فيما يخص الطبقات الوسطى وكيفية جعلها تؤدي دورا في العملية الثورية فإن الرفاق يعتقدون أن ذلك يتم من خلال تشكيل “جبهة وطنية” معها. يبدو هذا الطرح منطقيا في المجرد، لكنه من وجهة نظرنا لا يصمد أمام التحليل الملموس والتجربة التاريخية.
أولا إن “الطبقات الوسطي” ليست طبقة منسجمة، مثل الطبقة العاملة، بل هي خليط غير متجانس من الفئات الاجتماعية بعضها أقرب من حيث موقعها الاجتماعي وظروفها المعيشية إلى الطبقة العاملة، بل أحيانا يكون وضعها أسوأ من وضع بعض شرائح الطبقة العاملة (العمال المؤهلون وذوي التنظيم النقابي القوي.. الخ)، ونعني بهم صغار أصحاب الحوانيت وفقراء الفلاحين وصغار الموظفين ومن شابههم، وهؤلاء يشكلون حلفاء موضوعيين للطبقة العاملة يجب العمل على لفهم تحت راية البروليتاريا.
وبعضها أقرب إلى الطبقة السائدة من حيث موقعها وظروف عيشها وطريقة تفكيرها.. الخ (الأطباء، المهندسون، المحامون، التجار المتوسطون، أصحاب المقاولات المتوسطة.. الخ)[7]. وبالتالي من غير الصحيح علميا الحديث عن “الطبقات الوسطى” هكذا بالتعميم وعن التحالف معها الخ.
ثانيا: ما هو شكل ومضمون تلك “الجبهة الوطنية” التي ستنظم الطبقات الوسطى والطبقة العاملة وعموم الكادحين؟ هل ستكون جبهة بين أحزاب الطبقة الوسطى وبين أحزاب أو حزب الطبقة العاملة وعموم الكادحين؟ إذا كان هذا هو المقصود، فإن هذا بكل بساطة مستحيل، نظرا لأن عدم انسجام الطبقات الوسطى يجعلها عاجزة عن إفراز أحزاب سياسية تعبر عن مصالحها، وليس لديها مشروع طبقي واضح وبالتالي خط سياسي واضح يمكن الاستناد عليه لتشكيل حزب يعبر عن مصالحها وهذا ما يجعل الممثلين السياسيين لهذه الطبقة يعتمدون على خليط من الآراء الإصلاحية بل والرجعية بشكل واضح (الدعوة إلى الرجوع إلى ماض سعيد مفترض كانت فيه الرأسمالية نزيهة والمنافسة حرة.. الخ) والشعارات الرنانة الفارغة من كل معنى واقعي، وينتهون في النهاية إلى الاندماج بالدولة مدافعين مستميتين عن “الثوابت” ضد شرائح الطبقة الوسطى (وخاصة الكادحة منها) بالذات.
إن “جبهة” من هذا القبيل لن تكون إلا جبهة مع بعض محترفي السياسة والوصوليين والإصلاحيين، وليس جبهة مع الطبقة الوسطى.
هل ما قلناه أعلاه يعني أننا ضد “التحالف” الطبقة الوسطى؟ كلا على الإطلاق! لكن نظرتنا إلى كيفية “التحالف” مع الطبقات الوسطى يختلف تماما عن نظرة الرفاق في النهج الديمقراطي. إننا نعتقد أن الطبقة العاملة يمكنها أن تجر ورائها البرجوازية الصغرى ليس من خلال “جبهات شعبية” مع السياسيين الوصوليين، الذين يزعمون التعبير عن الطبقات الوسطى، والحدود الدنيا البرنامجية، وتقديم التنازلات لهم؛ بل من خلال طرح برنامج اشتراكي ثوري يوضح للبرجوازية الصغرى أن الطبقة العاملة حينما ستستولي على السلطة وتؤمم الابناك والقطاعات الاقتصادية الكبرى، ليس في نيتها على الإطلاق الاستيلاء على المشاريع الصغرى وتأميم الحوانيت والمقاولات الصغرى والملكيات الصغرى للأرض وما شابهها، كما يزعم أعداء الاشتراكية والماركسية.
ونوضح لها أنه باستيلاء الطبقة العاملة على الابناك سوف يتخلص قسم كبير من صغار المنتجين من الديون الرهيبة التي تثقل كاهلهم وتحكم عليهم بالبؤس الأبدي وفي المقابل سوف تقدم لهم قروض بفوائد مناسبة وسوقا مضمونة لمنتجاتهم، كما سوف توفر لهم ولأبنائهم التطبيب المجاني والتعليم المجاني ذي الجودة العالية.
وهذا ما كنا قد شرحناه في وثيقة إعلان المبادئ حيث نقول: «إن مصادرة الأراضي الكبرى وتأميمها هو الشرط الأساسي لتقسيمها على الفلاحين وتشكيل التعاونيات الفلاحية الاختيارية، بارتباط مع الصناعة الغذائية المؤممة والموضوعة تحت رقابة العمال.
لا يمكن للفلاحين أن يستفيدوا من ايجابيات أشغال البنية التحتية (الطرق، النقل، الكهربة، الآليات، المستودعات، الموانئ، أنظمة الري..) إلا في إطار مخطط اشتراكي للإنتاج. إن تأميم النظام المالي سوف يضمن لهم الحصول على قروض بفوائد مخفضة لتمويل مشاريعهم»
طبعا لن تضمن لهم الدولة العمالية الحفاظ المصطنع على ملكياتهم ضد القوانين الموضوعية التي تحكم عليهم بالفناء (أفضلية المؤسسات الصناعية الكبرى والقطاعات الاقتصادية الكبرى على الصغرى) لكنها ستضمن لهم عدم تعرضهم للنهب والحيل التي يتعرضون لها في ظل النظام الرأسمالي. لأن القطاعات الكبرى والاستغلاليات الكبرى هي الأساس الذي سيبنى على أساسه المنتجون الأحرار الاشتراكية، ستحاول الطبقة العاملة أن تقنعهم بأن التشبث بالملكية الصغرى مضيعة للوقت، لكن دون أن تنزعها من أيديهم بالقوة، فالتطور الموضوعي كفيل بذلك، إلا أنها ستضمن لهم في المقابل منصب شغل قار وبأجر كاف وحقوق كاملة.
نعم سوف تجرح الطبقة العاملة مشاعرهم الرقيقة عندما ستحرمهم كليا من الاستغلال الوحشي الذي يمارسونه على العمال، وخصوصا الأطفال، في مشاغلهم وورشاتهم، لأن مكان الأطفال هو المدارس واللعب، أما العمال الراشدون الذين يعملون لديهم الآن مقابل أجور الجوع فلن يكون هناك ما يمنعهم من مغادرة تلك الورشات الكئيبة إلى المصانع الحديثة المؤممة والموضوعة تحت الرقابة العمالية حيث يتمتعون بحقوق اكبر وظروف عمل أفضل.
بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة وحدها يمكن ضمان تحالف وثيق مع “الطبقات الوسطى” وليس من خلال الدخول في تحالفات جبهوية مع “ممثلين”، لا يمثلون إلا أنفسهم ويمثلون على الجميع، والغرق في مفاوضات ونقاشات ماراطونية حول الحدود الدنيا و…الخ.
لقد حاولنا في هذا الأسطر أن نقدم الخطوط العريضة لموقفنا من بعض أهم تصورات الرفاق في النهج الديمقراطي، ونشير في الختام إلى أننا لسنا نسعى بكتابتنا لهذا المقال إلى إعطاء الدروس للرفاق أو المزايدة عليهم أو ما شابه، بل هدفنا الأوحد هو فتح نقاش رفاقي معهم هدفه تطوير تجربتنا الجماعية وخدمة قضية التغيير الاشتراكي في هذا البلد وعالميا.
جريدة الشيوعي، المغرب
يونيو 2010
هوامش:
[1] الصادر يوم 11 أكتوبر 2009، ص: 7
[2] يستعمل الرفيق هنا تعبير “المستقل عن باقي الطبقات الشعبية” مما يخلق بعض اللبس حول من هي الطبقات الشعبية بالجمع الموجودة في المجتمع إلى جانب الطبقة العاملة وعموم الكادحين “الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي” من جهة وبين الطبقة الرأسمالية من جهة أخرى.
[3] على الأقل آنذاك كان المشروع الماوي ما يزال يحافظ على بعض لمعانه مقارنة مع روسيا البيروقراطية، ثم أن البوادي المغربية كانت تضم أزيد من 70% من سكان المغرب
[4] انظر على سبيل المثال: فؤاد الهلالي في مقاله” في الوضع السياسي الراهن، ملاحظات حول مقال “الوضع الراهن ومهامنا” (المنشور على صفحات الموقع الإليكتروني للنهج الديمقراطي)، حيث يقول: “تتشكل الكتلة الطبقية السائدة من طبقتين أساسيتين هما: “البرجوازية الكمبرادورية والملاكين العقاريين الكبار وتتداخل وتترابط بشكل عضوي مصالح الطبقتين وأنشطتها الاقتصادية ومصالحها الإستراتيجية المرتبطة أشد الارتباط بسيادة نظام الرأسمالية التبعية”.
[5] وهو الأسلوب الغير غريب تماما عن ماو الذي فبرك نوعين حتى من الإقطاع سماه بالإقطاع “المستنير” في مقابل الإقطاع كما يعرفه عموم البشر الفانين، الخ.
[6] انظر رائعته: “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”
[7] غني عن الذكر هنا أننا نتحدث هنا عن الموقع الموضوعي وليس على الموقف السياسي والانتماء الإيديولوجي الفردي لهذا المحامي أو ذاك أو هذا الطبيب أو ذاك الخ