تحيين: بينما نحن بصدد صياغة هذا المقال ألقى الدكتاتور العجوز، الجنرال بن علي خطابا جديدا، مساء اليوم الخميس 13 يناير، قدم فيه كل الوعود الممكنة وغير الممكنة، من وقف إطلاق النار إلى الانفتاح الديمقراطي وإطلاق للحريات وتشغيل للعاطلين، الخ باختصار كل شيء! لكن الجماهير الواعية بزيف هذه الوعود الفارغة لم تلق أي انتباه لها وواصلت حركتها بكفاحية اكبر.
بعد حوالي شهر من الاحتجاجات البطولية التي عمت مختلف مناطق البلد، ها هي المظاهرات والمواجهات قد وصلت إلى تونس العاصمة، منذ مساء يوم الثلاثاء الماضي، 11- 01- 2011، حيث ما تزال تدور لحد اللحظة مواجهات عنيفة بين المتظاهرين (نساء ورجالا) وبين مختلف قوى القمع. وبالرغم من خطاب الرئيس فإن الأخبار الواردة من تونس ما زالت تؤكد استمرار المواجهات بين المحتجين وبين قوات الإرهاب والقمع.
كل المؤشرات الموضوعية تؤكد أن الصراع الطبقي في تونس قد تجاوز مرحلة الانتفاضة وصار الوضع ثوريا بالمعنى الدقيق للكلمة. سبق للينين أن حدد شروط الوضع الثوري في ما يلي: أولا، أن تصير الجماهير مقتنعة بعدم إمكانية العيش في ظل الظروف السابقة، ويكون العمال مستعدين للكفاح. ثانيا، أن تكون الطبقة السائدة متصدعة الصفوف وغير قادرة على الحكم بنفس الأساليب كما من قبل. ثالثا، أن تكون الطبقة الوسطى متذبذبة بين الثورة والثورة المضادة.
فيما يتعلق بالشرط الأول للوضع الثوري، أي اقتناع الجماهير بعدم إمكانية العيش في ظل الظروف السابقة واستعدادها للنضال من اجل تغيير الأوضاع، نجده متوفرا بوضوح في تونس، إذ لحد كتابة هذه السطور ما تزال المواجهات مستمرة في العاصمة ومختلف المدن التونسية بين آلاف المتظاهرين وبين قوات القمع. وهي المواجهات التي يستعمل فيها المحتجون الحجارة وصدورهم العارية والشعارات المطالبة بالحق في الشغل والحرية، بينما تستخدم الدكتاتورية الرصاص الحي.
وبالرغم من حظر التجول الذي فرضه النظام على العاصمة وبعض الولايات التونسية الأخرى الليلة الماضية ونشر الجيش في أحيائها، فقد تواصلت الاحتجاجات والمواجهات. وقد أفادت مصادر صحفية بأن المحتجين كسروا حظر التجوال، ودخلوا في مواجهات مع قوات القمع التي ردت على شعاراتهم وحجارتهم بإطلاق الرصاص الحي، في ضواحي العاصمة بمنطقة الكرم وحمام الشط، وغيرها.
وقد تجمع عدد من الأشخاص في شارع 5 ديسمبر بضاحية الكرم الغربي من تونس العاصمة، ورشقوا قوات الأمن بالحجارة التي ردت عليهم بالقنابل المسيلة للدموع، كما عمد المتظاهرون إلى سد الشارع الرئيسي بالحجارة والإطارات المطاطية المشتعلة.
وأكد شهود عيان للجزيرة أن عددا كبيرا من المتظاهرين اجتمعوا للاحتجاج في ثلاث بلدات، كما شهدت مدينة القصرين (حوالي مائتي كلم من العاصمة) رفع آلاف المتظاهرين لشعارات تطالب الدكتاتور بن علي بالرحيل.
ورغم كل القمع فإن الحركة الجماهيرية ما تزال أبعد ما تكون عن الإنهاك. فكل يوم يزداد عدد المحتجين وكل يوم ترتفع درجة الكفاحية وجذرية الشعارات والمطالب.
كل المؤشرات تؤكد أن الشعب التونسي قد تخلص من الخوف. فكل الإنزالات القمعية الهائلة المدججة بأعتى وسائل القتل، وكل الاعتقالات لم تنل من قدرة الشعب التونسي على التحدي ورغبته في الانعتاق.
وفي كل المدن أحرقت مقرات الحزب الحاكم وصور الدكتاتور العجوز، إضافة إلى رفع شعارات تطالب برحيله ومحاسبة عصابة المجرمين الذين نهبوا خيرات البلد وعذبوا شعبه طيلة عقود.
والرقم الحاسم في هذه المعادلة هو الطبقة العاملة التونسية التي بدأت بدورها تدخل إلى ساحة النضال الجاري بآلياتها التقليدية: التظاهر والإضراب العام! حيث أكدت التقارير الواردة من تونس أن عدة محافظات تونسية، لقصرين وصفاقس وقابس، شهدت خوض إضراب عام يوم الأربعاء، 12- 01- 2011 . بينما يتم تنظيم إضراب عام الخميس في محافظتي القيروان وجندوبة، وفي تونس العاصمة سيكون الجمعة يوم إضراب عام.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد قرر، عبر هيئته الإدارية الوطنية، التي انعقدت يوم الثلاثاء 11 يناير، فتح الباب أمام كل الاتحادات الجهوية في كل أنحاء البلد لإعلان إضرابات عامة كل في جهته. بينما قرر الاتحاد الجهوي للشغل بسيدي بوزيد تنظيم إضراب عام اليوم 13 يناير.
كما دعت النقابة إلى خوض إضراب عام يوم غد الجمعة 14 يناير 2011، وتأتي هذه الخطوة طبعا في سياق محاولة القيادة البيروقراطية المرعوبة احتواء الحركة وتخفيف الضغط الممارس عليها من تحت، حيث قررت أن يقتصر على مدة ساعتين فقط، ما بين التاسعة إلى الحادية عشر صباحا، وبدون أية مظاهرات على الإطلاق.
إن البيروقراطية النقابية أعطت خلال هذه الأحداث الدليل الواضح على عجزها عن الوقوف في مستوى الأحداث، وتحمل مسئولياتها كقيادة للطبقة العاملة، حيث بدل أن تعمل على تنظيم قوى الطبقة العاملة لضمان تدخلها القيادي في الأحداث بما كان سيضمن حسم الصراع لصالح الطبقة العاملة وعموم الكادحين، وتخفيض عدد الضحايا والمعاناة، بقيت مجرد متفرج على أحداث تجاوزتها، وحتى عندما اتخذت مواقفها البائسة اتخذتها مجبرة ومتأخرة ولمنع الحركة عن التطور في مسار ثوري.
أما الشرط الثاني للوضع الثوري، حسب التحديد الماركسي، فهو التصدع داخل صفوف الطبقة السائدة، وهو ما بدأ يظهر بوضوح من خلال المعطيات المتوفرة. فأمام هذه التحركات البطولية العظيمة، وقف ليس فقط النظام الدكتاتوري التونسي، بل حتى أسياده الإمبرياليون، عاجزين مرعوبين، يتخبطون بين القمع وبين الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس وتقديم التنازلات الشكلية والوعود الزائفة. إن تخبط النظام القائم وأسياده الإمبرياليين وحلفاءه في المنطقة، الذي يظهر جليا من خلال التصريحات والإجراءات المتضاربة، دليل على أن الخوف قد غير معسكره!
فالقمع الهمجي استمر يتصاعد حيث أعلنت السلطات مساء أمس، الأربعاء، فرض منع التجول ليلا في العاصمة التونسية والمناطق التابعة لها. وذكر بيان لوزارة الداخلية التونسية، أوردته وكالة الأنباء التونسية الرسمية، أنه “تقرر إعلان منع الجولان بولايات تونس الكبرى (تونس وأريانة وبن عروس ومنوبة)”.
وقال شهود عيان للجزيرة إن بلدة دوز الصحراوية شهدت مقتل أربعة أشخاص على الأقل بينهم أستاذ جامعي عندما أطلقت الشرطة النار على المحتجين. وقال شاهدان لرويترز إن الشرطة بمدينة تالة جنوب غرب العاصمة التونسية استخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق حشد من المحتجين ثم أطلقت النار بعد ذلك، مما أدى لمقتل وجدي السايحي (23 عاما). وقال رمزي شقيق القتيل إن السايحي أصم، ولم يسمع تعليمات الشرطة بالتفرق وأصيب في بطنه.
وحسب قناة “فرنسا 24” نقلا عن مصدر نقابي قتلت قوات البوليس شيخا يبلغ من العمر 75 عاما مع زوجته و هما يحاولان دفن ابنهما الاثنين في حي الزهور القصرين.
إلا أن كل هذا القمع لم يؤد إلى إخماد نضالية الجماهير الثائرة، فاضطر النظام القائم إلى تبني خيار الوعود والتنازلات. وفي خطوة تدل على الإنهاك الذي أصيب به جهاز القمع، خرج الجنرال بن علي، الذي استمر يحكم البلد بيد من حديد منذ أزيد من 23 سنة، يوم الاثنين 10 يناير الماضي، وهو يرتدي قناعا جديدا وليقدم مجموعة من الوعود ويقطع على نفسه مجموعة من التعهدات، فوعد في خطابه بخلق 300,000 منصب شغل للعاطلين عن العمل، ووعد بالقضاء على الفساد، ووعد بإطلاق سراح كل المعتقلين، الخ، وقام في خطوة مسرحية بإقالة وزير داخليته رفيق بلحاج قاسم وعين بدله وزير المواصلات السابق أحمد بوفريعة.
وقد صرح رئيس الوزراء محمد الغنوشي، يوم الأربعاء، أن بن علي قرر تشكيل لجنة للتحقيق في التجاوزات “التي يمكن أن تكون قد حصلت خلال هذه الأحداث”، بالإضافة إلى وعد بتشكيل لجنة تحقيق أخرى تنظر في موضوع الرشوة والفساد وأخطاء بعض المسؤولين. كما تمت دعوة مجلسي النواب والمستشارين لعقد جلسة استثنائية غدا الخميس للوقوف على الوضع الحالي ومتابعة هذه القرارات.”
وقد كان أول قرار لوزير الداخلية الجديد هو شن حملة اعتقالات جديدة من بينها اعتقال المناضل حمة الهمامي، الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي التونسي، صحبة احد المحامين الذين كانوا يتواجدون في بيته لحظة اعتقاله.
وفي محاولة يائسة منه لسحق الحركة قام النظام التونسي بإنزال الجيش إلى الشوارع يوم الأربعاء 12 يناير، حيث شوهدت عربات جيب عسكرية من نوع همفي وجنود مسلحون في دوريات عند التقاطعات الرئيسية في تونس العاصمة يوم أمس. لكن سرعان ما تم سحبها من الشوارع واستبدالها بقوات خاصة.
وتذكر التقارير في هذا السياق أن بن علي اجبر على إقالة رئيس هيئة أركان الجيوش التونسية الجنرال رشيد عمار، بسبب رفض هذا الأخير انخراط الجيش في عملية القمع.
كما ذكر شهود عيان أن المتظاهرين احتموا بالجيش هربا من رصاص الشرطة يوم الثلاثاء بمدينة الرقاب، فأقدم الجيش على توجيه رشاشاته صوب رجال الشرطة والتهديد بإفراغها تجاههم… كما قالوا بأن ضابطا كبيرا للشرطة قد أقدم على التوجه نحو كتيبة العسكر ليطالبها بتسليم المتظاهرين… إلاّ أن ضابطا بالجيش التونسي رفض الطلب وأقدم على منع الشرطة بإشهار السلاح. وهو ما سرع عملية سحب الجنود نهائيا من الشوارع واستبدالهم بقوات خاصة.
إن لهذا الواقع أهمية كبرى باعتباره مؤشرا عن حجم الانشقاق داخل جهاز الدولة نفسه.
الطبقة البرجوازية مرعوبة وهو ما يظهر من خلال مؤشرات بورصة تونس التي واصلت انخفاضها، حيث أغلقت يوم الثلاثاء 11 يناير بانخفاض كبير بلغ 3,66 % (بعدما كانت قد سجلت انخفاضا بمعدل 2,65 % يوم الاثنين 10 يناير). كما يظهر من خلال تصريحات مختلف الأحزاب البرجوازية التي تواصل دعوة الدكتاتور العجوز إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لإنقاذ النظام. لكن بن علي وعصابته متشبثون بالسلطة وغير مستعدين لتقديم أي تنازل جدي.
أما الشرط الثالث للوضع الثوري فهو أن تكون الطبقة الوسطى متذبذبة بين الثورة والثورة المضادة. وهذا الشرط بدوره متوفر في الوضع التونسي، مع اختلاف مهم هو أن الطبقة الوسطى متعاطفة إلى حد بعيد مع معسكر الثورة، وهو ما يظهر جليا من خلال التظاهرات ومختلف التحركات التي خاضها المحامون وأساتذة الجامعات والمشاركة الواسعة في الاحتجاجات من جانب الحرفيين وأصحاب الدكاكين، الخ.
نعم كل الشروط الموضوعية للثورة، كما حددها لينين، ناضجة في تونس اليوم. والأحداث التي تقع أمام أعيننا مؤشر على بداية الثورة التونسية، التي سوف تطبع ببصمتها مرحلة تاريخية كاملة، وسيمتد تأثيرها عبر كل المنطقة. لكن مع الأسف ما يزال ينقص عامل محدد وحاسم لتحويل هذا الوضع الثوري الملائم إلى ثورة ظافرة، إنه الحزب الثوري الجماهيري القادر على قيادة الطبقة العاملة والجماهير الكادحة لحسم السلطة السياسية. وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعف الحركة الجماهيرية وأزمتها.
إلا أن شروط بناء مثل هذا الحزب قد نضجت هي أيضا. وهذه الأحداث الجسام والدروس التي تتضمنها ستدفع بالعمال والشباب في تونس إلى البحث عن الأفكار الماركسية الاشتراكية الثورية الحقيقية.
لو توفر مثل ذلك الحزب لصار من الممكن تحقيق نصر ثوري بأقل قدر ممكن من التكاليف والتضحيات. لكن وفي ظل غياب مثل هذا الحزب، سوف تمتد الثورة طيلة مرحلة كاملة، شهورا وربما سنوات، مع موجات مد وجزر.
إن غياب الحزب الماركسي وعجز قيادة الطبقة العاملة الحالية عن تحمل مسئولياتها وإفلاسها التام، يجعل الطبقة العاملة غير مستعدة بعد لحسم الصراع لصالحها والاستيلاء على السلطة السياسية وإنجاز ثورتها. كما أن البرجوازية بدورها عاجزة ولم تعد قادرة على أخذ زمام الحكم بين أيديها، بل إنها لم تأخذه بين أيديها بشكل مباشر أبدا. إذ استمرت دائما محتمية تحت ظل نظام بونابرتي بورجوازي رجعي، تجسد في شخص الجنرال بن علي.
والجماهير لا يمكنها أن تستمر في وضع الانتفاض إلى ما لا نهاية، لا يمكنها أن تستمر في المواجهات والتظاهرات والمسيرات، إنها تحتاج إلى بديل واضح، تحتاج إلى نتائج ملموسة، وإلا فإنها سوف تعود تدريجيا إلى الخمول.
القوة الوحيدة المنظمة الآن في تونس هي المؤسسة العسكرية، وهذا الوضع يفتح المجال لتدخل مباشر للجيش، عن طريق انقلاب عسكري سافر، يسقط الجنرال العجوز ويستبدله بجنرال آخر، خاصة مع السمعة التي تمكنت مؤسسة الجيش من اكتسابها في أعين الجماهير خلال الأيام الأخيرة. أو بانقلاب غير مباشر يسلم السلطة الشكلية لحكومة “مدنية” بينما كل السلطات في يد المؤسسة العسكرية. لكن مثل هذه الحكومة ستكون في جميع الحالات ضعيفة ومهتزة وبدون أية قاعدة شعبية، فالشعب التونسي لم يعد كما كان!
كما أن الإصلاحيين الذين لم يشاركوا في المظاهرات ولم يقدموا أية تضحيات، والذين تعايشوا طيلة عقود مع نظام الدكتاتورية وقدموا له الشرعية، يعملون الآن على محاولة إجهاض الحركة الثورية بجرها إلى ألاعيب برلمانية ويطالبون بتشكيل “حكومة وطنية” أي حكومة برجوازية تضع السلطة مرة أخرى بين أيدي الطبقة السائدة.
نحن الماركسيون ندافع عن منظور حسم الطبقة العاملة للسلطة السياسية والقطاعات الاقتصادية الحيوية، ضدا على منظور ردة رجعية سواء بقناع ديمقراطي أو بوجه بونابرتي واضح. وقد قدمت لنا الحركة الجماهيرية لحد الآن مجموعة من المرتكزات التي يمكن لنا أن نبني عليها، ونطورها. لقد بدأت الجماهير تشكل فيالق من الشباب لحماية الأمن والممتلكات من التخريب الذي تقوم به ميليشيات البوليس السري في زي مدني وعصابات الحزب الحاكم.
أيها العمال/ات أيها الفقراء/ات يجب علينا أن ندعو الآن إلى تحويل تلك الفيالق الجماهيرية إلى ميليشيات مسلحة تحت رقابة الجماهير. علينا أن نعمل الآن على تأسيس مجالس شعبية منتخبة في الأحياء العمالية والمصانع والجامعات، على مستوى المدن والولايات وعلى الصعيد الوطني، ينبثق عنها حكومة شعبية منتخبة ديمقراطيا من جانب العمال والكادحين، تأخذ السلطة بين أيديها، وتعمل على إطلاق سرح جميع المعتقلين السياسيين وتحاكم كل المسئولين عن قمع الشعب ونهب ثروات البلد، وعلى رأسهم عصابة بن علي؛ حكومة تأمم كل القطاعات الاقتصادية الكبرى وتطبق برنامجا اشتراكيا يجعل الثروة في خدمة الأغلبية الساحقة، لضمان منصب شغل للجميع ولضمان أجرة لائقة للجميع وضمان الحرية للجميع!
ماركسي
الخميس: 13 يناير 2011