أليكس غرانت
25 أكتوبر 2017
لم يسبق لأي حدث آخر في تاريخ البشرية أن تعرض لما تعرضت له الثورة الروسية من التشويهات والافتراءات .ننشر هنا قائمة الرفيق أليكس غرانت، من الفرع الكندي للتيار الماركسي الأممي، يلقي محاضرة حول أشهر عشر أكاذيب ضد الثورة البلشفية، خلال الجامعة الصيفية الأممية للتيار الماركسي الأممي لسنة 2017.
أولئك الذين يشهدون المعاملة التي يتلقاها اليوم جيريمي كوربين على يد الصحافة البريطانية يفهمون نكهة حقد الطبقة السائدة. هوغو تشافيز والثورة الفنزويلية حظيا بدورهما بنفس الاهتمام الخاص في الفترة الأخيرة. لكن ليس هناك من حدث استحق كراهية الطبقة الحاكمة مثل الثورة البلشفية عام 1917، لأنه آنذاك قام العبيد لأول مرة بالإطاحة بالنظام القديم والبدء في بناء مجتمع جديد دون الحاجة إلى رب أو سيد.
والسبب وراء مثل تلك الافتراءات ضد البلاشفة واضح جدا. فقد أظهر ذلك الحدث، أكثر من أي شيء آخر، أن هناك طريقة أخرى لتسيير المجتمع وأنه ليس على العمال والشباب والفقراء والمضطهدين أن يخضعوا لإملاءات “السادة الأنيقين” الذين يستفيدون من معاناتهم. وقد تم إنفاق ساعات لا حصر لها، ومليارات الدولارات والجنيهات واليوروهات لإقناع الناس بأن الثورة الروسية لم تأت بأي شيء جيد وأنه ليس هناك ما يمكن تعلمه منها لنضالاتنا اليوم. وقد تمت تعبئة جيش كامل ممن يسمون “خبراء” لهذه المهمة الخاصة المتمثلة في الحفاظ على الوضع الراهن.
اليوم بمناسبة الذكرى المائوية لثورة 1917، وبينما يجد العالم نفسه في طريق مسدود مماثل، تصل تلك الافتراءات مرة أخرى إلى مستويات عالية.
أليكس غرانت يلقي محاضرة حول أشهر عشر أكاذيب ضد الثورة البلشفية، خلال الجامعة الصيفية الأممية للتيار الماركسي الأممي لسنة 2017
لقد كان حجم الأكاذيب ضد الثورة هائلا حقا منذ اللحظة الأولى لاستيلاء العمال السوفياتيين على السلطة. علق تروتسكي على ذلك قائلا: “كانت الافتراءات تتدفق مثل شلالات نياغارا”. منذ اليوم الأول كانت الصحافة الغربية مليئة بقصص القتل والفوضى. زعموا، على سبيل المثال، أن بتروغراد “البلشفية” كانت فيها “مقصلة تعمل كهربائيا قطعت خمسمائة رأس في ساعة واحدة”، وأنه طلب من جميع النساء في روسيا السوفياتية، البالغات أكثر من سن 18 عاما، التسجيل في “مكتب الحب الحر”، حيث سيتم منح النساء البورجوازيات المثقفات إلى أزواج بروليتاريين متعددين على أساس التناوب. (ورد في “الثورة البلشفية” تأليف فيليب. س. فونر). وقد وصفت أهوال أخرى، مثل اضطرار النساء الثريات إلى القيام بأعمال التنظيف، واضطرار رجال الأعمال الرفيعي المستوى لبيع الصحف في زوايا الشوارع من أجل البقاء – يا للإنسانية!
كان لينين مولعا بالمثل الذي يقول: «يمكن لأحمق واحد أن يطرح من الأسئلة عشرة أضعاف أكثر مما يمكن لعشرة حكماء أن يجيبوا». لا يمكن الرد على جميع الأكاذيب ضد الثورة في مقال واحد، إلا أننا سنستعين بالظاهرة التي شرحها تروتسكي في تاريخه للثورة الروسية، حيث أوضح كيف أن كل افتراء سياسي هو في الأساس “فقير ومكرور”. وفي هذا الصدد يمكننا تحديد عشرة من بين أكثر الأكاذيب تكرارا حول الثورة البلشفية من أجل تسليح القارئ بالحقيقة التي يمكنها أن تقطع مع التشويه والخبث. إن مهمة تنظيف الوحل والقذارة التي تراكمت منذ 100 سنة، لا يحسد المرء عليها لكنها ضرورية ونأمل أن يجد القارئ هذا مفيدا.
1) كان لينين عميلا ألمانيا!
هذه أول وأقدم الأكاذيب ضد البلاشفة. كانت هي الكذبة الرئيسية التي تم نشرها خلال ردة أيام يوليوز الرجعية حين تم فرض الحضر على البلاشفة واضطر لينين إلى الاختباء، وسجن تروتسكي. أدت موجة الردة التي أطلقتها هذه الكذبة إلى تحطيم المطابع البلشفية، وتعرض حتى بائعو جرائدهم وموزعوها للضرب والقتل. بعد بضعة أسابيع من تعرض العمال والفلاحين الروس للخداع بدأوا في اكتشاف الخدعة وشرعوا في التحول على نطاق واسع ضد هؤلاء الذين ينشرونها كذريعة لمواصلة الحرب العالمية الدموية وتأبيد حكم الأغنياء وملاك الأراضي. وازدادت شعبية البلاشفة في البلاد تدريجيا من منتصف غشت فصاعدا.
لكن حقيقة أن الشعب الروسي قد اكتشف ذلك قبل 100 سنة لم تؤد إلى وقف تكرارها وإعادة نشرها حتى يومنا هذا. ففي 19 يونيو 2017، أي عمليا 100 سنة على اليوم التالي لإطلاق هذه الكذبة لأول مرة، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا تكررها فيه حرفيا. يجب أن نثني على صحيفة التايمز لحسها البيئي، على اعتبار أنه من الواضح أنها ملتزمة بإعادة التدوير!
والكذبة تقول شيئا من هذا القبيل: بعد ثورة فبراير سافر لينين إلى روسيا عبر قطار ألماني “مغلق”. وفي الطريق حصل على أموال من قيصر وعمل بنشاط لتخريب جهود الحلفاء الحربية تحت إشراف الألمان. لكن ما هي الحقيقة؟
نعم، لقد اضطر لينين للسفر عبر ألمانيا إلى فنلندا من أجل الوصول إلى روسيا الثائرة. كان لينين يدرك جيدا الخطر السياسي الذي كان يتخذه من خلال السفر عبر ألمانيا، وهذا هو السبب في أنه أصر على أن يكون القطار “مغلقا”، وعدم دخول أو خروج أي كان منه أو إيقافه طوال مدة الرحلة. لكن ما هو البديل الذي كان لديه؟ لقد رفضت قوات الحلفاء، الإمبريالية الفرنسية والبريطانية، السماح له بالمرور الآمن فوق الأراضي التي تحتلها. وعندما حاول تروتسكي الوصول إلى روسيا من نيويورك بالباخرة، اعتقلته المخابرات البريطانية لمدة شهر في هاليفاكس، كندا، ولم يتم الإفراج عنه إلا بفضل احتجاجات جماهيرية. نحن على يقين من أن الإمبرياليين كانوا سيكونون سعداء جدا ببقاء لينين معزولا في سويسرا، لكن ذلك لم يكن خيارا جيدا.
ينسى هؤلاء الكذابون أيضا أن مارتوف، والعديد من المناشفة الآخرين، وغيرهم في المنفى، اضطروا بدورهم إلى استخدام الطريق الألماني نحو روسيا. ومع ذلك، فلا أحد من هؤلاء متهم بأنه عميل ألماني لأن ذلك ليس ملائما من الناحية السياسية.
ماذا عن الذهب الألماني الذي من المفترض أن لينين تلقاه من القيصر؟ حتى الآن، وعلى الرغم من البحث الدقيق والتمحيص، لا أحد قادر على العثور على أثر له، وقد انفضحت كل المزاعم. أما أن البرافدا كانت تتلقى دعما أجنبيا، فإنه بالتأكيد ادعاء فارغ. كانت تصدر بحجم أصغر وتوزع بأعداد أقل بكثير في الخنادق من جرائد الليبراليين والإصلاحيين (الذين كان لهم فعلا مساندون أثرياء).
وتفيد صحيفة “نيويورك تايمز” أن العمال الروس كانوا يتلقون عشرة روبلات لحمل لافتة بلشفية. لكن في عام 1921 ذكر زعيم حزب الكاديت، ميليوكوف، أن المبلغ هو خمسة عشر روبل. من الواضح أن النيويورك تايمز هي المكان المناسب للعثور على صفقة جيدة! ومع ذلك لم يتم العثور على أي دليل على هذه المدفوعات غير المشروعة التي كانت قادرة على تعبئة الملايين في الشوارع لمواجهة بنادق وسياط الشرطة والقوزاق. ولم يتمكن أحد من تتبع شبكة توزيع تلك الأموال في جميع أنحاء الإمبراطورية القيصرية التي انتخبت النواب البلاشفة.
لقد وجهت تهمة تلقي التمويل الأجنبي لكل الحركات الجماهيرية منذ زمن سحيق. وقد تم الإبلاغ عن مثل هذه “الأخبار” خلال الاحتجاجات ضد تنصيب دونالد ترامب حين قيل إن المتظاهرين حصلوا على 3500 دولار لكل واحد من صندوق أنشأه الملياردير الليبرالي اليهودي جورج سوروس. وترامب نفسه أكد ذلك وغرد عن “المحتجين المحترفين”. تذكرنا هذه الحكاية بأوبرا فاغنر Das Rhinegold التي تحكي قصة الذهب السحري الذي يجعل حامله قويا. لا تستطيع الطبقة الحاكمة المنهزمة أن تتصور لماذا ترفضها الجماهير، وبالتالي تتحول إلى القصص الخيالية من عوالم أخرى. لكن الحقيقة أكثر دنيوية: لقد اقترح لينين والبلاشفة أفكارا أيدتها الجماهير. وكان هذا هو مصدر قوتهم “السحرية”.
بالطبع كان لدى الإمبرياليين الألمان أسبابهم الخاصة للسماح لقطار مليء بالثوريين و”دعاة السلام” بالسفر عبر أراضيهم. لقد راهنوا على أن هؤلاء الثوريين سيسببون المشاكل لروسيا ويضعفون مجهودها الحربي، لكنهم لم يتصوروا أبدا، ولو في أبشع كوابيسهم، أن يتمكن البلاشفة من الوصول إلى السلطة. مثل هذه المناورات ليست خاصة بالإمبريالية الألمانية. ومع ذلك فإن ذلك الرهان بالتحديد من جانب جنرالات الجيش الألماني أعطى نتائج عكسية مثلما أظهرت الأحداث.
في ليلة 29 أكتوبر 1918، اندلع تمرد في الأسطول الألماني. وبحلول 07 نوفمبر استولت مجالس العمال على معظم المدن الساحلية، مستلهمة تجربتها من الثورة الروسية. أجبر القيصر ويلهلم الثاني على الاستقالة في 09 نوفمبر. وبحلول يوم 11 نوفمبر، تمكن العمال الألمان، سيرا على خطى إخوانهم وأخواتهم العمال الروس، من هزم الإمبريالية الألمانية ووضعوا نهاية للحرب العالمية عن طريق الوسائل الثورية. وبهذا المعنى يمكن القول إن لينين ليس فقط لم يكن عميلا ألمانيا، بل كان المحرض الذي تسبب في سقوط القيصر الألماني.
وعلى النقيض من ذلك، فقد كانت الحكومة المؤقتة الروسية وهيئة الأركان هم العملاء الألمان الحقيقيون. بل حتى القيصر وزوجته كانا يتآمران من أجل توقيع سلام منفصل مع ألمانيا قبل ثورة فبراير. وفي شهر غشت، سمح الجنرالات الروس بسقوط ريغا في يد الألمان لتقديم ذريعة لانقلاب كورنيلوف وتعليم سوفيات ريغا درسا بالحراب الألمانية. وبالمثل، عندما أحس كيرنسكي بانزلاق السلطة من بين أصابعه، خطط لنقل حامية بتروغراد إلى الجبهة وتسليم العاصمة للألمان ليقوموا بالمذابح ضد العمال الثوريين.
كان ذلك آخر عمل أقنع جماهير الجنود بأن الحكومة المؤقتة لا تستحق دعمهم. فعصت حامية بتروغراد الأمر الإجرامي بالتخلي عن بتروغراد، وبدلا من ذلك غيرت ولائها نحو السوفيات.
يمكننا أن نرى هنا أنه بالنسبة للبرجوازية، تأتي المصالح الطبقية دائما قبل الأمة في آخر المطاف. لقد فضلت الطبقة الحاكمة الروسية التخلي عن عاصمتها لقوة أجنبية بدلا من أن تراها تقع في أيدي العمال الروس. لينين بدوره كان يفضل المصالح الطبقية على الأمة. لكن وبدلا من وحدة أرباب العمل والمصرفيين وملاك الأراضي والجنرالات، دعا إلى النضال الثوري لجميع العمال ضد الطبقة الحاكمة. لقد كان موقف لينين هو الذي أدى إلى الإطاحة بالعسكريين الألمان والروس على حد سواء، ووضع حدا للحرب الإمبريالية الدموية.
2) كانت ثورة أكتوبر انقلابا عنيفا
هناك أسطورة تقول بأنه حدثت ثورة سلمية في فبراير أطاحت القيصر، نيكولا الثاني، وأقامت نظاما ديمقراطيا ليبراليا. لكن ولسوء الحظ، قام لينين وتروتسكي، المصابان بجنون العظمة، بانقلاب عنيف وغير شرعي للإطاحة بالديمقراطية وبناء نظام ديكتاتوري شمولي. كل ذلك تلفيق في تلفيق.
أولا، يميل المؤرخون الليبراليون إلى استخدام مصطلح “سلمي” بشكل فضفاض جدا. يتفق الجميع، ما عدا أكثر المؤرخين اليمينيين تطرفا، أن النظام القيصري كان سيئا جدا. كان نظاما ملكيا وراثيا استبداديا، لا وجود فيه لانتخابات ديمقراطية ولا للحق في حرية التعبير ولا التجمع الحر أو التنظيم الحر، وحيث كان المعارضون السياسيون يرسلون إلى سيبيريا، وكان اليهود والقوميات المضطهدة يواجهون مذابح بشعة منتظمة بدعم من النظام. ولذلك فإنه من الصعب على المؤرخ الليبرالي أن يجادل ضد ثورة فبراير، مهما كان موقفه من مفهوم الثورة بشكل عام.
وبعد أن اضطر الليبراليون إلى الموافقة على الإطاحة بالقيصر في فبراير، أعلنوا أن هذه الثورة “سلمية”. والواقع أن حوالي 1500 شخص لقوا مصرعهم في فبراير 1917. وكان معظمهم من العمال العزل الذين أردتهم شرطة النظام، لكن مع تقدم الإضراب العام والانتفاضة، قام هؤلاء العمال بتسليح أنفسهم، وبتعاون مع الجنود المنتفضين تمكنوا من إيقاع إصابات في الجانب الآخر. وفي الأيام الأخيرة من حياة النظام تعرض بعض أسوأ المسؤولين عن التعذيب للإعدام. كل هذا ومؤرخونا الليبراليون يؤكدون لنا أن كل ذلك تم بطريقة سلمية.
إذا كان 1500 شخص قد قتلوا في ثورة فبراير “السلمية”، فمن المؤكد أنه مات أكثر من ذلك بكثير في ثورة أكتوبر “العنيفة”؟ لكن الواقع هو أنه لم يمت أحد تقريبا خلال عملية الاستيلاء على قصر الشتاء التي أسقطت بقايا الحكومة المؤقتة.
لقد شاهد الكثيرون فيلم سيرغي آيزنشتين الكلاسيكي عن الثورة الروسية، “أكتوبر”. وذلك المشهد في الفيلم الذي يصور الاستيلاء على قصر الشتاء مثير للغاية، مع كل هؤلاء الناس الذين يركضون ويطلقون نيران البنادق، ويرمون القنابل ويسقطون، وما إلى ذلك. لم تكن لذلك المشهد أية علاقة بالحدث الفعلي، الذي كان أشبه بمداهمة للشرطة. لكن مع الأسف وقعت بعض الحوادث خلال تصوير الفيلم، وتوفي بعض أفراد الطاقم. لقد مات أثناء تصوير لقطة اقتحام قصر الشتاء عدد أكبر ممن ماتوا أثناء الهجوم الفعلي على قصر الشتاء!
لقد أدت ثورة أكتوبر إلى إخراج روسيا من الحرب وعجلت بنهاية الحرب العالمية الأولى، وبالتالي إنقاذ الآلاف، إن لم نقل الملايين. ومن المثير للسخرية أن أولئك الذين يكرهون “عنف” الثورة هم في الغالب نفس أولئك الذين يدعمون عنف الحروب باعتبارها عادلة وضرورية. كان العمال الروس قد سئموا من نفاق هؤلاء الناس الذين يؤيدون الحرب من أجل تضخيم حجم أرباحهم، وكان هؤلاء العمال مستعدين لتقديم التضحيات من أجل تحقيق سلام عادل دون إلحاقات. هذا هو مبرر ثورة أكتوبر وثورة فبراير والثورة بشكل عام. فعندما تقرر الأغلبية إجراء تغيير في المجتمع، والأقلية تقاوم بوسائل عنيفة، فإن للأغلبية كل الحق في الدفاع عن نفسها.
وثانيا في حين وصفت ثورة فبراير بكونها ثورة مجيدة مدعومة من طرف الأغلبية، فقد وصفت ثورة أكتوبر بكونها انقلابا غير شرعي من قبل أقلية صغيرة. دعونا نفحص هذا الادعاء. هناك تعريفان للانقلاب في القاموس السياسي، التعريف الأول يحدد الانقلاب على أنه استيلاء على السلطة من قبل أقلية، عادة ما تكون عسكرية، مع إقامة نظام دون موافقة أغلبية السكان. والتعريف الآخر هو أنه نقل “غير شرعي” للسلطة ينتهك دستور دولة معينة.
هل كان البلاشفة أقلية؟ هذا ما لم يؤكده أي مصدر بعد شتنبر 1917. من المسلم به تماما أن الأغلبية الساحقة من سكان المناطق الحضرية قد دعمت البلاشفة في أكتوبر. أما في الريف، فإن أولئك الذين لم يدعموا البلاشفة دعموا الاشتراكيين الثوريين اليساريين الذين كانوا يؤيدون شعار كل السلطة للسوفييتات. لقد أعطى مؤتمر السوفييت لعامة روسيا، وهو الهيئة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيا في البلاد آنذاك، الأغلبية الحاسمة للسلطة السوفياتية وحكومة ائتلافية مشكلة من البلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين والتي قدمت الأرض للفلاحين وأنهت الحرب ومنحت حق تقرير المصير للقوميات المضطهدة.
والدليل النهائي على تمتع السوفييتات بدعم الأغلبية كان هو النصر في الحرب الأهلية. كان الجيش القيصري قد تحطم وكان على الدولة العمالية الفتية بناء جيش من لا شيء. كان الجيش الأبيض يحظى بدعم معظم الجنرالات القدامى وجيوش غازية من إحدى وعشرين بلدا أجنبيا. حمل تروتسكي على كاهله المهمة المستحيلة تقريبا لبناء الجيش الأحمر. ومع ذلك فمهما كانت قدرة تروتسكي على الإقناع كبيرة، فإنه لم يكن ليستطيع أن يخلق في الناس الرغبة في القتال وتسليح الجيش وإطعامه، لو لم يكن يحظى بشعبية سياسية.
كان الفلاحون على استعداد للتبرع بالحبوب لإطعام الجيش الأحمر لأن ذلك الجيش كان هو من يمنع كبار مالكي الأراضي من العودة والاستيلاء على أراضيهم. وقد تطوع العمال للقتال والموت وصنع الذخائر للجيش الأحمر من أجل التصدي لعودة الرأسماليين والإمبرياليين. الحرب هي استمرار السياسة بوسائل أخرى، وبهذه الطريقة تمكن السوفييت من تعبئة الأغلبية لتحقيق انتصار حاسم.
لعل البلاشفة حصلوا على تأييد الأغلبية، لكن هذا لا يهم لأنهم تصرفوا بشكل غير شرعي وغير دستوري؟ لكن حتى بهذه المعايير القانونية الضيقة فإن الحجة مفلسة. وكما أوضحنا سابقا لم تكن هناك طريقة “دستورية” لإزالة النظام الملكي وبناء نظام ديمقراطي. كان الخيار الوحيد هو الثورة. لكن ما طبيعة النظام الذي نتج عن ثورة فبراير؟
كان الناس الذين يخوضون القتال ويموتون من أجل الإطاحة بآل رومانوف هم في الغالب عمال المدن الكبرى الذين أقنعوا الجنود بالانضمام إليهم أو البقاء على الحياد. نظم هؤلاء العمال والجنود أنفسهم في السوفييتات. ليس “السوفييت” سوى الترجمة الحرفية للكلمة الروسية “المجلس”، وقد انتخبت كل أماكن العمل ممثلين عنها لهذه الهيئة وفقا لنسب محددة. وحدات الجنود، التي كانت تتألف في الغالب من فلاحين بالزي العسكري، انتخبت بدورها ممثلين عنها إلى تلك المجالس. وكان المندوبون خاضعين لإمكانية العزل الفوري. كانت السوفييتات هي الهيئات المنتخبة ديمقراطيا التي تحظى بثقة جماهير العمال والفلاحين الذين قاتلوا بالفعل لإسقاط النظام القديم في فبراير.
في المقابل كان الليبراليون والمحافظون منتظمين داخل مجلس الدوما القيصري. وكانت تلك الهيئة غير ديمقراطية وخيالية في تشكيلتها، وكانت لها صلاحيات استشارية فقط في عهد القيصر. كانت الانتخابات تتم داخل الطوائف وكان الهدف ضمان الأغلبية لكبار ملاك الأراضي والرأسماليين والنبلاء. كان صوت ملاك الأراضي مكافئا لأصوات عشرات أو مئات الآلاف من العمال والفلاحين في بلد يتكون من 150 مليون نسمة. قام قادة الدوما بكل ما في وسعهم لإنقاذ القيصر من انتفاضة الجماهير التي كانت تدعم السوفييتات.
بعد سقوط النظام الملكي، قام هؤلاء الأفراد غير المنتخبين، والذين كان معظمهم من الأرستقراطيين الأثرياء ورجال الأعمال والأساتذة، بإعلان أنفسهم “حكومة مؤقتة” على الرغم من عدم امتلاكهم لأي تفويض ديمقراطي أو أساس دستوري على الإطلاق. كانت الجماهير التي قامت بالثورة مرتابة فيهم، لكن وللأسف كانت السوفييتات قد انتخبت قادة إصلاحيين قدموا دعمهم للبرجوازية الليبرالية. كان التفويض الديمقراطي الوحيد الذي حصلت عليه الحكومة المؤقتة هو ذلك الذي قدمه لها قادة السوفييتات الإصلاحيين: المناشفة والاشتراكيون الثوريون. لم تدعم الجماهير الحكومة المؤقتة، لكنها في بداية عام 1917 كانت لديها ثقة في قادة السوفييتات. وهكذا بدأت مرحلة ازدواجية السلطة، حين تقاسمت الحكومة المؤقتة السلطة مع اللجنة التنفيذية السوفياتية. وكان ذلك هو الكيان “القانوني” الذي أقامته ثورة فبراير.
أيام 07- 09 نوفمبر 1917، اجتمع مؤتمر سوفييتات عامة روسيا في سان بيترسبورغ. تم انتخاب 649 مندوبا إلى المؤتمر، يمثلون 318 مندوبا محليا من جميع أنحاء روسيا. اكتسب البلاشفة 390 مندوبا، و100 للاشتراكيين الثوريين اليساريين، وحقق أغلبية حاسمة لسحب التفويض من الحكومة المؤقتة وإعلان جميع السلطات للسوفييتات، التي هي الهيئات التمثيلية الديمقراطية الوحيدة في جميع روسيا. ولذلك فحتى في ظل الحدود الضيقة للشرعية والدستورية، فإن ثورة أكتوبر نجحت في الاختبار. ثورة أكتوبر لم تكن انقلابا بأي شكل من الأشكال.
3) لولا لينين لكانت روسيا ستصبح ديمقراطية ليبرالية
فقط لو لم يكن هناك لينين، لكانت روسيا بعد ثورة فبراير ستتحول إلى نظام ديمقراطي ليبرالي لطيف وسلمي على شاكلة فرنسا أو بريطانيا. لدينا هنا أسطورة أخرى لا تربطها علاقة بالواقع.
لقد أوصلت الحكومة المؤقتة الأولى الكاديت الليبراليين إلى السلطة. لو أن الشعب كان يريد الليبرالية لكانت تلك الحكومة ستبقى مستقرة. لكن الليبراليين لم يتمكنوا من إعطاء الشعب ما كان يريده، أي: إنهاء الحرب والأرض للفلاحين والحرية للقوميات المضطهدة والغذاء للمدن. وقد لخص كل ذلك شعار البلاشفة: “السلام والأرض والخبز”.
وبسبب عدم قدرتها على حل أزمات المجتمع، سقطت هذه الحكومة وحلت محلها حكومة ائتلافية بين الاشتراكيين الإصلاحيين والليبراليين. ثم انهارت مصداقية الليبراليين البرجوازيين وحلت محلهم حكومة تتألف بشكل كامل تقريبا من الاشتراكيين الإصلاحيين السائدين داخل السوفييتات، بزعامة كيرنسكي. لقد بذل الإصلاحيون كل ما في وسعهم لكي لا يقطعوا مع النظام الرأسمالي، وبالتالي فإنهم لم يتمكنوا من توفير السلام أو الأرض أو الخبز للشعب.
وعلى الرغم من أن كيرنسكي كان عضوا في الحزب الاشتراكي الثوري، الذي كان يستند تقليديا على الفلاحين، فإنه لم ينبس بأي كلمة عن سياسة الحزب الاشتراكي الثوري بشأن الإصلاح الزراعي. لم يتمكن حتى من عقد جمعية تأسيسية لكتابة دستور ديمقراطي، خوفا من عدم القدرة على التحكم في مثل تلك الهيئة. وخطوة خطوة، بدأ الدعم الجماهيري يتجه نحو البلاشفة الذين دعوا إلى القطع مع الرأسمالية وإعطاء كل السلطة للسوفييتات.
لم يعد بإمكان الطبقة الحاكمة، الملاكين العقاريين والرأسماليين، الاعتماد على المناورات البرلمانية للحفاظ على سلطتها. وقد رفض الشعب جميع أحزابها. ومن تم انتقلت إلى اعتماد أسلوب الانقلاب الفاشي بقيادة الجنرال كورنيلوف في غشت 1917. لم يكن كورنيلوف سيذبح العمال السوفياتيين فقط، بل كان سيعمل أيضا على سحق الحكومة المؤقتة. فقام كيرنسكي، الذي خاف على حياته، بإطلاق سراح البلاشفة المعتقلين الذين هزموا بدورهم انقلاب كورنيلوف بفضل تعبئة عمال بتروغراد والقيام بالتحريض بين صفوف قوات الجيش.
ومنذ ذلك الحين فصاعدا صارت الحكومة المؤقتة “الإصلاحية اللبرالية” معلقة بخيط رفيع. وجه العمال والفلاحون أنظارهم نحو السوفييتات لحل مشاكلهم. استغل الرأسماليون وملاكو الأراضي والملكيون الردة الكورنيلوفية الرجعية لتعليم الشعب درسا دمويا لكونه تجرأ أكثر مما يمكن احتماله. جميع الأطراف رفضت “الطريق الوسط”، وصار الخيار الوحيد المطروح هو إما الاشتراكية أو الفاشية.
لكن ألم يخسر البلاشفة انتخابات الجمعية التأسيسية؟ الواقع هو أنه بعد ما يقرب من عام من تماطل الليبراليين والإصلاحيين عن الدعوة إلى انتخابات الجمعية التأسيسية كانت السوفييتات، بقيادة البلاشفة، هي من نظمت تلك الانتخابات. وكانت النتائج هي 41% للاشتراكيين الثوريين و24% للبلاشفة و05% للكاديت و03% للمناشفة. ومن الضروري مقارنة أصوات البلاشفة مع أصوات حزب الكاديت الذي اتحد مع جنرالات كورنيلوف والردة الرجعية البيضاء. كما حصل البلاشفة على أغلبية حاسمة في المراكز الحضرية وثلثي الأصوات بين جنود الجبهة الغربية.
لسوء الحظ فإن الانقسام بين الاشتراكيين الثوريين اليساريين، الذين دعموا السلطة السوفياتية، وبين الاشتراكيين الثوريين اليمينيين لم يكن قد صار رسميا في وقت انتخابات الجمعية التأسيسية. ولذلك فإن ممثلي الاشتراكيين الثوريين اليمينيين كانوا حاضرين بشكل كبير في قوائم الحزب الانتخابية ولم يمنح الفلاحون خيارا حقيقيا. صوت الريف لصالح الاشتراكيين الثوريين، في الوقت الذي كانت فيه جميع قطاعات المجتمع النشطة قد تجاوزت مرحلة البرلمانية التقليدية كما نراها في البلدان الإمبريالية. النظام السوفياتي، حيث الانتخابات مباشرة ويمكن عزل المندوبين وليس هناك فصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (أي لكل مندوب عمل يقوم به)، هو أكثر ديمقراطية من النظام البرلماني حيث يتخلى النواب غير الخاضعين للمساءلة عن ناخبيهم طيلة سنوات يحصلون خلالها على رواتب ضخمة.
عندما اجتمعت الجمعية التأسيسية في 18 يناير 1918، كانت مسخا هجينا. حاول الإصلاحيون تنظيم مظاهرة لدعمها لكن لم يشارك معهم سوى عدد قليل. جلب المندوبون الشموع والسندويشات في حالة قطع التيار الكهربائي. وعلى الساعة الرابعة صباحا قال رئيس الحرس، كان من التيار اللاسلطوي: «إن الحرس متعبون. أقترح عليكم إنهاء الاجتماع والسماح للجميع بالعودة إلى ديارهم». وكان ذلك نهاية الجمعية التي لم يكن أحد على استعداد للقتال من أجلها. لم تكن هيئة ديمقراطية بما فيه الكافية بالنسبة للعمال الذين كانوا يدعمون الديمقراطية السوفياتية، بينما كانت ديمقراطية أكثر مما يحب بالنسبة للجنرالات الرأسماليين الذين كانوا يستعدون لإشعال الحرب الأهلية لإعادة تثبيت شكل من أشكال الحكم الاستبدادي.
4) ارتكب البلاشفة الفظائع في الحرب الأهلية
الحرب هي الجحيم، وخلالها يحاول الجانبان هزيمة بعضهما البعض بوسائل عنيفة. والحرب الأهلية أسوء، ففيها يكسب الجانب المنتصر كل شيء، بينما يفقد الجانب الخاسر كل شيء. وإذا كان لأحد الطرفين احتكار للعنف، فسيتمكن حتى لو كان لا يحظى إلا بدعم أقلية من السكان، من أن يفرض الخضوع على الأغلبية. ولا بد من مواجهة العنف الذي تمارسه الأقلية بعنف دفاعي من جانب الأغلبية إذا هي أرادت هزيمة الاستبداد.
والحقيقة هي أن أي شخص يقوم بدراسة موضوعية للحرب الأهلية الروسية سيجد أن الأغلبية الساحقة من الفظائع ارتكبت من طرف الجيش الأبيض وجيوش التدخل الأجنبي الواحدة والعشرين.
في الأيام الأولى كانت الثورة في الحقيقة طيبة جدا وساذجة. لقد أظهر البلاشفة الكثير من رحابة الصدر وسمحوا لرجعيين نشيطين معروفين بأن يذهبوا سالمين. وهذا أمر مفهوم، فالثورة المنتصرة تسعى إلى الوحدة وتريد المضي قدما في تغيير المجتمع بطريقة سلمية. وقد قال كل من لينين وتروتسكي إن الكثير من الأرواح كان يمكن إنقاذها لو أن الثورة تصرفت بمزيد من الشدة والحزم منذ الأيام الأولى، وهذا صحيح بلا شك.
لم تبدأ الثورة باتخاذ تدابير حازمة إلا في مواجهة الفظائع التي ارتكبها الجيش الأبيض المعادي للثورة. كان الصراع الطبقي قد كسر الحدود الرسمية للديمقراطية. وكان البيض قد تخلوا منذ فترة طويلة عن أي ادعاء ديمقراطي أو سلمي، وكانوا يستخدمون كل الأساليب الممكنة – سوء المعاملة والإرهاب والمذابح والعنف الشديد- من أجل هزيمة الحمر.
فوجد الحمر أنفسهم أمام واقع أنه إذا أرادوا حقا الدفاع عن أنفسهم فعليهم التخلي عن أفكارهم الطوباوية حول النزعة السلمية وتوظيف أساليب مماثلة. يقول تروتسكي في هذا الصدد:
«لن يكون من الصعب إظهار أن جميع الإجراءات القاسية التي اتخذتها الحكومة السوفياتية خلال الحرب الأهلية كانت قد فرضت عليها باعتبارها تدابير للدفاع الثوري عن النفس. لن ندخل هنا في التفاصيل، لكن لنقدم معيارا جزئيا لتقييم ظروف الصراع، دعونا نذكر القارئ أنه في الوقت الذي كان الحرس الأبيض، بتعاون مع حلفائه الأنجلو- فرنسيين، يطلقون النار على كل شيوعي يقع في أيديهم دون استثناء، كان الجيش الأحمر يفرج عن جميع السجناء دون استثناء، بمن فيهم حتى الضباط من الرتب العالية».
ويواصل تروتسكي في وقت لاحق شرح ما يلي:
«مسألة شكل القمع أو درجته ليست بطبيعة الحال مسألة “مبدأ”. إنها مسألة نفعية. فخلال فترة الثورة، لا يمكن ردع الحزب الذي تم إسقاطه من السلطة، والذي لم يتصالح مع استقرار الطبقة الحاكمة الجديدة، والذي يثبت ذلك من خلال نضاله اليائس ضد هذه الأخيرة، لا يمكن ردعه بواسطة التهديد بالسجن، لأنه لا يعتقد بطول مدته. فقط هذه الحقيقة البسيطة لكنها الحاسمة هي ما يفسر اللجوء الواسع النطاق إلى الإعدامات خلال الحروب الأهلية».
وفي واحدة من أولى الفظائع التي ارتكبتها قوى الثورة المضادة، ملأ البيض ثلاث عربات شحن بجثث الحرس الأحمر، “وضعت جثثهم المجمدة في وضعيات فاحشة” وتم إرسالهم إلى معسكر الحمر وقد كتبت عليها ملحوظة: “لحوم طازجة: الوجهة بتروغراد”.
كان البيض مشهورين بإساءة معاملة السجناء البلاشفة وأعضاء الجيش الأحمر أو أي شخص يشتبه في أنه متعاطف مع الشيوعيين أو السوفييتات. وكان العقاب المفضل عند البيض ضد الثوار الذين يتم القبض عليهم هو تشويههم وفقأ أعينهم وقطع ألسنتهم قبل دفنهم أحياء.
كانت جيوش دينيكين تشتهر بمذابحها وعربدة النهب والاغتصاب التي أطلقوا لها العنان في المناطق التي احتلوها. ويقدر أن مئات الآلاف من الناس قتلوا بتلك الطريقة.
إن القارئ غير ملزم بتصديق كلامنا دون تمحيص، قال السفير الأمريكي في ذلك الوقت، والذي لا يمكن اعتباره متعاطفا مع الحكومة السوفياتية:
«في جميع الأنحاء (التي يسيطر عليها البيض) في سيبيريا… تسود عربدة من الاعتقالات دون توجيه اتهامات، والإعدامات دون حتى التظاهر بالمحاكمة، ومصادرة الممتلكات دون سند قانوني. لقد استولى الخوف والرعب على الجميع. الناس يشكون في بعضهم البعض ويعيشون في رعب مستمر من أن يوجه لهم أحد الجواسيس أو العدو تهمة “البلشفية” ويدينهم بالموت الفوري».
ووصف بعض الأطباء النفسيين أحد قادة القوزاق، الذي كان متحالفا مع كولتشاك ومدعوما من طرف القوات اليابانية، بأنه رجل ذو «دماغ مريض منحرف ومصاب بجنون العظمة والعطش للدم البشري».
كما وصف الجنرال الأمريكي غريفز سلوك القوات البيضاء قائلا:
«كان جنود سيميونوف وكالميكوف يجتاحون الريف، تحت حماية القوات اليابانية، مثل حيوانات برية يقتلون ويسرقون الشعب، وكان من الممكن وقف تلك الجرائم لو أرادت اليابان ذلك. إذا طرح السؤال عن هذا القتل الوحشي، كان الرد هو أن الذين يتعرضون للقتل هم بلاشفة، وهذا التفسير، على ما يبدو، يرضي العالم. كانت الظروف فظيعة في شرق سيبيريا، وكانت الحياة أرخص شيء هناك».
وقيل إن عهد إرهاب كالميكوف قد دفع بالعديد من المعتدلين إلى دعم البلاشفة.
كان سيميونوف يشيد حتى معسكرات موت بدائية. وفي 19 غشت 1919، قتل العقيد ستيفانوف 1600 من السجناء. وقد استمرت هذه المذابح طوال فترة الحرب الأهلية. كتب غريفز:
«إنني أشك في أن يظهر التاريخ أي بلد في العالم حيث يمكن أن يرتكب القتل بذلك القدر من السهولة والإفلات من العقاب مثلما كان عليه في سيبيريا في ظل نظام الأميرال كولتشاك».
وكانت عاصمة كولتشاك ممتلئة بعشرات الجثث المعلقة على أعمدة التلغراف، وذبح الكثير من السجناء في معسكرات الإعدام على طول السكك الحديدية.
وأخيرا، في سياق كتابته عن تجربته قال الجنرال غريفز عن الإرهاب الأبيض ما يلي:
«كانت هناك جرائم قتل فظيعة ارتكبت، لكن لم يرتكبها البلاشفة كما يعتقد العالم. وأنا لا أبالغ عندما أقول إن أعداء البلاشفة قتلوا مائة شخص في شرق سيبيريا مقابل كل واحد قتله البلاشفة».
كان على السوفييتات الدفاع عن نفسها ضد تلك الفظائع. وفي خضم الحرب الأهلية لن تسمح أي حكومة للمعارضين المسلحين بحرية التنظيم والتحريض ونشر الصحف في مؤخرة جيوشها.
لم تتخل أي طبقة حاكمة في التاريخ عن سلطتها ومكانتها في المجتمع دون قتال. وفي مواجهة المقاومة الشرسة التي تقوم بها الثورة المضادة، اضطرت الثورات على مر العصور إلى اتخاذ تدابير صارمة وقمعية كوسيلة للدفاع عن النفس. حدث ذلك خلال الثورة الإنجليزية والثورة الأمريكية والثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأمريكية والحرب الأهلية الروسية وكذلك في عدد لا يحصى من الأماكن والأوقات الأخرى في التاريخ.
قدم مارك توين، في روايته “يانكي من كونيكتكت في محكمة الملك آرثر”، دفاعا تاريخيا ممتازا عن الإرهاب الثوري. وعلى الرغم من أنه يتحدث عن عهد الإرهاب خلال الثورة الفرنسية، فإنه يتلاءم تماما مع الثورة الروسية، ويمثل في الواقع دفاعا عن كل ثورة:
«كان هناك “حكمان للإرهاب”، لو نتذكر ونعتبر. كان أحدهما يقتل بعاطفة متقدة، بينما كان الآخر يقتل بقسوة وبدم بارد. الأول استمر لبضعة أشهر فقط، بينما استمر الثاني ألف سنة؛ الأول تسبب في وفاة عشرة آلاف شخص، بينما تسبب الثاني في مقتل مائة مليون. لكن انتباهنا كله يتركز على “أهوال” الإرهاب البسيط، الإرهاب المؤقت، إذا جاز التعبير؛ في حين علينا أن نتساءل ما هو الموت السريع بواسطة فأس، مقارنة مع الموت مدى الحياة من الجوع والبرد والإهانة والقسوة والحسرة؟ ما هو الموت السريع بسبب البرق مقارنة مع الموت فوق نار هادئة؟ يمكن لمقبرة المدينة أن تحتوي كل جثث قتلى الإرهاب البسيط الذي تعلمنا جميعا العناية به والحزن بسببه؛ لكن كل فرنسا قد لا تكاد تكفي لتحتوي توابيت يملأها قتلى ذلك الإرهاب القديم والحقيقي – ذلك الإرهاب البشع والمروع الذي لم يتعلم أحد منا أن يراه في حدته أو يشفق منه كما يجب».
5) رومانوف قتل بدم البارد
هل سبق لك أن تساءلت لماذا تعرف عن “قتل” آل رومانوف لكنك ربما لم تسمع أبدا عن عمليات الإعدام التي قامت بها بريطانيا لـ 26 من المفوضين السوفياتيين في باكو في نفس الفترة تقريبا؟ هل تعلم عن هؤلاء المتظاهرين السلميين الـ 4600 الذين قتلوا في يناير 1905، بينما كانوا بصدد تقديم التماس إلى “الأب المبجل”، نيكولا الثاني؟ هل تعلم أن نيكولا هذا كان عضوا في “اتحاد الشعب الروسي” المعادي للسامية وكان يموله ويرعاه، وارتدى شارته بفخر؟
كان الاتحاد مسؤولا عن تنظيم مذابح دموية ضد السكان اليهود بمساعدة من مخابرات القيصر والضباط. هناك كان الاغتصاب والتعذيب والحرق وتمزيق الأطراف وكل رعب يمكن تخيله، يقع على الرجال والنساء والأطفال وحتى الرضع. وفي حادثة واحدة في أوديسا قتل 800 يهودي، وجرح 5000، وشرد 100.000 شخص. لم يكن القيصر جاهلا بهذه الفظائع، بل إنه كتب عنها لأمه يصفها بأعمال “شعب مخلص”! وفى رسالة أخرى عن القمع الوحشي للفلاحين البلطيقيين قال “إنه يجب مواجهة الإرهاب بالإرهاب”. لقد تم إعدام الآلاف من الثوريين تحت حكمه أو ماتوا في سجون رهيبة أو في المنفى السيبيري. وكانت جريمته الأخيرة أمره لقواته بإطلاق النار مباشرة على حشود المتظاهرين خلال ثورة فبراير. نعم لقد نال “نيكولاس الدموي” ما يستحقه.
إن محاولة تصوير نيكولا كرجل هادئ ومتواضع تمثل أقصى حدود النفاق. هل يبكون على الملك تشارلز الأول أو لويس السادس عشر، اللذان أسقطتهما البرجوازية في طريقها إلى السلطة؟ هل يبكي هؤلاء الناس على إعدام صدام حسين وبن لادن وتشاوشيسكو، أو غيرهم من الشخصيات الأخرى غير المحبوبة من طرف القوى الغربية؟ بل قالت التقارير إن هيلاري كلينتون قد ضحكت على وفاة القذافي. نحن أيضا لا نبكي على هؤلاء الأشخاص – لكن نيكولا لم يكن أفضل من أي منهم. هل يبكون على آلاف الأطفال الذين قتلتهم قنابل بوش وبلير في العراق وأفغانستان، أو طائرات أوباما بدون طيار في باكستان؟ كلا، هؤلاء الضحايا مجهولون ويجب أن ينساهم الأغنياء والأقوياء.
يعترف البعض بأن نيكولا كان طاغية، لكنه يعترض على إعدام عائلته. بالطبع كان ذلك حدثا مؤسفا، لكن نيكولا لم يمتنع عن فعل الشيء نفسه ضد عدد لا يحصى من أسر العمال والثوريين تحت حكمه. أو لإعطاء مثال حديث، كيف يختلف ذلك عن هجوم صاروخي موجه يقتل اثنين من المتمردين و30 من أفراد أسرتهما؟ كان تروتسكي يفضل إجراء محاكمة علنية توضح بالتفصيل جرائم أسرة رومانوف أمام الجميع. لكن ذلك لم يكن ممكنا في ظروف الحرب الأهلية. في عام 1918 كان البيض قد اقتربوا من المنزل المريح نسبيا الذي كانت أسرة رومانوف محتجزين فيه في يكاترينبورغ. لو تمكنت الجيوش البيضاء من الحصول على أي فرد من العائلة المالكة كانوا سيجعلون منه نقطة تجميع لقوى الثورة المضادة، وهم الذين لم يكونوا يترددون في قتل عائلات الثوريين الأسرى.
تلك المنطقة التي كانت غير ذات أهمية من الناحية العسكرية صارت فجأة هدفا لهجوم الجيش الأبيض الذي هدد حياة الآلاف من الناس العزل. ولم يكن لدى الجيش الأحمر الموارد اللازمة لتعزيز المنطقة. وهكذا ففي مواجهة هجمة الجيش الأبيض، رأى بلاشفة يكاترينبورغ في إعدام أسرة القيصر الطريقة الوحيدة للخروج من حمام الدم. وبقيامهم بذلك قاموا أيضا بإزالة ما يمكن أن يصبح رمزا قويا لحشد الثورة المضادة.
يقولون لنا إن مقتل ما يقرب من 200.000 من الرجال والنساء والأطفال في القصف النووي لهيروشيما وناكازاكي كان ضروريا لأنه “أنقذ الأرواح وقصر مدة الحرب”. والحقيقة هي أن القضاء على سلالة رومانوف أضعف معنويات البيض وأنقذ الأرواح عن طريق تقصير مدة الحرب الأهلية.
إن ما يعترض عليه الرأسماليون هو أنه عوض فرض العنف من طرف الأغنياء ضد الفقراء، والمضطهدين ضد المضطهَدين، لدينا هنا مثال عن نهوض العبيد إلى الكفاح وتحقيقهم للنصر. عندما هزم الرومان ثورة سبارتاكوس، ملئوا طريق أبيان بالآلاف العبيد المصلوبين كرسالة تحذير للعبيد الآخرين.
ضحايا الرأسمالية مجهولون، وعددهم بالملايين. وباستعمال كلمات نيكولا، في بعض الأحيان “يجب مواجهة الإرهاب بالإرهاب”. لم يقم العمال البلاشفة بإدارة خدهم الآخر، لأنهم كانوا يعلمون أنه لن يرث الوديع الأرض. إن عنف الأغلبية الفقيرة في سبيل خلق عالم جديد هو في المقام الأول عنف دفاعي وأقصر مدة بكثير من العنف الذي تمارسه الأقلية الغنية من أجل البقاء في عروشها. نحن لا نسعى إلى العنف، لكننا نؤيد حق الأغلبية في الدفاع عن أنفسهم بطرق متناسبة ضد عنف الأقلية.
6) تروتسكي قتل بحارة كرونشتاد
يمثل تمرد كرونشتاد، في مارس 1921، واحدا من أكبر الانتقادات التي يوجهها اللاسلطويون للثورة البلشفية. ومن المحزن أن أولئك الذين يصرخون “كرونشتاد” بازدراء، نادرا ما أخذوا الوقت لدراسة الأحداث الفعلية المحيطة بالتمرد. في الواقع كانت كرونشتاد مأساة مؤسفة، وليست مثالا على “ديكتاتورية” البلاشفة “المعادين للديمقراطية”.
يستحق اسم كرونشتاد بحق مكانة عظيمة في سجلات ثورة أكتوبر. لقد كان بحارة القلعة، التي تحرس ميناء بتروغراد، من العناصر الأكثر راديكالية وتضحية بالنفس في عام 1917. لكن الكرونشتاديين عام 1921 لم يكونوا هم نفس أولئك الذين كانوا عام 1917. كان بحارة عام 1917 في الغالب أول من تطوع لمحاربة الجيوش البيضاء في الحرب الأهلية، وكثير منهم مات أو تقلد وظائف أخرى، أما كرونشتاديي عام 1921 فقد كانوا أساسا أبناء الفلاحين.
من أجل كسب الحرب الأهلية اعتمدت السوفييتات سياسة “شيوعية الحرب”. وقد تضمنت تلك السياسة أساسا مصادرة الحبوب من الفلاحين من أجل إطعام القوات في الجبهة أو عمال صنع الذخائر في المدن. في البداية كان الفلاحون مستعدين لتقديم هذه التضحية لأن الحكومة السوفياتية كانت تحميهم من عودة ملاكي الأراضي، لكن مع تقدم الحرب الأهلية، بدأت المصالح الاقتصادية في التغلب على التعاطف السياسي. بدأ الفلاحون في المطالبة بالتجارة الحرة في الحبوب، وكان هذا هو المطلب الرئيسي لأبناء الفلاحين في كرونشتاد. كان هناك بعض من اللاسلطويين حاضرين فتم إصدار قرارات مستوحاة من النزعة اللاسلطوية، لكن حرية التجارة بقيت هي القضية الرئيسية.
استمرت الدولة العمالية في التفاوض مع المتمردين حتى نهاية فصل الشتاء، لكن مع الأسف كان الوقت ينفذ، وكان هناك خطر أن يذوب الجسر الجليدي نحو الجزيرة. لو حدث ذلك كانت النتيجة ستكون هي فقدان السيطرة على جميع الشحنات من وإلى بتروغراد. كان يمكن لكرونشتاد أن تتسبب في تجويع العاصمة البروليتارية خلال فترة الحرب الأهلية. كان السماح بحدوث ذلك سيكون إهمالا إجراميا، ولم يكن أمام الحكومة السوفيتية أي خيار سوى تنظيم هجوم مسلح للسيطرة على الجزيرة.
والحقيقة المحزنة هي أن تمرد كرونشتاد، وقمعها اللاحق، كان مأساة مؤسفة للحرب الأهلية. لو كان هناك مزيد من التفاوض لما كان من الضروري أن تحدث. لكن البلاشفة لم يكن لديهم خيار. وبسبب المكر السياسي للأعداء وضع “اللوم” على كاهل ليون تروتسكي. يحتاج الليبراليون والبرجوازيون بوضوح لاستغلال أي شيء لتشويه الراية النظيفة لتروتسكي والمعارضة اليسارية وخلطهما بالستالينية. وقد أشار تروتسكي في وقت لاحق إلى أنه ليست له شخصيا أية علاقة باستعادة الجزيرة، لكن بصفته رئيسا للجيش الأحمر كان من الواضح أنه يتفق سياسيا مع ضرورة الإجراءات التي اتخذها الرفاق على الأرض.
ومهما كانت رغبات البحارة المتمردين، فإن مسار عملهم كان سيؤدي مباشرة إلى استسلام الجزيرة والمدينة إلى الجيوش البيضاء المتمركزة في فنلندا. ومن الجدير بالملاحظة أنه خلال الأشهر التي تلت تمرد كرونشتاد أدرك البلاشفة أن شيوعية الحرب قد وصلت إلى حدودها وطرحوا السياسة الاقتصادية الجديدة. كان أساس السياسة الاقتصادية الجديدة هو حرية التجارة في الحبوب. كان البلاشفة قد قاوموا هذا الإجراء من قبل، لأنهم فهموا أنه سيخدم مصالح الفلاحين الأغنياء (الكولاك). وهذا ما جعل المسألة بأكملها أكثر مأساوية بكثير. ومع ذلك، فإن ذلك لم يمنع اللاسلطويين من معارضة السياسة الاقتصادية الجديدة على الرغم من أن التجارة الحرة كانت هي المطلب الرئيسي للكرونشتاديين! الانسجام هو آخر ما يمكن اتهام اللاسلطويين به.
7) البلشفية تؤدي حتما إلى الديكتاتورية الستالينية
لقد سكب قدر هائل من الحبر من أجل إثبات أن البلشفية تؤدي حتما إلى الستالينية والدكتاتورية. ليس هناك من افتراء ضد ثوار عام 1917 أسوء من المساواة بينهم وبين أولئك الذين كانوا مسؤولين عن خيانتهم وسجنهم وإعدامهم. في الواقع هناك نهر من الدماء يفصل البلشفية عن الستالينية. وبحلول عام 1942، كان تقريبا كل أعضاء اللجنة المركزية البلشفية الذين شاركوا في ثورة 1917 قد ماتوا، كان أغلبهم قد قتل على يد ستالين. لماذا حدثت كل تلك المذابح لو كانت الستالينية هي التطور المنطقي لحزب لينين؟ لم يستطع أحد الإجابة عن هذا السؤال الجوهري.
ليس لصعود الستالينية أية علاقة على الإطلاق مع ما يسمى بـ “الخطيئة الأصلية” للينينية. فالحزب البلشفي في عام 1917 كان يعتمد ليس فقط على الديمقراطية السياسية، بل وكذلك على الديمقراطية الاقتصادية، أي السيطرة الديمقراطية للعمال على الإنتاج، إلى جانب الديمقراطية السوفياتية الشعبية. إنها نظام أكثر ديمقراطية بكثير من تلك التي نراها في ظل الرأسمالية، والتي يسيطر عليها الرأسمال الكبير والمخادعون في البرلمان، والتي تقوم على الديكتاتورية المطلقة في أماكن العمل.
لسوء الحظ كان مستوى التعليم في روسيا القيصرية منخفضا جدا. كان الفلاحون يشكلون 90% من السكان وكان معدل الأمية أكثر من 70%. في تلك الظروف توجب على الدولة العمالية الشابة أن تعتمد على البيروقراطيين القدامى من العصر القيصري من أجل استمرار حركة دواليب الإدارة. وقد كان ذلك مقبولا خلال السنوات الأولى، ما بين 1917 و1921، عندما كان العمال قادرين على وضع البيروقراطيين المتميزين تحت الرقابة. لكن وبعد أربع سنوات من الحرب العالمية، وثلاث سنوات من الحرب الأهلية، صار العمال متعبين. كانت أكثر عناصر البروليتاريا طليعية وتضحية أول من تطوع للقتال، ولسوء الحظ سقط العديد من هؤلاء الأبطال البروليتاريين المجهولين في ساحة المعركة.
وفي حين كان الاتحاد السوفياتي هو من انتصر رسميا في الحرب الأهلية، فقد كان الاقتصاد السوفياتي محطما بسبب الحصار والخراب الذي سببته الجيوش الأجنبية. كان معظم العمال يريدون فقط العودة إلى ديارهم لأسرهم. وفي هذا السياق بدأ البيروقراطيون القيصريون يحققون الاستقلالية عن الرقابة العمالية. وبدأوا تدريجيا في دفع العمال جانبا وإزالة عناصر الرقابة الديمقراطية والمحاسبة.
كان ستالين هو الذي مثل هذه الطغمة البيروقراطية. تمكن ذلك الشخص الذي كان نكرة في عام 1917، من أن يرتفع إلى مكانة بارزة بالاعتماد على جهاز الدولة الذي أصبح أكثر غطرسة مع تخلي العمال عن المشاركة النشطة. وكان العمال الذين يقدمون المطالب لموظفي الدولة يقال لهم: “هل تظن أن هذا عام 1918؟”. كانت معركة لينين الأخيرة هي التحالف مع تروتسكي للنضال ضد هذا الانحطاط البيروقراطي وضد ستالين على وجه الخصوص. وقد قال لينين ما يلي عن جهاز الدولة:
«[إنها] مثل سيارة لا تسير في الاتجاه الذي يريده السائق، بل في اتجاه يريده شخص آخر؛ كما لو كانت تقاد من قبل يد غامضة، لا يعلمها إلا الله، يمكن أن تكون يد وصولي، أو رأسمالي، أو كلاهما».
ويقول في مقال آخر:
« جهاز الدولة الذي نسميه جهازنا، ما زال في واقع الأمر جد غريب عنا؛ إنه مزيج برجوازي وقيصري ولم يكن في المستطاع التخلص منه إبان السنوات الخمس الماضية دون مساعدة بلدان أخرى ولأننا كنا “مشغولين” أكثر الوقت بمهام عسكرية وبالحرب ضد المجاعة… لا ريب في أن النسبة المائوية الضئيلة للغاية من العمال السوفييت والذين اتخذوا الصبغة السوفيتية سيغرقون في مد الغوغاء من أصحاب الاتجاه الشوفيني الروسي مثلما تغرق ذبابة في وعاء لبن».
وفي وصيته الأخيرة، التي تم منع صدورها لاحقا، شن لينين صراعا مباشرا ضد ستالين، حين كتب في 24 دجنبر 1922:
«الرفيق ستالين بعد أن صار السكرتير العام للحزب، ركز بين يديه سلطة هائلة، ولست متأكدا بأن في مقدوره دائما أن يستخدمها بما يكفي من التبصر».
ولكن بعد 11 يوما أضاف ما يلي:
«ستالين وقح جدا، وهذا الخلل، على الرغم من أنه يمكن تحمله تماما في وسطنا وفي التعامل بيننا نحن الشيوعيون، يصبح أمرا لا يطاق بالنسبة لأمين عام. ولهذا أقترح أن يفكر الرفاق في طريقة لإزالة ستالين من ذلك المنصب وتعيين شخص آخر عوضا عنه لا يختلف عن الرفيق ستالين إلا بميزة واحدة فقط وهي: أن يكون أكثر تسامحا وأكثر ولاء وأكثر تهذيبا وأكثر مراعاة للرفاق وأقل تقلبا في المزاج، وما إلى ذلك».
إن ما ورد أعلاه أكثر من كاف لإظهار أن لينين كان يعارض البيروقراطية بشكل عام ويعارض ستالين على وجه الخصوص.
يهاجم اللاسلطويون المركزية الديمقراطية باعتبارهم لها سبب الستالينية. هذه حجة غريبة. إن المركزية الديمقراطية هي الديمقراطية الحقيقية الوحيدة للعمل. مبادئها الأساسية هي الحرية الديمقراطية الكاملة في النقاش مع الوحدة الكاملة في العمل. إن المركزية الديمقراطية هي ديمقراطية الإضراب: من حق جميع العمال حرية نقاش مدى صحة الإضراب خلال الجمع العام، ثم بعد ذلك يتم التصويت. فإذا صوت، على سبيل المثال، 70% من العمال لصالح خوض الإضراب، فإنه يتوجب على 100% من العمال أن ينفذوا الإضراب وإلا فلن يكون هناك أبدا أي إضراب ناجح. حقوق الأقلية محمية، لكن قرار الأغلبية هو من يقرر مسار العمل.
وفي مواجهة المركزية الديمقراطية نجد مفهوم اللاسلطوية “الصرفة”، حيث لا أحد ملزم بالقرارات الديمقراطية التي تتخذها المجموعة والتي تتشظى صفوفها عند مواجهة أول تحد. رأينا مثل هذا الشلل في حركة احتلال الساحات [في الولايات المتحدة]. وفي الجهة المقابلة نجد المركزية البيروقراطية الستالينية، حيث لا وجود للنقاش الحر أو حماية حقوق الأقليات. وهنا مرة أخرى تعارض الستالينية البلشفية.
من المفارقات أن العديد من المنظمات اللاسلطوية التي لا يوجد فيها “قادة”، تجد نفسها في وضع مماثل للمركزية البيروقراطية. إن غياب القادة المنتخبين والخاضعين للمساءلة غالبا ما يعني وجود قادة سريين غير منتخبين وغير خاضعين للمساءلة، وهم عادة الأشخاص الأعلى صوتا والأكثر جرأة في القاعة. والقرارات تتخذ لكن لا أحد لديه الحق الديمقراطي في الطعن فيها.
“لكن البلاشفة حظروا أحزاب المعارضة!” هكذا يصيح أصدقاؤنا اللاسلطويون والليبراليون في انسجام تام بينهم. لم تكن أبدا تلك هي نية الدولة العمالية. لكن لسوء الحظ جميع الأحزاب المعارضة في السوفييتات انتقلت في نهاية المطاف إلى معسكر الجيش الأبيض أو انخرطت في هجمات إرهابية منظمة ضد العمال. لا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي أن يسمح لمن يستخدمون الوسائل الإرهابية بالجلوس داخل الجمعية التشريعية ليمرروا القوانين بهدوء. يمكن للمرء أن يتصور الموقف لو حاول تنظيم القاعدة ترشيح نائب برلماني في لندن أو لشغل منصب حاكم ولاية نيويورك.
يدافع الماركسيون عن الديمقراطية متعددة الأحزاب، لكن أي شخص يحمل قنبلة أو بندقية ضد الإرادة الديمقراطية للشعب سوف يفقد فورا حقوقه الديمقراطية، مثلما هو الحال في أي مجتمع ديمقراطي آخر. كانت المعارضة اليسارية التروتسكية، الوريثة الحقيقية للبلشفية، هي التيار الأكثر حزما في النضال من أجل الحقوق الديمقراطية. وبالتالي فقد كان أعضاؤها هم أول من تم إرسالهم إلى سيبيريا، في حين فقد تروتسكي حياته في النهاية على يد قاتل ستاليني. يفضل أعداء الثورة الروسية نسيان هؤلاء المناضلين ضد الستالينية. وتجدر الإشارة إلى أنه في الصراع بين المعارضة اليسارية التروتسكية وبين بيروقراطية ستالين، الصراع بين الديمقراطية العمالية الأممية وبين “الاشتراكية في بلد واحد”، كان تعاطف الإمبرياليين موجها إلى ستالين “العملي”.
إن الكذبة القائلة بأن البلشفية تؤدي حتما إلى الستالينية هي في الأساس مفهوم مجرد. إنها لا تخبرنا شيئا عن سبب انحطاط الثورة الروسية والأممية الشيوعية. إنها تتجاهل تخلف روسيا القيصرية والحرب الأهلية والحصار والغزو الذي قام به 21 جيشا أجنبيا وفشل الثورة في الامتداد إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة وبالتالي عزلة الثورة. لم يكن هناك شيء حتمي بخصوص الظروف التي وجد العمال الروس والمضطهَدون أنفسهم فيها. يبدو أن الليبراليين والإصلاحيين واللاسلطويين، الذين ينشرون هذه الكذبة، يعتقدون أن “البيروقراطية” هي قصور بشري جيني عوض أن يروها بكونها نتاج للعلاقات الاجتماعية. إن البيروقراطية نتيجة حتمية للخصاص. إن الحرب الأهلية والمستوى المتدني للتقنية الموروثة قد جعل من الحتمي أن تضطر الدولة العمالية الشابة إلى مواجهة الكثير من أنواع الخصاص.
هناك طريقتان لإدارة الخصاص، يقوم الرأسماليون بذلك عن طريق الرفع من أسعار السلع، بحيث أن الأغنياء وحدهم من يصير بإمكانهم الحصول عليها، لكن هذه الطريقة لا تنسجم مع الاشتراكية. عندما يكون هناك خصاص في المجتمع الاشتراكي، فإن الخيارات الوحيدة هي الطوابير والتقنين. والطريقة الوحيدة لتنظيم الطابور، لكي لا نرى القوي يدفع الآخرين جانبا، هو وضع شرطي على الخط، لكن يجب أن يحصل الشرطي على نصيبه، أو انه لن يعمل على تنظيم الأمور. هذه هي القاعدة الاقتصادية للبيروقراطية.
وهذا هو السبب في أن التقنية المتقدمة ضرورية لتحقيق اشتراكية حقيقية. لو نجحت الثورة الألمانية في 1918-1923، فإن ذلك لم يكن ليؤدي فقط إلى عدم استيلاء البيروقراطية الستالينية على السلطة، بل كان من الممكن أن تؤدي إلى انطلاق سيرورة للثورة العالمية لا يمكن مقاومتها. كانت التقنية الألمانية المتقدمة متحدة مع المواد الخام والزراعة في الإمبراطورية القيصرية السابقة ستبين ما يمكن أن يحققه الاقتصاد الاشتراكي المخطط ديمقراطيا.
إن الثورة في بلد رأسمالي متقدم مثل كندا أو بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية، لن تواجه التحديات نفسها التي واجهها الاتحاد السوفياتي. لا تعاني هذه البلدان من المستوى الثقافي المنخفض الذي كانت تعانيه روسيا في عام 1917، بل لديها ملايين من خريجي الجامعات الذين لا يستطيعون الحصول على عمل. كما أن هذه البلدان ليس لديها خصاص هائل وتقنية متخلفة، بل لديها مصانع خاملة وشركات تملك مليارات الدولارات غير المستثمرة وغير المنتجة: “المال الميت”.
واليوم تتكون ساكنة الأغلبية الساحقة من البلدان من الساكنة الحضرية والطبقة العاملة في المقام الأول. قبل عام 1945 كانت معظم البلدان فلاحية إلى حد كبير. ومستويات التعليم أعلى بكثير اليوم. وباستثناء الفئات العليا، فإن نسبة عالية من موظفي الدولة في الوقت الحالي لا يتمتعون بالامتيازات التي كان نظراؤهم يتمتعون بها في عام 1917. والموظفون اليوم هم من العمال العاديين ذوي الياقات البيضاء الذين هم في الغالب منتمون إلى النقابات وغالبا ما يخوضون الإضرابات. سيكون هؤلاء العمال أكثر من سعداء باستخدام خبرتهم من أجل الصالح العام، بدلا من إخضاع المجتمع للنهب مثل البيروقراطيين القيصريين / الستالينيين.
طرح لينين شروطا للديمقراطية العمالية: انتخاب جميع المسؤولين مع حق عزلهم، يمنع حصول أي مسؤول على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل، التناوب على أداء جميع المهام البيروقراطية، وعدم وجود أي جيش دائم يمكن استخدامه ضد الشعب. وقد أدى التخلف إلى إيقاف تطبيق هذه الشروط في الاتحاد السوفياتي، لكن الثورة اليوم لن تواجه أية مشكلة في وضعها موضع التنفيذ. وكما قال لينين: عندما يصير الجميع بيروقراطيا، لا يبقى أحد بيروقراطي. إن الستالينية ليست حتمية.
8) الشيوعية تسببت في قتل 100 مليون شخص
من افتتاحيات الصحف إلى الرسائل على شبكة الإنترنت، تمثل الكذبة القائلة بأن “الشيوعية تسببت في قتل 100 مليون شخص” الطريقة المفضلة لعرقلة كل نقاش. “أنت اشتراكي؟ 100 مليون قتيل”، “تريد الحد الأدنى للأجور؟ 100 مليون قتيل”، ” تريد الرعاية الصحية؟ 100 مليون قتيل”… إذ يستخدم اليمين هذا الافتراء المتعدد الأغراض كلما نفدت حججه!
ما هي الحقيقة؟ يستند هذا الادعاء على الكتاب الأسود للشيوعية الذي كتبه ستيفان كورتوا في عام 1998. لقد سبق أن تم فضحه على نطاق واسع بكونه منحازا وباستخدامه منهجية خاطئة ومعايير منافقة، بل حتى بعض المساهمين الرئيسيين في الكتاب انتقدوه قائلين إن كورتوا كان مهووسا بالوصول إلى عدد 100 مليون بأية وسيلة كانت، وأن هذا الرقم مستحيل.
أكثر من 90% من الوفيات التي تحدث عنها الكتاب الأسود تمت نسبتها إلى الأنظمة الستالينية أو الماوية. لقد سبق لنا أن شرحنا بالفعل كيف أن الستالينية ليست لها أية علاقة مع الماركسية الحقيقية، ونحن لا نتحمل أي مسؤولية عن الجرائم الحقيقية لتلك الأنظمة، ونشير إلى أن أول ضحايا الستالينية هم التروتسكيون الورثة الحقيقيون للبلشفية. ونجد أنه من البغيض استغلال وفاة رفاقنا من طرف الرجعيين لتلطيخ الراية التي قاتلوا تحتها.
من يتحمل مسؤولية القتلى الذين سقطوا خلال الحرب الأهلية الروسية؟ هل كانت الحرب الأهلية خطأ جماهير العمال والفلاحين، أي غالبية السكان، الذين كانوا يريدون إنهاء الحرب العالمية الأولى والأرض للفلاحين وتقرير المصير للقوميات المضطهدة والاشتراكية؟ أم أنها خطأ الجنرالات البيض وكبار ملاكي الأراضي والرأسماليين والملكيين، و21 جيشا أجنبيا غازيا، والذين لم يتقبلوا رغبات الأغلبية؟ من يكون المخطئ عندما يقوم اللصوص بمهاجمة منزل، مما أدى إلى حدوث وفيات على كلا الجانبين؟ يجيب الرجعيون بأن أصحاب المنزل هم من يتحمل المسؤولية لأنه لم يكن ليصاب أحدا بأذى لو أنهم فقط استسلموا. ويمكن للمرء أن يلقي اللوم على أبراهام لينكولن بسبب كل تلك الوفيات التي حدثت خلال الحرب الأهلية الأمريكية التي حررت العبيد. خاصة وأنه من الناحية النسبية، بالنظر إلى عدد السكان، قد قتل عدد مماثل في كلا الحربين.
حتى الهجمات على الستالينيين نفاق. فعلى سبيل المثال يحمل الكتاب الاتحاد السوفياتي مسؤولية مقتل 1,5 مليون شخص في أفغانستان، أي عمليا جميع الوفيات التي حدثت في ظل النظام الصديق للاتحاد السوفياتي. لكنه ينسى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) قد سلحت ومولت تمرد المجاهدين بقاذفات الصواريخ وغيرها من الأسلحة المتقدمة ليشنوا حرب عصابات طويلة. كما أنه ينسى أن هؤلاء المجاهدين قد ضموا “مقاتلين من أجل الحرية” من أمثال أسامة بن لادن، وغيروا اسمهم إلى طالبان في التسعينات. إذن من الذي كان مسؤولا عن تلك الوفيات؟
ومن بين الأحداث التي كثيرا ما يتم ربطها بـ 100 مليون قتيل، المجاعة السوفياتية ما بين 1932 و1933، أو ما يسمى هولودومور. يسرد الكتاب الأسود 4 ملايين قتيل في أوكرانيا ومليونين آخرين في بقية الاتحاد السوفياتي. يصنف النظام الأوكراني القومي اليميني هذه المجاعة بكونها إبادة جماعية، وغالبا ما يتم استغلالها لأغراض سياسية لدعم القضية القومية.
إن الماركسيين هم آخر من يعذر الستالينيين عن هذه المجاعة، التي كانت نتيجة لسياسة التجميع القسري الإجرامية التي طبقها ستالين. سبق لتروتسكي أن قام بتحليل ذلك في تحفته ضد الستالينية: “الثورة المغدورة”. ومع ذلك فإننا لا نقبل دور الضحية الذي يلعبه القوميون الأوكرانيون المناهضون للشيوعية. الحقيقة هي أنه خلال العشرينات من القرن الماضي استند ستالين إلى الفلاحين الأغنياء (الكولاك)، الذين استفادوا من السياسة الاقتصادية الجديدة، لإلحاق الهزيمة بالمعارضة اليسارية التروتسكية. كانت المعارضة اليسارية تدعو إلى تطبيق سياسة تجميع طوعي للأراضي من أجل تثقيف الفلاحين بمزايا الاشتراكية.
لكن وبمجرد هزيمة التيار البروليتاري التروتسكي صار الكولاك يهددون بالعودة إلى الرأسمالية، مما كان يعرض امتيازات البيروقراطية للخطر. فقام ستالين بشقلبة بـ 180 درجة وتحول ضد الكولاك. وبدلا من التجميع الطوعي، قام بتطبيق التجميع القسري، بهدف “تصفية الكولاك كطبقة”. وقد أدت تلك السياسة المجنونة إلى قيام الفلاحين الأغنياء باستهلاك البذور بدلا من زراعتها، والقضاء على الثروة الحيوانية، مما أدى إلى حدوث المجاعة. واجهت أوكرانيا أثرا أكثر حدة لأنها كانت سلة طعام الإمبراطورية القيصرية. لكن كان للمجاعة أيضا تأثير كبير خارج أوكرانيا. وفي حين أن الوقائع لا تدعم الادعاء القومي القائل بالإبادة الجماعية، فإن التروتسكيين كانوا هم الذين ناضلوا ضد هذه المجاعة منذ البداية.
ومن شأن منهجية النفاق التي اتبعها الكتاب الأسود أن تؤدي إلى أرقام ترقى إلى المليارات لو طبقت على الرأسمالية. وقد قام ناعوم تشومسكي، الذي لا يؤيد الستالينية أو الماوية، بإجراء هذا التحليل لمقارنة الهند مع الصين. فبفعل انخفاض حدة التفاوت وبفضل التوزيع الأفضل للموارد الطبية في ظل الاقتصاد الصيني المخطط، بلغ عدد الوفيات الزائدة في الهند وحدها 100 مليون وفاة بحلول عام 1979. ثم ماذا عن تصفية السكان الأصليين في أمريكا الشمالية والجنوبية؟ وتجارة العبيد الرأسمالية في أفريقيا؟ وجرائم الإمبريالية على الصعيد العالمي؟
وينستون تشرشل نفسه يتحمل مسؤولية رئيسية في مجاعة البنغال عام 1943، حيث توفي الملايين. أثناء المجاعة كانت الهند، الخاضعة آنذاك لبريطانيا، تصدر الغذاء. وقد نقل عن تشرشل قوله: «إنني اكره الهنود، إنهم شعب متوحش ولديهم ديانة متوحشة». هذا ناهيك عن مئات الملايين الذين يموتون في الحروب من أجل الربح والاعتبارات الإستراتيجية الإمبريالية. لقد وقعت أكثر من نصف مليون حالة وفاة في العراق وحده، بالإضافة إلى قتلى الحروب العالمية والحروب “الصغيرة” المتواصلة.
وفي شهر مارس من هذا العام، قدرت اليونيسيف أن 600 مليون طفل يواجهون الموت والمرض وسوء التغذية بحلول عام 2040 إذا استمرت الاتجاهات الحالية. وفي تقارير سابقة شرحت بالتفصيل كيف يموت ملايين الأطفال كل عام بسبب أمراض يمكن تفاديها، في حين أن 8 من أغنياء العالم يمتلكون ثروة تعادل ما يملكه بقية سكان الكوكب جميعا. وبهذا المقياس فإن الرأسمالية والإمبريالية والاستعمار قد أنتجوا مكتبة كاملة من “الكتب السوداء”. لقد حان الوقت لكي تطوي البشرية صفحة هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يقطر بالدم من كل مسامه.
9) سقوط الاتحاد السوفياتي يثبت أن البشر رأسماليون بطبعهم
بالنظر إلى الوضع الحالي المتميز بالأزمة الطويلة الأمد التي يعرفها الاقتصاد العالمي، من المضحك جدا دفاع اليمين عن الرأسمالية باعتبارها امتدادا “طبيعيا” للحالة الإنسانية. إن الرأسمالية كنظام اجتماعي لم تكن موجودة إلا لمدة مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة، في حين أن الإنسان العاقل (الأوموسابيان)، كنوع، موجود منذ مئات آلاف السنين. هل من المفترض بنا أن نؤمن بأن البشرية لم تكن على “طبيعتها” طيلة مدة 99,9% من وجودها؟
لقد أجابت أعمال أخرى على هذا السؤال من وجهة نظر فلسفية وعلمية أعم، لذلك لن نكرر تلك التفسيرات هنا. الحجة الأساسية لليمين هي أن سقوط الاتحاد السوفياتي راجع لكون البشر أنانيون بطبعهم، وسوف يسقطون في الكسل إذا لم يكونوا مهددين بالطرد والجوع لتحفيزهم على العمل. هذا ادعاء آخر غير مؤكد وخارج الزمان والمكان ولا علاقة له بالواقع.
لقد حقق شعب الاتحاد السوفياتي، الذي انطلق من مستوى منخفض جدا، أشياء مذهلة. وذلك كله على الرغم من سوء الإدارة من طرف البيروقراطية الستالينية. لقد عمل الناس بجد في ظل الاتحاد السوفياتي الذي كان لديه عددا من الأطباء والعلماء والمهندسين أكبر مما كان لدى البلدان الرأسمالية، سواء من حيث القيمة المطلقة أو النسبية، وذلك بفضل الاقتصاد المخطط. ما بين 1913 و1963، ارتفعت إنتاجية العمل في بريطانيا 73%، و332% في الولايات المتحدة، بينما ارتفعت في الاتحاد السوفياتي بـ 1310%. وتجاوزت معدلات النمو السنوية 10% خلال تلك الفترة، في حين واجهت الرأسمالية الأزمة الاقتصادية الكبرى.
كان عدد الأطباء في الاتحاد السوفياتي هو 205 طبيب لكل 100.000 نسمة، مقابل 170 في إيطاليا والنمسا و150 في أمريكا و144 في ألمانيا الغربية و110 في بريطانيا وفرنسا وهولندا و101 في السويد. وفي عام 1970 كان هناك 257.000 خريج هندسة في الاتحاد السوفياتي، مقارنة مع 50.000 في الولايات المتحدة. وقد نتج عن ذلك العديد من الاكتشافات الرائدة وجوائز نوبل والرفاه العام. إنه افتراء خبيث على شعب الاتحاد السوفياتي الرائع أن يقال عنه إن الستالينية سقطت بسبب غباءه أو كسله.
لكن لماذا انهار الاتحاد السوفياتي إذا كان الناس يعملون بجد وكانوا أذكياء جدا؟ يقع اللوم على البيروقراطية الستالينية. لقد أوضح تروتسكي أن الاقتصاد الاشتراكي المخطط يحتاج إلى الديمقراطية مثلما يحتاج جسم الإنسان إلى الأكسجين. تحت الرأسمالية يكون السوق هو الضمانة ضد انعدام الكفاءة، فإذا كانت هناك شركة تشتغل بشكل غير كفئ، فإنها سوف تفلس وتختفي. أما في ظل اقتصاد مخطط بشكل سليم فإن الضمانة ضد عدم الكفاءة هي الرقابة والمشاركة الديمقراطية للعمال أنفسهم. إذا رأى العمال عدم الكفاءة سيحلون المشكلة وإذا ما رأوا طريقة أكثر كفاءة للقيام بالأشياء فسيقومون باتخاذها. لكن مثل هذه الإدارة الديمقراطية من قبل العمال كانت ممقوتة من طرف البيروقراطية الستالينية التي لم يكن يمكنها أن تسمح لأي شيء أن يخرج عن سيطرتها الاستبدادية المطلقة.
خلال السنوات الأولى للاتحاد السوفياتي كان في مقدور خمسين بيروقراطيا في موسكو التخطيط للتصنيع الأساسي، لكن بتكلفة أعلى بكثير مما كان سيحدث في ظل الديمقراطية العمالية. لكن ابتداء من منتصف الستينيات فصاعدا، بدأت معدلات النمو في الانخفاض ثم حدث الركود خلال السبعينيات. كان الاقتصاد قد أصبح أكثر تعقيدا من أن يبقى تحت سيطرة التخطيط البيروقراطي. فانتقل الثقل الهائل الناتج عن سوء الإدارة البيروقراطية والمحسوبية والفساد وعدم الكفاءة، من عائق نسبي للاقتصاد المخطط إلى عائق مطلق.
فانخفضت الحصص من أعلى مستوى بحيث صار من غير الممكن إكمالها دون التضحية بالجودة. فارتفع الاقتصاد الرمادي والأسود لسد الثغرات التي خلقها تبذير وغباء البيروقراطية. أشار ذلك الواقع الاقتصادي على مدى عقدين إلى تراجع الأنظمة الستالينية ثم انهيارها. لقد حاولوا كل شيء تقريبا لجعل الأمور تتحرك لكن بدون جدوى. والشيء الوحيد الذي لم يحاولوا القيام به أبدا هو الانتقال إلى الديمقراطية العمالية خوفا من فقدان السيطرة. ولذلك كبحت الإمكانات الإبداعية الضخمة للطبقة العاملة السوفيتية.
وعوض الانتقال إلى نظام الرقابة العمالية والاقتصاد الاشتراكي المخطط ديمقراطيا، قرر البيروقراطيون أن يتحولوا إلى رأسماليين على حساب بقية سكان الاتحاد السوفياتي. تم وضع كل شيء على طاولة المزاد بأسعار هزيلة مما مهد الطريق لصعود الأوليغارشية الروسية الحالية. لو كانت الرأسمالية نظاما أكثر طبيعية بكثير من الاشتراكية، لكانت هذه “العودة إلى الطبيعة” ستؤدي بالتأكيد إلى حدوث قفزة إلى الأمام للقوى المنتجة. لكن العودة إلى الرأسمالية كانت كارثة قاسية. حدث انخفاض بنسبة 60% في الناتج المحلي الإجمالي وتراجع متوسط العمر المتوقع بـ 15 عاما، وعادت جميع العلل الاجتماعية للرأسمالية بشكل حاد: إدمان الكحول والبغاء والإفراط في استعمال المخدرات والجريمة المنظمة وما إلى ذلك، كما أن وضع المرأة تراجع بشدة. هذا هو إرث الرأسمالية.
يمكن للاقتصاد المخطط ديمقراطيا أن يطلق العنان للإمكانيات المدهشة التي تتمتع بها الطبقة العاملة والتي تقمعها الرأسمالية والستالينية عمدا. في معاهد إدارة الأعمال يتم تدريس الطلاب أن العمال مجرد آلات في حين أن منبع المعرفة والإلهام يتدفق ممن يسمون “قادة الصناعة”. لكن في العالم الحقيقي نرى أن هؤلاء الرجال والنساء ذوي البذلات الأنيقة هم من تسببوا في الإفلاس والركود وتسريح العمال، في حين ما يزالون يجمعون المليارات على شكل علاوات.
إن العمال في الميدان هم الذين يفهمون حقا كيف يتم تشغيل الأشياء وكيفية تحسين الأمور. والإدارة هي التي تعرقل الإنتاج عن طريق فرض انقسامات غير ذات جدوى بين العمال ووضعهم ضد بعضهم البعض. وإذا كانت لدى العامل فكرة جيدة في ظل الرأسمالية، فإن المدير سيسرقها ويطبقها، ومن ثم سيخفض عدد العمال بسبب زيادة الكفاءة. لا يوجد حافز لدى العمال لكي يقدموا إضافاتهم عندما يكونون مستلبين خلال عملية الإنتاج. أما في المجتمع الاشتراكي، عندما يقدم العمال إضافة، ستذهب مساهمته لزيادة وقت الراحة أو لتحسين مجتمعهم. تتفق الرأسمالية والستالينية في الاعتقاد بأن الغالبية العظمى من البشرية لا طائل منها وغبية. أما الماركسيون فيعتقدون أن الأغلبية الساحقة لديها الكثير للمساهمة به في المجتمع، وأن الإدارة أو البيروقراطية عديمة الفائدة تفرض نظاما غبيا غير طبيعي.
10) لم تحقق الثورة الروسية شيئا
يقولون إن الثورة الروسية لم تحقق شيئا! لماذا إذن تنفق الأقلام المأجورة للرأسماليين والمصرفيين الكثير من الوقت لقول هذا؟ أي شخص يفكر في الأمور بموضوعية في مقدوره أن يرى زيف هذا الادعاء. ثم إذا لم تكن الثورة قد حققت أي شيء، فلماذا ما تزال البرجوازية تعتبر تجربة أكتوبر بمثابة تهديد؟ لدينا في روسيا بلد انتقل من كونه أكثر تخلفا من معظم المناطق الريفية في باكستان، ليصير القوة العظمى الثانية في العالم. ومع ذلك يقال لنا إنه ليس هناك شيء إيجابي لنتعلمه من تجربة الاتحاد السوفياتي. يا لها من كذبة وقحة!
لقد سبق لنا أن أشرنا إلى بعض أشكال التقدم التقني والاقتصادي المدهشة التي حققها الاقتصاد السوفياتي المخطط، على الرغم من الأغلال البيروقراطية الستالينية. ويمكننا إضافة أمثلة أكثر: بعد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، الذي اعتمد سياسة “الأرض المحروقة”، تمكن الاقتصاد المخطط من النهوض مجددا دون مشروع مارشال أو أي مساعدات من الخارج. ارتفع الناتج الداخلي القومي السوفياتي 570% ما بين 1945 و1964، مقارنة مع 55% في الولايات المتحدة التي لم تكن قد تضررت من الحرب. وطيلة تلك الفترة لم يكن أحد يستطيع منافسة تكنولوجيا الفضاء السوفياتية. كان سبوتنيك أول قمر صناعي وكان يوري غاغارين أول إنسان يخرج إلى الفضاء.
ومن بين أهم إنجازات الاتحاد السوفياتي هزيمته لألمانيا النازية، التي كان كامل إنتاج أوروبا تحت تصرفها. لا يتم تدريس هذا في المدارس الغربية، ولكن 90% من المعارك والقتلى خلال الحرب العالمية الثانية كانوا على الجبهة الشرقية. وقد قتل 27 مليون مواطن سوفياتي على أيدي جيوش هتلر.
كانت خطة تشرشل وروزفلت في الأصل هي ترك ألمانيا وروسيا تستنزفان بعضهما البعض، ثم يقومان بعدها بكنس البقايا. لهذا السبب لم يفتحا الجبهة الغربية إلا عام 1944. ما تزال معركة كورسك أكبر معركة دبابات في تاريخ البشرية، وبمجرد أن تعرض الجيش الألماني للهزيمة في ستالينغراد، سجل الجيش الأحمر واحدة من أسرع حملات التقدم في تاريخ البشرية. وقد سمح الاقتصاد المخطط للاتحاد السوفييتي بتجاوز جميع دول أوروبا الرأسمالية من حيث الإنتاج. كانت القوات السوفياتية هي من أطلق سراح اليهود المسجونين في معسكرات الاعتقال، وكانت هي من حرر أوروبا الشرقية ورفع العلم الأحمر على الرايخستاغ. لو لم يفتح البريطانيون والأميركيون الجبهة الغربية لكانوا سيلتقون بالجيش الأحمر في القناة الإنجليزية وليس في ألمانيا. قبل إنزال النورماندي، كان الجهد الرئيسي للحلفاء مركزا بعيدا عن المسرح الرئيسي للمعارك، يعملون على تأمين مستعمراتهم في أفريقيا أو المحيط الهادئ.
لم تكن مكاسب الثورة اقتصادية فحسب، بل كانت اجتماعية أيضا. ففي حين أن النساء في بريطانيا لم يحصلن على الحق في التصويت إلا عام 1928، فقد حققت النساء في الاتحاد السوفيتي المساواة القانونية الكاملة منذ عام 1918. وفي كندا لم تكن النساء تعتبرن من الناحية القانونية “أشخاصا” حتى عام 1929! وأصبح قانون الأسرة السوفياتية محايدا بين الجنسين، وأصبحت المثلية الجنسية مشروعة قبل نصف قرن من الغرب الرأسمالي. وعلى سبيل المثال اتخذ تروتسكي اسم زوجته ولم ير أحد أن ذلك أمر غير عادي. وجرى أيضا تشريع الإجهاض. مع الأسف قضت الثورة المضادة الستالينية على الكثير من هذه المكتسبات، لكن وعلى الرغم من التراجع الذي حدث في الثلاثينيات من القرن العشرين، فبحلول عام 1970 كانت قد تحققت المساواة بين الجنسين بين الطلاب المقبولين بالجامعة، وصار عدد الطالبات أكبر مما هو موجود في معظم البلدان الرأسمالية. وفر الاتحاد السوفياتي التعليم والرعاية الصحية ورعاية الأطفال بالمجان، وهو أمر لم تتمكن الولايات المتحدة أبدا من تحقيقه. وليس من المستغرب أن قفز متوسط العمر المتوقع للإناث من 30 سنة في عام 1927 إلى 74 سنة في عام 1970 وانخفض معدل وفيات الرضع بنسبة 90%.
ازدهرت الثقافة السوفيتية والعلوم خلال العشرينيات. كان هناك ازدهار لا يصدق للفنون بعد الثورة. قاد إيزنشتاين الطريق بكلاسيكياته السينمائية الرائعة، وأدخل شوستاكوفيتش، وغيره من الفنانين، تغييرا ثوريا على السيمفونية، وما زال باليه بولشوي شهيرا حتى يومنا هذا. كما أصبح الاتحاد السوفياتي مهيمنا على الألعاب الاولمبية. العلوم النظرية بدورها شهدت تقدما هائلا. عمل ثيودور دوبزانسكي على التوليف بين الانتقاء الطبيعي الدارويني وبين علم الوراثة عند مندل (Gregor Mendel). لكن مع الأسف تم وقف ذلك بطريقة مأساوية من خلال ما أطلق عليه الواقعية الاشتراكية في الفنون، واللِّيسينكووية (Lysenkoism)[2] في علم الأحياء. لم تكن البيروقراطية الستالينية أبدا تستطيع السماح بالحرية الكاملة للشباب في الثقافة الشعبية، وقد حاولت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) استخدام الرولينغ ستونز والبيتلز ضد الثورة. لكن وعلى الرغم من الرقابة الستالينية، فإن الفنون الكلاسيكية السوفياتية ظلت لا يعلى عليها.
لقد أنتجت الثورة البلشفية المعجزات، وذلك على الرغم من التخلف المادي والاجتماعي والثقافي والهجمات والتخريب من الداخل والخارج. تخيلوا فقط ما الذي يمكن للعمال والشباب اليوم أن يحققوه مع مستوى أعلى بكثير من الثقافة والتعليم. إن ما يضعف المجتمع هو الإنتاج من أجل الربح ونمط الإنتاج الرأسمالي. والمجتمع حاليا في طريق مسدود وهو ينتقل من أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية إلى أخرى. نحن بحاجة إلى تحطيم هذه الأغلال من أجل تحرير إمكانات الإنسانية.
كتب جون ريد رائعته “العشرة أيام التي هزت العالم”، حيث قدم تقريرا نابضا بالحياة عن أحداث عام 1917. وقد حاولنا في هذه المقالة الرد على عشرة من أكثر الأكاذيب التي تهدف إلى الحفاظ على الوضع الراهن. قال لينين ذات مرة إن القوة المحركة للتاريخ هي الحقيقة وليس الأكاذيب، وفي مكان آخر قال إن الماركسية قوية لأنها علمية.
إن التيار الثوري ليس بحاجة إلى الأكاذيب: ما حاجتنا إلى خداع أنفسنا بخصوص الواقع؟ تهدف الماركسية إلى التوصل إلى فهم علمي وكامل للظروف الاجتماعية، حتى نكون في وضع أفضل لتغييرها، فإذا كنا نكذب على أنفسنا لن نزيد سوى من صعوبة هذه المهمة. ولحسن الحظ فقد بدأ عدد متزايد من العمال، وخاصة الشباب، يكتشفون الأكاذيب التي تحافظ على اللامساواة الرأسمالية. ما تزال الثورة الروسية تمثل حتى يومنا هذا أعظم مثال عن كيف يمكن للمستغَلين والمضطهَدين تحقيق تحررهم. ليس هناك من تهديد للوضع الراهن أكبر من أفكار البلشفية وتجربة الثورة الروسية. ونأمل أن تساعد هذه المساهمة العمال والشباب على إيجاد الإجابات التي يحتاجونها للرد على مزاعم الرجعيين وصنع ثورة أكتوبر جديدة، بعد 100 سنة، لكن هذه المرة على مستوى أعلى بكثير.
هوامش:
1: الهولودومور، كلمة ذات أصل أوكراني وتعني القتل بواسطة التجويع. المترجم.
2: مذهب في التطوّر العضوي وضعه، حوالي العام 1930 م، العالم البيولوجي السوفياتي تروفيم ليسينكو، وهو يُنكر وجود المورِّثات، والهرمونات النباتية، ودَور الصِّبغيات المتخصّص، ويقول بمبدأ أساسي هو “الوحدة بين المتعضّي وبيئته”، مؤكداً أن جميع أجزاء المتعضّي تُسْهم في ما ندعوه الوراثة، وأن في إمكان البيئة أن تتحكّم في هذه الوراثة. المترجم