الرئيسية / لينين وتروتسكي- ما هي مواقفهما الحقيقية / الفصل الثالث: من تاريخ البلشفية (الجزء الثاني)

الفصل الثالث: من تاريخ البلشفية (الجزء الثاني)

تطور تيار البلشفية واتخذ شكله على أساس تجربة ثورة 1905 التي وصفها لينين بكونها “تحضير لثورة أكتوبر”. لكن مونتي جونستون ليس لديه ما يقوله عن كامل المرحلة الفاصلة بين مؤتمر لندن سنة 1903 حتى فترة 1910-1912. يبدو من الواضح أنه لم يحدث خلالها شيء كبير في روسيا! إن صمت جونستون ليس من قبيل الصدفة. فبحذفه لتجربة 1905 ومحاولات إعادة توحيد الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي التي تلت ذلك، يعمق الانطباع الزائف، الذي سبق له أن خلقه بالفعل، حول أنه طوال مرحلة بأكملها (ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة…) وقف البلاشفة والمناشفة في قطبين متناقضين ثابتين – بينما استمر تروتسكي، بطبيعة الحال، “خارج الحزب”.

تروتسكي في عام 1905

ما هو الدور الذي لعبه تروتسكي في ثورة 1905، وما هي علاقته بلينين والبلاشفة آنذاك؟ لوناتشارسكي، الذي كان في ذلك الوقت واحدا من أقرب مساعدي لينين، كتب في مذكراته قائلا:

«علي أن أقول أن تروتسكي برهن، رغم صغر سنه، من دون شك، انه كان الأفضل استعدادا من بين جميع القادة الاشتراكيين الديمقراطيين الآخرين في 1905-1906. وكان أقلهم عرضة لذلك النوع من ضيق أفق المهاجرين. لقد فهم تروتسكي على نحو أفضل من جميع الآخرين معنى خوض الصراع على المستوى الوطني الشامل. وخرج من الثورة مسلحا بشعبية هائلة، بينما لم يكتسب لينين أو مارتوف أية شعبية على الإطلاق. أما بليخانوف، فقد خسر كثيرا بسبب إبدائه ميولا مشابهة للكاديت [أي اللبراليين]. لقد وقف تروتسكي آنذاك في مقدمة الصف الأول». (Revolutionary Silhouettes, page 61)

كان تروتسكي رئيس مجلس سوفييت بطرسبرغ لنواب العمال، الذي كان في مقدمة تلك الهيئات التي وصفها لينين بأنها “الأجهزة الجنينية للسلطة الثورية”. كانت معظم البيانات السياسية وقرارات مجلس السوفييت من تأليف تروتسكي، الذي حرر أيضا جريدة مجلس السوفييت ازفستيا. عجز البلاشفة، في بطرسبورغ، عن تقدير أهمية السوفييت، وكانت تمثيليتهم فيه ضعيفة. وقد كتب لينين، من منفاه في السويد، إلى مجلة “نوفايا جيزن” البلشفية، يحث البلاشفة على اتخاذ موقف أكثر إيجابية من السوفييتات، لكن الرسالة لم تنشر، ولم تر النور إلا في وقت لاحق، بعد أربعة وثلاثين عاما.

لقد تكرر هذا الوضع عند كل منعطف كبير في تاريخ الثورة الروسية؛ نفس الارتباك والتردد من طرف قادة الحزب داخل روسيا، عندما تواجههم ضرورة اتخاذ مبادرة جريئة، لولا قيادة لينين.

سيتم التطرق للموقف السياسي لتروتسكي وعلاقته مع أفكار لينين بشكل مفصل في الفصل المخصص لنظرية الثورة الدائمة. كان جوهر المسألة هو موقف الحركة الثورية من البرجوازية ومما يسمى بالأحزاب “الليبرالية”. كانت هذه هي المسألة التي دفعت تروتسكي للقطع مع المناشفة عام 1904. فمثله مثل لينين، صب تروتسكي جام غضبه على نزعة التعاون الطبقي لدان وبليخانوف وغيرهما، وأشار إلى البروليتاريا والفلاحين باعتبارهما القوى الوحيدة القادرة على إنجاز الثورة حتى النهاية.

في عام 1905، استخدم تروتسكي جريدة “ناشالو”، التي كانت توزع على نطاق واسع، للمزيد من توضيح وجهة نظره للثورة، والتي كانت قريبة من وجهة نظر البلاشفة ومعارضة بشكل مباشر لوجهة نظر المناشفة. فكان من الطبيعي، على الرغم من النزاع المرير خلال المؤتمر الثاني، أن يلتقي نضال البلاشفة ونضال تروتسكي في الثورة. وهكذا، عملت جريدة تروتسكي “ناشالو” وجريدة البلاشفة “نوفايا جيزن”، التي كان لينين رئيس تحريرها، بتضامن ودعما بعضهما البعض ضد هجمات الرجعية، ودون شك الجدال ضد بعضهما البعض. وقد زفت الجريدة البلشفية العدد الأول من جريدة “ناشالو” على النحو التالي:

«لقد صدر العدد الأول من جريدة ناشالو. ونحن نرحب برفيق لنا في النضال. يتميز العدد الأول بالوصف الرائع لإضراب أكتوبر الذي كتبه الرفيق تروتسكي».

يتذكر لوناتشارسكي أنه عندما أخبر أحدهم لينين بنجاحات تروتسكي في السوفييت، «اكفهر وجهه للحظة، ثم قال: “حسنا، لقد كسب الرفيق تروتسكي ذلك بفضل عمله الدؤوب والمثير للإعجاب”».

أعطى تقدم الثورة دفعة هائلة لحركة توحيد قوى الماركسية الروسية. لقد خاض العمال البلاشفة والمناشفة النضال جنبا إلى جنب تحت نفس الشعارات؛ ولجان الحزب المتنافسة اندمجت تلقائيا. أخيرا، وبناء على اقتراح من اللجنة المركزية البلشفية، بمن فيها لينين، بدأت التحركات على قدم وساق لتحقيق إعادة التوحيد. كان تروتسكي يدعو باستمرار إلى إعادة التوحيد في جريدته “ناشالو”، وحاول أن يبقى بعيدا عن الصراع بين التيارين، لكنه اعتقل وسجن بسبب دوره في السوفييت قبل عقد المؤتمر الرابع (التوحيدي) في ستوكهولم.

انعقد المؤتمر في مايو 1906، لكن المد الثوري كان قد بدأ في الانحسار، ومعه انحسرت الروح القتالية والخطابات “اليسارية” للمناشفة. كان بليخانوف قد بدء بالفعل يتحسر على العمل الجماهيري “السابق لأوانه” وأطلق عبارته الشهيرة: “لم يكن ينبغي عليهم حمل السلاح”. كان الصراع حتميا بين الثوريين المنسجمين وبين أولئك الذين كانوا قد بدأوا بالفعل في التخلي عن الجماهير وصاروا يتكيفون مع الردة الرجعية.

مؤتمر ستوكهولم

كانت النقاط الرئيسية الموضوعة للنقاش بين البلاشفة والمناشفة في مؤتمر ستوكهولم هي:

  1. المسألة الزراعية
  2. الموقف من الأحزاب البرجوازية
  3. الموقف من النزعة البرلمانية
  4. مسألة الانتفاضة المسلحة

ندد بليخانوف، المدافع عن شعار المناشفة الانتهازي المرعوب، بخطة لينين لتعبئة الفلاحين من أجل تأميم الأراضي باعتبارها “خطيرة… بالنظر لإمكانية الردة (restoration)”. وقد لخص موقف المناشفة من الاستيلاء على السلطة من جانب العمال والفلاحين بهذه الكلمات:

«إن الاستيلاء على السلطة إلزامي بالنسبة لنا عندما نقوم بثورة بروليتارية، لكن وبما أن الثورة الوشيكة الآن لا يمكنها أن تكون إلا ثورة برجوازية صغيرة، فإنه من واجبنا رفض الاستيلاء على السلطة». (التشديد من عندنا)

كانت تلك هي حجة المناشفة عام 1907. كانت الثورة ثورة برجوازية؛ وكانت مهامها برجوازية ديمقراطية؛ وشروط الاشتراكية غائبة في روسيا. ومن تم فإن أي محاولة من جانب العمال للاستيلاء على السلطة تمثل مغامرة؛ إن مهمة العمال هي السعي إلى تشكيل تحالف مع الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، لمساعدتهم على القيام بالثورة البورجوازية.

ماذا كان رد لينين على بليخانوف؟ إن لينين لم يحاول أن ينكر أن الثورة كانت برجوازية ديمقراطية، وبالتأكيد ليست هناك إمكانية لبناء الاشتراكية في روسيا وحدها. كان جميع الماركسيين الروس، المناشفة ولينين وتروتسكي، على اتفاق حول هذه المسائل. لقد كان القول بغياب الشروط اللازمة للتحول الاشتراكي في روسيا من أبجديات الماركسية، لكن تلك الشروط قد نضجت في الغرب. وردا على تحذيرات بليخانوف القاتمة من “خطر الردة” أوضح لينين:

«إذا كنا نقصد ضمانة اقتصادية حقيقية، وفعالة تماما، ضد الردة، أي ضمانة من شأنها أن تخلق الظروف الاقتصادية للحيلولة دون الردة، فإنه يجب علينا أن نقول: إن الضمانة الوحيدة ضد الردة هي الثورة الاشتراكية في الغرب. لا يمكن أن تكون هناك أي ضمانة أخرى بالمعنى الكامل للمصطلح. بدون هذا الشرط، فأيما طريقة أخرى تم بها حل المشكلة (وضع الأرض تحت رقابة البلدية، أو التقسيم، الخ) فإن الردة لن تكون ممكنة فحسب، بل حتمية.» (الأعمال الكاملة، المجلد 10، الصفحة 280، [الطبعة الانجليزية*] التشديد من عندنا)

وهكذا ومنذ البداية تصور لينين الثورة الروسية تمهيدا للثورة الاشتراكية في الغرب. لقد ربط مصير الثورة الروسية بصلة لا تنفصم بالثورة الاشتراكية الأممية، والتي بدونها ستتعرض حتما لردة داخلية:

«أود صياغة هذا الاقتراح على النحو التالي: يمكن للثورة الروسية تحقيق النصر بجهودها الخاصة، لكنها لا تستطيع ربما الاحتفاظ بمكاسبها وتعزيزها بقوتها الخاصة. لا يمكنها أن تفعل ذلك ما لم تحدث ثورة اشتراكية في الغرب. بدون هذا الشرط تصير الردة أمرا لا مفر منه، سواء وضعنا الأرض تحت رقابة البلدية، أو قمنا بالتأميم، أو بالتقسيم؛ لأنه في ظل أي شكل، وكل شكل، من أشكال الملكية والحيازة سيكون المالك الصغير دائما حصنا للردة. بعد الانتصار الكامل للثورة الديمقراطية سيتحول المالك الصغير حتما ضد البروليتاريا، وكلما تسرع إسقاط الأعداء المشتركين للبروليتاريا ولصغار الملاك، مثل الرأسماليين، والملاكين العقاريين، والبرجوازية المالية، الخ سريعا، كلما تسرع حدوث ذلك. ليس لجمهوريتنا الديمقراطية أي احتياطي دعم غير البروليتاريا الاشتراكية في الغرب». (المرجع نفسه، التشديد من عندنا)

لقد اقتبسنا كلام لينين بشكل كامل، بحيث لا تكون هناك أي شبهة للتحريف، ولا أي اتهام من مونتي جونستون لنا بأننا ننقل عن تروتسكي، وليس عن لينين. لأن قارئ مقال مونتي جونستون لن يستنتج سوى أن لينين يتحدث هنا بلغة “التروتسكية” المحضة. انه ينفي احتمال، ليس فقط “بناء الاشتراكية” في روسيا وحدها، بل حتى الحفاظ على مكاسب الثورة البرجوازية الديمقراطية، دون الثورة الاشتراكية في الغرب. انه “يقلل من دور الفلاحين” من خلال قوله إن صغار الملاكين يشكلون حصنا منيعا للردة، وسيتحولون حتما ضد العمال، بمجرد استكمال مهام الثورة الديمقراطية.

لكن كلا! لم يأخذ لينين هذه الأفكار من كتب تروتسكي حول الثورة الدائمة، التي لم يسبق له أن قرأها، كما أن تروتسكي نفسه كان في السجن خلال فترة المؤتمر. إن الأفكار التي أعرب عنها لينين كانت أبجديات الماركسية، كانت المبادئ الأساسية للأممية البروليتارية والصراع الطبقي، التي دافع عنها ضد التشويهات الانتهازية للماركسي “المثقف” بليخانوف. “هذه ليست الماركسية، بل اللينينية” هكذا صاح المناشفة ساخرين في عام 1906. هذه ليست “اللينينية”، بل “التروتسكية”، يكتب مونتي جونستون في عام 1968. سموها ما شئتم أيها السادة، فبالنسبة للماركسي لا يتغير جوهر الشيء بمجرد تغيير اسمه.

وردا على الحجة القائلة بأنه يجب على الاشتراكية الديمقراطية ألا تخيف حلفاءها البرجوازيين “التقدميين”، قال لينين:

«يظهر هذا بصورة أكثر وضوحا الخطأ الجوهري للمناشفة، إنهم لا يرون أن البرجوازية معادية للثورة، وأنها تسعى عمدا إلى عقد مساومة». (المرجع نفسه، الصفحة 289، التشديد من عندنا)

كانت هذه هي النقطة الرئيسية لنضال لينين ضد المناشفة طوال المرحلة اللاحقة: ضرورة الحفاظ على الحركة العمالية الثورية بعيدا عن الانجرار إلى تحالفات مع البرجوازية وأحزابها؛ الإصرار على أن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة الثورية حقا في المجتمع، وأنها الطبقة الوحيدة القادرة على القضاء على النظام القيصري، ضد البرجوازية إذا لزم الأمر:

«الضمانة الشرطية والنسبية الوحيدة ضد الردة هي أن يتم القيام بالثورة بالطريقة الأكثر جذرية، وأن تنفذ مباشرة من قبل الطبقة الثورية، مع أقل قدر ممكن من مشاركة أصحاب الحلول الوسطى والمساومين وكل أنواع التوفيقيين: هي أن يتم إنجاز هذه الثورة حتى النهاية حقا». (المرجع نفسه، ص 281)

وواصل لينين انتقاد المناشفة بسبب بلاهتهم البرلمانية، ومبالغتهم في تقدير إمكانيات استفادة الماركسيين من البرلمان. وجه نقدا حادا لبليخانوف لتنصله الجبان من الكفاح المسلح. كانت هذه هي القضايا التي فرقت بين الجناح البلشفي والجناح المنشفي في الاشتراكية الديمقراطية، وليس المسألة التنظيمية، ولا “المركزية”، بل الإصلاح أم الثورة، التعاون الطبقي أم الاعتماد على الجماهير الثورية. لكن مونتي جونستون يحافظ على الصمت المطبق بخصوص كل هذا. قد يتساءل القارئ لماذا! سنكون كرماء ونعزو ذلك إلى تلهف الرفيق جونستون للوصول إلى “الفترة الأكثر أهمية”، أي ما بين 1910 و1916. إذ على أية حال تعتبر “ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة” فترة طويلة؛ فمن الذي سيهتم بخمس سنوات أو نحو ذلك؟ – خصوصا عندما تقدم تلك الفترة الكثير من المواد التي لا تخدم قضية مونتي جونستون ضد تروتسكي.

مرحلة الردة الرجعية

خلقت ردة ستوليبين، التي بدأت عام 1907، صعوبات جمة للحركة الثورية في روسيا، وأثارت المزيد من الخلافات بين صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي. تعطلت الأنشطة الشرعية للحزب من خلال ما أسماه لينين بـ “قانون الانتخابات الأكثر رجعية في أوروبا”. فأصبحت الأساليب الغير شرعية للعمل، أي العمل السري، ذات أهمية متزايدة للتعويض عن القيود المفروضة من قبل النظام. إلا أن قسما من الجناح المنشفي للحزب، كان يميل لمواجهة الوضع من خلال التكيف بشكل متزايد مع مطالب الردة الرجعية، وتجنب الأعمال الغير شرعية لصالح المقاعد البرلمانية المريحة. كان هذا هو أساس ما أطلق عليه اسم الصراع التصفوي الذي أدى إلى حدوث انشقاق في الحزب.

في مؤتمر لندن عام 1907، تمكن تروتسكي لأول مرة من فرصة شرح وجهة نظره بشأن الثورة أمام أنظار الحزب. خطابه في النقاش حول الموقف من الأحزاب البرجوازية، والذي خصصت له خمس عشرة دقيقة فقط، استشهد به لينين مرتين، وأكد على اتفاقه مع الأفكار التي عبر عنها تروتسكي، وخاصة دعوته لتشكيل كتلة لليسار ضد البرجوازية الليبرالية:

وعلق لينين قائلا:

«إن هذه الوقائع تكفي بالنسبة لي لكي أعرف بأن تروتسكي قد صار أقرب إلى وجهات نظرنا. وبصرف النظر عن مسألة “الثورة الغير منقطعة”، نحن متضامنون حول النقاط الأساسية في الموقف من الأحزاب البرجوازية». (الأعمال الكاملة، المجلد 12، صفحة 470، التشديد من عندنا)

أما بخصوص نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة، والتي طرحت للنقاش في الدورة التالية، فإن لينين لم يكن مستعدا لإلزام نفسه بها. لكن كان هناك اتفاق كامل حول المسألة الأساسية بخصوص مهام الحركة الثورية. وسوف نتطرق لاحقا للخلافات بين مواقف لينين وتروتسكي. وقد اتضح مجددا في المؤتمر أن لينين كان يعتبر تلك الاختلافات ثانوية. عندما طرح تروتسكي تعديلا للقرار بشأن الموقف من الأحزاب البرجوازية، تحدث لينين ضد التعديل، ليس لأنه كان خاطئا، بل لأنه لم يضف شيئا أساسيا للقرار الأصلي:

«لا بد من الاتفاق على أن تعديل تروتسكي ليس منشفيا، وأنه يعبر عن الفكرة البلشفية “نفسها”»[3]. (المرجع نفسه، ص 479)

لكن على الرغم من تطابق وجهات النظر حول تحليل مهام الثورة، بين تروتسكي والبلاشفة، فإن تروتسكي استمر يحاول إيجاد طريق بين الجناحين المتصارعين في محاولة يائسة لمنع حدوث انقسام جديد.

وقال خلال المؤتمر:

«إذا كنتم تعتقدون أن الانقسام أمر لا مفر منه، فانتظروا، على الأقل، حتى تفصلكم الأحداث، وليس مجرد القرارات. لا تستبقوا الأحداث.»

فعلى أساس تجربة 1905، اعتقد تروتسكي أن موجة ثورية جديدة ستدفع بأفضل العناصر من بين المناشفة، ومارتوف بوجه خاص، إلى اليسار. كان همه الأكبر هو الحفاظ على القوى الماركسية موحدة خلال مرحلة صعبة، والحيلولة دون حدوث انقسام سيكون له تأثير سلبي على معنويات الحركة. كان هذا هو جوهر “توفيقية” تروتسكي، والتي منعته من الانضمام إلى البلاشفة في هذه الفترة. وتعليقا على ذلك كتب لينين:

«غرق عدد من الاشتراكيين الديمقراطيين في تلك الفترة في النزعة التوفيقية، انطلاقا من أكثر الدوافع تنوعا. وكانت النزعة التوفيقية الأكثر انسجاما هي التي عبر عنها تروتسكي، الشخص الوحيد الذي حاول توفير أساس نظري لتلك السياسة.»

كان هذا هو جوهر الخلاف بين لينين وتروتسكي قبل عام 1917؛ ليس “احتقار دور الفلاحين” ولا “الاشتراكية في بلد واحد”، بل النزعة التوفيقية.

كانت غلطة تروتسكي هي تعليقه أهمية كبيرة على التيارات “الوسطية” (شبه الثورية) بين صفوف المناشفة. كان يتصور أن وحدة الحركة الماركسية ستتحقق من خلال توحد البلاشفة والمناشفة وتطهير الحزب من التطرف “اليميني” والتطرف “اليساري” – أي طرد التصفويين المناشفة واليسار المتطرف داخل البلاشفة: “المقاطعون” (otzovists). لم يفهم، كما فعل لينين بشكل واضح، أنه لا يمكن تحقيق هذه الوحدة إلا بعد القطيعة بحزم مع جميع التيارات الانتهازية؛ وأن الحفاظ على القوى الماركسية في فترة التراجع الثوري لا يعني “وحدة” مجردة رسمية، بل وحدة تتحقق من خلال التكوين المنهجي للكوادر بأساليب الحركة ومنظوراتها. إن ترهل تنظيم المناشفة، وعجزهم السياسي، في مرحلة الردة الرجعية، كان مجرد انعكاس لافتقارهم التام للمنظورات. ومن جهة أخرى، نبع نضال لينين من أجل “حزب ماركسي مستقر وممركز ومنضبط” من الحاجة الملحة لتثقيف الطليعة وتدريبها، بعيدا عن إحباط وكلبية الانتهازيين.

في وقت لاحق فهم تروتسكي خطأه واعترف دون تحفظ بأن لينين كان على حق بشأن هذه المسألة. لكن الستالينيين ما زالوا يواصلون طلاء ذلك الصراع التكتلي بين لينين وتروتسكي بألوان فاقعة، وينقبون عن كل الكلام الذي قيل في أوج الجدل من أجل دق إسفين بين أفكار لينين وتروتسكي بشكل عام. تروتسكي كان مخطئا، لكن خطأه كان خطئا نزيها، كان خطأ مناضل ثوري، يحمل مصالح الثورة في قلبه. وليس من قبيل المصادفة أن أشار لينين إلى أن النزعة “التوفيقية” كانت نابعة “من أكثر الدوافع تنوعا” – أي الدوافع الثورية فضلا عن الانتهازية. لينين نفسه “أخطأ” أحيانا في تقديره لإمكانية وجود حلفاء بين المناشفة. ففي عام 1909 عرض تحالفا مع كتلة بليخانوف والمناشفة “المؤيدين للحزب”. وفقا للوناتشارسكي، استمر لينين حتى عام 1917 “يحلم بتحالف مع مارتوف مدركا للقيمة التي يمكن لذلك التحالف أن يكونها”. وقد أثبتت الوقائع خطأ لينين. لكن كم هو الفرق شاسع بين أخطاء ثوري مخلص وبين خربشات متعجرفة لكلبيين يخوضون، بعد نصف قرن، من فوق أرائكهم المريحة، كل المعارك القديمة مرة أخرى – ودائما إلى جانب المنتصر.

لينين والبلاشفة

«شكلت السنوات ما بين 1907 و1914 في حياته [تروتسكي] فصلا يخلو بوجه خاص من أي انجاز سياسي… ولا يدعي تروتسكي أي إنجازات ثورية في مصلحته. إلا أن لينين كان، في هذه السنوات، وبمساعدة أتباعه، يسلح حزبه، وكانت مكانة رجال مثل زينوفييف وكامينيف وبوخارين، ولاحقا ستالين، تتنامى إلى درجة مكنتهم من لعب أدوار رائدة داخل الحزب في عام 1917.» (اسحق دويتشر، النبي المسلح، الصفحة 176)

إن هذا المقطع الذي كتبه دويتشر، والذي يستشهد به جونستون، لا ينفع إلا لتوضيح العقلية البرجوازية الصغيرة تماما لصاحبه. سنتطرق للـ “الأدوار الرائدة” التي اضطلع بها كامينيف وزينوفييف وستالين سنة 1917 في فصل لاحق. يكفي هنا فقط أن نشير إلى أن كامينيف وزينوفييف صوتا ضد انتفاضة أكتوبر 1917، وندد بهما لينين كـ “كاسري إضرابات” يجب طردهما من الحزب! لكن دعونا أولا نركز على المرحلة قيد النظر.

إن قول دويتشر بعدم “وجود إنجازات سياسية” صحيح تماما، لكن الأمر لا يتعلق بتروتسكي وحده بل بالحركة الثورية كلها خلال مرحلة الردة الرجعية. كيف كانت الأمور تسير مع البلاشفة في ذلك الوقت؟ شهدت مرحلة الردة الرجعية حدوث انقسام خطير في القيادة، حيث وجد لينين نفسه أقلية. كان المزاج السائد بين البلاشفة هو النزعة اليسارية المتطرفة – رفض الاعتراف بأن الثورة كانت في تراجع. وقد عبر هذا الاتجاه، الذي كان نقيض اتجاه التصفويين داخل المناشفة، عن نفسه في نزعة المقاطعة، أي الرفض التام للمشاركة في الانتخابات والعمل في البرلمان. فاتجه زملاء لينين المقربين: كراسين وبوغدانوف ولوناتشارسكي، بعيدا إلى “اليسار”، وقد سقط هذان الأخيران تحت تأثير التصوف الفلسفي، الذي كان انعكاسا آخر لمزاج اليأس الذي عززته الردة الرجعية.

وقد أثارت المعارك التكتلية المتواصلة، التي أنهكت الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ذلك الوقت، ردة فعل على شكل نزعة توفيقية، أصبح تروتسكي المتحدث الرئيسي باسمها. وقد كان لهذه النزعة أنصار في كل المجموعات، بمن فيهم البلاشفة. في عام 1910، نجح تروتسكي في تأمين انعقاد اجتماع لقادة جميع الكتل في محاولة لطرد كل من التصفويين و”المقاطعين” للحفاظ على وحدة الحزب:

«إن النتيجة الوحيدة التي تمكن [تروتسكي] من تحقيقها هي انعقاد الجلسة العامة التي طرد خلالها “التصفويين” خارج الحزب، وكاد يطرد “الأماميين” [أي”المقاطعين”] واستطاع ولو مؤقتا رتق الفجوة – بخيوط ضعيفة جدا- بين اللينينيين والمارتوفيين.» (لوناتشارسكي، ظلال ثورية، الصفحة 61)

لم يكن تروتسكي وحده من يتبنى وجهة النظر هذه عن وحدة الحزب. ففي صيف عام 1911، كتبت روزا لوكسمبورغ:

«الطريقة الوحيدة لإنقاذ الوحدة هي عقد كونفرانس عام لأناس مبعوثين من روسيا، لأن الناس في روسيا جميعهم يريدون السلام والوحدة، ويمثلون القوة الوحيدة التي يمكن أن توقف صراع الديكة في الخارج». (التشديد من عندنا)

لم تكن هذه الإشارة إلى المزاج السائد داخل حزب العمال في روسيا من قبيل الصدفة. لأنه طوال تلك الفترة كلها – تلك “الثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة” الشهيرة – كان الرأي السائد بين مناضلي الحزب داخل روسيا أن الانشقاق إلى بلاشفة ومناشفة مصدر إزعاج لا لزوم له، وأنه نتاج للأجواء المسمومة لصراع المنفيين. إن الانطباع الذي يحاول خلقه أناس مثل جونستون ودويتشر حول حزب بلشفي موحد بقوة وراء أفكار لينين، ويسير بثبات في اتجاه صاعد نحو ثورة أكتوبر، هو سخرية من التاريخ.

لينين نفسه، ومنذ وقت مبكر، اشتكى في رسائله من النظرة الضيقة لما يسمى بـ “رجال اللجان”، أو العناصر البلشفية في روسيا. وقد صارت شكواه سيلا مستمرا من الاحتجاجات الغاضبة في فترة 1910-1914 ضد سلوك “أنصاره” في روسيا. تحسر مكسيم غوركي، الذي أمضى هذه الفترة يحوم في محيط البلاشفة، في مراسلاته مع لينين على “الخلافات بين الجنرالات” التي كانت “تنفر العمال” في روسيا. إن موقف “رجال اللجان” البلاشفة من الخلافات بين المهاجرين تعبر عنه بوضوح الرسالة التي بعثت من قبل أنصار للبلاشفة في القوقاز إلى الرفاق في موسكو:

«لقد سمعنا بالطبع عن “الزوبعة في الفنجان” التي حدثت في الخارج: كتلة لينين- بليخانوف، من جهة، وتروتسكي- مارتوف- بوغدانوف من جهة أخرى. إن موقف العمال من الكتلة الأولى، موقف إيجابي، على حد علمي. لكن العمال بشكل عام بدأوا ينظرون بازدراء إلى المهجر: دعوهم يزحفون على الجدار قدر ما يشاؤون، أما بالنسبة لنا، المهتمون بمصالح الحركة/ العمل، فسوف نعتني بأنفسنا! وهذا ما أعتقد أنه الأفضل».

تم اعتراض هذه الرسالة من قبل الشرطة القيصرية، التي أشارت إلى كاتبها بأنه “سوسو القوقازي”، الاسم المستعار لجوغاشفيلي، الملقب بستالين!

كان هذا الموقف المحتقر للنظرية، و”لمشاحنات المهاجرين”، و”الزوبعة في الفنجان” منتشرا بشكل واسع بين البلاشفة، وأثار احتجاجات حادة من قبل لينين، كما نرى في الرسالة المؤرخة بشهر أبريل 1912، التي وجهها إلى أورجونيكيدزه وسبانداريان وستاسوفا:

«لا تتعاملوا بتساهل مع حملة التصفويين في الخارج. إنه خطأ كبير عندما يرفض الناس ببساطة ما يدور في الخارج و”يرمون به إلى الجحيم”.» (الأعمال الكاملة، المجلد 35، الصفحة 33)

النزعة التوفيقية المبتذلة لستالين وأورجونيكيدزه وغيرهما من البلاشفة “العمليين” الآخرين تبرز في أكثر أشكالها فظاظة، حيث لم تكن مدفوعة، لا بالانتهازية ولا بالرغبة في تحقيق وحدة ثورية، بل فقط بالجهل واللامبالاة اتجاه القضايا العميقة المعنية بالنقاش.

أعطى تصاعد الحركة العمالية في روسيا، عام 1912،انتعاشا جديدا للماركسيين – وللنزعات التوفيقية داخل الحزب. وقد عكست الجريدة البلشفية “برافدا” الصادرة حديثا هذا المزاج.

في نفس الوقت الذي كان فيه لينين يشن معركة شاملة لكي يفصل، مرة وإلى الأبد، الجناح الثوري للحزب عن الجناح الانتهازي، اختفت كلمة “التصفوية” نفسها من صفحات “برافدا”. وطبعت مقالات لينين نفسه في شكل مشوه، حيث يحذف كل الجدال ضد التصفويين، بل وأحيانا كانت مقالاته تختفي تماما. مراسلات لينين مع “برافدا” تبين بشكل واضح الوضع السائد في روسيا آنذاك: فبمجرد ما وجد “رجال اللجان” أنفسهم دون توجيه من لينين سقطوا في التخبط اليائس وانحرفوا عن المسار. في رسالة مؤرخة بشهر أكتوبر 1912، تطفح سخطا من فشل “برافدا” في فضح التصفويين، كتب لينين يقول:

«ما لم تقم “برافدا” بتفسير كل هذا في الوقت المناسب فإنها ستكون مسؤولة عن اللبس والاضطراب [ داخل الحركة العمالية]… وفي هذا الوقت الحرج، يتم إغلاق “نيفسكايا زفيزدا” [جريدة بلشفية]، دون ولو كلمة أو تفسير… وترك المتعاونون السياسيون في الظلام… أجد نفسي مضطرا للاحتجاج الشديد على هذا، ولرفض تحمل أي مسؤولية عن هذا الوضع الشاذ، الذي يحبل بحدوث نزاعات حادة». (الأعمال الكاملة، المجلد 36، صفحة 196)

خلال انتخابات 1912، كتب لينين إلى هيئة تحرير “برافدا” (التي كان ستالين عضوا فيها):

«… “برافدا” تتصرف الآن، في وقت الانتخابات، مثل خادمة عجوز كسولة. “برافدا” لا تعرف كيف تحارب. إنها لا تهاجم، إنها لا تنتقد حتى الكاديت أو التصفويين». (المرجع نفسه، ص 198)

ولم يكن مرض التوفيقية يقتصر على “برافدا” وحدها. ففي انتخابات عام 1912، تم انتخاب ستة نواب بلاشفة في المناطق العمالية (the worker’s curiae). وقد حذر لينين، من بولندا، المنتخبين الستة من السقوط تحت تأثير النواب المناشفة:

«إذا كان جميع منتخبينا الستة من المناطق العمالية، فإنه يجب عليهم ألا يخضعوا بصمت للسيبيريين [أي المثقفين، المناشفة]. يجب على الستة أن يخرجوا باحتجاج واضح جدا، إذا ما تم التحكم فيهم…»

وبدل ذلك شكل النواب البلاشفة “كتلة موحدة” مع “السيبيريين”، والتي أصدرت بيانا مشتركا – نشر في “برافدا”- يدعو إلى وحدة جميع الاشتراكيين الديمقراطيين ودمج “برافدا” مع جريدة التصفويين “لوش”. وقد وضع أربعة من النواب البلاشفة أسمائهم، إلى جانب غوركي، كمساهمين في “لوش”.

كان لينين غاضبا؛ لكن احتجاجاته ذهبت أدراج الرياح. وفي تعبير نهائي عن السخط كتب لينين:

«تلقينا رسالة غبية ووقحة من هيئة التحرير [أي “برافدا”]. سوف لن نرد عليها. كما يجب عليهم التخلص من… إننا نشعر بالقلق الشديد بسبب انعدام الأنباء عن خطة إعادة تنظيم هيئة التحرير… إعادة التنظيم، لكن هناك ما هو أفضل، إن الطرد النهائي لكل الأعضاء القدماء، أمر ضروري للغاية». (التشديد من عندنا)

مرة أخرى قال:

«… يجب علينا أن نزرع هيئة تحرير خاصة بنا في “برافدا” ونطرد هيئة التحرير الحالية. إن الأمور الآن في حالة سيئة جدا. إن عدم وجود حملة من أجل الوحدة من تحت أمر غبي وحقير… هل يمكنكم أن تسموا مثل هؤلاء الناس محررين؟ إنهم ليسو رجالا بل رقاعا رثة، وهم يضرون بالقضية».

كانت هذه هي اللغة التي استخدمها لينين عند مهاجمة، ليس تروتسكي، وليس المناشفة، بل التوفيقيين وأتباع المناشفة داخل منظمته، وهيئة تحرير صحيفته الخاصة! نعم لقد حمل لينين على كاهله، في تلك المرحلة، مهمة تأسيس “حزب ماركسي مستقر وممركز ومنضبط”. ومن أجل بناءه، اضطر في أكثر من مناسبة إلى محاربة نفس ذلك الجهاز الذي كافح من أجل بناءه.

“البلاشفة القدماء” عام 1917

لقد حاول لينين طيلة فترة تاريخية بأكملها – أكثر حتى من “ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة” – تكوين قيادة وتعليم الكوادر البلشفية الأفكار الأساسية للماركسية وأساليبها وبرنامجها. وقبل كل شيء حاول جاهدا الحفاظ على الحركة العمالية بمنأى عن التلوث الإيديولوجي بالديمقراطية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. وأكد مرارا وتكرارا على الضرورة المطلقة لحفاظ الحركة العمالية على استقلاليتها التنظيمية الكاملة عن أحزاب الديمقراطية البرجوازية والانتهازيين الذين حاولوا جعل الحركة تحت جناح البرجوازية. وقد اتضحت الصحة المطلقة لموقف لينين عام 1917، عندما انتقل المناشفة إلى معسكر الديمقراطية البرجوازية.

ماذا كان موقف “البلاشفة القدماء” – من أمثال كامينيف وزينوفييف وستالين وغيرهم من أتباع لينين “المخلصين” عام 1917؟ جميعهم دافعوا عن تقديم الدعم لحكومة كيرينسكي، والوحدة مع المناشفة، أي التخلي عن معسكر الماركسية من أجل الانتقال إلى معسكر الديمقراطية البرجوازية المبتذلة. هؤلاء “البلاشفة القدماء”، الذين ناضل لينين من أجل تثقيفهم في الفترة السابقة، لا أحد منهم نجح أمام اختبار الأحداث الحاسم.

كيف كان من الممكن لقادة الحزب البلشفي، حزب لينين، الذين صقلوا في نار الصراع، والممتلكين للخط الصحيح منذ البداية: عام 1903، أن ينكسروا في اللحظة الحاسمة وينتقلوا إلى معسكر الانتهازية؟ لا يمكن للقارئ الحائر أن يتوقع أي جواب من مونتي جونستون. فمؤرخنا “المحايد” و”العلمي” لا يعرف شيئا عن هذه الأحداث! فالتحول من فبراير إلى أكتوبر تم على ما يبدو دون ألم تماما، على يد البلاشفة “المتطورين” من الثورة الديمقراطية إلى الاشتراكية. يقول جونستون:

«والآن بعد أن تمت الإطاحة بالنظام الملكي وانتهت الثورة البرجوازية الديمقراطية، وصارت روسيا الآن جمهورية ديمقراطية، عبأ لينين قوى الحزب البلشفي للمرحلة الثانية من الثورة، والتي كان عليها نقل السلطة إلى أيدي البروليتاريا والفلاحين الفقراء وإخراج روسيا من الحرب الامبريالية» (Cogito، الصفحة 11)

ماذا كان موقف القادة البلاشفة في روسيا قبل وصول لينين في أبريل 1917؟ في تناقض صارخ مع كل شيء علمه لهم لينين طوال فترة الحرب، دعت “برافدا”، التي كانت تحت رئاسة كامينيف وستالين، إلى الدفاع عن الجمهورية الديمقراطية البرجوازية:

كتب كامينيف قائلا: «عندما يواجه الجيش الجيش، يكون من أكثر السياسات تفاهة مطالبة أحد تلك الجيوش بإلقاء سلاحه والعودة إلى المنزل. لن تكون هذه سياسة للسلام، بل سياسة للعبودية، سيتم رفضها باشمئزاز من قبل الشعب الحر».

سياسة لينين بخصوص الانهزامية الثورية أعلنت الآن، من قبل الهيئة المركزية للحزب عشية الثورة، بكونها “أكثر السياسات تفاهة” وبكونها “سياسة للعبودية”! كما أعلنت أحد افتتاحيات “برافدا” في مكان آخر:

«إن شعارنا ليس هو شعار “فلتسقط الحرب” الذي لا معنى له. بل شعارنا هو الضغط على الحكومة المؤقتة بهدف إجبارها[!] على حث[!] كل الدول المتحاربة لإجراء مفاوضات فورية… وحتى ذلك الحين ليبقى الجميع في موقعه».

كانت سياسة ستالين وكامينيف اتخاذ موقف المقاومة الأقل، لدعم الحكومة المؤقتة “طالما تصارع ضد الردة الرجعية والثورة المضادة”، مع التشدق اللفظي بـ “الهدف النهائي للاشتراكية”. إن تأجيل الثورة الاشتراكية إلى مستقبل بعيد، واعتبار أن “المهمة الفورية” هي الاستسلام لليبرالية البرجوازية والإصلاحية، ليس، بالطبع، شيئا جديدا بالنسبة لقادة الحزب الشيوعي اليوم، والتي تمثل بالنسبة لهم جوهر ” اللينينية “، على النحو المنصوص عليه في وثيقة “الطريق البريطاني إلى الاشتراكية” وسياسة الجبهة الشعبية. كانت تلك من حيث الجوهر نفس سياسة المناشفة، الذين وجد “البلاشفة القدماء” أنفسهم في تحالف حتمي معهم.

كيف عمل لينين، بعد عودته، على “تعبئة البلاشفة للمرحلة الثانية من الثورة”، عندما كان جميع الأعضاء القياديين يؤيدون الحكومة المؤقتة؟ من الواضح أن الرفيق جونستون، الذي يمر عبر هذه الأحداث في صمت، يشمئز من الخوض في آليات هذه “التعبئة” الرائعة. لكنه سيكون من “غير التاريخي” تماما من جانبنا ألا نتقدم لملئ الفراغات له.

من منفاه بالخارج، راقب لينين التطورات التي تحدث داخل الحزب بقلق. كتب مرارا وتكرارا إلى بتروغراد يطالب بالقطع مع البرجوازية وسياسة الدفاع عن الوطن. ويوم 06 مارس ابرق من ستوكهولم:

«تكتيكنا هو عدم الثقة مطلقا؛ عدم تقديم أي دعم للحكومة الجديدة، والارتياب في كيرينسكي على وجه الخصوص؛ تسليح البروليتاريا هو الضمانة الوحيدة؛ إجراء انتخابات فورية لمجلس الدوما في بتروغراد؛ لا للتقارب مع الأحزاب الأخرى.» (التشديد من عندنا)

ويوم 17 مارس، كتب لينين:

«سيجلب حزبنا العار لنفسه إلى الأبد، وسيقتل نفسه سياسيا، إذا ما شارك في مثل هذا الخداع… سأختار الانشقاق الفوري عن أي شخص داخل حزبنا بدلا من الاستسلام لنزعة الاشتراكية الوطنية».

كانت كلمات لينين هذه تحذيرا واضحا إلى كامينيف وستالين، الذين استمرا مع ذلك في موقفهما، على الرغم من رفض قواعد العمال المناضلين، الذين استقال العديد منهم من الحزب اشمئزازا من استسلام القادة. ومباشرة بعد عودته من المنفى، فتح لينين معركة تكتلية حادة ضد “البلاشفة القدماء”. وفي اجتماع لمندوبي البلاشفة إلى السوفييت، في أبريل 1917، تحدث لينين بمرارة عن مزاج الاستسلام الذي أصاب القيادة:

«المسألة الأساسية هي الموقف من الحرب. والشيء الرئيسي الذي يواجهك عندما تقرأ عن روسيا وترى ماذا يحدث هنا هو: انتصار نزعة الدفاع عن الوطن، انتصار خونة الاشتراكية، وخداع الجماهير من طرف البرجوازية…

«لا يمكننا السماح بأدنى تنازل لنزعة الدفاع عن الوطن في موقفنا من الحرب، حتى في ظل الحكومة الجديدة التي ما تزال إمبريالية…

«حتى بلاشفتنا يظهرون بعض الثقة في الحكومة. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بتسمم الثورة. إنها موت الاشتراكية. إنكم أيها الرفاق تتبنون موقف الثقة في الحكومة. وإذا كان الأمر كذلك فإن طرقنا تفترق. إنني أفضل البقاء أقلية…

«تطلب “برافدا” من الحكومة أن تتخلى عن سياسة الالحاقات. إن مطالبة حكومة الرأسماليين بالتخلي عن سياسة الالحاقات هراء، إنه مهزلة مبكية… [صمت لبضعة دقائق]

«من وجهة النظر العلمية يشكل هذا خداعا فادحا، كل البروليتاريا الأممية، كل… [صمت لبضعة دقائق] لقد حان الوقت لنعترف بأخطائنا. لقد دبجنا ما يكفي من التحايا والقرارات، إنه وقت العمل». (الأعمال الكاملة، المجلد 36، صفحات 434- 438)

وعندما تطرق إلى بيان المناشفة للسوفييت المعنون بـ “إلى شعوب العالم بأسره”، والذي نوهت به “برافدا” باعتباره “حل وسط واع بين الاتجاهات المختلفة الممثلة في السوفييت”، والذي صوت لصالحه مندوبو البلاشفة تحت تأثير من ستالين وكامينيف، أشار لينين:

«إن بيان سوفييت نواب العمال لا يتضمن ولو كلمة واحدة مشبعة بالوعي الطبقي. إنه مجرد كلام فارغ! إن الكلام ونفاق الشعب الثوري، هي الشيء الوحيد الذي دمر كل الثورات. الماركسية تعلمنا عدم الاستسلام للجمل الثورية، لا سيما في الوقت الذي تكون فيه العملة الأكثر رواجا». (المرجع نفسه، ص 439)

من الذي انتقدهم لينين بالاستسلام “للجملة الثورية” أيها الرفيق جونستون؟ هل كان تروتسكي، الذي لم يكن حتى داخل البلاد في ذلك الوقت؟ كلا، أيها الرفيق جونستون، لقد كان ستالين وكامينيف، أولئك “البلاشفة المصقولين”، أولئك “اللينينيين” المخلصين الذين لعبوا “دورا هاما جدا داخل الحزب” في عام 1917! قبل ثلاثة أيام من هذا الاجتماع، كان ستالين قد أعلن دعمه لقبول اقتراح المنشفي تسيرتيلي لتوحيد البلاشفة والمناشفة. وقد كان مبرره لذلك هو أنه بما أن كلا الحزبين قد اتفقا على موقف بيان السوفييت، فإنه لم تعد هناك أي اختلافات جوهرية من حيث المبدأ بين الحزبين. وفي إشارة غير مباشرة من لينين إلى ذلك، أصدر تحذيرا شديدا:

«سمعت أن هناك اتجاه داخل روسيا نحو التوحيد، نحو الوحدة مع المدافعين عن الوطن. إن هذه خيانة للاشتراكية. وأعتقد أنه من الأفضل أن أبقى وحدي، مثل ليبكنخت: وحدي ضد 110» (المرجع نفسه، ص 443)

هذا ما لدينا هنا: “خيانة الاشتراكية”، “خداع الجماهير”، “هراء”، “مهزلة مبكية”، “الخداع فادح”. هذه هي اللغة التي اضطر لينين إلى اللجوء إليها من أجل “تعبئة الحزب البلشفي” للثورة الاشتراكية! بعد نقد لينين الحاد انسحب ستالين من ساحة النقاش العام الذي انطبع بموقفه الاشتراكي الوطني، والتحق بهدوء بموقف لينين؛ بينما استمر كامينيف وزينوفييف في معارضتهما حتى أكتوبر، عندما صوتا ضد الانتفاضة وشنا حملة داخل وخارج الحزب ضدها. هذا هو “الدور المهم” الذي اضطلع به هؤلاء “البلاشفة القدماء” الذين عشية ثورة أكتوبر، طالب لينين بغضب بطردهم من الحزب.

يهاجم مونتي جونستون تروتسكي بسبب موقفه التوفيقي قبل عام 1917، لكنه نسي أن يذكر أن ستالين وشركائه كانوا واضحين جدا بشأن مسألة التوفيقية إلى درجة الدعوة إلى الوحدة مع المناشفة قبل بضعة أشهر من ثورة أكتوبر، في نفس ذلك الوقت الذي كان من الضروري طرح تلك الخلافات بين البلاشفة والمناشفة (أي بين الثورة والثورة المضادة) بأكثر الطرق حزما ووضوحا.

بعد أن أشرنا إلى هذا، من الضروري أن نضيف رغم كل شيء أن “البلاشفة القدماء” بكل إخفاقاتهم كانوا ثوريين أقحاح. لقد ارتكبوا خطأ، خطأ جوهريا، كان سيؤدي، لولا تدخل لينين وتروتسكي، إلى كارثة. بدون قيادة لينين وتروتسكي لم يكن للثورة الروسية أن تنجح سنة 1917. إما ديكتاتورية العمال أو ردة كورنيلوفية**: هكذا حدد لينين البدائل المطروحة في عام 1917. من دون الكفاح الذي خاضه لينين خصوصا، بكل سلطته الشخصية الهائلة، لا شك في أن الحركة كانت ستسقط تحت قبضة الردة الرجعية.

ومع ذلك وبالرغم من نقاط ضعفهما وتذبذبهما، لم يتعرض كامينيف وزينوفييف للمحاكمة، ولم يتهما بكونهما “عملاء للإمبريالية الألمانية”، ولم يتعرضا للتعذيب لانتزاع اعترافات كاذبة. في ظل التقاليد البلشفية، تقاليد التسامح والنسبية، ليس فقط لم يتعرض كامينيف وزينوفييف للطرد، بل لقد انتخبا عضوين في اللجنة المركزية والمكتب السياسي، أعلى مناصب المسؤولية. وحتى بعد ذلك، لم يتصرفا بشكل صحيح دائما، وارتكبا أحيانا أخطاء كارثية: لكن لا يمكن تشبيه حتى أسوء أخطاء “البلاشفة القدماء” بسياسة الغدر والخيانة الصريحة للثورة من جانب البيروقراطية الستالينية وأتباعها الدوليين. إن تقاليد الستالينية التوتاليتارية وتقاليد البلشفية اللينينية يفصل بينهما نهر من الدماء.

تروتسكي والبلاشفة عام 1917

لقد رأينا كيف لجأ مونتي جونستون إلى خدمات “مؤلف سيرة تروتسكي المتعاطف للغاية، لكن الموضوعي للغاية أيضا” اسحق دويتشر. كثيرا ما التجأ جونستون إلى دويتشر، الذي يعفيه تماما من ضرورة النقل المؤلم من أعمال تروتسكي نفسه، ويقدم له بلطف ذلك النوع من الأحكام المسبقة المبتذلة عن سمات تروتسكي النفسية والمعنوية التي يستعملها كمسمار، حتى وإن كان صدئ، يعلق عليه “أطروحته” عن تروتسكي، الذي يظهر الآن منتصرا:

«الحقيقة هي… أنه بالرغم من انضمام تروتسكي إلى الحزب البلشفي في يوليوز1917، بفعل زخم[؟] ثورة أكتوبر القادمة[؟] التي سيلعب فيها ذلك الدور البارز[؟؟]، نجد خلال السنوات الأربع عشرة من حياة تروتسكي… عجزا تاما من جانبه عن تكريس نفسه في الفترة الغير الثورية لمهمة بناء منظمة قوية يدرب نفسه في صفوفها، وبالتالي يكون على استعداد لامتلاك الانضباط الجماعي الذي ظهر من جديد بعد هدوء عواصف الثورة.» (Cogito، الصفحة 07)

يريد جونستون أن يرسم صورة لتروتسكي باعتباره زعيما ثوريا، و”خطيبا رائعا”، يستمد الإلهام من “عواصف الثورة”، ومحرضا جماهيريا جيدا، لكنه يبقى أساسا فردانيا برجوازيا صغيرا، تنهار معنوياته بمجرد مرور الوضع الثوري. كل مؤلفه قطعة عجيبة من الكلمات الانطباعية: وهو مثل كل أعمال الانطباعيين، تبدو جيدة، عن بعد، إن أبقيت عينيك نصف مغلقتين…

إننا نسأل الرفيق جونستون أولا: كيف كان من الممكن لهذا “الخطيب الرائع” الانضمام إلى الحزب البلشفي “بفعل زخم” شيء لم يكن قد حدث بعد؟ يحاول مونتي جونستون بوضوح تبديل تاريخ انضمام تروتسكي إلى البلاشفة إلى ما بعد ثورة أكتوبر، (“بجرة قلم”) كما يقال. لكن لا، لأن مثل هذا التشويه سيكون كبيرا جدا حتى بالنسبة لصديقنا جونستون؛ مما دفعه على مضض إلى جعل تروتسكي ينضم إلى الحزب “بفعل زخم ثورة أكتوبر القادمة!”

رغم ذلك هناك صعوبة أخرى صغيرة، وهي أن تروتسكي نفسه، وبعبارة مونتي جونستون، لعب “دورا بارزا” في تحقيق هذه الثورة “القادمة”. في الواقع لقد انضم تروتسكي رسميا إلى الحزب البلشفي ليس عندما كان الحزب في قمة موجة ثورية، على وشك الاستيلاء على السلطة، كما يزعم جونستون، بل على العكس من ذلك تماما، عندما كانت حظوظه تبدو في أدنى مستوياتها خلال فترة الردة الرجعية التي تلت “أيام يوليوز”، عندما كان لينين مختفيا وكان الكثير من البلاشفة في السجن.

لماذا انضم تروتسكي إلى البلاشفة سنة 1917؟ أولا وقبل كل شيء لأنه لم تعد هناك أي خلافات سياسية بينهما. فقد التقى المقال الذي كتبه تروتسكي في أمريكا في شهر مارس 1917 مع خط تفكير “رسائل من بعيد” التي كتبها لينين، من سويسرا في نفس الوقت. هل كان ذلك الاتفاق صدفة أيها الرفيق جونستون؟ إذا حكمنا على المسألة من وجهة نظرك الخاصة لجدالات الماضي بين لينين وتروتسكي، يصير أي استنتاج آخر غير ممكن. لكن ماذا إذن عن الدور المخزي الذي لعبه “البلاشفة القدماء” في هذه الفترة؟ لقد كانوا هم بالضبط هؤلاء الرجال الذين، وفق تعبيرك، “جهزوا أنفسهم داخل الحزب” و”تربوا على الانضباط الجماعي” في الفترة السابقة؛ هل كان ذلك أيضا “صدفة”؟ لقد أكد لينين، في رسالته الأخيرة إلى مؤتمر الحزب (1923)، على أنه لم يكن صدفة. كما لم يكن صدفة، أيها الرفيق جونستون، أن أكثر مؤيدي لينين ثباتا في معركته ضد تذبذب “البلاشفة القدماء” في عام 1917، كان هو تروتسكي وليس أي أحد سواه.

إن كل الغاية من النظرية الثورية، وبناء الحزب الثوري، هي القيام بالثورة. خلال “عواصف الثورة” على وجه التحديد، عندما تقع الحركة الثورية تحت ضغوط حادة من قوى طبقية أخرى، حيث توضع جميع النظريات والرجال والأحزاب على محك الاختبار الحاسم. إن السبب في أن “البلاشفة القدماء” فشلوا في هذا الاختبار، والسبب في أنهم وجدوا أنفسهم تائهين بشكل يرثى له في عاصفة الثورة، هو على وجه التحديد، لأنهم في كل الفترة السابقة فشلوا في استيعاب وفهم طرق وأفكار لينين التي كانت طرق وأفكار الماركسية الثورية.

كان “البلاشفة القدماء” مكتفين، في الفترة السابقة، بـ “تجهيز أنفسهم داخل الحزب”، عبر إتباع خطى لينين بخطوات عرجاء، وبتكرار ميكانيكي لأفكاره، التي كانت تتحول بين أيديهم إلى تمائم لا معنى لها. وكانت النتيجة هي أنهم في اللحظة الحاسمة، عندما صار من الضروري القيام بانعطاف جذري، ترددوا و”فقدوا رؤوسهم” وعارضون لينين… وسقطوا في معسكر المنشفية. بينما تروتسكي، من ناحية أخرى، الذي سار في طريق مختلف، وصل إلى نفس الاستنتاجات التي توصل إليها لينين عبر طريق آخر. منذ تلك اللحظة، صارت جميع الخلافات القديمة إلى مزبلة التاريخ… لينبش عنها مرة أخرى الستالينيون بعد وفاة لينين، في محاولة لإطاحة تروتسكي من القيادة.

منذ اللحظة الأولى لوصول تروتسكي إلى بتروغراد في شهر ماي 1917، تحدث وتصرف بتضامن مع البلاشفة. وفي تعليقه على ذلك، قال المناضل البلشفي راسكولينكوف ما يلي:

«ليون دافيدوفيتش [تروتسكي] لم يكن رسميا في ذلك الوقت عضوا في حزبنا، لكنه في واقع الأمر كان يعمل داخله باستمرار منذ يوم وصوله من الولايات المتحدة. وعلى أية حال، فمباشرة بعد أول خطاب له في مجلس السوفييت، نظرنا إليه جميعا كواحد من قادة حزبنا». (Proletarskaya Revolutsia، 1923، الصفحة 71)

وعن خلافات الماضي يقول نفس الكاتب:

«أصداء خلافات الماضي خلال فترة ما قبل الحرب اختفت تماما. لم تعد هناك أي اختلافات موجودة بين خط لينين التكتيكي وخط تروتسكي. صار ذلك الانصهار، الذي كان في الإمكان ملاحظته بالفعل خلال مرحلة الحرب، تاما ونهائيا منذ لحظة عودة تروتسكي إلى روسيا. منذ أول خطاب علني له شعرنا جميعا نحن اللينينيين القدماء بأنه واحد منا.» (المرجع نفسه، ص 150)

وإذا كان تروتسكي لم ينضم رسميا على الفور إلى الحزب البلشفي، فإن ذلك لم يكن بسبب أي خلافات سياسية (كان قد أعلن استعداده للانضمام فورا خلال مناقشة مع لينين ورفاقه)، بل لأن تروتسكي كان يرغب في كسب تنظيم ميزرايونتسي (مجموعة ما بين الجهات) التي كانت تضم حوالي 4000 عامل من بتروغراد والعديد من الشخصيات البارزة مثل أوريتسكي وجوفي ولوناتشارسكي وريازانوف وفولودارسكي، وغيرهم من المناضلين الذين لعبوا لاحقا أدوارا بارزة في قيادة الحزب البلشفي. وعن هذه المجموعة تؤكد مذكرة للينين نشرت في روسيا بعد الثورة ما يلي:

«فيما يتعلق بمسألة الحرب تبنت مجموعة ميزرايونتسي موقفا أمميا، وقد كانوا قريبين في تكتيكاتهم من البلاشفة». (الأعمال الكاملة، المجلد 14، الصفحة 448)

وعن مؤتمر سوفييتات عموم روسيا الذي عقد في مطلع شهر يونيو، والذي كان ما يزال تحت سيطرت المناشفة والاشتراكيين الثوريين، لاحظ أ، هـ، كار ما يلي:

«كان تروتسكي ولوناتشارسكي بين المندوبين العشرة “للاشتراكيين الديمقراطيين المتحدين” الذين دعموا بقوة البلاشفة طوال الأسابيع الثلاثة للمؤتمر.» (الثورة البلشفية، المجلد 1، الصفحة 89)

من أجل تسريع انضمام مجموعة ميزرايونتسي إلى البلاشفة، وهو الشيء الذي جرت معارضته من قبل بعض القيادات، كتب تروتسكي في “برافدا” البيان التالي:

«ليست هناك من وجهة نظري في الوقت الحاضر [أي يوليوز] أي خلافات سواء من حيث المبدأ أو في التكتيكات بين “مجموعة ما بين الجهات” وبين المنظمات البلشفية. وبالتالي لا توجد أسباب تبرر الوجود المستقل لهذه المنظمات». (التشديد من عندنا)

في هذا الوقت الصعب والخطير، كتب تروتسكي رسالة إلى الحكومة المؤقتة، تستحق أن تنشر بنصها الكامل، بالنظر إلى الضوء الذي تسلطه على العلاقات بين تروتسكي والبلاشفة في 1917. الرسالة مؤرخة في 23 يوليوز 1917:

«الوزراء المواطنون:

«لقد علمت أنه في علاقة مع أحداث 16-17 يوليوز[4]، صدر أمر قضائي بالقبض على لينين وزينوفييف وكامينيف، لكن ليس علي. وأود، بالتالي، أن ألفت انتباهكم إلى ما يلي:

1- أنا أتفق مع الأطروحات الرئيسية للينين وزينوفييف وكامينيف، ودعوت لها في جريدة “فبريود” وفي خطاباتي العامة.

2- كان موقفي تجاه أحداث 16-17 يوليوز نفس موقفهم.

أ) علمنا: كامينيف وزينوفييف وأنا لأول مرة بالخطط المقترحة لفرقة سلاح المدفعية وغيرها من الفرق خلال الاجتماع المشترك للمكاتب [اللجان التنفيذية] في 16 يوليوز. وقد اتخذنا خطوات فورية لمنع الجنود من الخروج. أبلغ زينوفييف وكامينيف البلاشفة، وأبلغت أنا تنظيم ما بين الجهات [أي مجموعة ميزرايونتسي [ الذي أنتمي إليه.

ب) لكن عندما خرجت المظاهرات، على الرغم من الجهود التي بذلناها ألقينا، رفاقي البلاشفة وأنا، العديد من الخطب أمام قصر توريد، والتي دافعنا خلالها عن الشعار الرئيسي للجماهير: “كل السلطة للسوفييتات”، لكننا، في الوقت نفسه، دعونا هؤلاء المتظاهرين، سواء منهم الجنود أو المدنيين، إلى العودة إلى ديارهم وثكناتهم بطريقة سلمية ومنظمة.

ج) وفي كونفرانس انعقد في قصر توريد في وقت متأخر من ليلة 16-17 يوليوز، بين بعض البلاشفة ومنظمات الأحياء، دعمت فكرة كامينيف بأنه ينبغي القيام بكل شيء لمنع تكرار التظاهر يوم 17 يوليوز. عندما، مع ذلك، علم من طرف المحرضين، الذين وصلوا من مختلف الأحياء، أن الفيالق وعمال المصانع قد قرروا بالفعل أن يخرجوا، وأنه كان من المستحيل منع الحشود من الخروج حتى انتهاء الأزمة الحكومية، وقد اتفق جميع الحاضرين على أن أفضل شيء يفعلونه هو توجيه المظاهرة في مسارات سلمية، ويطلبون من الجماهير ترك أسلحتهم في المنزل.

د) خلال يوم 17 يوليوز، والذي قضيته في قصر توريد، قمنا أنا والرفاق البلاشفة أكثر من مرة بحث الجماهير في هذا الاتجاه.

3- إن واقع أنني لا علاقة لي مع “برافدا” ولست عضوا في الحزب البلشفي لا يعود إلى وجود خلافات سياسية، ولكن لظروف معينة في تاريخ حزبنا فقدت الآن كل معنى.

4- ومحاولة الصحف خلق الانطباع بأنني “لا علاقة لي” مع البلاشفة تملك من الحقيقة بقدر ما يملك ذلك التقرير الذي يزعم أنني طلبت من السلطات حمايتي من “عنف الغوغاء”، ومئات الشائعات الكاذبة الأخرى التي تنشرها تلك الصحافة نفسها.

«بناء على كل ما قلته، من الواضح أنه لا يمكنكم استبعادي منطقيا من أمر القبض الذي أصدرتموه على لينين وكامينيف وزينوفييف[5]. ولا يمكن أيضا أن يكون هناك أي شك في أذهانكم حول أني معارض سياسي عنيد مثل هؤلاء الرفاق المذكورين أعلاه. إن تركي في الخارج يؤكد فقط على الغطرسة المضادة للثورة التي تكمن وراء الهجوم على لينين وزينوفييف وكامينيف.»

(من: عصر الثورة الدائمة، صفحات 98- 99، التشديد من عندنا)

طوال هذه الفترة كلها، أعرب تروتسكي، في عشرات المناسبات، عن اتفاقه مع موقف البلاشفة. في الأيام الأكثر صعوبة، عندما اضطر الحزب إلى العمل السري، وعندما اضطر لينين وزينوفييف إلى مغادرة البلد إلى فنلندا، وكان كامينيف في السجن، وتعرض البلاشفة للافتراءات المخزية بكونهم “عملاء لألمانيا”، تحدث تروتسكي علنا للدفاع عنهم، وربط موقفه بموقفهم. مونتي جونستون يعرف كل هذا. إنه يعرف ذلك ويمر عليه في صمت. كل ما لديه ليقوله حول هذا هو:

«بسبب “عجرفته الهائلة” يبدو أن تروتسكي اعتقد حقا أن الحزب البلشفي قد تخلص من النزعة البلشفية (“de-bolshevised”)، وعلى هذا الأساس، قرر الانضمام إليه.» (Cogito، صفحة 14)

لم تكن عبارة “تخلص من النزعة البلشفية” من إنتاج تروتسكي، بل من إنتاج “المحايد” إسحاق دويتشر، أما “العجرفة الهائلة” فنجدها في كتاب لوناتشارسكي “ظلال ثورية” حيث نقرأ ما يلي:

«تروتسكي شخصيا سريع الغضب وذو طبع استبدادي. لكن وبعد انضمامه إلى البلاشفة، كان لينين هو الشخص الوحيد، الذي اتخذ تروتسكي إزاءه موقفا يتسم بمرونة لبقة مؤثرة. وبذاك النوع من التواضع الذي يتسم به جميع الرجال العظام حقا يعترف [تروتسكي] بأسبقية لينين.»

وفي الصفحة 43 من نفس المؤلف نجد:

«وعندما مرض لينين، مرض موته، أصبنا بالرعب، ولا احد أعرب عن مشاعرنا أفضل من تروتسكي. ووسط الاضطرابات المروعة للأحداث العالمية كان تروتسكي، الزعيم الآخر للثورة الروسية، الرجل الذي لا يميل أبدا إلى العاطفة، هو من قال: “عندما تدرك أن لينين قد يموت، يبدو أن حياتنا جميعا عديمة الجدوى، وتفقد الرغبة في الحياة.”»

نترك لقارئ هذه السطور حرية اتخاذ القرار بشأن الجزء الذي تظهر فيه “العجرفة الهائلة” في تصوير العلاقة بين اثنين من أعظم الثوار في عصرنا.

بعد ذلك بعامين، أشار لينين إلى أن البلشفية في عام 1917 “استقطبت جميع أفضل العناصر في تيارات الفكر الاشتراكي التي كانت قريبة إليها.” لمن تشير هذه الأسطر أيها الرفيق جونستون؟ إلى المناشفة اليساريين والاشتراكيين الثوريين اليساريين؟ لكن معظم تلك العناصر كانت قد قطعت بالفعل مع البلشفية بحلول عام 1918. إن هذه السطور تشير بوضوح إلى تروتسكي ومجموعة ميزرايونتسي. إن موقف لينين المتميز تجاه مجموعة ميزرايونتسي يظهر من حقيقة أنه في الوقت الذي كان يحث على تشديد شروط العضوية لحماية الحزب من تدفق عناصر غير موثوق بها، ألغيت فترة الاختبار بالنسبة لمجموعة ميزرايونتسي، التي سمح لأعضائها بحساب مدة عضويتهم داخل الحزب البلشفي ابتداء من الوقت الذي انضموا فيه إلى مجموعتهم.

كان هذا الإجراء دليلا على اتفاق البلاشفة مع تأكيد تروتسكي على أنه لا توجد أي اختلافات تكتيكية أو سياسية بين المجموعتين. وخلال المؤتمر نفسه الذي أنظمت فيه مجموعة ميزرايونتسي إلى الحزب البلشفي، انتخب صاحب “العجرفة الهائلة” تروتسكي إلى اللجنة المركزية، وكان واحدا من الأسماء الأربعة (مع لينين وزينوفييف وكامينيف) الذين أعلن أنهم حصلوا على أعلى عدد من الأصوات (131 صوت من أصل 134).

مدرسة ستالين للتزوير

«سيكون من غير التاريخي في الواقع، إذا ما قمنا، عند تقييمنا لتروتسكي، بتجاهل نضاله ضد البلشفية خلال السنوات الأربع عشرة الأولى من وجودها – أو النظر إلى أن هذه المسألة منتهية عبر الاستشهاد بملاحظة يزعم أن لينين قالها عن سلطة تروتسكي في 1917 (في خضم الثورة وبعد أن لم يقض هذا الأخير في الحزب سوى أقل من أربعة أشهر) بأنه منذ أن فهم تروتسكي استحالة الوحدة مع المنشفيك، “لم يعد هناك بلشفي أفضل منه”.» (Cogito، صفحة:8)

هكذا ينهي مونتي جونستون الجزء الأول من كتابه “البعيد المدى والمعقد، لكن المفيد للغاية” عن تاريخ البلشفية. وبما أن لديه طريقته الخاصة في استخدام المصادر، فإنه يرفض الاعتراف بملاحظة “يزعم” أن لينين أدلى بها “عن سلطة تروتسكي”. ما هي تلك الملاحظة، ولماذا قالها لينين؟

خلال اجتماع للجنة بتروغراد في 14 نوفمبر 1917، تحدث لينين عن خطر النزعات التوفيقية داخل قيادة الحزب، والتي ما زالت تشكل تهديدا حتى بعد ثورة أكتوبر. يوم 14 نوفمبر، وبعد أحد عشر يوما على نجاح الانتفاضة، استقال ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية (كامينيف وزينوفييف ونوغين) احتجاجا على سياسات الحزب، وأصدروا إنذارا نهائيا (ultimatum) للمطالبة بتشكيل حكومة ائتلافية تضم المناشفة والاشتراكيين الثوريين، “وإلا فإن الطريق الوحيد الذي سيبقى هو الحفاظ على حكومة بلشفية بحتة عن طريق الإرهاب السياسي”. وأنهوا بيانهم بتوجيه نداء إلى العمال من أجل “المصالحة الفورية” على أساس شعارهم “تحيا حكومة مشكلة من كل الأحزاب السوفييتية”!. بدا أن هذه الأزمة ستدمر كل المكاسب التي حققتها ثورة أكتوبر. وردا على خطورة الوضع، دعا لينين إلى طرد هؤلاء القادة. في ظل هذا الوضع حيث ألقى لينين خطابه الذي ينتهي بعبارة: “لا تصالح! من أجل حكومة بلشفية متجانسة”. وفي النص الأصلي لخطاب لينين نجد الكلمات التالية:

«أما بالنسبة للائتلاف فإنني لا أستطيع أن أتحدث عنه بجدية. لقد قال تروتسكي منذ فترة طويلة إن الاتحاد مستحيل. لقد فهم تروتسكي هذا الأمر، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا لم يعد هناك بلشفي أفضل منه».

بعد وفاة لينين، شنت الزمرة الحاكمة: ستالين وكامينيف وزينوفييف، حملة منهجية لتزوير التاريخ، تهدف إلى التقليل من شأن دور تروتسكي في الثورة وتعزيز أدوارهم. وللقيام بذلك، كان عليهم أن يخترعوا أسطورة “التروتسكية”، لحفر هوة بين موقف تروتسكي وموقف لينين و”اللينينيين” (أي هم أنفسهم). وبدأ المؤرخون المبتذلون في النبش في ركام قمامة الجدالات القديمة التي كانت قد نسيت منذ فترة طويلة من قبل أولئك الذين شاركوا فيها: نسيت لأن جميع المسائل التي أثيرت خلالها كانت قد حلت بفضل تجربة أكتوبر وبالتالي لم يعد لها سوى أهمية تاريخية مجردة. لكن العقبة الخطيرة في طريق المزيفين كانت هي ثورة أكتوبر نفسها. وقد تمت إزالة هذه العقبة عن الطريق حذف اسم تروتسكي تدريجيا من كتب التاريخ، من خلال إعادة كتابة التاريخ، وأخيرا من خلال المنع الصريح لكل إشارة تظهر ولو بشكل بسيط دور تروتسكي.

مونتي جونستون نفسه يسوق مثالا جيدا على ذلك: في طبعة 1934 لكتاب ستالين “ثورة أكتوبر” نجد العبارة التالية:

«كل المهام العملية في العلاقة مع تنظيم الانتفاضة أنجزت في ظل القيادة المباشرة للرفيق تروتسكي، رئيس مجلس سوفييت بتروغراد. ويمكن القول بالتأكيد أن الحزب مدين في المقام الأول وبشكل أساسي إلى الرفيق تروتسكي في الانتقال السريع للحامية العسكرية إلى جانب السوفييت والطريقة الفعالة التي نظم بها عمل اللجنة الثورية العسكرية».

يقول مونتي جونستون: «لقد تم شطب هذا المقطع بشكل غير مبرر من نص المقال المنشور في أعمال ستالين، موسكو، 1953، الجزء الرابع، ص 157» (التشديد من عندنا)

“شطب بشكل غير مبرر” هي لغة رجل تفاجئ وغضب بسبب بعض التفاصيل البسيطة وغير المتوقعة. لكن لا يوجد شيء يثير الدهشة حيال ذلك، ودهشة الرفيق جونستون كاذبة تماما. فهو يدرك جيدا أن كل كتب التاريخ السوفياتية حتى وقتنا الحاضر لا تتألف إلا من الروايات الخاطئة والكاذبة تماما حول الثورة الروسية، وخاصة حول دور تروتسكي. كانت تشويهات 1924 شديدة الوقاحة على الرغم من أنها لم تكن سوى ممهد للحظة التي سيستبدل فيها ستالين ما كتب أعلاه ويكتب ما يلي:

«لم يلعب الرفيق تروتسكي أي دور خاص، سواء داخل الحزب أو في انتفاضة أكتوبر، ولم يكن في مقدوره أن يلعب أي دور باعتباره كان عضوا جديد نسبيا في حزبنا في فترة أكتوبر». (ستالين: الأعمال الكاملة، موسكو، طبعة 1953)

ولم يكن هذا بدوره سوى خطوة أخرى نحو الانحطاط الشامل للبيروقراطية الستالينية التي اتهمت ليس فقط تروتسكي، بل كل القيادة “البلشفية القديمة” بكونها متعاونة مع الفاشية الألمانية من أجل إسقاط الاتحاد السوفياتي. ومن بين التهم التي تم توجيهها خلال محاكمات الثلاثينات السيئة الذكر، اتهام بوخارين، الذي وصفه لينين في وصيته المحضورة “المفضل لدى الحزب كله”، بالتخطيط لاغتيال لينين في عام 1918!

وقد نشرت هذه الملاحظة التي “يزعم أن لينين قالها عن سلطة تروتسكي” في الطبعة الأصلية من محضر لجنة بتروغراد، لكنها اختفت في وقت لاحق على أساس أنه قد تم نسخ خطاب لينين بشكل غير صحيح من قبل مقرر اللجنة. مما لا شك فيه إن النص كله، كما هو الحال مع العديد من خطب لينين، قد تم تحريره بشكل سيء، مليء بالثغرات والجمل الغير مكتملة. لكن لم يتم حذف سوى صفحة واحدة: الصفحة التي تحتوي على تصريحات لينين حول تروتسكي. في كتابه: “مدرسة ستالين في التزوير”، استنسخ تروتسكي صورة للصفحة المذكورة. ويوجد الأصل في محفوظات تروتسكي، إلى جانب قدر كبير من المواد الأخرى التي تم حضرها في الاتحاد السوفياتي. مونتي جونستون لا يشكك في صحة الوثيقة. إنه لا يجرؤ على ذلك: فلقد أكد صحتها ليس فقط كل المؤرخين الجديين للثورة الروسية، بل أيضا تلك الوثائق المنشورة من قبل البيروقراطية السوفياتية بعد المؤتمر العشرين، بما في ذلك “وصية” لينين المحضورة، والتي نشرت من قبل المعارضة اليسارية في روسيا، والتروتسكيين في الخارج قبل ثلاثين عاما من قيام الزمرة السوفياتية الحاكمة بنشرها للعموم. بطبيعة الحال، لم يعملوا على نشر سوى جزء صغير من الوثائق التي تظهر معارضة لينين لستالين. لكن ما زالت الكمية الأكبر من الوثائق وراء الأبواب الموصدة بإحكام، في القسم “المغلق” من مكتبة لينين، المتاح فقط لـ “مؤرخي” الحزب المأجورين.

يمكن التأكد من صحة ما قاله لينين من خلال السياق الذي كان يتحدث فيه. كان يتحدث بشأن مسألة النزعة التوفيقية، لم يكن هناك قبل الحرب مدافع مفوه عنها أكثر من تروتسكي. كان تروتسكي يعتقد، على أساس تجربة ثورة 1905، أن نهوضا ثوريا جديدا سيدفع أفضل العناصر من بين المناشفة إلى اليسار، ويمكن من تحقيق الوحدة مع البلاشفة. ولقد أثبتت الأحداث نفسها عدم صحة هذا الموقف. تروتسكي، في عام 1917، اعترف بخطئه دون تردد وألغى من ذهنه بشكل نهائي أي فكرة للتوحيد مع المناشفة. لكن كتلة “البلاشفة القدماء”، من جهة أخرى، تشبثوا بعناد بأوهامهم التوفيقية حتى بعد الاستيلاء على السلطة. إن ما كانوا يطالبون به في نوفمبر 1917 كان بمثابة الردة (restoration)، أو الثورة المضادة بثوب ديمقراطي. سنطرح على مونتي جونستون سؤالا مباشرا: من الذي تصرف كبلشفي حقيقي في عام 1917، هل هو تروتسكي أم من كانوا يسمون أنفسهم “البلاشفة القدامى”؟ إنه لن يجيب. لكن لا مشكلة فقد قدم لينين الجواب عن هذا السؤال في اجتماع لجنة بتروغراد في نوفمبر 1917.

في الصفحة 21 من مؤلفه يستشهد جونستون بفقرات من رسالة لينين الأخيرة إلى المؤتمر -الوصية المحضورة الشهيرة- والتي لم تصبح متاحة لقواعد الأحزاب الشيوعية من قبل قادة الاتحاد السوفياتي إلا بعد المؤتمر العشرين. نقل جونستون ما قاله لينين حول السمات الشخصية لتروتسكي، ولكنه يغفل جملة واحدة وثيقة الصلة جدا بمؤلفه. لقد أكد لينين، في كلمته الأخيرة للحزب الشيوعي الروسي، على انه لا ينبغي أن يستخدم ماضي تروتسكي الغير بلشفي ضده.

وقد خصص مونتي جونستون أكثر من نصف مؤلفه في النبش عن كل ما يمكن أن يجده من الجدل الأكثر غموضا الذي يعود إلى الفترة السابقة لـ 1917. لكنه تغافل عن الاستشهاد بكلمة لينين الأخيرة عن تروتسكي وعلاقته بالحزب البلشفي، قبل عام 1917.

بالنسبة للينين، كما هو الشأن بالنسبة لتروتسكي، شكل عام 1917 نقطة تحول حاسمة، مما يجعل كل الجدل القديم مع تروتسكي بدون معنى. وهذا هو السبب الذي جعل لينين لم يشر إليها مطلقا بعد عام 1917. وهذا هو السبب أيضا الذي جعل تروتسكي، في 1921، يخبر أولمينسكي أنه لا معنى لنشر رسالته إلى شخيدزه. مونتي جونستون يلمح، على هذه الأسس، إلى أن تروتسكي كان مذنبا باستعمال نفس أساليب التزوير التي كان يستعملها ستالين!

يقول جونستون: «عندما سأله أولمينسكي، رئيس لجنة تاريخ الحزب، عما إذا كان ينبغي نشر [الرسالة إلى شخيدزه]، أجابه أن ذلك “غير مناسب”، مضيفا بطريقة أبوية أن: “القارئ اليوم لن يفهم، ولن يجري التعديلات التاريخية اللازمة، وسوف يشعر فقط باللبس”. كان هذا بالضبط هو السبب الذي دفع ستالين إلى حضر وتزييف الوثائق التاريخية، وهو ما ندد به تروتسكي في السنوات اللاحقة بشكل صحيح» (Cogito صفحة 7، التشديد من عندنا)

بما أن مونتي جونستون لم يقم أيضا بأدنى محاولة لشرح السياق التاريخي لهذه الرسالة – أو أي وثيقة أخرى- فإن دوافعه لاستخدامها واضحة تماما. نأمل أن نكون قد قدمنا بعض الأفكار حول “الدافع” الحقيقي لتروتسكي في هذه الفترة (1913)، أي رغبته في توحيد الحركة الماركسية. وفي كتابه “دفاعا عن الماركسية”، يفسر تروتسكي بشكل واضح أسباب موقفه. جونستون يقتبس من هذا العمل، لكن بنفس الطريقة الانتقائية المعتادة، حيث لم يستشهد سوى بجملة واحدة وهي: “لم أكن قد تخلصت في تلك الفترة وخصوصا في المجال التنظيمي من سمات ثوري برجوازي صغير”. دعونا نستشهد بكلمات تروتسكي دون الاختصارات “المناسبة”:

«لدي في ذهني ما كان يسمى بكتلة غشت لسنة 1912. لقد شاركت بنشاط في هذا التكتل. وبمعنى ما كنت أنا من خلقها. من الناحية السياسية كنت اختلف مع المناشفة حول جميع المسائل الأساسية. وكنت اختلف أيضا مع البلاشفة اليساريين المتطرفين، الفبريوديين. في الاتجاه السياسي العام كنت أقرب كثيرا إلى البلاشفة. لكنني كنت ضد “النظام” اللينيني لأنني لم أكن قد تعلمت بعد أنه من أجل تحقيق الهدف الثوري لا بد من حزب ملتحم وممركز بحزم. لذلك شكلت تلك الكتلة المؤقتة التي كانت مكونة من عناصر غير منسجمة والتي كانت موجهة ضد الجناح البروليتاري للحزب.

« كان للتصفويين فرقتهم داخل كتلة غشت، كما كان للفبريوديين أيضا ما يشبه الفرقة. كنت أنا من كتب معظم الوثائق وقد كان الهدف من خلال تجنب الخلافات المبدئية خلق ما يشبه الإجماع حول “المسائل السياسية الملموسة “. لم تتضمن كلمة واحدة عن الماضي! وقد عرض لينين كتلة غشت لانتقادات لا ترحم ووجهت أقسى الضربات إلي. لقد أثبت لينين أنه ما دمت لا أتفق سياسيا لا مع المناشفة ولا مع الفبريوديين فإن السياسة التي كنت أتبعها كانت مغامرة. كان هذا قاسيا لكنه كان صحيحا.

«لأبدي “ظرف التخفيف” اسمحوا لي أن أشير إلى واقع أن المهمة التي وضعتها على كاهلي لم تكن دعم الفرقة اليمينية أو اليسارية المتطرفة ضد البلاشفة، بل توحيد الحزب ككل. لقد استدعي البلاشفة أيضا إلى كونفرانس غشت. لكن بما أن لينين رفض رفضا قاطعا الوحدة مع المناشفة (وهو الموقف الذي كان محقا فيه بشكل كامل) وجدت نفسي في كتلة غير طبيعية مع المناشفة والفبريوديين. وظرف التخفيف الثاني هو هذا: إن ظاهرة البلشفية باعتبارها الحزب الثوري الحقيقي كانت تنمو لأول مرة – حيث لم يكن لها في ممارسة الأممية الثانية أي نظير. لكنني لا أسعى بذلك لتبرئة نفسي من الذنب. فعلى الرغم من مفهوم الثورة الدائمة الذي ظهر بلا شك باعتباره وجهة النظر الصحيحة، لم أكن قد تخلصت في تلك الفترة وخصوصا في المجال التنظيمي من سمات ثوري برجوازي صغير. كنت مصابا بمرض التوفيقية تجاه المناشفة وبعدم الثقة في المركزية اللينينية. مباشرة بعد كونفرانس غشت بدأت الكتلة تتفكك إلى الأجزاء المكونة لها. وفي غضون أشهر قليلة لم أصبح خارج الكتلة من حيث المبدأ فقط، بل وتنظيميا أيضا» (دفاعا عن الماركسية، الصفحة 141)

هكذا يكشف تروتسكي بشكل مباشر وبنزاهة، أخطائه ويشرحها. ليست لجونستون، بطبيعة الحال، أي مصلحة في ترك تروتسكي يتحدث عن نفسه، بل فقط اقتطاع عبارات معزولة (“مرض التوفيقية”، “ثوري برجوازي صغير”) والتي يستخدمها بطريقة غير نزيهة تماما، وستالينية تماما. إنه يحاول الخلط (الوسيلة المفضلة لمدرسة التزوير الستالينية) بين ستالين وتروتسكي، الشيء الذي يعتبر إهانة. إن “هدفه” مزدوج: تشويه اسم تروتسكي بتصويره ككاذب ومزيف يخفي عمدا خلافاته السابقة مع لينين[!]؛ ومن جهة أخرى، محاولة أكثر بشاعة لتجميل الجرائم الستالينية الدموية، المبنية على عظام وأعصاب كائنات بشرية، من خلال وضع تلك الجرائم على نفس مستوى رسالة تروتسكي إلى أولمينسكي!

يستخدم مونتي جونستون هذه الرسالة من أجل تأكيد حججه حول “معارضة تروتسكي العنيفة” للينين. ويبدو أن بعض التعبيرات التي يستخدمها تروتسكي تؤكد ما يدعيه جونستون. لكن الاستشهاد بالرسالة كاملة تؤكد ما كتبه تروتسكي لأولمينسكي، حول أن القارئ لن يفهم الظروف التي تمت كتابة هذه الرسالة فيها، وأنه سوف يخرج باستنتاجات خاطئة، أي بالضبط نفس الاستنتاجات الخاطئة التي يحاول مونتي جونستون أن يقنع قرائه بها اليوم.

متى كتب تروتسكي هذه الرسالة ولماذا؟ يشرح تروتسكي بنفسه هذا في كتابه “حياتي”:

«لقد نشرت رسالتي ضد لينين إلى شخيدزه خلال هذه الفترة. يعود تاريخ تلك الرسالة إلى ابريل 1913، وسببها هو أن الجريدة الرسمية للبلاشفة التي كانت تصدر في سان بطرسبرغ أخذت عنوان جريدتي التي كنت أصدرها من فيينا، “برافدا- جريدة عمالية”. وقد أدى ذلك إلى واحدة من تلك الصراعات الحادة الكثيرة الحدوث في حياة المنفيين. وفي رسالة خطية إلى شخيدزه، الذي وقف مرة بين البلاشفة والمناشفة، نفست عن غضبي على القيادة البلشفية وعلى لينين. بعد مرور أسبوعين أو ثلاثة كنت بدون شك سأخضع رسالتي لتنقيح كامل، أما بعد مرور سنة أو سنتين فقد صارت تبدو لي غريبة. لكن كان لتلك الرسالة مصير غريب. فقد تم اعتراضها من قبل الشرطة وبقيت في محفوظات الشرطة حتى اندلاع ثورة أكتوبر، حيث ذهبت إلى معهد تاريخ الحزب الشيوعي. كان لينين يعرف جيدا هذه الرسالة؛ وقد كانت تبدو له كما هو الحال بالنسبة إلي، من “بقايا ثلوج الأمس” لا أكثر. لقد كتبت الكثير من الخطابات من مختلف الأنواع خلال سنوات المنفى! وفي عام 1924، أخرج رجال الصف الثاني تلك الرسالة من الأرشيف ورموا بها في وجه الحزب، الذي كان ثلاثة أرباع أعضائه آنذاك منخرطين جدد. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الوقت الذي تم اختياره لهذا هو الأشهر القليلة مباشرة بعد وفاة لينين. كان هذا شرطا ضروريا لسببين: ففي المقام الأول، لم يعد في إمكان لينين أن ينهض ويسمي هؤلاء السادة بأسمائهم الحقيقية، وفي المقام الثاني، كانت جماهير الشعب غارقة في الحزن على وفاة زعيمها. ولا تملك أي علم عن ماضي الحزب. قرأ الناس تصريحات تروتسكي المعادية للينين وتفاجئوا. صحيح أن تلك الملاحظات كتبت قبل اثني عشر عاما، لكن لا معنى للتسلسل الزمني أمام الاقتباسات العارية. إن الاستغلال الذي قام به رجال الصف الثاني لرسالتي إلى شخيدزه هو واحد من أكبر عمليات الاحتيال في تاريخ العالم. إن الوثائق المزورة التي استعملها الرجعيون الفرنسيون في قضية دريفوس ليست شيئا بالمقارنة مع سياسة التزوير التي ارتكبها ستالين ورفاقه.» (“حياتي”، صفحات 515- 516)

إن استخدام الستالينيين لهذه الرسالة هو مجرد واحد من أمثلة لا تحصى عن الأسلوب الخسيس الذي طوروه إلى درجة عالية من الإتقان. يمكننا القول إن الكثير من التعابير المستخدمة في تلك الرسالة، والتي يستغلها مونتي جونستون بشكل كبير، حادة وخاطئة. لكن هناك فرق كبير جدا بين كلمات قيلت في لحظة غضب مفاجئ أو في حرارة الجدل، وبين الافتراءات المدروسة والخبيثة التي يلجأ إليها الستالينيون بدم بارد. يرفع مونتي جونستون يديه بسخط ورع ضد عمليات التطهير الستالينية. لكنه لا يتردد في الرجوع إلى التزوير الذي طبخ من قبل زمرة ستالين وزينوفييف وكامينيف، بعد وفاة لينين. إن مونتي جونستون بترديده لهذه الأكاذيب والتزوير الخبيث، يكون بعيدا عن القطيعة مع أساليب ستالين، بل يعيد بعثها في ثوب جديد وبشكل أكثر “احتراما”. لكنها ليست مختلفة مطلقا.

ليست “قضية” مونتي جونستون ضد تروتسكي جديدة ولا هي أصيلة. إنه فقط يغير افتراءات الثلاثينات القذرة التي انفضحت حول “تروتسكي الفاشي”، بالافتراءات “الخفية” السياسية المزعومة التي تعود إلى الفترة الأولى من صعود البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، في 1924-1929. في ذلك الوقت كانت أحداث أكتوبر 1917 ما تزال ماثلة في أذهان الناس مما يجعل من المستحيل توجيه الاتهام فورا إلى تروتسكي بأنه عميل للإمبريالية الألمانية، وإلى بوخارين بمحاولة اغتيال لينين في عام 1918. بدلا من ذلك، تم تشجيع المؤرخين المأجورين السوفييت على التنقيب في الأرشيفات، لإيجاد نفس الحجج بالضبط حول “معارضة تروتسكي العنيفة” للحزب البلشفي التي يستعملها مونتي جونستون الآن باعتبارها مساهمته الفريدة في العلوم التاريخية. وبما أن مونتي جونستون لم يضف شيئا إلى تلك الافتراءات المنافقة التي قيلت قبل أربعين عاما، فمن المناسب السماح لتروتسكي بالدفاع عن نفسه، تماما كما فعل في رسالته إلى مكتب تاريخ الحزب في عام 1924:

«كما سبق لي أن ذكرت عدة مرات، خلال خلافاتي مع البلشفية حول سلسلة من المسائل الأساسية، كان الخطأ في جانبي. للإشارة، بشكل تقريبي ومختصر، إلى طبيعة ومدى خلافاتي السابقة تلك مع البلشفية، سوف أقول ما يلي: خلال ذلك الوقت الذي وقفت فيه خارج الحزب البلشفي، وخلال تلك الفترة التي وصلت فيها خلافاتي مع البلشفية إلى أعلى مستوى لها، لم تكن أبدا المسافة التي تفصل بين وجهة نظري وبين وجهة نظر لينين أكبر من المسافة التي تفصل بين الموقف الحالي لستالين وبوخارين وبين أسس الماركسية واللينينية.»

بقلم آلان وودز وتيد غرانت
ترجمة: جريدة الشيوعي

هوامش:

[1] ملاحظة الطبعة الروسية عن وقائع هذا المؤتمر، التي نشرت عام 1959، تنص على أن: “تروتسكي أيد، في الواقع، المناشفة في كل المسائل الأساسية” (Pyatji S’yezdRSDRP Protokoly، صفحة 812)

[2] “أحداث 16-17 يوليوز”: الإشارة هنا إلى المظاهرة المسلحة التي نظمتها وحدات الجيش المناهضة لكيرينسكي، ولا سيما فوج المدفعية. حاول البلاشفة إقناع الجنود بأن تحركهم سابق لأوانه، لكنهم فشلوا في منع المظاهرة من الحدوث. وقد تم استغلال الحدث من طرف كيرينسكي وشركائه للتحضير لقمع البلاشفة، في ردة أيام شهر يوليوز.

[3] وصلت السلطات إلى الخلاصات اللازمة وألقت القبض على تروتسكي بعد ذلك بوقت قصير

*: جميع الإحالات ستكون إلى الطبعة الانجليزية، إلا في حالة الإشارة إلى العكس -المترجم-

**: نسبة إلى كورنيلوف وهو جنرال روسي عيّن قائدا أعلى للقوات المسلحة التابعة للحكومة المؤقتة في يوليوز 1917، وانضم إلى الجيش الأبيض بعد الثورة البلشفية، وقتل على يد الجيش الأحمر في ابريل 1918 – المترجم –

عنوان النص بالإنجليزية:

Lenin and Trotsky – what they really stood for: Chapter Three – From the History of Bolshevism, Part Two

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *