الرئيسية / البلشفية: الطريق نحو الثورة / البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الرابع: النهوض

البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل الرابع: النهوض

فترة انتقالية

في الربيع، نجح لينين أخيرا في تنظيم جامعة حزبية في منزل من غرفتين صغيرتين مستأجر من أحد عمال الدباغة في قرية لونجوميو بالقرب من باريس. كان الهدف من الجامعة التأكيد على الأهمية الحيوية للنظرية في تكوين الكوادر. كان لينين حريصا بشكل خاص على أن ترسل اللجان المحلية العمال والأشخاص الذين هم على اتصال مع الجماهير لحضور الجامعة. كانت هناك بالطبع جامعات حزبية أخرى في كابري وبولونيا، لكنها كانت تحت هيمنة أنصار بوغدانوف، ومن الواضح أن لينين كان يريد من تنظيم جامعة لونجوميو أن تكون موازنة لتلك الأخيرة. كرس لينين كل نشاطه لإنجاح الجامعة وأعد محاضراته بدقة مميزة. قدم ما مجموعه 45 محاضرة عن الاقتصاد السياسي والمسألة الزراعية والاشتراكية في النظرية والممارسة. كما حاضر زينوفييف وكامينيف عن تاريخ الحزب، وألقيت محاضرات أخرى من طرف شارل رابابورت وإينيسا أرماند. من بين الحضور في الجامعة كان هناك عامل شاب من كييف، لم يكن أحد يعرفه، يدعى أندري مالينوفسكي، كان عميلا للشرطة القيصرية، وكان يبلغ عن كل أنشطة الجامعة لمكتب الأوخرانا بباريس. ومن المثير للدهشة أن مالينوفسكي هذا لا علاقة له برومان مالينوفسكي الشهير.

على الرغم من أن الجامعة كانت نشاطا بلشفيا محضا، فقد كان هناك من بين المحاضرين بلاشفة وفبريوديون ومناشفة وبونديون وتوفيقيون، لكن لا وجود للتصفويين. وقد كانت هذه فكرة لينين، الذي كان يريد عزل التصفويين، وكسب أفضل العناصر من بين المناشفة (وخاصة المناشفة الموالين للحزب)، وإنقاذ من يمكن إنقاذه من “الوسطيين” والإصلاحيين اليساريين. لكن التاريخ يظهر أن معظم الإصلاحيين اليساريين يجدون أن التمسك بالإصلاحيين اليمينيين أسهل لهم من الانتقال إلى الاتجاه الثوري الصريح. ينطبق هذا القانون على القادة، لكن ليس على القواعد، كما اتضح من تجربة أعوام 1905- 1906 و1910- 1914، وكذلك عام 1917. لدينا هنا مرة أخرى مثال آخر على مرونة تكتيكات لينين، فعلى الرغم من أن هدفه الرئيسي كان هو بناء المنظمة البلشفية باعتبارها تيارا مستقلا واضح المعالم، فإنه كان من الضروري خوض نضال مستمر من أجل كسب أفضل العناصر داخل الحزب. لكن الشرط الأول كان هو بناء تيار منفصل.

لهذا السبب كان لينين سعيدا عندما تمكنوا من إصدار جريدة جديدة في بيترسبورغ: “زفيزدا” (النجم)، بهيئة تحرير تضم البلشفي ف. بونش برويفيتش، لكنها ضمت كذلك ن. يوردانسكي من مجموعة بليخانوف وإ. بوكروفسكي، وهو نائب في مجلس الدوما متعاطف مع البلاشفة. لكن لينين كان أكثر سعادة بصدور جريدة ميسل (الفكر) في موسكو، لأنها كانت جريدة بلشفية بحتة. وكتب إلى مكسيم غوركي قائلا: «هنئنا على إصدارنا جريدتنا الخاصة الصغيرة في موسكو، وهي جريدة ماركسية. لقد كان ذلك يوما سعيدا بالنسبة لنا»[1].

لكن وبشكل عام لم تكن هناك أيام سعيدة كثيرة في ذلك الوقت. كانت الأجواء المسمومة لحياة المنفيين بمشاحناتها الأبدية، معلقة مثل حجر رحى حول أعناقهم، كما يوضح لينين: «إن العيش في خضم هذه الحالة “المتقلبة”، وسط هذه المشاحنات والفضائح، وهذا العفن الجهنمي القبيح، يتسبب في المرض. ومشاهدة كل ذلك تتسبب في المرض أيضا. لكن يجب على المرء ألا يتأثر بهذا الجو. حياة المنفيين الآن هي أسوأ مائة مرة مما كانت عليه قبل الثورة. حياة المنفيين والمشاحنات لا يمكن فصلهما عن بعضهما. لكن المشاحنات يمكن أن توضع جانبا، فتسعة أعشار تلك المشاحنات تحدث في الخارج؛ المشاحنات مجرد شيء ثانوي. الشيء الأساسي هو أن الحزب والحركة الاشتراكية الديمقراطية يتطوران ويتقدمان إلى الأمام في مواجهة جميع الصعوبات الجهنمية للحالة الراهنة. إن تطهير الحزب الاشتراكي الديموقراطي من “انحرافاته” الخطيرة، التصفوية والأوتزوفية، يمضي قدما بلا هوادة، وصار يتقدم إلى الأمام، في إطار الوحدة، أكثر من أي وقت مضى»[2]. لكنه في رسالة أخرى إلى شقيقته آنا، قال: «لا أعرف ما إذا كنت سأعيش حتى أرى النهوض التالي للحركة»[3].

مشكلة النزعة التوفيقية هي أنه لا يمكن ابتذال السياسة إلى حساب بسيط. لا يكون الحال دائما هو أن حاصل اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. فاثنين من الركاب في قارب، كل واحد منهما يجذف في اتجاه معاكس، ليسا أفضل من راكب واحد يعرف بالضبط إلى حيث يتجه. كانت التيارات المختلفة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي تجذف بالفعل في اتجاهات متعارضة، مع تكتيكات متناقضة تماما، نابعة من وجهات نظر وأهداف مختلفة تماما. وقد أدت محاولة الجمع بين الاتجاهات المتناقضة إلى ظهور حالة مستحيلة، سرعان ما صارت جلية للجميع. صارت التوترات المتصاعدة داخل الحزب واضحة في كل مكان. بحلول شهر ماي 1911، قام البلاشفة بسحب ممثلهم (ن.أ.سيماشكو) من المكتب الخارجي للجنة المركزية. كما أن المكتب الروسي للجنة المركزية، الذي أصيب بالشلل بسبب الصراع الحزبي الداخلي، توقف عمليا عن الوجود. لقد كان ذلك أمرا لا مفر منه.

كتبت كروبسكايا: «إن وحدة كل المجموعات، التي تحققت بصعوبة كبيرة في يناير 1910، بدأت تتفكك بسرعة. وعندما بدأت تطرح المشاكل العملية للعمل في روسيا، صار من الواضح أكثر فأكثر أن التعاون مستحيل»[4].

لم تحل جلسة يناير العامة شيئا. وطالب لينين بالدعوة على وجه السرعة إلى عقد كونفرانس جديد. لكن أقرب رفاقه كانوا يعارضون بعناد الانفصال عن الجناح الانتهازي للحزب. فريكوف وكامينيف وزينوفييف، وغيرهم من البلاشفة التوفيقيين الآخرين، استمروا يعلقون الأوهام على المصالحة. وقد أشار لينين بازدراء إلى: «[…] النوايا الحسنة والكلمات الحلوة والأفكار الطيبة، والعجز عن وضعها موضع التطبيق»[5]. أخيرا، وبضغط من لينين، تم عقد اجتماع خاص لأعضاء اللجنة المركزية في باريس، من 28 ماي إلى 04 يونيو، 1911. حضر الاجتماع كل أعضاء اللجنة المركزية بالخارج (باستثناء البوندي يانوف). حضر لينين وريكوف وزينوفييف عن البلاشفة؛ وحضر تيشكا ودزرجينسكي عن الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين والليتوانيين؛ وحضر ليبر ممثلا للبوند؛ وحضر ب. إ. غورِر ممثلا عن هيئة تحرير غولوس، وم. ف. دزولين ممثلا عن اللاتيفيين. مما شكل خليطا متفجرا! وانطلق الاجتماع ببداية ساخنة، كما كان من المتوقع.

طرح ممثلو التصفويين والبوند على الفور شرعية الاجتماع موضع تساؤل. وبعد نقاش حاد، وافق الاجتماع أخيرا على قرار لينين بأن يعتبر هذا اللقاء اجتماعا للجنة المركزية[6]. وتم الاتفاق على عقد كونفرانس وتشكيل لجنة بغرض التحضير له. كان هذا أكثر مما يمكن للمناشفة تحمله، فقام مارتوف ودان بالانسحاب من هيئة تحرير سوتسيال ديموكرات احتجاجا على ذلك. بعد ذلك لم يعد هناك جهاز تمثيلي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي يضم البلاشفة والمناشفة معا. صار الانشقاق واقعا لا ينقص سوى تسميته باسمه. رفض المناشفة الاعتراف بشرعية اجتماع يونيو في باريس، الذي أطلقوا عليه اسم “الاجتماع الخاص”. وكانوا يعارضون بشدة عقد الكونفرانس، الذي كانوا يخشون، بحق، أن يكونوا فيه أقلية. أما لينين، فعلى العكس من ذلك، وضع كل آماله في القواعد العمالية للحزب. وبحلول ذلك الوقت صار أي حل توفيقي آخر مستحيل، على الرغم من أن التوفيقيين استمروا يماطلون خوفا من أن يصيروا “معزولين”. ومع ذلك فقد كان لينين، كما هو الحال دائما، مستعدا لاستخلاص جميع الخلاصات الضرورية من الوضع. وبمجرد أن قرر أن “الكيل قد طفح”، لم يعد من الممكن زحزحته، فشن نضالا حازما ومتواصلا ضد “التوفيقيين”.

في تلك الفترة قرر لينين دفع الأمور إلى أقصى حدودها. ومع دخول الثورة مرحلة جديدة وحاسمة، صار من الواضح أن أي محاولة أخرى للمهادنة مع المناشفة ستكون موقفا غير مسؤول. كان البلاشفة قد بدأوا يحققون المكاسب على أرض الواقع داخل روسيا، وقد أتت الجبهة الموحدة مع المناشفة الموالين للحزب بثمارها مع انتقال عدد كبير من بين أفضل العمال المناشفة إلى صفوف البلاشفة. بدأ المد يتدفق لصالح لينين مرة أخرى. وأولئك الذين تخلفوا وقاوموا الخطوات اللازمة، توجب التخلي عنهم. صار الانشقاق الحازم مع تلك العناصر التي لا يمكن إصلاحها حتميا. لم يضطر لينين إلى خوض تجربة جلسة يناير العامة، التي سرعان ما تحولت إلى مهزلة، إلا من أجل إقناع رفاقه من خلال الممارسة باستحالة الاتحاد مع التصفويين. والآن صار من الضروري إنهاء تلك “التجربة”، حتى لا تتسبب في ضرر لا يمكن إصلاحه للحزب ولقضية الثورة. كانت الحاجة الأكثر إلحاحا آنذاك هي توحيد الجناح الثوري للحزب على أساس مبدئي، للاستفادة من الموجة الثورية المتصاعدة.

كان موقف لينين الحازم قائما على اعتبارات سياسية. صار من الواضح أن التطور السياسي للمنشفية يتجه نحو اليمين. كانت المنشفية تمثل النسخة الروسية للنزعة الانتهازية. وعلى الرغم من أنه بسبب الظروف الموضوعية في روسيا، والضغط من جانب الجناح الثوري، اضطر المناشفة إلى تبني مواقف أكثر “يسارية”، فإن المحتوى الرئيسي لنظريتهم وممارساتهم كان معاديا للثورة بشكل واضح: الاقتصار على النضال البرلماني والسعي المستمر للتحالف مع الليبراليين ومعارضة كل ما من شأنه تخويف الكاديت، والمطالبة بتصفية كل الأنشطة السرية وإخضاع أنشطة الحزب إلى الشرعية القيصرية. كيف يمكن التوفيق بين هذه السياسة وبين الماركسية؟ لكن وعلى الرغم من وضوح صحة حجج لينين، فإنها وقعت على آذان صماء. نظر العديد من موظفي الحزب البلاشفة إلى المسألة من الناحية العملية والتنظيمية البحتة. وقد كتب أحد هؤلاء “العمليين” عن موقف لينين في ذلك الوقت ما يلي: «لقد سمعنا بالطبع عن “الزوبعة في الفنجان” التي حدثت في الخارج: كتلة لينين- بليخانوف، من جهة، وتروتسكي- مارتوف- بوغدانوف من جهة أخرى. إن موقف العمال من الكتلة الأولى، موقف إيجابي، على حد علمي. لكن العمال بشكل عام بدأوا ينظرون بازدراء إلى المهجر: “دعوهم يزحفون على الجدار قدر ما يشاؤون، أما بالنسبة لنا، المهتمون بمصالح الحركة/ العمل، فسوف نعتني بأنفسنا!” وهذا ما أعتقد أنه الأفضل»[7].

كان ستالين هو من كتب تلك الأسطر. وهي تنقل بدقة الازدراء الكبير تجاه النظرية والتجريبية المبتذلة التي ميزت، للأسف، العديد من أعضاء الحزب في روسيا. لقد كانوا يميلون، بصفة عامة، إلى موقف لينين لأنه يتناسب مع تصورهم لحزب مركزي منظم. لكن في حين كان الحزب، بالنسبة إلى لينين، مجرد أداة في خدمة الأفكار والنظرية الثورية، فإن أعضاء لجان الحزب، أو على الأقل جزء منهم، كانوا يميلون إلى النظر إليه من وجهة نظر تنظيمية بحتة. وحتى بعد الانشقاق النهائي، الذي حدث في عام 1912، استمر لينين يواجه مشاكل كثيرة مع أعضاء اللجان هؤلاء الذين كانوا، مثل ستالين، يعتبرون الانشقاق مجرد مشاحنات بين المنفيين، ومجرد إلهاء مزعج لهم عن المهام العملية. في أبريل 1912، أرسل لينين رسالة شديدة اللهجة إلى أوردجونيكيدزه وسباندريان وستاسوفا، لتوبيخهم على موقفهم الفاضح من النضال ضد التصفويين: «لا تستهينوا بحملة التصفويين في الخارج. إنه خطأ عظيم أن يقوم المرء ببساطة بشطب ما يجري في الخارج بجرة قلم و“إرساله إلى الجحيم”»[8].

العمل الجماهيري في ظل ظروف الردة الرجعية

في سنوات الردة الرجعية كان على البلاشفة أن يتعلموا كيفية استخدام أي فرصة وكل ثغرة ممكنة للعمل الجماهيري الشرعي. وقد كانت النقابات إحدى المجالات الرئيسية لذلك العمل. كان المناشفة، بسبب ميلهم الانتهازي للتكيف مع أفكار الفئات الأكثر تخلفا بين صفوف الطبقة العاملة، دائما أقوى من البلاشفة داخل النقابات. تبنى المناشفة موقف الاقتصادويين بأن دافعوا عن أنه يجب أن تكون النقابات “محايدة سياسيا”، وهو أمر يتناقض بشكل كامل مع المبادئ الماركسية الأساسية. صحيح أنه يجب على النقابات، بوصفها الأجهزة القاعدية لتنظيم الطبقة العاملة، أن تسعى جاهدة لأن تضم أوسع فئات البروليتاريا. الفاشيون وحدهم من يجب استبعادهم، باعتبارهم الأعداء المباشرين للطبقة العاملة، فهم لا يسعون فقط إلى تدمير النقابات، وإنما يسعون كذلك إلى القضاء على كل الحقوق الديمقراطية الأخرى التي انتزعها العمال، وبالتالي تصفية براعم المجتمع الجديد الذي ينضج داخل القديم.

ومع ذلك، ففي حين أنه يجب على النقابات أن تسعى جاهدة لتنظيم جميع فئات الطبقة العاملة، بما فيها الفئات المتخلفة سياسيا، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يجب على الماركسيين ألا يكافحون من أجل كسب الأغلبية داخل النقابات إلى رايتهم، فبالأحرى أن يسعوا إلى أن تكون النقابات “محايدة” سياسيا. لا يمكن أن يقتصر النضال من أجل حقوق العمال على النضال الاقتصادي المحض، بل إنه ينتقل حتما إلى النضال السياسي. إن المطالبة بأن تمتنع النقابات عن النشاط السياسي (وهو مطلب يوحد، للمفارقة، بين الرجعيين والنقابيين اللاسلطويين) هو شعار يخدم مصالح الأحزاب البرجوازية. إن النقابة غير السياسية هي، كما أوضح لينين مرات عديدة، نقابة صفراء، نقابة برجوازية خبزية. كان ذلك واضحا إلى درجة أنه حتى مؤتمر شتوتغارت للأممية الثانية أكد على أنه يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يسعوا إلى قيادة النقابات العمالية. لكن مارتوف عارض ذلك على أساس أنه لم يكن مناسبا للظروف الروسية.

بالنسبة للبلاشفة، كان الجمع بين العمل السري والعمل الشرعي يعني أن الاشتغال داخل المنظمات العمالية الجماهيرية مهمة إجبارية في ظل جميع الظروف. ليس من الممكن تصور نجاح الثورة الاشتراكية دون قيام الماركسيين بعمل طويل صبور لإرساء قاعدة متينة من الدعم داخل النقابات، بتطبيق تكتيكات ذكية ومرنة للنضال، ليس فقط ضد البوليس والدولة، بل أيضا ضد البيروقراطيين “البوليسيين”، الذين يسعون جاهدين لجعل النقابات آمنة لصالح الطبقة الحاكمة، من خلال تطهيرها من العناصر الثورية. نشرت جريدة “بروليتاري” في عددها رقم 21، الذي صدر في فبراير 1908، قرار اللجنة المركزية للحزب حول الموقف من النقابات العمالية. أوعز القرار إلى أعضاء الحزب بأن يشكلوا مجموعات حزبية داخل المنظمات النقابية والعمل فيها تحت إشراف الأجهزة الحزبية المحلية. وحيثما جعل اضطهاد البوليس من المستحيل تنظيم نقابات عمالية أو إعادة إنشاء النقابات التي تم تفكيكها، اقترحت اللجنة المركزية تنظيم أنوية للنقابات بشكل سري. أما بالنسبة للتنظيمات الشرعية مثل الجمعيات الخيرية وغيرها، فإن قرار اللجنة المركزية أوعز إلى المنظمات المحلية للحزب بأن تشكل داخلها “مجموعات متماسكة من الاشتراكيين الديمقراطيين للقيام بعمل الحزب بين أوسع جماهير البروليتاريا”. ولإحباط أي محاولة من جانب المناشفة لتفسير هذا الجزء من القرار بطريقة انتهازية، أشار القرار إلى ضرورة توضيح أن: «النشاط المنظم للبروليتاريا لا يمكن أن يقتصر على هذه الجمعيات وحدها»، وأن الوجود القانوني للنقابات العمالية «ينبغي ألا يقلل من المهام النضالية لتنظيم البروليتاريا داخل النقابات العمالية»[9].

على الرغم من أن المناشفة حافظوا على موقعهم المتميز في غالبية النقابات حتى عام 1917، فإن البلاشفة حققوا تقدما مطردا. ففي نوفمبر 1907، كان هناك في بيترسبورغ 12 ناد وجمعية نقابية للعمال، لكن بحلول عام 1909 ارتفع العدد إلى 19. كانت هذه الجمعيات غالبا ما تضطر إلى العمل تحت أسماء مختلفة لتمويه طبيعتها الحقيقية، فعلى سبيل المثال كان البلاشفة في سان بيترسبورغ يسيرون جمعية تدعى “مصدر التنوير والمعرفة”؛ وكانت أخرى تدعى “التنوير”؛ وأخرى في فيبورغ كان اسمها “التعليم”، وهلم جرا. في كثير من الأحيان كانت هذه الجمعيات والنوادي تلعب دور المنظمات النقابية، في غياب النقابات الحقيقية.

إن الاختراق المنتظم حتى لأشد النقابات بيروقراطية ويمينية هو واجب كل تيار ثوري جدي يناضل من أجل النفوذ بين الجماهير. وقد قام البلاشفة بهذا العمل في أصعب ظروف الردة الرجعية، وكانوا ناجحين جدا في الاستيلاء على المواقع داخل النقابات الشرعية، إلى درجة أن السلطات صارت قلقة بشكل متزايد، كما يتجلى في تقارير الشرطة، مثل هذا التقرير الذي يعود إلى ماي 1907، والذي أخرج من أرشيف الأوخرانا بعد الثورة: «لقد اتخذت النقابات العمالية بالفعل، وبشكل واضح تماما، مظهر منظمات اشتراكية ديمقراطية، وبالتالي صارت تشكل خطرا شديدا للغاية على القيادة». وطالب قادة الشرطة المنزعجون باتخاذ تدابير صارمة ضد النقابات قبل أن تؤدي “أوكار المؤامرات الثورية” تلك إلى إشعال انتفاضات مسلحة مرة أخرى[10].

لم يقتصر العمل في المنظمات الشرعية على النقابات. فقد استخدم البلاشفة كل نشاط قانوني دعت إليه الحكومة أو الليبراليون، مثل مؤتمر عموم روسيا للجامعات الشعبية في بيترسبورغ، في يناير 1908، حيث طرح البلاشفة اقتراحات ذات مضمون طبقي، مثل حق المنظمات العمالية في أن تكون ممثلة داخل مجالس الجامعات والحق في المشاركة في إعداد المناهج الدراسية واختيار الأساتذة المحاضرين المناسبين في العلوم الاجتماعية، والاعتراف لكل قومية بالتعليم بلغتها الخاصة. تم رفض المقترح، بطبيعة الحال، فقام ممثلو العمال بالانسحاب. كان هناك مجال آخر للتدخل هو التعاونيات، وقد كان لهذا الجانب أهمية عملية كبيرة، حيث لجأ العمال، في ظل ظروف الردة الرجعية القاسية، إلى تشكيل الجمعيات التعاونية لعدد من الأغراض (مثل التأمين، وما إلى ذلك). في أول مؤتمر للجمعيات التعاونية لعموم روسيا، الذي عقد في موسكو في أبريل 1908، شكل البلاشفة، ضد رغبات المناشفة، مجموعة لقيادة نضال النقابات والتعاونيات العمالية ضد الأعضاء البرجوازيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية. وبعد أن تحدث عدد من البلاشفة قامت الشرطة بحظر جميع الخطابات التي تشير إلى الصراع الطبقي والنقابات العمالية ومساعدة العمال خلال الإضرابات والإغلاقات وأي مسائل أخرى قد يكون لها معنى كفاحي (بما في ذلك انتخاب المكتب المسير)، تحت طائلة الاعتقال. واحتجاجا على ذلك قام المؤتمرون بتعليق أشغال المؤتمر.

وكان العمل بين النساء من المجالات الهامة أيضا. كانت هناك العديد من المنظمات النسائية القانونية التي عقدت مؤتمرات تدخل فيها البلاشفة بشكل منهجي. خلال المؤتمر النسائي الأول لعموم روسيا، الذي عقد في دجنبر في بيترسبورغ، كانت هناك نساء كثيرات من بين المندوبين. ومن بين النقاط على جدول الأعمال كان هناك مكافحة الإدمان على الكحول وحماية النساء والأطفال في أماكن العمل والمساواة في الحقوق لصالح اليهود وإعطاء الحقوق السياسية والقانونية للنساء. تقدمت النساء العاملات بمطلب الاقتراع العام السري المباشر والمتساوي، دون تمييز على أساس الجنس أو القومية أو الدين. رفضت لجنة الرئاسة قراءة المقترح وعوضته بمشروع قانون آخر بمضمون برجوازي ليبرالي، مما دفع بالعاملات إلى الانسحاب. كان هناك حدث مماثل في مؤتمر عموم روسيا الأول للمسؤولين في مصنع الأدوية وممثلي الصناعة التحويلية، الذين اجتمعوا في موسكو، في أبريل 1909، تحت شعار: “مهرجان المصالحة”. لكن سرعان ما خفتت أنوار المصالحة بمجرد ما بدأ العمال الحاضرون في أخذ الكلمة للتنديد بأوضاع السلامة والنظافة المروعة في أماكن عملهم. وبعد أن أمرت الشرطة بعدم طرح أية أسئلة “من شأنها إثارة الصراع الطبقي” في المناقشات، انسحب جميع العمال وبعض الأطباء، وهو الحدث الذي أجبر هيئة الرئاسة على إنهاء أشغال المؤتمر[11].

كثيرا ما كانت تلك المنظمات القانونية تضم فئات متخلفة وغير مسيَّسة، لكن حتى هنا، أي في أكثر الحقول صعوبة على ما يبدو، قام البلاشفة بعمل سياسي، واستخدموها لبناء وتعزيز روابطهم مع الجماهير. ومثلما يقوم متسلق الجبال بالبحث عن كل نتوء وكل صدع ليثبت قدمه ويرفع نفسه، كان البلاشفة يبحثون عن كل ثغرة قانونية ويستغلونها إلى أقصى حد. بل إنهم تدخلوا حتى في مؤتمر لمكافحة الكحول عقدته جمعية لمكافحة الإدمان في دجنبر 1909. وشيئا فشيئا وبتضحيات جسيمة، تمكن البلاشفة من إعادة تجميع قواهم وإعادة بناء الروابط مع الجماهير، التي كانت قد قطعتها بوحشية الثورة المضادة المنتصرة. ومع ذلك، فإن النضال كان ما يزال شاقا. كان الثوريون ما يزالون يسبحون ضد التيار. واستمر الوضع العام للطبقة العاملة كئيبا. رفض البلاشفة أي عمل من أعمال المغامرة التي من شأنها أن تعرض العمال للقمع. كانت الضرورة الأساسية هي الحفاظ على ما تبقى من القوات، والتقدم ببطء، خطوة خطوة، وانتظار حدوث تغير في الوضع. لم يبدأ المد مجددا إلا في عام 1911، مع مذبحة لينا. وقد كان انتعاش الصراع الطبقي مرتبطا، كما توقع تروتسكي، بانتعاش اقتصادي. حتى ذلك الوقت، كان الرسم البياني لحركة الإضرابات، الذي يوفر مؤشرا تقريبيا لحالة الحركة العمالية، يسجل انخفاضا مستمرا:

السنواتعدد العمال المضربين
1907740.000
1908176.000
190964.000
191046.000
(المصدر: Istoriya KPSS, vol. 2, p: 322)

ثم في الفترة الممتدة ما بين عامي 1910 و1913 أعلنت طفرة اقتصادية نهاية الكساد الطويل الذي سيطر على السنوات الأولى من القرن 20. ارتفع إنتاج الحديد الزهر في الفترة ما بين 1909 و1913 من 175 مليون بود[12] إلى 283 مليون بود -وهو ما لا تخفى علاقته باستعدادات النظام القيصري للحرب-. وفي الفترة نفسها ارتفع إنتاج الفحم من 1.591 مليار طن إلى 2.214 مليار. وقد أعطى الانتعاش الاقتصادي دفعة قوية لإحياء الصراع الطبقي. بدأ العمال في تسخين عضلاتهم والشعور مجددا بقوتهم. في النصف الثاني من عام 1910، كان هناك بالفعل ارتفاع في عدد الإضرابات، بالتزامن مع الانتعاش الاقتصادي. وقد أدت زيادة الإنتاج وازدهار الأعمال إلى تغيير الأجواء داخل أماكن العمل، وزادت ثقة الطبقة العاملة في نفسها. وبحلول منتصف عام 1910، انتقلت الطبقة العاملة مرة أخرى إلى الهجوم. في صيف 1910 أضرب 10.000 من عمال النسيج في موسكو. وفي وقت لاحق انتشرت موجة الإضرابات إلى ريغا وفلاديمير وكازان وساراتوف ووارسو وأوديسا وكوستروما، وغيرها من المراكز الصناعية. كانت الأسباب المباشرة للإضرابات هي انخفاض الأجور وظروف العمل السيئة والمشكلة القديمة المتمثلة في الغرامات التي تفرض على العمال داخل المصانع، لكن ذلك لم يكن سوى التعبير الفوري عن شعور عميق الجذور وواسع الانتشار من السخط. فالعمال الذين بدأوا الآن يشعرون من جديد بقوتهم انتقلوا إلى الانتقام. كان العمال قد عانوا من نتائج هزيمة ثورة 1905، فنهضوا للانتقام من سنوات القمع والتسريحات وتخفيض الأجور وآلاف أشكال الإذلال والظلم، بل أضربوا حتى احتجاجا على استخدام كلمة “تي” من قبل الإدارة عند التحدث مع العمال، وهي عبارة يستخدمها الكبار عند تحدثهم مع الأطفال الصغار.

سار ارتفاع الإنتاج جنبا إلى جنب مع تركيز رأس المال، مع حدوث اندماجات خلقت مصانع أكبر فأكبر. وبحلول عام 1914، صارت المصانع التي تضم أكثر من 500 عامل تشكل 56,5% من مجموع المصانع. كانت روسيا القيصرية في تلك الفترة واحدة من أكبر القوى العالمية من حيث تركيز رأس المال. استمرت روسيا اقتصادا متخلفا إلى حد ما، لكن مع تركيز هائل للصناعة ورأس المال المصرفي، إلى درجة أكبر في الواقع من معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة. كان ذلك تجسيدا واضحا للقانون الماركسي حول التطور المركب وغير المتكافئ. تظهر سيرورة الاحتكار في واقع أنه بحلول عام 1913 أنتجت تسع شركات كبيرة 53,1% من إنتاج الحديد الزهر، وسبعة مصانع للساعات كانت تنتج 90% من الساعات، وست شركات للنفط في باكو أنتجت 65% من النفط، وهلم جرا. ولم يكن العدد الإجمالي للاحتكارات في روسيا أقل من 150 إلى 200 شركة احتكارية. كانت هيمنة المصانع الضخمة، التي تركز أعدادا كبيرة من العمال في ظروف مروعة، وخاصة في صناعة المعادن، عاملا قويا أعطى دفعة هائلة لحركة الإضرابات التي سبقت الحرب العالمية الأولى ووسمتها بطابع ثوري واضح[13].

ومما له دلالة كبيرة أن العديد من تلك الإضرابات كان ناجحا، فمن بين 265 إضرابا، انتصر 140 (52,8%). والأهم من ذلك هو عدد الإضرابات السياسية، ففي عام 1909، ووفقا للأرقام الرسمية، كانت 7,7% من الإضرابات إضرابات سياسية؛ وفي عام 1910، صار الرقم هو 8,1%، لكن بحلول عام 1912، وصلت إلى الرقم المذهل 75,8%. توفر هذه الأرقام مقياسا لا يخطئ عن مزاج الجماهير. كما أن الحركة لم تقتصر على الإضرابات، حيث أثرت موجة التجذر على فئة المثقفين، وخاصة الشباب. عادت الحركة الطلابية إلى الحياة، وسرعان ما صارت تحت تأثير الأفكار الاشتراكية الديمقراطية الثورية. في يناير/ مارس 1911، كان البلاشفة في وضع يسمح لهم بالدعوة إلى إضرابات طلابية في سان بيترسبورغ وموسكو وكييف وخاركوف وتومسك ووارسو. وكانت هناك أيضا مظاهرات جماهيرية، بعضها ذات طابع سياسي واضح، مثل المظاهرات الجماهيرية الرائعة التي جرت أثناء تشييع تولستوي في نوفمبر 1910. كان ذلك الروائي الروسي العظيم قد استحق كراهية الرجعيين بسبب مواقفه التقدمية، بل لقد تعرض حتى للحرمان من طرف المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية. لكن وعلى الرغم من الرفض الرسمي، فقد كان من المستحيل منع الجماهير من المشاركة في جنازته، ليس فقط لتوديع ذلك الرجل العظيم، بل وقبل كل شيء للتعبير عن كراهيتها للنظام والحكم الاستبدادي.

كونفرانس براغ

أدى فشل محاولة تحقيق الوحدة إلى إقناع لينين بضرورة إحداث قطيعة جذرية، فبدأ يضغط من أجل عقد كونفرانس جديد لجميع العناصر الثورية الحقيقية داخل روسيا. وفي فبراير 1910، كتب أن الكونفرانس ينبغي أن ينعقد “أولا وقبل كل شيء وعلى الفور وبأي ثمن”[14]. تعاون البلاشفة والمناشفة الموالون للحزب في تشكيل اللجنة التنظيمية داخل روسيا. ومن الوقائع المعبرة أن بليخانوف لم يشارك في ذلك العمل. كانت أخطائه المنشفية قد منعته، في تلك اللحظة الحاسمة، من القطيعة التنظيمية النهائية مع التصفويين. وفي رسالة إلى مكسيم غوركي، كتب لينين: «بليخانوف يتملص، إنه دائما ما يتصرف بهذه الطريقة، التي هي مثل المرض، في اللحظات الحاسمة»[15].

كان كونفرانس براغ (الذي لم تنشر محاضره) نقطة تحول حاسمة. لقد انعقد في ظل ظروف صعبة للغاية. كان الوضع داخل روسيا ما يزال خطرا للغاية مما كان يمنع عقد الكونفرانس هناك. تعرضت التحضيرات لعقده لعراقيل كثيرة بسبب حملة الاعتقالات، على الرغم من عقد كونفرانسات محلية في نوفمبر 1911. وأخيرا تم عقد الكونفرانس في براغ. وتمت الاستعدادات على يد بياتنيتسكي ودزرجينسكي، بمساعدة من الاشتراكيين الديمقراطيين التشيك. كتب لينين إلى هؤلاء الأخيرين يؤكد على ضرورة السرية المطلقة، ففي 19 أكتوبر 1911، كتب إلى أنطون نيميتش: «يجب ألا يعرف أي أحد وأي منظمة أي شيء عن هذا [الاجتماع]». لكن وعلى الرغم من كل هذه الاحتياطات فقد تم القبض على بعض المندوبين في الطريق إلى الكونفرانس الذي كانت الأوخرانا تعرف عنه كل التفاصيل.

افتتح الكونفرانس في 05 يناير 1912، واستمر 12 يوما. وحقيقة الأمر هي أن الحضور خلال كونفرانس براغ كان بداية لا تبشر بخير. لم يكن هناك سوى 14 مندوبا بحق تصويت، كلهم ​​بلاشفة، باستثناء اثنين منهم. كان قد تم إرسال دعوات للحضور لكل من الاشتراكيين الديمقراطيين الليتوانيين والبوند والبولنديين والقوقازيين ومجموعة فبريود ومجموعة بليخانوف وكذلك صحيفة تروتسكي برافدا، لكنهم لم يحضروا. بليخانوف بقي بعيدا، مدعيا سوء ظروفه الصحية. كانت تلك التيارات إما معارضة لعقد الكونفرانس، أو أنها، على الأقل، كانت مترددة بشأن تلك القطيعة الجذرية. حتى في تلك اللحظة كانت الميول التوفيقية ما تزال قوية في معسكر البلاشفة. ظهرت اختلافات وشكوك داخل الكونفرانس، ولا سيما من جانب المناشفة الموالين للحزب، لكنهم لم يكونوا الوحيدين. تسبب ي. د. زيفين (الذي انضم فيما بعد إلى البلاشفة، وكان واحدا من هؤلاء المفوضين 26 الذين قتلهم البريطانيون في باكو) في بعض الجدال بسبب دفاعه عن موقف بليخانوف. كان بليخانوف، كما توقع لينين، قد بدأ بالفعل في التراجع. وفى الجلسة الافتتاحية، قرأ زيفين بيانا معدا مسبقا مفاده أنه يشارك في هذا الكونفرانس «ليس باعتباره كونفرانس للحزب بأكمله، بل بكونه كونفرانس لتيار واحد فقط من تيارات الحزب».

أصر عدد من المندوبين الروس، بمن فيهم رفيق لينين المقرب آنذاك أوردجونيكيدزه، على توجيه دعوات لحضور الكونفرانس إلى الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القومية ومحرري الجرائد الحزبية فبريود وتروتسكي والمناشفة الموالين للحزب، لكنهم جميعا ​​رفضوا الحضور. قال لينين في وقت لاحق: «لقد كنت ضد الدعوة، لكن المندوبين استدعوا مجموعة فبريود وتروتسكي وبليخانوف»[16]. لم يكن ذلك كل شيء، فقد أراد ما لا يقل عن أربعة مندوبين استدعاء مارتوف ودان، محرري الصحيفة الرئيسية للمناشفة غولوس سوتسيال ديموكراتا، في تناقض واضح مع موقف لينين الداعي إلى استبعاد “التصفويين” رسميا من الحزب. كانت هناك تعبيرات أخرى عن عدم التوافق، حيث انتقد العديد من المندوبين صحيفة سوتسيال ديموكراتا على نشرها مقالات غير مفهومة بالنسبة للعمال العاديين. وقد ظهرت شكوك هؤلاء المندوبين الذين يعملون داخل روسيا تجاه القادة في المنفى في الطلب الذي قدمه غولوشكيكن وأوردجونيكيدزه وسبانداريان، بأنه يجب حل المنظمات البلشفية في الخارج. أكد أوردجونيكيدزه أن منظمات المنفى “تافهة وعقيمة”، بل وشكك كذلك في جدوى الوحدة مع جماعة بليخانوف. أما سبانداريان فقد ذهب أبعد من ذلك، فقد دعا إلى حل كل مجموعات المنفى: «على أولئك الذين يرغبون في العمل… الانضمام إلينا في روسيا». نرى هنا مرة أخرى مظهرا آخر من مظاهر ضيق أفق موظفي الحزب “العمليين”. ومرة أخرى كان على لينين تصحيح أخطاء هؤلاء الناس.

«يقول البعض: علينا شن الحرب على المهاجرين. لكن يجب أن نفهم ما الذي نكافح ضده. طالما بقي نظام ستوليبين قائما في روسيا، سيبقى هناك دائما أناس في المنفى. لكن هؤلاء المنفيين مرتبطون بآلاف الخيوط مع روسيا، ولن تتمكنوا من قطع تلك الخيوط، مهما حاولتم»[17].

لكن وعلى الرغم من تثاقل خطى بعض أعضاء اللجان البلاشفة، فقد تم تحقيق الهدف الرئيسي. شكل كونفرانس براغ مفترق الطرق النهائي بين البلشفية والمنشفية. ورغم مقاطعة المناشفة للكونفرانس فقد استمرت التحضيرات لعقد كونفرانس بلشفي خالص، أي ما كان يعني، بعبارة أخرى، الانشقاق بشكل رسمي. كان لينين، على أية حال، قد توصل إلى الاقتناع بأن مرحلة المماطلة قد انتهت. كان من الضروري إجراء قطيعة جذرية للجناح الثوري عن الانتهازية، ولم يكن ليتأثر بضغط التوفيقيين. جاء في القرار النهائي بأن مجموعة التصفويين، المتحلقة حول صحيفتي سان بيترسبورغ “ناشا زاريا” و“ديلو جيزني”، “قد وضعت نفسها إلى الأبد خارج الحزب”. وكانت “ناشا زاريا” و“ديلو جيزني” صحيفتي الجناح اليميني المتطرف للمناشفة (بوتريسوف وشركاؤه). كما أكد القرار أنه ليس من حق مجموعات المنفى استخدام اسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي.

شعر بليخانوف آنذاك بعدم الارتياح لتركه وحيدا مع البلاشفة، لكنه كان قد عبر الروبيكون[18]، ولم تعد تحفظات المناشفة المواليين للحزب مجدية. لم يعد من الممكن العودة إلى الوراء آنذاك. لكنهم وعلى الرغم من أنهم كانوا أفضل العناصر بين جميع المناشفة اليساريين، وكانوا بدون شك مناضلين صادقين ومخلصين لقضية الطبقة العاملة، فقد اتضح أنهم حلفاء متذبذبون وغير حازمين، وتراجعوا عندما جاءت اللحظة الحاسمة. لقد كانوا تيارا وسطيا، أي تيارا يقف في منتصف الطريق بين الإصلاحية اليسارية وبين الماركسية الحقيقية. كان سلوكهم مثالا نموذجيا تماما عن جميع التيارات الوسطية في جميع الأوقات وفي كل مكان. إلا أن لينين لم يكن مستعدا للتوصل إلى حل توفيقي وتم رفض مقترحاتهم. لكن على الرغم من اللهجة المتشددة للقرارات، فإن لينين فهم أن كونفرانس براغ لم يكن نهاية القصة، بل فقط بداية المعركة لكسب غالبية الطبقة العاملة، وكذلك جميع عناصر الحزب الذين يمكن كسبهم.

فيما يتعلق بمسألة التنظيم فقد أكد لينين مرة أخرى على ضرورة فتح أبواب الحزب، وتشكيل منظمات واسعة قادرة على استيعاب جماهير العمال الذين استفاقوا مؤخرا على الحياة السياسية في ظل الوضع الجديد. أنشئت لجنة لوضع قرار تنظيمي. كان من الضروري أن يتكيف الحزب مع الظروف المتغيرة. وكانت هناك حاجة ماسة إلى إشراك المزيد من الناس في العمل، ومنحهم المسؤوليات. حتى تلك اللحظة كان عدد قليل من الناشطين في الخلايا السرية قد اعتادوا على القيام بكل شيء بأنفسهم، أما الآن فقد صارت هناك حاجة إلى تفويض أكبر للمسؤوليات والمزيد من المشاركة والمزيد من المبادرة من جانب العمال الاشتراكيين الديمقراطيين في المصانع والنقابات وجميع المنظمات الأخرى التي كان الحزب موجودا فيها. ينبغي لهذه المنظمات الأوسع أن تضطلع بدور أكبر في عمل الحزب، كما ينبغي تشكيل لجان الفروع للحد من مخاطر القمع. وكان من الضروري أيضا القضاء على سيطرة الليبراليين على المنظمات الشرعية. هذه هي السمة الأساسية للسياسة اللينينية، والتي هي النقيض المطلق لجميع أنواع العصبوية. لم يكن المقصود من إعلان حزب مستقل أن يشكل مبادرة فارغة أو خطوة شكلية، بل أن يكون الخطوة الأولى لتنظيم عمل الثوريين داخل المنظمات الجماهيرية، حيث كان عليهم الانخراط في النضال من أجل تخليص الجماهير من نفوذ الليبرالية البرجوازية والقيادات الانتهازية. وقد شدد الكونفرانس على دور الصحافة الحزبية باعتبارها وسيلة تنظيمية، وعين رابوتشايا غازيتا (جريدة العمال) باعتبارها الجريدة الرسمية للحزب.

كان أحد أهم أهداف كونفرانس براغ وضع برنامج عمل ملموس لبناء الحزب. وقد علق لينين أهمية كبيرة على التقارير القادمة من المحليات، والتي كانت تقدم الأساس المادي لمنظوراته العامة. وكان عمل الفريق البلشفي داخل الدوما عنصرا رئيسيا في كسب غالبية العمال إلى البلشفية. أوضح لينين خلال الكونفرانس التكتيكات الانتخابية البلشفية، وقد استندت، من جهة، إلى معارضة النظام الملكي القيصري وأحزاب البرجوازية والملاكين العقاريين التي تقف وراءه، ومن جهة أخرى كان من الضروري فضح الليبراليين والحفاظ على الاستقلالية التامة عنهم. يجب على الفريق البلشفي داخل الدوما أن يسعى جاهدا لعقد الاتفاق النضالي فقط مع ممثلي البرجوازية الصغيرة الثورية (الفلاحين): الترودوفيك والاشتراكيين الثوريين. كان الحزب سيقدم مرشحيه في جميع المقاطعات، لكن وفي ظل ظروف معينة، كان من الممكن التوصل إلى اتفاقات جزئية مع “مجموعات أخرى”، بما في ذلك التصفويين. وأوضح قرار الكونفرانس ما يلي: «يجب على الحزب أن يشن حربا لا هوادة فيها ضد الاستبداد القيصري وضد أحزاب الملاكين العقاريين والرأسماليين الذين يدعمونه، وأن يفضح في الوقت نفسه الآراء المعادية للثورة والديمقراطية الكاذبة لليبراليين البرجوازيين (وعلى رأسهم حزب الكاديت). وينبغي إيلاء اهتمام خاص، خلال الحملة الانتخابية، للحفاظ على استقلالية حزب البروليتاريا عن جميع الأحزاب غير البروليتارية، ولفضح الطبيعة البرجوازية الصغيرة للاشتراكية الزائفة للجماعات الديمقراطية (وعلى رأسها الترودوفيك والنارودنيين والاشتراكيين الثوريين)، وفضح الضرر الذي لحق بقضية الديمقراطية بسبب تذبذبهم بخصوص مسائل النضال الثوري الجماهيري»[19].

المخبر مالينوفسكي

بالإضافة إلى المجموعات التي سبق ذكرها، كان هناك تيار آخر حاضر في كونفرانس براغ، وإن بصفة “غير رسمية”. كانت الشرطة السرية القيصرية، الأوخرانا، قد نجحت في وضع مخبريها في أعلى مستويات المسؤولية داخل الحزب، وكان بعضهم، وبالضبط اثنين منهم، حاضرين خلال المؤتمر البلشفي التأسيسي، بدون علم بقية المندوبين. لم يكن مندوب موسكو سوى العميل المخبر السيئ السمعة: رومان مالينوفسكي، العضو في فريق الدوما البلشفي، والذي رافقه في هذه المناسبة عميل آخر هو أ. رومانوف، مندوب المنطقة الصناعية المركزية. كانت كل خطابات وقرارات الكونفرانس معروفة للشرطة بسبب تقاريرهما المفصلة. وفي محاولة لحماية أعضاء اللجنة المركزية الجديدة من خطر الاعتقال، تم استخدام أساليب سرية خاصة للحماية من الشرطة. فقد كتب كل مندوب لقب من يرشحهم لعضوية اللجنة ثم سلم الورقة إلى لينين. حتى النتيجة لم تعلن خلال الكونفرانس. لكن رومان مالينوفسكي، الذي كان مخبرا ذو مهارات عالية، كان قد قام بعمل فعال جدا لكسب ثقة لينين. نجح مالينوفسكي ليس فقط في الحصول على أسماء أعضاء اللجنة المركزية، بل وتمكن أيضا من الحصول على أسماء فريق الدوما. كان هناك مخبرون داخل جميع أجهزة الحزب في روسيا. وتعرض الحزب لسلسلة من غارات الشرطة في بيترسبورغ في فبراير ومارس 1912. وفي رسالة مؤرخة بـ 28 مارس، كتب لينين بقلق أن “أوضاعنا سيئة هناك”.

إن وجود جاسوس على هذا المستوى الرفيع داخل الحزب يشهد على الكفاءة والمثابرة الاستثنائيتين للشرطة السرية القيصرية. لم يكن ذلك حدثا معزولا، فقد تم تطوير تكتيك الاستخبار والتجسس إلى درجة عالية من قبل النظام القيصري على مدى فترة طويلة. وكان الحزب البلشفي يعاني باستمرار من اختراقات البوليس الذين نجح بعضهم في التسرب إلى مواقع رئيسية داخل الحزب، مثل حالة شخص يدعى زيتوميرسكي، الذي تمكن حتى قبل عام 1905 من احتلال موقع هام داخل المنظمة السرية في برلين، حيث تعاون مع بياتنيتسكي في نقل الأدب البلشفي إلى روسيا. تتذكر بوبروفسكايا قائلة: «لقد كان يبدو واحدا منا في كل شيء، كان يبدو بلشفيا مخلصا 100%»[20]. وبعد هزيمة دجنبر، ونقل المركز البلشفي مرة أخرى إلى الخارج، قدم زيتوميرسكي خدماته لاستعادة العلاقات القديمة في أوروبا وتنظيم نقل الأدب البلشفي السري إلى روسيا. تم قبول العرض. وبعد فترة، أصبح عضوا في الهيئة التقنية الهامة داخل اللجنة المركزية المسؤولة عن جميع المهام السرية. نتيجة لذلك كانت السلطات القيصرية دائما ما تسبق الثوريين بخطوة إلى الأمام، وكانت تكتشف المجموعات البلشفية الواحدة منها تلو الأخرى وتعمل على سحقها. لم يتم القبض عليه بالجرم المشهود إلا عام 1911. وقد تمكن من النجاة حيث أنقذه أسياده، لكن كان هناك الكثير من الآخرين ليحلوا محله.

كانت هناك العديد من الأسباب التي جعلت الأوخرانا ناجحة جدا في اختراق الحركات الثورية (وليس البلاشفة فقط) في ذلك الوقت. لقد تسببت هزيمة ثورة 1905، كما سبق لنا أن رأينا من قبل، في انتشار الإحباط على نطاق واسع، وخاصة، لكن ليس حصرا، بين المثقفين. فقد الكثير من الناس البوصلة. إن الانهيار الأيديولوجي والشك والكلبية والردة، كلها نتائج طبيعية لمثل هاته المراحل، التي هي شائعة جدا في تاريخ الحركة. إن الثوري المفتقد للفهم النظري اللازم، والقناعة المبدئية، المعزول في السجن، تحت وطأة استنطاق قاس على يد عملاء مهرة، يمكنه أن ينهار تحت الضغط. بعد ذلك يصير للأشياء منطقها الخاص. كما أنه ليس من الصعب فهم السهولة التي يتمكن بها بعض هؤلاء العملاء من الوصول إلى أعلى مراكز المسؤولية، ففي فترة الردة الرجعية المتفشية، عندما كانت المنظمات الحزبية محطمة وكان الأشخاص الأكثر خبرة في السجن أو المنفى، صار من الحتمي أن تحل محلهم عناصر جديدة لم يتم اختبارها، كان من السهل نسبيا على الشرطة أن تقحم عملاءها بينهم. وبالنظر إلى النقص الشديد في المناضلين المؤهلين، كان في مقدور أي شخص يظهر بعض المواهب أن يحصل على فرصة جيدة للوصول إلى منصب قيادي. ويمكن تسهيل طريق وصوله إلى مراكز القرار بمجرد قيام الشرطة باعتقال أي شخص يمثل عقبة أمامه.

في هذا السياق ليس من الصعب تفسير صعود رومان مالينوفسكي. كان مالينوفسكي، البولندي بالولادة، شخصا ماهرا ذكيا وحيويا، لكن مع سمات مغامر. وقبل أن ينتقل إلى موسكو، كان رئيسا لنقابة عمال الصلب بسان بيترسبورغ. تعرض مالينوفسكي للاعتقال والنفي بسبب نشاطه الحزبي. ولذلك صارت سمعته لا تشوبها شائبة، ولم يكن هناك شيء قد يؤدي إلى الشك في وجود جانب مظلم عنده، على الرغم من أنه كان قد صار عميلا للشرطة القيصرية في عام 1910. في الواقع، ساعدته الشرطة على أن يصير المرشح البلشفي إلى البرلمان، بالطريقة المعتادة التي كانت هي القبض على المرشحين الآخرين! تظهر سجلات الشرطة أنه كان يتلقى مبلغا من المال مقابل كل عملية اعتقال، 500 روبل و700 روبل، الخ. لكن من المرجح أن رجلا مثل مالينوفسكي لم يكن يعمل من أجل المال فقط. هناك نوع من الأشخاص الذين يمتلكون نفسية المغامر، أناس من دون أي مبادئ ثابتة يحبون الإثارة، بل ويحسون بنوع من الفخر بقدرتهم على خداع الناس، وهلم جرا. في عالم الإجرام يمكن لمثل هؤلاء الناس أن يحققوا نجاحات كبرى كمخادعين- إلى أن يتم القبض عليهم. كان مالينوفسكي من ذلك النوع من الثوريين السابقين المحبطين الذين قضت الكلبية فيهم بشكل كامل على كل انتماء طبقي وقتلت فيهم كل ضمير. إن عنصر المغامرة والإثارة التي يخلقها التمثيل والحياة المزدوجة والخطر الذي يلازم حياة الجواسيس، ساعده ربما على تخفيف حدة الشعور بالخيانة وتعطيل عقله عن التفكير في بشاعة وهول ما كان يقوم به. وفي كل الحالات يبدو أنه كان يشعر بالفخر بـ“عمله”، الذي كان ناجحا للغاية لبعض الوقت.

قام مالينوفسكي، طيلة فترة عمله في الدوما، بعمل جيد وكان ذا شعبية كبيرة لدرجة أنه لا أحد اشتبه في كونه عميلا للبوليس. وعندما اتهمه المناشفة بكونه عميلا، رفض لينين التهمة باستنكار، وهو الأمر الذي يمكن تفهمه، فالصراع بين الفصائل كان شديدا إلى درجة أنه خلق كل أنواع الشائعات غير المسؤولة ضد الأفراد. وقد أرجع لينين ذلك بشكل طبيعي إلى الصراع التكتلي المعتاد والإشاعات المغرضة حول عضو بارز بالفريق البلشفي داخل الدوما، ينشرها أعداؤه. تتذكر بوبروفسكايا الجو الذي كان سائدا داخل حلقات الحزب في موسكو مباشرة بعد كونفرانس براغ. كان شقيقها قد تعرض للاعتقال وتم تفتيش شقتهم من قبل الشرطة بعد وقت قصير من تسليمه لعناوين وأماكن الاجتماع السرية على الحدود لمالينوفسكي قبل سفره كمندوب: «عندما سمح لي بالزيارة الأولى لأخي، تمكن من أن يهمس لي قائلا: “هناك شخص ما يتجسس في موسكو؛ صرت متأكدا من ذلك بعد استجوابي الأول من قبل الشرطة”. ومع ذلك لم يكن هناك أحد أبعد عن الشبهات في هذا الصدد مما كان مالينوفسكي؛ أي شخص آخر ما عداه هو، إنه نجمنا الصاعد، الذي استقطبت خطاباته داخل دوما في وقت لاحق اهتماما عاما»[21].

لكن كل نجاحاتهم في التسلل إلى المنظمات الثورية، حتى أعلى المستويات، وجميع أعمال الاستخبار والتجسس والاعتقالات، لم تفدهم شيئا في آخر المطاف. هناك اتجاه عام من جانب الأنظمة المفلسة تاريخيا لإيلاء أهمية مفرطة للقوة المفترضة للدولة، وخاصة الجانب التقني لجهاز القمع. ويمكن أن تجد هذه الفكرة أحيانا عند بعض “الماركسيين” الذين قد يتبنون موقف احترام غريب لسلطة الدولة – والذي هو انعكاس لأوهام الطبقة الحاكمة. في الواقع، كل قوى الدولة تنهار وتتحول إلى غبار في اللحظة التي تواجهها قوة الجماهير المنظمة والعازمة على تغيير المجتمع ووضع حد لعبوديتها. من الصعب (على ما يبدو) تخيل دولة أكثر قوة من الدولة القيصرية الروسية بجيشها الجبار والعدد الهائل من قوات الشرطة والمساعدين القوزاق والبيروقراطية الواسعة. كانت الشرطة السرية من بين أذرع تلك الدولة، كما هو الحال في أي دولة أخرى. طور ذلك الجهاز تكتيكات الاختراقات والتجسس إلى مستويات لا يمكن تصورها. لكن، وفي لحظة الحقيقة، ماذا كانت فائدة كل ذلك؟ لقد كنست الطبقة العاملة، بقيادة الحزب البلشفي، كل شيء جانبا بضربة من يدها.

على المنظمة الثورية، بطبيعة الحال، أن تتخذ جميع التدابير الممكنة لمكافحة وعرقلة محاولات الدولة الرأسمالية التجسس عليها والتسلل إلى صفوفها (وهذه حقيقة من حقائق الحياة حتى في الدول “الأكثر ديمقراطية”)، لكنه لا يمكن لهذه التدابير، في آخر المطاف، أن تكون حاسمة، بل يمكن أن تكون لها نتائج عكسية. ومن المفارقات أن العملاء مثل مالينوفسكي، وبالتحديد من أجل إبعاد أنفسهم من دائرة الشكوك، يكونون هم أنفسهم مضطرون للقيام بالعمل لصالح الثورة. بعد سنوات على ذلك، وبعد حسم البلاشفة للسلطة، كان لينين عميقا جدا في الموقف الذي أعطاه من قضية مالينوفسكي. لقد تمكن مالينوفسكي بالتأكيد من خيانة العشرات من الرفاق وتعريضهم للاعتقال والأشغال الشاقة والموت. لكنه وبينما كان يقوم بذلك، كان مضطرا لمساعدة الحزب على إصدار صحيفة شرعية: برافدا. كان يرسل الرفاق إلى السجن بيد، وباليد الأخرى، ومن أجل تفادي افتضاح أمره، كان يساعد على بناء الحزب الثوري. هذه هي سخرية الحياة! وقد رافقت السخرية مالينوفسكي حتى وفاته. عندما اختفى فجأة، قبل الحرب العالمية الأولى بفترة وجيزة، وضاعف المناشفة هجماتهم، وظل لينين يرفض تصديق التهمة، على الرغم من أن الحادث كان تطورا غير سار. وعندما طرد مالينوفسكي أخيرا، كان ذلك بتهمة انتهاك شروط الانضباط الحزبي، بسبب تخليه عن منصبه دون إذن!

فقط بعد ثورة أكتوبر، عندما فتح البلاشفة أخيرا ملفات الشرطة، ظهرت الحقيقة المذهلة حول دور مالينوفسكي الحقيقي. وما حدث بعد ذلك كان من الغرابة بحيث يجعله جديرا بقصص الجاسوسية الخيالية. في الوقت الذي كانت أرشيفات الأوخرانا تكشف عن أسرارها، كان مالينوفسكي يعمل في ألمانيا دبلوماسيا سوفياتيا. عندما تلقى الاستدعاء المصيري للعودة إلى موسكو، كان عليه أن يدرك على الفور أنه قد انفضح. وعلى الرغم من أنه كان من السهل عليه أن يفر بجلده، فإنه عاد إلى روسيا. لماذا عاد؟ هل كان محبطا جدا إلى درجة أنه لم يعد يهتم بما سيحدث له؟ أو، وهذا ما يبدو أكثر احتمالا، هل كان يمني نفسه بطلب رحمة الحزب، وادعاء الولاء للثورة؟ إذا كان الأمر كذلك، فقد سارت الأمور بشكل سيء بالنسبة له. لقد دفع مالينوفسكي حياته ثمن جرائمه.

بعد الكونفرانس

بعد وقت قصير من كونفرانس براغ، في 28 فبراير 1912، نظم المناشفة وجميع المجموعات الأخرى كونفرانسا منفصلا في باريس. كان الانقسام قد صار حقيقة معترفا بها من قبل الجميع. حضر اجتماع باريس كل من لجنة البوند في الخارج وجماعة بليخانوف ومجموعة فبريود ومجموعة غولوس ومجموعة تروتسكي، والتوفيقيون. كان الجميع غاضبين من الممارسات “الانشقاقية” ومحاولات “الانقلاب” من جانب البلاشفة. وكما حدث في مناسبات سابقة، فقد أثاروا ضجة في الخارج، وكتبوا في صحافة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأرسلوا احتجاجا إلى مكتب الأممية الاشتراكية. لكن من دون جدوى. كان الانقسام الذي حدث بين التيار الماركسي الثوري وبين التيار الانتهازي في روسيا استباقا للانقسام الذي ستعرفه الحركة العمالية الأممية في عام 1914. وعلى الرغم من أنه لم يكن في مقدور لا لينين ولا أي شخص آخر أن يتنبأ بالخيانة الرهيبة التي ارتكبها قادة الأممية الثانية خلال الحرب العالمية الأولى، فإن لينين كان قد استخلص بالفعل دروس تجربة الصراع بين الماركسية وبين الانتهازية في روسيا وموقف قادة الأممية منه. وفى إشارة منه إلى الوضع داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني قال إنه: «موحد من الخارج، لكن في الداخل هناك اتجاهان محددان بشكل واضح»، وتوقع حتمية الصراع بينهما.

اعتبر لينين أن كونفرانس براغ انبعاث جديد للحزب. بعد الكونفرانس كتب لينين إلى مكسيم غوركي قائلا: «لقد نجحنا أخيرا -على الرغم من التصفويين الأوغاد- في إحياء الحزب ولجنته المركزية»[22]. وأعرب عن أمله في أن الجناح الثوري، بعد أن تمكن من الانفصال عن المناشفة، صار في إمكانه أن ينكب على مهمة كسب الطبقة العاملة إلى رايته. ومع ذلك، فإن عملية فصل الجناح الثوري لم تحدث بسهولة أو بدون نزاع داخلي. كان رد التيارات الأخرى على كونفرانس براغ هستيريا، كما كان متوقعا، وكان العديد من البلاشفة ما يزالون مترددين حتى بعد كونفرانس براغ. وفي رسالة منه إلى شقيقته آنا، وصف لينين المزاج السائد بين المنفيين قائلا: «يسود بين رفاقنا هنا من المشاحنات والصراعات أكثر مما سبق لنا أن رأينا منذ فترة طويلة – بل ربما لم يكن هناك مثل هذا من قبل. كل المجموعات والمجموعات الفرعية وحدت قواها ضد الكونفرانس الأخير وضد من نظموه، حتى أن الأمور تصل أحيانا إلى استعمال الأيدي خلال الاجتماعات هنا. باختصار لا يوجد سوى القليل جدا من الأشياء المثيرة للاهتمام أو التي تستحق الذكر».

والأسوأ من ذلك هو أن العديد من الناشطين داخل روسيا، بمن فيهم البلاشفة، كانوا توفيقيين. وقد اعترف لينين في وقت لاحق لغوركي بأن: “العمال الشباب في روسيا” كانوا “غاضبين بشدة من المنفيين”[23]. تكشف مراسلات لينين في الأشهر التي تلت كونفرانس براغ عن قلقه. وفي 28 مارس كتب إلى مؤيديه في روسيا: «إنني أشعر بالضيق والانزعاج الشديدين من الفوضى الكاملة التي تسود علاقاتنا واتصالاتنا. حقا إنه وضع محبط!» واعترف أن: “الأمور سيئة” في سان بيترسبورغ، وفي غيرها. قال: «لا تصدر قرارات من أي مكان، ليس هناك ولا قرارا واحدا، يطالب بالمال! [أي الأموال البلشفية التي تحتفظ بها الأممية الاشتراكية]. هذا عار! لم تأت لا من تيفليس ولا من باكو (والتي هي مراكز هامة جدا) أي كلمة ذات معنى عن تسليم تقارير. أين هي القرارات؟ هذا عار ومصيبة!». في وقت لاحق كتب: «أنتم مخطئون بعدم الرد على التصفويين. وهذا خطأ فادح»[24]. وكانت هناك العديد من مثل هذه الرسائل.

وفي الوقت نفسه لم يكن معارضو الكونفرانس خاملين. حاول تروتسكي تنظيم اجتماع آخر، في غشت 1912 في بِرْن، لكن وحدهم التصفويون من حضروا الاجتماع، كما لو أن ذلك لتأكيد الورطة السيئة التي وضع نفسه فيها. وقد كتب يصف موقفه في ذلك الوقت قائلا:

«في عام 1912، عندما اتخذ المنحنى السياسي في روسيا منعطفا صاعدا بشكل لا لبس فيه، قمت بمحاولة تنظيم كونفرانس وحدوي لممثلي جميع الفصائل الاشتراكية الديمقراطية. ولإظهار أنني لم أكن وحدي من يراوده أمل استعادة وحدة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، أستطيع أن أستشهد بروزا لوكسمبورغ، التي كتبت، في صيف عام 1911: “على الرغم من كل شيء، ما يزال من الممكن إنقاذ وحدة الحزب إذا ما تم إجبار كلا الطرفين على الدعوة إلى كونفرانس وحدوي”. وفي غشت 1911، أكدَت مجددا: “إن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الوحدة هي عقد كونفرانس عام للأعضاء المبعوثين من روسيا، لأن الجميع في روسيا يريدون السلام والوحدة ويمثلون القوة الوحيدة التي يمكنها أن تعيد الديكة المتصارعة بالخارج إلى رشدها”.

كانت الميول التوفيقية ما تزال قوية جدا، حتى بين البلاشفة أنفسهم، وكنت آمل أن يحفز ذلك لينين أيضا على المشاركة في كونفرانس عام. لكن لينين وقف بكل قوته ضد الوحدة. لقد أثبتت مجمل الأحداث التي تلت ذلك، وبشكل قاطع، أن لينين كان على حق. اجتمع الكونفرانس في فيينا، شهر غشت 1912، من دون البلاشفة، ووجدت نفسي رسميا في “كتلة” مع المناشفة وبعض المجموعات المتباينة من المعارضين للبلاشفة. لم يكن لهذه الكتلة أي أساس سياسي مشترك، لأنني كنت أختلف مع المناشفة في جميع المسائل الهامة، وقد استأنفت نضالي ضدهم مباشرة بعد الكونفرانس. وفي كل يوم كانت تندلع صراعات مريرة بسبب التعارض العميق بين التيارين: تيار الاشتراكيين الثوريين وتيار الديمقراطيين الإصلاحيين.

كتب أكسلرود، في 04 ماي، قبيل الكونفرانس بقليل: “من رسالة تروتسكي حصلت على الانطباع المؤلم للغاية بأنه ليست لديه أدنى رغبة في التوصل إلى تفاهم حقيقي وودي معنا ومع أصدقائنا في روسيا… من أجل خوض معركة مشتركة ضد العدو المشترك”. وبالفعل لم يكن لدي في الواقع، ولا يمكن أن يكون لدي، أية نية في الاتحاد مع المناشفة للنضال ضد البلاشفة. وبعد الكونفرانس، اشتكى مارتوف، في رسالة إلى أكسلرود، بأن تروتسكي يحيي “أسوأ عادات الفردانية الأدبية التي تميز لينين وبليخانوف”. إن المراسلات بين أكسلرود ومارتوف، التي نشرت قبل بضع سنوات، تشهد على هذه الكراهية العميقة التي كانا يشعران بها ضدي. أما من جهتي، فعلى الرغم من الهوة الكبيرة التي فصلتني عنهما، فإنه لم يكن لدي أي شعور من هذا القبيل تجاههما. وحتى اليوم، ما زلت أتذكر بامتنان أنني كنت مدينا لهما في السنوات السابقة بأشياء كثيرة.

كتلة غشت صارت مكونا أساسيا في جميع كتب “مكافحة تروتسكي”، حيث يتم تصوير الماضي، بالنسبة للمبتدئين والجاهلين، بطريقة توحي بأن البلشفية خرجت من مختبر التاريخ مسلحة بشكل كامل، في حين أن تاريخ نضال البلاشفة ضد المناشفة هو أيضا تاريخ الجهود المتواصلة من أجل الوحدة. وبعد عودته إلى روسيا عام 1917، بذل لينين آخر جهوده للتوصل إلى اتفاق مع المناشفة الأمميين. عندما وصلت من أمريكا، في شهر ماي من نفس العام، كانت غالبية المنظمات الاشتراكية الديمقراطية في الأقاليم تتكون من بلاشفة ومناشفة متحدين. وفي كونفرانس الحزب، في مارس 1917، قبل أيام قليلة من وصول لينين، كان ستالين ينادي بالوحدة مع حزب تسيريتيلي. وحتى بعد ثورة أكتوبر، كان زينوفييف وكامينيف وريكوف ولوناتشارسكي، وعشرات الآخرين، يصارعون بجنون من أجل إقامة ائتلاف مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. وهؤلاء أنفسهم هم الرجال الذين يحاولون الآن الدفاع عن وجودهم الأيديولوجي من خلال نشر الخرافات حول كونفرانس فيينا لعام 1912!»[25].

لقد كانت كتلة غشت مجرد خليط غير مبدئي لأنها كانت تتألف من تيارات مختلفة لا وجود لأي شيء مشترك بينها سوى عدائها للينين. لم يكن قد بقي لأي حديث عن “الوحدة” أي جدوى آنذاك. وعندما انسحب ممثلو فبريود، بقي تروتسكي وحيدا مع التصفويين، الذين لم يكن لديه أي شيء مشترك معهم. كانت كتلة غير طبيعية تماما، كما اعترف تروتسكي بنزاهة في وقت لاحق. لقد كان تروتسكي مخطئا بلا شك في محاولته تحقيق الوحدة في ذلك الوقت، لكن خطأه كان خطأ مناضل ثوري حقيقي يحمل في قلبه مصالح الطبقة العاملة وانتصار الاشتراكية. وبعد سنوات عديدة، أصدر تروتسكي حكما نهائيا بشأن كتلة غشت ودوره فيها، حين قال: «أتذكر ما كان يسمى بكتلة غشت لعام 1912. لقد شاركت بنشاط في تلك الكتلة، بل لقد كنت بمعنى ما أنا من صنعها. من الناحية السياسية، اختلفت مع المناشفة في جميع المسائل الأساسية، كما اختلفت أيضا مع البلاشفة اليسراويين المتطرفين، الفبريوديين. من الناحية السياسية العامة كنت أقف أقرب إلى البلاشفة، لكنني كنت ضد “النظام” اللينيني لأنني لم أكن قد توصلت بعد إلى أن أفهم أنه من أجل تحقيق الهدف الثوري لا بد من وجود حزب ممركز ملتحم بحزم. وهكذا شكلت هذه الكتلة العرضية التي كانت تتكون من عناصر غير متجانسة والتي كانت موجهة ضد الجناح البروليتاري للحزب.

في كتلة غشت كان للتصفويين فصيل خاص بهم، وكان للفبريوديين أيضا شيء يشبه الفصيل، أما أنا فقد وقفت معزولا، كان معي بعض من يشاركونني المواقف لكن بدون فصيل. كنت أنا من كتب معظم الوثائق، ومن خلال تجنب الاختلافات المبدئية كان الهدف خلق شكل من الإجماع حول “قضايا سياسية ملموسة”. أخضع لينين كتلة غشت لنقد شديد، وكانت أشد الضربات من نصيبي. وقد أثبت لينين أنه بما أنني لم أتفق سياسيا لا مع المناشفة ولا مع الفبريوديين، فإن سياستي كانت مغامرة. كان ذلك الحكم قاسيا، لكنه كان صحيحا.

و“لظروف التخفيف” اسمحوا لي أن أذكر حقيقة أنني كنت قد حددت مهمتي بعدم دعم الفصائل اليمينية أو اليسراوية المتطرفة ضد البلاشفة، بل توحيد الحزب بأسره. كان البلاشفة بدورهم مدعوون إلى كونفرانس غشت، لكن وبما أن لينين رفض رفضا قاطعا الوحدة مع المناشفة (وقد كان محقا في ذلك بشكل كامل) وجدت نفسي في كتلة غير طبيعية مع المناشفة والفبريوديين. والظرف الثاني المخفف هو أن ظاهرة البلشفية ذاتها، بوصفها الحزب الثوري الحقيقي، كانت تتطور للمرة الأولى، إذ لم تكن هناك أية سابقة لها في ممارسة الأممية الثانية. لكنني لا أسعى بهذه الطريقة أبدا إلى إعفاء نفسي من الذنب. إلا أنه على الرغم من مفهوم الثورة الدائمة، الذي اتضح بلا شك أنه المنظور الصحيح، فإنني لم أحرر نفسي في تلك الفترة، ولا سيما في المجال التنظيمي، من سمات الثوري البرجوازي الصغير. كنت مريضا بمرض التوفيقية تجاه المنشفية وبموقف عدم الثقة في المركزية اللينينية. ومباشرة بعد كونفرانس غشت بدأت الكتلة تتفكك إلى الأجزاء المكونة لها، وفي غضون بضعة أشهر لم أكن خارج الكتلة من حيث المبدأ فقط، بل ومن الناحية التنظيمية كذلك»[26].

في وقت لاحق، تعرض حادث ما يسمى بكتلة غشت لكل أنواع الافتراءات على يد الستالينيين مزيفي تاريخ البلشفية، مع اختراعهم الوقح لما أسموه “كتلة تروتسكي” مع التصفويين. لقد شكلت كتلة غشت بلا شك نهاية محاولات المصالحة، مما دل على استحالة التوحيد بين البلشفية والمنشفية. وقد كان تروتسكي مستاء بشكل خاص من هذه الخطوة نحو الانشقاق التي حطمت جميع خططه، فعمل على مهاجمة لينين، الذي رد بالمثل. وفي خضم الصراع قيلت بعض الكلمات القاسية من كلا الجانبين، والتي تم تصيدها في وقت لاحق من الأرشيفات واستخدامها من قبل الستالينيين لخدمة أهداف تكتلية غير نزيهة في محاولة لتشويه سمعة تروتسكي بعد وفاة لينين، على الرغم من التعليمات الصريحة التي قالها لينين في وصيته بأنه لا ينبغي استخدام ماضي تروتسكي غير البلشفي ضده.

نهوض جديد

بدأ عام 1912 هادئا جدا، حيث لم يسجل مفتشو المصانع سوى 21 إضرابا في شهر يناير، والعدد نفسه في فبراير. ثم، ودون سابق إنذار، انفجرت صاعقة في سماء زرقاء صافية. كان منجم لينا للذهب، في سيبيريا، أحد أكبر مناجم الذهب في العالم، وكان من بين المساهمين فيه والدة القيصر والكونت وايت وبعض الوزراء في الحكومة. في نهاية فبراير، اندلع إضراب في المنجم بسبب انخفاض الأجور وظروف العمل الفظيعة. من المعبر أن رئيس لجنة الإضراب كان هو البلشفي: ي. ن. باتاشيف. ردت الحكومة بإرسال القوات التي قامت، يوم 04 أبريل، بإطلاق النار على حشد من 3.000 عامل، مما أسفر عن مقتل 270 وإصابة 250 آخرين. كان يوم أحد دامي آخر. وصوت الرصاص الذي تردد فوق التندرا المتجمدة حطم جليد خمسة أعوام من الردة الرجعية.

كان لخبر المذبحة تأثير محفز، ففي 07 و08 أبريل، اندلعت احتجاجات جماهيرية هائلة في مصانع سان بيترسبورغ. بعد أيام قليلة، وبقدر لا يصدق من الغباء، قال وزير الداخلية، ماكوروف، خلال إجابته على أسئلة في مجلس الدوما: “هكذا كان الأمر، وهكذا سيكون في المستقبل”. انفجر سخط الجماهير في النهاية، ففي الفترة ما بين 14 و22 أبريل، انخرط 140.000 شخص في إضرابات بسان بيترسبورغ، ومن 12 إلى 30 أبريل، انخرط 70.000 شخصا في إضرابات في موسكو. انتشرت الإضرابات الاحتجاجية إلى أوكرانيا ودول البلطيق ووسط الفولغا وبيلاروسيا وليتوانيا وبولندا والمناطق الصناعية الشمالية والوسطى. وتلت ذلك موجة جديدة من الإضرابات في 01 ماي، شارك فيها 400.000 عامل. كانت هذه الإضرابات ذات طابع سياسي متزايد. كان هناك 700 إضرابا سياسيا في أبريل، وفي 01 ماي كان هناك أكثر من 1.000 إضراب في منطقة سان بيترسبورغ – وهو رقم أعلى من الذي كان قد سجل عام 1905. لقد أعيد وصل خيط التاريخ، إذ واصل العمال من حيث توقفوا في عام 1907، لكن على مستوى أعلى. كان العمال قد تعلموا من تجربتهم. في يناير 1905 كانوا قد بدأوا بتوجيه الالتماس للقيصر، أما الآن فقد بدأوا بشعار: “تسقط حكومة القيصر!”.

بعد أحداث لينا، تغير كل شيء في غضون أيام. كتب رئيس مكتب الأوخرانا بسان بيترسبورغ، م. ف. فان كوتين، إلى مسؤول قسم الشرطة قائلا: “إن الأحداث في لينا قد عززت مزاج الجماعات الثورية المحلية وعمال المصانع”[27]. وفجأة تغير وضع البلاشفة. في عام 1905، كان الاشتراكيون الديمقراطيون في وضع ضعيف وكان وجودهم هزيلا داخل الطبقة العاملة، وكان وضع البلاشفة ضعيفا داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية. أما الآن فقد تغير الحال، إذ أصبح البلاشفة بسرعة القوة الحاسمة داخل الاشتراكية الديمقراطية، وصارت الاشتراكية الديمقراطية القوة السياسية الحاسمة داخل الطبقة العاملة. استجاب البلاشفة للأحداث بسرعة، ودعوا العمال إلى اتخاذ إجراءات ثورية. وباستخدام صحيفة زفيزدا كواجهة قانونية، صاروا قادرين على توفير القيادة للحركة الجماهيرية، وإصدار شعارات وتوجيهات كفاحية. ردة الفعل السريعة للبلاشفة ومواقفهم الجذرية سهلت لهم النمو السريع في عدد الأعضاء والتأثير. كما أنها بررت بشكل كامل الانشقاق، الذي جاء، في الواقع، في الوقت المناسب. كان استمرار الارتباط بالمناشفة في مثل تلك اللحظة سيعني الشلل.

سارع العمال إلى رفع الشعارات البلشفية في يوم عيد العمال: “عاشت الجمهورية الديمقراطية!”، “عاشت الاشتراكية!”. ولم تقتصر الحركة على العمال، فقد أعطت أحداث لينا دفعة جديدة للحركة الطلابية. قدم ذلك إمكانيات جديدة لنشر الأفكار الثورية. لكن كانت هناك حاجة إلى الكثير من العمل لكسب الهيمنة الكاملة داخل الحركة الجماهيرية. إن صحوة التطلعات الديمقراطية والوجود الحتمي للأوهام الدستورية داخل الحركة، كان سيعزز نفوذ الليبراليين البرجوازيين، الذين بدا أنهم “في المعارضة”. كانوا شخصيات عامة معروفة، لا يتورعون عن إلقاء الخطب الديماغوجية “من أجل الديمقراطية”، ويتحدثون باسم “الشعب”. ولهذا السبب فقد كانت هجمات لينين الرئيسية موجهة ضدهم.

لينين، الذي استعاد نشاطه وحيويته بفضل هذا التغيير في الوضع، الذي انتظره لفترة طويلة، بدأ على الفور في تحفيز رفاقه وحثهم على العمل. وفي أواخر يونيو، انتقل هو وكروبسكايا من باريس إلى كراكوف، في الجزء النمساوي من بولندا، ليكونا أقرب إلى الثورة. تسمي كروبسكايا هذه الفترة بأنها “نصف منفى” فقط لأنه كانت لديهما آنذاك علاقات وثيقة مع الداخل. من هناك قصف لينين الحزب بالرسائل والنداءات إلى العمل والعتاب وكلمات التشجيع. كما كان من المريح له الابتعاد عن الأجواء المفعمة بالمكائد والطعنات في الظهر والنميمة، التي كانت تميز حياة المنفيين في باريس. وقد كتب إلى غوركي في ذلك الصيف: «تسألني لماذا أنا في النمسا. (Entre nous) لقد أنشأت اللجنة المركزية مكتبًا هنا؛ نحن هنا أقرب إلى الحدود، أقرب إلى سان بيترسبورغ، تصلنا الصحف في اليوم الثالث لصدورها، ومن الأسهل بكثير كتابة المقالات للصحف داخل روسيا، والعمل التنظيمي أكثر سهولة من هنا. كما أنه توجد هنا مشاحنات أقل، وهذه أيضا ميزة أخرى. لا توجد هنا مكتبة جيدة، وهذا هو العيب؛ من الصعب العيش بدون كتب جيدة»[28].

لينين وبرافدا

شهدت الحركة الثورية طيلة تلك السنة تصاعدا متواصلا. امتد مزاج الثورة إلى القوات المسلحة، حيث اندلعت تمردات في أسطول بحر البلطيق، إذ تأثر البحارة، ومعظمهم من أصول بروليتارية، بالمزاج السائد بين العمال في سان بيترسبورغ القريبة. ألقي القبض على 500 بحار في أسطول بحر البلطيق وأرسلوا للمحاكمة العسكرية. في 26 أكتوبر، دعا بلاشفة بيترسبورغ إلى تنظيم إضراب احتجاجا على قمع البحارة. بعد ذلك انتشرت موجة الاحتجاجات إلى موسكو وريغا وريفال ونيكولاييف ونيجني نوفغورود وبيرديانسك، وغيرها من المراكز العمالية، الشيء الذي كان استباقا للوحدة المستقبلية التي حدثت بين العمال والجنود في عام 1917.

بعد سنوات طويلة محبطة من العزلة، بدأ الحزب الآن في النمو السريع. وبحلول أوائل عام 1913، كان لدى البلاشفة 22 خلية عمالية في موسكو. كان للنهوض الجديد تأثير إيجابي على المعنويات والنمو في كل مكان. بعد أن تحرر البلاشفة من التأثير السلبي والمدمر للتصفويين والصراعات الداخلية التي لا نهاية لها، تقدموا بخطوات عملاقة تحت رايتهم الخاصة. هذه المرة تخلف المناشفة عن الركب. ومع ذلك، فإن الظروف المتغيرة بسرعة فرضت الحاجة إلى إجراء تحويل سريع في أساليب الحزب وتعزيز الهياكل التنظيمية بشكل عاجل. كانت لدى الليبراليين البرجوازيين القدرة على نشر صحف ذات “شعبية” مثل: “Sovremennik” (المعاصر) التي، وبسبب عدم وجود بديل، كان العمال يقرؤونها على نطاق واسع. تطلب النضال ضد التأثير البرجوازي في الجماهير إصدار جريدة بلشفية يومية. تمكنت الصحيفة البلشفية زفيزدا من الوصول إلى أقلية من العمال المتقدمين، لكنها كانت غير كافية تماما في ظل الوضع المتغير. وافق كونفرانس براغ على إصدار صحيفة يومية باسم رابوتشايا غازيتا. وفي ربيع عام 1912، بدأت الاستعدادات للإصدار الجديد، فتم تشكيل فريق مكون من ن. ن باتورين وم. س. أوليمسكي ون. ج. بوليتاييف، إضافة إلى عضوي اللجنة المركزية أوردزونيكيدزه وستالين.

في الوقت نفسه، كان التصفويون يتحدثون عن إصدار صحيفة يومية وبدأوا في جمع المساهمات المالية، لكن بدون نجاح. في أواخر مارس صارت زفيزدا تتمتع بدعم 108 من الخلايا العمالية في بيترسبورغ، بينما لم تحصل جريدة المناشفة سوى على سبع خلايا! بحلول أبريل، بعد أحداث لينا، كانت النسبة هي 227 خلية مقابل ثمان. وبحلول أواخر أبريل، تمكن البلاشفة من جمع ما يكفي من المال لإصدار الصحيفة، التي أطلقوا عليها الاسم الشهير: برافدا، الشيء الذي كان يعني، في الواقع، الاستيلاء على اسم صحيفة تروتسكي، وهي الخطوة التي زادت في تسميم العلاقات بين البلاشفة وتروتسكي، الذي كتب، في لحظة غضب، هجوما لاذعا على لينين في رسالة خاصة، غير مخصصة للنشر، تم نشرها لاحقا واستعملت بطريقة خبيثة من قبل الستالينيين لتشويه سمعة تروتسكي.

حققت برافدا الجديدة نجاحا فوريا، حيث صدر من العدد الأول 60.000 نسخة. كان ذلك سلاحا لا يقدر بثمن في وسط موجة الإضربات الهائلة. كانت برافدا جريدة عمالية حقيقية لها علاقات في كل مصنع. كان العمال المراسلون يكتبون إليها في كل قضية، حيث يناقشون كل جانب من جوانب حياة الطبقة العاملة. في السنة الأولى تم التوصل بحوالي 5.000 رسالة من العمال. من بين الأعمدة الثابتة كان هناك عمود “إضرابات في بيترسبورغ” و“إضرابات في الأقاليم”. كانت برافدا أكثر من مجرد جريدة، كانت منظِّما حقيقيا. تضمنت صفحاتها ليس فقط الكثير من المعلومات حول الحركة العمالية، بل أيضا التوجيهات والشعارات، والعديد من الرسائل حول حياة وظروف العمال كانت تكتب بأقلام العمال أنفسهم. لم تكن مجرد جريدة “للعمال”، بل كانت جريدة عمالية حقيقية، جريدة يمكنهم أن يجدوا أنفسهم فيها. لكن برافدا لم تقتصر على وصف الوقائع، بل تضمنت أيضا النظرية باعتبارها وسيلة ضرورية لرفع وعي قرائها إلى مستوى المهام التي يتطلبها التاريخ. وقد تضمنت بشكل منتظم مقالات لينين، التي قدمت التعميمات النظرية والشروحات اللازمة، بالإضافة إلى الجدل ضد التيارات الأخرى، مع التركيز بشكل خاص على فضح التصفويين.

أولى لينين اهتماما كبيرا لبرافدا، وكتب عددا كبيرا من المقالات لها، فمن بين 75 عددا ظهر في الفترة ما بين مارس وماي من عام 1913، احتوى 41 عددا على واحدة على الأقل من مقالات لينين. كما حاول إشراك بليخانوف وغوركي وغيرهما من المفكرين، على الرغم من أن بليخانوف كان قد بدأ بالفعل في الابتعاد. لم تقتصر مشاركة لينين على كتابة المقالات، إذ شارك بنشاط كذلك في قراءة وتصحيح المقالات ودراسة التقارير والمراسلات من أجل الحصول على فكرة أكثر دقة عما يجري في المصانع، وكان يتتبع أرقام التوزيع، ويحلل نتائج حملات جمع المال. لم يكن هذا الاهتمام الشديد عرضيا على الإطلاق، فقد أدرك لينين الدور الرئيسي للجريدة باعتبارها منظما جماعيا. إذ بقدر ما يكون هناك تنظيم جاد، قادر على اختراق كل مصنع وإنشاء شبكة من المراسلين العماليين وجمع الأموال من العمال وإرسال تقارير منتظمة، إلى جانب الكثير جدا من المهام الأخرى التي تتطلبها الصحافة العمالية، بقدر ما يتم بالفعل وضع الأساس والإطار لإنجاز مهام أكبر بكثير.

لم تفلت الصحيفة الجديدة من انتباه السلطات. كان على برافدا أن تتعامل مع الرقابة والعقوبات وغارات الشرطة. في عام 1912، قامت الشرطة بمصادرة حوالي 17% من جميع الأعداد التي صدرت، وارتفعت النسبة إلى 40% ما بين ماي ويونيو 1913، وبحلول يوليوز – شتنبر صار الرقم 80%! في محاولة من البلاشفة لخداع السلطات عملوا على تغيير اسمها بشكل متكرر، حيث صدرت الصحيفة باسم رابوتشايا برافدا (الحقيقة العمالية) وبرافدا ترودا (حقيقة العمال) وسيفرنايا برافدا (الحقيقة الشمالية) وهكذا. في كل مرة كانت السلطات تفرض حظرا جديدا، وفي كل مرة كانت تظهر بعنوان جديد. هكذا استمرت لعبة القط والفأر. وبصرف النظر عن المشاكل القانونية، كان هناك كفاح دائم للحفاظ على استمرار الدعم المالي للجريدة. كانت هناك جهود متواصلة لجمع المال، فعلى عكس المناشفة الذين كانوا يحصلون على معظم تمويلهم من المتعاطفين الأثرياء، كان البلاشفة فخورين بحقيقة أنهم يجمعون معظم أموالهم اعتمادا على المبالغ الصغيرة التي يجمعها العمال أنفسهم، إذ على المدى البعيد، هذه هي القاعدة الوحيدة الحقيقية بالفعل لتمويل الحزب الثوري. في عام 1912 كانت هناك 620 مجموعة من العمال تنظم عمليات جمع المساهمات للجريدة، وبحلول عام 1913، وصل العدد إلى 2181 مجموعة. لقد استمرت برافدا بشكل رئيسي بفضل “كوبيكات العمال”.

لم يكن يمكن لا للاضطهاد ولا لنقص الأموال أن يوقف تقدم الجريدة العمالية. ارتفع تأثير برافدا بسرعة فائقة. كان عشرات الآلاف من العمال يقرأون الصحيفة، غالبا في مجموعات، ويمررون النسخ من ورشة عمل إلى أخرى. تمكنت برافدا من صقل فئة واسعة من العمال غير الحزبيين ولفِّهم حول الحزب، موسعة بشكل كبير تأثيره ومحيطه. أعطيت لمنظمات الحزب المحلية أهداف لجمع الأموال لدعم برافدا. وبهذه الطريقة، بدأت الصحيفة تحتل مكانا مركزيا في بناء الحزب، باعتبارها منظما جماعيا. بحلول أوائل عام 1913، تمكنت الصحيفة ليس فقط من زيادة حجمها، بل رفعت أيضا من عدد النسخ التي تصدرها. بدأت العام بتداول 23.000 نسخة، وبحلول منتصف شهر مارس ارتفع العدد إلى ما بين 30.000 و32.000، ثم 40.000 و42.000 في أيام الأحد. بحلول فصل الصيف وصل عدد المشتركين الأفراد والجماعيين إلى 5501 مشترك! كان ذلك يعني تلقائيا زيادة في عضوية الحزب، التي ارتفعت إلى ما بين 30.000 و50.000 بحلول شتنبر 1913. تم إنشاء مجموعات المؤيدين في جميع أنحاء البلاد، حتى في طشقند البعيدة في آسيا الوسطى. وفي نهاية المطاف بدأت برافدا تخترق حتى القرى.

لكن على الرغم من النجاح الباهر الذي حققته برافدا، فإن العلاقات بين لينين وهيئة تحرير الصحيفة كانت بعيدة عن أن تكون جيدة، حيث لم يوافق قسم من هيئة التحرير على هجمات لينين على التصفويين. عارض كل من ستالين، وس. س دانيلوف، ون.ن ليبيديف، وف. م. مولوتوف، وس. م ناخيمسون، وم. س. أولمينسكي، كلهم ​​استخدام الجريدة لخوض الصراع بين الفصائل. يكشف هذا التفصيل الانعدام الكامل للفهم من جانب المتعاونين مع لينين، حتى في تلك المرحلة المتأخرة. وقد حاول لينين أن “يشرح بصبر” حقائق الحياة للمتعاونين معه. كتب قائلا: «إنه لأمر ضار ومدمر وسخيف إخفاء الاختلافات عن العمال (كما تفعل برافدا)… إذا بقيت صامتا، فقد امتنعت عن اتخاذ موقف. والجريدة التي تمتنع عن اتخاذ موقف تهلك»[29].

كانت علاقة لينين المتوترة مع الزعماء البلاشفة الآخرين مرتبطة بشكل مباشر بمسألة التكتيكات في مجلس الدوما. في أوائل عام 1912 نشر محررو زفيزدا مقالا للبلشفي التوفيقي، م. إ. فرومكين، الذي طالب بتبني برنامج انتخابي اشتراكي ديمقراطي موحد ودافع علانية عن شعارات المناشفة الانتخابية[30]. كان الصراع حادا لدرجة أن هيئة تحرير برافدا، التي كان ستالين عضوا فيها في ذلك الوقت، رفضت بشكل قاطع نشر ولو مقال واحد للينين أو زينوفييف حول مسائل الاستراتيجية الانتخابية. تسبب ذلك في اندلاع مواجهة حادة. حتى القراءة السطحية لمراسلات لينين مع برافدا في ذلك الوقت تظهر أنه كانت هناك معركة بينه وبين المحررين. تتذكر كروبسكايا ذلك قائلة: «في بعض الأحيان -لكن ليس دائما- كانت مقالات إيليتش تضيع. وفي أحيان أخرى كان يتم إخفاؤها ونشرها بعد بعض التأخير. كان إيليتش يعبر عن قلقه، وكتب رسائل غاضبة إلى برافدا، لكن ذلك لم يساعد كثيرا»[31].

خلال الحملة الانتخابية لمجلس الدوما الرابع، في عام 1912، كتب لينين إلى هيئة تحرير برافدا قائلا: «تتصرف برافدا الآن، في خضم الحملة الانتخابية، مثل خادمة عجوز نائمة. برافدا لا تعرف كيف تقاتل، إنها لا تهاجم، إنها لا تنتقد لا الكاديت ولا التصفويين». وفي وقت ما من شهر أكتوبر، كتب إلى هيئة التحرير بلغة تظهر استيائه الشديد من فشل برافدا في فضح التصفويين: «إن الموقع أدناه، الذي هو مساهم سياسي دائم في برافدا ونيفسكايا زفيزدا، يعتبر أن من واجبه التعبير عن احتجاجه على سلوك الزملاء المسؤولين عن هاتين الصحيفتين في هذا الوقت الحرج. إن الانتخابات في سان بيترسبورغ، سواء في المنطقة العمالية أو في المنطقة الحضرية الثانية، هي لحظة حرجة، لحظة لتجسيد نتائج خمس سنوات من العمل، إنها، في كثير من النواحي، لحظة لتحديد اتجاه العمل للسنوات الخمس القادمة. في مثل هذه اللحظة، يجب على الجهاز القيادي الديمقراطي للطبقة العاملة اتباع سياسة واضحة وثابتة ومحددة بدقة. لكن برافدا، التي هي في كثير من النواحي تمثل بالفعل الجهاز القيادي، لا تقوم بمثل هذه السياسة».

ويواصل قائلا: «لقد اعترفت برافدا نفسها بأن هناك خطان رسميان واضحان، ومنصتان، وإرادتان جماعيتان (خط غشت أو التصفويون، وخط يناير). ومع ذلك فإن برافدا تختلق الرأي القائل بأنها تتبنى خطا ثالثا “خاصا بها”، اخترعه بالأمس فقط شخص ما ويتمثل (كما علمنا من سان بيترسبورغ عبر قنوات أخرى، بما أن هيئة التحرير في برافدا رفضت بعناد إعطاءنا الرد) في السماح للتصفويين بأن يكونوا من بين المرشحين الثلاثة، أو تسليمهم المنطقة الحضرية الثانية بأكملها “مقابل المنطقة العمالية”. إذا كانت هذه الشائعات غير صحيحة فبرافدا هي من يتحمل المسئولية الكاملة عنها، لأنه يجب ألا تزرع بين الماركسيين هذا النوع من الشكوك…

في هذه اللحظة الحاسمة، يتم إغلاق نيفسكايا زفيزدا، دون ولو رسالة أو تفسير، ويتم منع تبادل الرأي بشكل كلي، ويترك المساهمون السياسيون في الظلام، لا يعرفون من الذي يساعدونه في الانتخابات. ألن يكون أحد التصفويين؟ أنا مضطر للاحتجاج بشدة على هذا، ورفض أي مسؤولية عن هذا الوضع الشاذ، الذي يحبل بصراعات حامية»[32].

في النهاية عيل صبر لينين، فكتب قائلا: «تلقينا رسالة غبية ووقحة من هيئة التحرير (من برافدا). لن نقوم بالرد عليها. يجب التخلص منهم… إننا نشعر بالانزعاج الشديد من عدم وجود أخبار حول خطة لإعادة تنظيم هيئة التحرير… من الضروري للغاية إعادة تنظيمها، لكن الأفضل هو الطرد الكامل لجميع الأعضاء، هذا ضروري جدا». (التشديد من عندي: آلان وودز)

واحتج على الرقابة الممنهجة التي تتعرض لها مقالاته، قائلا: «لماذا إذن تمنع برافدا بعناد وبشكل منهجي أي ذكر للتصفويين، سواء في مقالاتي أو في مقالات الزملاء الآخرين؟»[33].

كما طالب في رسائل أخرى بإعادة المقالات غير المنشورة، التي اختفى الكثير منها دون أن يترك أثرا. في بعض الأحيان، على ما يبدو، لم يكن لينين يتلقى حتى الصحيفة، وهناك أيضا شكاوى بأنه لم يتقاض أجره: «لماذا لا تدفعون لي المال الذي تدينون لي به؟ إن هذا التأخير يسبب لنا صعوبات كبيرة»[34]. وفي النهاية نفد صبره، فكتب في رسالة غاضبة إلى سفيردلوف قائلا: «من الضروري وضع هيئة تحرير خاصة بنا في Dyen والتخلص من الهيئة الحالية. العمل المنجز في الوقت الحاضر سيء للغاية، إن الدعاية لمواقف زييت (Zeit) البوندية التصفوية وجاغييلو (Jagiello) الذي ليس اشتراكيا ديمقراطيا هو عار مطلق. إن عدم وجود حملة من أجل الوحدة من الأسفل هو أمر غبي ومنحط… هل هؤلاء المحررين بشر؟ إنهم ليسوا بشرا، بل كائنات مشوهة بائسة ومخربون للقضية»[35].

على الرغم من الإشارة إلى Dyen، فإن هذه الرسالة تتناول في الواقع الوضع داخل هيئة تحرير برافدا في نهاية عام 1912 وبداية عام 1913[36]. وتبين إلى أي مدى تدهورت العلاقات مع لينين في ذلك الوقت. لم تعمل برافدا على تعديل موقفها إلا بعد أن مارس لينين ضغوطا شديدة في كونفرانس كراكوف. وفي أواخر فبراير 1913، كتب، في معرض تعليقه باستحسان على التغييرات التي طرأت على هيئة تحرير برافدا، قائلاً: “لا يمكنكم أن تتخيلوا إلى أي مدى استنزفنا العمل مع هيئة تحرير شديدة العداوة”[37]. لقد تمكن تدريجيا من تقويم الأمور. وبحلول خريف عام 1913، صار بإمكانه الكتابة إلى البرافدا لتهنئتها على حملتها لدعم النواب البلاشفة في مجلس الدوما[38].

الانتخابات لمجلس الدوما الرابع

نظمت انتخابات مجلس الدوما الرابع في صيف عام 1912. في البداية، تمتع المناشفة بمزايا كثيرة، فبصرف النظر عن الهبات التي كانوا يحصلون عليها من العديد من المتعاطفين الأثرياء، حصلوا كذلك على إعانة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وأصدروا صحيفة قانونية يومية، تحت اسم لوش (شعاع الشمس)، والتي كانت تدعوا بشكل ديماغوجي إلى “الوحدة” وإلى تقديم مرشحين “غير تكتليين”، إلخ. لقد وجدت تلك الدعاية بعض الصدى بين العناصر غير الحزبية. كما أن الكاديت البرجوازيين الليبراليين، من جانبهم، والذين كانوا خائفين، بحق، من تكبد الهزيمة في الانتخابات، لجأوا إلى الخداع من أجل الحصول على المزيد من الأصوات. أعلنت صحيفتهم Rech (الكلام) في 03 فبراير أنه: «لا ينبغي للمرء أن يعطي صوته لأحد الأحزاب، أو للمرشحين الأفراد، بل عليه أن يعطي صوته إما لتعزيز الفئة الدستورية داخل المجتمع الروسي، أو ضد ذلك». كانت تلك دعوة للناخبين للتصويت لصالح “القوى التقدمية” ضد “الردة الرجعية”، أي نفس الأغنية الشهيرة التي ينشدها الانتهازيون في كل زمان، والتي تحاول ابتزاز الجماهير بتهديدهم بالردة الرجعية لأجل التصويت لصالح “أهون الشرين”. لقد ناضل لينين ضد هذا الخداع من أجل استقلال الطبقة العاملة والسياسة الثورية. كانت الظروف في روسيا ما تزال صعبة، قامت الشرطة بسلسلة من الاعتقالات قبل الانتخابات. وقد تم توزيع البرنامج الانتخابي للحزب الاشتراكي الديمقراطي بشكل غير قانوني في جميع المصانع. من منفاه في كراكوف، كان لينين يتابع بفارغ الصبر الحملة الانتخابية للحزب، وكان يراقب أدنى علامات الانتهازية من جانب القيادة البلشفية، وظل يعارض بشدة فكرة “الكتلة التقدمية غير الحزبية”.

كتب باداييف، الذي كان مرشحا للبلاشفة في تلك الانتخابات: «كانت مقرات الحملة الانتخابية البلشفية هي مكاتب تحرير برافدا، التي أصبحت مسرحا للعمل الجاد والمستمر. في تلك المباني كانت تعقد الاجتماعات مع ممثلي المقاطعات والمصانع والعمال. وفي نفس الوقت تم تنظيم اجتماعات انتخابية غير شرعية في العديد من أحياء المدينة. وبسبب أن الشرطة كانت تبقي عينها بشكل متواصل على كل عامل “مشبوه”، فقد اضطررنا إلى اللجوء إلى جميع أنواع الحيل للتجمع معا ولو في مجموعات صغيرة. لتجنب عيون الشرطة كنا عادة نلجأ إلى تنظيم اجتماعات صغيرة لا تزيد عن عشرة إلى عشرين شخصا. وقد ساعدنا الصيف، فتحت ستار حفلات النزهة، كانت مجموعات من العمال تتوجه إلى الضواحي، غالبا إلى الغابة خارج بلدة أوختا. كانت الغابة أفضل مخبأ من جواسيس الشرطة، الذين لم يكونوا يستطيعون المغامرة بالخروج إلى الضواحي، لأنه كان من السهل التملص منهم هناك، وكانوا يخشون التعرض للهجوم في تلك الأماكن البعيدة. خلال الاجتماعات كان النقاش يكون حادا ضد التصفويين. دعا حزبنا العمال إلى المشاركة في الانتخابات على أساس الدفاع عن المطالب الأساسية، وانتخاب البلاشفة وحدهم كمندوبين. أما التصفويون فقد كانوا يتحدثون باستمرار عن “الوحدة”، وضرورة تشكيل جبهة موحدة، وضرورة التخلي عن النزاعات الفصائلية، وبطبيعة الحال انتخاب مرشحيهم»[39].

ويشرح باداييف الموقف الذي تبناه البلاشفة تجاه مطلب “وحدة جميع القوى التقدمية” قائلا: «اعتقد البلاشفة أنه من الضروري تقديم مرشحين في جميع المناطق العمالية، ولم يقبلوا بأي اتفاقات مع الأحزاب والجماعات الأخرى، بما في ذلك المناشفة التصفويين. كما اعتبروا أنه من الضروري تقديم مرشحين في ما يسمى “بالمناطق الثانوية لمنتخبي المدينة” (تألفت المناطق الأولى من أحياء لأصحاب الملكيات الكبيرة ولم تكن للمرشحين الديمقراطيين أي فرصة على الإطلاق للفوز فيها) وفي الانتخابات في القرى، بفعل القيمة التحريضية الكبيرة للحملة. لكن ومن أجل الحيلولة دون الانتصار المحتمل للمرشحين الرجعيين، سمح البلاشفة بعقد الاتفاقات مع الديمقراطيين البرجوازيين (الترودفيك، الخ) ضد الليبراليين، ومع الليبراليين ضد الأحزاب الحكومية خلال الجولة الثانية من الاقتراع لانتخاب الناخبين في المدينة. كان للمدن الخمس الكبرى (سان بيترسبورغ وموسكو وريغا وأوديسا وكييف) نظام مباشر للانتخابات بالجولة الثانية للاقتراع. طرح الاشتراكيون الديمقراطيون في تلك المدن قوائم مستقلة، وحيث أنه لم يكن هناك احتمال لانتخاب مرشحي المائة السود، فإنه لم يتم إبرام أي اتفاقيات مع البورجوازية الليبرالية. وقد أكدت قرارات كونفرانس براغ، الذي وضع هذه التكتيكات، على أنه “يجب ألا تتضمن الاتفاقات الانتخابية تبني أي أرضية، ويجب على الاتفاقيات ألا تقيد المرشحين الاشتراكيين الديمقراطيين بأي التزامات سياسية مهما كانت، أو تمنع الاشتراكيين الديمقراطيين من الانتقاد الصارم للطبيعة المعادية للثورة لليبراليين وتخاذل وعدم انسجام الديمقراطيين البورجوازيين”. ومن ثم فإن الاتفاقيات التي أبرمها البلاشفة خلال الجولة الثانية من الاقتراع لم تكن من نوع تكتلات الأحزاب السياسية»[40].

يبدو للوهلة الأولى أنه كانت هناك حالة لتوحيد الجهود مع القوى الأخرى من أجل الحصول على تمثيل برلماني أكبر. كان قانون الانتخابات، بالطبع، مختلا بشدة ضد الطبقة العاملة. كان التصويت في ظل النظام الانتخابي القيصري المزور يتم بشكل غير مباشر. كان العمال يصوتون لممثلين يقومون بدورهم بانتخاب 160 “ناخبا” (vyborshechiki)، شكل مرشحو الحزب الاشتراكي الديمقراطي من بينهم 60%. جنبا إلى جنب مع “التوفيقيين” ومختلف المتعاطفين كان يمكن لهذا الرقم أن يصير حوالي 83%. كانت غالبية “الناخبين” في المناطق العمالية من البلاشفة. لكن في المناطق الأخرى، ساد مرشحو الطبقة الوسطى والبرجوازية وملاكو الأراضي. يشرح باداييف: «إن القانون الانتخابي، الذي أقرته الحكومة قبل انتخابات مجلس الدوما الأول، تمت صياغته من أجل ضمان الأغلبية لصالح البرجوازية وملاكي الأراضي. لم يكن التصويت مباشرا بل بنظام من المراحل. كان على مختلف فئات السكان (ملاكو الأراضي وكبار الملاكين في البلدات والفلاحين والعمال، وما إلى ذلك) أن ينتخبوا أولا ناخبيهم، والذين بدورهم ينتخبون النواب من بينهم. كان النظام أكثر تعقيدا بالنسبة للفلاحين والعمال؛ كان العمال، على سبيل المثال، ينتخبون أولا المندوبين، الذين ينتخبون بدورهم الناخبين، ووحدهم هؤلاء الأخيرين من يشاركون في الانتخابات العامة التي تنتخب أعضاء الدوما. بالإضافة إلى ذلك كانت هناك عدد من الشروط المرتبطة بالمِلكية، إذ في المدن على سبيل المثال كان يحق لأصحاب المنازل وحدهم (مالكي الشقق) التصويت»[41].

على الرغم من كل الصعوبات تمكن العمال من انتخاب 3500 ممثل عنهم في جميع روسيا. كان الاشتراكيون الديمقراطيون من بين هؤلاء يشكلون 54%، لكن إذا أضفنا المتعاطفين، فإن نصيبهم الإجمالي يصل إلى 80%. كان ذلك انتصارا استثنائيا للبلاشفة في تلك الظروف الصعبة، حيث كانت الانتخابات أشبه بسباق للقفز على الحواجز. وبموجب قوانين الانتخابات كانت ورشات العمل الصغيرة، التي تضم أقل من 50 عاملا، والتي كانت عادة أكثر تخلفا وتحت سيطرة أرباب العمل، تنتخب ممثلا واحدا. لكن المصانع الكبيرة، التي كانت تتميز بكونها أكثر تجذرا وأشد تأييدا للبلاشفة، فلم يكن لديها الحق سوى في ممثل واحد لكل 1.000 عامل. ومن بين ما مجموعه 82 مندوبا في سان بيترسبورغ، كان هناك 26 بلشفيا و15 منشفيا و41 من المتعاطفين مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي. ردت الشرطة على ذلك بشن سلسلة من الاعتقالات ضد ممثلي العمال، وفي بعض المصانع التي انتخب فيها البلاشفة، طالب أصحاب العمل بإعادة الانتخابات.

في 20 أكتوبر، انتخب مجلس بيترسبورغ الإقليمي للناخبين المرشح البلشفي أ. ي. باداييف، الذي يعتبر كتابه “البلاشفة في مجلس الدوما القيصري”، الذي اقتبسنا منه أعلاه، أفضل عمل كتب في هذا الموضوع. كما انتخب ف. ن. سمويلنوف في فلاديمير، ون. ر. شاغوف في كوستروما، وم. ن. مورانوف في خاركوف، وج. أ. بيتروفسكي في ييهاتيرينوسلاف، والمخبر ر. ف. مالينوفسكي، في موسكو. بشكل عام، قدم الاشتراكيون الديمقراطيون مرشحين لهم في 53 مدينة وفازوا في 32. تمكن المناشفة من انتخاب سبعة من مرشحيهم: ثلاثة في القوقاز، معقلهم التقليدي، والآخرون في كل من دون وإيركوتسك وتافريتشسك وأوفيمسك، ثلاثة منهم فقط كانوا عمالا. كانت هذه النتيجة بمثابة انتصار مذهل للبلاشفة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار حقيقة أن حزبهم كان قد تم تأسيسه للتو، ولم يكن هناك سوى القليل من الوقت للتحضير للانتخابات. كان ذلك دفعة كبيرة للمنظمة.

البلاشفة في مجلس الدوما

أول نجاح كبير للتكتيك اللينيني، المتمثل في الجمع بين العمل العلني والعمل السري، جاء في خريف عام 1912 مع انتخاب المقاطعات العمالية خلال انتخابات مجلس الدوما الرابع. إذ ذاك فقط بدأ البلاشفة لأول مرة في تطوير العمل في الساحة البرلمانية، أما قبل ذلك فقد كان المناشفة هم من يسيطرون على العمل داخل الدوما. في مجلس الدوما الثالث كان الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي يتألف من تسعة عشر نائبا، مقسمين على النحو التالي: أربعة من البلاشفة وخمسة من المتعاطفين، مقابل عشرة من المناشفة التصفويين. من الناحية العملية كان المناشفة هم الذين يحددون المسار. لم تكن الخطوط الفاصلة بين الفصيلين واضحة بعد، ولم يكن لينين قد قرر بعد أن الانشقاق أمر حتمي. ونتيجة لذلك، استمر الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي، حتى فترة 1912- 1914، بمثابة كتلة واحدة.

كان الوضع في مجلس الدوما الرابع مختلفا تماما. كان الصراع بين الفصائل قد وصل إلى نقطة تحول حاسمة، وهو ما انعكس حتما على الفريق البرلماني. في انتخابات مجلس الدوما الرابع فاز البلاشفة بأغلبية ساحقة في المقاطعة العمالية، فتألف الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي، في مجلس الدوما الرابع، من ستة بلاشفة وسبعة من المناشفة، إضافة إلى نائب بولوني، جاغيلو، كان يدعم المناشفة، وهو ما مجموعه 14 نائبا. وقد فاز البلاشفة بالأغلبية في جميع المقاطعات العمالية الست في أكبر المناطق الصناعية، بينما انتخب النواب المناشفة في مراكز غير عمالية، وبشكل رئيسي في المقاطعات الحدودية، حيث كانت أغلبية السكان من البرجوازية الصغيرة.

إن توزيع العمال في المناطق المعنية يدل على من حصل على أصوات الطبقة العاملة. يقدم باداييف أرقاما عن الأقاليم الستة التي انتخبت البلاشفة، حيث كانت تضم 1.008.000 عامل (في المصانع والمناجم)، بينما الأقاليم الثمانية التي انتخبت المناشفة، كانت تضم 214.000 عاملا. وإذا ما أضفنا مقاطعة باكو (التي كان العمال فيها محرومين من حق التصويت)، فإن الرقم سيصير 246.000 عامل. كان النواب البلاشفة يمثلون 88,2% من الناخبين العمال، مقابل 11,8% فقط للمناشفة. كان اختلال التوازن في القوى داخل الفريق البرلماني الاشتراكي الديمقراطي نتيجة فقط لنظام انتخابي فاسد مصمم خصيصا للحد من تمثيلية الطبقة العاملة.

كان النواب البلاشفة الستة جميعهم عمال؛ كان هناك أربعة عمال من قطاع المناجم (بتروفسكي ومورانوف ومالينوفسكي وباداييف) واثنان من عمال النسيج (شاغوف وسامويلوف)، وتم انتخابهم في أكبر المناطق الصناعية في روسيا: فقد انتخب ج. إ. بتروفسكي نائبا عن ييكاتيرينوسلاف غوبرنيا، في حين انتخب م. ك. مرانوف عن خاركوف غوبرنيا، ون. ر. شاغوف عن كوستروما غوبرنيا، وف. ن. سامويلوف عن فلاديمير غوبرنيا، ور. ف. مالينوفسكي عن موسكو غوبرنيا، وي. باداييف عن سان بيترسبورغ. أما المناشفة السبعة فقد كانوا على النقيض من ذلك كلهم تقريبا من المثقفين والمهنيين. كان العامل الوحيد بينهم، بوريانوف، من أنصار بليخانوف. كان القادة الرئيسيون كلهم من الفئة العليا للطبقة الوسطى: سكوبيلف (الذي تعاون في وقت سابق مع تروتسكي في صحيفة فيينا برافدا) كان ابن مالك لشركة نفط في باكو؛ وكان تشخيدزه صحفيا؛ وتشخينكيلي محاميا؛ ومانكوف محاسبا. كان للمناشفة أغلبية نائب واحد فقط، لكنهم أصروا على أنهم حصلوا على دعم غالبية الطبقة العاملة، وهو الادعاء الذي كان خاطئا تماما، إلا أن خبرتهم الواسعة ومعرفتهم بـ“الحيل” البرلمانية سمحت لهم في البداية بالسيطرة على البلاشفة، الذين شعروا بعدم الراحة في تلك البيئة الغريبة والمعادية، وبالإضافة إلى ذلك فإن المجموعة البلشفية في الدوما كانت، كما كان حال العديد من الأعضاء البارزين في فصيل لينين، متأثرة بشدة بالنزعة التوفيقية، وقاومت القطيعة مع المناشفة، مما سبب الكثير من الانزعاج للينين.

يمكن ملاحظة القوانين التي تحكم النشاط البرلماني في الكتل البرلمانية للأحزاب العمالية الإصلاحية في جميع الأوقات. ليس هناك من مكان تكون فيه ضغوط الطبقة الحاكمة وأيديولوجيتها ومؤسساتها أكثر حدة مما هي عليه في البرلمان. لقد حسنت البورجوازية على مدى فترة طويلة الآليات اللازمة لرشوة الممثلين البرلمانيين للبروليتاريا والضغط عليهم وإفسادهم. فإذا لم يكونوا مشبعين تماما بالوعي الطبقي والفهم النظري الضروري لتمكينهم من كشف حيل ومناورات العدو، فإنهم سيميلون حتما إلى الخضوع للضغط والغرق داخل المستنقع البرلماني في اللجان والإجراءات والمماحكات، وما هو أسوء من ذلك. لا يتعلق الأمر بالضرورة بالفساد الشخصي المباشر أو الوصولية أو الرشاوى، إلخ، على الرغم من أن هذه كلها أسلحة تُستخدم بنشاط لشراء قادة العمال. الإصلاحيون اليمينيون، الذين ينتمي العديد منهم إلى الطبقة الوسطى، محامون وأطباء واقتصاديون، يقفون من حيث نمط حياتهم ونفسيتهم أقرب إلى البرجوازية أكثر مما هم إلى العمال الذين يزعمون تمثيلهم. بل حتى أكثر الإصلاحيين اليساريين نزاهة، وحتى العمال المخلصين من المصنع، الذين صقلتهم سنوات النضال، يمكنهم أن ينهاروا بسرعة في الأجواء الخانقة لهذا العالم المصطنع، بعيدا عن واقع الصراع الطبقي.

الأحزاب الإصلاحية، التي ترهن على أية حال كل شيء بمسألة انتخاب أعضاء البرلمان، تعتبر استقلالية الفريق البرلماني عن الحزب وحق كل نائب في “اتباع ضميره”، مبدءا طبيعيا. ليس هذا سوى طريقة أخرى للدفاع عن استقلال القادة الإصلاحيين عن الطبقة العاملة، وخضوعهم المطلق والكامل للبرجوازية. لكن بالنسبة للحزب الثوري، الذي يعتبر النضال البرلماني مجرد واجهة واحدة فقط للنضال العام الذي تخوضه الطبقة العاملة لتغيير المجتمع، لا وجود لاستقلالية الفريق البرلماني عن الحزب. يمكن للحزب، باعتباره التعبير المنظم عن أكثر عناصر البروليتاريا وعيا، أن يمارس الرقابة على ممثليه المنتخبين على جميع المستويات، وقبل كل شيء على أعضائه في البرلمان.

من الواضح أن البرلمان ليس منصة مثالية للمناضلين العماليين الثوريين. لقد خنقت أجواء البرلمان النواب البلاشفة، الذين كانوا في البداية يتبعون التيار بسلاسة. وهكذا فإنهم في الجلسة الأولى فشلوا في التصويت ضد مرشح الكاديت والأكتوبريين لرئاسة البرلمان. ورفض الفريق قراءة البيان الذي أعدته اللجنة المركزية البلشفية على أساس أن لديه بيانه الخاص، والذي لم يكن يتضمن أي نداء ثوري للجماهير خارج البرلمان. كانت هناك حالات أخرى، كما حدث، على سبيل المثال، عند التصويت على صرف اعتمادات التعليم العام أثناء النقاش حول الميزانية، حيث فشلوا في فضح التحيز الطبقي لسياسة التعليم الحكومية. وقد عبر لينين على الفور عن انزعاجه من الطريقة التي تصرف بها النواب البلاشفة الستة، إذ قال: «إذا كان كل نوابنا الستة منتخبين من المقاطعات العمالية، فلا يجب عليهم الخضوع بصمت للسيبيريين [أي المثقفين المنفيين السابقين]. يجب أن يخرج الستة باحتجاج واضح في حالة ما تعرضوا للهيمنة».

حاول المناشفة أن يخلقوا ثقلاً موازناً للجنة المركزية من خلال تشكيل “لجنة سياسية” مكونة من الوجوه البارزة للفريق البرلماني وإعطائها الحق في النظر في جميع القضايا وإصدار “توصيات”، أي بعبارة أخرى إعطاء كبار الشخصيات البرلمانية الحق في أن يقرروا في جميع القضايا المتعلقة بنشاط الفريق البرلماني دون الرجوع إلى الحزب. أثار سلوك الفريق البرلماني الكثير من النقد والسخط بين صفوف القواعد الذين شعروا بأنهم لم يعودوا يمارسون الرقابة على الفريق. قال روبرت ماكين: «اتخذ الموقف التوفيقي للبرلمانيين البلاشفة الستة شكلا ملموسا من عدة جوانب. لقد انضموا إلى المناشفة في إدانة محاولة بعض المناضلين تنظيم إضراب يوم افتتاح مجلس الدوما؛ واتفق أربعة منهم (باستثناء مالينوفسكي ومورانوف) مع زملائهم المناشفة، في 15 دجنبر 1912، على دمج جريدتي الفصيلين وإدراج أسماء النواب بشكل متبادل كمتعاونين مع لجان التحرير؛ وأثناء صياغة بيان الفريق، الذي قرأه مالينوفسكي، في 07 دجنبر 1912، توصل النواب إلى تسوية بشأن المسودات التي أرسلها كل من لينين ودان من الخارج. وخلافا لادعاء المؤرخين السوفييت بأن البلاشفة أجبروا المناشفة على إدراج شعاراتهم في البيان، فإن قراءة متأنية للنص تكشف أن الوثيقة أقصتهم، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن المناشفة خافوا من أن يؤدي تبنيها إلى صدور تهم جنائية ضدهم. وبدلا من ذلك أشار البيان إلى “تمثيلية شعبية سيادية” وحق الاقتراع العام، لكنه استجاب لمطالب البلاشفة باستبعاد دعوة المناشفة من أجل حرية التحالف والاستقلال الذاتي الثقافي القومي»[42].

سعى النواب المناشفة، بالاعتماد على الشعارات البرلمانية البرجوازية، إلى تحرير أنفسهم من رقابة الحزب والحصول على وضع “مستقل”، لكنهم بذلك كشفوا فقط عن خضوعهم السافر للقواعد البرلمانية البرجوازية وقواعد الكاديت والاكتوبريين. وفي اجتماع للفريق عقد في 22 نوفمبر 1907، تبنى المناشفة القرار التالي: «إن الفريق البرلماني الاشتراكي الديموقراطي مجموعة مستقلة، ومع ضرورة أخذها لرأي الحزب بعين الاعتبار، يجب عليها أن تقوم في كل حالة محددة من عمل دوما بحل القضايا بشكل مستقل»[43].

استقبلت هيئة تحرير الجريدة البلشفية “بروليتاري” دفقا مستمرا من رسائل الاحتجاج من طرف العمال الاشتراكيين الديمقراطيين. وأصبحت ضرورة وضع النواب تحت الرقابة الحازمة للحزب مسألة ملحة. دعا لينين إلى أنه يجب أن يوضع أعضاء الفريق البرلماني تحت الرقابة مثلهم مثل أي عضو في أي من الهيئات القيادية الأخرى (اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية، الخ). يجب أن يتم العمل البرلماني بطريقة يصير فيها من حق أي عامل عضو في الحزب أن يشارك في العمل البرلماني العام للحزب.

بالتوازي مع نضاله ضد النزعة التوفيقية لهيئة برافدا، شن لينين نضالا شرسا ضد النزعة التوفيقية التي لا تقل ضررا للمجموعة البلشفية داخل الدوما. وفي بداية يناير 1912، كتب: «من الضروري أن تعملوا بدون قيد أو شرط على نشر رسالة عمال باكو التي بعثناها إليكم» (طالبت الرسالة بضرورة قيام المجموعة البلشفية في الدوما بالقطيعة مع التصفويين). كان التصفويون يشنون، من خلال جريدتهم لوش، حملة ديماغوجية من أجل “الوحدة”. وقد ظهرت أسماء لأربعة نواب بلاشفة في قائمة المتعاونين مع لوش. كان لينين غاضبا. وكتب: “متى سيستقيل (النواب) الأربعة من لوش؟” “هل علينا الانتظار لفترة أطول؟… حتى من باكو البعيدة هناك 20 عاملا يحتجون.”[44].

وفي شتنبر كتب: «إن جوهر المشكلة اليوم هو أن التصفويين يعملون، تحت غطاء الصراخ حول الوحدة، على تجاهل إرادة أغلبية العمال الواعين في سان بيترسبورغ، ويحاولون أن يفرضوا على غالبية العمال مرشحين منشقين من أقلية من المثقفين، أي بالتحديد المثقفين التصفويين. يرافق جميع الانتخابات في بلد برجوازي تفش كثيف للوعود الزائفة والأكاذيب. إن المبدأ الأساسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي هو عدم الثقة بالكلمات بل الانتقال إلى صميم الموضوع. إن عبارات التصفويين حول الوحدة في صحيفتهم لوش هي مجموعة من الأكاذيب. في الواقع، لقد تم تحقيق الوحدة بالفعل في سان بيترسبورغ من طرف غالبية العمال الواعين ضد التصفويين. لقد تم تحقيقها من خلال مظاهرة يوم فاتح ماي، ومن خلال الدعم المقدم إلى برافدا من طرف 550 مجموعة من العمال مقابل 16 مجموعة للتصفويين»[45]. وبفضل انتقادات لينين اللاذعة، بدأ النواب البلاشفة في لعب دور أكثر نشاطا في شؤون الدوما والنأي بأنفسهم عن “السيبيريين” المناشفة.

بسبب الافتقار العام للحرية من أجل القيام بالتحريض والدعاية بين العمال والفلاحين، اكتسب العمل داخل الدوما أهمية بالغة. كانت هناك بالطبع قيود شديدة. كانت لدى النواب من الناحية النظرية “حصانة برلمانية”، لكن في الواقع كان يمكن اعتقالهم في أي لحظة. بل وحتى داخل مجلس الدوما، واجه الاشتراكيون الديمقراطيون جميع أنواع العقبات.

ومع ذلك فقد تمكنوا من نقاش جميع القضايا الهامة التي تتطلب استجابة ملموسة من ممثلي العمال البرلمانيين، مثل: ميزانية الدولة وحقوق الجنود والإعانات الموجهة للكنيسة وأوضاع العمال، وفوق كل شيء مسألة الأرض. وهو ما وفر مجالا واسعا لتطوير التحريض والدعاية الجماهيريين. ما لم يكن من الممكن قوله داخل مجلس الدوما كان يقال خارجه في منشورات الحزب غير القانونية. لقد تم الجمع بين العمل الشرعي والعمل غير الشرعي. وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة للحفاظ على المبادئ الثورية للحزب، مع الحفاظ على روابط وثيقة مع الجماهير. كانت الخطابات التحريضية الجيدة التي يقوم بها النواب الاشتراكيون الديمقراطيون تطبع وتوزع على العمال. من بين الأمثلة على ذلك خطاب سيركوف ضد الإعانات الموجهة للكنسية، والذي أشاد به لينين، وانتهى بالكلمات التالية: «رجال الدين هم أعداء الشعب مثلهم مثل رجال البوليس… لا لتخصيص ولو فلس واحد من أموال الشعب لأعداء الشعب الدمويين هؤلاء، لهؤلاء المشوهين للوعي الشعبي».

كان لينين مسرورا بهذا الخطاب بشكل خاص لأنه فجر تماما أسطورة بناة الله بأن “الدين شأن شخصي”. وخلال نقاش ميزانية 1909، فضح الفريق الاشتراكي الديمقراطي وجود احتيال بتخصيص مبلغ باهظ من أموال العمال لتسديد ديون القيصر. في كل تلك المسائل عمل الثوريون داخل الدوما على فضح كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين والأوتوقراطيين، وانطلقوا من المشاكل الملموسة التي كانت تؤثر بشكل مباشر على حياة الجماهير، وعملوا في نفس الوقت على فضح محدودية مجلس الدوما نفسه. قال بولوفسكي في معرض تلخيصه لجدل حول أجور العمال: «إن البروليتاريا لا تتوقع بالطبع حلا للمسألة العمالية من مجلس الدوما الثالث»[46].

أتاح العمل في مجلس الدوما للحزب أن يتوجه إلى الفلاحين بطريقة لا يسمح بها نشاط الدعاية والتحريض العادي. ومن خلال مشاركتهم في النقاشات البرلمانية حول مسألة الأرض، واقتراحهم لاتفاقات مع ممثلي البرجوازية الصغيرة الثورية، الترودوفيك، ومطالبتهم بالحل الأكثر جذرية لمسألة الأرض، وجه الاشتراكيون الديمقراطيون ضربة قوية للاستبداد.

وإجمالا، طرح أعضاء الفريق الاشتراكي الديمقراطي حوالي 50 سؤالا حول جميع القضايا. كما طرحوا مشاريع قوانينهم الخاصة، معبرين بشكل ملموس ومختصر عن مختلف المطالب المأخوذة من برنامج الحزب. شكل كل هذا إضافة قيمة لعمل الحزب. لكن نشاط النواب خارج مجلس الدوما كان أكثر أهمية من خطاباتهم داخله. وهناك حدث صراع مفتوح مع التصفويين، الذين استخدموا أغلبيتهم لمعارضة مثل ذلك النشاط. وفي دجنبر 1907، أصدروا توصية تنص على أن النواب الاشتراكيين الديمقراطيين ليسوا “مضطرين” للمشاركة في أي نشاط خارج البرلمان، وأن يترك لكل فرد حق قبول القيام به أو عدم القبول. كان النواب البلاشفة يزورون المصانع بانتظام في دوائرهم الانتخابية، ويتعرفون بأنفسهم مباشرة على مشاكل العمال، ويكتبون في الصحافة الحزبية، بل ويحضرون الاجتماعات العمالية غير الشرعية. وكانوا يعطون تقارير عن أنشطتهم في اجتماعات الناخبين. وهكذا كان النشاط داخل الدوما عملية ذات اتجاهين، كان حوارا نشطا مع الجماهير، يتم الجمع فيه بين الأساليب القانونية وغير القانونية للحفاظ على علاقة ثابتة بين أعضاء البرلمان وبين الطبقة العاملة.

كما حافظ النواب الاشتراكيون على مراسلات مكثفة مع 54 منطقة في روسيا، حيث كانوا يردون بشكل رئيسي على رسائل يبعثها العمال والفلاحون، لكن أيضا السجناء السياسيون والمنفيون والمثقفون. وبهذه الطريقة كان يمكن لصوت المضطهَدين والمستغَلين أن يجد في النهاية صدى له في “قدس أقداس” البرلمان. وقد أولى النواب البلاشفة اهتماما خاصا لظروف عيش وعمل الجماهير التي كانت قد شهدت تدهورا رهيبا في فترة الردة الرجعية. يسوق باداييف أحد الأمثلة على ذلك: «كانت أحواض بناء السفن في بحر البلطيق تحت سيطرة وزير القوات البحرية. كانت ظروف العمل هناك غير محتملة كما هو الحال في المصانع الأخرى التابعة للجيش. كان العمال العاديون يحصلون على ما بين 12 إلى 18 كوبيك في الساعة، وكان العمل الإضافي معتادًا وكان يعني أن ساعات العمل قد تضاعفت. كانت أوراش العمل غير صحية للغاية، كانت رطبة وتعرف تيارات هوائية قوية وكثافة الأدخنة، وكانت في الشتاء شديدة البرودة. كان على الرجال أن يعملوا في مواقع سيئة وضيقة. كانت سبع أو ثمان سنوات من العمل هناك كافية لتحول الرجل إلى حطام بشكل كامل»[47].

كان النواب يتوصلون بعدد كبير من الرسائل من العمال. غالبا ما كانت تلك الرسائل تعبر عن يأس الجماهير، مثل تلك التي جاءت من عند مجموعة من العمال في جبال الأورال، والتي نُشرت في جريدة نوفي دين، في 07 شتنبر 1909، والتي كانت فكرتها الأساسية هي: “لا يمكننا الاستمرار في العيش هكذا”. وقد كشفت هذه الرسائل عن وجود تيار عميق من الاستياء الذي كان يتراكم في أعماق المجتمع والذي وجد تعبيرا عنه في الفريق البرلماني. كان الاشتراكيون الديمقراطيون الثوريون في ذلك البرلمان الرجعي يطمحون إلى أن يصبحوا “منبرا للشعب”، وبالفعل نجحوا في ذلك إلى حد كبير رغم كل المشاكل والإخفاقات.

التكتيكات في مجلس الدوما

كانت تكتيكات البلاشفة في مجلس الدوما تقوم أساسا على استخدامه منبرا لممارسة الفضح والتنديد بجرائم الملاكين العقاريين والرأسماليين ونظامهم. لكنه كان من الضروري عليهم أيضا إتقان تعقيدات الإجراءات البرلمانية حتى يتمكنوا من التدخل بأكثر الطرق فعالية. بشكل عام، لم يكن البلاشفة يدعمون أي اقتراح يطرحه الليبراليون، معتبرين أن واجبهم الرئيسي هو فضح “أصدقاء الشعب” المزيفين هؤلاء، لكنهم كانوا يواجهون في بعض الأحيان قرارات تكتيكية معقدة حول ما إذا كان جائزا أم لا التصويت لصالح مشروع قانون يتضمن تدابير قد تفيد العمال. عادة ما كانوا، في مثل تلك الحالات، يصوتون فقط لصالح أجزاء المشروع التي تعني تحسينات حقيقية لصالح العمال. أما في الحالات الأخرى فقد كانوا يصوتون بالرفض. وفي الحالات التي تكون فيها تلك التدابير التقدمية المزعومة ذات قيمة مشكوك فيها، كانوا يمتنعون عن التصويت، وهذا مثال آخر على التكتيكات المرنة. إن عدم أخذ مثل تلك الأمور في الاعتبار، والتصويت دائما ومن حيث المبدأ ضد كل اقتراح ليبرالي، كان سيحول الحزب إلى مجرد عصبة.

يمكن إثبات التأثير الكبير الذي كان البلاشفة يمتلكونه في أوساط الجماهير من خلال مقارنة عدد النواب الذين تم انتخابهم في المقاطعات الانتخابية العمالية مع عدد الذين انتخبوا خلال مجالس الدوما السابقة. في مجلس الدوما الثاني، انتخبت مقاطعات العمال 12 من المناشفة و11 من البلاشفة. أما في مجلس الدوما الثالث فقد كان هناك عدد متساو لكل من الفصيلين؛ بينما في مجلس الدوما الرابع تم انتخاب ستة نواب فقط، كانوا جميعهم من البلاشفة. «في وقت انتخابات مجلس الدوما الثاني، الذي تزامن مع مؤتمر لندن لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، كان البلاشفة هم من يشكلون الأغلبية داخل الحزب بالتأكيد؛ وفي مجلس الدوما الرابع، لم يكن هناك شك في أن البلاشفة حظوا على الأقل بدعم ثلاثة أرباع العمال الثوريين»[48] .

كانت هناك مئات العقبات الإجرائية المصممة لمنع الاشتراكيين الديمقراطيين من الاستفادة من الدوما لأغراض ثورية. كانت الصعوبة الرئيسية هي أنه لكي يتمكنوا من طلب مساءلة الحكومة عليهم الحصول على توقيع ما لا يقل عن 33 عضوا في الدوما، في حين كانت توقيعات الفريق البرلماني الاشتراكي الديموقراطي 14 فقط، وحتى لو أضفنا إليها توقيعات الترودوفيك العشرة، فإن ذلك لم يكن يمكنهم من العدد المطلوب. نجد هنا حالة ملموسة لاتفاق عرضي مقبول وضروري مع الأحزاب الأخرى. فمن أجل تقديم طلب المساءلة كان على الاشتراكيين الديمقراطيين “اقتراض” توقيعات من الكاديت أو التقدميين.

قال باداييف: «كانت هناك محطات تربط مختلف الأحزاب البرلمانية، بحيث أن بعض الأفراد من الكاديت والتقدميين كانوا يضيفون في بعض الأحيان توقيعاتهم إلى مطالبتنا بمساءلة الحكومة. لكن هذا كان يحدث نادرا، وفي كثير من الأحيان رفضوا بشكل قاطع مساعدتنا»[49].

وللتغلب على هذه القيود الشاقة اضطروا إلى اللجوء إلى المناورات والحيل من أجل الالتفاف على قواعد الإجراءات البرلمانية. كانوا يلقون خطابا طويلا ينددون فيه بمختلف مظاهر الظلم ثم ينتهون بعبارة “هل الوزير على علم بذلك وما هي الخطوات التي يقترح أن يتخذها؟”، هذه الجملة الختامية التي كانت تصاحب كل مساءلة لم يكن لها معنى كبير، لأن نواب العمال كانوا يدركون تمام الإدراك أن كل حالة من حالات الاضطهاد وعنف الشرطة كانت معروفة جيدا للوزراء القيصريين وكانت تتم بمباركتهم وبموجب أوامرهم، وكانوا يعرفون مسبقا أن الوزراء لن يفعلوا شيئا لمنع مثل تلك المخالفات. كما لم يكونوا يعلقون أي أهمية على الردود التي يقدمها الوزراء. كان المغزى والهدف الوحيد لهذه المساءلات هو فضح النظام الاستبدادي وبرلمانه المزيف أمام الطبقة العاملة بأكملها ودعوة الجماهير إلى استخلاص النتائج الضرورية. وبهذه الطريقة تمكنت المجموعة البرلمانية من أن تلعب دور منبر ثوري حقيقي للشعب، وتكسر جزئيا حواجز الرقابة وتحمل رسالة الحزب إلى الملايين الذين لم يكن من الممكن إيصال الأفكار الاشتراكية لهم بطرق أخرى.

لكن حتى وإن نجح النواب الاشتراكيون الديمقراطيون في طرح مساءلاتهم فإن السلطات كانت تلجأ إلى أساليب أخرى لتقييد أنشطتهم في الغرفة. قال باداييف: «كان الرئيس يتابع بعناية خطاباتنا، في محاولة منه لتوقع ومنع كل خروج عن الموضوع الرسمي للمساءلة؛ بينما كنا نتجاهل دعواته إلى النظام ونواصل قول ما نعتبره ضروريا. انتهت معظم هذه المواجهات بفقدان رودزيانكو أو نائبه لصبرهما وإيقاف نواب العمال عن الكلام في منتصف خطبهم»[50]. وأخيرا حتى وإن تمكنوا من طرح المساءلة حتى النهاية، فإن السلطات كانت تعمل كل ما هو ضروري لكي لا تسفر عن أي شيء: «على الرغم من أن إحدى طلبات المساءلة تم قبولها من طرف مجلس الدوما فإن مصيرها لم يكن أفضل من مصير المساءلات الأخرى التي قدمتها كتلتنا. فعند تلقي مساءلاتنا تبدأ الوزارات المعنية في تشغيل كامل الجهاز البيروقراطي، وتعمل على “إجراء التحقيقات” و“انتظار التقارير”، وما إلى ذلك. وعندما يضيع طلب المساءلة تحت غبار المكاتب، ويفقد موضوعه راهنيته، عندها فقط يأتي الوقت لكي يقوم الوزير بواجبه الرسمي ويقدم “تفسيراته”»[51]. هذه هي الأساليب البرلمانية البرجوازية الموقرة التي لم تتغير كثيرا إلى يومنا هذا، حتى في أكثر البرلمانات “ديمقراطية”.

لكن على الرغم من كل الصعوبات، نجح البلاشفة في إتقان العمل في ساحة النضال غير المألوفة تلك، واستخدموها بفعالية للدفاع عن قضية العمال. كان مفتاح الاستخدام الثوري للبرلمان في كل لحظة هو ربط عمل الكتلة البرلمانية بالنضال خارج البرلمان. لقد حافظ النواب البلاشفة في مجلس الدوما على علاقات وثيقة مع العمال خارج الدوما، حيث كانوا يسافرون إلى المناطق العمالية في جميع أنحاء روسيا، ويتحدثون في اجتماعات المصانع ويقومون بتحرير المنشورات والنداءات، ويولون اهتماما كبيرا لمظالم العمال. وفي هذا السياق يتذكر باداييف كيف حافظ على مراسلات كثيفة مع العمال: «كنت أتلقى كل يوم مراسلات كثيرة ليس فقط من سان بيترسبورغ، بل أيضا من مدن أخرى، وكان العديد من العمال يطلبون اللقاء بي. ولكي تستمر هذه المشاورات مع الجماهير، نشرت في برافدا جدولا بساعات “الاستقبال” الخاصة بي في المنزل. كان بعض هؤلاء الزوار العديدين يأتون نيابة عن مختلف المنظمات، في حين جاء آخرون من أجل مسائل شخصية.

كانت المحادثات والرسائل تتطرق إلى كل جوانب حياة العمال. لقد تم إطلاعي على الأعمال المنجزة والمضايقات التي كانت تتعرض لها النقابات العمالية، والإضرابات والإغلاقات والبطالة وحالات القمع البوليسي الجديدة. كان يُطلب مني التوسط نيابة عن المعتقلين، كما كنت أتلقى العديد من الرسائل من المنفيين، الذين كانوا يطلبون مني تنظيم المساعدات المالية والمادية الأخرى لهم. أما من بين أولئك الذين جاءوا في مسائل شخصية، فقد طلب مني بعضهم حتى إذا كان بإمكاني مساعدتهم في العثور على عمل. وفي كثير من الأحيان جاء زوار من أجل التحدث عن مجلس الدوما وعمله والتعبير عن رغباتهم وتقديم المشورة. كان من الضروري الرد على جميع الرسائل على الفور والتعامل مع الطلبات. وكان علي، في عدد من الحالات، أن أبدأ في تقديم ملتمسات وإجراء مفاوضات مع مختلف المؤسسات الحكومية. كان كل هذا يستغرق وقتا طويلا، وكان يشغل يومي بالكامل حتى قبل افتتاح أشغال مجلس الدوما»[52].

كان من الواضح منذ البداية أن هذا الدوما ينعقد في جو مختلف تماما عن الأجواء السابقة، ففي اليوم الذي افتتح فيه أشغاله كانت موجة ضخمة من الإضرابات تجتاح روسيا. ويتذكر باداييف المشهد في بيترسبورغ قائلا: «حوالي الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، ظهر حشد من هؤلاء العمال والطلاب في شارع كيروشنايا، وهم ينشدون أغاني ثورية ويحملون راية حمراء بحجم منديل يد تقريبا، مكتوب عليها شعار: “فليسقط الحكم الفردي”، خرجوا من شارع ليتيني وذهبوا نحو شارع نيفسكي. وفي ملتقى شوارع ليتيني وباسينايا وسيميونوفسكايا قام رجال الشرطة بتفريق المتظاهرين، والتقطوا الراية من الرصيف حيث تجمع الحشد واعتقلوا حاملها»[53]

النهوض الثوري

جاءت انتخابات مجلس الدوما الرابع في خضم نهوض ثوري هائل، وكان هذا هو السبب الحقيقي وراء النجاح الذي حققه البلاشفة. شهد عام 1912 أكثر من 3.000 إضراب، بمشاركة 1.463.000 عامل، كان 1.100.000 من بينهم منخرطون في إضرابات سياسية. وفي عام 1913 أضرب حوالي مليوني (02 مليون) عامل، كان 1.272.000 منهم منخرطين في إضرابات سياسية لعب فيها البلاشفة دورا قياديا في كثير من الأحيان. كما اندلعت تمردات جديدة بين البحارة والجنود. قامت تكتيكات البلاشفة آنذاك على أساس توقع نهوض ثوري جديد. وفي المقتطف التالي نحصل على لمحة عن تكتيكات الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين كانوا يشاركون في كل الإضرابات والنضالات ضد إغلاق المصانع: «تقرر أن يبقى جميع العمال الذين تعرضوا للطرد، بسبب إغلاق المصانع، على اتصال فيما بينهم، وأنه يجب طلب المساعدة من جميع عمال سان بيترسبورغ، وخوض نضال حازم ضد الإفراط في شرب الكحول أثناء الاعتصام، وأنه ينبغي دعوة الجمعيات التعليمية العمالية لتنظيم دروس مجانية للعمال، الخ. لم يكن على أي رجل أو امرأة الاقتراب من بوابات المصنع، وتقديم طلب باسمه أو نيابة عن العمال. وعندما أعيد فتح المصنع، لم يكن لأي عامل أن يعود إلى العمل إلا إذا تمت إعادة الجميع»[54].

من المستحيل فهم موقف لينين من التنظيم بمعزل عن المسائل السياسية. كان الاتجاه الحتمي نحو الانشقاق نابعا من طبيعة الوضع برمته. كان وقت الدبلوماسية والمحاولات غير المجدية لتوحيد الاتجاهات التي ثبت أنها متناقضة كليا قد مضى منذ وقت طويل، ومن هنا كانت معارضة لينين العنيدة لكل حديث عن الوحدة مع المناشفة آنذاك. كان من الضروري أن يكون الحزب الثوري مستعدا بشكل كامل قبل الوصول إلى النقطة الحرجة. لم يكن هناك مجال لإضاعة الوقت. وفي سياق الحملة الانتخابية إلى مجلس الدوما، أتيحت الفرصة للبلاشفة، خلال الاجتماعات العمالية الجماهيرية، لكي يوضحوا خطهم السياسي ويختبروا حجم الاستجابة، التي كانت كبيرة للغاية. كانت التعليمات الموجهة إلى المجموعة الاشتراكية الديمقراطية في الدوما، والتي وقعها آلاف العمال، تقوم على أسس بلشفية واضحة:

«إن مطالب الشعب الروسي، التي تقدمت بها حركة 1905، ما زالت لم تتحقق. إن تصاعد الردة الرجعية ومحاولة “تجديد النظام” لم يتسببا فقط في عدم الاستجابة لتلك المطالب، بل على العكس، جعلها أكثر إلحاحا. لا يقتصر الأمر على أن العمال محرومون من الحق في الإضراب (ليس هناك ما يضمن أنهم لن يطردوا بسبب ذلك)؛ كما لا يقتصر على أنه ليس لديهم الحق في تنظيم النقابات والاجتماعات (ليس هناك ما يضمن عدم اعتقالهم بسبب قيامهم بذلك)؛ بل ليس لديهم حتى الحق في انتخاب ممثليهم لمجلس الدوما، لأنهم سيتعرضون “لفقدان الأهلية” أو النفي إذا قاموا بذلك، مثلما حدث لعمال مصنع بوتيلوف وعمال أحواض بناء السفن في نيفسكي قبل بضعة أيام.

هذا إضافة إلى عشرات الملايين من الفلاحين الذين يتضورون جوعا، والذين تركوا تحت رحمة كبار الملاكين العقاريين ورؤساء الشرطة الريفية. كل هذا يؤكد ضرورة تحقيق مطالب عام 1905. إن الحالة الاقتصادية في روسيا، حيث بدأت تظهر بالفعل علامات اقتراب الأزمة الصناعية والتفقير المتزايد لشرائح واسعة من الفلاحين، تجعل من تحقيق الأهداف العامة لحركة 1905 مسألة ملحة أكثر من أي وقت مضى.

لذلك نعتقد أن روسيا على مشارف اندلاع حركات جماهيرية، ربما تكون أكثر عمقاً من تلك التي اندلعت عام 1905. هذا ما وضحته أحداث لينا، من خلال الإضرابات التي نظمت احتجاجا على “نزع الأهلية”، إلخ. وكما كانت الحالة في عام 1905، فإن البروليتاريا الروسية، التي هي الطبقة الأكثر تقدما في المجتمع الروسي، ستكون مرة أخرى طليعة للحركة. حلفاؤها الوحيدون هم الفلاحون الذين عانوا طويلا، والذين لديهم المصلحة الفعلية في تحرير روسيا من الإقطاعية.

يجب أن يتخذ النضال الشعبي المقبل شكل معركة على جبهتين: ضد النظام الإقطاعي وضد البرجوازية الليبرالية التي تسعى إلى الاتحاد مع النظام القديم. لكن ولكي تتمكن الطبقة العاملة من أن تقوم بشكل مشرف بدورها كقائد لحركة الشعب، يجب أن تكون مسلحة بالوعي بمصالحها وبقدر أعظم من التنظيم. إن منبر الدوما، في ظل الظروف الحالية، هو واحد من أفضل الوسائل لتنوير وتنظيم جماهير البروليتاريا الواسعة»[55].

غني عن القول إن لينين كان على اتصال دائم مع روسيا. كان قادة الحزب ونشطاؤه يذهبون إلى كراكوف للتباحث مع لينين الذي حافظ على استمرار المراسلات مع الداخل، بمساعدة كروبسكايا التي لا تعرف الكلل أو الملل. وكان يتم عقد اجتماعات رسمية في بعض الأحيان، حيث كان يتم نقاش تكتيكات وبرنامج الحزب. من بين تلك الاجتماعات كونفرانس كراكوف الذي انعقد في الفترة ما بين 28 دجنبر 1912 إلى 01 يناير 1913. ولأجل التمويه أطلق عليه اسم كونفرانس فبراير، وعلى هذا النحو عرف في الصحافة والأدب الحزبي. ترأس لينين الكونفرانس، وبالإضافة إلى النواب حضر الرفاق التالية أسماؤهم: ناديجدا كونستانتينوفنا كروبسكايا وج. زينوفييف وأ. ترويانوفسكي وفالنتينا نيكولاييفنا لوبوفا وإ. روزميوفيتش، وعدد قليل من الرفاق الآخرين، مندوبي المراكز العمالية الكبيرة. وكان من بين النواب، بتروفسكي ومالينوفسكي وشاغوف وباداييف.

كان العام الذي مر منذ كونفرانس براغ قد شهد تطورا قويا للحركة الثورية، والإضرابات السياسية والاقتصادية والمظاهرات الجماهيرية، وإنشاء وتدعيم الصحافة العمالية. كان الانشقاق بين الجناح الثوري وبين الجناح الإصلاحي داخل الاشتراكية الديمقراطية قد أصبح نهائيا آنذاك. كانت هيمنة النزعة التصفوية بين المناشفة قد جعلت ذلك أمرا لا مفر منه. كان الانشقاق بين البلاشفة والمناشفة ينتشر على طوال الحركة العمالية كلها وفي كل مكان كان الاتجاه الثوري يكسب المواقع، وهي الحقيقة التي تم تأكيدها من خلال الانتصار الحاسم الذي حققه البلاشفة في الدوائر الانتخابية العمالية خلال انتخابات مجلس الدوما. وقد اتضح ذلك التطور بشكل واف في ما يلي:

«1- يشير الكونفرانس إلى أنه على الرغم من الاضطهاد والتدخلات الحكومية التي لا نظير لها في الانتخابات، وعلى الرغم من تكتل المائة السود والليبراليين ضد الاشتراكيين الديمقراطيين، والذي اتخذ شكلا ملموسا بالتأكيد في العديد من المقاطعات، فإن حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي حقق نتائج عظيمة في انتخابات مجلس الدوما الرابع. لقد سجلت في كل مكان تقريبا زيادة في عدد الأصوات التي حصل عليها الاشتراكيون الديمقراطيون في الدوائر الانتخابية الثانية في المدينة، والتي تم انتزاعها من أيدي الليبراليين. وفي الدوائر الانتخابية العمالية، والتي تعتبر الأكثر أهمية بالنسبة لحزبنا، يتمتع حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بقاعدة صلبة. ومن خلال انتخاب الطبقة العاملة للبلاشفة وحدهم نوابا عن الدوائر الانتخابية العمالية، أعلنت بالإجماع ولائها الثابت لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي القديم وتقاليده الثورية.

2- يحيي الكونفرانس العمل النشط الذي يقوم به النواب الاشتراكيون الديمقراطيون في مجلس الدوما الرابع، كما تم التعبير عنه في تقديم المساءلات وفي الإعلان الذي حدد، بشكل صحيح، المبادئ الأساسية للاشتراكية الديمقراطية.

3- يعتبر، وفقا للتقاليد الحزبية، أن السياسة الصحيحة الوحيدة هي أن تكون الكتلة الاشتراكية الديموقراطية في الدوما خاضعة للحزب ككل، ممثلا في منظماته المركزية، ويعتبر الكونفرانس أنه، من أجل التثقيف السياسي للطبقة العاملة وضمان المحافظة على سياسة حزبية صحيحة، من الضروري تتبع كل خطوات الكتلة، وبذلك ضمان رقابة الحزب على عملها»[56].

باداييف في كتابه يتغاضى، لأسباب بديهية إلى حد ما، عن المغزى الحقيقي لهذا القرار، والذي يرد في الجملة الأخيرة. كان الغرض الرئيسي من اجتماع كراكوف، في الواقع، هو دعوة النواب البلاشفة في مجلس الدوما إلى الانضباط ووضع حد لنزعتهم التوفيقية والتذبذبات. لقد وضعت أنشطة نواب الدوما تحت رقابة الأجهزة القيادية للحزب، وصدرت لهم تعليمات بإنهاء تعاونهم مع هيئة تحرير جريدة “لوش” في نهاية عام 1913. وفي محاولة لإبعاد النواب البلاشفة عن المناشفة، أصدر الكونفرانس قرارا ينص على أن: «النوع الحقيقي الوحيد الممكن للتنظيم في الفترة الحالية هو حزب سري يتألف من نواة تحيط بها شبكة كاملة من المنظمات الشرعية وشبه الشرعية. يجب تكييف النواة السرية تنظيميا مع الظروف اليومية الملموسة».

وكانت المهمة الرئيسية هي إقامة لجان سرية تابعة للحزب في المصانع مع منظمة قيادية في كل مركز. في هذا الصدد يكتب باداييف: «اعتبر الكونفرانس أن أفضل نوع من أنواع التنظيم هو ذلك الذي ساد في سان بيترسبورغ. كانت لجنة سان بيترسبورغ مؤلفة من مندوبين منتخبين من قبل الدوائر وأعضاء معينين، مما أسفر عن تنظيم مرن للغاية، على اتصال وثيق مع النواة، وفي الوقت نفسه مخفي بشكل جيد عن أعين الشرطة السرية. كما تقررت أيضا ضرورة تنظيم الأجهزة الجهوية وضمان الاتصال بينها وبين المجموعات المحلية من ناحية، ومع اللجنة المركزية من ناحية أخرى، عن طريق نظام من المندوبين. لقد وضع القرار بشأن التنظيم نظاما متناغما مؤسسا بشكل صلب من الأسفل إلى الأعلى».

لكن وعلى الرغم من كل إلحاح لينين، رفضت أغلبية الفصيل البلشفي بعناد الانفصال عن المجموعة البرلمانية المنشفية، التي استمروا يحافظون معها على علاقات ودية طيلة النصف الأول من عام 1913، الأمر الذي أثار استياء لينين. وكوسيلة لضمان عدم انفصال النواب البرلمانيين عن العمال، أصر لينين على ضرورة أن يشاركوا شخصيا في أعمال برافدا. في هذا الصدد يتذكر باداييف: «بناء على توصية الرفيق لينين نفسه، تم تكليفي بمهمة تحرير برافدا. قال لي لينين إنه بصفتي نائبا عن سان بيترسبورغ، وممثلا عن عمال سان بيترسبورغ، يجب علي أن أتولى تلك المهمة. لم تكن برافدا تقتصر على الأهداف التعليمية والدعائية فحسب، بل كانت أيضا أهم جهاز تنظيمي. وشدد على مسألة أن من واجبي أن أعمل هناك»[57].

ومن الواضح أيضا أنه قد حدثت بعض الجدالات الحادة بين لينين وستالين فيما يتعلق بسلوك هيئة تحرير برافدا. كانت كروبسكايا، التي تم نشر كتابها عن لينين في الاتحاد السوفياتي تحت حكم ستالين، مضطرة للتعبير عن نفسها بحذر حول هذه المسألة، لكنها مع ذلك تكشف أن العلاقات بين الرجلين كانت متوترة للغاية. في ذلك الاجتماع تم تعيين سفيردلوف رئيسا لهيئة تحرير برافدا وتم إشراكه في اللجنة المركزية، شكلت تلك الخطوة ضربة لموقع ستالين. لكن اعتقال سفيردلوف، في 10 فبراير 1913، أبعده عن الميدان، فتمت إعادة تكليف ستالين مرة أخرى بالإشراف على برافدا، قبل أن يتعرض بدوره للاعتقال، لكن ليس قبل أن يظهر تحديه للينين ولغيره من القادة المنفيين. فعلى الرغم من كل ما قيل في اجتماع كراكوف، استمرت برافدا في معارضة القطيعة مع المناشفة في الدوما. وفي نوفمبر 1912، أعلنت صراحة أن “الكتلة يجب أن تكون متحدة”. ثم في فبراير، قبيل وقت قصير من اعتقاله، كتب ستالين مقالة على صفحات برافدا، حثّ فيها العمال على الوقوف ضد محاولات تقسيم الكتلة البرلمانية “أيا كان مصدرها”، والتي هي عبارة، على الرغم من طابعها العام، موجهة بوضوح ضد لينين[58].

“الجماهير صارت ناضجة الآن”

في تلك الأثناء كانت الأحداث تتحرك بسرعة. كان الصراع الطبقي يسير بخطى متسارعة. خلال عام 1913، شارك حوالي مليون عامل في الإضرابات في عموم روسيا؛ أكثر من نصف مليون شخص من هؤلاء شاركوا في إضرابات سياسية. وبحلول صيف 1913 غرقت روسيا في خضم أزمة سياسية. خلال اجتماع للحزب في غاليسيا البولندية (التي كانت آنذاك تحت الحكم النمساوي)، تم وضع منظور لاقتراب ثورة جديدة. “إن اندلاع ثورة جديدة صار على رأس جدول الحياة السياسية للبلاد”[59]. وفي سياق التجذر العام آنذاك شهد تأثير المناشفة تراجعا حادا. أصبح البلاشفة بسرعة القوة المسيطرة بين صفوف الطبقة العاملة المنظمة في روسيا. قال باداييف: «لقد تمت تقوية عمل الحزب وتوسيعه، وتم تشكيل مجموعات جديدة وأصبحت المجموعات القديمة أكبر وأكثر فاعلية»[60]. بالنظر إلى الطريقة التي كان يتم بها حساب عضوية الحزب حينها، يصعب القول كم كان عدد الأعضاء البلاشفة آنذاك. حتى لينين نفسه لم يكن يعلم، كما يظهر من المقتطف التالي المكتوب في شتنبر 1913:

«كان الحزب في عام 1907 يضم 150.000 عضو (وفقا لتقدير وافق عليه مؤتمر لندن). لكن لا يمكن تحديد عددهم في الوقت الحالي… ربما أقل من ذلك بكثير، ما بين 30.000 و50.000. من المستحيل أن أكون دقيقا… إن الحزب هو الفئة الواعية والطليعية بين صفوف الطبقة العاملة، وحارسها المتقدم. وبالتالي فإن قوة هذه الطليعة هي أكبر بعشر مرات أو مائة مرة من قوتها العددية. هل يمكن أن تكون قوة المئات أكبر من قوة الآلاف؟ نعم يمكن أن تكون أكبر، عندما يكون هؤلاء المائة منظمين. إن التنظيم يزيد قوتك عشرة أضعاف»[61].

صار من الملح آنذاك أن يتم حل جميع المسائل الخلافية في أسرع وقت ممكن. تم عقد كونفرانس جديد، هذه المرة في بورونينو، وهي قرية ليست بعيدة عن كراكوف، حيث كان يقيم لينين وعدد من أعضاء اللجنة المركزية. ومن أجل تضليل الشرطة، كانوا يطلقون على كونفرانس بورونينو اسم كونفرانس غشت، على الرغم من أنه انعقد بالفعل في نهاية شتنبر 1913. كان هناك ما بين 25 إلى 30 مندوبا عن أكبر منظمات الحزب. وبالإضافة إلى لينين وزينوفييف وكروبسكايا، الذين كانوا يعيشون في غاليسيا، حضر أيضا كامينيف وشوتمان وإينيسا أرماند وترويانوفسكي وروزموفيتش وهانيكي، وعمال حزبيون آخرون، وكذلك جميع الأعضاء البلاشفة في الدوما ماعدا سامويلوف، الذي كان مريضا. تمت المصادقة في كونفرانس بورونينو على قرار بخصوص الصحافة الحزبية شكل انطلاقة جديدة:

«يعترف الكونفرانس بالأهمية الهائلة للصحافة الشرعية من أجل التحريض والتنظيم الاشتراكيين الديمقراطيين، وبالتالي فإنه يدعو جميع المنظمات الحزبية وكل العمال الواعين طبقيا إلى تقديم دعمهم الكامل لها من خلال توزيع الجرائد على أوسع نطاق ممكن ومن خلال تنظيم المساهمات الجماعية والاشتراكات ودفع المستحقات بانتظام. ويؤكد الكونفرانس مرة أخرى أن المستحقات المذكورة هي مستحقات العضوية في الحزب.

ينبغي إيلاء اهتمام خاص لتعزيز الجريدة العمالية الشرعية في موسكو والمسارعة إلى إصدار جريدة في الجنوب. يرغب المؤتمر في توثيق التعاون بين الجرائد الشرعية القائمة عن طريق تبادل المعلومات وعقد المؤتمرات المشتركة، وما إلى ذلك. وإدراكا منه لأهمية وضرورة وجود جهاز ماركسي نظري، يطلب الكونفرانس من جرائد الحزب والنقابات العمالية أن تلفت انتباه العمال إلى مجلة بروسفيشتشيني (التنوير)، وأن تناشدهم بأن يشتركوا فيها بانتظام ويدعموها بانتظام.

يثير الكونفرانس انتباه منظمات النشر الحزبية إلى ضرورة توزيع الكراريس الشعبية على نطاق أوسع لأجل التحريض والدعاية. في ضوء التطور الأخير للحركة الثورية وأهمية تحليلها بشكل كامل وبطريقة كاملة، وهو الشيء الذي من المستحيل القيام به في الصحافة الشرعية، يوجه الكونفرانس اهتماما خاصا إلى ضرورة توسيع نطاق منشوراتنا السرية ويوصي أنه بالإضافة إلى الكراريس والمنشورات غير القانونية، ينبغي في أقرب وقت إصدار جريدة حزبية مركزية غير قانونية بانتظام»[62].

كان تأثير البلاشفة ينمو أسرع بكثير من سرعة نمو عضوية الحزب الفعلية. تقول كروبسكايا في إحدى الرسائل: «أثناء الكونفرانس كانت التقارير القادمة من المنظمات المحلية مثيرة للغاية. كان الجميع يقول إن الجماهير قد صارت ناضجة الآن… وخلال الانتخابات أصبح واضحا أن هناك منظمات عمالية تشكلت ذاتيا في كل مكان… كانت في أغلبها غير مرتبطة بالحزب، لكنها كانت تشتغل بروح الحزب»[63].

في ظل الظروف الجديدة، ومع وصول أعداد كبيرة من العمال الجدد إلى محيط الحزب، صار من الضروري إدخال تغييرات جذرية على طريقة التجنيد وفتح أبواب الانخراط أمام العمال. نرى هنا، مرة أخرى، مدى مرونة لينين فيما يتعلق بالمسائل التنظيمية. إن الحزب هو، في آخر المطاف، كائن حي يتغير ويكيف نفسه مع الظروف المتغيرة. وهكذا فإن لينين الذي جادل في عام 1903 ضد محاولة مارتوف تمييع الحزب عن طريق إلغاء التمييز بين العضو وبين المتعاطف، هو نفسه الذي صار ينادي الآن بتبني مقاربة مختلفة تماما، حيث دعا إلى اعتبار أي قارئ منتظم للبرافدا عضوا في الحزب (وأن الأموال المدفوعة بانتظام إلى البرافدا ينبغي أن تعتبر بمثابة “مستحقات العضوية في الحزب”). في الواقع لا يوجد أي تناقض بين الموقفين، إنهما يعكسان فقط التغير الذي حدث في الواقع الموضوعي، بالانتقال من حزب جنيني صغير نسبيا، يجب بالضرورة أن يكون له طابع حزب كوادر، إلى حزب عمالي جماهيري.

الانقسام في مجموعة الدوما

لقد كشف الوضع برمته عن التناقض الهائل الموجود داخل الفريق البرلماني في الدوما، حيث كان المناشفة يستغلون أغلبيتهم الشكلية، بمقعد واحد، للسيطرة على أنشطة الفريق وعرقلة تحركات النواب البلاشفة، وهو الموقف الذين كان هؤلاء الأخيرين على استعداد لقبوله باسم الوحدة. كان لينين ينتقد بشدة المندوبين البلاشفة في الدوما بسبب ترددهم في مسألة الانفصال عن المندوبين المناشفة السبعة. قال: «لقد بدأت الحملة ضد السبعة بشكل ممتاز، لكنها الآن صارت تنفذ بدون الحزم المطلوب»[64]. وبما أن اجتماع كراكوف فشل في التوصل إلى حل نهائي للمسألة، فقد صار الانقسام في الفريق البرلماني مسألة غير مؤكدة. في اجتماع اللجنة المركزية الذي عقد في يوليوز، كان “الستة” موضع انتقاد، على الرغم من أن مالينوفسكي وحده من كان حاضرا في الاجتماع من بين أعضاء الدوما. لم يعد من الممكن هذه المرة أن يتم قبول أي عذر. ومع ذلك فإن الطريقة التي يجب أن يتم بها تناول هذه المسألة كانت مهمة. كان من الضروري للغاية أن يفهم العمال أسباب الانقسام، وأن تقع المسؤولية الكاملة على كاهل المناشفة. حاول باداييف شرح سلوك النواب البلاشفة بأفضل طريقة ممكنة، لكن من الواضح أن النواب البلاشفة لم يتخذوا القرار بالانشقاق عن المناشفة إلا على مضض وتحت الضغط:

«بالطبع كان واضحا لنا جميعا في تلك الفترة أن لحظة القطيعة التامة مع المناشفة كانت تقترب. لكن الرغبة في الحفاظ على وحدة صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي بهذه الطريقة أو تلك كانت ما تزال قوية بين الجماهير العريضة للعمال[65]. بطبيعة الحال لم يكن الجمهور الواسع يعرف ما الذي كان يحدث داخل الحزب، في لجاننا أو حلقاتنا السرية، وذلك بسبب النظام البوليسي الذي كان سائدا في روسيا آنذاك. لكن فريق الدوما كان يعمل تحت أنظار الجميع؛ كان كل عامل، ليس فقط في سان بيترسبورغ بل وحتى في أكثر المناطق النائية في روسيا، يعلم بوجود الفريق وأنشطته. وعندما كانت الجماهير العريضة تشير إلى وحدة الحزب، فقد كانت تقصد في الغالب فريقنا البرلماني»[66].

نظم البلاشفة حملة لجمع التوقيعات لتعبئة أكبر قدر ممكن من الدعم خلف نوابهم في مجلس الدوما. وكانت النتيجة نجاحا بارزا. بحلول الأول من نوفمبر، وفي غضون أسبوعين فقط، تلقت برافدا والمجموعة البلشفية أكثر من ثمانية قرارات دعم تحمل أكثر من 5.000 توقيع. بينما لم يتمكن المناشفة، خلال الفترة نفسها، من حشد سوى 3500 توقيع. وحتى هذه النسبة لم يتم الحفاظ عليها، حيث أن المناشفة كانوا قد استنفذوا كل جهودهم خلال الأسابيع الأولى، فبدأت القرارات المؤيدة للمناشفة تشهد تراجعا متواصلا، بينما استمر عدد القرارات لصالح “الستة” في الزيادة. صار تفوق البلاشفة أكثر وضوحا خلال الشهر الموالي، حيث توقف تدفق القرارات المؤيدة للمناشفة من المحافظات، مقابل ارتفاع تلك القادمة للبلاشفة. وبحلول الأول من دجنبر، صار من الواضح أنه في إمكان البلاشفة أن يعتمدوا على مؤيدين بين العمال الروس يزيد بما لا يقل عن ضعفين ونصف عن المناشفة. اتضحت النتيجة نفسها من خلال كمية الأموال التي جمعها كل فريق من مساهمات العمال، إذ لم يتمكن المناشفة من جمع سوى حوالي 150 روبل لكل 1.000 روبل حصل عليها البلاشفة.

على الرغم من حقيقة أن البلاشفة في ذلك الوقت كانوا قد وحدوا وراءهم الفئات الحاسمة من بين صفوف الطبقة العاملة، فإن المزاج التوفيقي استمر موجودا، كما يعترف باداييف نفسه: «بعض الدوائر الاشتراكية الديمقراطية في الخارج أيضا لم تدرك طبيعة ومعنى الانشقاق الذي عرفه الفريق، وبقيت تتردد بين المعسكرين، وتنتقل من البلشفية إلى المنشفية والعكس. من أكبر هاتين المجموعتين كانت فبريود (إلى الأمام)، التي اعتقدت أن الانشقاق كان نتيجة “غياب جهاز قيادي مركزي موحد، يتمتع بثقة أغلبية أعضاء الحزب”. اعترف الفبريوديون أن مطالب “الستة” مشروعة، لكنهم ظنوا أن المسألة كلها كانت مجرد صدامات تنظيمية طفيفة داخل الفريق. وهكذا فقد عجزوا تماما عن فهم معنى الانقسام والاختلافات الجوهرية التي أدت إليه».

استغل المناشفة بطبيعة الحال الانشقاق الذي عرفته مجموعة الدوما لإثارة ضجة في الخارج، مستفيدين من جهل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأجنبية بالشؤون الروسية ورفضها الطبيعي للانشقاقات. وقد ساعدتهم في هذا حقيقة أن مرشحهم هو الذي كان يمثل المجموعة البرلمانية في مكتب الأممية الاشتراكية (الأممية الثانية). قرر المناشفة طرح المسألة أثناء اجتماع المكتب، الذي كان مقررا في الأول من دجنبر، وبعثوا كلا من تشخيدزه وسكوبيليف إلى لندن. وعلى أمل استغلال سلطة بليخانوف الكبيرة لخدمة موقف المناشفة، بعث له تشخيدزه تلغرافا إلى إيطاليا وطلب منه القدوم إلى لندن لتوضيح وجهة نظره بخصوص الانقسام خلال اجتماع المكتب.

إلا أن بليخانوف لم يكتف برفض المجيء إلى لندن، بل بعث رسالة إلى مكتب الأممية الاشتراكية يقول فيها إنه يدعم “الستة” واعتبر أن المناشفة هم المسؤولون عن الانشقاق. وفي الوقت نفسه وبما أنه اعتبر أن هذه المسألة قد حسمت الانشقاق داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فقد قرر الاستقالة من المكتب، الذي كان يمثل فيه الحزب بأكمله، كما يوضح ذلك المقتطف التالي من رسالته، الوارد في كتاب باداييف: «لقد أدت الخلافات في الرأي، التي كانت موجودة خلال السنوات القليلة الماضية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، إلى تقسيم فريقنا في الدوما إلى مجموعتين متنافستين. لقد حدث هذا الانشقاق نتيجة لقرارات معينة مؤسفة اتخذها رفاقنا التصفويون، الذين صادف أن كانوا أغلبية (سبعة مقابل ستة). وبسبب الضربة القوية التي تعرضت لها وحدة حزبنا، فإنه لم يبق لي، أنا الذي أمثل أمامكم الحزب بأكمله، من خيار آخر سوى الاستقالة. وهذا ما أقوم به من خلال هذه الرسالة»[67].

قرب اندلاع ثورة جديدة لم يكن يعني، بأي حال من الأحوال، أنه يمكن للحزب أن يتخلى عن النضال من أجل المطالب الجزئية. بل إنه على العكس استثمر هذا النضال بإلحاح أكبر. كانت هناك ضرورة النضال من أجل كل مطلب جزئي، مهما كان صغيرا، لتحسين مستويات معيشة الطبقة العاملة وظروف عملها وحقوقها، من أجل جعل الحزب أكثر ارتباطا بالجماهير. لا يحمل واقع الحزب البلشفي أدنى تشابه مع الصورة الكاريكاتيرية التي قدمها مارتوف عن البلشفية باعتبارها «النزعة المتطرفة والسعي إلى تحقيق نتائج قصوى فورية، والرغبة في تحقيق التحسينات الاجتماعية، دون مراعاة الظروف الموضوعية»[68]. لو كان الأمر كذلك بالفعل لما تمكن البلاشفة أبدا من كسب أغلبية الطبقة العاملة إلى جانبهم، كما حدث في 1912- 1914، ومرة ​​أخرى في شتنبر – نوفمبر 1917.

إن ما كتبه مارتوف كمنفي بعد ثورة أكتوبر قدم بالفعل الدليل النهائي على صحة وجهات نظر لينين وسياسته وأساليبه، ومن الواضح أن حقد مارتوف كان نتاجا للحسد الشديد وليس مجرد ضعف في الذاكرة. وكما سبق لنا أن أشرنا فإن الفرق بين الماركسية الثورية وبين ما يسمى بالإصلاحية ليس في كون الإصلاحيين يقبلون بالنضال من أجل الإصلاحات بينما ينكره الماركسيون، إن الماركسيين الثوريين يتميزون دائما عن الإصلاحيين بكونهم المقاتلين الأكثر ثباتا وإصرارا من أجل الإصلاحات، بينما ينتقل الإصلاحيون دائما، وخاصة في فترات الأزمة الرأسمالية، من الإصلاحات إلى تدمير الإصلاحات وتطبيق سياسة “التقشف” تحت ضغط الرأسمال الكبير، في حين يؤكد التاريخ أن جميع الإصلاحات الجدية كانت نتيجة ثانوية للنضال الثوري لتغيير المجتمع. ولسوء حظ التصفويين، في ظل ظروف روسيا، كان حتى النضال من أجل المطالب الأكثر جزئية، إذا تم خوضه بجدية، يؤدي بشكل حتمي إلى مطلب الإطاحة بالقيصرية.

المسألة القومية

يتضح موقف البلاشفة من المطالب الديمقراطية في موقفهم من المسألة القومية. فبدون موقف واضح ومبدئي بشأن المسألة القومية، لم يكن بإمكانهم أبدا أن يقودوا الطبقة العاملة إلى الاستيلاء على السلطة. كانت المسألة القومية ذات أهمية حاسمة بالنسبة لروسيا، حيث كان 57% من السكان يتألفون من أقليات غير روسية كانت تعاني من الاضطهاد والتمييز على أيدي 43% من الروس. أدت الردة الرجعية خلال فترة 1907- 1910 إلى احتداد التناقضات القومية إلى درجة لا تحتمل، كما أجهزت الردة الرجعية المتصاعدة على كل المكاسب التي كانت القوميات المضطهدة قد حققتها خلال الفترة السابقة، إذ تم إلغاء الحكم الذاتي في فنلندا، وتم حرمان الملايين من حق التصويت بسبب “جنسيتهم”.

ومرة أخرى كشفت نزعة معاداة السامية عن وجهها القبيح في قضية بيليز السيئة الذكر في كييف، عندما اتهم المائة السود اليهود باغتيال طقوسي لطفل مسيحي. كان النظام يستغل الأحكام المسبقة العنصرية لتقسيم الشعب واستعباده. قامت الصحف اليمينية بنشر مقالات مثيرة تدعي أن القتل الطقوسي للأطفال المسيحيين من طرف اليهود يشكل جزءا من العقيدة اليهودية. كانت القضية مخيفة لدرجة أن موجة من السخط اجتاحت المجتمع الروسي. عبّر الرأي العام الليبرالي عن غضبه الأخلاقي. لكن الحقيقة هي أن أصل هذه السموم العنصرية هو النظام نفسه والنظام الاجتماعي الذي يستند إليه. ليس من قبيل المصادفة أن مشاعر معاداة السامية كانت منتشرة في بلاط نيكولا الذي كان بدوره يتبناها هو ومحيطه وكانوا يشجعونها بشكل ممنهج.

كانت الطريقة الوحيدة لمحاربة العنصرية هي توحيد العمال في النضال ضد كل أشكال الظلم والتمييز، كجزء من النضال الثوري العام لتغيير المجتمع. إلا أن هذا لا يمنع قيام الحركة العمالية باتخاذ إجراءات عملية ضد الفاشيين والعنصريين الذين يهاجمون أبناء الأقليات المضطهدة، بل يفترضه مسبقا. من الضروري أن يتم الدفاع عن الأقلية المضطهَدة من قبل الطبقة العاملة المتحدة ككل، دون تمييز بسبب الاثنية أو اللغة أو اللون. في وقت محاكمة بيليز، نظم الاشتراكيون الديمقراطيون حملة احتجاج ضد المعادين للسامية. وفي شتنبر وأكتوبر أصدر البلاشفة سلسلة من المنشورات، كتبوا في إحداها: «أيها الرفاق: نحن العمال لا نحتاج إلى استعباد أمة من طرف أخرى. إن العمال الفنلنديين والبولنديين واليهود والألمان والأرمن جميعهم إخوة لنا. يجب علينا ألا نحاربهم، بل علينا أن نحارب ضد الأوتوقراطية والرأسمالية»[69].

دعت المنشورات إلى تنظيم إضرابات احتجاجية، اندلعت بالفعل في بيترسبورغ وكييف وريفل وغوميل وبيلوستوك وبريست- ليتوفسك، ومناطق أخرى. أي بعبارة أخرى رد الحزب على السموم العنصرية بإطلاق نداء طبقي.

رد عمال روسيا وأوكرانيا بإضرابات للدفاع عن الشعب اليهودي المضطهَد. وأخيرا، وتحت ضغط الحركة الاحتجاجية الجماهيرية، أُعلن أن بيليز بريء. إن مكافحة العنصرية تتم بالضبط بتعزيز وحدة جميع العمال في خضم النضال، فوق جميع اختلافات الجنس أو الاثنية أو الدين أو اللون أو اللغة. وفي المقابل فإن التيارات القومية البرجوازية الصغيرة، التي تؤكد على الاختلافات القومية، إنما تخدم مصالح العنصريين. وهكذا فإنه في ظل روسيا القيصرية، كانت النزعة الانفصالية للبوند ضارة للغاية. لقد اتبعوا سياسة ترقى إلى تقسيم العمال على أساس قومي، من خلال مطالبتهم بالحق الحصري في تمثيل اليهود، وبمطالب الراحة يوم السبت لليهود وحقوق اللغة اليهودية ومطالب أخرى تتعلق بـ “الاستقلال الذاتي الثقافي القومي”.

كثيراً ما كان أبناء القوميات المضطهَدة (العمال الأستونيون والفلاحون الأوكرانيون، وغيرهم) يطلبون الدعم من الفريق الاشتراكي الديمقراطي في الدوما. كان الحزب البلشفي نفسه نموذجا لكيفية توحيد العمال من قوميات مختلفة في منظمات طبقية واحدة، حتى في الأماكن التي كانت تعرف تاريخا من الصراع الاثني، كما كان الحال في روسيا القيصرية، حيث لم يكن النظام يكتفي بتحريض الروس والأوكرانيين ضد اليهود فقط، بل كان أيضا يحرض الأذربيجانيين والجورجيين ضد الأرمن. إن المذابح التي ارتكبت ضد الأرمن في باكو هي الآن أقل شهرة من المذابح ضد اليهود، لكنها كانت مرعبة مثلها. ومع ذلك ففي المنظمات البلشفية كان العمال الروس والأوكرانيون واليهود واللاتيفيون والأرمن يعملون معاً. كان لينين يعارض دوما شق صفوف الطبقة العاملة ومنظماتها، كتب قائلا: «في منظمتنا الاشتراكية الديمقراطية القوقازية، كان الجورجيون والأرمن والتتار والروس يعملون معا في منظمات ديمقراطية موحدة لأكثر من عشر سنوات. هذا ليس مجرد كلام، بل هو الحل البروليتاري للمسألة القومية. إنه الحل الوحيد. نفس الشيء في ريغا، فهناك روسيون ولاتيفيون وليتوانيون؛ الوحيدون الذين ينظمون أنفسهم بشكل مستقل هم الانفصاليون، أي البوند. هذا هو الحال أيضا في فيلنا»[70]. يعتبر هذا ردا ساحقا على جميع محاولات تقسيم منظمات العمال على أسس قومية.

كانت الشوفينية الروسية تشكل دائما واحدة من أقوى أسلحة الردة الرجعية. وفيما يتعلق بالمسألة القومية، لم يكتف لينين بالتنديد فقط برجعية المائة السود الواضحة، بل أيضا ندد بالبرجوازية الليبرالية كذلك. كتب قائلا: «إن البرجوازية الليبرالية من كل الأمم -والبورجوازية الروسية على وجه الخصوص- تحارب من أجل امتيازات “أمتها”… من أجل خصوصيتها القومية، من أجل تفردها القومي، وهي بذلك تدعم سياسة وزارة الداخلية عندنا»[71].

ومرة أخرى قال: «إن النزعة القومية البرجوازية والنزعة الأممية البروليتارية متعارضتان بشكل مطلق، إنهما ينتميان إلى معسكرين طبقيين كبيرين يقسمان كل العالم الرأسمالي ويعبران عن سياستين (بل رؤيتين عالميتين) بشأن المسألة القومية»[72].

كان أي ارتباك بشأن المسألة القومية سيشكل كارثة للثورة الروسية. وهذا هو السبب الذي جعلها تحتل مكانا مركزيا في جميع المناقشات منذ عام 1903 فصاعدا. كانت هناك مشاكل خطيرة ليس فقط مع القوميين اليهود في البوند، بل أيضا مع الاشتراكيين الديمقراطيين البولنديين والليتوانيين الذين كانوا متأثرين بأفكار روزا لوكسمبورغ التي أنكرت حق الشعوب في تقرير مصيرها. كانت روزا لوكسمبورغ بلا شك مدافعة حازمة عن الأممية، وكانت محقة في مقاومتها العنيدة للتحيز القومي البورجوازي الصغير عند الحزب الاشتراكي البولندي. لكن فكرتها عن الأممية كانت مجردة وأحادية الجانب. لقد أنكرت في الواقع حق الشعب البولندي في تقرير المصير. لو قبل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي هذا الموقف، كما طالبت هي، لكان ذلك كارثة كاملة وهدية للقوميين البولنديين. لقد كانت الاختلافات شديدة إلى درجة أنها أدت إلى انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي البولندي، حيث قامت مجموعة معارضة، كانت متعاطفة مع موقف لينين، بقيادة ج. س. هانيكي وأ. م. مالكي، بالانشقاق. كان موقف لينين أكثر عمقًا وجدلية. وفي السنوات التي سبقت مباشرة الحرب العالمية الأولى واثناءها، كتب عددا كبيرا من المقالات والوثائق حول المسألة القومية، التي ما زالت تحتفظ حتى يومنا هذا بكل حيويتها وأهميتها. وكما كان معروفا عنه، ناقش لينين أفكاره حول هذا الموضوع مع الكوادر الشابة للحزب وشجعهم على الكتابة عنها، وكانت النتيجة، من بين أمور أخرى، كتيب شوميان حول الاستقلال الذاتي الثقافي القومي ومقالة ستالين في بروسفيشينيي، تحت عنوان: المسألة القومية والاشتراكية الديمقراطية، والتي كانت، في الواقع، مقالة أملاها عليه لينين.

لينين والمسألة القومية

ما هو موقف لينين من المسألة القومية؟ يناضل الماركسيون ضد كل مظاهر اللامساواة والتمييز مهما كانت صغيرة. وكمثال على ذلك نحن نقف ضد أي امتياز لصالح لغة معينة. لا يوجد أي سبب لوجود لغة “رسمية” تحتكر امتيازات على حساب لغات أخرى. كان هذا هو موقف لينين. لكن هذا لا يعني أنه يتماهى مع مزاعم التفرد الرجعية التي يتبناها البرجوازيون والبرجوازيون الصغار من القوميات المضطهَدة الذين يطالبون “بالاستقلال الذاتي القومي الثقافي”، ويمجدون لغتهم وثقافتهم “الخاصتين”، الشيء الذي يخفي سعيهم إلى اضطهاد الشعوب الأخرى. «إن شعار الديمقراطية العمالية ليس “الثقافة القومية” بل الثقافة الديمقراطية العمالية الأممية».

وراء النداءات إلى “الثقافة القومية” تكمن المصلحة الطبقية للمستغِلين من كل أمة، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين. إن الأفكار السائدة في أي أمة هي أفكار الطبقة السائدة، هذا موقف أساسي بالنسبة للماركسيين، وهنا أيضا حافظ لينين على موقف طبقي، حيث يقول: «إن عناصر الثقافة الديموقراطية والاشتراكية موجودة، ولو في شكل بدائي، في كل ثقافة قومية، لأنه في كل أمة توجد جماهير كادحة ومُستغَلة، والتي تؤدي ظروف حياتها بشكل حتمي إلى نشوء أفكار ديمقراطية واشتراكية. لكن كل أمة تمتلك أيضا ثقافة برجوازية (وفي معظم الأمم ثقافة رجعية ودينية كذلك) باعتبارها الثقافة السائدة، وليس فقط كـ “عناصر”. لذلك فإن “الثقافة القومية” هي بشكل عام ثقافة الملاكين العقاريين ورجال الدين والبرجوازية. إن هذه الحقيقة الأساسية، البديهية بالنسبة للماركسي، تم دفعها إلى الخلف من طرف البوندي، الذي “أغرقها” بكلماته المشوشة، أي أنه بدلا من كشف وتوضيح الهوة الطبقية للقارئ، قام في الواقع بإخفائها.. لقد تصرف البوندي، في الواقع، مثل البرجوازي، الذي تقتضي مصلحته نشر الاعتقاد في ثقافة قومية غير طبقية».

ووضح أن: «الثقافة القومية البرجوازية هي حقيقة (وأكرر أن البرجوازية في كل مكان تدخل في صفقات مع الملاكين العقاريين ورجال الدين). والحقيقة الأساسية في يومنا هذا هي أن النزعة القومية البرجوازية الكفاحية تبلد عقول العمال وتخدعهم وتفرقهم لكي تتمكن البورجوازية من قيادتهم بالسوط. يجب على أولئك الذين يسعون لخدمة البروليتاريا أن يوحدوا عمال جميع الأمم وأن يناضلوا بحزم ضد القومية البرجوازية المحلية والأجنبية»[73].

كان لينين يعارض إنشاء مدارس منفصلة على أسس قومية، والتي من شأنها أن تقسم السكان وتعزز الأحكام المسبقة العنصرية والقومية. لقد كشف لينين الطبيعة الرجعية لهذا المطلب والمطالب الأخرى النابعة عما يسمى بسياسة “الاستقلال الذاتي الثقافي”، التي كان الاشتراكيون الديمقراطيون النمساويون يدعون إليها: «“إن الاستقلال الثقافي القومي” يعني ضمنيا، على وجه التحديد، أصفى أشكال النزعة القومية وبالتالي أكثرها ضررا، إنها تتضمن إفساد العمال عن طريق شعار الثقافة القومية والدعاية الضارة، بل والرجعية، إلى التمييز في المدارس على أساس الانتماء القومي. باختصار إن هذا البرنامج يتناقض بدون شك مع النزعة الأممية البروليتارية، ولا يتماشى إلا مع المثل العليا للبرجوازية الصغيرة القومية».

وبدلاً من مطلب “الاستقلال الثقافي القومي”، رفع لينين مطلب الحق في تقرير المصير. وهذا مطلب ديمقراطي ينطلق من قناعة أنه لا يجب إلزام أي أمة بالبقاء ضمن حدود أمة أخرى رغما عنها. إن حق كل شعب في تقرير شؤونه الخاصة، بعيدا عن تدخل شعب آخر أقوى، هو حق أساسي يجب الدفاع عنه. لكن هذا لا يعني أن الماركسيين ملزمون بالدفاع عن الانفصال. في واقع الأمر لقد أشار لينين إلى أنه «بالنسبة إلى الماركسي بطبيعة الحال، عند تساوي جميع الشروط الأخرى، تكون الدول الكبيرة دائما أفضل من الدول الصغيرة»[74]. إن الدولة القومية، مثلها مثل الملكية الخاصة، مؤسسة عتيقة ورجعية تعوق التطور الحر للقوى المنتجة. إن هيمنة السوق العالمية، التي تنبأ بها ماركس وإنجلز منذ زمن بعيد، أصبحت الآن حقيقة. لا يمكن لأي بلد، مهما كان كبيرا وقويا، أن يهرب من الهيمنة التي لا تقاوم للسوق العالمية. ولهذا السبب تحول ما يسمى باستقلال تلك البلدان التي نجحت في التخلص من نير الاضطهاد الأجنبي المباشر، منذ عام 1945، إلى مجرد وهم. لقد صارت مستغَلة ومضطهَدة أكثر من ذي قبل، باستثناء أن الاستغلال صار يحدث بطريقة غير مباشرة، من خلال آلية التجارة العالمية.

كتب لينين في أكتوبر- دجنبر 1913: «البروليتاريا، في المقابل، لا تقف فقط ضد التنمية القومية لكل أمة على حدة، بل إنها كذلك تحذر الجماهير من مثل هذه الأوهام، وتدافع عن الحرية الكاملة للتبادل الاقتصادي الرأسمالي، وترحب بكل أنواع الاستيعاب القومي، باستثناء ذلك الذي يقوم على القوة أو الامتيازات»[75].

إن الماركسيين لا يؤيدون إقامة حدود جديدة، بل يناضلون من أجل القضاء على جميع الحدود، وبناء الولايات الاشتراكية العالمية المتحدة. لكن هذا الموقف لا يعالج المسألة في تفاصيلها. نعم نحن نفضل الوحدات الكبيرة، عندما تكون كل الظروف الأخرى متساوية، لكن الظروف ليست متساوية. لقد قال ماركس ذات مرة إنه لا توجد كارثة أكبر بالنسبة لشعب من أن يقمع شعبا آخر. وعندما يحدث هذا يكون من واجب الماركسيين الدفاع عن الأقلية المضطهَدة. نحن نعارض كل أشكال التمييز والظلم والحرمان من الحقوق القومية، وسوف نكافحها. لكن هذا غير كاف. يجب على الطبقة العاملة أن يكون لها موقفها الخاص والمستقل بشأن المسألة القومية، كما هو الحال في أي مسألة أخرى. ويجب على الموقف من هذه المسألة، كما هو الحال في أي مسألة أخرى، أن يخدم قضية النضال من أجل التغيير الاشتراكي للمجتمع. لا يمكن أن نتخلى عن النضال من أجل الاشتراكية أو الصراع بين العمل المأجور والرأسمال لمصلحة أي نوع من أنواع “الوحدة القومية”. وحتى أثناء الكفاح ضد الاضطهاد القومي أيضا، يجب أن يكون النضال الطبقي الثوري في المقدمة.

شرح لينين ألف مرة أن الماركسيين الروس، باعتبارهم أبناء قومية مضطهِدة (القومية الروسية العظمى)، عليهم النضال ضد السياسات والممارسات القمعية التي تنفذها برجوازيتهم، والدفاع عن حقوق تلك القوميات المضطهَدة من قبل القومية الروسية. كان ذلك ضروريا لكي يظهر للعمال والفلاحين من القوميات الأخرى غير الروسية أن العمال الروس ليست لديهم أي مصلحة في اضطهادها، بل إنهم المدافعون الأكثر حزما عن حقوقها. وكدليل نهائي على ذلك، أصر لينين على ضرورة أن يرفع الحزب الروسي شعار حق القوميات في تقرير مصيرها. في الواقع كان العمال الروس يقولون للعمال البولنديين والفنلنديين والجورجيين والأوكرانيين وغيرهم: «ليست لدينا أي مصلحة في إبقائكم في القيود. دعونا نوحد جهودنا لإسقاط المستغِلين، ومن ثم سنمنحكم الحرية في تقرير ما ستكون عليه علاقاتكم معنا. نريد أن نوضح لكم أنكم ستعاملون على قدم المساواة المطلقة، وأنكم ستختارون البقاء معنا، لكن إذا قررتم شيئا آخر، فهذا شأنكم الخاص، وسنناضل للدفاع عن حقكم، حتى لو كان ذلك يعني إقامة دولتكم الخاصة».

لم يقدم لينين أبدا أدنى تنازل للنزعة القومية، بما في ذلك قومية المظلومين. لقد كان الدافع وراء موقفه من المسألة القومية هو الإيمان العميق بالأممية والمهمة الثورية للبروليتاريا. «إذا سمح الماركسي الأوكراني لنفسه بأن تدفعه كراهيته، المشروعة والطبيعية بالتأكيد، للنزعة القومية الروسية التوسعية، إلى درجة أن ينقل ولو ذرة من هذه الكراهية، حتى وإن كانت مجرد نفور، إلى الثقافة البروليتارية والقضية البروليتارية للعمال الروس، فإن هذا الماركسي ينزلق بالتالي في مستنقع النزعة القومية البرجوازية. وبالمثل فإن الماركسيين الروس سينزلقون، ليس فقط في النزعة القومية البرجوازية، بل أيضا في النزعة القومية للمائة السود، إذا ما هم توقفوا، ولو للحظة واحدة، عن المطالبة بالمساواة الكاملة للأوكرانيين، أو حقهم في تشكيل دولة مستقلة»[76].

إن الهدف الرئيسي لشعار الحق في تقرير المصير هو بالضبط ضمان وحدة الطبقة العاملة. لكن الوجه الآخر للعملة هو أنه على الماركسيين من القوميات المضطهَدة أن يركزوا على محاربة برجوازيتهم، على محاربة سموم النزعة القومية المضطهَدة البورجوازية والبرجوازية الصغيرة، وشن كفاح شرس لمحاربة هيمنة النزعة القومية بين صفوف الطبقة العاملة. وعلاوة على ذلك كان لينين يعارض دوما إقامة منظمات منفصلة لعمال القوميات المضطهَدة. كان الماركسيون الروس يدافعون عن وحدة الطبقة العاملة ومنظماتها، ليس الحزب فقط بل كذلك النقابات العمالية أيضا: «في مواجهة المشاحنات القومية للأحزاب البرجوازية المختلفة حول مسائل اللغة، وما إلى ذلك، تطرح الديمقراطية العمالية مطلب الوحدة غير المشروطة والاندماج التام للعمال من جميع القوميات في كل منظمات الطبقة العاملة -النقابات العمالية والتعاونيات، وجمعيات المستهلكين والجمعيات الثقافية، وغيرها- في وجه أي نوع من أنواع القومية البرجوازية. وحده هذا النوع من الوحدة والاندماج يمكنه أن يدعم الديمقراطية ويدافع عن مصالح العمال ضد الرأسمال -الذي صار عالميا بالفعل ويصبح كذلك أكثر فأكثر- ويشجع تطور البشرية نحو نمط حياة جديد خال من كل الامتيازات وكل استغلال»[77].

وهكذا فقد كان تقرير المصير مجرد جزء واحد فقط من برنامج يهدف إلى ضمان وحدة العمال في كل من القوميات المضطهـِدة والمضطهَدة. إنه لا يعني على الإطلاق دعم النزعة القومية والانفصالية، كما يشرح لينين عندما يقول: «إن الاعتراف بهذا الحق [في تقرير المصير] لا يستبعد الدعاية والتحريض ضد الانفصال أو فضح النزعة القومية البرجوازية»[78].

حروب البلقان

لطالما كانت المسألة القومية حقل ألغام غادر، لأن مطلب التحرر الوطني وتقرير المصير ليس مسالة بسيطة، إذ يمكن أن تكمن القوى والمصالح الأكثر رجعية وراء ما قد يبدو للوهلة الأولى مطلبا تقدميا. لهذا أكد لينين على أن مطلب تقرير المصير لا يكون بدون قيد أو شرط، بل يجب إخضاعه لمصالح البروليتاريا والثورة العالمية. ليس الماركسيون ملزمين بدعمه في كل الأحوال والظروف، كما يظن البعض. لقد سبق لماركس أن أشار منذ زمن بعيد إلى الدور الرجعي الذي لعبته “الأمم الصغيرة” التي تحولت إلى أدوات في أيدي القوى الإمبريالية الكبرى. لقد انتقد بشكل خاص النزعة السلافية، التي استغلتها روسيا القيصرية من أجل الظهور بمظهر “محررة” السلاف، واستخدمت هذا الموقف للحصول على موطئ قدم في البلقان. وعلى خطى ماركس، تميز موقف لينين تجاه المسألة القومية بإصراره الدائم على الموقف الطبقي. لقد حذر باستمرار من خطر السموم القومية وكتب بسخرية عن شعار “الحرية” الذي كانت البرجوازية تسعى لاستغلاله من أجل إخفاء مؤامراتها الرجعية وخداع الشعب.

كثيرا ما استخدم لينين في كتاباته عن المسألة القومية قبل عام 1914 مثال الطريقة التي انفصلت بها النرويج عن السويد في عام 1905. كان ذلك مثالا بسيطا جدا، وربما لهذا السبب اختاره لينين. لكن لسوء الحظ لا تكون المسألة القومية بهذه البساطة دائما. إن الموقف الذي يمكن للماركسيين اتخاذه من حق تقرير المصير، من حيث الدفاع عنه أو معارضته، مرتبط بالظروف الملموسة في كل حالة على حدة.

كتب لينين قائلا: «إن الشرط الضروري الذي تفرضه النظرية الماركسية أثناء تحليل أي مسألة اجتماعية هو أن يتم دراستها ضمن حدود تاريخية معينة؛ وإذا كانت تلك المسألة تتعلق ببلد معين (بالبرنامج القومي لبلد معين على سبيل المثال)، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الخصائص الملموسة التي تميز هذا البلد عن سواه في نفس الحقبة التاريخية». وأضاف: «لا يمكن للماركسيين في أي بلد أن يضعوا برنامجهم القومي دون أن يأخذوا بالاعتبار جميع هذه الظروف التاريخية العامة وجميع الأوضاع الملموسة لهذه القومية»[79].

يمكن للمرء أن يعتقد أن هذا واضح. لكن وكما يقول المثل: “القليل من المعرفة شيء خطير” لسوء الحظ. ألقى بعض ممن يعتبرون أنفسهم لينينيين نظرة خاطفة على كتابات لينين ولمحوا جملة “الحق في تقرير المصير” فاستخلصوا أنه من الضروري دائما ومهما كانت الظروف دعم كل مطالب الاستقلال. فإذا بكل ما شرحه لينين بكل حرص يتحول إلى ما يشبه التشنج العصبي الذي يدفع هؤلاء الذين يعانون منه إلى القفز كلما نفخت إحدى المجموعات القومية في البوق. إن المرء يتساءل حقا لماذا كلف لينين نفسه كل تلك المجهودات لكتابة كل تلك المجلدات، في حين يبدو بوضوح أن أولئك الذين يتحدثون ويتصرفون باسمه لم يفهموا ولو سطرا واحدا مما كتبه!

وفي ضوء التطورات الأخيرة التي تعرفها منطقة البلقان، بعد تفكك يوغوسلافيا، من المفيد التذكير بالموقف الذي كان لينين قد اتخذه خلال حروب البلقان. هل قفز على الفور للدفاع عن هذا البلد أو ذاك من البلدان المتحاربة؟ كلا، على العكس تماما. لقد أدان حروب البلقان لأن جميع الأطراف كانت رجعية. ليس من الممكن أن تدعم الطبقة العاملة أيا من الأطراف المتحاربة، على الرغم من أنها جميعا (بطبيعة الحال) تحتج بصوت عال بأنها كانت ضحية للعدوان وأن “حقها في تقرير المصير” قد انتهك.

كتب لينين عن نزاع البلقان: «لم يسبق أبدا ولا في أي مكان أن حصلت شعوب مضطهَدة على “الحرية” عن طريق شن الحرب ضد شعب آخر… لا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية للفلاحين السلاف في البلقان، وكذلك للفلاحين الأتراك إلا من خلال الحرية الكاملة داخل كل بلد…»[80].

هذا هو لينين الحقيقي. هذا هو صوت موقفه الأممي الطبقي الثوري الحازم. كم يتناقض هذا مع الديماغوجيا الشوفينية المشينة لقادة الأحزاب الشيوعية السابقة، مثل زيوغانوف اليوم الذي رمى بلينين في البحر وصار يردد الدعاية السلافية المقرفة التي طالما احتقرها ماركس ولينين.

في الفترة التي تلت الثورة الروسية الأولى، كانت هناك غيوم عاصفة تتجمع فوق أوروبا، التي سرعان ما تلقت درسا في أهمية المسألة القومية. وفي حين كانت الأحداث في روسيا تتجه نحو انقسام نهائي بين قوى الماركسية الثورية والقوى الإصلاحية، فإنه على الصعيد العالمي كان هناك إطلاق العنان لقوى أخرى. كانت التناقضات بين مختلف المجموعات المتنافسة من القوى الإمبريالية -ألمانيا، النمسا، المجر، بريطانيا، فرنسا، روسيا- بدأت تثير شبح الحرب على نطاق أكثر اتساعا وأكثر رعبا مما كان عليه الأمر في الماضي. في المؤتمر الأممي الثاني، الذي انعقد في كوبنهاغن، من 15 إلى 25 غشت 1910، والذي كان الحزب الروسي ممثلا فيه بلينين وبليخانوف، احتل النضال ضد النزعة العسكرية ومسألة الحرب مكانة مركزية في المناقشات. وكان لينين قد أدرج منذ مؤتمر شتوتغارت (غشت 1907) عددا من التعديلات على قرار بخصوص الحرب، حيث أكد على ضرورة الاستفادة من الأزمة الاقتصادية والسياسية، في حالة اندلاع الحرب، لإسقاط الرأسمالية.

وصلت التناقضات الحادة بين القوى العظمى إلى نقطة الانفجار في البلقان في غشت 1914. لكن حتى قبل ذلك كانت خطوط الصدع قد ظهرت واضحة في حروب البلقان. لقد تسببت حروب شعوب البلقان من أجل التحرر من الحكم التركي في تسريع الانحطاط البطيء والمؤلم للإمبراطورية العثمانية. وبعد سلسلة من الحروب تمكنت كل من اليونان وصربيا وبلغاريا من تحقيق حريتها، لكنها تحولت إلى بيادق في يد مختلف القوى الأوروبية (بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا) وأوراق لعب للدبلوماسية الإمبريالية. كانت فرنسا تضغط على روسيا لاتخاذ موقف أكثر صرامة في البلقان ضد النمسا-المجر التي قامت فجأة، في خريف عام 1908، بتوسيع مستعمراتها في البلقان بضم البوسنة والهرسك، الشيء الذي شكل استفزازا واضحا لحكومة سان بيترسبورغ. لكن روسيا القيصرية كانت بدورها تلعب دور المفترس في هذه اللعبة الشرسة من أجل توسيع النفوذ السياسي. إذ استمر هدفها الرئيسي طيلة عقود هو دعم بلغاريا وصربيا ضد تركيا، تحت راية النزعة السلافية المنافقة، من أجل السيطرة ليس فقط على البلقان، بل وعلى تركيا نفسها. استمر الهدف المركزي لسياستها هو الاستيلاء على القسطنطينية، وبالتالي الحصول على منفذ إلى المياه الدافئة وممر نحو البحر الأبيض المتوسط. كان هذا هو الهدف الحقيقي وراء تأسيس “اتحاد الممالك الأربع” ضد تركيا.

كما كشفت الضجة التي تلت ضم النمسا للبوسنة عن الطموحات الإمبريالية للبراليين البرجوازيين الروس، الذين طالبوا بأن تتدخل روسيا في البلقان. أدان زعيم الكاديت اليميني، غوتشكوف، قرار الحكومة بعدم الدخول في الحرب بسبب البوسنة باعتباره خيانة للسلاف. قال إن الحكومة الروسية أبانت عن “الكسل والترهل”، في حين أن الشعب الروسي على استعداد لخوض “الحرب الحتمية مع الأعراق الجرمانية”. وراء هذا العداء كانت تكمن الحسابات السياسية الباردة للبرجوازية الروسية التي كانت تتطلع إلى الأرباح التجارية الكبيرة من وراء الاستيلاء على القسطنطينية والسيطرة على البحر الأسود وطرق التجارة عبر المضائق. ندد ستروفه بالمسألة البوسنية باعتبارها “عارا قوميا”، وأكد أن قدر روسيا هو إيصال حضارتها إلى “كامل حوض البحر الأسود”. وقال رئيس مجلس الدوما، ميخائيل رودزيانكو، للقيصر، في مارس 1913: «يجب أن تصير المضايق ملكا لنا. سيتم الترحيب بالحرب بفرح وستزيد من هيبة الحكومة»[81]. كان هناك أيضا عمل غير منته في البلقان، حيث أن جزءا كبيرا من أراضي البلقان (مقدونيا) استمرت تحت الحكم التركي. في 26 شتنبر 1912 اندلعت حرب البلقان الأولى. حيث اتحدت مونتينيغرو وصربيا وبلغاريا واليونان (اتحاد الممالك الأربع) ضد تركيا. من الناحية الرسمية كانت تلك حرب تحرر وطني لشعوب البلقان ضد الأتراك المضطهِدين، لكن وراء الشعارات التي طالبت بشكل ديماغوجي بالحرية وتقرير المصير، كانت هناك الطموحات التوسعية لمختلف البرجوازيات القومية، والتي كانت تقف وراء كل منها هذه أو تلك من القوى الكبرى، العازمة على شن الحرب بالوكالة ضد منافسيها. كانت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا والنمسا-المجر كلها تراقب الموقف في البلقان بمزيج من الجشع والخوف والقلق.

تعرضت الإمبراطورية العثمانية المتهالكة للهزيمة في حرب البلقان الأولى. وفي النهاية تم التخلص من نير تركيا، لكن سرعان ما استُبدل بنير الملاكين العقاريين والرأسماليين “القوميين” الصرب واليونانيين والبلغاريين. وعلاوة على ذلك بدأ هؤلاء في الصراع فيما بينهم حول غنائم النصر مثلما تتصارع الكلاب المسعورة على قطعة عظم. توصل مؤتمر لندن، في ربيع عام 1913، أخيرا إلى تحقيق “السلام” في البلقان، بعد حرب البلقان الأولى، لكن ذلك لم يضمن عدم اندلاع حرب جديدة أكثر وحشية، حرب سوف تجر إلى أتونها في النهاية ليس بلدان البلقان وحدها، بل العالم بأسره. صادق مؤتمر لندن على حق القوى العظمى في التدخل في البلقان. كان ذلك التدخل واقعا ملموسا على أي حال، إذ وراء كل طغمة حاكمة في أنظمة البلقان “المستقلة” كانت تقف هذه أو تلك من القوى الأوروبية الكبرى. وكانت كل واحدة من هذه القوى متحدة في أحد الحلفين الكبيرين: الحلف الثلاثي الذي تقوده ألمانيا، و“الوفاق” بقيادة بريطانيا. كانت لدى النمسا- المجر وألمانيا أيضا، مثلهما مثل روسيا، طموحات في البلقان والتي يمكن تلخيصها في السؤال التالي: مَن مِن حقه أن يرث الإمبراطورية العثمانية؟ أما الأنظمة الوطنية المختلفة في البلقان فقد كانوا في الحقيقة مجرد عملاء للدول الإمبريالية.

سرعان ما اتضح الدور الرجعي للبرجوازيات القومية في البلقان في نزعتها التوسعية المشؤومة، كما ظهر في سياسة “بلغاريا العظمى”، “صربيا العظمى”، “اليونان العظمى”، والذي لم يكن يعكس سوى جشع الملاكين العقاريين والرأسماليين، الذين كانوا يتآمرون مع القوى العظمى لتدمير كل شعوب البلقان.

اندلعت الحرب الجديدة في 06 يونيو 1913، عندما هاجمت بلغاريا كلا من اليونان وصربيا. ثم انضمت رومانيا التي استشعرت إمكانية تحقيق غنائم سهلة. كما هاجمت تركيا بلغاريا التي عانت من هزيمة فادحة وفقدت الكثير من الأراضي. يدل هذا على مدى فراغ مفهوم الاضطهاد “الاستعماري” عندما ينظر إليه نظرة صورية وغير ديالكتيكية. إن القوميات التي كانت مستعمَرة ومقموعة سابقا يمكنها أن تتحول إلى عكس ذلك. يمكن القول بأن الحرب ضد تركيا كان لها جانب تقدمي إلى حد ما، عندما كانت (نظريا على الأقل) تخاض من أجل تحرير المقدونيين من نير الأتراك، على الرغم من أن مختلف دول البلقان كانت من الناحية العملية تسعى بالفعل إلى التوسع على حساب جيرانها. لكن حرب البلقان الثانية كانت ذات طابع رجعي وإمبريالي واضح، حيث حاربت العصابات الحاكمة اليونانية والبلغارية والصربية والرومانية بعضها البعض لتقسيم الغنائم.

لم تكن هناك ذرة من المحتوى التقدمي في أي من تلك المواجهات. كما لا يمكن رفع مطلب حق تقرير المصير لحل المأزق الدموي الذي أصاب البلقان في ذلك الوقت واستمر منذ ذلك الحين. إن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الدامي في البلقان هو انتصار الثورة بقيادة الطبقة العاملة لبناء فدرالية بلقانية ديمقراطية. كان هذا هو موقف لينين وأيضا موقف كل الاشتراكيين والديمقراطيين في البلقان، ولا سيما أعظمهم: كريستيان راكوفسكي. كانت تلك الحروب “الوطنية”، كما أوضح لينين، أكثر كلفة من حيث الخسائر البشرية مما كانت ستكلفه الثورة. فبدون ثورة بقيادة الطبقة العاملة بتحالف مع الفلاحين الفقراء لم يكن هناك أي حل ممكن في البلقان. لقد شرح تروتسكي البرنامج الحقيقي الذي دافع عنه الماركسيون في ما يخص المسألة البلقانية في مقاله: “المسألة البلقانية والاشتراكية الديمقراطية”، الذي ظهر في البرافدا في 01 غشت 1910، حيث قال: «إن السبيل الوحيد للخروج من الفوضى القومية والارتباك الدموي في البلقان هو اتحاد جميع شعوب شبه الجزيرة في كيان اقتصادي وسياسي واحد، على أساس الحكم الذاتي لجميع المكونات. فقط في إطار دولة بلقانية واحدة سيمكن لصرب مقدونيا والسنجاك وصربيا ومونتينيغرو أن يتحدوا في جماعة ثقافية قومية واحدة، ويتمتعوا في نفس الوقت بمزايا السوق المشتركة البلقانية. وحدهم شعوب البلقان المتحدون من يمكنهم أن يتصدوا فعلا للأطماع الوقحة للنظام القيصري والإمبريالية الأوروبية»[82].

وقد عبر لينين عن نفس الموقف في مقالته: “حرب البلقان والشوفينية البرجوازية”، حيث قال: «كان في مقدور شعوب البلقان أن تنجز هذه المهمة بشكل أكثر سهولة مما هو عليه الحال الآن، وبكمّ أقل من التضحيات من خلال تشكيل جمهورية بلقانية فدرالية. سيصير الاضطهاد القومي والمشاحنات القومية والتحريض على أساس الاختلافات الدينية أشياء مستحيلة في ظل الديمقراطية الكاملة والمتسقة. كان من الممكن أن تضمن شعوب البلقان تنمية سريعة ومكثفة وحرة»[83]. لقد نظر تروتسكي، مثله مثل لينين، إلى المسألة البلقانية ليس على أساس قومي، بل على أساس طبقي، حيث كتب: «إن الضمانة التاريخية لاستقلال البلقان وحرية روسيا توجد في التعاون الثوري بين عمال بيترسبورغ ووارسو وعمال بلغراد وصوفيا»[84].

ما تزال هذه الأفكار صحيحة حتى اليوم، باستثناء أنه يجب استبدال شعار الفدرالية الديمقراطية بشعار الفدرالية الاشتراكية الديمقراطية لشعوب البلقان باعتبارها الحل الوحيد للتغلب على إرث البلقنة الفظيع الذي لم تتمكن لا الرأسمالية ولا الستالينية من القضاء عليه.

اقتراب العاصفة

كانت الأهمية الحقيقية لحروب البلقان هي أنها كشفت بوضوح عن وجود ميول نحو اندلاع حرب عالمية. كانت التوترات بين القوى الإمبريالية الكبرى تتراكم بشكل متواصل لتبلغ النقطة الحرجة حيث يمكن لأي حادث أن يشعل مواجهة شاملة. كان الأمل الوحيد في تجنب الحرب ليس التصريحات السلمية، بل الحركة الثورية للطبقة العاملة. هذا هو الموقف الذي تبناه لينين وروزا لوكسمبورغ في المؤتمرات الأممية التي سبقت مباشرة الحرب العالمية الأولى. كان يبدو نظريا أن قوى الحركة الاشتراكية الأممية أكثر من كافية لوقف الحرب، ففي عام 1914، كانت الأممية الثانية منظمة جماهيرية تضم 41 حزبا في 27 بلدا ويبلغ عدد أعضائها حوالي 12 مليون عامل. وكانت القرارات التي اتخذتها الأغلبية الساحقة في مؤتمري شتوتغارت وبال قد تعهدت بمعارضة الحرب بكل الوسائل المتاحة.

لم يكن موقف لينين من الحرب قائما على “النزعة الحربية” ولا على النزعة السلمية العاطفية، بل كان موقفه ثوريا بشكل كامل. من بين أسوء الافتراءات التي وجهت ضد لينين أنه كان “محبا للحرب”. ويرتبط هذا الزعم مرارا بتفسير خاطئ لفكرته عن “الانهزامية الثورية” التي أساء فهمها الجميع تقريبا. وعندما سأل صحفي بولندي (ماجكوسين) لينين قبيل الحرب العالمية الأولى، عما إذا كانت الحرب ستعجل بالثورة وهل هو يريد الحرب، قال: «كلا، لا أريد ذلك… إني أفعل كل ما بوسعي، وسأواصل القيام بذلك حتى النهاية، لعرقلة التعبئة للحرب. لا أريد أن يضطر ملايين البروليتاريين إلى ذبح بعضهم البعض مدفوعين بعصا الرأسمالية. لا يمكن أن يكون هناك أي سوء فهم بخصوص هذه النقطة: إن التنبؤ بموضوعية باحتمال اندلاع الحرب، والسعي للاستفادة منها بأكبر ما يمكننا في حالة وقوع مثل ذلك الحدث المؤسف، شيء؛ أما الرغبة في الحرب والعمل من أجل اندلاعها، فذلك شيء مختلف تماما»[85].

في نوفمبر 1912، عُقد مؤتمر بال الأممي الاستثنائي. وقد أظهر العدد الهائل للمندوبين قوة المنظمات العمالية العالمية، حيث حضر ما مجموعه 555 مندوبا يمثلون 23 بلدا لمناقشة القضية الكبرى على جدول الأعمال آنذاك. كان الاتجاه السائد في المؤتمر آنذاك هو النزعة السلمية. وقد قرأ الاشتراكي الفرنسي الكبير جان جوريس قرارا مناهضا للحرب يقول فيه: “إن البروليتاريا تطالب بالسلام بأشد العبارات حيوية”. لكن مثل هذه الإعلانات العامة “من أجل السلام” لا تساوي حتى قيمة الورق الذي تكتب عليه في حالة اندلاع الحرب. هناك حاجة إلى شيء آخر من أجل تحويل مثل تلك المشاعر العامة إلى برنامج للنضال ضد الحرب. ولذلك قام لينين، خلال مؤتمر شتوتغارت، في عام 1907، باقتراح تعديل ينص على أنه في حالة اندلاع الحرب، على الطبقة العاملة أن تستغل الوضع لإسقاط الرأسمالية. تلك في الواقع هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها إيقاف الحرب. من المثير للدهشة أن التعديل الذي اقترحه لينين تمت الموافقة عليه بالإجماع. لكن، وكما اتضح فيما بعد، لم تكن لدى قادة الأممية الاشتراكية الديمقراطية أدنى نية على الإطلاق في تنفيذ مثل تلك القرارات.

كانت هذه هي القاعدة العامة في جميع أحزاب الأممية الثانية تقريبا. كان البرنامج الثوري يحفظ بأمان في الرفوف، مسطرا في دستور الحزب، ليتم إخراجه ونفض الغبار عنه وقراءته في اجتماعات فاتح ماي، لكي يعاد مرة أخرى إلى الرفوف لبقية العام. كانت هناك هوة لا يمكن ردمها بين النظرية والممارسة عند الحركة الاشتراكية الديمقراطية. لقد آمنت الجماهير بالأهداف الاشتراكية للحزب، لكن معظم القادة كانوا قد غرقوا في عالم السياسة البرلمانية الخانق، والتي كانت في أحسن الأحوال بدون جدوى، بل كانت عبئا هائلا. وقد لخص أب التحريفية، إدوارد برنشتاين، نظرتهم بشكل جيد في عبارته المجنحة حين قال: “الحركة كل شيء، الهدف النهائي لا شيء”.

لكن في حين كان قادة الأممية الثانية ينومون العمال بمنظورات التغيير السلمي والتدريجي والإصلاحات، كان النظام الرأسمالي يستعد لكي يوقظ جميع طبقات المجتمع بشكل قاس. لم تحل حروب البلقان أي شيء، لكنها رفعت درجة حرارة العلاقات الدولية إلى مستويات عالية. تم تقسيم مقدونيا بين اليونان وصربيا، واستولت رومانيا على جزء من الأراضي البلغارية (جنوب دوبرودجا)، وفي غرب البلقان ظهرت ألبانيا مستقلة جديدة. لكن صربيا، وعلى الرغم من انتصارها، منعت من الوصول الآمن إلى البحر الأدرياتيكي، وهو الهدف الذي كانت تدعمه روسيا. كما أن بلغاريا التي كانت قد تعرضت للهزيمة والإهانة في حرب البلقان الثانية، كانت تنتظر الفرصة لأخذ ثأرها وانضمت إلى معسكر ألمانيا والنمسا. أما تركيا، القوة المهزومة الأخرى، فقد صارت، بسبب الخوف من روسيا، أقرب إلى ألمانيا التي أبرمت معها تحالفا في غشت 1914. ومن ناحية أخرى صارت صربيا ومونتي نيغرو أكثر قربا من روسيا للدفاع عن نفسيهما ضد النمسا- المجر، في هذا السياق قال وزير الخارجية الروسي، سازونوف: “مهمتنا الأساسية هي ضمان التحرر السياسي والاقتصادي لصربيا”[86]. لقد كان العالم ينزلق بشكل جارف نحو الحرب.

في روسيا شنت الصحافة الشرعية البلشفية تحريضا حازما ضد الحرب، مركزة على فضح أهداف النظام القيصري الحقيقية من وراء الحرب في البلقان. كانت شعارات لينين هي: “لا للتدخل الأجنبي في حرب البلقان… نعم للحرب ضد الحرب! لا لأي تدخل! نعم للسلام: هذه هي شعارات العمال”. وعلى عكس الانفعالات العاطفية لدعاة السلام، كان لينين دائما ينظر إلى مسألة الحرب من وجهة نظر طبقية، ويكشف المصالح التي تكمن وراء الشعارات الوطنية. كانت مقالات لينين تندد باستمرار بالرأسماليين ومصنعي الأسلحة، وتكشف عن الأهداف الحقيقية لسعي النظام القيصري الروسي إلى الحرب، وتظهر أساسها المادي ومحتواها الطبقي. لطالما كان يطرح السؤال بلغة المحاماة: “cui prodest?”، أي من يستفيد من السباق نحو التسلح؟ لم يكن هناك أي مجال لدعم أي طرف في نزاع البلقان. لم تكن الحرب لتخدم مصالح شعوب البلقان. وكانت الفكرة القائلة بأن حق تقرير المصير لهذه أو تلك من دويلات البلقان يبرر انخراط أوروبا كلها في الحرب، فكرة إجرامية. في وقت لاحق، في عام 1915، أوضح لينين أنه إذا كانت الحرب مسألة نزاع عسكري بين صربيا والنمسا وحدهما، لكان من الضروري دعم صربيا، من وجهة نظر حقوق الشعوب في تقرير مصيرها. ومع ذلك فإن هذا الحق لم يكن يعتبر من وجهة نظر لينين حقا مطلقا وفي جميع الأوقات والظروف. لا يمكن بأي حال من الأحوال لكفاح الصرب، أو أي شعب آخر، من أجل تقرير المصير أن يبرر إغراق العالم كله في الحرب. في هذه الحالة، كما هو الحال دائما، يتم إخضاع حق تقرير المصير لمصالح الطبقة العاملة والثورة العالمية.

نمو تأثير البلاشفة

لقد قام النواب البلاشفة في مجلس الدوما بواجبهم بخصوص مسألة حرب البلقان، ففي 12 يونيو 1913، أعلن باداييف في مجلس الدوما رفض البلاشفة التصويت لميزانية الحرب، ورفع شعار التحدي: “ولا كوبيك واحد لميزانية الأسلحة”. كما تم تنظيم التحريض الجماهيري ضد الحرب، مع إصدار قرارات في اجتماعات المصانع تشجب حرب البلقان والتهديد المتصاعد باندلاع حرب عالمية. وفي الوقت نفسه كانت هناك مظاهرات مناهضة للحرب في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ومع بداية عام 1914 المشؤوم، اندلعت إضرابات كبيرة ومظاهرات تخليدا لذكرى يوم الأحد الدامي يوم 09 يناير. ففي سان بيترسبورغ وريغا وموسكو ونيكولاييف ووارسو وتفير وكييف وخيسو ودرينسك، وغيرها من المراكز العمالية، شارك 260.000 شخص في المظاهرات، وكانت تلك مجرد البداية فقط. في الفترة ما بين 17 و20 مارس في سان بيترسبورغ انخرط في الإضراب 156.000 عامل، وفي ريغا 60.000 وفي موسكو 10.000. لقد كان الجو متأججا. كانت روسيا تتجه بسرعة نحو وضع ثوري جديد. في 22 أبريل تم استبعاد النواب البلاشفة والمناشفة والترودوفيك من الدوما بتهمة “عرقلة” عمل المجلس. وشارك أكثر من 100 ألف عامل في الإضرابات السياسية الاحتجاجية في موسكو وسان بيترسبورغ.

توالت موجات الإضرابات الواحدة تلو أخرى. في 01 ماي أضرب أكثر من نصف مليون عامل عن العمل وخرجوا للتظاهر: في سان بيترسبورغ كان هناك 250.000 وفي ريغا 44.000 وفي موسكو 32.000 وفي القوقاز حوالي 20.000. لقد تجاوزت تلك الحركة، في حجمها وامتداداها، حتى ثورة عام 1905. وفي مقاله “فاتح ماي الثورة”، أشار لينين إلى أن هناك شرطين أساسيين للوضع ما قبل الثوري: أن تصير الجماهير غير قادرة على العيش كما من قبل، وأن تصير الطبقة الحاكمة غير قادرة على أن تحكم كما من قبل. كان هذا بوضوح هو الحال في روسيا، فعشية الحرب العالمية كانت روسيا تتجه بسرعة نحو ثورة جديدة. كانت الحركة العمالية في حالة من الغليان المستمر. وقد أوضح باداييف نمو نفوذ الحزب، من خلال حديثه عن هيكل منظمة سان بيترسبورغ وعمل لجنتها:

«جميع الأنشطة في منطقة سان بيترسبورغ الآن تحت رقابة اللجنة التي تعمل منذ خريف العام الماضي. تمتلك اللجنة اتصالات في جميع الورشات والمصانع ويتم إبلاغها بجميع التطورات هناك. وفيما يلي شكل تنظيم منظمة المنطقة: في المصنع، يشكل أعضاء الحزب نواة في ورشات العمل المختلفة، ويشكل مندوبو الأنوية لجنة مصنع (في المصانع الصغيرة يشكل الأعضاء أنفسهم اللجنة). تقوم كل لجنة مصنع، أو نواة ورشة عمل في المصانع الكبيرة، بتعيين مسؤول عن جمع الانخراطات، يقوم عند يوم قبض الراتب بجمع المستحقات وغيرها من مساهمات الصناديق واشتراكات الصحف، وما إلى ذلك. كما يتم تعيين مراقب لزيارة المؤسسات التي تم جمع الأموال فيها، للتأكد من أن المبالغ صحيحة ويقوم بجمع المال المحصل عليه. من خلال هذا النظام يتم تجنب حدوث التجاوزات في التعامل مع المال.

تنتخب كل لجنة محلية بالاقتراع السري لجنة تنفيذية مؤلفة من ثلاثة أعضاء، مع الحرص على ألا يكون جميع أعضاء اللجنة على علم بمن هم أعضاء اللجنة التنفيذية بالفعل.

ترسل اللجان التنفيذية للمنطقة مندوبين عنها إلى لجنة سان بيترسبورغ، وتحاول مرة أخرى التأكد من ألا تكون أسماؤهم معروفة من طرف كل أعضاء لجنة المنطقة. كما تنتخب لجنة سان بيترسبورغ لجنة تنفيذية من ثلاثة أعضاء. وفي بعض الأحيان، ولأسباب تتعلق بالسرية، يكون من غير الصحيح انتخاب المندوبين من طرف لجنة المنطقة بل يتم اختيارهم وفقا لتقدير لجنة سان بيترسبورغ.

بفضل هذا النظام كان من الصعب على الشرطة السرية أن تعرف من هم أعضاء لجنة سان بيترسبورغ، الشيء الذي مكنها بالتالي من مواصلة عملها وتوجيه أنشطة المنظمات والإعلان عن الإضرابات السياسية، إلخ.

تحظى اللجنة باحترام كبير من جانب العمال الذين ينتظرون توجيهاتها في جميع المسائل الهامة ويتبعون تعليماتها. وكانوا يولون اهتماما خاصا للنشرات التي تصدرها من وقت لآخر.

قررت المنظمات النقابية في سان بيترسبورغ عدم الدعوة إلى الإضرابات السياسية بمبادرة خاصة منها، بل أن تعمل فقط بناء على تعليمات لجنة سان بيترسبورغ. وقد كانت تلك اللجنة هي التي أصدرت الدعوة إلى الإضرابات في 09 يناير و04 أبريل و01 ماي. استاء العمال بشدة من القمع الذي تعرضت له جريدة برافدا وأرادوا خوض إضراب، لكن اللجنة قررت أنه من الضروري أولا الإعداد له بشكل صحيح وإصدار نشرة توضيحية يجب أن تصل إلى الجماهير. في غضون بضعة أيام ظهرت جريدة أخرى، ولأنها كانت تتبع نفس السياسة، اطمأن العمال إلى حد ما. وعلى الرغم من عدم إصدار أي دعوة لخوض الإضراب فقد ترك حوالي 30.000 عامل عملهم.

تكتسي المنشورات أهمية كبيرة، وقد كرست اللجنة الكثير من الجهد لإتقان آلاتها لطباعتها وتوزيعها. كانت اللجنة تتكون بالكامل من العمال، وكنا نكتب المنشورات بأنفسنا ونجد صعوبة في العثور على مثقفين للمساعدة في تصحيحها.

لقد أدت الإضرابات السياسية في سان بيترسبورغ إلى تقوية المنظمة. يمكن التأكيد على أن منظمة سان بيترسبورغ قد أعيد إحياؤها وتقويتها وصارت تتطور، بفضل حركة الإضرابات السياسية. ويظهر صراخ التصفويين حول “حمى الإضرابات” أنهم منفصلون تماما عن المنظمات العمالية وعن حياة الجماهير؛ لقد فشلوا كليا في فهم ما يجري الآن بين العمال. من موقعي في وسط الحركة العمالية في سان بيترسبورغ، ألاحظ في كل مكان أن قوة العمال آخذة في التزايد، كما ألاحظ كيف تظهر نفسها وكيف ستتغلب على كل العراقيل.

قام العمال بقراءة قرارات كونفرانس كاراكوف ودراستها في المصانع وصارت الموجه لكل عمل منظمتنا. تم إثبات صحتها بشكل كامل في الممارسة؛ وبما أني شاركت بنشاط في العمل شعرت طوال الوقت أن الخط السياسي كان صحيحا. نادرا ما كنت أقابل تصفويا أو أستمع لواحد منهم؛ لكن ما فاجأني في البداية، هو أني علمت في اجتماع لعمال المعادن أنهم صاروا غير موجودين تقريبا في سان بيترسبورغ»[87].

كان تأثير البلاشفة ينتشر باستمرار إلى فئات جديدة من الطبقة العاملة: إلى الشباب والنساء. وكانت برافدا هي السلاح الرئيسي لهذا العمل. نمت مبيعاتها إلى 40.000 نسخة في اليوم، في حين كانت صحيفة المناشفة “لوش” (الشعاع) تبيع 16.000 نسخة على أقصى تقدير. كان البلاشفة دائما يأخذون مسألة العمل الثوري بين النساء العاملات على محمل الجد. وكان لينين على وجه الخصوص، يعلق أهمية كبيرة على هذه المسألة، وخاصة في فترة النهوض الثوري ما بين 1912 و1914، وخلال الحرب العالمية الأولى. كان ذلك هو الوقت الذي بدأ فيه الاحتفال باليوم العالمي للنساء، 23 فبراير (08 مارس)، بتنظيم مظاهرات عمالية جماهيرية. ليس من قبيل الصدفة أن تكون ثورة فبراير (مارس حسب التقويم الجديد) قد اندلعت على خلفية اضطرابات حدثت في اليوم العالمي للنساء، عندما تظاهرن ضد الحرب وارتفاع تكاليف المعيشة.

بدأ الاشتراكيون الديمقراطيون العمل بثبات بين النساء العاملات خلال نهوض 1912- 1914. نظم البلاشفة أول اجتماع لتخليد اليوم الأممي للمرأة في روسيا عام 1913. وفي العام نفسه، بدأت برافدا تنشر بانتظام صفحة مخصصة للقضايا التي تواجه النساء. كما أصدر البلاشفة صحيفة نسائية، رابوتنيستا (العاملة)، في عام 1914، والتي تزامن عددها الأول مع اليوم العالمي للمرأة، كما نظم الحزب مظاهرات أيضا. تعرضت الصحيفة للمنع في يوليوز مع بقية الصحافة العمالية. كانت الجريدة البلشفية مدعومة ماليا من قبل العاملات واللائي كن يوزعنها في أماكن العمل. كانت تنشر تقارير عن ظروف عيش وعمل العاملات في روسيا والخارج ونضالاتهن، وحثت النساء على الانضمام إلى النضال مع زملائهن الرجال، كما حثتهن على رفض الحركة النسوانية التي أسستها النساء البرجوازيات بعد ثورة 1905.

كانت المسألة الرئيسية المطروحة هي النضال من أجل قيادة النقابات التي كانت تقليديا تحت سيطرة المناشفة. قبل الحرب العالمية الأولى، كانت النقابات في معظم البلدان تمثل أقلية من الطبقة العاملة، وكانت تحت هيمنة العمال المؤهلين الذين كانوا يتمتعون بأجور أعلى وظروف عمل وعيش أفضل من بقية العمال. هذه الفئة، التي وصفها ماركس بـ “الأرستقراطية العمالية”، كانت في كثير من الأحيان تحت تأثير الليبراليين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن النقابات العمالية، ولا سيما الفئة القيادية فيها، كانت تميل عضويا نحو النزعة المحافظة والانتهازية. لم تكن روسيا استثناء للقاعدة مما يفسر لماذا كان المناشفة أقوى تقليديا من البلاشفة في هذا الوسط.

كانت نقابات عمال سان بيترسبورغ، من بين النقابات الأكثر قوة والأفضل تنظيماً، كانت تضم أكثر من 30.000 عضو في عام 1914، بينما في روسيا بأكملها لم يكن هناك أكثر من 100.000 عامل نقابي، وهي نسبة صغيرة من مجموع القوى العاملة. ومع ذلك فإن النقابات بصفتها الهياكل القاعدية للطبقة العاملة، كانت ذات أهمية أساسية لأي تيار يتطلع إلى قيادة الجماهير. على الرغم من كل الصعوبات، قام البلاشفة بعمل ثوري صبور من أجل كسب الأغلبية حتى في أكثر النقابات بيروقراطية ورجعية. وفي نهاية المطاف تكلل هذا العمل المضني والصبور بالنجاح.

بحلول 1913-1914، كان البلاشفة في وضع يسمح لهم بتنظيم تدخل في جميع المؤتمرات النقابية والقيام بتحد ناجح للجناح اليميني. تمكنوا في صيف عام 1914، من كسب الأغلبية في نقابات موسكو وسان بيترسبورغ. ومن بين 19 نقابة عمالية في سان بيترسبورغ، دعمت 16 نقابة البلاشفة، في حين أن ثلاثة فقط (نقابات الرسامين والموظفين والصيادلة) دعمت المناشفة. أما في موسكو فقد كانت جميع النقابات العمالية الثلاث عشر تدعم البلاشفة. وبالنظر للتأثير التقليدي للمناشفة داخل النقابات، كان هذا التقدم مذهلاً بشكل خاص، وشكل مؤشرا عن تغيير كامل في مزاج الطبقة العاملة.

بفعل تنامي الحركة الجماهيرية الثورية صار الجناح اليميني يفقد قاعدة دعمه التقليدية بين فئات العمال المؤهلين داخل الطبقة العاملة والنقابات. وتعطي تصريحات قادة المناشفة في تلك الفترة اعترافا صريحا بعزلتهم المتنامية عن الطبقة العاملة. اشتكى أ. لـ. شخنكيلي، عضو مجلس الدوما عن منطقة كارس وباتوم، في اجتماع لفريق المناشفة في مجلس الدوما، يناير 1914، من: “أننا فقدنا كل علاقاتنا مع الطبقة العاملة”. وتلقى هذا التقييم تأكيدا رسميا في اجتماع اللجنة المركزية في فبراير والذي اعترف بأن “فريق الدوما يقف على مسافة بعيدة من الجماهير الشعبية”. ليس من الصعب العثور على سبب خسارة المناشفة للدعم الجماهيري، فقد كانت كل سياستهم تقوم على توثيق علاقاتهم مع البورجوازية الليبرالية، حيث كانوا يبحثون عن الحلول في الأعلى وليس في الأسفل. وبالتالي فقد أدى اندفاع الحركة الجماهيرية على شكل موجة إضرابات عاصفة إلى مفاجأتهم، بل إنهم اعتبروها في الواقع مصدر إزعاج، إذ كانوا يخافون أي شيء قد يؤدي إلى إخافة أصدقائهم الكاديت. كان موقف عدم الثقة في الحركة الجماهيرية هذا مرتبطا بشكل وثيق بمجمل مفهومهم عن الثورة الروسية باعتبارها مهمة برجوازية. كان من المفترض أن تتصرف الجماهير بـ“مسؤولية”، وأن تقبل بدور العازف الثاني وراء البرجوازية وألا “تذهب بعيدا”.

كتب روبرت ماكين: «بقي المناشفة أيضا متناقضين للغاية في موقفهم من الإضرابات. وقد جاءت تحفظاتهم جزئيا من تفسيرهم للشكل الذي يجب أن تتخذه الثورة البرجوازية في الظروف الروسية وكذلك لموقفهم من طبيعة الأزمة المعاصرة… [لكن] أكبر مخاوف المثقفين المناشفة هو أن تؤدي الاضطرابات العمالية، التي يبدو أنها لا تتوقف ولا يمكن السيطرة عليها، إلى إخافة “الحلفاء البرجوازيين” المحتملين».

وفي مقال نشر في ناشا زاريا، حذر دان من أنه: “في النضال السياسي ليس دائما الإضراب هو الوسيلة الوحيدة المناسبة”[88]. بالطبع فبالنسبة للقادة العماليين الإصلاحيين لا يكون الإضراب، أو أي مبادرة جماهيرية أخرى تأتي من الأسفل، أبدا “سلوكا مناسبا”. لكن الجماهير ترى الأمور بشكل مختلف، وسرعان ما تتعلم كيف تميز بين القادة والمنظمات الذين يدعمونهم في النضال وبين أولئك الذين يلعبون دور خراطيم إطفاء الحرائق لصالح البرجوازية.

لم يبد البلاشفة أي تحفظ من ذلك القبيل، وبالتالي سرعان ما وسعوا نفوذهم داخل النقابات، وخاصة النقابات الصناعية الرئيسية، مثل نقابة عمال التعدين. بل حتى النقابات التي كانت تقليديا تحت هيمنة المناشفة، مثل نقابة عمال المطابع، ابتعدت بدورها عن التصفويين، الذين تزايدت عزلتهم وتقلصت شعبيتهم بشكل مستمر. في صيف عام 1913 تعرضوا للهزيمة في انتخاب نقابة عمال المطابع بموسكو، وحدث نفس الشيء في منطقة بحر البلطيق خلال الخريف. وفي أبريل 1914، فاز البلاشفة بنصف المقاعد في الأجهزة القيادية لنقابة عمال المطابع في بيترسبورغ. كان هذه التقدم النشيط والناجح داخل النقابات تمرينا لما سيحدث لاحقا في عام 1917. إن المزج الماهر بين العمل داخل منظمات الحزب السرية وبين اختراق جميع أنواع منظمات العمال الشرعية: النقابات والتعاونيات وجمعيات التأمين (kassy)، والصحافة الشرعية والدوما، قد أبان في الواقع العملي عن أنه الطريق الصحيح الوحيد.

الأرقام الخاصة بالنقابات -التي لم تكن تضم سوى أقلية صغيرة من العمال وإن كانت مهمة- لا تمنحنا بأي حال من الأحوال صورة كاملة عن قوة الحزب في ذلك الوقت. في معظم المدن فاز البلاشفة بنفوذ كبير تقريبا في جميع الأندية والجمعيات العمالية، والتي صار لها، تحت تأثير الحزب، طابع سياسي. وفي العديد من المناطق (خاصة الأقاليم) أصبحت هذه النوادي مراكز للنشاط الثوري. ينطبق الشيء نفسه على الجمعيات التعاونية في أوكرانيا وغيرها، وجمعيات التأمين العمالية (kassy). تمكن البلاشفة من خلال المشاركة في مثل هذا العمل، والاهتمام بالمشاكل اليومية للعمال وعائلاتهم، من إقامة صلات مع فئات أخرى أيضا: كالحرفيين وأصحاب الدكاكين والمحاسبين وعمال السكك الحديدية والموظفين الحكوميين وأصحاب الورشات وغيرها من الفئات غير البروليتارية الأخرى. ففي سان بيترسبورغ وموسكو وريغا وباكو وغيرها، قام البلاشفة بالعمل الشرعي حتى في النوادي الرياضية والفرق الموسيقية والمسرحية. هذا العمل البطيء والصبور في تلك الأوساط التي تبدو غير مواتية أثمر عن نتائج رائعة في النهاية. فبعد كل شيء لا يكون العمل الثوري الحقيقي براقا على الإطلاق، بل إنه يتكون في تسعة أعشاره من مثل هذه المهمات المملة والصعبة لغرس الجذور بين صفوف الجماهير أينما كانت.

ومن أجل بناء روابط مع الفلاحين وبروليتاريي الأرياف -وهي المهمة التي تكتسي حيوية كبيرة للحزب الجماهيري في روسيا- أطلق البلاشفة شعار: “احملوا الكلمة الثورية إلى القرية”. نشرت برافدا الرسائل التي كانت تصلها من الفلاحين إلى جانب الرسائل التي كانت تصلها من العمال. كما أن البلاشفة لم يهملوا العمل بين الطلاب والمثقفين. كانت مجموعة التعليم العالي في بيترسبورغ (التي كانت تشمل جميع الفصائل الاشتراكية الديموقراطية) تحت قيادة البلاشفة وتضم حوالي 100 عضو، وكانت ما تزال ضعيفة نسبيا مما يعكس تراجع التأثير الثوري بين صفوف المثقفين خلال الفترة السابقة، لكنه كان قد بدأ يتوسع مرة أخرى. وهكذا فإن الحزب البلشفي، المشكل حديثا، طبق في الممارسة الشعار القديم للنارودنيين: “اذهبوا نحو الشعب!”، لكنه فعل ذلك من مستوى أعلى، مسلحا ببرنامج علمي وسياسة ثورية بروليتارية. يمكن تلخيص مجمل هذه السياسة بكل بساطة بالقول: يجب على البروليتاريا أن تكافح من أجل وضع نفسها في قيادة كل فئات المجتمع المضطهَدة، ويجب على الحزب أن يكافح من أجل الفوز بقيادة البروليتاريا.

البلاشفة عشية الحرب

مع شعورهم باقتراب الزلزال تحت أقدامهم بدأ الليبراليون البرجوازيون في الابتعاد عن الحكومة والمطالبة بالإصلاحات. كانوا هم أنفسهم خائفين ويحاولون تخويف النظام من أجل منح تنازلات. كان شعارهم هو: “الإصلاح قبل فوات الأوان!”. كانوا قد تأثروا بالنزاع المتنامي داخل صفوف النظام نفسه بين “الإصلاحيين” و“الرجعيين”، والذي سار بالتوازي مع الصراع بين الكاديت والأوتوقراطية. حتى أن عام 1913 شهد “إضرابا للوزراء”. وكما هو الحال دائما فإن الانشقاقات التي تحدث في القمة هي الإنذار الأول بالأزمة الثورية الوشيكة. وقد عبر وزير الداخلية، ماكلاكوف، عن قلقه في رسالة إلى القيصر، حيث قال: “المزاج السائد بين عمال المصانع لا يبشر بخير”، ودعا إلى اتخاذ إجراءات صارمة. وبالطبع لقي اقتراحه ذاك القبول من جانب القيصر، لكن رئيس الوزراء، كوكوفتسوف، رفضه -الشيء الذي كان مؤشرا آخر على التذبذبات والانشقاقات في القمة-. كانت الحكومة قد فقدت أعصابها واحتد الصراع داخلها حول ما إذا كان يتوجب استخدام القبضة الحديدية أو القفاز المخملي في التعامل مع المشكلة.

كانت الحكومة في ذلك الحين تحت سيطرة العناصر الأكثر رجعية. فمع اقتراب الحرب، صار كل شيء أكثر وضوحا وأكثر حدة وزالت جميع عناصر الارتباك والغموض. تعرض جميع الليبراليين “الوسطيين” والتوفيقيين وكل الوجوه والتنظيمات العرضية للسحق وطردوا بلا رحمة من الساحة. وفي الأخير لم يتبق هناك سوى اتجاهان فقط يقدمان للمجتمع بديلا واضحا ومستديما: الثورة أو الثورة المضادة. حاول الليبراليون في لجة يأسهم أن يستندوا على الطبقة العاملة، ولهذه الغاية عملوا على عقد صفقة: ففي مارس 1914 أسس الكاديت ما أطلقوا عليه اسم “لجنة المعارضة”، التي ضمت حتى أحد البلاشفة (إ. إ. سكفورتسوف- ستيبانوف). وعلى الرغم من التذبذب المعروف عن الليبراليين فقد وضع دان والمناشفة كل آمالهم على هذه الخطوة.

عندما علم لينين بهذا التطور اعتبر أن أهميته تأتي من كونه دليلا على التطورات التي تحدث تحت السطح. نصح لينين سكفورتسوف- ستيبانوف بالمضي قدما للحصول على معلومات دقيقة عن المدى الذي يمكن لليبراليين الوصول إليه في الممارسة، أي إلى أي مدى كانت صناديق المال جاهزة للتبرع للمساعدة في تطوير عمل الصحافة غير الشرعية وما إلى ذلك. وكما كان متوقعا جاء الرد غير واضح! لم يكن لدى الكاديت (ولا حلفاؤهم الأوكتوبريون) نية جادة في تحدي النظام أو مساعدة الثورة. كانت نداءاتهم إلى بيروقراطية الدولة “لإصلاح نفسها” تهدف إلى الحفاظ على النظام وليس إسقاطه. لكن المناشفة ارتكبوا خطأ الخلط بين الثورة وبين الثورة المضادة بقناع ديمقراطي. لأنه في مواجهة الطبقة العاملة التحم الليبراليون والرجعيون بشكل حتمي في كتلة رجعية واحدة. كان الفرق الحقيقي الموجود بين الليبراليين وبين الحكومة هو اختلافهم في تحديد أفضل طريقة لهزيمة الطبقة العاملة. ومع ذلك فقد كان من الضروري، كما قال لينين، استخدام هذه الانقسامات بطريقة ماهرة، لكن ليس نشر الأوهام حولها كما فعل المناشفة.

كان الوضع ناضجا للثورة من الناحية الموضوعية، لكن العامل الحاسم هو العامل الذاتي -أي قدرة الطبقة العاملة وقيادتها على الاستفادة من الوضع للإطاحة بالنظام الاستبدادي والاستيلاء على السلطة. كان الحزب آنذاك قد أصبح أقوى من أي وقت مضى، بعد انفصاله عن الانتهازيين. لكن الحرب تدخلت لتقطع السيرورة برمتها. بحلول ربيع عام 1914، كانت البرافدا تبيع يوميا حوالي 40.000 نسخة، إلا أن توزيعها في المصانع وقراءتها تجاوزت ذلك الرقم بكثير. في أبريل 1914 بلغ عدد المشتركين في البرافدا 8.858 مشتركا في 740 منطقة في روسيا؛ وبحلول يونيو ارتفع الرقم إلى 11.534 في 944 منطقة. تظهر هذه الزيادة الكبيرة الانتشار السريع للأفكار البلشفية وتغلغلها المتزايد بين صفوف الجماهير. ولم يبدأ التصفويون في إطلاق النداء المخادع إلى “الوحدة” إلا عندما كان البلاشفة قد تمكنوا بالفعل، في الواقع، من كسب أغلبية العمال إلى صفهم. في ربيع عام 1914 -الذكرى الثانية لإصدار البرافدا (22 أبريل)- كانت هناك حملة لجمع الأموال (“يوم الصحافة”)، شاركت فيها كل المجموعات الحزبية والخلايا النقابية ومجموعات المصانع والجمعيات الثقافية وغيرها. وقد حصلت الحملة على الترحيب والتبرعات من طرف 1107 مجموعة عمالية. بالإضافة إلى برافدا، كانت هناك أيضا مجلة نظرية، اسمها بروسفيشيني (التنوير)، فضلا عن مجموعة من الصحف الإقليمية والمحلية.

لكن لينين كان قلقا على الرغم من هذا التقدم الملحوظ، عشية النهوض الثوري الجديد. إذ مع اعترافه بالعمل الرائع الذي يتحقق على الأرض، فقد رأى أن اللجنة المركزية تميل إلى التأخر عن الأحداث: «بينما تم إنجاز قدر هائل من العمل الحزبي في مجال التحريض والدعاية على مدى السنتين أو الثلاث سنوات الماضية من النهوض، فإنه لم يتم إنجاز سوى القليل جدا من العمل حتى الآن في مجال تقوية التنظيم»[89].

انتقاد لينين لم يتوجه إلى اللجنة المركزية وحدها، بل توجه أيضا إلى هيئة تحرير البرافدا. لقد رأى الحاجة إلى ضخ دماء جديدة وتجديد الهيئات القيادية بفئات جديدة من العمال. كان ذلك ينطوي، إلى حد ما، على مقامرة، لكن أي شيء كان أفضل من الركود والاعتماد المفرط على “الأمجاد القديمة”، خاصة وأن بعض القادة القدماء كانوا قد سقطوا في الروتين والنزعة المحافظة. كان من الضروري تحقيق التوازن. كان لينين، بصبره المعتاد ولباقته وإخلاصه تجاه الرفاق القدامى، مستعدا دائما للحفاظ عليهم، لكنه كان يبحث دائما أيضا عن مواهب جديدة، وهي الصفة الأكثر أهمية في فن القيادة. لقد طالب لينين بإصرار بإدماج عمال جدد في الهيئات القيادية. آنذاك كان الإعداد جاريا لعقد مؤتمر جديد للحزب. ومرة أخرى عارضه التصفويون، واصفين إياه بأنه “اجتماع خاص لزمرة لينين”. لكن احتجاجاتهم لم تعد لها أي أهمية.

كان التصفويون يائسين بشدة، وصاروا يعلنون عن جميع أنواع الخطط، من قبيل إنشاء لجنة فدرالية تدعو إلى مؤتمر مشترك وما شابه، لكن كل مقترحاتهم قوبلت بالرفض. كان البلاشفة قد أصبحت لهم اليد العليا آنذاك. هم من كانوا يمتلكون القوات على الأرض، بينما لم يكن التصفويون يمتلكون أية قوى. كان من الواضح للغاية أن النزعة التوفيقية لم يعد لها أي أساس. أعلن البلاشفة آنذاك عن رفضهم لمقترحات الوحدة، لكنهم أوضحوا أنه ستتم دعوة أي مجموعة عمالية حسنة النية تعمل داخل روسيا لإرسال مندوبيها إلى المؤتمر، بغض النظر عن التيار الذي تنتمي إليه. كانت مسألة “الوحدة” قد تمت تسويتها في الممارسة. “كتلة غشت”، التي كانت تمزقها التناقضات الداخلية منذ بدايتها، انشقت في نهاية عام 1914. انفصل عنها الاشتراكيون الديموقراطيون اللاتيفيون، الذين كانوا يشكلون المنظمة الجماهيرية الوحيدة داخل الكتلة، فتحولت الكتلة كلها إلى شظايا. كان تروتسكي قد استقال بالفعل من جرائد التصفويين، وفي فبراير 1914 حاول إنشاء جريدة “غير حزبية” جديدة، هي بوربا. لكن الوقت لمثل هذه المحاولات كان قد مضى. وبروحه الفكاهية المعتادة علق لينين على ذلك قائلا: “إن التوحيديين عاجزون حتى عن توحيد صفوفهم”. وبسبب يأسهم تحول المناشفة إلى الأممية الثانية لطلب المساعدة. لكن بعد سلوك الأممية الثانية في النزاع السابق، كان لينين قد صار حذرا. اعتبر أن هذه المحاولة للبحث عن وسيط نزيه مجرد مسرحية، لكن وبسبب النفوذ الذي كانت الأممية تمتلكه فقد كان رفض عرض الوساطة سيكون غير مفهوم. قرر البلاشفة، رغم كل شيء، المشاركة في “الاجتماع التوحيدي” الذي دعا إليه المكتب الأممي، من أجل “فضح زيف كتلة غشت”[90].

في الاجتماع الذي عقد في بروكسل، في يوليو 1914، تم تمثيل البلاشفة بقادة من الصف الثاني. كما حضر الاجتماع كذلك المناشفة التصفويون، وجريدة تروتسكي بوربا، ومجموعة بليخانوف يدينستفو (الوحدة)، والنواب المناشفة في مجلس الدوما، وفبريود، والبوند، والاشتراكيون الديمقراطيون الليتوانيون، وثلاث مجموعات بولندية. أشهرت الأممية أسلحتها في محاولة لفرض زواج قسري بين اتجاهين سياسيين لا يمكن التوفيق بينهما، بوسائل بيروقراطية. كانت هذه الممارسة منطقية تماما بالنسبة لأشخاص كانوا قد أداروا ظهرهم منذ زمن بعيد للسياسة المبدئية لصالح “السياسة الواقعية”. كان رئيس الاجتماع هو الزعيم الاشتراكي الديمقراطي البلجيكي فاندرفيلد، إلى جانب هويسمانز وكاوتسكي. خلال ذلك الاجتماع تحدث كاوتسكي بكلمات تنبؤية مفادها أنه: «في ألمانيا لا يوجد انقسام، على الرغم من الاختلافات الموجودة بين روزا لوكسمبورغ وبرينشتاين»، وهي العبارة التي سرعان ما سيظهر خطأها المخزي. وافق الاجتماع على اقتراح كاوتسكي بأنه لا توجد اختلافات بين صفوف الاشتراكية الديمقراطية الروسية يمكنها أن تعرقل الوحدة. لكن البلاشفة وقفوا بحزم رغم الضغوط من جميع الجهات. وخلال الاجتماع، الذي استمر ثلاثة أيام، رفض ممثلو البلاشفة رغبة الأممية لعب دور التحكيم. لم يروا أي سبب لتقديم تنازلات هذه المرة، فهدد فاندرفيلد البلاشفة بالإدانة خلال المؤتمر الأممي القادم. لكن ذلك المؤتمر لم يعقد أبدا، فقد كانت هناك أحداث واسعة النطاق توشك أن تهبّ في سماء الأممية القديمة، وتكشف بقسوة كل الأكاذيب وأنصاف الحقائق والخيانات التي قامت عليها.

ضعف البورجوازية الروسية واعتمادها على الرأسمال الأجنبي حدد بدوره السياسة الخارجية للنظام القيصري، الذي وجد نفسه منخرطا، من موقع التابع الصغير، في تحالف مع الإمبريالية الأنجلو-فرنسية. منذ عام 1912 صار كل شيء، من الناحية العملية، ينذر باندلاع الحرب. كانت السياسة الخارجية لروسيا القيصرية تمليها مصالح النظام الاستبدادي وكبار مالكي الأراضي، والتي كانت متطابقة مع مصالح أصحاب الأبناك والرأسماليين الروس. كانت سياسة غزو للأراضي الأجنبية والأسواق ومصادر المواد الخام، وهي السياسة الكلاسيكية للإمبريالية. كانت البورجوازية الروسية، بما في ذلك جناحها “الليبرالي”، راضية بلعب دور خادم للحكم الفردي أملا في الحصول على أسواق مربحة من وراء الحرب. لكن عشية الحرب كان النظام الاستبدادي قد بدأ مرة أخرى يرى الثورة قادمة.

عشية الحرب العالمية الأولى كانت الحركة الثورية قد صارت أقوى وأكثر اتساعا مما كانت عليه عام 1905. والأهم من ذلك هو أن وعي الطبقة العاملة كان قد صار أعلى من الناحية النوعية، وهي الحقيقة التي انعكست في تمكن البلاشفة من كسب الأغلبية. وفي وقت لاحق علق تروتسكي على ذلك قائلا: «من أجل فهم الاتجاهين الرئيسيين داخل صفوف الطبقة العاملة الروسية، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الاتجاه المنشفي كان قد تبلور بشكل نهائي في سنوات الانحدار والردة الرجعية. كان يعتمد بشكل رئيسي على فئة صغيرة من العمال الذين قطعوا علاقتهم مع الثورة. في حين أن البلشفية، التي كانت قد تحطمت بقسوة في فترة الردة الرجعية، بدأت في النهوض بسرعة مع تجدد المد الثوري خلال السنوات التي سبقت الحرب. “إن العناصر الأكثر حيوية وجرأة والجاهزة للنضال الدؤوب والمقاومة والتنظيم المستمر، هي تلك العناصر وتلك المنظمات وأولئك الناس الذين يتحلقون حول لينين”، بهذه الكلمات وصفت إدارة الشرطة عمل البلاشفة خلال السنوات التي سبقت الحرب»[91].

لقد ظهر تفوق البلاشفة من خلال سلسلة كاملة من المعطيات، فخلال انتخابات مجلس الدوما الرابع فاز البلاشفة بستة مقاعد عمالية من أصل تسعة. وفي الحملة السياسية من أجل إنشاء فريق مستقل في مجلس الدوما، حصل النواب البلاشفة على أكثر من 69% من توقيعات العمال. بعد إنشاء الفريق البلشفي المستقل في الدوما، في أكتوبر 1913، حصل التصفويون على دعم 215 مجموعة من العمال فقط، في حين حصل النواب البلاشفة على دعم 2995 مجموعة (85,7%!). كما تشير إحصاءات أخرى إلى التفوق الساحق للبلاشفة. في عام 1913 حصلت جريدة التصفويين على دعم 661 مجموعة عمالية، في حين حصلت البرافدا على دعم 2181 مجموعة (77%). وبحلول عام 1914 (حتى 13 ماي)، صارت الأرقام هي 671 إلى 8773 (أي 81%). وهكذا فبالرغم من صعوبة الوصول إلى أرقام دقيقة في ظل ظروف العمل السري وغير الشرعي، فإنه من الممكن أن نقول بدرجة كبيرة من اليقين إن البلاشفة حصلوا على الأقل على دعم ثلاثة أرباع الطبقة العاملة المنظمة.

كانت قوة الحركة العمالية في تصاعد مستمر. وكانت مناطق جديدة تنجذب باستمرار إلى النضال. في ماي 1914 بدأ إضراب 50 ألف عامل نفط في باكو. وتم تنظيم إضرابات تضامنية مع عمال باكو في سان بيترسبورغ وموسكو وخاركوف وكييف وروستوف ونيكولاييف. في الأول من يوليوز، دعت لجنة الحزب في سان بيترسبورغ العمال إلى النضال بشعار: “أيها الرفاق في باكو نحن معكم! إن انتصار عمال باكو هو انتصارنا!”. كانت حرارة النضال ترتفع بسرعة. في ذلك اليوم قامت الشرطة بتفريق اجتماع جماهيري ضم 12 ألف عامل من عمال بوتيلوف، مما خلف 50 جريحا ومقتل عاملين. هزت الأخبار القادمة من بيترسبورغ البلاد بأسرها. وبحلول الرابع من يوليوز أضرب 90.000 عامل عن العمل. وجّهت اللجنة المركزية البلشفية دعوة للعمال لتنظيم إضراب عام لمدة ثلاثة أيام في محاولة منها لاختبار قوتها. وبحلول السابع من يوليوز، كان الإضراب شبه عام بمشاركة 130 ألف عامل.

عندما كان العمال يخوضون إضراباتهم كان الرئيس الفرنسي بوانكاريه في بيترسبورغ لمناقشة بعض الأمور الحساسة المتعلقة بالوضع الدولي مع القيصر. وبينما كان الرجلان يناقشان بهدوء الحرب القادمة، اندلع نوع آخر من الحروب في شوارع سان بيترسبورغ. كان وسط العاصمة محتلا من طرف الشرطة والجنود الذين اشتبكوا مع العمال. وعلى الرغم من أن الدعوة إلى الإضراب كانت لثلاثة أيام فقط، فإن موجة الإضراب صارت في الواقع بلا انقطاع.

تكشف الأرقام التالية لعدد العمال المضربين عن الوضع الحقيقي خلال الأشهر التي سبقت الحرب:

08 يوليوز: 150.000
09 يوليوز:117.000
10 يوليوز: 111.000
11 و12 يوليوز:أكثر من  130.000.[92].

ردت الحكومة بالقمع، فتم منع البرافدا في 08 يوليوز وألقي القبض على البلاشفة في كل مكان. تم إغلاق مقرات النقابات ونوادي العمال. كان ذلك بمثابة اعتراف رسمي بأن روسيا كانت مرة أخرى، خلال يوليوز 1914، في خضم وضع ثوري. لم يكن من الممكن تغيير هذه الحقيقة ببعض الاعتقالات. فبحلول فصل الصيف كانت حركة الإضرابات قد تجاوزت بالفعل نظيرتها عام 1905. انخرط مليون ونصف المليون من العمال في الإضرابات التي كانت في معظمها إضرابات سياسية. لكنه كانت هناك أيضا نقاط ضعف: فقد تركزت الحركة بشكل رئيسي في سان بيترسبورغ وموسكو والمراكز الصناعية الرئيسية الأخرى. في عام 1905، عندما كانت الحركة في ذروتها كانت أكثر انتشارا. في عام 1905، شكلت الإضرابات في بيترسبورغ 20% من إجمالي الإضرابات، أما في 1912-1913 فقد كانت 40%، وفي عام 1914 أكثر من 50%.

تظهر هذه الإحصائيات أن هناك فجوة واسعة بين الطليعة البروليتارية، التي تتركز في سان بيترسبورغ والمراكز الصناعية الأخرى، وبين الجماهير الأكثر تخلفا، خاصة في المدن الصغرى، والفلاحين. كان من الضروري توفر قدر معين من الوقت والخبرة حتى يتسنى لتلك المدن الصغرى اللحاق بالركب. كان من السابق لأوانه الدخول في معركة حاسمة، بالرغم من وجود قدر كبير من نفاد الصبر والميول اليسراوية المتطرفة بين الشباب البلشفي. كانت فئات من الشباب في بيترسبورغ تطالب بشن الهجوم. وقامت مجموعة يسراوية متطرفة، بقيادة فئة من نقابة الخبازين، بتشكيل “لجنة بلشفية يسارية” وطالبت بشن نضال المتاريس. تسبب هؤلاء الشباب المتهورون في نكسة خطيرة. كانوا قد نظموا اجتماعا لـ 123 مندوبا من لجان المصانع، اعتقلتهم الشرطة جميعا. وفي 14 يوليوز، وصل الإضراب إلى نهايته. كان من الواضح أن الأمور قد وصلت إلى نقطة حرجة، على الرغم من أن لينين كان يؤيد تأجيل المواجهة الحاسمة لفترة أطول قليلا. لقد فهم أن موقف الفلاحين كان حاسما في تحديد الموقف الذي سيتخذه الجيش. أما أولئك الذين كانوا يضغطون من أجل مواصلة الإضراب ونضال المتاريس فقد كانوا يدفعون في اتجاه الانتفاضة قبل أن تصبح شروطها ناضجة. كان في إمكان أحداث يوليوز، في ظل الظروف العادية، أن تتحول إلى وضع ثوري، لكن الأحداث الدرامية على المستوى الدولي قطعت ذلك التطور.

وبينما كانت أوروبا بأسرها ترتجف على حافة الهاوية، كان النظام القيصري الروسي يخاف من الثورة الاجتماعية أكثر من خوفه من الحرب. في 28 يونيو (بالتقويم الجديد)، تعرض ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند للاغتيال في سراييفو. وعلى الفور تم الإعلان عن التعبئة العامة في روسيا. وعندما قدمت الحكومة النمساوية في 10 يوليوز (بالتقويم الجديد) تحذيرا نهائيا مهينا لصربيا، سارعت سان بيترسبورغ إلى ممارسة الضغط على “إخوانها” الصربيين للاستجابة لجميع المطالب ما عدا تلك التي تنتهك حقوقهم كدولة ذات سيادة. كان ذلك بالضبط هو ما فعله الصرب في ردهم على مذكرة 10 يوليوز. لكن ذلك لم يحدث أي فرق، فقد اعتبرت حكومة فيينا أن الرد الصربي “غير كاف”. في تلك المرحلة كان أي رد من صربيا سيكون غير كاف. في 15 يوليوز بدأ النمساويون في قصف بلغراد. وفي وقت متأخر من مساء 18 يوليوز، استدعى الكونت بورتاليس وزير الخارجية الروسي، سازونوف، وأبلغه “والدموع في عينيه” أنه ابتداء من منتصف الليل صارت ألمانيا في حالة حرب مع روسيا. كانت المذبحة الكبرى على وشك أن تبدء.


هوامش ومصادر

[1]  LCW, To Maxim Gorky, January 3, 1911, vol. 34, p: 437.

[2]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 208.

[3]  S. Payne, Lenin, p: 247.

[4]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 224.

[5]  Lenin, Collected Works, in Russian, vol. 48, p: 16.

[6]  KPSS v rezolyutsiyakh, vol. 1, p: 247.

[7]  Trotsky, Stalin, p: 131.

[8]  LCW, Letter to G.K. Ordzhonikidze, S.S. Spandaryan, and Yelena Stasova, April 1912, vol. 35, p: 33.

[9]  LCW, vol. 13, pp: 532–533.

[10]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 319.

[11]  LCW, vol. 15, pp: 510-511.

[12]  البود: (Pood) وحدة قياس روسية، تعادل حوالي 16 كيلوغرام -المترجم-.

[13]  Rashin, Formirovaniye Rabochego Klassa Rossiy, p: 98.

[14]  LCW, Towards Unity, February 13 (26), 1910, vol. 16, p: 155.

[15]  LCW, Letter to Maxim Gorky, September 15, 1911, vol. 36, p: 185.

[16]  LCW, Letter to G.L. Shklovsky, March 12, 1912, vol. 35, p: 25.

[17]  Istoriya KPSS, vol. 2.

[18]  الروبيكون: نهر بإيطاليا، كان جزءا من الحدود بين إيطاليا الرومانية ومقاطعة الغال الجنوبية، وكان محظورا على الرومان عبوره بجنودهم. لكن قيصر عبره برجاله، في 10 يناير عام 49 ق.م، ومن ثم بات تعبير “عبور الروبيكون”، يعني اتخاذ قرار لا يمكن التراجع عنه. المترجم.

[19]  A.Ye. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 20.

[20]  C. Bobrovskaya, Provocateurs I Have Known, p: 13.

[21]  Ibid., p: 28.

[22]  LCW, Letter to Maxim Gorky, February 1912, vol. 35, p: 23.

[23]  LCW, Letter to Maxim Gorky, August 25, 1912, vol. 35, p: 54.

[24]  LCW, vol. 35, pp: 28, 29 and 36.

[25]  Trotsky, My Life, pp: 224–226.

[26]  Trotsky, In Defense of Marxism, pp: 177–178.

[27]  R. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 88.

[28]  S. Payne, The Life and Death of Lenin, p: 248.

[29]  Lenin, Collected Works, in Russian, vol. 48, p: 71.

[30]  McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 132.

[31]  Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 261.

[32]  LCW, To the Editorial Board of Pravda, First half of October, 1912, vol. 36, pp: 198, 194 and 195-196.

[33]  LCW, To the Editors of Pravda, 1/8/1912, vol. 35, p: 47.

[34]  LCW, To the Editors of Pravda 24/11/1912, vol. 35, p: 66.

[35]  LCW, Letter to Sverdlov, 9/2/1913, vol. 35, p: 79.

[36]  LCW, vol. 35, p: 577.

[37]  LCW, To the Editorial Board of Pravda, vol. 35,p:  82.

[38]  LCW, To the Editorial Board of Za Pravdu, 2–11/11/1913, vol. 35, p: 115.

[39]  A.Ye. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 207.

[40]  Ibid., pp: 24–25.

[41]  Ibid., p: 22.

[42]  R. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, pp: 140–141.

[43]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 312.

[44]  Trotsky, Stalin, p: 148.

[45]  LCW, Workers’ Unity and the Elections, vol. 36, pp: 191–192.

[46]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 314

[47]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 101.

[48]  Ibid., pp: 43-44.

[49]  Ibid., p: 61.

[50]  Ibid., p: 61.

[51]  Ibid., pp: 90–91.

[52]  Ibid., pp: 41–42.

[53]  Ibid., pp: 52–53.

[54]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 88.

[55]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, pp: 36–37.

[56]  Ibid, p: 76.

[57] Ibid, p: 77.

[58] Pravda, No. 167, February 26, 1913, quoted in McKean, op. cit., p: 141.

[59] KPSS v. rezolyutsiakh, vol. 1, p: 302.

[60] Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 116.

[61] Lenin, Collected Works, in Russian, vol. 24, p: 34.

[62]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 120.

[63]  Trotsky, Stalin, p: 149.

[64]  LCW, To the Editorial Board of Za Pravdu, vol. 34, p: 118.

[65]  التشديد من آلان وودز.

[66]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 112.

[67]  Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 131, 132 and133.

[68]  Martov, Mirovoy Bol’shevism.

[69]  Istoriya KPSS, vol. 2, p: 431.

[70]  Lenin, Collected Works, in Russian, vol. 48, p: 162.

[71]  Ibid., vol. 25, p: 71.

[72]  Ibid., vol. 24, p: 123.

[73]  LCW, Critical Remarks on the National Question, vol. 20, pp: 22, 24, 25 (التشديد من آلان وودز)

[74]  LCW, The National Program of the RSDLP, vol. 19, pp: 541, 545.

[75]  LCW, Critical Remarks on the National Question, vol. 20, p: 35.

[76]  Ibid., p: 33.

[77]  Ibid., p: 22.

[78]  LCW, The National Program of the RSDLP, vol. 19, p: 544.

[79]  Lenin : LCW, The Right of Nations to Self-Determination, vol. 20, pp: 400401.

[80]  Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 22, pp: 151152.

[81]  O. Figes, A Peoples Tragedy, p: 247-248.

[82]  Trotsky, The Balkan Wars 191213, pp: 3940.

[83]  LCW, The Balkan War and Bourgeois Chauvinism, vol. 19, p: 39.

[84]  Trotsky, The Balkan Wars 191213, pp: 4142.

[85]  V.I. Lenin. Biography, Moscow. 1963, p: 213.

[86]  B.H. Sumner, A Survey of Russian History, p: 380.

[87]  A.Ye. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, pp: 117–118.

[88]  R. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 120 and 122.

[89]  Voprosy Istoriya KPSS, 1957, no. 4, p: 117.

[90]  Lenin, Collected Works,[بالروسية] vol. 24, p: 289.

[91]  Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 58.

[92]  Istoriya KPSS, vol.2, p: 463.