مع امتداد القتال إلى المدينتين السوريتين الرئيسيتين دمشق وحلب تراجعت الحركة الجماهيرية بصفة عامة بشكل كبير في الشهور القليلة الماضية لتفسح المجال للكفاح المسلح على نمط حرب العصابات من قبل ميليشيات الجيش السوري الحر. إذا، إلى أين تسير سوريا وما هي الثورة، أو بمعنى أدق، ما تبقى من الثورة؟
ضعف الثورة
سبق لنا في مجموعة من المقالات السابقة أن بينا الأسباب التي جعلت من الثورة السورية ثورة دموية وطويلة الأمد وسمحت للنظام بالتشبث بالسلطة لفترة طويلة من الزمن. سنعيد الإشارة إلى هذه الأسباب أدناه، لكن يمكن للقارئ أن يعود إلى المقالات القديمة لمزيد من الشروح:
1. اندلعت الثورة السورية، التي كانت أساسا حركة شبابية في البداية، تحت تأثير الثورات العربية. لكن قسما كبيرا من المجتمع السوري ولا سيما في المراكز الحضرية أخذ على حين غرة من قبل الحركة الثورية. إذ لو لم تتأثر سوريا بالثورات في تونس ومصر لكانت الحركة الثورية قد احتاجت على الأرجح لبضع سنوات أخرى كي تنفجر من تلقاء نفسها.
2. لقد تم سحق وتفتيت الطبقة العاملة السورية لعدة عقود. والأهم من ذلك هو أن الطبقة العاملة السورية لم تملك، ومازالت لا تملك، منظماتها المستقلة الخاصة بها التي يمكن لها أن تستخدمها للتعبير عن مصالحها الطبقية ولعب دور قيادي في النضالات الجارية. هذا الأمر ينطوي على أهمية حاسمة. حركة الإضراب العام التي قامت بها الطبقات العاملة المصرية والتونسية شلت الدولة ورجحت كفة الميزان لصالح الجماهير. هذا لم يحدث في سوريا. ففي معظم الأحيان عندما كانت المظاهرات الجماهيرية تحصل في أجزاء عديدة من البلاد فإن المصانع ومحطات توليد الطاقة والسكك الحديدية والمواصلات والمطارات والموانئ والمؤسسات الحكومية وما إلى ذلك، تابعت جميعها العمل بشكل طبيعي، مما أعطى النظام درجة عالية من الاستقرار وأمن له الموارد التي يحتاجها كي يقمع الجماهير الثائرة بوحشية.
3. سوريا بلد متنوع جدا فيه أقليات دينية وعرقية كبيرة وبنيته الاجتماعية غير متجانسة. النظام السوري يستند في أساسه على الأقلية العلوية. لقد ضمن النظام تأييد غالبية العلويين والمسيحيين والدروز والسنيين اللبراليين، من خلال استغلاله بنجاح لمخاوفهم من صعود نظام إسلامي أصولي من شأنه أن يعرضهم للاضطهاد والتهميش، أو يفرض قيودا على حرياتهم الاجتماعية وأنماط حياتهم. تجدر الإشارة إلى أن الكثير من العناصر من بين المشاركين في القتال ضد النظام يرفعون شعارات ومطالب دينية، أو يستخدمون لغة دينية توفر مادة سهلة لآلة النظام الدعائية.
4. تقع سورية في منطقة جد حساسة سياسيا، وتقع على الحدود مع العراق والأردن وإسرائيل ولبنان وتركيا. لقد أصبحت المكان الذي تتواجه فيه المصالح المتعارضة في المنطقة، أي الممالك العربية السنية من جهة ضد الشيعة المدعومين من إيران، وهو ما يعكس بدوره المصالح المتضاربة لروسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، وكذلك تركيا وفرنسا، التي تسعى كل منها إلى خدمة مصالحها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، بعد تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق وتدميره في عام 2003 يخشى العديد من السوريين كثيرا من التدخل الامبريالي في شؤون بلادهم والنتائج الكارثية. لقد راهن النظام بنجاح على هذه المخاوف للحصول على دعم شريحة واسعة من السكان من مختلف الخلفيات الدينية والاجتماعية.
5. كان من الممكن تجاوز كل العوامل المذكورة سابقا، وتوحيد الجماهير السورية من جميع الخلفيات الدينية والعرقية خلف راية الثورة، لو توفرت قيادة ثورية حقيقية ببرنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي واضح، أي برنامج اشتراكي طبقي قادر على جذب كل الشعب العامل في سوريا.
6. المعارضة السورية الرسمية ممثلة بالمجلس الوطني أبعد ما تكون عن أن تشكل تلك القيادة. بل على النقيض تماما. إن المجلس الوطني مرتبط برجال أعمال أثرياء يتطلعون إلى اخذ مكان نظام الأسد وليست لديهم أية مصلحة مشتركة إطلاقا مع الجماهير المكافحة. في الواقع إن مصالحهم مناقضة لمصالح الجماهير الفقيرة. إن المجلس الوطني في الواقع أداة للامبريالية الأمريكية، حيث أن مقره في الخارج ويتم تمويله من قبل الامبريالية، وليست له صلات حقيقية مع المعارضة في الداخل. والأكثر ضررا هو المطالبة المتواصلة من قبل المجلس الوطني (وبالتالي قيادة الجيش الحر) بالتدخل الامبريالي في سوريا، الشيء الذي أدى فقط إلى الإضرار بصورة الثورة وأدى إلى نفور فئات كثيرة من المجتمع السوري منها ودفع بهم إلى أحضان نظام الأسد. كان من الممكن كسب العديد من السوريين إلى جانب الثورة لو توفرت لها قيادة مختلفة ذات شعارات ومطالب صحيحة.
استمرار الصراع
سبق لنا أن نشرنا، في دجنبر من عام 2011، مقالا بعنوان “سوريا: نظام الأسد بدأ ينهار مع انتقال الثورة إلى مستوى أعلى” قدمنا فيه التحليل التالي:
«تتطور الثورة السورية في ظل ظروف خاصة، دون نقابات عمالية مستقلة، ودون وجود الحزب الثوري الذي يمكنه أن يوجه الثورة وينفذ المهام الضرورية لتحقيق النصر. ضغوط الثورة لا تنتظر نضج الظروف الضرورية؛ لقد انفجرت وعبرت عن نفسها من خلال الجيش الحر. إنه، في هذه اللحظة، المنظمة الجماهيرية الوحيدة داخل الثورة السورية. وبسبب عدم وجود بديل، صار أيضا المؤسسة القيادية في الثورة. وهذا يعني، في الظروف الراهنة، أن جميع المسائل المتعلقة بالثورة ستعبر عن نفسها في هذه المنظمة.
تكثر التساؤلات حول طبيعة الجيش السوري الحر، هل هو حقا مجموعة من الجنود الثوريين، هل هو ميلشيات مسلحة تابعة للثورة؟ هل تهيمن عليه عناصر إسلامية متطرفة، أو يمكن أن يكون مجرد أداة في يد القوى الامبريالية؟ يمكن لأي مراقب جاد أن يدرك أن الجيش السوري الحر ليست ميليشيا إسلامية ولا عميلا لقوى خارجية. الحقيقة هي أن طبيعته لم تتحدد بعد.»
لقد أكدت تطورات الأشهر القليلة الماضية صحة تحليلنا. الجيش الحر يزداد في الحجم والقوة والشعبية فقد أصبح النقطة المحورية في النضال ضد نظام الأسد، لكن هذا القول لا يستوفي الحقيقة كلها. لقد حصل هذا التطور على حساب الحركة الجماهيرية. فمن الواضح جدا أن المشاركة الجماهيرية آخذة في التراجع، ويتم ترك الصراع للجيش الحر. فعلى سبيل المثال كانت انتفاضة العديد من الأحياء في دمشق بشكل رئيسي عملية للجيش الحر لم ترافقها حركة جماهيرية عامة. وقد شهدنا نفس الشيء يحدث في حلب في الأيام الأخيرة. في الواقع، كان النظام في دمشق ضعيفا للغاية في لحظة معينة، وكان في إمكان خروج جماهيري كاف أن يؤدي إلى انهياره، لكن ذلك لم يحصل. لقد اختفت الحركة الجماهيرية إلى حد كبير، وما تبقى منها أصبح ملحقا بالجيش السوري الحر. هذه خطوة كبيرة إلى الوراء وتطور رجعي. مرة أخرى يتوجب علينا أن نطرح على أنفسنا نفس السؤال المهم الذي طرحناه في دجنبر من عام 2011: ما هي طبيعة الجيش السوري الحر؟ هل هو مشكل فقط من قوى ثورية أم أن هناك عناصر أخرى داخله لديها أجندات أخرى؟
ليس سرا أن قوى رجعية مثل حكومتي المملكة العربية السعودية وقطر، فضلا عن بعض الممولين الأثرياء، يقومون بضخ ملايين الدولارات والأسلحة لبعض الميليشيات التي تشكل الجيش الحر. تركيا بدورها تستضيف معسكرات لتدريب الجيش الحر، وذلك بهدف واضح وهو الدفاع عن أجندتها في سوريا. فرنسا أيضا تلعب دورا كبيرا في دعم القوى الرجعية التي ظهرت بين الميليشيات. تسعى فرنسا هنا إلى استعادة النفوذ الذي فقدته في المنطقة، وهذا ما يفسر تورطها العميق. أما الولايات المتحدة، وبعد أن حرقت أصابعها في العراق وأفغانستان، ليست لديها رغبة في الانزلاق إلى حرب أخرى، على الرغم من أنها اعترفت علنا بمساعدة بعض الميليشيات.
السؤال هو: من يحصل على هذه المساعدات؟ هل يتم توزيعها على جميع الميليشيات المقاتلة؟ هذا أبعد ما يكون عن هذه الحقيقة. في الواقع كثيرا ما يشتكى العديد من مقاتلي الجيش الحر من نقص الموارد والسلاح ويعربون عن خيبة أملهم من رفض المجموعات المقاتلة الأخرى تقاسم الموارد معهم. من هي إذا المجموعات التي تحصل على المساعدات الخارجية وما هي أجندتها؟ من المهم جدا أن نكون واضحين في هذا الأمر: هذه الجماعات هي قوى رجعية مسعورة لا تختلف عن قوات الأسد. إنها تتبنى إيديولوجية أصولية وتدافع عن مصالح أولئك الذين يقومون بتمويلها، أي أولائك الذين تتناقض مصالحهم بشكل كامل مع مصالح الجماهير السورية. إنهم قوى الثورة المضادة التي تعمل، في نفس الوقت الذي تقاتل فيه النظام، على تقويض ما تبقى من الثورة الحقيقية.
حقيقة الوضع هي ما يلي: يضم الجيش السوري الحر آلاف المقاتلين الثوار الصادقين، أبناء وبنات العمال والفلاحين وفقراء المدن. هؤلاء يرتبطون في كثير من الأحيان بلجان التنسيق المحلية والمجالس الثورية. لكن الجيش السوري الحر يضم أيضا جناحا رجعيا يستطيع الوصول إلى الموارد الخارجية ويتزايد يوما بعد يوم على حساب الجناح الثوري. لقد ساهم انحسار الحركة الجماهيرية بشكل كبير في تقويض وعزل الثوار وخلق فراغا خطيرا يتم ملؤه من قبل القوى الرجعية والانتهازية.
في غياب أي بديل واضح والتحول نحو الكفاح المسلح، من الواضح أن تلك المجموعات التي تعتبر أفضل تنظيما وأكثر انضباطا و، قبل كل شيء، أكثر قدرة على الحصول على الأسلحة ووسائل الاتصالات والنقل والإمداد والتمويل، أصبحت تحتل موقعا قياديا. وهذه الجماعات هي الأكثر محافظة ورجعية وطائفية، مرتبطة بالإخوان المسلمين والسلفيين وحتى بمنظمات مرتبطة بتنظيم القاعدة. هؤلاء يستفيدون من التمويل والدعم من قطر والسعودية وغيرها من المصادر. لكن المساعدة والدعم يأتيان مع شروط سياسية.
الحالة الموصوفة سابقا تظهر العملية العامة التي تحصل داخل وخارج الجيش الحر ألا وهي تحلل الحركة الثورية. يمكن ملاحظة هذا الأمر ليس فقط من المؤشرات الكمية مثل تراجع مشاركة الجماهير في أنشطة الثورة ولكن أيضا من المؤشرات النوعية. فالعديد من الشعارات التي ترفع اليوم تختلف اختلافا جذريا، وهي رجعية في الواقع، عن تلك التي شهدناها في بداية الثورة. على سبيل المثال في الأيام الأولى سمعنا شعار “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد” والآن لدينا “لبيك لبيك لبيك يا الله”. وهذا ليس مجرد تفصيل صغير! وهو حتما لا يشجع الأقليات الدينية والمسلمين المتحررين على الانضمام إلى الثورة، بل يدفع بهم بعيدا!
لقد نجح النظام في الاستفادة من المجازر لاستفزاز مشاعر قوية ضد العلويين بين قطاعات كبيرة من السكان السنة وبالتالي دفع الحركة في اتجاه طائفي. هذه ليست مسألة ثانوية ويتم حاليا استغلالها من قبل العناصر الأكثر رجعية لرفع راية معادية للعلويين بشكل علني وطرح شعارات لا يمكن لها أبدا أن تكسب الغالبية العظمى من الجماهير. إن شعارات مثل “الدفاع عن ديننا… الدفاع عن المسلمين السنة… الجهاد ضد الكفار… العلويون كفار وأعداء الإسلام….الخ”، لا تؤدي سوى إلى تقسيم الشعب والدفع بقسم منه في اتجاه النظام.
إلى أين تسير سوريا؟
من الصعب جدا التكهن بكيفية نهاية وضع معقد جدا مثل الوضع السوري. من الواضح أن نظام الأسد سينهار في نهاية المطاف. النظام متعفن من داخله كما يكشف ذلك الانشقاق الأخير لرئيس وزراء الأسد وانضمامه إلى “الثورة”. كما كان عليه الحال في ليبيا، فكلما صار من الواضح أكثر فأكثر أن أيام النظام باتت معدودة، على الرغم من تسليحه الجيد، كلما ازدادت العناصر من داخل النظام التي تتطلع إلى مستقبلها الخاص. إن واقع قدرة مثل هذه العناصر على الانتقال إلى معسكر “الثورة” يدل على مدى رجعية الوضع الذي بات يسود على طرفي النزاع. إن هذه العناصر لا تقفز من السفينة الغارقة لدعم الثورة، بل تقوم بذلك لأسباب معاكسة تماما. إنهم يعدون أنفسهم للمستقبل، حيث سيعملون على تقويض القليل مما تبقى من الثورة.
هذا ما يفسر لماذا لن يعني انهيار النظام بالضرورة انتصار الثورة. على العكس من ذلك يبدو أن الحركة الثورية في طريقها إلى الهزيمة حيث أنها تفقد السيطرة لمصلحة قوى أخرى لا يمكنها التحكم بها. هذا لا يعني القول بأنه لا يمكن عكس هذه السيرورة، لكن هذه هو الاتجاه العام في الفترة الأخيرة. هذا الأمر يحتاج إلى أن يوضح بجرأة للشباب والثوار السوريين الحقيقيين.
ومع ذلك لا يمكن للتحليل أن يتوقف هنا حيث يمكن أن تكون هناك نتائج مختلفة في المحصلة النهائية. فالنظام، الذي حاول ترسيخ الصراع كصراع طائفي منذ البداية، يمكنه الانسحاب إلى المناطق الساحلية حيث يحظى بدعم العلويين، وشن حرب أهلية طويلة الأمد وحتى محاولة إنشاء دويلة خاصة به. هذا الأمر ممكن تماما نظرا لحقيقة أن الآلاف من رجال الميليشيات العلوية المدججين بالسلاح سيستمرون في الوجود حتى لو تم طرد النظام من دمشق. دول مثل إيران وروسيا مستعدة لدعم مثل هذه الميليشيات. ومن ناحية أخرى فإن بلدانا مثل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر على استعداد لمواصلة دعم الميليشيات الموالية لها. إن حربا أهلية طويلة الأمد ستقصي بشكل فعلي أي عناصر تقدمية من المعادلة. هذا من شأنه أن يؤدي إلى سيناريو شبيه بالحرب الأهلية اللبنانية وأن يعني كارثة حقيقية لسوريا والشعب السوري.
ثمة عنصر آخر في المعادلة وهو الوضع الكردي. حيث يبدو أن النظام، الذي رأى أنه لم يعد من الممكن له السيطرة على المناطق الكردية، قد انسحب لصالح الجماعات المسلحة التي يرعاها حزب العمال الكردستاني. هذا شيء لا يمكن لتركيا تسمح به، بسبب خطر تشجيع المتمردين الأكراد داخل تركيا نفسها. بهذه الطريقة يحقق نظام الأسد هدفين، الأول هو إخراج المناطق الكردية (التي لم يعد قادرا على السيطرة عليها) من جبهة موحدة للمعارضة، والثاني هو إظهار الصراع على أنه متعلق بالمقاومة ضد التدخل الأجنبي (في هذه الحالة من تركيا).
سيقاتل العلويون، وربما المسيحيون والأقليات الأخرى، إلى جانب الأسد مع تزايد هيمنة العناصر الإسلامية الرجعية في صفوف “المتمردين” وقيامها بطرح تصور إسلامي ديني مناهض للعلويين. المطلوب هو أن يتحد العمال والشباب السوريون ضد كل من الأسد والعناصر الأصولية الرجعية التي بدأت تزدهر تحت اسم الجيش السوري الحر. هذه هي الطريقة الوحيدة لكسب العلويين العاديين إلى جانب الثورة. لكن وبما أن العناصر الرجعية تتقدم الآن بشكل واضح إلى الأمام، فإن إمكانية تحقق هذا السيناريو هي الأضعف. إن عدم وجود حزب اشتراكي ثوري قادر على توحيد الشعب العامل وتجاوز الانقسامات العرقية والدينية المختلفة هو ما يفسر المأزق الحالي.
حتى لو تم تجنب حرب أهلية طائفية، فإن أفضل ما يمكن أن يأمله السوريون في المرحلة المقبلة هو بلد ممزق مثل ليبيا. لا توجد أي قيادة سياسية ذات مصداقية ببرنامج ثوري يمكنها أن توحد الجماهير خلفها. العناصر الانتهازية تقوم بالظهور وسوف تظهر بشكل أكبر على جميع المستويات وتطالب بالمناصب القيادية. الجماهير متعبة جدا ومن غير المرجح أن تقاوم القوى الانتهازية في البداية. وميليشيات الجيش الحر المختلفة، الموحدة اليوم ضد الأسد، ستبدأ في التنافس مع بعضها على السلطة والنفوذ بعد سقوطه. يجب أن لا تكون لدينا أية أوهام بأنه فور الإطاحة بالأسد سوف تحل جميع مشاكل الشعب العامل في سوريا؛ والأهم هو أن لا ندفع الشباب والثوار السوريين إلى هذا الاعتقاد. إن النظام الذي سيصل إلى السلطة بعد الإطاحة بالأسد يمكن أن يكون أكثر رجعية ووحشية من نظام الأسد.
أين يقف الماركسيون؟
لا يشتغل الماركسيون في المجرد ولا يؤمنون بوضع يسود فيه الأبيض والأسود. إن تحليلنا للوضع هو فقط مرشد عمل، إنه في الواقع محاولة لتوجيه أنفسنا نحو الممارسة الصحيحة. إذا أين يقف الماركسيون من هذا الوضع المعقد جدا الذي نشأ في سوريا، ومن الجيش الحر، ومن دور الثوار والشباب؟
إن ميليشيات الجيش الحر ولجان التنسيق المحلية والمجالس الثورية الخ. كلها من إبداعات الجماهير والجنود الثوار. بعضها سقط تحت سيطرة العناصر الرجعية، بينما البعض الآخر ما يزال ربما يحتفظ بطابعه الأصلي الشعبي الديمقراطي واللاطائفي الذي ميز الانتفاضة الثورية.
إن نقطة الضعف الرئيسية للحركة الثورية، التي سمحت للعناصر الرجعية بالظهور على السطح واستفاد منها النظام، هي أولا وقبل كل شيء سياسية. كان من الممكن تجاوز المأزق الذي وجدت الحركة نفسها فيه، وأدى إلى دينامية عسكرية متصاعدة، على أساس برنامج ثوري حقيقي يجمع بين المطالب الديمقراطية وبين المطالب الاجتماعية والاقتصادية، والذي كان سيجذب الجماهير السورية بغض النظر عن الانقسام الطائفي، وتقويض الأساس الاجتماعي للنظام بشكل حاسم.
لا يمكن اختزال الحرب الثورية في مسألة الأسلحة، بل إنها أولا وقبل كل شيء مسألة البرنامج السياسي للثورة. في عدة مناسبات في التاريخ تمكنت القوى الثورية بوسائل تقنية ومادية أقل من الانتصار على جيوش وأجهزة دولة أقوى وأفضل تسليحا، عندما كانت مسلحة ببرنامج قادر على تقسيم تلك الجيوش والأجهزة على أساس طبقي.
وبالتالي فإن السؤال الأول الذي يجب أن نطرحه هو: ما الذي نقاتل من أجله؟ لا يكفي أن نقول إننا نقاتل من أجل قلب نظام الأسد، إذ بالنسبة لقطاعات كبيرة من المجتمع ليس موضوع البديل عنه مسألة تافهة، لا سيما إذا كان البديل المحتمل هو صعود دكتاتورية دينية. إن احتمال تعويض عائلة الأسد برأسماليين متحالفين مع الإخوان المسلمين ليس منظورا جذابا للعمال والشباب الثوريين، وخصوصا أولئك الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين أو ليسو من السنة. إن فكرة استبدال نظام الأسد بآخر تابع للولايات المتحدة كما هو الحال في العراق أو أفغانستان أو مدعوم من تركيا أو المملكة العربية السعودية ستنفر بحق العديد من السوريين الذين يفتخرون بشدة باستقلالهم الوطني وتقاليدهم المعادية للامبريالية.
مهمة الماركسيين هي الشرح بصبر الحاجة إلى برنامج اشتراكي، الوحيد القادر على ربط تطلعات الجماهير الديمقراطية الحقيقية مع مطالبها الاجتماعية والاقتصادية. يجب على الثوار الحقيقيين تنظيم أنفسهم كفصيل مستقل وطرح أفكارهم بقوة وبشكل جماعي. نعتقد أن الطريقة الوحيدة التي تمكن القوى الثورية من الانتصار على الرجعية هي طرح ما يلي:
– ليس صراعا دينيا بل نضال الجماهير العاملة. ليس “جهادا” مقدسا بل ثورة الجماهير.
– الدفاع عن الأفكار الأصلية للثورة: الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، والاحترام والمساواة للجميع، هي المبادئ التي ضحى الآلاف من الثوار بحياتهم من أجلها.
– هزيمة نظام الأسد تعني أيضا مصادرة الثروة التي سرقت من قبل عائلته ووضع الاقتصاد السوري تحت الرقابة الديمقراطية للشعب العامل.
– لا للأوهام في القوى الامبريالية. ضد التدخل الامبريالي في سوريا – الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا وقطر وتركيا والمملكة العربية السعودية ارفعوا أيدكم عن سوريا. الشعب السوري وحده قادر على تحرير نفسه.
– ينبغي وضع الهيئات المسلحة تحت الرقابة السياسية للمجالس الثورية على جميع المستويات.
– يجب على جميع المجالس الثورية وميليشيات الجيش الحر الثورية أن تكون ديمقراطية تماما. فرد واحد، صوت واحد. الدفاع عن الحرية الكاملة في الحوار والنقاش داخل مؤسسات الثورة. لا شيء يفرض بشكل غير ديمقراطي على إرادة الأغلبية.
– حذار من العناصر الانتهازية في قيادات النظام ومجالس “المعارضة” المدعومة من الغرب. يجب أن يتم اتخاذ جميع القرارات عن طريق المجالس الديمقراطية الممثلة للمناضلين المتواجدين على أرض الواقع.
– بناء لجان في جميع أماكن العمل بحيث تتمكن الطبقة العاملة من الظهور كقوة داخل الثورة. من خلال التنسيق بين هذه اللجان على المستوى المحلي والوطني، سيتم وضع الأساس لتشكيل حكومة تمثل مصالح الشعب العامل والفقراء في سوريا. بدون ذلك سيتم الاستيلاء على القيادة من قبل القوى الرجعية التي ستكون عاجزة تماما عن تقديم أي حل حقيقي للمشاكل الاجتماعية العاجلة للشعب العامل.
موسى لاذقاني
الأربعاء: 15 غشت 2012
عنوان النص بالإنجليزية: