فرانشيسكو ميرلي
12 أبريل
في الوقت الذي تركز فيه وسائل الإعلام الدولية انتباهها على الضربة الجوية الأمريكية المحتملة على سوريا، تستمر التحركات الفلسطينية من أجل حق عودة اللاجئين كما تستمر المجازر الوحشية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المتظاهرين في قطاع غزة.
إن المجزرة التي نفذها قناصة الجيش الإسرائيلي على حدود غزة في 30 مارس والتي قتلت 18 متظاهرا فلسطينيا وجرحت عدة مئات، والتي تكررت في 06 أبريل، ليست مصادفة. إنها نتيجة لاستراتيجية واعية بعيدة المدى من قبل الدولة الإسرائيلية تهدف إلى خنق أكثر من 1.8 مليون فلسطيني يعيشون في ما يمكن وصفه فعليا بأنه سجن مفتوح. لا ينبغي اعتبار وصفنا هذا بمثابة مبالغة، فحتى مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، جون دوغارد، وصف غزة بأنها “منطقة مغلقة ومحتجزة ومحتلة” ، والتي يبدو أن إسرائيل قد “رمت مفتاحها”.
إن الفضيحة الأخيرة المرتبطة بنشر وسائل الإعلام لشريط فيديو التقطه أحد جنود الجيش الإسرائيلي لزميله القناص الذي أطلق النار، في دجنبر الماضي، على فلسطيني كان يقترب من السياج الحدودي، تكشف عن حقيقة موقف كل من الجيش الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية. كما أن هتاف القناص والإهانات التي وجهها للجريح يكشفان عن الحقد غير الإنساني ضد “العدو” من قبل الجنود. لكن ما هي خلفية كل هذا؟ إن الموقف الوحشي للطبقة الحاكمة الإسرائيلية يجسده وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، الذي قال: “لا يوجد أبرياء في غزة”. كما علق قائلا: “قناص غزة يستحق التكريم، بينما يستحق المصور عقوبة”، مما يدل على احتقاره الكامل لأرواح الفلسطينيين، كما يدل، في الوقت نفسه، على قنوطه من انفضاح جنون جنوده، الذين لا يدركون لماذا يُعتبر سلوكهم وحشيا.
ليس من قبيل المصادفة أن تتشابه هذه الأحداث مع تقارير الشهود وصور التعذيب التي التقطها أعضاء في الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات الأمريكية (CIA) لزملائهم الذين يمارسون التعذيب وهم يبتسمون أمام الكاميرا بينما يقترفون أسوأ أنواع الإساءات بحق السجناء العزل في سجن أبو غريب في العراق. إن ما تشترك فيه هذه الأحداث ليس فقط الموقف اللاإنساني للمجرمين المباشرين، لكن واقع أن المسؤولية الحقيقية عن صنع مثل هؤلاء الوحوش تقع على كاهل القيادة، وصولا إلى أعلى مستويات الجيش والحكومة في كلتا الحالتين. ولكي يحافظ النظام على بعض المصداقية، يتم، من حين لآخر، القبض على بعض هؤلاء المجرمين ومحاكمتهم وإدانتهم، وغالبا ما يتم وصفهم بأنهم مختلون عقليا فيبعدون من المحاسبة، بينما يبقى المحرضون الحقيقيون بمنأى عن المساءلة.
إن قرار نشر القناصين لفرض منطقة محظورة على جانب غزة من الحدود ووقف محاولات الفلسطينيين اختراق المنطقة خلال الاحتجاجات هو ما أدى بشكل حتمي إلى المجازر التي ارتكبت ضد المتظاهرين الفلسطينيين في 30 مارس و 06 أبريل، وما سيؤدي إلى المزيد من المذابح في المستقبل المنظور. لقد وجد غضب وعزيمة الشباب الفلسطيني نقطة مرجعية يتجمع حولها في حركة “مسيرة العودة الكبرى”، والتي ستتصاعد حتى الذكرى السبعين لإعلان دولة إسرائيل (وما تلاه من التهجير القسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين من منازلهم) في 15 ماي.
إسرائيل وغزة
لكن ما هو المنطق من وراء هذا السلوك من جانب الحكومة الإسرائيلية؟ من يربح من كل هذا؟
طوال عقود شكلت غزة – من وجهة نظر الدولة الإسرائيلية – جرحا مفتوحا ملتهبا على حدودها. من الناحية النظرية سيكون من الحكمة السماح للفلسطينيين ببعض المساحات للتنفس، ففي نهاية المطاف، سوف تؤدي حتى التنازلات البسيطة وبعض التخفيف من القيود الاقتصادية إلى تحسن فوري في ظروف مئات الآلاف من الفلسطينيين. لكن كل الأساس الذي تقوم عليه الرأسمالية الإسرائيلية سوف يتعرض للتهديد.
تعتمد استراتيجية الرأسماليين الإسرائيليين للبقاء على تقسيم السكان الفلسطينيين في معسكرات مختلفة، وسيكونون مهددين بتشكل كفاح موحد للسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة مع 1.4 مليون فلسطيني يعيشون داخل إسرائيل. يمكن لأدنى احتمال في حدوث اتصال بين نضال الطبقة العاملة العربية واليهودية داخل إسرائيل ضد حكومتهم الرأسمالية وبين كفاح الفلسطينيين في المناطق المحتلة، أن يمثل تهديدا وجوديا للرأسمالية في إسرائيل.
ولأكثر من مرة (وحتى الآن) تم استخدام الفلسطينيين في المناطق المحتلة ككبش فداء للتغلب على الانقسامات الداخلية التي تتطور في المجتمع الإسرائيلي، حيث تطارد النخبة الحاكمة كل أنواع فضائح الفساد وحيث يعرف المجتمع تقاطبا بسبب تزايد اللا مساواة. إن سياسة نتنياهو العدوانية المناهضة للفلسطينيين مصممة أيضا لتفادي سقوطه، حيث يحاول صرف الانتباه عن فضائح الفساد التي عانت منها حكومته على مدى السنوات الماضية.
والنتيجة واضحة: فبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على قصف غزة عام 2014، لم تشهد الأوضاع المعيشية في القطاع أي تحسن، حيث بلغت نسبة البطالة 29٪ في أراضي السلطة الفلسطينية، لكنها أعلى من 44٪ في غزة وأكثر من 60٪ بين الشباب، وفقا للبنك العالمي. يعتمد 80 ٪ من السكان على المساعدات الإنسانية من أجل البقاء. وأكثر من 70٪ من سكان غزة هم لاجئون (وفقا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين) من الأرض التي تقع الآن داخل حدود إسرائيل، وهو ما يفسر التعاطف الذي خلقه مطلب الحركة الحالية بالعودة. لكن الإحساس باليأس بين سكان غزة، لا سيما الشباب، لا يمكن نقله من خلال مجرد أرقام، حيث يتم تحطيم آمالهم بشكل يومي بسبب القمع وسوء المعاملة والظلم الذي لا يبدو أن هناك نهاية له في الأفق.
لكن من ناحية أخرى لماذا لا تقوم إسرائيل بشن حرب شاملة ضد الفلسطينيين؟ إن التفاوت في القوة العسكرية بين الجانبين هائل. يستطيع الجيش الإسرائيلي بسهولة سحق أي مقاومة في غضون أيام، إن لم يكن ساعات. غير أن خيار الاحتلال الإسرائيلي للقطاع تم استبعاده من قبل الرئيس الراحل، آرييل شارون، الذي لم يكن بالتأكيد صديقا للفلسطينيين، حين نفذ، في عام 2005، قرار سحب المستوطنين الإسرائيليين بالقوة وفك الارتباط مع غزة وإغلاق الحدود. في الواقع كان شارون قد أدرك أنه في الوقت الذي يمكن للجيش الإسرائيلي أن يسحق بسهولة الفلسطينيين عسكريا، فإنه السيطرة على غزة المحتلة شيء آخر، كما أنه سيكون من المستحيل إخراج جزء كبير من السكان العرب دون ارتكاب جريمة إبادة جماعية أمام أعين العالم.
قطاع غزة عبارة عن قطاع من الأرض يبلغ طوله حوالي 40 كلم وعرضه ما بين 06 و12 كلم، وهو محصور بين إسرائيل ومصر والبحر الأبيض المتوسط. إنه ثالث أكثر المناطق المأهولة بالسكان والمحاطة بحدود في العالم (بعد سنغافورة وهونغ كونغ) مع أكثر من 5000 نسمة في الكيلومتر مربع. إن المنطقة العازلة الإسرائيلية الواسعة داخل قطاع غزة تجعل الكثير من الأراضي محظورة على الفلسطينيين. ومن المتوقع أن يرتفع عدد السكان إلى 2.1 مليون في عام 2020. بحلول ذلك الوقت، قد تصبح غزة غير قابلة للعيش، إذا استمرت الاتجاهات الحالية.
وبسبب إغلاق الحدود الإسرائيلية والمصرية والحصار البري والبحري الإسرائيلي، فإن السكان ليسوا أحرارا في مغادرة أو دخول قطاع غزة، كما لا يسمح لهم استيراد أو تصدير السلع بحرية. كما تم تقييد الصيد حتى 06 أميال بحرية، بينما كانت اتفاقات أوسلو لعام 1993، والتي أدت إلى قيام السلطة الفلسطينية، قد سمحت بصيد الأسماك في حدود 20 ميل بحري.
تعتمد غزة على إسرائيل في كل شيء تقريبا، من الغذاء إلى الأدوية ومستلزمات المستشفيات والآلات وقطع الغيار والوقود والطاقة والمياه الصالحة للشرب. وتسيطر إسرائيل على نظام اتصالات غزة، الذي يمكنها إغلاقه في أي وقت. الانقطاعات المتعمدة في الكهرباء أو إمدادات المياه هي حدث يومي يدفع سكان غزة ثمنا باهظا له. كما أن الإغلاقات المفاجئة للحدود لها تأثير فوري وغالبا ما تستخدمها إسرائيل كسلاح ابتزاز.
لكن هناك جانب آخر لذلك الخصاص والبؤس. إنه يعزز موقف قادة حماس، الذين تشكل أجهزتهم القائمة على المحسوبية والصدقة مصدر الإغاثة الوحيد للسكان في أغلب الأحيان.
إن هدف سياسات إسرائيل هو تعزيز الشعور باليأس والعجز لدى السكان، وخاصة الشباب. هذا هو سبب التصعيد المتكرر في مستوى التعبئة والتوتر العسكري عند الحدود. ومن الواضح أن قادة حماس يعتمدون على رد الفعل غير المتناسب من جانب إسرائيل على أي احتكاك أو نزاع، مما يساعدهم على الحفاظ على سلطتهم باعتبارهم القوة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه إسرائيل في نظر قسم مهم من سكان غزة. احتمال التعرض لإطلاق النار والقتل لم يمنع مشاركة عشرات الآلاف في المظاهرات على الحدود، مما يكشف عن تصميم الشباب الفلسطيني، والذي يظهر أيضا في تزايد الضغط على قيادة حماس لتحدي الحصار.
دور حماس
ها هي الثمار المسمومة لاتفاقات أوسلو لعام 1993 تظهر الآن أمام أعيننا. لقد تم إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية لتكون فخا للفلسطينيين، وهو ما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة فتح، برئاسة ياسر عرفات، مقابل صورة كاركاتيرية لدولة فلسطينية شبه مستقلة.
في الواقع لقد تحولت السلطة الفلسطينية، على يد إسرائيل، وبالتعاون مع القيادة الفلسطينية، إلى عميل قمعي لإبقاء مختلف الفصائل الفلسطينية تحت السيطرة. تعرض العديد من الفلسطينيين الذين تمردوا ضد الشكل الجديد من الاضطهاد للاعتقال في السجون الفلسطينية. إن فساد القيادة الفلسطينية وعمليات التدخل الإسرائيلية المستمرة والبؤس الدائم الذي يعيشه غالبية العمال والشباب الفلسطينيون قد كشف سريعا حقيقة مختلفة عن تلك الأحلام التي كانت تسوقها الدعاية لمستقبل مشرق بعد إنشاء السلطة الفلسطينية.
في ظل الرأسمالية لا يمكن أبدا أن تعرف الضفة الغربية، وقطاع غزة على وجه الخصوص، أي تنمية اقتصادية، كما أن إسرائيل لن تسمح بذلك. فقط فئة صغيرة من النخبة الفلسطينية من يتمتع بالمزايا الضئيلة للوضع الجديد. إن وعد عرفات بتحويل غزة إلى سنغافورة في الشرق الأوسط يبدو الآن بمثابة مزحة سمجة بالنسبة للعديد من الفلسطينيين. ومن المثير للاهتمام أن قادة حماس -الذين ليس لديهم أي بديل حقيقي ليقدموه- يرددون الآن نفس الوعد.
في عام 2005، قرر شارون انسحاب إسرائيل الأحادي من غزة، لكن هذا لم يكن يعني ولو للحظة أن إسرائيل ستقلل من ضغطها على السكان الفلسطينيين. وفي نهاية المطاف أدى الاستياء المتزايد ضد السلطة الفلسطينية وقيادة فتح إلى فوز حركة حماس الإسلامية الأصولية في الانتخابات التشريعية عام 2006، مما أدى إلى الانقسام السياسي للسلطة الفلسطينية وفرض الحصار الإسرائيلي على غزة، الذي ما يزال مستمرا.
وقد أظهرت الجرائم البشعة التي ارتكبت خلال “حربي” غزة في 2008- 2009 و2014، حقيقة ما يسمى بعملية السلام تحت جناح الإمبريالية الأمريكية والأوروبية. أدت الحرب الأولى، التي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي اسم “عملية الرصاص المصبوب”، إلى مقتل 1400 فلسطيني و13 إسرائيليا، دون الحديث عن آلاف الجرحى وتدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية الهزيلة في غزة. وتكرر نفس السيناريو، على نطاق أوسع، في عام 2014 (حين قتل 2300 فلسطيني و73 إسرائيليا). أرقام الضحايا في حد ذاتها دليل واضح على التفاوت الهائل في ميزان القوة العسكري في تلك الحربين.
والمفارقة هو أن التهديدات الاسرائيلي المستمرة ساعدت حماس في تعزيز قبضتها على غزة وقمع المعارضة العلمانية والاشتراكية. والآن، بعد مرور 12 سنة، نشهد مرة أخرى تكرار نفس المسلسل.
كما استخدمت تهديدات حماس بمهارة من قبل الطبقة الحاكمة الإسرائيلية، ونتنياهو على وجه الخصوص، كوسيلة لتوطيد قبضتهم على المجتمع، بعد مواجهة انتقادات متزايدة وحركات معارضة لسياسات التقشف التي تفرضها الحكومة على الطبقة العاملة الإسرائيلية. لقد أدت فضائح الفساد إلى تقويض سلطة نتنياهو إلى حد كبير، وتظهر المظاهرات، التي ما تزال صغيرة نسبيا لكنها مهمة، لعشرات الآلاف من المحتجين، على مدى الأشهر القليلة الماضية، ضد سياسة الحكومة بشأن الهجرة وضد الفساد، أن هناك إمكانية لاندلاع تحركات أقوى ضد الحكومة.
وأدى إطلاق النار على المتظاهرين العزل في غزة وموقف التحدي الذي يتبناه الشباب الفلسطيني إلى تقويض مصداقية الحكومة.
إن أزمة الرأسمالية في إسرائيل تخلق الأساس لمزيد من الغليان في المنطقة، مما سيضع على جدول الأعمال، مرة أخرى، الحاجة إلى توحيد نضال الفلسطينيين داخل إسرائيل وفي الضفة والقطاع مع نضال الطبقة العاملة والشباب الإسرائيليين ضد سياسة التقشف والحرمان والفوارق الطبقية التي تفرضها النخبة الحاكمة الإسرائيلية بوحشية.
عنوان النص بالإنجليزية:
Massacre on Gaza border reveals brutality of Israeli ruling class