غالبا ما يكون مصير القادة الثوريين بعد وفاتهم، أن يبدأ أولئك الذين قاموا بمهاجمتهم وذمهم طيلة حياتهم، بكيل الثناء لهم، في نفس الوقت الذي يقومون بتشويه وتمييع أفكارهم، ليحولوها إلى شيء غير مؤذ، بنفس الطريقة التي يتم بها تدجين حيوان بري.
عندما توفي كارل ماركس، بدأ بعض من كانوا يدعون أنهم من أتباعه، في تفسير أفكاره بطريقة تفرغها من كل محتواها الثوري. كان أشخاص كبرينشتاين وكاوتسكي يقدمون أنفسهم كـ “تلامذة حقيقيين” لماركس بينما كانوا ينشرون التحريفية والإصلاحية، تحت قناع “الأفكار الجديدة”.
يحب هؤلاء دائما أن يظهروا وكأنهم يدافعون عن “أفكار جديدة”، في مقابل “الأفكار القديمة” للاشتراكية الثورية. هذا هو الحال في أيامنا هذه مع هاينز ديتريخ، الذي زعم أنه اخترع نظرية جديدة تماما ومبتكرة: “اشتراكية القرن الواحد والعشرين”.
في قصة “ألف ليلة وليلة” الشهيرة، كان الساحر الشرير يتجول وهو ينادي: “استبدل المصابيح القديمة بأخرى جديدة!”، فقامت زوجة علاء الدين بحماقة بإعطائه المصباح القديم، لكن القيم، مقابل آخر جديد لكنه عديم القيمة. ينطبق نفس الشيء على ما يفترض أنها نسخة “جديدة” للاشتراكية، والتي عند التدقيق فيها عن قرب، تظهر غير جديدة إطلاقا، وإنما مجرد نسخة سيئة مقلدة عن الأفكار القديمة لبرودون والاشتراكيين الطوباويين القدامى، التي حطمها ماركس قبل 150 سنة.
لم يدّع لينين أبدا أنه اخترع عقيدة “جديدة ومبتكرة”. بل على العكس قضى كل حياته يدافع عن أفكار ماركس وإنجلز “القديمة” ضد التحريفيين. لكن بعد وفاته، قام ستالين وأنصاره بتحريف أفكاره لتبرير اغتصاب السلطة من طرف فئة بيروقراطية في الإتحاد السوفياتي.
قام ستالين بتحنيط جثة لينين ووضعها في ضريح كما لو كانت أيقونة دينية. وقد احتجت أرملة لينين، كروبسكايا، بمرارة قائلة: «لقد ناضل فلاديمير إليتش ضد الأيقونات طيلة حياته، وها هم قد حولوه الآن إلى أيقونة».
ماذا سيكون مصير هوغو تشافيز؟ هل ستدفن أفكاره معه؟ وهؤلاء الذين يلقون الآن خطابات الثناء حوله، هل يدافعون حقا عن أفكاره وهل يقومون بتطبيقها؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه اليوم كل مؤيد مخلص للثورة البوليفارية.
خطر الثورة المضادة
شيء واحد يبقى واضحا للجميع، وهو أن الثورة البوليفارية، وبعد ستة عشر سنة على انطلاقها، في خطر. لقد نزلت القوات المعادية للثورة إلى الشوارع، حيث تقوم بأعمال الشغب وتتسبب في الفوضى، كما فعلت في سنة 2002. وخلف جحافل البورجوازية الصغيرة المسعورة، وشباب الفئات العليا من الطبقة الوسطى ورعاع حثالة البروليتاريا، تقف الأوليغارشية وتحرك الخيوط. وخلف الأليغارشية تقف واشنطن. تحاول البرجوازية بواسطة عنف البلطجية المسلحين والعصابات الفاشية في الشوارع، الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا. هذا أحد جوانب الهجوم الرأسمالي.
أما الجانب الثاني فهو محاولة شل الحياة الاقتصادية للبلاد عن طريق التخريب. إنهم يقوِّضون الاقتصاد عن طريق إضراب الرأسمال. إنهم يستنزفونه من خلال المضاربة والنهب، ويتسببون في الخصاص بواسطة الاحتكار.
ورغم أنهم يتحدثون دائما عن الديمقراطية، فإنهم ليسو مستعدين للخضوع لإرادة الأغلبية. إنهم لن يتصالحوا أبدا مع حكومة تطبق سياسات في مصلحة الشعب. فإذا لم نكن قد تعلمنا هذا الدرس طيلة ستة عشر سنة، فإننا لن نتعلمه أبدا. لقد حان الوقت لإنجاز المهمة بشكل كامل.
في مواجهة تهديد الثورة المضادة، دعا الرئيس مادورو الطبقة العاملة إلى الاتحاد والتحرك للدفاع عن الثورة. لقد طلب منها “تعزيز الميليشيات العمالية”. ودعم تأسيس لجان لمناهضة الانقلاب. إن مثل هذه التدابير صحيحة وضرورية جدا. لكن رغم ذلك يجب طرح السؤال التالي: لماذا ما تزال الثورة، بعد كل التقدم الذي وصلت إليه، معرضة للخطر؟ لماذا، بعد كل هذا الوقت، ما تزال الثورة مهددة بالرجوع إلى الوراء؟
سيزعم الإصلاحيون بأن المشكل هو أن الثورة قد سارت أبعد مما يجب، وأنه عليها تقديم تنازلات “للمعارضة المعتدلة” وكسب دعم الطبقة الوسطى. منذ وقت ليس ببعيد، كانت القيادة البوليفارية نفسها تنشد “السلام و الحب”، وكانت تحاول كسب مودة المعارضة، مثلها مثل شخص يحاول تهدئة كلب شرس بدغدغة بطنه. لكن هذا الكلب بالتحديد للأسف يمتلك أسنانا حادة جدا ومزاجا سيئا.
كان الرومان القدماء يقولون: (“Si pacem vis, para belllum”)، “إذا كنت تريد السلام فاستعد للحرب”. هذه نصيحة جيدة جدا! إن الحرب بين الطبقات أكثر قساوة من الحرب بين الدول. لا يمكن حل التناقض بين الأغنياء والفقراء، بين الظالمين والمظلومين، بين المستغِلين والمستغَلين، بواسطة الكلمات والخطابات الجميلة. لا يمكن حله إلا من خلال الصراع الطبقي، وويل لمن يتعرض للهزيمة!
هذه الحقيقة واضحة للجميع. ومع ذلك، ليس هناك أسوء من بصير يرفض أن يرى. وليس هناك أسوء من الإصلاحيين الذين يعتبرون أنفسهم واقعيين، لكنهم في الحقيقة أسوء أنواع الطوباويين. ففي بعض الأيام يناشدون الجماهير لتتحرك من أجل الدفاع عن الثورة وفي اليوم الموالي تقوم الحكومة بالدعوة إلى المصالحة مع أعدائها، وتقدم تنازلات في ما يتعلق بالحصول على العملة الأجنبية وأمور مشابهة.
هل ينجح هذا التكتيك “الذكي”؟ هل سبق له أن نجح؟ لا إنه لم ينجح أبدا! بل على العكس، كل تاريخ الثورة البوليفارية منذ 2002 يؤكد بشكل مطلق أن كل محاولات استرضاء المعارضة عن طريق التنازلات والحوار تؤدي بالضبط إلى النتيجة المعاكسة لما هو مطلوب. يفسر أعداء الثورة ذلك بأنه علامة ضعف، والضعف يجلب الاعتداء.
ماذا حدث لمنظمي الانقلاب في 2002 والتخريب في 2003؟ معظم قادة المعارضة المعادين للثورة أخلي سبيلهم وهم يمثلون الآن القادة الأساسيين للهجوم الرجعي الحالي. لم يتم اتخاذ أية تدابير في حق المسؤولين عن التحريض الذي انتهى بقتل 11 شخصا على الأقل بعد فوز مادورو الانتخابي في 15 أبريل 2013. والرسائل التي تخرج من قصر ميرافلوريس غير واضحة ومتناقضة. لكن الوضع لا يقبل الغموض. هناك الحاجة إلى قيادة واضحة وجريئة.
سرطان البيروقراطية
طيلة سنوات تواجد تشافيز في السلطة اتهمه أعدائه بالكثير من الأمور. لكن لم يحاول أحد أبدا اتهامه بالفساد. أي شخص يعرفه، ولو معرفة سطحية، يمكنه أن يرى فورا أنه كان رجلا غير قابل للإفساد. لقد كان يناضل، ليس من أجل الإثراء الشخصي، وإنما من أجل الاشتراكية.
قبل بضع سنوات أجريت محادثة مثيرة للاهتمام مع الرئيس، عندما دعاني لمرافقته في حملته الانتخابية في جزيرة مرغريتا. في أوج حماس الجماهير، استدار الرئيس نحوي وقال لي: «أنظر آلان، رغم كل أخطاء الثورة البوليفارية، هذه الثورة ما زالت حية».
كان يبدو ذلك واضحا في الحشود التي كانت تحيط بالسيارة وهم يهتفون: “عاش تشافيز!”. في تلك اللحظة انقطعت المحادثة بسبب هتافات وتصفيقات الجماهير، الذين أحاطوا بالسيارة مرة أخرى وأبطئوا سيرها من أجل الوصول إلى الرئيس والتعبير له عن دعمهم وقبلاتهم وطلباتهم. ورغم ذلك، كان من الواضح أن تشافيز كان قلقا بشأن بعض الأمور. وقد استدار نحوي بنظرة مليئة بالإحباط وقال: «هل ترى كل هذا؟ ورغم ذلك لم نستطع الفوز بمنصب الحاكم هنا». وفي إشارة إلى المرشح وليام فارينياس، سألني: «آلان، إذا ما تم اختيار هذا الرجل، ماذا عليه أن يفعل؟». فأجبته فورا: «عليه أن يستمع إلى الناس، أن يفهم رسالتهم وينجز العمل». ”
بالضبط”، قال تشافيز، «لكن هذا هو المشكل الذي نواجهه. بعض الحكام، بعد أن يتم اختيارهم يفقدون الاتصال مع القاعدة. إنهم يحيطون أنفسهم برجال أغنياء ونساء جميلات، الخ وينسون الشعب. هذا مشكل إيديولوجي. وطالما لم نمتلك حكاما مكونين إيديولوجيا، سنعاني دائما من نفس المشكل. علينا أن نفوز بمعركة الأفكار. أنت كاتب جيد، لما لا تكتب بعض الكراريس لتوضح أفكار الاشتراكية بطريقة سهلة؟ ويمكننا توزيعها هنا على أوسع نطاق».
أجبته: «أجل، يمكنني فعل ذلك، وأنا متفق على أن هناك ضرورة لخوض نضال إيديولوجي داخل الحزب، لكن هناك الحاجة أيضا لآليات لممارسة الرقابة من الأسفل». عند هذه النقطة، ولأول مرة بدا صوت الرئيس متعبا، وقال: «أنا لا أستطيع القيام بكل شيء، من الضروري أن يشارك الشعب في هذه العملية وأن يأخذ السلطة بيده».
كتبت آنذاك: “هذه بعض تناقضات الثورة التي يجب حلها”. لكن بعد سنة على وفاة هوغو تشافيز، ما تزال المشاكل التي كانت تقلقه كثيرا لم تحل بعد. بل على العكس، صارت أكثر عمقا وأكثر انتشارا.
طالما كان تشافيز على قيد الحياة كان على البرجوازيين والبيروقراطيين إبقاء رؤوسهم مطأطئة. لقد كانوا مجبرين على إخفاء وصوليتهم تحت القميص الأحمر. وتعلموا الهتاف في الاجتماعات العامة ومؤتمرات الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد: “عاش تشافيز! عاشت الثورة!”. وكانوا دائما يهتفون بصوت أعلى من الجميع. لكنهم كانوا طوال الوقت يعملون من أجل إسقاط تشافيز وتقْويض الثورة. كانوا يبدون الاحترام والولاء للرئيس في حضوره، لكنهم كانوا يهمسون وراء ظهره: “ما كل هذه التفاهات حول الاشتراكية؟ إن هذا الرجل لا يعرف عن ماذا يتحدث. إنه طوباوي ميؤوس منه”، الخ. وخلف الكواليس كانوا يخوضون الحرب ضد تشافيز وضد اليسار. لقد كان الوزراء اليساريون والمناضلون اليساريون، يتعرضون بشكل ممنهج للعزل والإبعاد والحصار.
كان تشافيز يستمد إلهامه دائما من ارتباطه بالجماهير الثورية، وكان بدوره يلهمها بطريقة لم يكن أي زعيم بوليفاري آخر قادرا عليها. إن البيروقراطيين، الذين ليس لهم أي ارتباط بالجماهير ولا يعرفون مشاكلها، والذين كل حياتهم تمر من مكتب مكيف إلى أخر، يخافون الجماهير كما يخافون الطاعون. لقد كانوا دائما يحسون بعدم الارتياح خلال لقاءات تشافيز مع الجماهير، وكانوا يفعلون كل ما في وسعهم للحد منها. كانوا يتصرفون كغربال ضيق الثقوب لمنع وصول القواعد والمناضلين واليساريين للقاء الرئيس.
طوال حياته، كان الرئيس محاطا بسياج حديدي من البيروقراطيين الذين كانوا يقومون بطريقة ممنهجة بعرقلة قراراته ومنع أية إمكانية لوصول الماركسيين واليساريين إليه. لقد رأيت ذلك بأم عيني، ليس أمس، بل قبل عشر سنوات، عندما كان تشافيز في أتم صحة. أنا نفسي كنت ضحية هذا خلال عدة سنوات وكنت شاهدا على التخريب الذي كان يتم بشكل متطرف من قبل الشرذمة التي كانت تحيط بتشافيز. لقد حاولوا بكل الطرق تفادي اتصالي به، على الرغم من أنهم لم ينجحوا دائما في ذلك. لقد قيل لي صراحة: “لا نريدك أن تتحدث إلى الرئيس”. ولم تكن تجربتي هي الوحيدة من نوعها.
والآن بعدما رحل تشافيز، تم حل المشكل. فالناس الذين أسماهم تشافيز بالبيروقراطيين المعادين للثورة، يحسون الآن بأنه يمكنهم العمل بدون قيود. إنهم يحسون بأنهم الأسياد. هذا خطر على الثورة. إن البيروقراطية سرطان ينخر الثورة من الداخل، وتلتهمها من الداخل مثل دودة شريطية ضخمة.
تحويل الدفة[1]
تستغل المعارضة اليمينية جميع المشاكل والصعوبات، وتبالغ في تضخيمها للنيل من اسم الثورة. طبعا علينا دحض أكاذيب المعارضة والنضال ضد المؤامرات المعادية للثورة. لكن المشكلة تنشأ عندما تكون إحدى المشاكل التي يحاول اليمين استغلالها واقعية، إلى حد ما على الأقل.
بعد ستة عشر سنة على انطلاق الثورة تم تحقيق تقدم كبير على المستوى الاجتماعي. من المهم جدا الدفاع عن هذه المكتسبات ومحاربة أعداء الثورة. لكن هل يمكن القول بصدق إن أهداف الثورة قد تحققت بعد ستة عشر سنة؟ لم يكن هوغو تشافيز يعتقد ذلك، وكذلك نحن.
إنه لم يلق خطابات ودودة تهدف إلى تهدئة البيروقراطيين، بل إنه، على العكس من ذلك، عبر عن سخطه وإحباطه من الطريقة التي تسير بها الأمور. ويمكن رؤية هذا بوضوح في خطابه الأخير أمام مجلس الوزراء، والذي نشر تحت عنوان: Golpe de Timon (تحويل الدفة/ تغيير الاتجاه).
في 20 من أكتوبر من سنة 2012، وبعد أيام على الفوز في الانتخابات الرئاسية بـ 56% من الأصوات، عقد الرئيس تشافيز الاجتماع الأول لمجلس الوزراء، والذي انتقد خلاله بشدة عدم إحراز أي تقدم في الثورة وطلب من وزرائه أن يقوموا بنقد ذاتي لأخطائهم.
كانت النقطة التي ركز عليها في انتقاداته هي أنه لم يتم القيام بما يكفي لتعزيز الإدارة الديمقراطية للمجتمع عن طريق الكومونات. ويقصد بالكومونات أجهزة الرقابة والإدارة الشعبية الديمقراطية. ومن الجدير الاستشهاد بكلامه في هذا الصدد :
«ثم نصل إلى قضية الديمقراطية، إن الاشتراكية ديمقراطية بشكل مطلق في جوهرها، بينما الرأسمالية في جوهرها معادية للديمقراطية واقصائية ومبنية على سيطرة الرأسمال والنخب الرأسمالية. وعلى النقيض من ذلك إن الاشتراكية تحرر؛ الاشتراكية هي الديمقراطية والديمقراطية هي الاشتراكية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
«هناك بعض العوامل الحاسمة في عملية الانتقال: أحدها هو تحويل القاعدة الاقتصادية للبلاد لجعلها ديمقراطية في جوهرها، لأن القاعدة الاقتصادية لبلد رأسمالي ليست ديمقراطية، إنها معادية للديمقراطية، إنها اقصائية وبالتالي تراكم الثروة والثروة الهائلة للأقلية، للنخبة، للبورجوازية الكبيرة، للمحتكرين الكبار، وفي نفس الوقت تعمم الفقر والبؤس بالنسبة للأغلبية.»
في ذلك الخطاب أكد تشافيز على فكرة محورية وهي أن المجتمع يجب أن يقوم بتغيير جذري، لا سواء في علاقات الإنتاج أو في هياكل الدولة. لقد أكد تشافيز على أن الرأسمالية هي العبودية، وأن الاشتراكية لا يمكن أن تبنى إلا عن طريق القضاء جذريا على الرأسمالية؛ أو بعبارة أخرى: عن طريق الثورة.
وقال بمرارة إن الكومونات لم تنشئ بالرغم من وجود وزير للكومونات. وخرج الرئيس بالاستنتاج الصحيح التالي: «لأن العديد من الناس يظنون بأنه يعود إلى هذه الوزارة تشكيل الكومونات. إن هذا خطأ كبير نقوم بارتكابه. دعونا لا نستمر في ارتكابه بعد الآن». وأضاف قائلا: «تعني الكومونة الآن السلطة الشعبية، إنها لا تعني السلطة من ميرافلوريس ولا من مقر هذه الوزارة أو تلك، حيث سنحل المشاكل.»
من الخطأ الفادح الاعتقاد بأنه يمكن بناء السوفييتات عن طريق أوامر إدارية، من فوق، من الوزارات. حتى ولو كانت لدا الوزراء مصلحة في إنشاء السوفييتات (وهي ليست لديهم طبعا)، فإنهم لن يعرفوا من أين سيبدأون. إن العقلية البيروقراطية لمسؤولي الدولة، بسلوكهم الاحتقاري “لعامة الناس” لا تجعلهم فقط مرتابين في القوة الخلاقة للجماهير، بل تجعلهم أيضا معادين لها بشكل نشيط.
الكومونات والسوفييتات
تحيلنا فكرة الكومونة إلى كومونة باريس 1871، التي كانت المثال لأول دولة عمالية في العالم. لقد كانت الكومونة حلقة مجيدة في تاريخ الطبقة العاملة العالمية. فهناك لأول مرة، أطاحت الجماهير الشعبية، تحت قيادة العمال، بالدولة القديمة، وبدأوا، على الأقل، عملية تحويل المجتمع. بدون خطة عمل واضحة ولا قيادة ولا منظمة، أبانت الجماهير عن مستوى مبهر من الشجاعة والمبادرة والإبداع. لقد تتبع ماركس وإنجلز عن قرب التطورات في فرنسا، واستندا على هذه التجربة من أجل تطوير نظريتهما حول “ديكتاتورية البروليتاريا”. وسيرا على خطواتهما اتخذ لينين من كومونة باريس نموذجا لسلطة العمال في روسيا :
«لقد ظهرت الكومونة بشكل عفوي. لا أحد حضر لها بوعي بطريقة منظمة. فالحرب الفاشلة مع ألمانيا، والحرمان الذي تسبب فيه الحصار، والبطالة بين صفوف البروليتاريا، والخراب بين صفوف الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى، وسخط الجماهير ضد الطبقات العليا وضد السلطات التي أبانت عن عجزها التام، والقلق الغامض بين صفوف الطبقة العاملة، التي كانت غاضبة من وضعها وكانت تبحث عن نظام اجتماعي مختلف، والتركيبة الرجعية للجمعية الوطنية، مما خلق المخاوف على مستقبل الجمهورية ـ كل هذا والعديد من العوامل الأخرى، دفع سكان باريس إلى الثورة في 18 مارس، الشيء الذي وضع السلطة بطريقة غير متوقعة في يد الحرس الوطني وفي يد الطبقة العاملة، والبورجوازية الصغيرة التي انحازت إلى جانبهم.» (لينين، في ذكرى الكومونة)
إن الجماهير تتعلم دائما من الحياة، وليس من الكتب. بالطبع، إنها مهمة التيار الثوري التحضير بشكل مسبق والعمل على تكوين و تثقيف الكوادر. لكن على هذه الكوادر أن تكون قادرة على إيجاد الطريق نحو الجماهير. يعتقد البيروقراطيون أنفسهم دائما أشخاصا أذكياء يتواجدون على رأس جماهير “جاهلة”. إنهم ينظرون إلى العمال دائما كأطفال صغار لا يصلحون سوى لتلقي الأوامر “من فوق”. يا للاختلاف الكبير بينهم وبين ماركس وإنجلز اللذان دون أن يسقطا في تمجيد الكومونة ولا في إغماض أعينهما عن ارتباكها ونواقصها وأخطائها، فإنهما تمكنا، مند الوهلة الأولى، من إدراك معناها!
ليس لموقف هوغو تشافيز أية علاقة مع موقف هؤلاء البيروقراطيين المتغطرسين. لقد كان يعرف أنه من دون الكومونات ـ أي، من دون المشاركة الواعية للطبقة العاملة في تسيير الصناعة والمجتمع والدولة، فإن الاشتراكية ستكون مجرد كلمة فارغة على شفاه مسؤول.
ورغم كل التقدم الأكيد الذي تحقق خلال الستة عشر سنة الأخيرة، فإن الدولة في فنزويلا ما تزال دولة رأسمالية، تمت صباغتها ببعض الطلاء “الاشتراكي”. إن العديد من المسؤولين ينتمون إلى الجمهورية الرابعة، ومن بين المسؤولين الجدد يوجد العديد من الوصوليين الذين يقدمون ولاء شكليا للثورة من أجل الحفاظ على مناصبهم، لكن يمكنهم تغيير موقعهم غدا في حال نجاح الثورة المضادة.
تعمل البيروقراطية كحصان طروادة داخل جهاز الدولة. قال ماركس: “إن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي”. ومن الواضح أن مسؤولا يكسب ملايين البوليفارات سيتصرف كرأسمالي. كيف يمكن إلغاء هذه الدولة الرأسمالية البيروقراطية واستبدالها بدولة تحت سلطة العمال والفلاحين والشعب؟ لقد أعطى لينين الجواب عن هذا السؤال من خلال الشروط الأربعة للدولة العمالية، التي استخرجها من تجربة كومونة باريس:
- الانتخابات الديمقراطية وحق عزل جميع الموظفين العموميين
- لا جيش دائم بل الشعب المسلح
- لا يمكن لأي مسؤول أن يتقاضى أجرا أكثر من أجرة عامل مؤهل
- التناوب تدريجيا على جميع الوظائف. وكما قال لينين :”إذا أصبح الكل بيروقراطيا فلن يبق أحد بيروقراطيا”.
أدت ثورة أكتوبر 1917 إلى صعود حكومة ثورية جديدة إلى السلطة، والتي استمدت سلطتها من مؤتمر السوفييتات. كانت المهمة الأكثر إلحاحا أمام الحكومة هي نشر سلطة السوفييتات ـ سلطة الطبقة العاملة – في كل روسيا. في 05 يناير من 1918، أصدرت الحكومة قرارا ينص على أن السوفييتات المحلية قد صارت منذ إذ تمتلك كل السلطة التي كانت في يد الإدارة السابقة، وأضاف: “ينبغي تغطية البلد بأسره بشبكة من السوفييتات الجديدة.”
في الأصل كان السوفييت ـ الشكل الأكثر ديمقراطية ومرونة للتمثيل الشعبي- مجرد لجنة إضراب موسعة. اكتسبت السوفييتات (أو مجالس العمال) التي نشأت من رحم النضال الجماهيري، انتشارا واسعا جدا، وفي أخر المطاف تحولت إلى أجهزة للحكومة الثورية. كان المندوبون منتخبين على كل المستويات، وكانوا خاضعين للعزل الفوري من طرف الجماهير التي انتخبتهم. ولم يكن أي مندوب أو موظف يتقاضى أجرا أكثر من أجرة عامل مؤهل. ولم تكن هناك نخبة بيروقراطية.
ومثل تشافيز، كان لينين مهتما بانخراط الجماهير في إدارة الصناعة والدولة. في نوفمبر 1917، كتب النداء التالي في صحيفة برافدا:
«أيها الرفاق، أيها الشعب العامل! تذكروا بأنكم الآن أنتم أنفسكم من يتحكم في الدولة. لا أحد سيساعدكم إذا لم تتوحدوا أنتم أنفسكم وتأخذوا كل شؤون الدولة بين أيديكم… ابدؤوا العمل بأنفسكم، ابدؤوا فورا من الأسفل، لا تنتظروا أحدا». (لينين: الأعمال الكاملة –الطبعة الانجليزية- المجلد 26، الصفحة: 297)
وفي دجنبر سنة 1917، كتب قائلا:
«إن واحدة من المهام الأكثر أهمية اليوم، إن لم تكن الأهم، هي تطوير المبادرة المستقلة للعمال، ولكل الشعب الكادح والمستغَلين عموما، وتطويرها بأوسع ما يمكن بعمل إبداعي منظم. علينا مهما كان الثمن تحطيم الحكم المسبق القديم المتوحش والخسيس والمثير للاشمئزاز، والقائل بأنه فقط الطبقات العليا، فقط الأغنياء ومن درس في مدارس الأغنياء، هم القادرون على تسيير الدولة وإدارة التطوير المنظم للمجتمع الاشتراكي». (لينين: الأعمال الكاملة –الطبعة الانجليزية- المجلد 26، الصفحة: 409)
لقد تعرض النظام الديمقراطي الذي أسسه لينين وتروتسكي للتصفية على يد ستالين واستبدل بكاريكاتور بيروقراطي متوحش. للأسف، العديد من “كوادر” الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد، هم أنفسهم ستالينيون قدماء تعلموا في المدرسة الستالينية “الماركسية ـ اللنينية” ولم يفهموا أبدا أو يقبلوا فكرة لينين عن الديمقراطية العمالية. ولسنوات عديدة أعطى هؤلاء الأشخاص دعمهم اللامشروط لسلطة البيروقراطية الستالينية، وبرروا كل جرائمها. كان ذلك سيئا بما فيه الكفاية، لكن ومع سقوط الإتحاد السوفياتي وصلوا إلى الخلاصة الخاطئة القائلة بأن الاشتراكية غير صالحة وتبنوا الرأسمالية.
لقد صار هؤلاء “الشيوعيين” السابقين أسوء فئات الإصلاحيين، مع احتفاظهم بكل النزعات البيروقراطية الستالينية القديمة. وبعد تخليهم نهائيا عن المنظور الاشتراكي، لم تعد لديهم أية ثقة في الطاقة الإبداعية للطبقة العاملة، ولا أية ثقة في قدرتها على تسيير الصناعة والمجتمع. وهذا هو بالضبط عكس ما كان يدافع عنه هوغو تشافيز.
تخريب الرقابة العمالية
إن البيروقراطيين أبعد ما يكونون عن تشجيع أشياء من قبيل السلطة العمالية والتسيير الذاتي، والتي هي نقطة الانطلاقة من أجل الرقابة الديمقراطية الحقيقية للمجتمع الاشتراكي، فهم يشنون الحرب ضدها وفعلوا كل ما بوسعهم لسحقها.
المشكلة هي أن البيروقراطيين في الوزارات قاموا بقمع بذور السلطة الشعبية والرقابة العمالية و القضاء عليها في بوليفار والعديد من المناطق الأخرى. هذا السلوك الذي يناقض موقف تشافيز، الذي تبنى بإخلاص فكرة الرقابة العمالية عندما اقترحها العمال أنفسهم، تسبب في تثبيط عزم العديد من المناضلين القاعديين، و بالتالي في إضعاف الثورة وفي نفس الوقت قوَّى موقف الرجعية.
وحتى عندما طرح قانون العمل الجديد (LOT) تم التخلي عن تنظيم مجالس العمال بسبب معارضة البيروقراطية له. في جميع الأحوال، إن الطريقة الوحيدة لبناء مجالس العمال تأتي من الأسفل، عبر العمل والمبادرة المباشرين من طرف العمال أنفسهم. لكنهم هنا يتواجهون مع المقاومة النشطة من طرف البيروقراطية ـ بما في ذلك البيروقراطية النقابية.
إن موقف قادة مركز العمال الاشتراكيين البوليفاريين (CBST) من إنشاء مجالس العمال هو العداء الصريح. رئيس (CBST)، ويلس رانجيل، زعم أن الرقابة العمالية على شركات الدولة وغيرها من أماكن العمل الأخرى “لن تخلق سوى المزيد من الانقسام”. لقد نسي رانجيل بأن الرقابة العمالية هي من أنقذ الثورة في فترة التخريب الذي قام به أرباب العمل سنتي 2002/2003. وقد أثبتت التجربة بأنه عندما تتاح للعمال الفرصة لتسير مصانعهم، يتزايد الإنتاج بشكل كبير.
توجد في فنزويلا حركة نشيطة من أجل الرقابة العمالية، مستندة جزئيا إلى تجربة المصانع المحتلة مثل إيناف وإينفيفال وغوتشا. لكن في الآونة الأخيرة، لا يمكن للسلطة العمالية أن تنجح إلا إذا تحولت إلى حركة واسعة لمصادرة جميع القطاعات الأساسية للاقتصاد، وخاصة البنوك، والصناعات الكبرى، وبناء اقتصاد اشتراكي مخطط تحت الرقابة والإدارة الديمقراطية للطبقة العاملة.
الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد
في كل أنحاء البلاد يعمل البيروقراطيون والاصلاحيون، أي أولئك البوليفاريين الذين يلبسون قمصان حمراء، لكنهم في الحقيقة يخدمون قضية البورجوازية داخل الحركة، كل ما في وسعهم لخنق وتخريب المبادرة الثورية للجماهير، مثلما فعلوا كل شيء لعرقلة وتخريب المبادرة الثورية للرئيس تشافيز عندما كان على قيد الحياة.
لقد أسس الرئيس تشافيز الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد من أجل تغيير المجتمع لصالح أغلبية الشعب الفنزويلي، أي: العمال والفلاحين والفقراء والمحرومين. لم يكن هدفه من وراء تأسيسه أن يكون وسيلة لخدمة الوصوليين. يوجد استياء واسع بين صفوف القواعد البوليفارية نظرا للطريقة التي يتم التحكم بها في الحركة من فوق من طرف البيروقراطيين على جميع المستويات. عملية اختيار المرشحين للانتخابات، مثلا، خلقت مشاكل خطيرة في العديد من المناطق، حيث ترشح مرشحون ثوريون ضد المرشحين الرسميين.
أرسل الرئيس مادورو دعوات إلى الوحدة والانضباط. ونحن بطبيعة الحال مع الوحدة والانضباط، لكن هذا غير ممكن إلا من خلال ضمان تحقيق أقصى حد من الديمقراطية الداخلية. يجب أن يكون في المؤتمر نقاش عام وحر للأفكار والاختلافات. ويجب أن تكون قيادة الحزب ممثلة حقا للقاعدة. فقط حينها يصير من الممكن دعوة المناضلين إلى الوحدة والانضباط. لكن التوقعات بخصوص المؤتمر المقبل للحزب لا تبدو جيدة. لقد تم الإعلان عن أن نصف المندوبين سيكونون من رؤساء البلديات وحكام الولايات. إن القواعد يتم تنحيتها جانبا من طرف الوصوليين والباحثين عن المناصب.
كتب خورخي مارتن ما يلي:
«منذ الانتخابات الرئاسية، أبريل 2013، تمت تنحية مجموعة من الصحفيين البوليفاريين الراديكاليين واليساريين البارزين من القنوات التلفزية والإذاعية الحكومية، دون تقديم أي تفسير. هناك شعور بأن الأمر يتعلق بتنازلات قدمت لوسائل الإعلام المعارضة من أجل أن تخفف نبرة نقدها للحكومة. لكن مهما كانت الحقيقة، فإن النتيجة واضحة: الأصوات اليسارية النقدية يتم إسكاتها أو يتم منعها من الوصول إلى أوسع الجماهير. لن تنجح أي من هذه التنازلات في دفع المعارضة إلى الاعتدال، بل إنها على العكس، قد تحبط العناصر الأكثر نشاطا في صفوف الحركة الثورية.»
وفي الوقت الذي تظهر فيه البيروقراطية أقصى أشكال الليونة تجاه الفاسدين من المسؤولين وضباط الجيش، ومن على شاكلتهم، لا تتردد في قمع اليسار. والمصير الذي لاقاه صديقي إدواردو سمعان هو مثال واضح عن هذا. إدواردو معروف بأنه رجل يتميز بصدق ونزاهة لا شك فيهما، وبأنه أحد المؤيدين الأوفياء للثورة البوليفارية الاشتراكية. إنه يحظى باحترام وإعجاب الجماهير بفضل حملته القوية ضد الحرب التي تخوضها البورجوازية من أجل تخريب الاقتصاد.
لكن هذا الإعجاب لا يتقاسمه الطابور الخامس البوليفاري الذي يكرهه. سمعان الآن قد عزل مرة أخرى من منصبه وطرد من دون أي تفسير. كما تعرض العديد من النشطاء الصادقين الآخرين للتهميش والطرد أو العزل من مناصبهم. إن هذه الممارسات من طرف الإصلاحيين هي ما يقوض الثورة. إنهم يزرعون الإحباط والشك بين الجماهير، ولهذا تأثير مدمر على نفسية المناضلين التشافيزيين. هذا ما ينخر الثورة من الداخل ويمهد الطريق أمام الثورة المضادة.
يجب إتمام عمل تشافيز!
أتذكر بشكل جيد خطاب الرئيس تشافيز عندما أعلن لأول مرة أنه اشتراكي. أتذكر كيف وقف الآلاف من أنصار تشافيز بالقمصان الحمراء ليهتفوا ويصفقوا له. لكنني لاحظت أيضا بأن هذا الحماس لا يتقاسمه كل الوزراء البوليفاريين. كانت هناك بعض الوجوه المكفهرة، حتى من بين من هم فوق المنصة. لم يكن الجميع، على ما يبدو، مؤيدين لأجندة الثورة الاشتراكية للرئيس.
منذ اللحظة الأولى تعرض المشروع الاشتراكي الثوري لتشافيز للهجوم من جانبين: من جانب الأعداء المعروفين للثورة، ومن جانب الأعداء المتخفين داخل صفوفها. لم يتقبل الإصلاحيون أبدا فكرة الاشتراكية في فنزويلا. لكن كل التاريخ، وبالأخص تاريخ أمريكا اللاتينية، يثبت أنه لا يمكن القيام بنصف ثورة. لا يمكن للثورة أن تقف في منتصف الطريق، فإذا فعلت ذلك ستتبعها الكارثة. في ذلك الاجتماع، عندما أعلن تشافيز بحسم بأنه يؤيد الاشتراكية، عمل على توجيه نقد قاس لأولئك الإصلاحيين اللذين زعموا وجود “طريق ثالث” بين الرأسمالية والاشتراكية. وبعد أن اعترف بأنه سبق له أن آمن بهذه الفكرة، أكد بوضوح رفضه لها، واعتبرها “وهما”. وقال : «ليس هناك من طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية». وقد كان محقا في ذلك مائة في المائة.
إن واحدة من التناقضات الأساسية للإصلاحية، هي أنها تجعل من المستحيل على اقتصاد السوق الرأسمالي أن يعمل، وفي نفس الوقت لا تطبق اقتصادا اشتراكيا مخططا. وهكذا ننتهي إلى أسوء العوالم الممكنة. تمكن الاقتصاد الفنزويلي الاستمرار، لبعض الوقت، على أساس الاحتياطي الضخم من البترول. لكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. إن الفشل في تطبيق مصادرة ممتلكات الأوليغارشية حتى النهاية يجعل من المستحيل تطبيق التخطيط لقوى الإنتاج.
صحيح أنه يوجد في كاراكاس وزارة للتخطيط. لكنه لا يمكنك التخطيط لاقتصاد لا تراقبه، ولا يمكنك مراقبة اقتصاد لا تملكه. لأن المفاتيح الأساسية للاقتصاد ما تزال في أياد خاصة، أيادي البورجوازية، التي كانت دائما معادية للثورة البوليفارية، ويمكنها تخريب الاقتصاد بإعلان إضراب للرأسمال. الأموال تتدفق إلى خارج البلاد، مما يشل الاستثمار المنتج. وتحاول الحكومة الحد من هذا عن طريق تدابير رقابية. لكن هذه الإجراءات لا تعالج المشكل من جذوره، والمتمثل في أن الرأسماليين يتحكمون في القطاعات الرئيسية للاستثمار المنتج.
يمثل هذا تهديدا جديا لمستقبل الثورة. يلقي المسؤولون الأثرياء ورؤساء البلديات وحكام الولايات، من حين لآخر خطابات مليئة بالشعارات الرنانة والتفاؤل المريح. عندما تستمع إليهم تحس بأنه ليست هناك مشاكل، وليست هناك صعوبات، وأن كل شيء يتجه نحو الأفضل، في أفضل العوالم البوليفارية الممكنة. لكن الناس العاديين يرون واقعا مختلفا.
الارتفاع السريع في معدل التضخم (56,3 % كمعدل سنوي في يناير) يظهر أن الأزمة الاقتصادية تتفاقم، مثلما يظهر المحرار ارتفاع الحرارة وتفاقم المرض. ومن ناحية أخرى، هناك نقص متزايد في بعض المنتجات (سجل مؤشر الخصاص 28% في يناير). هذان العاملان يتسببان في تآكل قيمة الأجور، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة. وهذا بدوره يضع عبئا متزايدا على صبر وولاء الجماهير، ومن جهة أخرى يغضب الطبقة الوسطى ويدفعها إلى براثن الثورة المضادة.
لقد عملت الجماهير على إنقاذ الثورة خلال كل منعطف حاسم ودفعتها إلى الأمام. في عام 2002، خرجت الجماهير ـ التي هي القوة الدافعة الحقيقية للثورة – إلى الشوارع للمخاطرة بحياتها وإنقاذ الثورة، بينما بقي البيروقراطيون الجبناء مختبئين تحت أسرتهم أو سارعوا للحصول على تذكرة أول طائرة متجهة نحو الخارج. ستتمكن الثورة البوليفارية من البقاء طالما بقيت الجماهير، أي الطبقة العاملة والفلاحون والفقراء في الأرياف والمدن، أوفياء لها. لكن إيمان الجماهير في الثورة تعرض لامتحان صعب، وهذا يضع الثورة في خطر جسيم.
إن القوى الوحيدة التي تستطيع الدفاع عن الثورة هي الجماهير الثورية، والطبقة العاملة في المرتبة الأولى. وسيناضل العمال بقوة أكبر وعزم أكبر إذا هم كانوا يدافعون عن مصانعهم الموضوعة تحت الرقابة العمالية. إن البيروقراطية من خلال تخريبها لعناصر الرقابة العمالية، تتصرف كشخص يقطع فرع الشجرة الذي يجلس عليه. وفي النهاية سيقول العمال: «ما الفائدة من تلبية هذه الدعوات؟ لقد سمعنا كل هذا الكلام من قبل. إنهم يتحدثون عن الاشتراكية والثورة، لكننا لا نرى فرقا كبير بين القادة البوليفاريين والقادة السابقين».
إن الطريقة الوحيدة الفعالة للدفاع عن الثورة هي إتمام مهامها، عن طريق استبدال الدولة الرأسمالية القديمة بدولة جديدة ثورية مبنية على أساس المجالس العمالية والكومونات، ومصادرة وسائل الإنتاج لكي يتم تخطيط الاقتصاد ديمقراطيا. سيكون هذا أفضل تكريم للنضال الذي كرس هوغو تشافيز حياته له.
آلان وودز
الاربعاء: 05 مارس 2014
هوامش:
[1] بالاسبانية في النص الإنجليزي:
(Golpe de Timon) وهو مصطلح استعمله الرئيس تشافيز في خطابه أمام الاجتماع
الأول لمجلس الحكومة الجديدة آنذاك (20 أكتوبر 2013)، حيث تحدث عن ضرورة
القيام بالنقد والنقد الذاتي والفعالية وتسريع بناء الكومونات وغيرها من
خطوات بناء الاشتراكية خلال مرحلة ما بين 2013 و2019. وقد صدر الخطاب في
وثيقة تحمل نفس العنوان. -المترجم-
[2] عملة فنزويلا، البوليفار الواحد يساوي حوالي: 0.16 دولار -المترجم-
عنوان النص بالإنجليزية: