الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / شمال إفريقيا / المغرب / المغرب: ما هو موقف الماركسيين من الانتخابات؟

المغرب: ما هو موقف الماركسيين من الانتخابات؟

يكتسي نقاش الانتخابات أهمية كبيرة من وجهة نظر الماركسيين لعدة عوامل من بينها أنها تقدم نظرة عامة عن اتجاهات الرأي العام والمزاج السائد بين الجماهير إضافة إلى القوة النسبية لمختلف الأحزاب، وغير ذلك مما يمكننا من استخلاص بعض الخلاصات السياسية واقتراح تكتيكات العمل. كما أنها تقدم منبرا للتواصل مع الجماهير والدعاية للبرنامج الثوري وفضح ألاعيب السياسيين البرجوازيين وحدود الديمقراطية البرجوازية وزيفها، الخ.

والانتخابات الحالية المحلية والجهوية، المزمع تنظيمها يوم 04 شتنبر المقبل، تقدم فرصة لإعادة التأكيد على الموقف الماركسي من الانتخابات، خاصة موقف المشاركة أو المقاطعة، بناء على تحليل ملموس لمواقف التيارات السياسية اليسارية سواء المشاركة: فدرالية اليسار الديمقراطي، أو المقاطعة: النهج الديمقراطي.

بالنسبة للعصبويين يعتبر نقاش الموقف من المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها مسألة محسومة سلفا، فمن وجهة نظر بعضهم “الثوريون يقاطعون والإصلاحيون يشاركون”، ومن وجهة نظر بعضهم الآخر “المقاطعة موقف عدمي بينما المشاركة موقف عقلاني”. إن بوصلة العصبويين معطلة ولا تشير إلا إلى اتجاه واحد دائما بينما كل الاتجاهات الأخرى خطأ. لكن الواقع، مع كامل الأسف لهؤلاء السادة والسيدات، أكثر تعقيدا من هذا التبسيط الميكانيكي. الذي لا قدرة له على إيصال صاحبه لأي مكان.

لذلك من الضروري التأكيد على الموقف الماركسي الثوري من الانتخابات وخاصة الموقف من المشاركة أو المقاطعة، متى ولماذا يكون هذا الموقف أو ذاك هو الصحيح، أو العكس. وهذا هو ما سأركز عليه في هذا المقال من خلال تحليل موقف الرفاق في فدرالية اليسار الديمقراطي من جهة، وتحليل موقف الرفاق في النهج الديمقراطي من جهة أخرى، ونقد جوانب القصور فيهما معا.

فدرالية اليسار الديمقراطي وموقف المشاركة

قررت فدرالية اليسار الديمقراطي، وهي كيان سياسي مكون من ثلاثة أحزب يسارية هي الحزب الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي، المشاركة في الانتخابات الحالية وقد رفعت لحملتها شعار “كفى! لنعمل جميعا من أجل التغيير”.

فيما يتعلق بالشعار لا يمكننا، نحن الماركسيين، سوى أن نعبر عن اتفاقنا معه. فالتغيير هو بالضبط ما يلزم. لا بد من إحداث تغيير ثوري جذري وعميق للمجتمع الحالي واستبداله بمجتمع جديد اشتراكي عادل وديمقراطي. لكن السؤال المطروح هو هل هذا هو ما يقصده الرفاق بالتغيير، وهل يمكن إحداث التغيير الحقيقي عبر الطريق الانتخابي؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعطي للرفاق الحق في التعبير عن أنفسهم بلسانهم الخاص. كانت الرفيقة أمينة منيب، الأمينة العامة لحزب اليسار الاشتراكي الموحد والقيادية البارزة في فدرالية اليسار وأحد المرشحين الرئيسيين للفدرالية في الانتخابات الحالية قد بثت شريطا لها على اليوتوب قالت فيه إن الفدرالية تشارك في الانتخابات الحالية من أجل أن تقول: “كفى، لكي نعيش في بلدنا في أمن وأمان وكرامة”.

وكان الكاتب العام لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الرفيق عبد الرحمان بنعمرو، قد قال في تصريح له لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن «الفيدرالية تخوض هذا الاستحقاق للخروج من دائرة الوعود والشعارات الفضفاضة التي يعاكسها الواقع (….) من أجل تحقيق تغيير جوهري بهذا الشأن وتقديم البديل».

وأوضح أن «الفيدرالية تقترح في هذا السياق بديلا ينبني على أسس عدة من ضمنها بناء ديمقراطية حقيقية وتدعيم سيادة القانون وضمان استقلال القضاء والنضال من أجل استكمال الوحدة الترابية للبلاد». (موقع: أحداث.أنفو)

هذا هو التغيير الذي يقصده الرفاق، تغيير في ظل النظام القائم وليس من خلال القطع معه!! إن الأمر يتعلق هنا بتصور إصلاحي تماما مبني على وهم إمكانية إصلاح النظام القائم ليصير نظاما أفضل “للجميع”، وهم إحداث تغيير فعلي وجدي (“تحقيق تغيير جوهري”) في ظروف عيش الجماهير في ظل النظام الرأسمالي القائم (والأدهى في ظل النظام الرأسمالي الملكي الدكتاتوري الحالي). ويعني أن الرفاق والرفيقات في فدرالية اليسار يعتقدون فعلا أنه من الممكن تحقيق “الأمن والأمان والكرامة” عبر الانتخابات.

لا بد أن هؤلاء الرفاق والرفيقات لم يفهموا أي شيء من أي شيء. إنهم لم يفهموا شيئا من كل تجارب الطبقة العاملة طيلة أزيد من قرن ونصف من الانتصارات والهزائم والتي أهم دروسها هو أنه لا يمكن إصلاح النظام الرأسمالي وأن التغيير لا يأتي عبر الانتخابات سواء المحلية أو البرلمانية أو الرئاسية، الخ.

وقد كان أهم درس آخر استخلصه ماركس من تجربة كومونة باريس هو أن «الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتفي بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة وأن تحركها لأهدافها الخاصة» أهداف من قبيل: “أن نعيش في بلدنا في أمن وأمان وكرامة”، أو “بناء ديمقراطية حقيقية” و”تحقيق تغير جوهري”، الخ.

لاحظوا أن الحديث يدور هنا عن عدم إمكانية استعمال الدولة البرجوازية لخدمة مصالح الشعب الكادح ولو بعد اندلاع الثورة، فبالأحرى في ظروف الهدوء وبعد انتخابات عادية. ويؤكد لينين بشدة على نفس الخلاصة في كتابه: الدولة والثورة، إذ يضيف: «تتلخص فكرة ماركس في أن واجب الطبقة العاملة هو تحطيم “آلة الدولة الجاهزة” وكسرها، لا الاكتفاء بمجرد الاستيلاء عليها». ويضيف في نفس المرجع، مستشهدا بماركس: «ففي الثاني عشر من أبريل سنة 1871، أي في أيام الكومونة بالذات، كتب ماركس إلى كوغلمان: إذا ما ألقيت نظرة إلى الفصل الأخير من كتابي “18 من برومير” رأيت أني أعلنت أن المحاولة التالية للثورة الفرنسية يجب أن تكون لا نقل الآلة البيروقراطية العسكرية من يد إلى أخرى كما كان يحدث حتى الآن، بل تحطيمها» (التشديد لماركس).

لا نستشهد بماركس ولينين بسبب ميولات سلفية مفترضة، كما يمكن لبعض الرفاق أن يتهموننا، بل لأن الاستفادة من تجارب الحركة العمالية الأممية مسألة حاسمة من أجل استخلاص الدروس للممارسة العملية والفعل في واقعنا وتلافي السقوط في الكثير من الأخطاء.

ولكي نوضح أن هذا الدرس ليس خاصا بالقرن التاسع عشر وحده، فبالأحرى أن يكون مجرد موقف دوغمائي، سنعمل على الانتقال لدراسة تجارب تحدث اليوم تحت أنظارنا بالفعل. تجارب لانتخابات تمت في ظل ظروف أفضل بكثير من الظروف التي يمكن أن تتم بها في ظل النظام الدكتاتوري القائم بالمغرب.

في فنزويلا تمكن هوغو تشافيز من الوصول إلى السلطة بالفعل سنة 1999 بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي نظمت سنة 1998، وأعيد انتخابه سنة 2000 لولاية من ستة سنوات. وقد جاء هوغو تشافيز إلى السلطة على أساس برنامج إصلاحي جذري يتضمن هو أيضا أوهاما تقوم على إمكانية تحقيق تحسين جذري في أوضاع عيش الجماهير على أساس الرأسمالية ودون إحداث قطيعة مع النظام الرأسمالي. كان هو أيضا يعتقد فعلا أنه بالإمكان إيجاد طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، طريق يمكن من خلال السير فيه تحقيق التعليم العمومي المجاني للجميع وتوفير الخدمات الصحية والسكن والعمل والغذاء للجميع دون مصادرة أملاك أصحاب الأبناك والشركات الكبرى والقطع مع الرأسمالية والامبريالية.

لكن التجربة اليومية أثبتت له وللجماهير الشعبية المناصرة له أن هذا مستحيل. حيث شن أصحاب الرساميل والشركات الكبرى وأسيادهم الرأسماليون حملة تخريب ممنهج للاقتصاد واستعملوا كل ما في أيديهم من ثروات ووسائل إعلام وعلاقات مع كبار المسؤولين في الدولة من أجل الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا.

وسنة 2002 نظم مصاصو دماء البشر هؤلاء انقلابا عسكريا كان سيدخل البلاد في مرحلة قمع عسكري وحشي، يشبه ذلك الذي شهدته التشيلي بعد الإطاحة بحكومة سلفادور ألييندي (الذي كان هو أيضا قد وصل إلى السلطة عبر الانتخابات وكانت له هو أيضا نفس الأوهام). لم ينقذ الثورة سوى الطبقة العاملة وحلفاؤها من فقراء المدن والقرى، الذين خرجوا إلى الشوارع للدفاع عن حكومتهم ورئيسهم. بينما جميع القوى البرجوازية “الديمقراطية” ووسائل الإعلام “الديمقراطية” وكل الحكومات الامبريالية “الديمقراطية” (وخاصة الحكومة الأمريكية)، ساندوا الانقلابيين ونظامهم.

ورغم فشل هذا الانقلاب لم تتوقف مؤامرات الطبقة البرجوازية ودولتها وأسيادها الإمبرياليون ضد الحكومة البوليفارية، إذ استعملوا كل الوسائل البرلمانية وخارج البرلمانية، المشروعة وغير المشروعة، من أجل الإطاحة بالحكومة البوليفارية وتخريب مشاريعها وإفشال سياساتها الموجهة لتحسين شروط عيش وعمل الجماهير. فبالإضافة إلى المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات وممارسة المعارضة داخل المؤسسات، نظمت المعارضة الرجعية المعادية للثورة الكثير من حملات إغلاق المصانع واحتكار المواد الغذائية وتهريب الأموال ونشر الفوضى عبر ميليشيات شبه عسكرية فاشية، الخ.

لم يكن هوغو تشافيز ماركسيا، لكنه كان مناضلا ديمقراطيا جذريا نزيها، وهذا كافيا لكي يجعله يتوصل بتجربته الخاصة إلى نفس الخلاصة التي يدافع عنها الماركسيون، أي أنه لا يمكن إصلاح الرأسمالية، وأنه لا يوجد طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، وأنه لا يمكن إحداث تغيير حقيقي جوهري عبر الانتخابات والمؤسسات النابعة عنها، بل فقط عبر المبادرة المباشرة للطبقة العاملة وحلفائها، وأن الحل الوحيد الممكن يمر بالضرورة عبر إسقاط الرأسمالية ودولتها وبناء الاشتراكية.

هذه هي الخلاصة التي توصل إليها هوغو تشافيز، وهذا هو البرنامج الذي دافع عنه المناضلون الماركسيون واستمروا يشرحونه باستمرار (انظر مثلا مقال المنظر الماركسي والقيادي في التيار الماركسي الأممي آلان وودز: موضوعات حول الثورة والثورة المضادة في فنزويلا )

لكن هوغو تشافيز لم يسر على هذا الطريق حتى النهاية، وسرعان ما ظهرت حدود المشروع الديمقراطي الجذري الذي دافع عنه، وتأكدت حقيقة أنه لا يمكن أبدا استعمال الدولة البرجوازية ومؤسساتها لتحقيق التغيير ضد البرجوازية أو معها. وأنه لا يمكن أبدا أن يتم تحقيق تغيير حقيقي “جوهري” في ظل الرأسمالية ودون القطع معها.

هذا الدرس نفسه تأكد مرارا وتكرارا في العديد من التجارب التي يضيق المجال لتحليلها ودراستها كلها بشكل مفصل، لكن يمكننا أن نشير على سبيل المثال إلى تجربة اليونان.

شهدت اليونان في الأشهر الأخيرة، كما يعلم الجميع، تنظيم انتخابات أسفرت عن فوز ساحق لحزب سيريزا اليساري بقيادة تسيبراس. لقد صعد هذا الحزب وزعيمه إلى السلطة عبر الانتخابات وعلى أساس برنامج معارض لسياسة التقشف التي طبقتها قبله كل الحكومات السابقة ومحاربة الفساد وتقديم المساعدات للفقراء، وحتى إعفائهم من دفع فواتير الطاقة الكهربائية، ورفع الحدّ الأدنى للرواتب إلى 750 يورو، الخ. أي مجرد برنامج إصلاحي لا يهدف مطلقا لإحداث “تغيير جوهري” في المجتمع.

لقد تمت تلك الانتخابات في بلد “ديمقراطي حقيقي” (بمفهوم رفاقنا في الفدرالية)، بلد تتجاوز ديمقراطيته بكثير سقف “الملكية البرلمانية” التي تعتبر منتهى أمل بعض الرفاق، وليس في ظل النظام الدكتاتوري القائم حاليا بالمغرب. إنها انتخابات تمت في الاتحاد الأوربي:”واحة” الديمقراطية في العالم. فماذا كانت النتيجة؟

بمجرد وصول حكومة سيريزا إلى السلطة انخرطت البرجوازية اليونانية والأوربية وكل وسائل الإعلام البرجوازية و”مراكز الدراسات والأبحاث” و”الخبراء” في حملة إرهاب سياسي وابتزاز فضيعة ضدها من أجل إخضاعها للسياسات التقشفية وإجبارها على التخلي عن برنامجها الأصلي.

وجهت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تهديدا مباشرا وواضحا لليونان وطالبتها “بتنفيذ التزاماتها في مجال الإصلاحات الاقتصادية”، و”ضرورة عمل الحكومة الجديدة لتحقيق النمو الاقتصادي، والامتثال لالتزاماتها”

كما أكد شتيفان زايبيرغ المتحدث باسمها أن ألمانيا “ترغب ببقاء اليونان عضوًا في نادي اليورو”، مما يمثل تهديدا دبلوماسيا مراوغا لكنه رغم ذلك تهديد واضح ووقح بإمكانية طرد اليونان إن لم تقبل بتنفيذ الأوامر. وأكد ڨولفغانغ شويبلي، وزير المالية الألماني، على الإبقاء «على التزامات اليونان بشأن إجراء الإصلاحات، بغض النظر عن طبيعة الحكومة المقبلة. وأنه لا توجد نية لدى ألمانيا لشطب ديون اليونان».

“تنفيذ الالتزامات بغض النظر عن طبيعة الحكومة” هذا هو جوهر الديمقراطية البرجوازية في “واحة” الديمقراطية، أي في الاتحاد الأوربي نفسه، وعلى لسان أفضل “رسل الديمقراطية” في عصرنا الحالي، وعلى رأسهم ممثل الطبقة الرأسمالية الألمانية. أي مهما كان البرنامج الذي صوت عليه الشعب، ومهما كانت الوعود التي قدمتها للجماهير، ومهما كانت طبيعة الحكومة التي تصل إلى السلطة، يسارية كانت أو يمينية، ومهما كانت نواياك، فإن القرار يعود أولا وأخير لأصحاب الأبناك وكبار الرأسماليين، أي هؤلاء الطفيليات الذين يعيشون على حساب المجتمع والذين لم ينتخبهم أحد أبدا.

وفي نفس السياق وبمجرد نجاح سيريزا في الانتخابات قال رئيس البرلمان الأوروبي، مارتين شولتز، «إن رئيس الوزراء اليوناني الجديد رجل براغماتي، ولا بد من قبول مزيد من التنازلات، للتوصل إلى اتفاق مع الحكومة اليونانية الجديدة»، وأنه أجرى «محادثة هاتفية مطولة مع رئيسها تسيبراس، أكّد فيها إنّ رئيس الوزراء اليوناني يدرك جيّدًا ضرورة القيام بحزمة إصلاحات واسعة في السياسة الخارجية والداخلية في اليونان». وأنه «ليس من المتوقع أن تتنكر اليونان لالتزاماتها تجاه الاتحاد الأوروبي، لحاجتها لشركاء، ولعدم وجود بدائل للضغط على المؤسسات الدولية المالية. لذا، ستكون التنازلات مشتركة من الطرفين، بغض النظر عن البرنامج المتطرف الذي وضعه حزب سيريزا، طوال حملته الانتخابية».

حسنا قد يكون موقف البرجوازيين وأصحاب الأبناك اليونانيين أفضل، ولعل مشاعرهم “الوطنية” و”الديمقراطية” ستدفعهم إلى الاحتجاج على هذا الإذلال وهذا الخرق السافر لأبسط مبادئ الديمقراطية، أي حق الأغلبية في التقرير في السياسات التي تراها صحيحة.

بمجرد صعود سيريزا إلى السلطة نظم أصحاب الأبناك وكبار الرأسماليين حملة تخريب فضيعة للاقتصاد، تمثلت في إغلاق المصارف وتهريب الأموال. وكان عديدون من أصحاب الملايين اليونانيين قد اجتمعوا مع رئيس الوزراء البلغاري، بويكو بوريسوف، لمعرفة الشروط المطلوبة للاستثمار في بلاده، والتعرّف على مناخ العمل في رومانيا، أيضًا، باعتبار الدولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي، ما يسهّل نقل أعمالهم إليهما بيسر حال فوز حزب سيريزا، وتردّي مناخ العمل في اليونان. هذه هي الديمقراطية البرجوازية في أبهى صورها.

وفي مواجهة هذه الضغوط لجأ تسيبراس الذي يؤمن، مثل أصدقائنا في الفدرالية، بالقدرة السحرية للديمقراطية البرجوازية على تقديم الحلول، وأن النظام الرأسمالي هو أفضل العوالم الممكنة بعد إدخال بعض الإصلاحات عليه، بطبيعة الحال، (لجأ) إلى تنظيم استفتاء شعبي حول الموقف من التقشف، فصوتت الجماهير اليونانية بأغلبية ساحقة (61,31% ) ضد التقشف ودعما للحكومة المنتخبة.

لو كان تسيبراس وقادة سيريزا الآخرون ماركسيين لكانوا قد استعملوا هذا الدعم الجماهيري الهائل لصالح إحداث تغيير جذري للمجتمع، تغيير يقوم على إعلان رفض أداء الديون ومصادرة الأبناك والشركات الكبرى ووضعها تحت الرقابة العمالية الشعبية وتطبيق مخطط اقتصادي اشتراكي موجه لخدمة مصالح الأغلبية الساحقة وليس تلك الأقلية من الطفيليات التي تتحكم في كل شيء اليوم. وفي مواجهة ضغوطات الإمبرياليين الأوربيين وخاصة الطبقة الحاكمة الألمانية، كان سيوجه نداء أمميا للطبقة العاملة الأوربية والعالمية للتضامن مع الشعب اليوناني وحقه في تقرير المصير، بهذه الطريقة كانت اليونان لتكون شرارة انطلاق الثورة الاشتراكية في اليونان وأوربا والعالم.

لكن تسيبراس وبقية قادة سيريزا إصلاحيون، إيمانهم بقدسية الملكية الخاصة وبحق الأقلية البرجوازية في التحكم في مصير المجتمع واعتصاره لخدمة مصالحها لا يتجاوزه سوى انعدام ثقتهم في الطبقة العاملة وقدرتها على تغيير المجتمع وتسييره بشكل أفضل من السادة البرجوازيين. لذلك فإنهم في النهاية استسلموا وخانوا وعودهم وخانوا الجماهير التي أوصلتهم إلى السلطة وصاروا مجرد خدم لأسيادهم الرأسماليين يطبقون نفس السياسات التقشفية التي طالما نددوا بها سابقا.

ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من كل هذا؟ هناك الكثير من الدروس بطبيعة الحال، لكن أهمها هو استحالة إصلاح الرأسمالية من الداخل، خاصة في مرحلة انحطاطها، وأن الانتخابات ليست وسيلة لتغيير المجتمع أو تحقيق تحسين جدي و”جوهري” في شروط عيش وعمل الجماهير الكادحة.

نقول هذا عن الانتخابات في دول الديمقراطية البرجوازية وعن المؤسسات المنتخبة في دول الديمقراطية البرجوازية، حيث يتم على الأقل احترام الشكليات، فما بالك بالانتخابات في ظل النظام الدكتاتوري الملكي القائم بالمغرب، والمؤسسات النابعة عنه !

يعلم الجميع أن كل السلطات الفعلية، في ظل النظام القائم بالمغرب، محتكرة في يد القصر ومجالس الشركات الكبرى والأبناك وخاصة شركات الملك وأبناكه، إلى جانب مؤسسات صنع القرار في الدول الإمبريالية. أما المجالس “المنتخبة” والبرلمان وحتى الحكومة فهي في الواقع مؤسسات بدون صلاحيات حقيقية ومهمتها فقط تنفيذ القرارات الصادرة من فوق.

يعلم الجميع أن المجالس المحلية رهينة في يد “سلطة الوصاية” والآمرين بالصرف، وهي التي ليست سوى وزارة الداخلية والولاة والعمال، وبالتالي ليست لديها حتى وهم الاستقلالية.

إن ما يصرح به الرفاق يجعلنا نتسائل بحيرة حقيقية: هل حقا يؤمن الرفاق بالفعل بأنه من الممكن إحداث تغيير جدي من خلال الانتخابات التي يشهد أصحابها أنفسهم على تزويرها وزيفها؟ هل يعتقد الرفاق حقا بإمكانية التغيير وتحقيق الأمن والأمان ومحاربة الفساد الخ الخ من خلال المؤسسات الشكلية التي تنتج عن الانتخابات الشكلية؟ إذا كانوا فعلا يعتقدون في ذلك فتلك مصيبة عظيمة، أما إذا كانوا لا يؤمنون بذلك ومع ذلك يرددون هذا الكلام الفارغ وينشرون الأوهام فإنهم سيكونون بوعي أو غير وعي مشاركين موضوعيا في جريمة شرعنة نظام الفساد والاستبداد والاستغلال.

هذه الحقائق واضحة للجميع لكن الرفاق والرفيقات في الفدرالية لا يستطيعون استيعابها مع الأسف. وهذا ما يتضح جليا من خلال تأكيدهم على “المميزات الشخصية” لمرشحيهم حيث يقسمون بأنهم ليسو مثل الآخرين، وأنهم نزهاء وجديون وما إلى ذلك. وكأن المسألة تتعلق بالنفسيات والأخلاق والسمات الفردية للمترشحين.

ففي تصريح الرفيقة أمينة منيب في نفس شريط الفيديو، نجدها تقول: «عندنا أناس نزهاء، عندنا أناس أكفاء عندنا أناس عندهم أفكار جيدة لكي تلتحق بلادنا بركب التنمية […] من أجل أن نقضي على الفقر والتهميش […] نحن أناس معقولون أنقياء لا نكذب عليكم».

كما صرح الرفيق بنعمرو لوكالة المغرب العربي للأنباء أن: الفيدرالية «لن تتعامل في هذا الاستحقاق مع الأعيان ولن تقبل تزكية مترشحين قادمين من أحزاب أخرى»، وأكد على الأهمية البالغة التي تكتسيها مصداقية من يسهرون على تطبيق هذه البرامج وارتباطهم بالشعب. وأن حزبه «لن يستغل هذه الانتخابات من أجل تحقيق مصالح ذاتية». فيتم اختصار كل شيء في النوايا والطيبة والمميزات الشخصية للمرشحين ومصداقيتهم، الخ !!!

نحن لسنا هنا لنشكك في نزاهة الرفاق ولا في النوايا الطيبة التي تحرك الكثيرين منهم، لكن النقاش الذي نحن بصدده يدور حول النظام الديكتاتوري القائم وإمكانية إصلاحه، وحول إمكانية استعمال المؤسسات النابعة عن انتخاباته من أجل تحقيق التغيير لصالح الجماهير، إن النقاش الذي نحن بصدده هنا يدور حول الرأسمالية وإمكانية إصلاحها خاصة في مرحلة انحطاطها.

هذا مستحيل، ولو تمعن الرفاق ولو قليلا في التجارب الغنية والأمثلة الكثيرة التي يقدمها لنا الواقع لتوصلوا بسهولة إلى هذه الخلاصة. لكنهم عاجزون عن ذلك، أو لا يرغبون في ذلك !

ليس كل من انتهى بهم المطاف خدما أوفياء للرأسمالية والنظام الدكتاتوري بالمغرب وعالميا، أناس سيؤون ووصوليون ومنحطون. قد يوجد بينهم العديد من الأشخاص ذوي النوايا الحسنة، الذين حاولوا مخلصين فعلا إصلاح النظام لكي يصير “أفضل للجميع” وتحقيق تحسينات اقتصادية وسياسية للجماهير الكادحة. لكنهم وبغض النظر عن نواياهم انتهوا إلى أن يصيروا مجرد قطع غيار للنظام القائم، وخونة وخدم أوفياء للنظام القائم. لأن هناك قانون يقول: إنك إن قبلت بالرأسمالية لا بد لك أن تقبل بقوانينها.

وقوانينها خاصة في المرحلة الحالية التي نعيش هي تدمير الإصلاحات وتحميل الجماهير فاتورة خروج الرأسمالية من أزمتها عبر فرض سياسات التقشف والاقتطاعات، وما إلى ذلك.

وهذا ما يفسر لماذا صارت حتى الإصلاحات التي تحققت في الماضي هدفا للتدمير من طرف الحكومات المتتالية على السلطة، سواء اليمينية أو اليسارية، بغض النظر عن نوايا أعضائها وهذا ما سبق لنا أن شرحناه في نقاش التجربة اليونانية.

ونعتقد أنه من المفيد هنا أن نرد على الرفيقة أمينة منيب بما قالته الرفيقة روزا ليكسمبورغ حول السمات الفردية وقدرتها على تغيير السياسات داخل إطار الدولة لبرجوازية، وذلك في سياق شرحها لموقفها من مشاركة ميلليران في الحكومة، حيث قالت: «إن سمة الحكومة البورجوازية لا تتحدد بواسطة السمات الشخصية لأعضائها، لكن بوظيفتها العضوية في المجتمع البورجوازي. الحكومة في الدولة الحديثة هي أساساً منظمة للهيمنة الطبقية، التي يعتبر لعبها لدورها واحد من أهم شروط وجود المجتمع الطبقي. بدخول اشتراكي إلى الحكومة واستمرار وجود الهيمنة الطبقية، لا تحول الحكومة البورجوازية نفسها إلى حكومة اشتراكية، لكن الاشتراكي يحول نفسه إلى وزير برجوازي.»

وفي ختام هذا الفصل أقول إن مشاركة الرفاق في الانتخابات بكل هذا الكم من الأوهام مع الأسف يجعلهم غير قادرين على تحقيق أية استفادة للنضال ضد الدكتاتورية والرأسمالية ولا لعملية تطوير الوعي لدى الجماهير. وسينتهي بهم المطاف إلى السقوط في براثن النظام القائم الذي سيستعملهم كقطع غيار ليرمي بهم جانبا بعد استنزافهم. بعض الوصوليين سينتهي بهم المطاف في المناصب المربحة ويحققون لأنفسهم “تغييرا جوهريا” في أوضاعهم الشخصية، بينما سينتهي المطاف بالحركة ككل في الغرق في الأزمات. ليس هذا تنبؤا معتمدا على قراءة الكف، بل هو منظور مبني على دراسة علمية لمصير مختلف الحركات والأحزاب الإصلاحية التي صارت على نفس الخط سواء في المغرب أو أمميا.

النهج الديمقراطي وموقف المقاطعة

مقابل موقف المشاركة في الانتخابات الذي تبنته أحزاب فدرالية اليسار، أعلن حزب النهج الديمقراطي أنه سوف يقاطعها وسيدعو الجماهير إلى مقاطعتها. وذلك من خلال نداء رسمي (منشور في جريدة النهج الديمقراطي، عدد: 201. 16 غشت 2015 ص: 16) وتصريحات العديد من قيادييه.

وبالفعل انخرط مناضلوه ومناضلاته، بالعديد من المدن، في حملة نشيطة للدعوة إلى مقاطعة الانتخابات. وهي الحملة التي واجهتها قوات القمع باعتقال العديد من المناضلات والمناضلين والتضييق عليهم بجميع الطرق، بما فيها استعمال الإعلام الرسمي والأبواق المأجورة لشن حملة من التشويه والأكاذيب. مما يزيد في فضح الطبيعة الحقيقية للنظام القائم باعتباره نظاما دكتاتوريا مطلقا بقناع ديمقراطي مزيف.

حيثيات المقاطعة كما شرحها الرفاق تتمثل حسب النداء في كون هذه الانتخابات «تجري في أجواء تتميز باستمرار قمع كافة الفئات المناضلة والقوى الديمقراطية… وكون هذه الانتخابات تفتقد لشروط النزاهة، كما أنها تهدف لتلميع صورة المخزن… وإعطاء الشرعية لسياسات الاستغلال والقهر… إضافة إلى أنها تتم تحت إشراف فعلي لوزارة الداخلية عوض هيئة وطنية مستقلة، وعلى أساس لوائح مطعون في سلامتها وتقسيم مخدوم غير متوازن. ثم أنها تفرز هيئات “منتخبة” قلصت صلاحياتها إلى أبعد الحدود» (جريدة النهج الديمقراطي، عدد 201، ص: 16)

ولأن هذه المؤسسات «محدودة بفعل غياب قواعد النظام الديمقراطي في تدبير الشأن العام يسمح بالديمقراطية المباشرة ويسمح بالإشراك الواسع والمستمر للمواطنين والمجتمع المدني والسياسي الحقيقي (الطبيعي) في تدبير الشأن العام المحلي» (حفيظ إسلامي: الأحزاب المشاركة في الانتخابات رهان التغيير بين الوهم والاستحالة. جريدة النهج الديمقراطي، نفسه، ص: 6)

لا يسعنا بطبيعة الحال إلا أن نعبر عن اتفاقنا الكامل مع الرفاق في تحليلهم للظروف العامة التي تجري في ظلها هذه الانتخابات، والتي تتميز فعلا باستمرار القمع، واتفاقنا معهم كذلك في الموقف من الطبيعة المزيفة لهذه الانتخابات وصورية المؤسسات النابعة عنها.

لكن السؤال هو ما علاقة كل هذا بالموقف من المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها؟ من الضروري والجيد ألا يمتلك الماركسيون أية أوهام بخصوص طبيعة النظام القائم الذي هو نظام دكتاتوري رأسمالي ليست شعارات الديمقراطية بالنسبة له سوى قناع لإخفاء وجه الاستبداد البشع. لكن من الضروري أيضا ألا يمتلك الماركسيون أية أوهام بخصوص إمكانية وجود انتخابات نزيهة في ظل الرأسمالية، حتى في دول الديمقراطية البرجوازية النموذجية، بأوربا والولايات المتحدة، الخ. ولا أية أوهام بخصوص وجود صلاحيات حقيقية للبرلمانات والمجالس المنتخبة في ظل الدول الرأسمالية.

للوهلة الأولى يبدو موقف الرفاق في النهج الديمقراطي بمقاطعة الانتخابات لكونها “لا تتوفر على شروط النزاهة ولا تسفر عن مؤسسات ذات صلاحيات حقيقية” وغير ذلك من الشروط، وكأنه موقف ثوري جدا وعلمي، لكن الواقع شيء آخر تماما. فمن حيث الجوهر وإن كان هذا الموقف يعبر عن رفض قاطع صحيح “للديمقراطية” المزيفة للنظام الدكتاتوري القائم بالمغرب، فإنه يتضمن في المقابل وهما بإمكانية توفر هذه الشروط في ظل الرأسمالية ودولتها، بينما الحقيقة هي أن الديمقراطية البرجوازية في كل مكان هي شكل حكم الطبقة البرجوازية وتأبيد سيطرتها، ولا يمكنها أبدا لا في فرنسا ولا في ألمانيا ولا في الولايات المتحدة الأمريكية، الخ، أن تسفر عن سياسات ومؤسسات معادية للطبقة السائدة، أو تمثل تهديدا جديا لمصالحها ولسيطرتها.

كل الانتخابات في ظل الدول البرجوازية هي انتخابات غير نزيهة ولا يمكنها أبدا أن تكون نزيهة. هناك طبعا فروق في الدرجة والشكل لكن من حيث الجوهر كل الانتخابات التي تتم في ظل الرأسمالية هي انتخابات لصالح الطبقة البرجوازية ولخدمة البرجوازية. ليست هناك ديمقراطية فوق الطبقات، وتسفر بالضرورة عن مؤسسات في خدمة البرجوازية. وفي كل مكان تستعمل البرجوازية وأحزابها ملكيتها للثروات واحتكارها لوسائل الإعلام والمطابع ودور النشر من أجل تشكيل الرأي العام وخداع الجماهير ليس خلال الحملة الانتخابية وحدها، بل كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة.

عمل ماركس على توجيه نقد عميق وجذري للديمقراطية البرجوازية، وهذا ما نجده واضحا بالخصوص في كتابه “18 من برومير لويس بونابارت”، حيث يقول، في سياق شرحه لدروس كومونة باريس 1871، إنه: «وبدلا من البت مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة المسيطرة يجب أن يمثل ويقمع الشعب في البرلمان، كان يجب على حق الانتخاب العام، بدلا من ذلك، أن يخدم الشعب، المنظم في الكومونة قصد البحث لمؤسسته عن عمال ومراقبين ومحاسبين، كما يخدم حق الانتخاب الفردي لهذا الغرض أياً كان من أرباب العمل».

ويعلق لينين على هذا الموقف قائلا: «إن هذا النقد الرائع للبرلمانية، المكتوب في سنة 1871، قد غدا الآن هو الآخر، بفضل سيطرة الاشتراكية – الشوفينية والانتهازية، في عداد “الكلمات المنسية” من الماركسية. البت مرة كل عدة سنوات في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة السائدة سيقوم بقمع الشعب في البرلمان، – هذا هو الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية، ليس فقط في المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك في الجمهوريات الأوسع ديمقراطية». (لينين: الدولة والثورة)

الانتخابات من وجهة نظر ماركس وانجلز ولينين ليست، في آخر المطاف، سوى “حق” تتيحه البرجوازية للجماهير للبت مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة المسيطرة يجب أن يمثل ويقمع الشعب في البرلمان، هذا هو «الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية، ليس فقط في المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك في الجمهوريات الأوسع ديمقراطية». (التشديد من عندنا)

ويضيف قائلا: «أمعنوا النظر في أي بلد برلماني من أمريكا حتى سويسرا ومن فرنسا حتى انجلترا والنرويج وغيرها، تروا أن عمل “الدولة” الحقيقي يجري وراء الكواليس وتنفذه الدواوين والمكاتب وهيئات الأركان. ففي البرلمانات يكتفون بالهذر بقصد معين هو خداع “العامة”». (لينين: نفسه)

هذه هي حقيقة الانتخابات البرجوازية والمؤسسات النابعة عنها. أما السلطة الحقيقية فموجودة وراء الأبواب المغلقة لمجالس إدارة الأبناك والشركات الكبرى، في يد كبار البرجوازيين والجنرالات، أي كائنات ومؤسسات لم ينتخبها أحد ولا يستطيع أحد محاسبتها أو ممارسة الرقابة الفعلية عليها.

لذا فلو كان الماركسيون يضعون شرط توفر “النزاهة” في الانتخابات وشرط توفر “صلاحيات حقيقية” للمؤسسات البرلمانية والمجالس المحلية وشرط عدم استعمال “المال الحرام” وتوقف القمع، الخ من الشروط التي يضعها الرفاق في النهج الديمقراطي لكي يشاركوا في الانتخابات، لما شارك ماركسي أو اشتراكي ثوري أبدا في أية انتخابات في ظل الدول البرجوازية، لا الآن ولا في الماضي ولا في المستقبل، ما دامت الرأسمالية قائمة ودولها قائمة، ليس هنا بالمغرب فقط بل كذلك في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما.

لكن الماركسيين رغم ذلك يشاركون. يقول لينين: «لقد اشتركنا نحن البلاشفة في أشد البرلمانات عداء للثورة، وقد برهنت التجربة أن مثل هذا الاشتراك لم يكن مفيدا وحسب، بل كان ضرورياً أيضاً لحزب البروليتاريا الثورية، بالضبط بعد الثورة البرجوازية الأولى في روسيا (1905) من أجل التحضير للثورة البرجوازية الثانية (فبراير 1917) وبعد ذلك للثورة الاشتراكية (أكتوبر 1917).»

إن الماركسيين يعلمون زيف الديمقراطية البرجوازية وكونها مجرد دكتاتورية للأقلية من الطفيليات على الأغلبية الساحقة من المنتجين الحقيقيين في المجتمع وهذا ما يجعلهم يناضلون من أجل إسقاط الدولة البرجوازية واستبدالها بدولة الديمقراطية العمالية، دولة مجالس العمال والفلاحين وعموم الكادحين. لكن هذا لا يمنعهم من المشاركة في الانتخابات في ظل الرأسمالية، بل على العكس تماما يعتبر هذا واحدا من أهم الدواعي التي تدفعهم إلى المشاركة فيها. إذ ليس كافيا بالنسبة للماركسيين أن يكونوا هم على وعي بزيف الديمقراطية البرجوازية وبأن الدولة البرجوازية أداة لدكتاتورية الرأسماليين على الطبقة العاملة وبأن البرلمان والمجالس “المنتخبة” ليست سوى أوساط للثرثرة وخداع الجماهير والاغتناء غير المشروع على حسابها، الخ، بل من الضروري عليهم أن يتبنوا التكتيكات المناسبة لكي يجعلوا الجماهير تقتنع من خلال تجربتها الخاصة بصحة هذا الموقف. عليهم أن يجعلوا الجماهير ترى في الممارسة حدود الديمقراطية البرجوازية ومؤسساتها والعمل على تفجيرها من الداخل.

إن المشاركة في الانتخابات بالنسبة للماركسيين تعني استخدام الحملات الانتخابية لممارسة الدعاية في أوساط الجماهير التي لم يكن بإمكانهم الوصول إليها بالطرق العادية. لا يدخل الماركسيون الانتخابات لكي يفوزوا فيها، أو لكي يزرعوا الأوهام في نزاهتها وصلاحيات المؤسسات التي تسفر عنها، بل لكي يستخدموها كمنبر للتواصل مع أبناء طبقتهم وفضح ألاعيب رجال السياسة البرجوازيين وشرح برنامجهم الثوري على أوسع نطاق ممكن.

وحول أهمية الانتخابات من وجهة نظر الماركسيين يقول إنجلز في مقدمته لكتاب “الصراع الطبقي في فرنسا” سنة 1895، : »إذا كانت الميزات الوحيدة للانتخابات الحرة هي أنها تسمح لنا بحصر أعدادنا كل ثلاث سنوات ومن خلال الزيادة الكبيرة والسريعة لأصواتنا تزيد بنفس الدرجة ثقة العمال في النصر وإحباط أعداؤنا وتصبح بالتالي أفضل أداة للدعاية وإنها توضح لنا بشكل دقيق مدى قوتنا وقوة أعداؤنا وبالتالي تصبح مؤشر لا يعلو عليه لتحديد تحركاتنا فهي تحمينا من التسرع غير المناسب أو التأخر غير المناسب. إذا كانت هذه هي الميزات الوحيدة التي نجنيها من الانتخابات لكانت كافية. ولكنها فعلت أكثر من ذلك بكثير، ففي الدعاية الانتخابية يتاح لنا وسيلة فريدة في الارتباط بالجماهير في المناطق التي لازالوا فيها بعيدين عنا وأيضًا في اضطرار الأحزاب الأخرى أن تدافع عن مواقفها في مواجهة هجومنا أمام الجماهير».

أما في حال تمكنهم من الفوز بمقعد داخل البرلمان أو المجالس فإنهم يستعملونه منبرا للدعاية الثورية والمساعدة في تنظيم النضالات خارجها في الشوارع وأماكن العمل، أي في الحقل الحقيقي للصراع الطبقي.

«كان ماركس يحسن القطيعة مع الفوضوية دونما إشفاق لعجزها عن الاستفادة حتى من “حظيرة” البرلمانية البرجوازية ولا سيما حينما يكون من البين عدم وجود وضع ثوري، ولكنه في الوقت نفسه قد أحسن كذلك انتقاد البرلمانية انتقادا بروليتاريا ثوريا حقا» (لينين: الدولة والثورة). الاستفادة من البرلمانية البرجوازية، خاصة عندما لا يكون هناك وجود لوضع ثوري، وفي نفس الوقت انتقاد البرلمانية انتقادا بروليتاريا ثوريا حقا وعدم امتلاك أية أوهام بخصوصها: هذا هو الموقف الماركسي السليم، الذي يعبر عن تصور جدلي خلاق.

يجب ألا تكون لدى الماركسيين أية أوهام حول إمكانية التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية من خلال الإصلاحات أو الانتخابات البرلمانية، ولا حول إمكانية استعمال المؤسسات النابعة عنها من أجل إحداث أي تغيير جدي لأنه «فقط مجالس العمال، وليس البرلمان، يمكن أن تكون الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهداف البروليتاريا» (لينين: “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”). لكن يجب عليهم أن يتمكنوا من جعل الجماهير، خاصة في ظل انعدام الحراك الثوري، تستوعب هذه الخلاصة بممارستها اليومية. لهذا يجب علينا ألا نتهاون في استغلال هذه الفرصة من أجل القيام بالدعاية لتصورنا وبرنامجنا وضرورة النضال من أجل الثورة الاشتراكية والدولة العمالية. عوض ترك الحقل فارغا للقوى البرجوازية والإصلاحيين وغيرهم.

يقول لينين في مرض اليسارية:

«إن البرلمانية قد “ولى عهدها سياسياً”، طبعاً، بنظر الشيوعيين في ألمانيا، ولكن، القضية هي بالضبط في أن لا نعتبر ما ولى عهده بالنسبة لنا، قد ولى عهده كذلك بالنسبة للطبقة وبالنسبة للجماهير[…] عليكم ألا تهبطوا إلى مستوى الجماهير، إلى مستوى الفئات المتأخرة من الطبقة، هذا مما لا جدال فيه. عليكم أن تفضوا إليها بالحقيقة المرة، عليكم أن تسموا أوهامها الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية أوهاماً. وعليكم مع ذلك أن تتابعوا على نحو سليم الحالة الحقيقية لوعي واستعداد الطبقة كلها بالذات (لا طليعتها الشيوعية وحسب)، الجماهير الكادحة جميعها بالذات (لا أفرادها المتقدمين وحدهم).»

ويضيف (في نفس المرجع):

«إذا كانت مجرد أقلية لا بأس بتعدادها، ناهيك عن “الملايين” و”الفيالق”، من العمال الصناعيين تسير في أثر القسس الكاثوليك، ومن العمال الزراعيين تتبع الملاكين العقاريين والكولاك (Grossbauern)، ينجم من هذا دون شك، أن البرلمانية في ألمانيا لما يول عهدها سياسياً، وأن الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال من على منبر البرلمان أمر لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية وكذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من طبقته هو، وبالضبط لأغراض إيقاظ وتنوير جماهير القرويين المبلدة والمظلومة والجاهلة».

«وما دمتم عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أياً كانت، فلا بد لكم أن تعملوا في داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدوا في بيئة الأرياف النائية، وإلا فقد تصبحون مجرد مهذارين».

يعتبر الرفاق والرفيقات في النهج الديمقراطي نفسهم ماركسيين لينينيين حقيقيين، ونحن لا نشكك في صدق هذا الشعور ولا في صدق نواياهم. إنهم يستشهدون في الكثير من الأحيان بماركس ولينين ويحاولون الاسترشاد بالنظرية الماركسية في تحليلهم للواقع، ويكيلون المديح لماركس ولينين، لكن حبذا لو أنهم، بخصوص مسألة الانتخابات، قرأوا بتمعن هذه الفقرة:

يقول لينين في مرض اليسارية:

«يسهب الشيوعيون “اليساريون” في الأقوال الطيبة بحقنا نحن البلاشفة. وبودي أحيانا أن أقول: حبذا لو قللتم من كيل المديح لنا، وأكثرتم من التمعن في تكتيك البلاشفة ومن التعرف به! لقد اشتركنا نحن في انتخابات البرلمان البورجوازي الروسي – الجمعية التأسيسية – في سبتمبر- نوفمبر سنة 1917. فهل كان تكتيكنا صحيحاً أم لا؟ فإذا لم يكن صحيحاً، ينبغي أن يقولوا ذلك بوضوح وتثبتوه، فذلك أمر ضروري من أجل وضع تكتيك صحيح من قبل الشيوعية العالمية. وإذا كان صحيحاً، فينبغي أن تستنتجوا من ذلك عبراً معينة. بديهي أنه لا يمكن أبداً اعتبار الظروف في روسيا والظروف في أوروبا الغربية متساوية. ولكن فيما يتعلق بالمسألة الخاصة، مسألة ماذا يعني مفهوم أن “البرلمانية قد ولى عهدها سياسياً” لا بد من مراعاة تجربتنا مراعاة دقيقة، إذ أن مثل هذه المفاهيم تتحول بسهولة كبيرة جداً، في حال عدم مراعاة التجربة الملموسة، إلى عبارات جوفاء. أفلم يكن من حقنا، نحن البلاشفة الروس، في سبتمبر- نوفمبر سنة 1917، أكثر من أي من الشيوعيين الغربيين، أن نعتبر البرلمانية في روسيا قد ولى عهدها سياسياً؟ بالطبع كان ذلك من حقنا، لأن القضية ليست في كون البرلمانات البرجوازية موجودة من أمد بعيد أو قريب، بل في مقدار استعداد الجماهير الغفيرة الكادحة (استعداداً فكريا وسياسياً وعملياً) لقبول النظام السوفييتي وحل (أو السماح بحل) البرلمان البرجوازي الديمقراطي. أمّا أن الطبقة العاملة في المدن والجنود والفلاحين في روسيا في سبتمبر نوفمبر سنة 1917 كانوا بحكم بعض الظروف الخاصة مهيئين بصورة ممتازة لقبول النظام السوفييتي وحل أكثر البرلمانات البرجوازية ديمقراطية، فهذا واقع لا جلل فيه مطلقاً وحقيقة تاريخية مقررة تماماً. ومع ذلك لم يقاطع البلاشفة الجمعية التأسيسية، بل اشتركوا في الانتخابات، سواء قبل أو بعد ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية. وأما أن هذه الانتخابات قد أعطت نتائج سياسية قيمة للغاية (ومفيدة للبروليتاريا فائدة قصوى)، فهذا ما أجرؤ على الأمل بأني قد أثبته في المقالة المذكورة أعلاه، والتي تحلل المعطيات المتعلقة بانتخابات الجمعية التأسيسية في روسيا تحليلاً وافياً».

وفي سياق تبرير قرار المقاطعة قال الرفيق مصطفى البراهمة أن العامل المحدد «في اتخاذ موقف المقاطعة أن الطبقات الشعبية والطبقة العاملة وعموم الكادحين من خلال وعيهم الحسي ومن خلال تجربتهم على مدى سنوات من الانتخابات الشكلية أدركوا أن لا رهان فيها ولا وظيفة لها غير إضفاء الشرعية على نظام الاستبداد والحكم الفردي لذلك هم يقاطعونها أو على الأقل يستنكفون عن المشاركة فيها». (جريدة النهج الديمقراطي، نفسه. ص 8)

نعم هذا صحيح: إن الجماهير الشعبية بالمغرب تقاطع بشكل ساحق الانتخابات. تقاطع بنسبة تتجاوز 80%! لكن هل تقاطع الجماهير فعلا لأنها أدركت أنها “انتخابات شكلية لا رهان فيها ولا وظيفة لها غير إضفاء الشرعية على نظام الاستبداد والحكم الفردي”؟ آه كم كان النضال ضد النظام القائم وضد الدولة البرجوازية القائمة سهلا لو كان هذا صحيح، لكنه ليس صحيحا مع الأسف! إن الجماهير التي تقاطع الانتخابات تقاطعها لأن “فيها غير الشلاهبية والكذابة” ولأن “الأحزاب كلها غير الشفارة والوصوليين”، وقد ويقول بعض المقاطعين: “كلهم شفارة، ما كاين غير سيدنا الله ينصرو”…

هل هذا هو “الإدراك”؟ هل هذا هو “الوعي” الذي يمكننا أن نراهن عليه من أجل النضال الثوري؟ كلا على الإطلاق! إن هذا الرفض الجماهيري للمشاركة في الانتخابات تعبير عن اليأس واللامبالاة والسلبية. وحتى إن عبر عن موقف سليم وصحي وصحيح من كل هؤلاء المرتزقة واللصوص والوصوليين وأحزابهم اليمينية و”اليسارية”، فإنه لا يصل إلى التشكيك في طبيعة المؤسسات نفسها ولا في الانتخابات البرجوازية في حد ذاتها ولا في الديمقراطية البرجوازية ككل. إنه موقف يمكن التعبير عنه بصيغة عكسية بالقول: لو لم يكن هؤلاء اللصوص و”الشلاهبية” و”الكذابة” لكنت شاركت، ولكن مع الأسف “ماكاينش” لمن تعطي صوتك من بينهم.

هذا يعني أنه أمامنا، نحن الماركسيون الاشتراكيون الثوريون، طريقا طويلا لنقطعه في مسيرة تثقيف أبناء طبقتنا وعموم الفقراء والكادحين لكي يتوصلوا إلى توسيع نظرتهم لكي يدركوا أن الأمر لا يتعلق فقط بالسمات الشخصية لهؤلاء المشاركين في الانتخابات، والذين هم بالفعل لصوص وكاذبون ووصوليون وفاسدون، بل بطبيعة الديمقراطية البرجوازية ككل والدولة البرجوازية في جوهرها، وأنه لتحقيق الديمقراطية الحقيقية، ديمقراطية الأغلبية، لا بد من النضال ضد الدولة البرجوازية وإسقاطها واستبدالها بدولة العمال والفلاحين والفقراء.

يقوم الموقف الماركسي الثوري على أساس المشاركة في الانتخابات، هذا هو الأصل في ممارستهم، بينما موقف المقاطعة هو الاستثناء ولا يلجئون إليه إلا في حالة وجود وضع ثوري تكون فيه الجماهير في الشارع بصدد بناء أجهزة سلطتها والمواجهة مع الدولة البرجوازية. وفي هذا السياق يقول تروتسكي: «لا يمكن لحزب ثوري أن يدير ظهره للبرلمان إلا إذا كان قد حدد لنفسه مهمة إسقاط النظام القائم فورا». فتصير المقاطعة آنذاك ضرورة وتصبح المشاركة في الانتخابات خيانة للثورة. في ظل الوضع الثوري وخلال الانتفاضة الثورية للطبقة العاملة وعندما لا تكون للجماهير أية أوهام حول الطريق البرلماني والانتخابات كوسيلة لحل مشاكلها، يصير من الخيانة الدعوة إلى مغادرة المتاريس وإلقاء السلاح واستبدال النضال الثوري بصناديق الاقتراع. لكن في مراحل الهدوء وعندما تكون للجماهير أوهام حول الطريق البرلماني تكون المشاركة هي التكتيك الصحيح.

للتعرف عن قرب على التكتيك الماركسي من الانتخابات ودواعي تلك المشاركة نجد من الضروري الاستشهاد بلينين: يقول لينين مرض اليسارية «إن التجربة الروسية أعطتنا مثالاً موفقا وصحيحاً لمقاطعة البلاشفة للبرلمان (سنة 1905) وآخر خطئاً (سنة 1906)». قاطع البلاشفة الانتخابات سنة 1905 وهو الموقف الذي اعتبره لينين صحيحا، كما قاطعوا سنة 1906، وهو الموقف الذي كان خاطئا لكنه لم يكن خطئا قاتلا حسب تعبير لينين، بينما شاركوا في انتخابات 1907. سيصرخ العصبوي والمنظر اليسراوي البرجوازي الصغير، الذي يبقى الجدل والعلم بالنسبة له كتابا مغلقا بعشرة أقفال: كيف يعقل هذا؟ موقفان، بل وثلاثة مواقف من برلمان واحد؟ قلبي الصغير لا يتحمل وعقلي الطاهر الحاسم الذي ينظر إلى الواقع بمنطق “إما هذا وإما ذاك” لا يقبل ولا يمكن أن يقبل بهذا التناقض». لكن جوهر اللينينية هي التطبيق الخلاق للجدل الماركسي في قراءة الواقع والحرص على دراسة الواقع دراسة ملموسة جدية ودقيقة. لهذا تمكن من قيادة الحزب في بحر متلاطم من الأحداث والتناقضات والمنعطفات الحادة، ليس بدون نضال حازم ضد العصبويين والانتهازيين والمتطرفين اليسراويين واليمينيين، نضال انتهى أحيانا حتى بالانشقاق.

قاطع البلاشفة الانتخابات ثم شاركوا فيها، هل قاطعوها لأن القمع كان متواصلا والانتخابات لم تكن نزيهة وما إلا ذلك من الاعتبارات التي تدفع النهج الآن للمقاطعة؟ وهل شاركوا فيها سنة 1907 لأن القمع لم يعد وصارت الانتخابات نزيهة والبرلمان صار يمتلك صلاحيات حقيقية؟ كلا ! لم يقاطع البلاشفة سنة 1905 الانتخابات بسبب الطبيعة الرجعية للبرلمان، كما لم يشاركوا فيها لأنه صار برلمانا تقدميا.

سنة 1905 كانت الثورة في أوجها وتتقدم بخطى حثيثة، والجماهير في الشوارع تبني المجالس الشعبية (السوفييتات) أجهزة سلطتها، ازدواجية السلطة صارت واقعا ملموسا، وكل مؤسسات الدولة القيصرية فاقدة للشرعية ومعلقة بخيط رفيع في الهواء. في تلك اللحظة دعا لينين إلى مقاطعة انتخابات الدوما كخطوة من خطوات الإعداد للانتفاضة المسلحة.

في مثل هذه اللحظة تكون دعوة الجماهير إلى التخلي عن الشوارع والسير على الطريق البرلماني خطأ وجريمة لا تغتفر. وهذه الجريمة هي بالضبط ما اقترفه حزب العمال التونسي، بقيادة حمة الهمامي، أثناء الثورة التونسية، عندما كانت الجماهير في الشوارع تبني أجهزة سلطتها في الأحياء والقرى وأماكن العمل، بينما كان هو يدعوها إلى الطريق البرلماني وانتظار الانتخابات والمشاركة فيها، مما مكن البرجوازية ودولتها من استعادة زمام المبادرة وتنظيم صفوفها واسترجاع السلطة من الشوارع إلى الغرف المغلقة.

لكن بمجرد ما استوعب البلاشفة أن الثورة قد بدأت تتراجع وأن الانتفاضة المسلحة أصبحت خارج جدول الأعمال غير لينين موقفه في غشت 1906، وأيد موقف المشاركة في الانتخابات، بل وصل به الأمر للتصويت، في مؤتمر الحزب الاشتراكي الديمقراطي في 1907 مع المناشفة ضد البلاشفة !

ولتتضح الصورة سنقتطف ما كتبه لينين نفسه عن تلك التكتيكات في كتابه “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”:

«في سنة 1908 فصل البلاشفة “اليساريون” من حزبنا لعنادهم في الامتناع عن فهم ضرورة الاشتراك في “البرلمان” الرجعي للغاية. وهؤلاء “اليساريون” – وفي عدادهم كان كثيرون من الثوريين البارعين الذين غدوا فيها بعد (ولا يزالون) أعضاء شرفاء في الحزب الشيوعي- كانوا يستندون بخاصة إلى تجربة المقاطعة الناجحة لانتخابات سنة 1905. فعندما أعلن القيصر في غشت سنة 1905 دعوة “البرلمان” الاستشاري أعلن البلاشفة مقاطعته – على النقيض من جميع الأحزاب المعارضة ومن المناشفة – وبالفعل ثورة أكتوبر سنة 1905 كنسته.

إن المقاطعة كانت آنذاك صحيحة لا لسبب أن عدم الاشتراك في البرلمانات الرجعية بوجه عام هو أمر صحيح، بل لصحة تشخيص الظروف الموضوعية التي كانت تؤدي إلى تحول الإضرابات الجماهيرية بسرعة إلى إضراب سياسي ثم إلى إضراب ثوري وبعد ذلك إلى انتفاضة. هذا وأن النضال كان يجري آنذاك حول ما إذا كانت دعوة أول مؤسسة تمثيلية تبقى في يد القيصر، أو أن يبذل الجهد لانتزاعها من يد السلطة القديمة. وطالما لم تكن وما كان ممكنا أن تكون هناك ثقة بتوفر ظروف موضوعية مماثلة، وكذلك بتطورها في هذا الاتجاه وهذه السرعة نفسيهما، فإن المقاطعة لم تعد أمراً صحيحاً.

قد أغنت المقاطعة البلشفية “للبرلمان” في سنة 1905 البروليتاريا الثورية بخبرة سياسية قيمة جدا، إذ بينت أنه من المفيد أحياناً بل ومن اللزوم، عند الجمع بين أشكال النضال العلنية وغير العلنية والبرلمانية وغير البرلمانية، الامتناع عن الأشكال البرلمانية. بيد أنه يكون من أفحش الأخطاء تطبيق هذه الخبرة في ظروف أخرى وموقف آخر تطبيقاً أعمى وعن تقليد ودون تمحيص. مقاطعة “الدوما” من طرف البلاشفة سنة 1906 كانت غلطة غير خطيرة وقابلة للتصحيح بسهولة. أمّا المقاطعة في سنتي 1907 و1908 والسنوات التي تلتهما فقد كانت خطأ فاحشاً من العسير إصلاحه، حيث، من جهة، لم يكن ممكناً توقع صعود سريع جداً لموجة ثورية وصيرورتها إلى انتفاضة، وحيث، من جهة أخرى، كانت ضرورة الجمع بين النشاط العلني وغير العلني، تنجم عن كامل الوضوح التاريخي، وضع الملكية البرجوازية الجاري تجديدها.

والآن، عندما نلقي نظرة إلى الوراء على الفترة التاريخية المنصرمة تماماً والتي تجلت تماما صلتها بالفترات التالية لها، يغدو واضحاً جداً أن البلاشفة ما كانوا استطاعوا أن يحتفظوا (ناهيك عن أن يعززوا ويطوروا ويقووا) بالنواة الصلبة لحزب البروليتاريا الثوري في سنة 1908-1914، لو أنهم لم يذودوا في نضال حامي الوطيس عن إلزامية الجمع بين الأشكال العلنية وغير العلنية للنضال، مع إلزامية الاشتراك في البرلمان الرجعي للغاية وفي جملة من المؤسسات الأخرى التي استنت لها قوانين رجعية (كصناديق التأمين وما إليها)».

والآن ما هو البديل الذي يقدمه الرفاق في النهج الديمقراطي عند مقاطعتهم لهذه الانتخابات؟

إنه حسب النداء الذي صدر بالمناسبة «النضال إلى جانب الشعب وبناء وتطوير جمعيات الأحياء ومنظمات نقابية ومهنية وجمعيات ثقافية… كتنظيمات ذاتية مستقلة للجماهير». وحسب الإعلان الصادر عن اجتماع اللجنة للنهج الديمقراطي في دورة عادية يوم الأحد 26 يوليوز 2015 قال الرفاق إنهم يدعون «كافة القوى الديمقراطية والمدنية المناضلة إلى تأسيس جبهات/تنسيقيات محلية من اجل الحريات والحقوق الاجتماعية كما تدعو إلى تطوير حركة 20 فبراير كنواة لجبهة ميدانية ممكنة». وهو التكتيك الذي يصيبنا بالحيرة. إذ أن المشاركة في الانتخابات تكتيك لا ينفي ولا يلغي النضال الأساسي والرئيسي إلى جانب الشعب، بل يعتبر جزءا منه. لذا لا مجال لوضع هذا في وجه ذاك، واعتباره بديلا عنه. إن وضعهما في مقابل بعضهما البعض موقف خطأ. ما الذي يمنع من أن نقوم بالعملين معا؟

فالنضال إلى جانب الشعب بالطرق التقليدية للكفاح العمالي كالإضرابات والمظاهرات، الخ وتنظيم الجماهير بأشكال تنظيمية مختلفة، هو حقل اشتغالنا الرئيسي، إذ وكما قال لينين (مرض اليسارية) «إن “الحراك الجماهيري” – إضراب كبير على سبيل المثال – هو أكثر أهمية من النشاط البرلماني في جميع الأوقات، وليس فقط خلال ثورة أو حالة ثورية». لكنه لا يمنعنا من الاستفادة من المنابر البرجوازية لتعزيز ذلك النضال وإغناءه.

فلنفترض أن هناك تقليدا ما يقوم على السماح للأحزاب السياسية مرة كل بضع سنوات باستعمال القنوات التلفزية العمومية للدعاية لمواقفها وبرامجها، تلك القنوات رجعية ومحتكرة من طرف الدولة وتستعمل طيلة السنة في نشر الفكر الرجعي وإضفاء الشرعية على نظام الاستبداد، الخ. وعندما تشارك فيها الأحزاب البرجوازية والإصلاحية تعمل كل جهدها على نشر الأكاذيب والوعود الخادعة وما إلى ذلك. هل يمكننا أن نقاطع المشاركة في تلك القنوات التلفزيونية، ونتخلى عن حقنا في استعمالها للدعاية لأفكارنا وفضح الأكاذيب، بحجة أن تلك القنوات رجعية والمشاركون فيها “شلاهبية” ووصوليون الخ؟ أو بحجة أنا نناضل وسنناضل، ننظم وسننظم؟

كلا بطبيعة الحال، سيكون مثل هذا الموقف خطأ جسيما وطفوليا بل وجريمة. وما يسجل للرفاق في النهج الديمقراطي هو أنهم لم يسقطوا في هذا الخطأ عندما أتيحت لهم فرصة الاستفادة من ذلك المنبر، إذ أنهم استغلوه للدفاع عن تصورهم (مشاركة الرفيق حميد أمين في برنامج عن طقوس البيعة وتقبيل يد الملك، على سبيل المثال). لكنهم يقعون في ذلك الخطأ عندما يتعلق الأمر بالانتخابات !

يقول لينين في مرض اليسارية: «لقد ثبت أن الاشتراك في البرلمان البرجوازي الديمقراطي، حتى لبضعة أسابيع قبل انتصار الجمهورية السوفييتية، وحتى بعد هذا الانتصار، لا يضر البروليتاريا الثورية، بل يسهل لها إمكانية أن تثبت للجماهير المتأخرة لماذا تستوجب هذه البرلمانات الحل، وهو يسهل النجاح في حلها، ويسهل “إزالة” البرلمانية البرجوازية “سياسيا”».

ويضيف: «لقد التبس الأمر تماماً على واضعي هذه الموضوعة وغابت عن بالهم تجربة سلسلة كاملة من الثورات إن لم نقل جميعها، التجربة التي تشهد بأنه من النافع على الخصوص في زمن الثورة الجمع بين العمل الجماهيري خارج البرلمان الرجعي وبين المعارضة المتعاطفة في داخل هذا البرلمان مع الثورة (والأفضل من ذلك: المؤيدة للثورة تأييداً مباشراً).

فلنكن واضحين وصرحاء، إن ما يدفع الرفاق في النهج الديمقراطي إلى مقاطعة الانتخابات خوفهم من الظهور بمظهر الحزب الصغير غير المؤثر وغير المعروف من طرف الجماهير. لكن ما لا يفهمه الرفاق هو أن الماركسيين عندما يشاركون في الانتخابات لا يشاركون فيها من أجل كسبها والفوز بأي عدد من المقاعد. لذلك فمسألة الهزيمة وعدم الحصول على أي مقعد لا تشكل بالنسبة إليهم أية مشكلة على الإطلاق، ما داموا قد قاموا خلال الحملة الانتخابية بمهمة التثقيف الجماهيري بالشكل الصحيح.

وكذلك رغبتهم في المحافظة على الوحدة الداخلية أمام المتشبثين بتقليد المقاطعة الكسول اليسراوي المتطرف، خاصة وأن هؤلاء الأخيرين هم من يستندون إلى التقليد التاريخي لمنظمة إلى الأمام التي يعتبر النهج نفسه استمرارية لها ويستمد منها جزءا كبيرا من الشرعية والنفوذ. إن المحافظة على الوحدة الداخلية وتقويتها وتصليبها مسألة ضرورية بالنسبة للحزب لكنها تكون بالعمل الحريص والعنيد والمتواصل على تثقيف الأعضاء على قاعدة النظرية الماركسية وتحويلهم إلى كوادر ثورية قادرة على تحليل الواقع واقتراح التكتيكات المناسبة في الوقت المناسب. أما المحافظة على الوحدة بهذه الطريقة فليست سوى وصفة لتأجيل حدوث الأزمات والانشقاقات وليس تلافي حدوثها.

إن تعبئة المناضلين اليوم على أساس موقف أن الحزب يقاطع لأن الانتخابات غير نزيهة والمؤسسات صورية والقمع مستمر، يعني أنه على الحزب، لكي ينسجم مع نفسه، ألا يشارك في أية انتخابات مطلقا، إلا عند إسقاط النظام وبناء دولة الديمقراطية العمالية. يكفي أن نطرح المسألة على هذا الأساس الواضح لكي يتضح أنه موقف عبثي وخاطئ بشكل كلي. أما إذا حاول الحزب تغيير التكتيك خارج ذلك الشرط المذكور فإنه سيكون هناك دائما من سيقول: لا لا يمكننا أن نشارك في الانتخابات فهي غير نزيهة وصورية والقمع ما زال مستمرا، الخ. هذه انتهازية، تحريفية، ردة…». وفي جميع الحالات يجب ألا نجعل من خشية مواجهة الصعوبات سببا في استنكافنا عن تبني المواقف والتكتيكات الصحيحة بخصوص الانتخابات وغيرها من التكتيكات. قال لينين:

«إن الصبيانية في “نفي” الاشتراك في البرلمان هي أنهم يريدون على وجه الضبط، بهذه الطريقة “البسيطة”، و”الهيّنة”، والمزعوم أنها ثورية، أن “يحلوا” المهمة الصعبة، مهمة النضال ضد النفوذ البرجوازي الديمقراطي داخل حركة العمال. أمّا في الواقع، فإنهم يفرون فزعا من ظلهم ويغلقون أعينهم بقوة على المصاعب، ويتهربون منها بالكلمات فقط.

يخيل إليكم، أيها المقاطعون الأعزاء والمناوئون للبرلمان، أنكم “ثوريون رهيبون”؛ أمّا في واقع الأمر، فقد ارتعدت فرائصكم أمام مصاعب غير ذات شأن نسبيا من مصاعب النضال ضد نفوذ البرجوازية داخل حركة العمال، في حين أن انتصاركم، وأعني إسقاط البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، يوجد المصاعب هذه ذاتها بمقياس أكبر من ذلك وأوسع بكثير.

لقد ارتعدت فرائصكم كالأطفال أمام الصعوبة الصغيرة التي تواجهكم اليوم، ولم تفهموا أنه لا بدّ لكم إذا وبعد غد أن تكملوا تثقيفكم، أن تتعلموا كيفية التغلب على هذه المصاعب ذاتها ولكن في مقاييس أوسع بما لا يحد». (مرض اليسارية…)

كما صرح الرفاق بأنهم سوف لن يكتفوا بالمقاطعة بل سوف ينظمون “مقاطعة نشطة” للانتخابات. لذلك خرجوا إلى بعض الشوارع الرئيسية وأحيانا في بعض الأسواق الشعبية والأحياء الفقيرة لتوزيع بيان المقاطعة ورفع الشعارات الداعية للمقاطعة والدردشة مع بعض الأشخاص.

إن المقاطعة النشيطة من وجهة النظر الماركسية هي المزاوجة بين الدعوة لمقاطعة الانتخابات وبين تحريض الجماهير لحسم السلطة السياسية والاستيلاء على مراكز القرار الاقتصادي والسياسي. لكن هذا النوع من المقاطعة مستحيل خارج شروطه الموضوعية (والذاتية كذلك طبعا) أي خارج وجود وضع ثوري. يكون هذا التكتيك صحيحا وضروريا عندما يكون هناك وضع ثوري نشيط، عندما تكون الجماهير في الشوارع وأماكن العمل ثائرة ومصممة على أخذ مصيرها بين أيديها، وعندما نكون أمام ازدواجية السلطة. يكون هذا هو التكتيك الصحيح، عندما تكون الثورة آخذة في التطور إلى انتفاضة مسلحة. أما الخروج إلى الشوارع لتوزيع بيان المقاطعة على من هم في الغالب مقاطعون أصلا، وليسو بحاجة لمن يطلب منهم المقاطعة بل في حاجة إلى من يشرح لهم البديل الحقيقي ويطرح لهم برنامجا ثوريا، فإنها ليست مقاطعة نشيطة بل تكتيكا ينم عن الكسل والرغبة في تلافي مجابهة الصعوبات.

ليست لدينا نحن رابطة العمل الشيوعي أية عقدة في أن نعترف بأننا ما نزال منظمة صغيرة كميا، وغير قادرة على توجيه الأحداث ولا حتى المشاركة فيها من موقع مؤثر، لكن هذا لا يمنعنا من أن نتبنى تصورا واضحا لطبيعة المهام التي توجد أمامنا في المستقبل ونثقف على أرضيتها الشباب الثوري الباحث عن بناء قيادة ثورية لنضالات طبقتنا وشعبنا من أجل تغيير المجتمع. كما لا يجعلنا نتغافل عن ضرورة نقد ما نراه أخطاء في ممارسات رفاقنا في بقية التيارات اليسارية خاصة في فدرالية اليسار والنهج الديمقراطي من أجل تطوير التجربة الجماعية.

وفي الختام نقول كنا نود لو تمت الدعوة إلى جبهة موحدة بين أحزب فدرالية اليسار والنهج الديمقراطي وبقية التيارات اليسارية الجذرية لخوض الانتخابات الحالية وغيرها من المحطات على أساس برنامج اشتراكي ثوري، وباستعمال التكتيكات المناسبة لكي نشرح للجماهير الطبيعة الدكتاتورية للنظام القائم، وزيف شعارات الديمقراطية التي يختفي من ورائها، إضافة إلى فضح حدود وزيف الديمقراطية البرجوازية ومؤسساتها وضرورة النضال من أجل أن تصير السلطة للعمال. وتحريض الجماهير لكي تعمل على أخذ مصيرها بين أيديها عبر تشكيل مجالس شعبية منتخبة في الأحياء العمالية والمصانع والقرى والجامعات، يتم التنسيق بينها على الصعيد المحلي والجهوي والوطني، عبر ممثلين منتخبين ديمقراطيا، تنفذ قرار الجماهير بمصادرة أملاك مغتصبي الملكية ووضعها تحت الرقابة الديمقراطية للعمال والفلاحين المنتجين الفعليين للثروة وتوجيهها لخدمة مصالح الأغلبية الساحقة في مغرب اشتراكي جزء من فدرالية اشتراكية للمغرب الكبير وشمال إفريقيا والشرق الأوسط والعالم.

ملحق مكمل للفصل الثاني:

مقتطف من كتاب مرض -اليسارية- الطفولي في الشيوعية

«7) هل يجب الاشتراك في البرلمانات البرجوازية؟

يجيب الشيوعيون “اليساريون” الألمان بمنتهى الاستخفاف، وبنزق ما بعده نزق، على هذا السؤال جواباً سلبياً. فما هي حججهم؟ لقد جاء في الفقرة المقتبسة المذكورة أعلاه ما يلي:

«… بجب بكل حزم رفض أية عودة إلى طريق النضال البرلمانية التي ولى عهدها تاريخياً وسياسياً…».

إن هذا الزعم متعجرف إلى حد يدعو للضحك، كما أنه خاطئ بشكل بيّن. “العودة” إلى البرلمانية! هل قامت جمهورية سوفييتية في ألمانيا يا ترى؟ كلا، حسبما يبدو! فكيف إذن يمكن الحديث عن “العودة”؟ أليس ذلك مجرد عبارة جوفاء؟

البرلمانية قد “ولى عهدها تاريخياً”. إن هذا صحيح من ناحية الدعاية. ولكن كل واحد يعلم أنه شتان ما بين هذا وبين التغلب على البرلمانية عملياً. فمنذ عشرات السنين كان من الممكن، ومع أتم الحق، أن يقال أن الرأسمالية “قد ولى عهدها تاريخياً” ولكن هذا لا ينفي قط ضرورة شن نضال مديد جداً وعنيد للغاية في صعيد الرأسمالية. إن البرلمانية قد “ولى عهدها تاريخيا” من وجهة نظر التاريخ العالمي، أي بمعنى أن عهد البرلمانية البرجوازية قد انطوى، وأن عهد ديكتاتورية البروليتاريا قد بدأ. هذا ما لا جدال فيه. بيد أن الحساب على الصعيد التاريخي العالمي يجري بعشرات السنين. فإن عشرة سنوات أو عشرين سنة أسرع أو أبطأ -إن هذا من وجهة نظر المقاييس التاريخية العالمية أمر لا شأن له، كما أنه، من وجهة نظر التاريخ العالمي، شيء زهيد لا يمكن حسابه حتى بصورة تقريبية. ولهذا السبب بالذات يكون الاستناد إلى المقياس التاريخي العالمي فيما يخص مسألة السياسة العملية خطأ نظرياً في منتهى الفداحة.

هل البرلمانية قد “ولى عهدها سياسياً”؟ هذه قضية أخرى. فلو كان ذلك صحيحاً لكان موقف “اليساريين” وطيداً. غير أن هذا ما ينبغي إثباته بتحليل جدي، بينما “اليساريون” لا يعرفون حتى كيف يتناولون هذا التحليل. ففي “موضوعات بصدد البرلمانية”، المنشورة في العدد الأول من “نشرة مكتب أمستردام الوقت للأممية الشيوعية” (Bulletin of the Provisional Bureau in Amsterdam of the Communist Internationa, February, 1920) والمعبرة بوضوح عن النزوع اليساري الهولندي أو الهولندي اليساري، نجد كذلك، كما سنرى، تحليلا في غاية الرداءة.

أولاً، إن “اليساريين” الألمان، كما هو معروف، قد اعتبروا، حتى منذ يناير 1919، أن البرلمانية قد “ولى عهدها سياسياً”، وذلك بالرغم من رأي قائدين سياسيين مرموقين كروزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت. ومعروف أن “اليساريين” قد أخطأوا. وهذا وحده ما يقضي رأسا وبشكل جذري على الموضوعة الزاعمة بأن البرلمانية قد “ولى عهدها سياسياً”. وأن “اليساريين” ملزمون بأن يعللوا لماذا لم تعد غلطتهم البينة السابقة غلطة في الوقت الحاضر. إنهم لا يأتون حتى بشبه تعليل ولا يستطيعون الإتيان به. إن موقف الحزب السياسي من أخطائه هو واحد من أهم وأصدق الأدلة على جدية الحزب وتنفيذه في الواقع واجباته إزاء طبقته والجماهير الكادحة. إن الاعتراف جهاراً بالخطأ، والكشف عن علله، وتحليل الظروف الذي أدى إلى ارتكابه، والبحث باهتمام في وسائل إصلاح الخطأ -إنما هو علامة الحزب الجدي، إنما هو تنفيذه لواجباته، إنما هو تربية وتعليم الطبقة ومن ثم الجماهير. فإن “اليساريين” في ألمانيا (وفي هولندا)، إذ لا ينفذون واجبهم هذا ولا يبذلون منتهى الانتباه والعناية والحيطة في فحص خطئهم البين، ويثبتون بذلك أنهم ليسوا حزب الطبقة، بل حلقة، وليسو حزب الجماهير، بل زمرة من المثقفين والعمال القلائل ممن يتخلقون بأسوأ صفات المثقفين.

ثانيا، في ذات الكراس العائد لفرقة “يساريي” فرانكفورت، والذي اقتبسنا نحن منه أعلاه فقرة مسهبة نقرأ ما يلي:

«… إن الملايين من العمال الذين لا يزالون يتبعون سياسة الوسط – حزب “الوسط” الكاثوليكي – معادون للثورة. وبروليتاريا الأرياف تقدم فيالق من القوات المعادية للثورة» (ص3 من الكراس المذكور).

إن هذا القول، حسب كل الدلائل، مفرط في التعميم والمبالغة. لكن الحقيقة الأساسية الواردة هنا لا جدال فيها، واعتراف “اليساريين” بها هو شهادة بينة للغاية على خطئهم. إذ كيف يمكن أن يزعموا أن “البرلمانية قد ولى عهدها سياسياً”، إذا كانت “الملايين” و”الفيالق” من البروليتاريين لا تزال تؤيد البرلمانية بوجه عام، وليس هذا وحسب، بل أنها أيضاً “معادية للثورة” مباشرة!؟ واضح أن البرلمانية في ألمانيا لما يول عهدها سياسياً. وواضح أن “اليساريين” في ألمانيا قد اعتبروا رغبتهم وموقفهم السياسي والفكري واقعاً موضوعيا. وهذه هي أخطر غلطة يرتكبها الثوريون. ففي روسيا حيث ظلم القيصرية البهيمي والوحشي للغاية خلال مدة طويلة جداً وفي أشكال متنوعة جداً أوجد ثوريين من مختلف الاتجاهات، ثوريين مدهشين من حيث الإخلاص والحماسة والبطولة وقوة الإرادة، في روسيا شاهدنا نحن عن كثب غلطة الثوريين هذه، وتفحصناها بانتباه كبير، ونعرفها جيداً جداً ولذلك فهي واضحة لنا كل الوضوح عندما يرتكبها الآخرون. إن البرلمانية قد “ولى عهدها سياسياً”، طبعاً، بنظر الشيوعيين في ألمانيا، ولكن، القضية هي بالضبط في أن لا نعتبر ما ولى بالنسبة لنا، قد ولى عهده كذلك بالنسبة للطبقة وبالنسبة للجماهير. إننا نرى هنا أيضاً أن “اليساريين” لا يستطيعون الحكم على الأشياء كما لا يستطيعون أن يسلكوا سلوك حزب الطبقة، حزب الجماهير. عليكم الاّ تهبطوا إلى مستوى الجماهير، إلى مستوى الفئات المتأخرة من الطبقة. وهذا ما لا جدال فيه. عليكم أن تفضوا إليها بالحقيقة المرة. عليكم أن تسموا أوهامها الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية أوهاماً. وعليكم مع ذلك أن تتابعوا على نحو سليم الحالة الحقيقية لوعي واستعداد الطبقة كلها بالذات (لا طليعتها الشيوعية وحسب)، الجماهير الكادحة جميعها بالذات (لا أفرادها المتقدمين وحدهم).

وإذا كانت مجرد أقلية لا بأس بتعدادها، ناهيك عن “الملايين” و”الفيالق”، من العمال الصناعيين تسير في أثر القسس الكاثوليك، ومن العمال الزراعيين تتبع الملاكين العقاريين والكولاك (Grossbauern)، ينجم من هذا دون شك، أن البرلمانية في ألمانيا لما يول عهدها سياسياً، وأن الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال من على منبر البرلمان أمر لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية وكذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من طبقته هو، وبالضبط لأغراض إيقاظ وتنوير جماهير القرويين المبلدة والمظلومة والجاهلة. وما دمتم عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أياً كانت، فلا بد لكم أن تعملوا في داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدوا في بيئة الأرياف النائية، وإلا فقد تصبحون مجرد مهذارين.

ثالثا، يسهب الشيوعيون “اليساريون” في الأقوال الطيبة بحقنا نحن البلاشفة. وبودي أحيانا أن أقول: حبذا لو قللتم من كيل المديح لنا، وأكثرتم من التمعن في تكتيك البلاشفة ومن التعرف به ! لقد اشتركنا نحن في انتخابات البرلمان البورجوازي الروسي – الجمعية التأسيسية – في سبتمبر-نوفمبر سنة 1917. فهل كان تكتيكنا صحيحاً أم لا ؟ فإذا لم يكن صحيحاً، ينبغي أن يقولوا ذلك بوضوح وتثبتوه، فذلك أمر ضروري من أجل وضع تكتيك صحيح من قبل الشيوعية العالمية. وإذا كان صحيحاً، فينبغي أن تستنتجوا من ذلك عبراً معينة. بديهي أنه لا يمكن أبداً اعتبار الظروف في روسيا والظروف في أوروبا الغربية متساوية. ولكن فيما يتعلق بالمسألة الخاصة، مسألة ماذا يعني مفهوم أن “البرلمانية قد ولى عهدها سياسياً” لا بد من مراعاة تجربتنا مراعاة دقيقة، إذ أن مثل هذه المفاهيم تتحول بسهولة كبيرة جداً، في حال عدم مراعاة التجربة الملموسة، إلى عبارات جوفاء. أفلم يكن من حقنا، نحن البلاشفة الروس، في سبتمبر-نوفمبر سنة 1917، أكثر من أي من الشيوعيين الغربيين، أن نعتبر البرلمانية في روسيا قد ولى عهدها سياسياً ؟ بالطبع كان ذلك من حقنا، لأن القضية ليست في كون البرلمانات البرجوازية موجودة من أمد بعيد أو قريب، بل في مقدار استعداد الجماهير الغفيرة الكادحة (استعداداً فكريا وسياسياً وعملياً) لقبول النظام السوفييتي وحل (أو السماح بحل) البرلمان البرجوازي الديموقراطي. أمّا أن الطبقة العاملة في المدن والجنود والفلاحين في روسيا في سبتمبر-نوفمبر سنة 1917 كانوا بحكم بعض الظروف الخاصة مهيئين بصورة ممتازة لقبول النظام السوفييتي وحل أكثر البرلمانات البرجوازية ديموقراطية، فهذا واقع لا جلل فيه مطلقاً وحقيقة تاريخية مقررة تماماً. ومع ذلك لم يقاطع البلاشفة الجمعية التأسيسية، بل اشتركوا في الانتخابات، سواء قبل أو بعد ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية. وأما أن هذه الانتخابات قد أعطت نتائج سياسية قيمة للغاية (ومفيدة للبروليتاريا فائدة فصوى)، فهذا ما أجرؤ على الأمل بأني قد أثبته في المقالة المذكورة أعلاه، والتي تحلل المعطيات المتعلقة بانتخابات الجمعية التأسيسية في روسيا تحليلاً وافياً.

الاستنتاج من ذلك لا جدال فيه إطلاقا: فلقد ثبت أن الاشتراك في البرلمان البرجوازي الديموقراطي، حتى لبضعة أسابيع قبل انتصار الجمهورية السوفييتية، وحتى بعد هذا الانتصار، لا يضر البروليتاريا الثورية، بل يسهل لها إمكانية أن تثبت للجماهير المتأخرة لماذا تستوجب هذه البرلمانات الحل، وهو يسهل النجاح في حلها، ويسهل “إزالة” البرلمانية البرجوازية “سياسيا”. إن عدم أخذ هذه التجربة بعين الاعتبار، والادعاء في ذات الوقت بالانتماء إلى الأممية الشيوعية، التي ينبغيس أن تضع تكتيكها أممياً (لا كتكتيك وطني ضيق وذي جانب واحد، بل بالضبط كتكتيك أممي)، يعني ارتكاب أفحش غلطة، والتراجع عن الأممية فعلاً، مع الاعتراف بها قولاً.

والآن فلنلق نظرة على الحجج “اليسارية الهولندية” تأييداً لعدم الاشتراك في البرلمانات. إليكم ترجمة (عن الانجليزية) لأهم موضوعة من موضوعات “الهولندية” المذكورة أعلاه، ونعني بها الموضوعة الرابعة:

«عندما يكون تحطيم نظام الانتاج الرأسمالي قد تم ويكون المجتمع في حالة الثورة، يفقد النشاط البرلماني بالتدريج أهميته بالقياس إلى نشاط الجماهير نفسها. وعندما يصبح البرلمان، في مثل هذه الظروف، مركز العداء للثورة وهيئته، بينما الطبقة العاملة تصنع، من الجهة الأخرى، أداة سيطرتها بشكل السوفييتات، قد يكون حتى من الضروري الامتناع عن كل اشتراك أيا كان في النشاط البرلماني».

إن الجملة الأولى غير صحيحة بشكل بين، لأن أعمال الجماهير، كالإضراب الكبير مثلا، هي أهم من النشاط البرلماني على الدوام، وليس فقط في زمن الثورة أو في حالة توفر الوضع الثوري. إن هذه الحجة البينة بطلانها، وغير الصحيحة من الوجهة التاريخية والسياسية، تبين بوضوح خاص أن واضعي هذه الموضوعات لا تأبهون أبداً لا للتجربة الأوروبية العامة (الفرنسية قبيل ثورتي سنتي 1848 و1870، والألمانية لسنوات 1878-1890 وغير ذلك) ولا للتجربة الروسية (راجع ما ذكر أعلاه) فيما يخص أهمية الجمع بين النضال العلني والسري. وهذه المسألة على جانب هائل من الأهمية، سواء من الوجهة العامة أو الخاصة، لأنه يقترب بسرعة في جميع البلدان المتمدنة والمتقدمة وقت يصبح فيه مثل هذا الجمع (وقد أصبح جزئياً) أكثر فأكثر أمراً لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية، وذلك بحكم اختمار واقتراب الحرب الأهلية بين البروليتاريا والبرجوازية، وبحكم الملاحقات القاسية التي يتعرض لها الشيوعيون من قبل الحكومات الجمهورية والحكومات البرجوازية بوجه عام من أبلغ الشواهد على ذلك) الخ.. وهذه المسألة الهامة للغاية لم يدركها بتاتاً الهولنديون واليساريون جميعهم.

والجملة الثانية هي، أولاً، غير صحيحة تاريخياً. فلقد اشتركنا نحن البلاشفة في أشد البرلمانات عداء للثورة، وقد برهنت التجربة أن مثل هذا الاشتراك لم يكن مفيدا وحسب، بل كان ضرورياً أيضاً لحزب البروليتاريا الثورية، بالضبط بعد الثورة البرجوازية الأولى في روسيا (1905) من أجل التحضير للثورة البرجوازية الثانية (فبراير 1917) وبعد ذلك للثورة الاشتراكية (أكتوبر 1917). ثانيا، إن هذه الجملة غير منطقية لحد مدهش. فمن واقع أن البرلمان يصبح هيئة العداء للثورة و”مركزه” (ونذكر عرضا أن البرلمان لم يكن في الواقع قط “مركزا” ولا يمكنه أن يكونه)، وأن العمال ينشئون أداة سلطتهم بشكل السوفييتات، ينجم أن العمال ينبغي أن يستعدوا، فكرياً وسياسياً وفنياً، لنضال السوفييتات ضد البرلمان، ولحل البرلمان من جانب السوفييتات. غير أنه لا ينجم من هذا أبداً أن وجود معارضة سوفييتية داخل البرلمان المعادي للثورة يعيق مثل هذا الحل أو أنه لا يسهله. إننا لم نلحظ ولا مرة، أثناء نضالنا المظفر ضد دينيكين وكولتشاك، أن وجود معارضة سوفييتية بروليتارية في معسكرهما كان أمراً لا شأن له في انتصاراتنا. إننا نعرف خير معرفة أن وجود المعارضة السوفييتية، سواء منها المعارضة البلشفية الراسخة أو معارضة الاشتراكيين-الثوريين اليساريين المتقلقلة، في داخل الجمعية التأسيسية المعادية للثورة، المقرر حلها، لم يعسر علينا تحقيق حل هذه الجمعية التأسيسية في 5 يناير سنة 1918 بل سهله. لقد التبس الأمر تماماً على واضعي هذه الموضوعة وغابت عن بالهم تجربة سلسلة كاملة من الثورات إن لم نقل جميعها، التجربة التي تشهد بأنه من النافع على الخصوص في زمن الثورة الجمع بين العمل الجماهيري خارج البرلمان الرجعي وبين المعارضة المتعاطفة في داخل هذا البرلمان مع الثورة (والأفضل من ذلك: المؤيدة للثورة تأييداً مباشراً). إن الهولنديين و”اليساريين” عموماً يتناولون هذا الأمر كثوريين عقائديين لم يشاركوا قط في ثورة حقيقية أو لم يتمنعوا في تاريخ الثورات، أو يعتقدون بسذاجة أن “الرفض” الذاتي لمؤسسة رجعية ما يعني تحطيمها فعلاً بتضافر مفاعيل جملة كاملة من العوامل الموضوعية. إن أوثق وسيلة للحط من فكرة سياسية جديدة (وليست السياسة وحدها) والإضرار بها، هي السير بها إلى حد السخافة وذلك باسم الدفاع عنها. لأن أية حقيقة، إذا جعلوها “مفرطة” (كما قال ديتزكين الأب) وإذا غالوا فيها إلى حد السخافة، بل وأنها تنقلب، لا مناص، والحالة هذه، إلى سخافة. ومثل هذه الخدمة المعكوسة يقدمها اليساريون الهولنديون والألمان إلى الحقيقة الجديدة بشأن أفضلية السلطة السوفييتية بالنسبة للبرلمانات البرجوازية الديمقراطية. بديهي أن كل من يريد أن يردد الأقوال القديمة ويزعم، بوجه عام، مهما كانت الظروف، يكون على ضلال. إني لا أستطيع أن أحاول هنا صياغة الظروف التي تكون فيها مقاطعة البرلمان نافعة، لأن هدف هذه المقالة أكثر تواضعاً، وهو مراعاة التجربة الروسية بالارتباط ببعض المسائل الملحة للتكتيك الشيوعي الأممي. إن التجربة الروسية أعطتنا مثالاً موفقا وصحيحاً لمقاطعة البلاشفة للبرلمان (سنة 1905) وآخر خطئاً (سنة 1906). وعند تحليل المثال الأول نرى أنه حالف النجاح الجهود الرامية إلى منع عقد برلمان رجعي من قبل السلطة الرجعية، وذلك في ظروف جرى فيها تصاعد نشاط الجماهير الثوري خارج البرلمان (وخاصة الإضرابات) بسرعة خاطفة، ولم يكن فيها باستطاعة أية فئة من فئات البروليتاريا والفلاحين أن تؤيد السلطة الرجعية أي تأييد مهما كان، وكانت البروليتاريا الثورية تؤمن لنفسها التأثير على الجماهير الواسعة المتأخرة بفضل النضال الإضرابي والحركة الزراعية. وجلي كل الجلاء أن هذه التجربة ليست قابلة للتطبيق على الظروف الأوروبية الراهنة. وجلي كذلك كل الجلاء، على أساس الحجج المذكورة أعلاه، أن دفاع الهولنديين و”اليساريين”، ولو دفاعاً مشروطاً، عن فكرة رفض الاشتراك في البرلمانات، خطئ من الأساس وضار بقضية البروليتاريا الثورية.

لقد إذا البرلمان في أوروبا الغربية وأمريكا ممقوتاً للغاية لدى الثوريين الطليعيين من الطبقة العاملة. هذا أمر لا جدال فيه. وهو مفهوم تماماً، إذ من العسير على المرء أن يتصور ما هو أكثر خسة وحطة وخيانة من سلوك معظم النواب الاشتراكيين والاشتراكيين-الديمقراطيين في البرلمان إبان وبعد الحرب. ولكن من السخافة، بل ومن الجريمة تبني هذه الروحية لدى البت بمسألة كيفية مكافحة ما هو شر بنظر الجميع. يمكن القول أن الروحية الثورية هي الآن في كثير من بلدان أوروبا الغربية “بدعة” أو قل “نادرة” كانوا من أمد جد بعيد ينتظرونها عبثاً وبفارغ الصبر، ولعل هذا هو السبب في أنهم يستسلمون لهذه الروحية بمثل هذه السهولة. صحيح أنه بدون هذه الروحية، لا يمكن تطبيق التكتيك الثوري في العمل؛ إلاّ أننا في روسيا قد اقتنعنا على أساس تجربة مديدة للغاية، وشاقة، ودامية، بحقيقة أنه يستحيل بناء تكتيك ثوري على الروحية الثورية وحدها. يجب أن يقوم التكتيك على حساب دقيق وموضوعي تماماً لجميع القوى الطبقية في الدولة المعنية (والدول المحيطة بها، وجميع الدول في المجال العالمي) وكذلك على مراعاة تجربة الحركة الثورية. ومن السهل جداً على المرء أن يظهر “ثوريته” عن طريق الشتائم وحدها يوجهها إلى الانتهازية البرلمانية، أو فقط عن طريق نفي الاشتراك في البرلمانات، ولكن لهذا السبب بالذات، أي لكون هذا الأمر سهلاً للغاية، ليس هذا حلاً للمهمة الصعبة، بل والبالغة الصعوبة. إن إيجاد كتلة برلمانية ثورية حقاً في البرلمانات الأوروبية، لهو طبعاً أمر أصعب بكثير منه في روسيا. ولكن هذا ليس لأن تعبيراً جزئياً عن الحقيقة العامة القائلة بأنه كان من السهل لروسيا في ظروف سنة 1917 الملموسة، الصيلة تاريخياً منتهى الأصالة، أن تبدأ الثورة الاشتراكية، بينما الاستمرار بالثورة والسير بها حتى النهاية سيكونان أصعب على روسيا منهما على البلدان الأوروبية. لقد تسنى لي في بداية سنة 1917 أن أشير إلى هذا الأمر، وتجربتنا خلال سنتين مضتا بعد ذلك قد أكدت صحة هذا الرأي كل التأكيد. ومثل هذه الظروف الخاصة، وهي 1) إمكانية الجمع بين الانقلاب السوفييتي وبين إنهاء الحرب الامبريالية التي انتهت بفضله والتي كانت قد أنهكت العمال والفلاحين لدرجة لا تصدق؛ 2) إمكانية الاستفادة، بعض الوقت، من الصراع المميت بين مجموعتي الضواري الإمبرياليين ذوي الجبروت العالمي التين لم يكن باستطاعتهما أن تتحدا ضد العدو السوفييتي، 3) إمكانية تحمل حرب أهلية طويلة نسبياً، ومن أسباب ذلك أبعاد البلد الهائلة ورداءة وسائط النقل، 4) توفر الحركة الثورية البرجوازية الديمقراطية في أوساط الفلاحين العميقة إلى حد أن حزب البروليتاريا أخذ المطالب الثورية عن حزب الفلاحين (الحزب الاشتراكي-الثوري الذي كان في أكثريته على أشد العداء للبلشفية)، وحققها فورا بفضل ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية؛- إن مثل هذه الظروف الخاصة غير متوفرة الآن في أوروبا الغربية، وليس تكرارها أو توفر ظروف مشابهة لها بالأمر اليسير أبداً. ولهذا السبب، بالإضافة إلى جملة أسباب أخرى، يكون أمر بدء الثورة الاشتراكية في أوروبا الغربية أصعب منه عندنا. وإن محاولة “تحاشي” هذه الصعوبة بواسطة “النط” من فوق مشقة الاستفادة من البرلمانات الرجعية للأغراض الثورية، هي صبيانية صرف. أتريدون أن تنشئوا مجتمعاً جديداً؟ وأنتم تخشون الصعوبات لدى تشكيل كتلة برلمانية حسنة، مؤلفة من شيوعيين ذوي إيمان وإخلاص وبطولة، في برلمان رجعي! أليست هذه صبيانية؟ فلئن استطاع كارل ليبكنخت في ألمانيا وز. هوغلوند في السويد أن يضربا، حتى بدون تأييد جماهيري من أسفل، أمثلة للاستفادة من البرلمانيات الرجعية استفادة ثورية حقاً، فكيف يمكن لحزب جماهيري ثوري ينمو بسرعة، وفي ظروف ما بعد الحرب، ظروف خيبة الجماهير وحنقها، أن يعجز عن تشكيل كتلته الشيوعية في برلمانات أسوأ؟! وبما أن جماهير العمال المتأخرة ولدرجة أكبر -جماهير الفلاحين الصغار متشعبة في أوروبا الغربية بأوهام الديمقراطية البرجوازية والبرلمانية أكثر بكثير منها في روسيا، لهذا السبب بالذات لا يمكن للشيوعيين أن يشنوا (بل يجب عليهم أن لا يشنوا) إلاّ من داخل مؤسسات كالبرلمانات البرجوازية نضالاً مديداً عنيداً لا يتوقف أمام أية صعوبات في سبيل فضح هذه الأوهام وتبديدهما وتذليلها.

يشكو “اليساريون” الألمان من “زعماء” حزبهم الطالحين، ويستسلمون لليأس، وينتهي بهم الأمر إلى شيء مضحك، إلى “نفي” “الزعماء”. ولكن في الظروف التي يتأتى فيها غالباً إخفاء “الزعماء”، يكون إيجاد “الزعماء” الصالحين الموثوق بهم والمجربين والمتنفذين أمراً على غاية من الصعوبة، والتغلب على هذه المصاعب مستحيل بدون الجمع بين النشاط العلني والسري، وبدون أن يُمتحن “الزعماء”، فيما يمتحنون، كذلك بمحك المنصة البرلمانية. إن الاعتقاد، بل وأقسى الانتقاد الذي لا يعرف الهوادة والمسالمة أبداً، ينبغي أن يوجه، لا ضد البرلمانية والنشاط البرلماني، بل ضد أولئك الزعماء الذين لا يستطيعون، وبالأحرى ضد أولئك الذين لا يريدون، أن يستفيدوا من الانتخابات البرلمانية ومن منبر البرلمان بالطريقة الثورية، بالطريقة الشيوعية. ومثل هذا الانتقاد وحده، على أن يقترن، طبعاً، بطرد الزعماء غير الصالحين والاستعاضة عنهم بآخرين صالحين، سيكون عملاً ثورياً نافعاً ومثيراً يربي في الوقت نفسه “الزعماء” ليكونوا جديرين بالطبقة العاملة والجماهير الكادحة، وكذلك الجماهير لتتعلم فهم الوضع السياسي بصورة صحيحة وإدراك الواجبات التي تنشأ عن ذلك الوضع، تلك الواجبات التي كثيراً ما تكون معقدة ومتشابكة»

رابطة العمل الشيوعي
الثلاثاء: 01 شتنبر 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *