إن الرأسمالية كنمط إنتاج فقدت كليا كل مبررات بقائها، بل صارت بالفعل خطرا على البشرية وعلى الحياة فوق الأرض. يكفي أن نعلم أن الرأسمالية العالمية أنتجت الآن من الأسلحة ما يكفي لتدمير عشرة كواكب مثل الأرض، وليس الأرض وحدها، لكنها رغم ذلك لا تنتج ما يكفي من الدواء للقضاء على الأمراض القابلة للعلاج. وأن مصانع الرأسماليين ترمي كل يوم بـ 90 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، أي مقدارا يتطلب 10 ملايير من السنوات لكي يختفي نهائيا.
في ظل الرأسمالية كل الثروات ومنتجات الحضارة الفنية والعلمية والثقافية محتكرة من طرف أقلية قليلة، بينما ملايير البشر محرومون من كل شيء، محرومون ليس فقط من حق التمتع بثمار الحضارة من فن راق وموسيقى ومنتجعات سياحية وغيرها من ثمار العمل والذكاء البشريين، والتي هي بالتالي حق لكل البشر؛ بل محرومون حتى من الخدمات الصحية والتعليم والسكن اللائق، بل وحتى من الغذاء والماء النقي والأمن.
ليس الإنسان إنسانا بالخبز وحده، لكن ما بالك إذا كان محروما حتى من الخبز؟ وهو واقع يومي بالنسبة لملايين البشر في ظل الرأسمالية. فبينما يحتكر 62 شخصا فقط من أكبر أغنياء العالم ثروة تساوي ما يمتلكه 50% من سكان العالم (نصف سكان الكوكب!)، يعاني 795 مليون شخص في العالم (حسب تقرير برنامج الغذائي العالمي) من الجوع، أي شخص واحد بين كل تسعة أشخاص!
ويؤكد نفس التقرير أن سوء التغذية يتسبب، كل عام، في موت 3,1 مليون طفل (سنهم أقل من خمس سنوات)، وهو ما يشكل 45% من أسباب الوفاة.
وأن طفلا من بين كل ستة أطفال، أي 100 مليون طفل في العالم، يعاني من نقص الوزن. ويعاني طفل من بين كل أربعة أطفال من تأخر النمو.
وفي البلدان المتخلفة يذهب 66 مليون طفل إلى المدرسة كل يوم ببطون فارغة، من بينهم 23 مليون طفل في إفريقيا وحدها.وهو ما يمكن القضاء عليه، حسب تقديرات البرنامج، فقط من خلال توفير 3.2 مليار دولار سنويا، لإطعام هؤلاء الأطفال. لكن الرأسماليين لديهم أولويات أخرى من بينها شن الحروب وقتل الشعوب من اجل المزيد من الربح. فالولايات المتحدة وحدها أنفقت في تدمير العراق بين 2003 و2013 ما مقداره 2000 مليار دولار كاملة.[la tribune]
في ظل الرأسمالية الآن يموت آلاف الأطفال يوميا بالجوع والحروب المتعددة والأمراض القابلة للعلاج، ومن أهمها الإسهال الذي أبرز سبب له هو شرب مياه ملوثة. كما يعانون من الاستغلال الوحشي وسوء المعاملة في أوراش صناعة كبريات الماركات العالمية.
تقول منظمة اليونيسيف على موقعها الالكتروني إن أكثر من 300.000 طفل مجندون في مختلف الجيوش، بعضهم لا يتجاوز عمرهم ثماني سنوات، وقد مات بالفعل 2 مليون طفل بسبب مختلف المواجهات المسلحة التي شهدها العقد الأخير. بينما تعرض 6 ملايين طفل لإصابات بليغة أو تعرضوا لإعاقة مدى الحياة. وكل عام يقتل ما بين 8000 و10.000 طفل بسبب الألغام المضادة للبشر.
وكل سنة يسقط عشرات ملايين الأطفال في العالم ضحايا للاستغلال والاعتداءات الجنسية والعنف، وأنه يفرض عليهم التجنيد الإجباري ويباعون لشبكات الدعارة ويجبرون على أوضاع العبودية.
ويضيف التقرير، نقلا عن منظمة العمل الدولية، أن 246 مليون طفل يشتغلون في ظروف الاستغلال، وأكثر من ثلاثة أرباع هؤلاء يشتغلون في أوساط خطيرة، في المناجم والمصانع، أو في اتصال مع مواد خطيرة مثل المواد الكيماوية والأسمدة الفلاحية. وحوالي 5.7 مليون من هؤلاء الأطفال يشتغلون في أوضاع رهيبة جدا. هذا ناهيك عن تعرض حوالي مليون طفل (أغلبهم إناث) لتجارة الجنس التي تدرّ على الرأسماليين ملايير الدولارات.
الأطفال هم مستقبل الجنس البشري وهذه الأرقام تعني شيئا واحدا: إنها تعني أن مستقبل الجنس البشري في خطر رهيب.
من جهة أخرى، لم يشهد الجنس البشري في تاريخه تشريد 60 مليون لاجئ عبر العالم، كما لم يسبق له أن شهد حروبا ودمارا وتقتيلا بمثل هذه الهمجية وهذا الانتشار وهذا الحجم الهائل من الضحايا. نعم إننا وكما سبق لآلان وودز أن قال بحق: نعيش في عالم على حافة الهاوية!
هل هناك من بديل؟ نعم بالتأكيد! لكن قبل الحديث عن البديل، الذي نقدمه نحن الماركسيين، من الضروري التعرف في البداية على أصل الداء. ما هو السبب وراء كل هذا الفقر والمجاعات وهذه الصراعات والحروب والسعي الحثيث نحو التسلح؟
إنها الرأسمالية بدون شك. دعونا من كل تلك التفاهات التي يرددها على مسامعنا مبررو الرأسمالية من أن “الإنسان يلوث البيئة”، و”الإنسان يشن الحرب”، الخ. كلا ليس الإنسان، في المجرد، هو من يقوم بتلك الفظاعات، إنه الإنسان الرأسمالي، إنهم أصحاب الشركات الكبرى وكبار المستثمرين وأصحاب الأبناك، وقطيع خدامهم في أجهزة الدول والمؤسسات الدولية وقادة الجيوش… هم من يقومون بهذه الفظاعات وهم من يستفيدون منها، ويجب أن نسميهم باسمهم، ونسمي نظامهم باسمه، إن كنا نريد بالفعل فهم أصل الداء والبحث عن الدواء.
وحتى عندما تتخذ المواجهات والصراعات أقنعة دينية أو عرقية، الخ. فإن السبب ورائها يكون دائما صراع الشركات الرأسمالية الكبرى والقوى الرأسمالية الكبرى، ومؤسساتها وممثلوها النظريون والسياسيون، الذين يحركون جيوشهم وعملائهم للدفاع عن مصالحها أو تقسيم وإعادة اقتسام مناطق النفوذ. هذا ناهيك عن أن الحرب تشكل في حد ذاتها مصدرا هاما للأرباح الكبيرة.
ليست الحروب التي نشاهدها ولا مختلف الفظاعات الأخرى نتاجا “للطبيعة الشريرة” المزعومة للبشر. كلا على الإطلاق! إن البشر كائنات تميل بطبيعتها نحو التعايش والتعاون والمشاركة وتبادل المشاعر الطيبة. وهذه المشاعر غريزة فينا منذ آلاف السنين، إنها هي بالضبط ما جعل أسلافنا يتمكنون من الحفاظ على بقائهم في ظروف قاسية.
لم يكن لأسلافنا حجم الفيلة ولا قوة الأسد أو الدب ولا سرعة الفهد أو الغزالة، ورغم ذلك تمكنوا من البقاء من السافانا الإفريقية حتى القطب الشمالي. الطفل البشري كائن ضعيف يحتاج، على عكس صغار الحيوانات الأخرى، أعواما طويلة لكي يصير قادرا على الاستقلال بنفسه. فكيف تمكن هذا الكائن العاجز من الاستمرار آلاف السنين؟ السبب هو وجوده عضوا في المجموعة.
ليس الإنسان الفرد المنعزل الذي يصارع للبقاء في الغابة أو الجبل ويتمكن من ذلك لوحده سوى خرافة. أما الواقع فيؤكد أن الإنسان كان دائما جزءا من قطيع أو مجموعة أو عشيرة أو قبيلة. وحتى في وقتنا الحالي، حيث يعتبر التبشير بالأنانية والتضحية بالآخر من أجل مصالح الذات دين الرأسمالية المقدس، لا يمكن تصور أن يتمكن أي كان من العيش بدون وجود الآخرين وما ينتجه الآخرون وما يعلمه له الآخرون، الخ.
إذن لماذا كل هذه الكراهية والقتل والأنانية التي تجعل الإنسان عدوا لأخيه الإنسان وعدوا للبيئة وعدوا لنفسه؟ إن السبب هو السعي إلى السيطرة على أكبر ما يمكن من مصادر الطاقة والمواد الخام والأيدي العاملة والأسواق، وضرب المنافسين الآخرين وتلويث البيئة في صراع شرس أعمى، لأن التوقف ولو للحظة عن القيام بذلك يعني التوقف عن الإنتاج وبالتالي توقف أرباح الرأسماليين وإفلاسهم. أو بعبارة أوضح وأوجز: إن السبب هو النظام الرأسمالي. وحتى لو قرر أحد الرأسماليين المنعزلين أن يتوقف فإن النظام سيلفظه جانبا وسيستمر.
لهذا لا يكفي أن نرفض ما نراه حولنا من مآسي ونذرف، بين الحين والآخر، الدموع على ضحايا الحروب والمجاعات والاستغلال، أو نتصدق عليهم ببقايا طعامنا وملابسنا، لكي نخلق لأنفسنا شعورا بالرضى الوهمي عن الذات؛ بل علينا أن نعمل بجهد من اجل تغيير هذا الواقع المخزي وإسقاط هذا النظام الهمجي.
والآن نعود لنطرح السؤال الذي طرحناه أعلاه: هل هناك من بديل؟ ونعيد نفس الجواب: نعم بالتأكيد هناك بديل جذري وواقعي ونهائي لكل هذه المآسي، هذا البديل هو: الاشتراكية!
الاشتراكية هي نظام يقوم على ملكية المجتمع بأسره للثروة والسلطة، شعارها كل الأرض والمعامل والمناجم والثقافة والسلطة للمنتجين، يسيرونها بشكل ديمقراطي عبر مجالسهم المنتخبة وممثليهم، الذين يمكنهم عزلهم في أي حين.
الاشتراكية هي نظام يقوم على الاقتصاد المخطط بشكل عقلاني وموجه لخدمة المجتمع بأسره، فلا تنتج الأسلحة عوض حليب الأطفال، أو تبنى القصور بدل المستشفيات، ولا يرمي القمح والذرة في البحر للحفاظ على هامش ربح مرتفع لحفنة من مغتصبي الملكية، وغيرها من الجرائم ومظاهر الفوضى المرتبطة بالنظام الرأسمالي.
في ظل الاشتراكية وحدها سيصير من الممكن تحقيق المساواة التامة بين الرجل والمرأة، لأنه فقط في ظل الاقتصاد الموجه والمخطط حيث يمكن تخصيص الميزانيات الضرورية لبناء ما يكفي وبجودة عالية من الحضانات ورياض الأطفال والمطاعم العمومية والمصابن العمومية، مما سيمكن نساء العالم من التخلص من عبودية العمل المنزلي المرهقة للجسد والعقل، ليتمكّن فعلا من المشاركة في الإنتاج والحياة السياسية والثقافية وتحقيق ذواتهن.
وفي ظل الاشتراكية وحدها سيصير من الممكن القضاء نهائيا على وباء البطالة، التي هي مرض مرتبط بالنظام الرأسمالي. فالرأسمالية بطبيعتها نظام منتج باستمرار للبطالة الجماهيرية الكثيفة الطويلة الأمد، بشكل لم يشهده التاريخ من قبل. كما أنها، في نفس الوقت، نظام يستفيد من البطالة: فبقدر ما تزايدت أعداد العاطلين وزاد بؤسهم، بقدر ما تمكنت طبقة الرأسماليين من اعتصار العمال وفرض شروط عمل أسوء عليهم وساعات أطول وأجور أقل. في ظل الاشتراكية سيمكن القضاء على التناقض الغريب بين وجود عمال يشتغلون ساعات طوال مرهقة كل يوم، قد تتجاوز 10 ساعات من العمل، بينما تفرض على الآخرين البطالة والبؤس. في ظل الاشتراكية سيمكن تقسيم كل ساعات العمل المتوفرة اجتماعيا على جميع القادرين والقادرات على العمل، بحيث يعمل الجميع أقل ما يمكن من ساعات العمل في اليوم، ويرتاح الجميع أكثر ما يمكن.
وفي ظل الاشتراكية وحدها سيصير من الممكن الإنتاج الفلاحي والصناعي بكميات أكبر مما يتم إنتاجه الآن في ظل الرأسمالية، لأن الرأسماليين الآن يحدون فعلا من القدرة الإنتاجية الهائلة لقوى الإنتاج من أجل الحفاظ على أسعار مناسبة لهم ويتلافوا مفاقمة فائض الإنتاج، ليس لأنه لا يوجد جياع ومحتاجون لاستهلاك تلك المنتجات، بل لأن هؤلاء الجياع غير قادرين على دفع الثمن الذي يطلبه الرأسماليون.
وفي ظل الاشتراكية وحدها سيصير من الممكن الإنتاج بطريقة صديقة للبيئة، وتخصيص الميزانيات والجهود الكفيلة بتنظيف البحار والأنهار والهواء من التلوث الذي وصل مستويات خطيرة؛ أي سيصير من الممكن القيام بمهام يعتبرها الرأسماليون مجرد أعباء سترفع كلفة إنتاجهم وتؤثر على قدرتهم التنافسية وتقلص معدلات ربحهم.
وفي ظل الاشتراكية وحدها سيصير من الممكن القضاء على الحروب نهائيا، لأن العمال، المنتجين الأحرار، لا مصلحة لهم في قتل إخوانهم وأخواتهم العمال في بلدان أخرى من قوميات أخرى أو ديانات أخرى. يتضح هذا منذ الآن وفي ظل الرأسمالية نفسها وحتى قبل بزوغ فجر المجتمع الاشتراكي، يتضح هذا من خلال مظاهرات التضامن التي يقودها العمال والشباب الثوري في أوربا وأمريكا ضد الحروب التي تخوضها أنظمتهم ومن أجل التضامن مع الشعوب المقهورة واللاجئين، الخ.
إن الرأسمالية صارت مستحيلة بينما الاشتراكية ممكنة وضرورية. إن الإدعاء بأن الرأسمالية وبرغم كل فظاعاتها هي النظام الوحيد الممكن، وأن الاشتراكية ليست ممكنة، هو تعبير عن الجهل أو عن الرغبة في خداع أصحاب المصلحة الفعلية في تحقيق عالم الاشتراكية والمساواة.
إن القول بأن عمال العالم، أي المنتجين الحقيقيين للثروات، الأغلبية الساحقة في المجتمع، غير قادرين على التحكم في مصيرهم وفي القوى المنتجة وتسخيرها لرفاه الجميع، هي إهانة فظيعة للجنس البشري؛ مثلما كان زعم سادة العبيد في الولايات المتحدة، خلال القرن التاسع عشر، بأن الإنسان ذو البشرة السوداء غير قادر على تسيير شؤونه الخاصة وامتلاك مصيره بيده، جريمة وإهانة للجنس البشري كله.
وفي الختام نقول إن تبني الاشتراكية من عدمها ليست مسألة إقناع إلا مع رفاقنا ورفيقاتنا العمال والفلاحون الفقراء وعموم الكادحين والشباب الثوري الباحث عن بديل، أما مع أعداء الإنسانية من المستفيدين من استغلال الإنسان واعتصار الكوكب وتدمير البيئة: الرأسماليين وعبيدهم من المثقفين المأجورين في الصحافة والجامعات ومراكز البحث الخ من أوكار الدعارة بالأفكار مقابل المال، فلن يقنعهم سوى الصراع الطبقي.
عاشت الثورة الاشتراكية
جريدة الثورة – المغرب
العدد الثاني: مارس 2016