الرئيسية / دول العالم / أوروبا / ايرلندا / الاستفتاء في ايرلنده – مضامين ثورية

الاستفتاء في ايرلنده – مضامين ثورية

لقد صوّت الايرلنديون منذ يومين [22 ماي 2015] بشكل حاسم لصالح المساواة في الزواج ما بين المغايرين والمثليين، مما يجعل ايرلنده البلد الأول الذي يقرّ ذلك عن طريق التصويت. إن هذا الإنجاز هو انتصار للمستقبل على الماضي، وللجديد على القديم، وللمنطق على الجهل، ولإيرلنده التقدمية التي تتطلع نحو المدنية على إيرلنده القديمة التي تتخبط في الرجعية.


لقد فاقت نسبة المصوتين بـ”نعم” السبعين بالمئة في أجزاء عدة من دبلن. حتى أن النسبة تجاوزت هذا الرقم بكثير في دوائر انتخابية عديدة يهيمن عليها الطابع العمالي داخل العاصمة، إذ إن أحد الصناديق في “باليفيرموت” (Ballyfermot)، غرب دبلن، سجل 85% من الأصوات الإيجابية. واحدة فقط، من أصل 43 دائرة انتخابية، صوتت ضد المشروع، وهي “روسكومون” (Roscommon) جنوب “ليتريم” (Leitrim). الحصيلة النهائية للتصويت كانت 62.1% لصالح المشروع و37.9% ضده، أي 1,201,607 صوت نعم و 734,300 صوت لا، مع معدل مشاركة في التصويت بلغ 60.5%.

ثورة اجتماعية وسياسية:

يا له من تحول هائل! دعونا لا ننسى أن تجريم الأفعال المثلية لم يسقط من القانون الايرلندي إلّا قبل 22 سنة من هذا الاستفتاء، أي في عام 1993. أما اليوم، فقد أصبح زواج شخص من آخر من نفس الجنس يتمتع بالحالة القانونية نفسها التي يتمتع بها زواج أيّ شخصين من جنسين مغايرين في ظل الدستور الايرلندي. اليوم أصبح يتمّ الإعتراف بهما كعائلة يحميها الدستور. وبهذه المناسبة، اندفع الآلاف من المواطنين الإيرلنديين للإحتفال بنتائج الاستفتاء، وسط جوٍّ من الحماسة الشعبية العارمة.

إن نتائج هذا الاستفتاء تعطينا صورة عن التحوّلات الكثيرة التي طرأت على إيرلنده. إن يد الماضي الثقيل التي كانت تقبض بشدة على المجتمع الايرلندي وعلى مدى أجيال، قد تمّ اقتطاعها بجرأة اليوم. كلّ القوى الحية في المجتمع الإيرلندي تحرّكت لتقول “نعم”. أما كل ما هو هالك وسفيه وقامع، فقد تجمّع تحت راية “لا”، وقد تجمّع خلفه حشد من الأساقفة والرهبان ورجال الدين.

إنّ نتائج هذا الاستفتاء كانت أولاً، ضربةً قاصمة لديكتاتورية الكنيسة القديمة. طبعاً، إنّ من السابق لأوانه القول بأن إيرلنده الكاثوليكية القديمة انتهت ورحلت، إلّا أن الشعب الايرلندي استيقظ اليوم ليجد وطناً مختلفاً، وهواءً مختلفاً يتنشّقه، أكثر نقاوةً وصفاءً من الدخان الكثيف والخانق للبخور الذي حاول قمع عقول الأجيال المتتالية لهذا الشعب.

رغم أن الأحزاب السياسية الأبرز في إيرلنده أكّدت أن زواج المثليين هو مسألة مدنيّة وليست دينيّة، اعتبر الأساقفة الكاثوليك أنه تعدٍّ على المعتقدات الدينية، ويمسّ حالة الأطفال بسوء. إلّا أن تاريخ الكنيسة بالتعامل مع الأطفال لا يشجّع أبداً على تصديق هكذا ادّعاءات.

كان الصوت الأبرز بين معارضي المشروع هو صوت “معهد ايونا” (Iona Institute)، وهو جمعيّة ضغط كاثوليكية ضخمة، أسّسها جمهوريّو اليمين الأميركي، “لتروّج للزواج والدين داخل المجتمع”. لقد كان اعتراضهم الأبرز على تربية أولاد من قبل والدين مثليين، إلّا أن ذلك ينمّ عن تجاهل لحقيقة أنّ الكثير من الأولاد لديهم بالفعل أهالٍ مثليين، وأن الاستفتاء لم يكن بخصوص التبنّي أو أبوّة وأمومة المثليين.

الدّور الرّجعي للكنيسة:

أكثر من 80% من الإيرلنديين لا يزالون يعرّفون عن أنفسهم بأنّهم كاثوليك، لكن عمليّاً، ذلك لا يعني الكثير. ففي حين كانت إيرلنده تعتبر أكثر البلدان “كاثوليكيّةً”، الواقع يتغيّر بسرعة. هناك حالة من القلق بدأت تسود بين جمهور تصل إلى مسامعه يوميّاً قصص عن التحرّش الجنسي بالأطفال من قبل كهنة، وقصص عن التّغطية وحماية الفاعلين من قبل أساقفة، مهدّدةً سمعة الكنيسة وهرميّتها. ورغم أن الرواية الرسميّة تقول أن 85% من الإيرلنديين هم كاثوليك، تشير الكنائس الفارغة والنقص المتزايد في أعداد الحاضرين للقدّاس إلى وجه آخر من القصة. وإن كان عدد الحاضرين إلى القدّاس بين الإيرلنديين قد بلغ 90% عام 1984، فهو قد انخفض إلى حوالي 18% عام 2011.

منذ الأيّام الأولى للجمهورية، كانت الكنيسة تلعب دوراً رجعيّاً بمعظم الحالات، وهي تستمرّ بذلك حتّى اليوم. فقد حاربت الكنيسة بعناد شديد حقّ الطلاق، بالرّغم من أنّ التّعديل الخامس عشر للدستور الإيرلندي كان قد أبطل منع الطّلاق.ومنذ سنتين فقط، حاولت الكنيسة بشدّة إعاقة قانون يسمح بالإجهاض للمرأة في حالة التهديد الجدّي بالإنتحار إذا ما تمّ إجبارها على المضيّ قدماً في حملها، لكنّها فشلت في ذلك. فالإجهاض في إيرلنده غير قانوني، إلّا في حال كان نتيجة التدخّل الطبّي لإنقاذ حياة المرأة.

ومنذ ميلاد الجمهورية، كان للكنيسة أن تتحكّم أيضاً بالحياة الأخلاقية لإيرلنده. فقد كان رجال الدين هم الذين يحدّدون الصواب من الخطأ، والمخْلص من الآثم. كانوا يحكمون قبضتهم الديكتاتورية على مختلف أوجه الحياة والأخلاق والسياسة. كانوا يحدّدون للإنسان ما يجب أن تـ/يقول وتـ/يفعل وبم تـ/يفكّر. كانوا يتحكّمون بأهم الجوانب من حياة الانسان، وهي الولادة والموت والزواج والإنجاب. كانوا يدينون الأفكار الشيوعية و”الإلحاد”، التي قد يواجه الإنسان على أثرها عذاب الجحيم الأبدي.

هذه الديكتاتوريّة المقدّسة لم تكن موجودة في قدّاس الآحاد وحسب، بل أيضاً في المدارس والمستشفيات والملاجئ، بل وحتّى في الرقصات الشعبية. ورغم أنّ مواعظها كانت تفيض حبّاً باللّه، إلّا أنها كانت تقوم على إرهاب الناس بالخوف من اللّه للانصياع لطاعته. لقد تولّى الرهبان والكهنة قضايا التربية والتعليم وتحكّموا بعقول الأطفال وفقاً لما يؤمنون هم به، حتى أن بعضهم كان يجول في القرى كلّ سنة ليتفقّد أحوال الإنجاب، فربّما – لا سمح الله – استخدم أحد السكّان موانع الحمل.

كما احتفظوا لنفسهم بحقّ التدخل في أكثر شؤون الانسان حميميّة والتّمحيص في ملاءات المتزوّجين لمعرفة ما يجري في أسرّتهم. أمّا إذا وقعت فتاة ما ضحيّة الجهل أو عدم القدرة على الوصول إلى موانع الحمل، فليكن الرّب في عونها! فمصيرها كان ان تقع تحت رحمة “الأخوات” اللّواتي لا يتوانين عن توبيخها وإذلالها، ثمّ إجبارها على تقديم طفلها إلى الكنيسة للعناية به. من هنا، عبر الكثير من الأطفال الإيرلنديين إلى الجحيم ليواجهوا عذابات كثيرة على يد من كان من المفترض أن يعتنوا بهم.

لقد كانت هذه المراحل من أبشع فصول التاريخ الإيرلندي. فقد عمل الفاتيكان مراراً على حماية الكهنة المتورّطين باغتصاب الأولاد، والبنات بدرجة ثانية، وعلى نقل المعتدين إلى أبرشيات أخرى ردّاً على الشكاوى.

إن نسبة هذا النوع من التعسف في إيرلنده كانت أعظم ممّا هي عليه في أي بلد آخر. لدى إيرلنده المئات من هذه الملفات، إلّا أنه بسبب عمق نفوذ الكنيسة لم تكن المسألة تتعلّق بالكهنة كأفراد فقط، إنما تتعداها لتشمل مؤسّسات بأكملها. كانت الكنيسة تقوم، حتى التسعينات، بإدارة دور الأيتام والمدارس الصناعية، حيث تمّ سجن حوالي 30,000 طفل متهمين بالجنوح، بسبب قيامهم بمخالفات بسيطة كالنشل، أو لكونهم أطفال من والدين غير متزوجين، أو حتى لكونهم أولاد الفقراء.

في دراسة أجريت عام 2009 (Ryan Report) تم تأكيد أن الآلاف من الأطفال تمّ اغتصابهم بشكل وحشيّ، أو تعرّضوا للتحرّش الجنسي في هذه المؤسّسات، في حين أن ألوفاً أُخر تمّ تعنيفهم أو تجويعهم أو إجبارهم على العمل. وصف الصبية ليالٍ من الرّعب حيث كانوا ينتظرون بصمت في السرير مجيء الكهنة لاغتصابهم. أمّا في مدارس أخرى، فقد كان ضرب الأطفال أشبه بالطقوس الروتينية. إن الحقيقة السوداء لمراكز التعذيب هذه تمّ فضحها مع اكتشاف حوالي 4,000 جثة لأطفال يعانون من سوء التغذية وسوء المعاملة في مقابر غير محددة، في بيوت للأمهات غير المتزوجات كانت تديرها الراهبات الكاثوليك.

إن كان الشعب الإيرلندي يحتاج إلى سبب لخلع هذا الاضطهاد، فهو قد وجده في ما تكشّف من أعمال فظيعة منتشرة ومتجذّرة بحقّ أقلّ الناس تحصيناً في المجتمع، كانت الكنيسة قد قامت بها وحمتها على مدى عقود من الزمن. «لقد حوّلوا هذه الجزيرة إلى معسكر اعتقال، حيث أمكنهم التحكّم بكل شيء، وأكثر ما كان يستهدفه هذا القمع هو الجنس»، يقول الأب باتريك هدرمان (Patrick Hederman)، رئيس دير غلنستال آبي (Glenstal Abbey). «لقد تم تعذيب أجيال من هذا الشعب عبر الشعور المركّب بالذنب. أمّا الآن فقد انتهت اللعبة.»

كان من المفترض أن يكون الكهنة حرّاس الطهارة الجنسية. إلّا أن “حرّاس الأخلاق” هؤلاء تبيّن اليوم أنّهم وحوش جنسيّون كانوا يشبعون نزعاتهم السّادية والهمجيّة بأطفال لا حول لهم ولا قوّة، وينجون بفعلتهم هذه بحصانة تامّة. لقد تزعزع ايمان الشعب الايرلندي بالكهنوت. الكنيسة نفسها في مأزق، فعدد المنضمّين إلى المعاهد الدينية تدنّى اليوم لدرجة أن الكنيسة قد تضطرّ إلى استيراد كهنة من الخارج.

لقد استطاع الشعب الإيرلندي، بتسديد هذه الضربة للكنيسة، من تسجيل نقطة لصالح الحرية والمساواة والديمقراطية.

إن هذا التصويت يعني ثورة اجتماعية وسياسية، لا أكثر ولا أقل. إنه يشكّل قفزة نوعيّة من حكم كنسيّ ثيوقراطي رجعي إلى جمهوريّة ديمقراطيّة علمانيّة. هذه التغيّرات سيكون مرحّب بها من قبل كلّ محبًّ للحرّيّة وكارهٍ للظلم والظلاميّة والتمييز ضدّ الاقلّيّات. اليوم الشّعب الايرلندي يقف فخوراً، بعد أن كسب احترام وتقدير كل القوى التقدّميّة في العالم.

العملية الجزيئية للثورة الإشتراكيّة في ايرلنده:

إنّ الاستفتاء الايرلندي يحمل معانٍ عميقة جدّاً تتجاوز نتائجه المباشرة. إنّه تجلٍّ لما أسماه تروتسكي “العملية الجزيئية للثورة الإشتراكيّة”. كيفما نظرنا اليوم، نجد مظاهر جزئيّة لهذه العمليّة. عميقا ً في صميم المجتمع الإيرلندي، خلف هذا الهدوء الظاهري، يجري تخمّر الغضب والسّخط والإستياء، وأكثر من أي شيء آخر، الإحباط والخيبة. لقد بدأ الشعب يشعر أن صوته غير مسموع، وأن رجال السياسة الحاليّين لا يمثّلونه. هناك غضب حانق تجاه كلّ المؤسّسات : البنوك، الإعلام، القضاء، الشرطة، الكنيسة… كلّها باتت اليوم تشكّل أجزاء من نظام غير قابل للإصلاح، وأخلاقيّة عفنة حتّى الصميم.

إنّ ايرلنده تمرّ اليوم بالأزمة نفسها التي تعصف ببقيّة أوروبا، إذ لم يعد أحد يتكلّم عن “النمر السلتيّ” بعد الآن. فقد عملت حكومة فين غايل (Fine Gael) وحزب العمّال على تطبيق سياسات التقشّف والاقتطاع التي عانى على إثرها الشعب الايرلندي من مستويات معيشة متدنّية طيلة سبع سنوات. إنّ هذه الحكومة سوف تضطرّ إلى خوض الانتخابات في أوائل عام 2016 ، في ظلّ إشارات واضحة إلى أن الشعب لم يعد مستعدّاً لمزيد من سياسات قطع الإنفاق وزيادة الضرائب.

إن صندوق النقد الدولي يصوّر ايرلنده كمثال يحتذى به إقتصاديّاً، إلّا أن حالة الشعب الحقيقية يتكلّم عنها هذا المقتطف من Colliers :

«زوجتي موظفة رسميّة، وهي تقبض راتباً ما فوق المتوسّط. إلّا انها في السنوات الأخيرة، تحمّلت إلى ما يقارب 20% من الاقتطاع من أجرها الصافي. وكغيرنا، كنّا مضطرين إلى تحمّل ارتفاع أسعار النفط والطعام والضرائب الجديدة والرسوم التي فرضتها مؤخّراً الحكومات المحلّيّة.

إن ميزانيتنا الأسبوعية كعائلة أصبحت مقيّدة جدّاً، وقد أنفقنا حتّى الآن كلّ ما كنّا نملكه من مدخّرات. إنّ الضرائب والرسوم المتزايدة، بالإضافة إلى التخفيضات في الأجور، تمنعنا من توفير أي مبلغ عند نهاية الشهر. إنّ دراسة حديثة أجرتها عصبة الاتّحادات الإئتمانيّة الإيرلنديّة (Irish League of Credit Unions) وجدت أن ربع السكّان (حوالي 1,1 مليون نسمة) يمتلكون أقلّ من 50 يورو (أي 68 دولاراً) فقط لإنفاقها شهريّاً بعد الإنتهاء من تسديد الفواتير الأساسيّة.

نكاد لانشتري شيئاً، أو القليل جدّاً أحياناً، من مكمّلات. نادراً ما نشتري الملابس والأحذية لأنفسنا، فالأطفال لهم الأولويّة في هذه المواضيع، وفقط عند الضرورة. لا نأكل في الخارج، ولا نلتقي باصدقائنا إلّا في المناسبات الإجتماعيّة كالأعراس أو حفلات التعميد، والتي بدورها بدأت تقلّ نسبيّاً نظراً لكلفتها المادّيّة.

في الواقع، لقد خفّف السكان من معظم مناسباتهم الإجتماعيّة. أصبحنا نقتصد لأشهر لنتمكّن من شراء هدايا لأولادنا في عيد الميلاد. كما إن أعياد الميلاد تراجعت كثيراً، وأصبح أولادنا يتلقّون هدايا اقلّ قيمة بكثير عمّا قبل، أو لا شيء بالمرّة، في حال كان رفاقهم يأتون من عائلات تعاني من وضع ماديّ أكثر حدّة من وضعنا.

إنّ النتيجة التّراكميّة لسبع سنواتٍ من التقشّف ظهرت في انخفاض الطلب بشكلٍ كبير من قبل المستهلكين الايرلنديين. فمن هو محظوظ كفاية ليمتلك مبلغاً من المال، أصبح الآن يتمسّك به خشية أن يفقد عمله أو أن تفرض عليه الحكومة ضرائب إضافية في المستقبل. وهكذا، أصبح إقفال المتاجر والمقاهي ظاهرة عاديّة.

عائلتي ليست الوحيدة، طبعاً. فهناك الآلاف من المواطنين الذين يعانون من وضع مادّيّ أكثر تعاسة أيضاً. خلف العديد من الأبواب الموصدة في إيرلنده، تعاني آلاف العائلات من الوضع المالي البائس الذي ولّدته الأزمة الماليّة. إحدى معارفي قالت لي أن زوجها، وهو يقوم بجباية متأخّرات الرهن العقاري، قد روى لها عن مشاهد مروّعة لعائلات تعيش على حبوب الإفطار فقط، في غرفٍ باردة تنيرها الشموع، لأنّه تمّ قطع التيّار الكهربائي عنهم.»

معظم العائلات المتوسّطة الحال تدين للمصارف اليوم. إذا أضفنا هذه الديون الشخصيّة إلى الديون الحكوميّة، نجد أن ايرلنده أكثر الدول ديوناً. 18.4% من الرهون العقاريّة لديها متأخّرات أو خضعت لإعادة هيكلة، وهو ما يفوق المتوسط في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وحتّى الولايات المتّحدة. الكثير من العائلات تعيش في خوفٍ دائمٍ من أن تفقد بيوتها.

الكثير من الأطبّاء أبلغوا عن ارتفاع كبير في حالات الأرق والقلق والإحباط واليأس الناجمة بشكل مباشر عن تدهور الأحوال المادّيّة للمرضى والضغط الذي يتعرّضون له من المؤسّسات الدائنة. لقد تحدّثت إحدى الأمهات الشّابات عبر الإذاعة الوطنية، وهي مسؤولة عن عائلة صغيرة، أن أيام السبت والأحد هي الأيام الوحيدة التي لا تشعر فيها بالضغط النفسي، فنهاية الأسبوع هو الوقت الوحيد الذي تنقطع فيه اتّصالات البنوك أو لا تتلقّى فيه الأم إنذارات بقطع الخدمات من المؤسّسات الأخرى عبر البريد.

لقد ازدادت أيضاً حالات الإنتحار المتعلّقة بالإنكماش الإقتصادي والشعور بالإحباط الناجم عن البطالة. فقد علّق الطبيب الشرعي في مقاطعة ويكسفورد على ازدياد حالات الإنتحار بين اليافعين في منطقته مؤخّراً، قائلاً أنها صارت أشبه “بوباءٍ عظيم”. كما فقد المواطنون ثقتهم بكلام الصحف، إذ قال أحد المحتجّين في مظاهرة ضدّ تحيّز الإعلام في إيرلنده مؤخّراً: «إن حالات الانتحار في تزايد مستمر، والإعلام لا يقدّم أي تفسير لما يحدث. ليس هناك عدد كافٍ من الأسرّة في المستشفيات، والشعب يفقد حقّه في الطبابة شيئاً فشيئاً، في حين أن رسالة الحكومة لنا واحدة: اعتنوا بأنفسكم.» ثم يضيف: «لست أرى أي آثار انتعاش. لا أحد يشعر بالمعافاة. الإعلام يقول أننا في مرحلة المعافاة، لكن هذا ليس صحيحاً.»

في بريطانيا أيضاً، أصبع الدعم الذي تقدّمه الجمعيات الخيريّة مصدر حياةٍ أساسيّاً للكثير من الفقراء. كما افتتحت مطاعم الفقراء في أماكن حيث توجد كثافة سكّانية مرتفعة مثل دبلن وأثلون وكورك لتقدّم المساعدات الغذائيّة للذين يفتقدون الى المال أو أولئك الذين يهلكون لتأمين الأساسيّات في حياتهم. كما بلّغت المعلّمات عن كثير من الطلاب الذين يأتون جائعين إلى المدرسة لأنهم لا يجدون ما يقتاتون به في منازلهم. إن الإحباط الشديد الناجم عن التقشف والديون يضع مزيداً من القيود التي لا تطاق على العلاقات الشخصية والحياة العائلية، إذ ارتفعت حالات الطلاق والعنف الأسري.

إن الحكومة الإيرلنديّة تؤكّد على المضي قدماً في تسديد ما تسمّيه “ديوننا”- أي ديون الحكومة والشعب- وهي تقصد عشرات المليارات التي هي أساساً ديون البنوك، في حين أن المسؤولين عن البنوك المفلسة استطاعوا الإفلات بمبالغ إنقاذ سخيّة جدّاً. في حين أنّ المصرفيين ومتعهّدي أملاك المفلسين تمّت إزاحة أعباء ديونهم الضخمة من قبل الدولة الإيرلنديّة، ليستريحوا في قصورهم الواسعة، ويأكلوا في المطاعم الفخمة، ويستجمّوا في أفضل ملاعب الغولف، تبقى الحياة كفاحاً بالنسبة لمعظم الإيرلنديين.

كلّ هذه التناقضات بدأت تتراكم مسبّبةً تغيّراتٍ حادّة في وعي الجماهير. نتيجة الإستفتاء هي إحدى هذه التغيّرات الملموسة. هناك شعورٌ عامّ بانعدام المساواة وبالخلل في النظام القائم. هناك سخط متنامٍ تجاه اللامساواة والفساد واللاعدالة في ظلّ نظامٍ يزداد فيه الغنيّ غنىً والفقير فقراً.

إن أزمة الرأسمالية تلقي بثقلها على أكتاف الجيل الصاعد بشكل خاصّ. أكثر من 30% من الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 سنة فقدوا أعمالهم. الكثير من المتخرّجين حديثاً وتاركي المدرسة أصبحوا مجبرين على الإختيار بين طريقين: أن يعتاشوا من المؤسّسات الخيرية لمدّة سنوات، أو أن يهاجروا ليبحثوا عن عملٍ خارجاً. لا عجب أنّ من صوّتوا بـ “نعم” في الاستفتاء الأخير كان معظمهم من فئة الشباب. إنّ الجيل الجديد من الشباب الإيرلندي، كالعديد من الأجيال الصاعدة في دول أخرى، يناضل ضد ما يسمّى بقيم المجتمع القديم ومبادئه ومعتقداته.

إنّ الأجيال الصاعدة في كلّ أنحاء العالم تبحث اليوم عن بدائل، وتظهر انفتاحاً على أفكار الماركسية الثوريّة. إننا نشهد اليوم يقظة الشباب الايرلندي، وهو يطيح بثقل الماضي البائد. وفي طريق الكفاح، سوف يعيد اكتشاف الإرث الثوري الرائع لإيرلنده وعمّالها. وتحت راية الثورة الإشتراكية الحمراء – راية ماركس ولينين، راية تروتسكي وروزا لوكسمبورغ، راية لاركين وجيمس كونولّي – سوف ينتصر في النهاية.

آلان وودز
لندن، 24 أيار 2015.

عنوان النص بالإنجليزية:

Irish referendum – revolutionary implications

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *