مع انزلاق أوكرانيا أعمق فأعمق في حالة من الفوضى، صارت أصوات طبول الحرب ترتفع أكثر فأكثر. ويوم السبت الماضي استخدم الرئيس فلاديمير بوتين سلطة برلمانه لإرسال الجيش الروسي ليس فقط إلى شبه جزيرة القرم، بل أيضا إلى أوكرانيا نفسها.
صدر هذا التهديد بعد أيام فقط من سيطرة مسلحين “مجهولي الهوية” على شبه جزيرة القرم. وبشكل غير مفاجئ تم تحديد هويتهم في وقت لاحق، بأنهم، طبعا، جنود تابعون لأسطول البحر الأسود الروسي، المتمركز في شبه جزيرة القرم. كما سارع الرئيس الجديد لشبه جزيرة القرم الموالي لروسيا، وبشكل غير مفاجئ أيضا، إلى دعوة موسكو للتدخل. وفي نفس الوقت، رفع متظاهرون موالون لموسكو أعلاما فوق المباني الحكومية في مدينتين شرقيتين.
هز القادة الغربيون رؤوسهم، وقالوا يجب على روسيا عدم التدخل. بينما رفعت موسكو يدها واحتجت بسخط وقالت إنها لن تفعل. لكن يبدو أن الحقائق تشير إلى خلاف ذلك. فطيلة الأسبوع الماضي كله كانت القوات الروسية تشن ما وصف بكونه “مناورات روتينية” على الحدود مع أوكرانيا.
حقق بوتين بدون صعوبة موافقة بالإجماع من طرف البرلمان الروسي لاستخدام القوة المسلحة على أراضي جارته، مشيرا إلى الحاجة إلى حماية المواطنين الروس. وطلب أن يتم استخدام القوات الروسية “إلى حين استقرار الوضع السياسي في البلاد”، وهو الطلب الذي يبدو معقولا جدا، إنه القفازات المخملية التي بالكاد تخفي القبضة الحديدية داخلها، لأنه أعطى نفس المبرر بالضبط لغزو جورجيا في عام 2008.
إن هذا التهديد لما يفترض أن يكون بلدا مستقلا، يضم 46 مليون نسمة، في وسط أوروبا، يخلق أكبر مواجهة مباشرة بين روسيا والغرب منذ الحرب الباردة. وقد حدثت فورة من النشاط الدبلوماسي في عواصم عالمية مختلفة بهدف “تهدئة الوضع”. فقد احتجت الحكومة في كييف، واحتج الاتحاد الأوروبي واحتج أوباما.
استدعت بريطانيا السفير الروسي للتعبير له عن “قلقها”. وبعد فترة وجيزة وصل وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ إلى كييف، حيث من المفترض أن يعرب عن تعاطفه مع الحكومة المؤقتة هناك. ومن المقرر أن يعقد وزراء الاتحاد الاوروبي محادثات طارئة. وذكر الرئيس التشيكي ميلوس زيمان بالغزوالسوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في عام 1968.
هذا وحذرت واشنطن من أن تصرفات روسيا سيكون لها “عواقب”. لكن لا أحد فسر ماهية تلك العواقب. وردا على ذلك أكد بوتين بهدوء أنه من حقه نشر قواته في أوكرانيا “للدفاع عن مصالح الشعب الروسي”. لدا السياسيين الغربيين المئات من الحجج، لكن لدا بوتين مئات الآلاف من الجنود والدبابات والمدافع. وبينما قوات الناتو بعيدة، فإن قواته تحتشد بشكل مريح على الحدود الأوكرانية، وبعضها موجود بالفعل على أرض شبه جزيرة القرم حيث تمتلك روسيا قاعدة بحرية دائمة.
يزداد التوتر بين الجانبين في كل ساعة. وفي خطاب متلفز حث رئيس أوكرانيا المؤقت اولكسندر تورشينوف المواطنين على التزام الهدوء. (الجميع يحث بالضبط على نفس الشيء). وطلب من الأوكرانيين رأب الانقسامات في البلاد وقال إنه يجب عدم السقوط في الاستفزازات. لكنه في نفس الوقت قال إنه قد وضع الجيش في حالة تأهب قصوى، مما يجعل من الصعب اعتبار خطابه مثيرا للاطمئنان.
وقال رئيس الوزراء، ارسيني ياتسينيوك، الذي كان يقف بجانب السيد تورشينوف، إنه “مقتنع” بأن روسيا لن تتدخل عسكريا” لأن هذا من شأنه أن يكون بداية الحرب ونهاية كل العلاقات”.
الخوف والبؤس في أوكرانيا
إن الوضع في أوكرانيا مأساوي. لقد تبددت نشوة الأيام القليلة الأولى بعد سقوط يانوكوفيتش وصار يحل محلها مزاج من القلق والتوتر. ليس من قبيل الصدفة أن أول عمل قام به البرلمان خلال الدورة الأولى بعد إعادة افتتاحه كان هوالتصويت على إلغاء اللغة الروسية باعتبارها لغة رسمية ثانية. ووفقا لتقارير مختلفة، كانت العصابات الفاشية “تحرس” مقر البرلمان عندما كانت تجري داخله هذه الانتخابات. ويجري حاليا دمج هذه الميليشيات الفاشية في صفوف الشرطة والقوات المسلحة ويحصل قادتها على مناصب هامة في الدفاع والأمن الداخلي والنيابة العامة والوزارات الرئيسية الأخرى. فلا عجب أن يشعر العمال والمواطنون المتحدثون بالروسية بالقلق. فإذا كانوا يشعرون بالخوف، فذلك لأن لديهم سبب للخوف.
عندما يتحدث بوتين عن وجود تهديد للمواطنين الناطقين باللغة الروسية في أوكرانيا، فإنه لا يكذب. إن وسائل الإعلام الغربية تتجاهل بشكل مقصود ممارسات الفاشيين في حركة Euromaidan وتقلل من خطورتها. وكما هوالحال دائما، تعمل وسائل الإعلام الغربية تلك على تصوير كل حركة معارضة لحكومة لا تعجبهم بأنها ديمقراطية و”مناضلة من أجل الحرية”، سيرا على هدى المبدأ القديم: عدو عدوي صديقي. دعونا نتذكر أن واشنطن وصفت كلا من طالبان وأسامة بن لادن بأنهما “مقاتلين من أجل الحرية” – طالما كانوا يقتلون الروس وليس الأميركيين.
لقد أعطت الإطاحة بيانوكوفيتش الضوء الأخضر للفاشيين لتنظيم حملة ارهابية ضد الحزب الشيوعي (الهجمات على مقراته، وإضرام النار عمدا في منازل زعمائه ومنع إصداراته، وما إلى ذلك). إن هذه التكتيكات الجريئة التي ينهجها الفاشيون توحي بقوة بأنهم يشعرون بوجود دعم قوي لهم من الخارج. وهذا ربما يشير إلى تورط الولايات المتحدة (أو جزء من الادارة الاميركية والحزب الجمهوري) أكثر مما يشير إلى تورط ألمانيا. من المعروف رسميا الآن أن الولايات المتحدة قد استثمرت نحو 05 ملايير دولار خلال السنوات العشرين الماضية في دعم المعارضة في أوكرانيا، وتعود الروابط التي تجمع بين الفاشيين في Banderaite وبين الولايات المتحدة إلى سنوات إدارة ريغان.
وبشكل حتمي رفعت معاداة السامية رأسها القبيح في أوكرانيا. لقد هوجم كنيس في زابوريزهيا، الواقعة جنوب شرق كييف. ونتيجة لذلك نصح الحاخام اليهود بعدم مغادرة منازلهم، وقام مسؤول اسرائيلي بدعوة اليهود الأوكرانيين إلى الهجرة إلى إسرائيل. هذا لا يعني أن هناك نظام فاشي مكتمل مدعوم من الولايات المتحدة يسيطر الآن، ولكن هذا الدور المستقل نسبيا وهذه القوة التي عند الفاشيين عنصر مهم في الوضع الحالي، وهو الأمر الذي يجعل امكانية التوصل إلى حل وسط والحفاظ عليه أكثر صعوبة.
اليمين والعصابات القومية المتطرفة والفاشية تهاجم. وقد وقع الاعتداء على المناضلين اليساريين. روستيسلاف فاسيلكو، السكرتير الاول لمجلس المدينة عن الحزب الشيوعي في لفيف، تعرض للضرب بوحشية، مما أدى إلى جرح في رئتيه وكسر في جمجمته. وهو الآن في حالة حرجة في المستشفى. وهناك العديد من الحالات المشابهة.
لقد أدت مثل هذه الأحداث إلى خلق مزاج مفهوم من الخوف والغضب في المراكز الصناعية في شرق أوكرانيا. وكان النشاط الرئيسي للحزب الشيوعي الأوكراني هو التعبئة للدفاع عن تماثيل لينين التي تم تدمير بعضها في كثير من الأماكن في غرب أوكرانيا. وتعقد في المنطقة الشرقية اجتماعات جماهيرية كل يوم تضم الآلاف من المشاركين.
هناك فراغ في اليسار لابد من سده. والمرشح المنطقي لسد ذلك الفراغ هو الحزب الشيوعي الأوكراني. لكنه، للأسف، بعد عام 2004، بدلا من أن يعمل على الحفاظ على موقف طبقي مستقل، أخضع نفسه لذلك القسم من الأوليغارشية التي يمثلها يانوكوفيتش وحزب الأقاليم. زعموا أن يانوكوفيتش هو “أهون الشرين” مقارنة مع منافسه يوشينكو. كان ذلك خطأ فادحا. ربما كان رد فعل على تجربتهم السابقة في النضال ضد كوتشما مع يوشينكو.
ومع ذلك هناك تقارير تفيد بأن الحزب الشيوعي يحقق النمو (في لوغانسك على سبيل المثال). ليس لدي أرقام دقيقة، لكن يبدو أن جميع فروع الحزب في الجنوب والشرق تعرف نموا. هذا ليس غريبا. فالجماهير التي تشعر بالتهديد المتزايد من طرف الفاشيين والقوميين المتطرفين، تنجذب بشكل طبيعي إلى تلك المنظمات الجماهيرية المألوفة لديها، والتي يبدو أنها تدافع عن مصالحها كطبقة، فضلا عن هويتها الروسية. وعلى الرغم من كل السياسات الخاطئة لزعماء الحزب الشيوعي الأوكراني، فمن الضروري علينا التعبير عن تضامننا الحازم ودعمنا للشيوعيين الأوكرانيين ضد هذا العدوان الفاشي.
الوضع في القرم
تقع القرم في مركز المشاعر الموالية لروسيا. تضم المنطقة – التي هي شبه جزيرة على ساحل البحر الأسود في أوكرانيا – 2,3 مليون نسمة، يعتبر الغالبية العظمى منهم أنفسهم روسيين ويتكلمون الروسية. وقد صوتت المنطقة بشكل كبير لصالح فيكتور يانوكوفيتش في الانتخابات الرئاسية عام 2010، ويعتقد الكثير من الناس هناك أنه ضحية انقلاب – مما يؤدي إلى محاولات الانفصاليين في البرلمان القرمي إجراء تصويت حول ما إذا كان ينبغي الانفصال عن أوكرانيا.
في الواقع، كانت روسيا هي القوة المهيمنة في شبه جزيرة القرم طيلة المائتي سنة الماضية، منذ أن ضمت المنطقة في عام 1783. لكن تم نقل السيطرة عليها من موسكو إلى أوكرانيا -التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي- في عام 1954. وهو ما يعتبره المواطنون من أصل روسي أنه خطأ تاريخي يجب تصحيحه الآن. إلا أن تتار القرم المسلمين يمثلون أقلية كبيرة. والغالبية العظمى منهم مشكلة من سكان تم ترحيلهم بشكل جماعي من قبل ستالين في عام 1944، بسبب تعاونهم المزعوم مع الغزاة النازيين في الحرب العالمية الثانية.
إن التكوين العرقي معقد: يمثل الأوكرانيون نسبة 24% من السكان في القرم وفقا لإحصاء عام 2001، مقارنة مع 58% روس و12% تتار. بدأ التتار يعودون منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 – مما تسبب في حدوث توترات مستمرة مع الروس حول ملكية الأرض. والعنصر الأكثر إثارة للقلق في المعادلة هو القتال الذي اندلع في الشوارع بين نشطاء روس وتتار.
لقد تدهور الوضع في القرم بسرعة منذ الإطاحة بيانوكوفيتش. وبعد احتلال برلمان القرم في سيمفيروبول من طرف قوات شبه عسكرية روسية، صوت النواب لتغيير الحكومة المحلية وأعلنوا تنظيم استفتاء على الاستقلال في 25 ماي المقبل. نتيجة ذلك الاستفتاء محسومة سلفا. فأغلبية سكان شبه جزيرة القرم هم من أصل روسي ويطالبون الآن بالعودة إلى روسيا.
توجد شبه جزيرة القرم الآن خارج سيطرة حكومة كييف بشكل كامل. تم إغلاق جميع المطارات من قبل مشاة البحرية الروسية وصار الآن الدخول إلى القرم مستحيلا، كما اكتشف مبعوث الأمم المتحدة عندما حاول الذهاب إلى هناك. رسميا ما تزال القرم من الناحية القانونية جزءا من أوكرانيا – وهو الوضع الذي أكدته روسيا خلال تعهد بدعم وحدة أراضي أوكرانيا في مذكرة وقعتها عام 1994، كما وقعتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وقد ناشدت حكومة كييف هؤلاء الموقعين للحصول على المساعدة. لكن ما هو قانوني رسميا شيء، وما يحدث في الواقع شيء آخر مختلف تماما. وعلى حد تعبير سولون من أثينا: “إن القانون مثله مثل خيوط العنكبوت: الحشرات الصغيرة تعلق فيه، أما الحشرات الكبيرة فتمزقه وتمر. ”
كلبية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
تنضح ممارسات وكلمات قادة الولايات المتحدة الأمريكية بالنفاق. فبينما يطالبون روسيا بالامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، يعملون هم على التدخل منذ فترة طويلة في ذلك البلد ويسعون بكل الوسائل لدفعه للخروج من فلك موسكو وجره إلى حظيرة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وقد لعبت ممارساتهم الكلبية تلك دورا رئيسيا في زعزعة استقرار أوكرانيا وإحداث الكارثة الحالية.
يتهم الأمريكيون روسيا بانتهاك السيادة الوطنية لأوكرانيا. ألم يعملوا هم أنفسهم على انتهاك السيادة الوطنية للعراق وأفغانستان ويوغوسلافيا؟ يتهمون روسيا بالتآمر لتفكيك أوكرانيا. ألم يخططوا هم كذلك ويعملوا على تفكيك يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا؟ ألم يشجعوا بنشاط تفكيك الاتحاد السوفياتي، مما كان سببا في اندلاع الكثير من الحروب وسقوط الكثير من القتلى والمعاناة منذ ذلك الحين؟
وبينما يتظاهر الامبرياليون الأمريكيون بالدفاع عن الحرية والديمقراطية، لم يترددوا في الاعتماد على عناصر فاشية ونازية للإطاحة بحكومة فيكتور يانوكوفيتش الموالية لموسكو. وبينما يتظاهرون بالدفاع عن استقلال أوكرانيا وسيادتها الوطنية، عملوا على خلق وضع يهدد بتدمير أوكرانيا تماما كدولة موحدة.
لقد خدع الاتحاد الأوروبي الشعب الأوكراني من خلال جعله يعتقد أنه إذا دخلت أوكرانيا تحت سيطرة برلين بدلا من موسكو فإن المشاكل الاقتصادية من شأنها أن تختفي، وأن المواطنين الأوكرانيين سيكونون موضع ترحيب بأذرع مفتوحة للعمل والعيش في أوروبا، وأن البنك المركزي الأوروبي سيمطر الشعب السعيد بمليارات اليورو.
العديد من الأوكرانيين، الذي تعبوا من عقود من الفساد والنصب والفوضى الاقتصادية، صدقوا هذا. لكنها كانت كذبة من البداية الى النهاية. إن أوكرانيا هي ربما المكان الوحيد في أوروبا حيث يخرج الناس إلى الشوارع حاملين علم الاتحاد الأوروبي. أما في اليونان فإن نفس العلم يتم إحراقه. وتقريبا في كل بلد آخر يتعرض اسم الاتحاد الأوروبي للشتائم. والفرق هو أن الناس هنا لديهم خبرة فعلية في ما يعنيه الاتحاد الأوروبي الرأسمالي، في حين أن الأوكرانيين ليس ذلك بالنسبة لهم سوى حلم.
الآن سيبدأ الأوكرانيون في فهم الواقع. اقتصاد البلاد يقف على حافة الهاوية. وحكومة كييف مفلسة بالمعنى الحرفي للكلمة. وقد وضع البنك المركزي الأوكراني 15.000 هريفنيا (1000 أورو) كحد أقصى للسحوبات النقدية اليومية لمنع التقاطر على البنوك وحدوث انهيار كامل للعملة. تقول حكومة كييف إنها تحتاج إلى 35 مليار دولار على مدى العامين المقبلين لتجنب التخلف عن سداد قروضها. لكن من الذي سيدفع الثمن؟ لقد علقت روسيا الدفعة التالية من قرض بقيمة 15 مليار دولار. والاتحاد الأوروبي سيرسل مبالغ هزيلة أو ربما لن يرسل شيئا ألى كييف، بينما سيرسل الكثير من الكلمات اللطيفة. لكن الكلمات وحدها لن تملئ البطون الفارغة.
هل هذه هي بداية الحرب العالمية الثالثة؟
لقد صار بعض الناس يرون شبح سراييفو أمامهم، وذلك ربما لأنها الذكرى المائوية لحرب 1914. يتسائلون هل هذه هي بداية الحرب العالمية الثالثة؟ إن مثل هذه المقارنات التاريخية سطحية وخالية من أي مضمون حقيقي. إن ميزان القوى العالمي الحالي ليس مشابها لذلك الذي كان عام 1914. ولا هي مصالح الدول المعنية الآن مشابهة لتلك التي كانت آنذاك.
في عام 1914 أجبرت ألمانيا على الذهاب إلى الحرب للدفاع عن حليفتها النمسا، وقد كانت على أي حال تبحث عن ذريعة لشن الحرب. كانت المصالح الحيوية لألمانيا والنمسا وروسيا وفرنسا وبريطانيا على المحك. وكان اغتيال فرانز فرديناند في سراييفو مجرد الشرارة التي أشعلت الحريق الأوروبي الذي تراكمت عوامله على مدى عقود. هناك نقطة واحدة بسيطة تعمل على تأكيد الفرق: لقد أدت أحداث سراييفو بشكل فوري إلى إطلاق الحكومة النمساوية لتهديدها النهائي لصربيا، والذي تمت صياغته بطريقة لم يكن في إمكان الصرب أبدا أن يوافقوا عليها. وذلك لأن النمسا أيضا كانت تريد ذريعة لغزو صربيا وسحقها.
ما هوالوضع الآن؟ أمريكا تندد بـ “العدوان” الروسي، على الرغم من أن جيشها حتى الآن لم يغز أوكرانيا (لكنه موجود بالفعل في شبه جزيرة القرم). وذلك لأن أمريكا ليست لديها مصالح حيوية في أوكرانيا.، إنها تود، بطبيعة الحال، أن ترى تصفية القاعدة البحرية الروسية في شبه جزيرة القرم. لكن ممارساتها للتدخل في الحياة السياسية في أوكرانيا – وهي الممارسات التي ساهمت بقوة في زعزعة استقرار البلاد، وتسببت بالتالي في الوضع الحالي- لم تكن تمليها المصالح الاقتصادية. أوكرانيا ليس لديها نفط مثل العراق، بل فقط ديون ضخمة عليها دفعها، وأمريكا لديها ما يكفي من الديون.
ليست أمريكا مهتمة بمصير الشعب الأوكراني أو بمصير أوكرانيا كأمة. إنها لا تريد أن تتحمل أية مسؤولية عن مشاكلها الاقتصادية. إن ما تريده، وما أرادته دائما، هو فصل أوكرانيا عن روسيا. إن هذا جزء من استراتيجيتها الجيوسياسية طويلة المدى لتقويض روسيا وضرب نفوذها على الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفياتي.
بعد أن تعرضت للإذلال من قبل الغرب في يوغوسلافيا والعراق، ومؤخرا في ليبيا، بدأت روسيا الآن ترسم خطا في الرمال. كان هذا واضحا بالفعل في جورجيا، وكان واضحا أيضا في سوريا. لكن من وجهة نظر موسكو تعتبر أوكرانيا أهم بكثير من كل ذلك. إن “الاستراتيجيين” في واشنطن هم حفنة من الجهلة وقصيري النظر. لقد أخطئوا بشكل فادح توقع رد الفعل الروسي. وهم الآن يعلنون دهشتهم. إذا كان ذلك صحيحا فلا بد أن لديهم قطعة همبورغر مكان الدماغ.
ينهج الغرب سياسة كلبية في أوكرانيا. فلا ميركل ولا أوباما تهمهما مصالح الشعب الأوكراني. وقد أثيرت مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وتم التلميح بالفعل إلى الخطوة الأولى أي: “التعاون العسكري”. لكن روسيا لا يمكنها أن تقبل، تحت أي ظرف من الظروف، بوجود الناتو وتركيب الأسلحة الأمريكية المضادة للصواريخ على الأراضي الأوكرانية. كل هذا يرقى إلى عمل عدائي واستفزاز موجه ضد روسيا. من وجهة النظر هذه كان رد فعل موسكو منطقيا وحتميا على حد سواء.
لكن كلا، هذه ليست سنة 1914 أو 1939. إنها ليست حتى الحرب الباردة. إنها ما بعد الحرب الباردة، وليس هناك من سبب لتتحول الحرب الكلامية الحالية إلى صراع عسكري بين القوى الكبرى. ولا هي مثل عام 1968 عندما اجتاح الجيش السوفياتي تشيكوسلوفاكيا. في هذه المرة لدا موسكو تأييد كبير داخل أوكرانيا. ويمكنها أن تنتظر وتترك الأحداث تأخذ مجراها. ثم يمكنها أن تتدخل متى ارتأت ذلك، وهي واثقة من أن تلقى ترحيبا كمحررة من طرف جزء كبير من السكان.
في اليوم الموالي تحدث أوباما مع بوتين لمدة ساعة ونصف. مضمون هذه المحادثة غير معروف. ما هو معروف هو أنها لم تحل أي شيء على الإطلاق. ودعا وزير الخارجية الامريكية جون كيري كل الاطراف إلى القيام “بخطوة الى الوراء وتجنب أي نوع من الاستفزازات”. توعد كيري روسيا بالويل، محذرا إياها من أن أفعالها سيكون لها “عواقب”. ما هي هذه العواقب؟ وقال إنه يقترح مبدئيا طرد روسيا من منظمة قمة الثمانية الكبار، وهو الشيء الذي لن يصيب الرجل القاطن في الكرملين بالأرق.
لقد تمكنت روسيا مؤخرا من إلحاق الهزيمة مرارا بالولايات المتحدة على المسرح العالمي. لقد تعرض أوباما للإذلال من طرف بوتين في سوريا، ويسود الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إحباط كبير بسبب ذلك. يجري تصوير أوباما على أنه رئيس ضعيف وغير حاسم وعاجز عن الوقوف في وجه الروس. ويعمل الجمهوريون مثل جون ماكين الرجعي المسعور على مهاجمته بسبب ذلك.
لكن ما الذي يقترحه ماكين؟ إنه لا يطالب بالعمل العسكري. إنه يريد أن تعمل الإدارة الأمريكية على توسيع نطاق تطبيق القانون الذي يتيح لحكومة الولايات المتحدة معاقبة المسؤولين الروس المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. وربما لن تكون فكرة سيئة معاقبة المسؤولين الأميركيين المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان أيضا. إن هذا من شأنه أن يبقي محكمة العدل الدولية مشغولة لفترة طويلة. لكن هذه الفكرة الجيدة لم تتبادر أبدا لذهن السيد ماكين. كما لم يتبادر لذهنه التفكير في كيفية تسليم روسيا لهؤلاء “المسؤولين الروس”. لكن التفكير المنطقي لم يكن أبدا نقطة قوة الجمهوريين بشكل عام وجون ماكين على وجه الخصوص.
انضمت المملكة المتحدة إلى الولايات المتحدة وفرنسا وكندا في وقف الاستعدادات للمشاركة في قمة الثمانية الكبار في روسيا شهر يونيوالمقبل. وكان عند وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ جرعة أقوى من الدواء للروس: إنه ينوي مقاطعة اولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة في سوتشي. وهو ما من شأنه حقا أن يجعل الروس يرتجفون خوفا!
لكن ماذا عن السيدة ميركل، زعيمة الاتحاد الأوروبي بلا منازع، والتي تسببت في كل هذه الضجة في المقام الأول. إنها مثل أوباما أنفقت أيضا بعض الوقت في التحدث الى الرئيس الروسي عبر الهاتف. ومرة أخرى لم يفرج عن مضمون المحادثة ( إلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي، وكالعادة، ستكون قد استمعت للمكالمة). لكن وكما نعرف فإن الزعيمة الألمانية تتفهم للغاية وجهة النظر الروسية.
كان كل شيء وديا للغاية، وانتهت بتعهد الألمان بالحفاظ على علاقات وثيقة مع روسيا والاستمرار في الحوار الودي. لماذا كل هذه الحميمية؟ ألا يكون لذلك علاقة ما مع حقيقة أن روسيا هي المزود الرئيسي بالغاز لألمانيا؟ أليست أنجيلا قلقة ربما من أنها إذا داست بقوة على أصابع فلاديمير، فإنه قد يميل إلى إغلاق الصنبور؟ لا يمكننا أبدا أن نعرف.
الغرب يتحدث بألسنة مختلفة: فالرسالة من واشنطن ليست بالضبط نفس الرسالة من لندن. وتلك الموجهة من برلين مختلفة تماما عن كل منهما. هناك شيء واحد واضح جدا: ففي كل هذه الإشارات، الودية منها وغير الودية، لا أحد قد ذكر الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يؤثر على ذهن بوتين، أي: احتمال القيام بعمل عسكري.
السيد أندرس فوغ راسموسن (“الاسكندنافي اللطيف”)، الذي يتحدث عادة باسم حلف شمال الاطلسي، أي باسم الولايات المتحدة، طلب من روسيا سحب قواتها وإعادتها إلى قواعدها. وقد قام بذلك بنفس الأسلوب الاسكندنافي المعتاد، أي: بهدوء وبلطف وبأدب جم:
“اننا ندعو روسيا لخفض حدة التوترات. .. وإرجاع قواتها إلى قواعدها والامتناع عن أي تدخل في أي مكان آخر في أوكرانيا”. وخلال حديثه من بروكسيل قال في لهجة مطمئنة جدا: إن أوكرانيا “شريك مهم” لحلف شمال الاطلسي وينبغي أن يسمح لها بتقرير مستقبلها. وبعد أن أدان الروس بسبب “العدوان” ناشدهم بالحوار.
ومرة أخرى لم يكن هناك أي ذكر لانذار نهائي من أي نوع. هناك سبب وجيه جدا لصمت راسموسن: إنه يعلم جيدا أن العمل العسكري من قبل الغرب مستبعد تماما.
الجيش الأوكراني
اتهمت أوكرانيا روسيا بالقيام بعملية غزو مسلح عن طريق إرسال القوات البحرية لمنطقة القرم. لكن ما الذي يمكنها عمله حيال ذلك؟ من الناحية النظرية تمتلك أوكرانيا أكبر جيش في أوروبا، جيش مسلح بأسلحة وتكنولوجيا حديثة. لكن جميع التقارير تشير إلى أن الجيش الأوكراني، مثله مثل بقية أجهزة الدولة، قد عانى من سنوات من الإهمال، ونقص التمويل والفساد. وعلاوة على ذلك، فإن الجيش الأوكراني يعكس حتما كل تناقضات المجتمع الأوكراني، وتشقه نفس خطوط الصدع. فإذا تعرض لضغوط شديدة فإنه يمكن أن ينكسر إلى قطع.
لقيت هذه الفرضية دليلا قاطعا في الأيام القليلة الماضية عندما انشق قائد سلاح البحرية الأوكرانية المعين حديثا علنا وأقسم بالولاء لمنطقة القرم، في حضور زعيمه الجديد الموالي لروسيا. وبما أن الأدميرال دنيس بيريزوفسكي لم يكن قد عين على رأس سلاح البحرية إلا يوم السبت، كرد رد فعل من طرف الحكومة في كييف على خطر الغزو الروسي، فإن موقفه ذلك شكل ضربة مدمرة. تعهد الأدميرال بـ “إطاعة أوامر القائد الأعلى لجمهورية القرم” و”الدفاع عن حياة وحرية” الشعب القرمي. ستظهر تداعيات انشقاق بيريزوفسكي في جميع صفوف القوات المسلحة الأوكرانية.
بثت قناة BBC البريطانية يوم امس صورا لمشاة البحرية الأوكرانية الذين تمت محاصرتهم في قاعدتهم بالقرم من قبل القوات الروسية. كانت وجوه هؤلاء الشبان تعكس القلق وليس التحدي. لم يكن ذلك القلق راجعا لخوفهم على حياتهم بقدر ما هو خوف من تلقي أوامر بإطلاق النار ضد الرجال الذين كانوا إلى حدود الأمس أصدقائهم ورفاقهم. كان من الواضح أنه ليست لديهم أية رغبة في القتال. وإذا قبلنا بمقولة نابليون أنه في الحرب “تمثل الروح المعنوية بالنسبة للحالة المادية ما تمثله ثلاثة بالنسبة لواحد”، فإن القدرة القتالية لهذه القوات هي قريبة من الصفر.
وبالتالي فإنه من غير المحتمل أن يكون الجيش الأوكراني مستعدا للقتال، على الأقل في الوقت الحاضر، على الرغم من أن ذلك يمكن أن يتغير. والأقل احتمالا هو أن يتمكن من صد الغزو الروسي بنجاح، ناهيك عن استعادة شبه جزيرة القرم، التي احتلها الروس فعليا.
ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ دعا البرلمان الاوكراني مجلس الأمن الدولي لمناقشة الأزمة التي تحدث في القرم. ومجلس الأمن سيعمل بالطبع على النقاش ثم النقاش، ثم سيقوم بـ… لا شيء. وستتعرض حتى أكثر القرارات بساطة حول أوكرانيا للفيتو من طرف روسيا، التي هي عضو في المجلس المذكور. أيا كان ما سيحدث الآن، فإن القرم قد ضاع.
ماذا الآن؟
عندما اختفى يانوكوفيتش بعد تركه لمنصبه كان من المفترض على نطاق واسع أن بوتين قد تخلى عنه. لكنه عاد بعد ذلك إلى الظهور في روسيا. ونظم مؤتمرا صحفيا في مدينة روستوف أون دون، بالقرب من الحدود الأوكرانية، حيث أكد أنه ما يزال الرئيس الشرعي لأوكرانيا. وقال المدعي العام في أوكرانيا إنه سوف يطلب من روسيا تسليم يانوكوفيتش، إذا تأكد أنه ما يزال هناك. لكن بوتين يلعب لعبة الأباطرة الرومان القديمة الذين كانوا دائما على استعداد لتوفير الضيافة للملوك والأمراء اللاجئين والذين يمكن استعمالهم في وقت لاحق كغطاء مفيد لغزو أراضيهم لاعادتهم إلى عروشهم – تحت السيطرة الرومانية، بطبيعة الحال.
هل من الممكن أن تتوصل روسيا والولايات المتحدة الى اتفاق؟ هذا غير مستبعد من حيث المبدأ. لكن مسار الأحداث يشير إلى احتمالات أخرى، والأحداث تتحرك بسرعة. يبدو أن تقسيم أوكرانيا احتمال مرجح على نحو متزايد، لكن وبالنظر إلى حجم وموقع أوكرانيا، فإن عواقب ذلك ستكون خطيرة حقا. لا يمكن إنجاز ذلك من دون عنف، بل وحتى حرب أهلية. عندئذ ستكون روسيا ملزمة بالتدخل. وبما أن الاتحاد الاوروبي لا يمتلك جيشا، فإنه سيقف على الهامش في مثل ذلك الوضع.
من الجدير بالذكر أن الدمية الألمانية كليتشكو لم يكن حتى على قائمة أعضاء الحكومة الجديدة. بينما صعدت الدمية الأمريكية ياتسينيوك إلى الواجهة. من الواضح أن واشنطن تسعر الوضع في كييف حاليا. ومن الممكن توقع قيام الأمريكيين بتبني موقف تصعيدي (بالأقوال على الأقل). إذ في النهاية أي حريق سيحدث في أوكرانيا سيمتد إلى روسيا والاتحاد الأوروبي في المقام الأول، بينما الإدارة الأمريكية تجلس بعيدا بمسافة مريحة من الأحداث (أو هكذا تعتقد).
يتعرض ياتسينيوك لضغوط من جهات متعددة. فهو من ناحية واقع تحت ضغط القوميين المتطرفين المسعورين، المدعومين من طرف الغوغاء في ساحة الاستقلال، ومن ناحية أخرى، تقول له واشنطن بأن يقف بحزم، مؤكدة له دعمها الكامل وما إلى ذلك. هذا مزيج متفجر.
يغلي شرق أوكرانيا بالغضب. وقد تم رمي بعض المتعاطفين مع حكومة كييف من المباني الحكومية المحلية في خاركيف على يد حشود غاضبة. إن الشرق ينزلق بسرعة للخروج من تحت سيطرة الحكومة المركزية. ما الذي يمكن لهذه الأخيرة أن تقوم به لوقف هذه الانشقاق؟ إذا لم تفعل شيئا فإن ذلك سوف يستمر. أما إذا حاولت التدخل عسكريا، فسيكون هناك اشتباك دموي وسوف تجتاز الدبابات الروسية فورا الحدود. لقد حذر بوتين أوباما بأن أي تهديد للسكان الروس في أوكرانيا سيجعل روسيا تتدخل. وليس هناك أدنى سبب للاعتقد بأنه كان يخادع.
المزاج في موسكو يزداد تصلبا. تم تفريق مظاهرة صغيرة مناهضة للحرب بسرعة، وتلتها مظاهرة ضخمة لدعم التدخل العسكري المحتمل. وإذا حاولت حكومة كييف، كما هو محتمل، تأكيد سيطرتها على تلك المناطق بالقوة مما سيؤدي إلى سفك الدماء، فإن الدبابات الروسية ستتحرك في اليوم التالي، ولا شيء يمكنه أن يوقفها. وعلاوة على ذلك، فإن الجيش الروسي سيكون موضع ترحيب كمحرر من قبل معظم السكان.
من المستحيل أن نعرف مسبقا ماذا ستكون عليه الإمكانات القتالية للقوة المسلحة الأوكرانية في مثل تلك الحالة. فكما أشار نابليون إن الحرب هي أكثر المعادلات تعقيدا. لكن لا شيء من المعطيات التي لدينا يوحي بأن الجيش الأوكراني يمكنه أن يصمد أمام الغزو الروسي. سوف توضع كل من حكومة كييف والغرب أمام الأمر الواقع، وهو ما سوف يحتجون عليه بأقوى العبارات، لكنهم لن يقوموا بأي شيء ضده. سيكون ذلك الخطوة الأولى نحو تفكيك أوكرانيا، وهو ما سيشكل كارثة بالنسبة لجميع الأوكرانيين وبالنسبة للطبقة العاملة العالمية.
من أجل أوكرانيا اشتراكية موحدة!
إذا كان مصير أوكرانيا سيقرره بوتين وميركل وأوباما، فماذا تبقى من السيادة الوطنية الأوكرانية؟ لقد سبق لروسيا جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، أن تعهدوا باحترام الوحدة الترابية لأوكرانيا في اتفاقية وقعت في عام 1994. لكن تلك الاتفاقية مثلها مثل كل الاتفاقيات الأخرى ليست سوى حبر على ورق. إن تقرير القضايا الحقيقية يتم دائما بالقوة في نهاية المطاف. إن النحيب السلمي “ضد الحرب” و”من أجل السلام” وهلم جرا هو أسوء من لا شيء في مثل هذه الحالات. من الضروري أن ننطلق من حقائق الوضع كما هي في الواقع.
سبق لدبلوماسي حكيم أن قال ذات مرة: “ليس لدا الأمم أصدقاء، بل لديها مصالح فقط”. هذا صحيح تماما. إن بوتين لا يتحرك لخدمة مصالح الشعب الناطق باللغة الروسية في أوكرانيا. ولا اوباما وميركل يعملان لخدمة مصالح الأوكرانيين. إنهم جميعا مدفوعين قبل كل شيء بدافع المصلحة القومية الذاتية الضيقة، أي مصلحة الأغنياء والأقوياء والمصرفيين والرأسماليين والأوليغارشيين، الذين هم الحكام الحقيقيون للمجتمع الرأسمالي.
سيكون من الخطأ الفادح بالنسبة للعمال في أوكرانيا أن تكون لديهم أوهام في دوافع القوى الخارجية. يتطلع الشعب الناطق باللغة الروسية في أوكرانيا، والذي يضم كتائب كبيرة من الطبقة العاملة، إلى موسكو من أجل الخلاص، في حين أن العديد من الأوكرانيين في الجزء الغربي يبحثون عن الخلاص عند الاتحاد الأوروبي. كلاهما مخطئ، وعاجلا أم آجلا سوف يكون لديهما سبب للندم على هذا الخطأ.
تجد كل هذه الفوضى جذورها في الانهيار الاقتصادي المخيف الذي شهدته أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. والحقيقة هي أن الرأسمالية قد فشلت في كل من أوكرانيا وروسيا. وحدها حفنة من الأوليغارشيين فاحشي الثراء من اغتنت عن طريق نهب ممتلكات الدولة، في حين تم إغراق الملايين من الناس العاديين في مستنقع الفقر. ليس هناك من حل على أساس الرأسمالية. تعرض كثير من الناس في غرب أوكرانيا للاغراء بوعود الأمريكيين والاتحاد الأوروبي. لكنهم سرعان ما سيكتشفون أن ذلك كان فخا. ففي أحضان صندوق النقد الدولي الحديدية سوف يجدون أنفسهم في وضع أسوأ بكثير من ذي قبل.
ماذا عن الشعب في شرق أوكرانيا؟ هل من شأن سيطرة روسيا هناك أن تحل مشاكلهم؟ لقد كان الوضع الاقتصادي سيئا من قبل، لكن من شأن تفكك أوكرانيا أن يجعل الأمور أسوء بكثير. “كرم” موسكو لن يدوم طويلا، وخصوصا عندما ستبدأ أسعار النفط والغاز في التراجع، وهو أمر لا مفر منه. إن الاقتصاد الروسي محكوم بالسقوط، ويمكن للحرب مع أوكرانيا، حتى ولو انتهت بالنصر، أن تكون شرارة انفجار أزمة. أعلن هذا الصباح أن سوق موسكو للأوراق المالية قد شهدت انخفاضا حادا. هذا تحذير بما هو آت.
ومع ذلك، فإن أسوء الآثار لن تكون اقتصادية بل سياسية. فمن شأن الغزو الروسي وتقسيم أوكرانيا أن يؤدي بلا شك إلى سلسلة من الأحداث التي ستكون لها عواقب أكثر سلبية على وعي الطبقة العاملة على الصعيد الأممي، وخصوصا في أوروبا. سوف تؤدي إلى تفاقم كبير للصراعات القومية، وخلق وحوش كما رأينا في يوغوسلافيا. ويمكن لإراقة الدماء أن تولد مشاعر الكراهية والمرارة التي يمكن أن تستمر لأجيال.
إن الوضع في القرم مقلق بشكل خاص في هذا الصدد. إن مسلمي القرم التتار الذين يعود عدائهم تجاه روسيا إلى ترحيل ستالين لهم خلال الحرب العالمية الثانية، يعارضون بشدة أي عودة نحو حكم موسكو. إذا، فإذا ما تم إلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا، كما هومحتمل، فإنه ستكون هناك المزيد من التوترات والاشتباكات بين الروس والتتار. يمكننا أن نشهد تشكيل جماعات إرهابية وحتى ميليشيات، كما هو الحال في الشيشان، تخوض كفاحا مسلحا دمويا ضد روسيا، مع كل الويلات المعتادة التي تترتب عليها.
سيكون في أوكرانيا نفسها نفس الشيء: الهجمات الإرهابية والتفجيرات والقتل العشوائي للمدنيين، أي كل الأشياء الرهيبة التي رأيناها في كثير من الأحيان في العديد من البلدان: في يوغوسلافيا والعراق وأفغانستان وسوريا وليبيا، الخ. وبمجرد ما سيبدأ هذا المسلسل سيصير من الصعب إيقافه. الجنون الإرهابي سينتشر، وسيصيب روسيا وأوروبا، حيث وجود عدد كبير من المهاجرين الأوكرانيين والروس سيشكل أرضا خصبة لعمليات القتل والتفجيرات الإرهابية الانتقامية بينهم.
يمكن لأهالي شرق أوكرانيا أن يرحبوا بوصول القوات الروسية بالإغاثة، لكن هذا يستند على الوهم أكثر مما يستند على الواقع. وبالمثل، فإن الأهالي في كييف والمناطق الغربية الذين ينظرون بأمل إلى برلين وواشنطن سيجدون آمالهم قد تبددت. إنهم يعتقدون أن “الامور لا يمكن أن تسوء أكثر”. لكنها للأسف يمكن أن تسوء أكثر من ذلك بكثير.
إننا ندافع عن وحدة الطبقة العاملة وعن وحدة أوكرانيا. لكن الضمانة الحقيقية الوحيدة لذلك هي النضال الثوري ضد الأوليغارشية. لا يمكننا أن نعهد بهذه المهمة إلى أي جهة ما عدا الطبقة العاملة الأوكرانية. إن العمال في موسكو الذين تظاهروا للتعبير عن دعمهم لإجراءات حكومتهم لا يتظاهرون دعما للحرب ولكن لدعم إخوانهم وأخواتهم في أوكرانيا. إنهم يرون ذلك وكأنه نضال ضد الفاشية. ولكن القوة الوحيدة التي يمكنها أن تهزم الفاشية هي الطبقة العاملة بمجرد ما تتحد وتتحرك لتغيير المجتمع.
هل من الضروري هزم الفاشية في أوكرانيا؟ نعم، بطبيعة الحال! إن الفاشيين والشوفينيين الأوكرانيين هم أعداؤنا. يجب سحقهم دون رحمة. ينبغي على الطبقة العاملة والحزب الشيوعي والنقابات العمالية تطوير وتوسيع نطاق الميليشيات المناهضة للفاشية التي بدأت في الظهور بالفعل. ينبغي تجميع اللجان المناهضة للفاشية في حركة تشمل كل أوكرانيا، وتضم كلا من المتحدثين بالأوكرانية وبالروسية وتتار القرم واليهود. يمكن هزم الفاشيين بالقوة المنظمة للطبقة العاملة الأوكرانية، لكن فقط بشرط ألا نسمح بأن يتم تقسيم صفوفنا.
سيكون عملا إجراميا تقسيم الطبقة العاملة الأوكرانية. ليس هناك من سبب حقيقي لتقسيم أوكرانيا. لقد عاش الأوكرانيون والروس وعملوا معا منذ مئات السنين. إن الشعبين موحدان بعلاقات تاريخية وثقافية قوية. وما تزال هذه العلاقات قوية حتى الآن. فبعد أن تمكنت العصابة الرجعية في البرلمان من تمرير القانون الإجرامي ضد اللغة الروسية، قررت الجماهير الناطقة بالأوكرانية في الغرب ألا يتكلموا إلا بالروسية لمدة 24 ساعة احتجاجا، وكان رد الفعل العفوي للجماهير الناطقة بالروسية في الشرق تجاه هذه الخطوة أن قرروا التحدث بالأوكرانية لنفس المدة. هذه خطوة صغيرة لكنها مهمة وتظهر أن الناس العاديين في أوكرانيا يعارضون الجنون القومي ويريدون بقوة الوحدة.
أيها الرفاق والرفيقات! أيها الإخوة والأخوات! يا عمال أوكرانيا وروسيا! لا تضعوا ثقتكم في حكوماتكم، والتي ليست سوى غطاء لحكم الأوليغارشية الرأسمالية المنحطة! لا تثقوا إلا في أنفسكم، وفي وحدتكم الطبقية ووعيكم الطبقي. لا تسمحوا لأنفسكم بأن تنخدعوا بديماغوجية وكذب القوميين وسموم العنصرية البغيضة. قاتلوا بكل قوتكم من أجل الوحدة المقدسة للطبقة العاملة فوق كل الاختلافات القومية والعرقية واللغوية والدينية!
أيها المناضلون والمناضلات الشيوعيون في روسيا وأوكرانيا! إذا كنتم ترغبون في أن تكونوا أوفياء للشيوعية وللمثل العليا للينين وثورة أكتوبر، من الضروري عليكم القطع جذريا مع البرجوازية والأوليغارشية، عليكم النضال من أجل الاشتراكية. إن بوتين لا يمثلنا، ولا يانوكوفيتش أو ياتسينيوك، أو أي حزب برحوازي أو أي فصيل آخر من البرجوازية. إن القوة الوحيدة التي يمكنها أن تغير المجتمع هي الطبقة العاملة، مسلحة ببرنامج الاشتراكية تحت قيادة حزب شيوعي جدير بهذا الاسم.
فلتسقط الشوفينية القومية ! فلنجعل شعارنا: العودة إلى لينين! عاشت الاشتراكية! عاشت الأممية البروليتارية والوحدة المقدسة للطبقة العاملة!
آلان وودز
الاثنين: 03 مارس 2014
عنوان النص بالإنجليزية: