مناضل ماركسي ثوري مصري
غشت 2016
خلال هذا الشهر، غشت 2016، تكون قد مرت أزيد من ثلاث سنوات على ثورة 30 يونيو 2013، عندما خرج إلى الشوارع ما يقارب 17 مليون متظاهر في أكبر ثورة في التاريخ. حتى الثورة الروسية الاشتراكية العظمى التي أسقطت النظام القيصري وأوصلت الطبقة العاملة إلى السلطة لأول مرة في التاريخ (إذا ما استثنينا تجربة كومونة باريس القصيرة) لم تشهد مشاركة كل ذلك العدد الهائل من المتظاهرين.
لقد أثبتت الطبقة العاملة لمصرية والشباب الثوري أنهم قادرون على تغيير المجتمع، وأعطت الدليل، مرة أخرى، على أن الجماهير عندما تقرر أخذ مصيرها بأيديها لا توجد قوة فوق الأرض قادرة على منعها، وعندما تنهض لا يكون هناك نظام، مهما كانت قوته، قادر على كبحها.
يا لها من أيام مجيدة تلك، ألهمت العالم بأسره وأعادت الثقة للشعوب، ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل حتى في أوربا وأمريكا، بإمكانية التغيير الثوري. فرأينا اندلاع حركات احتلال الساحات في أمريكا وأوربا، وتردد صدى شعار: “ثورة حتى النصر” في شوارع نيويورك ومدريد وباريس…
كانت السلطة في الشوارع وأماكن العمل، في يد العمال والشباب الثوري، وكانوا يعرفون ذلك، لكنهم، بسبب غياب الحزب الماركسي والبرنامج الثوري، لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون بها. لو توفر آنذاك حزب ماركسي ثوري ولو من بضعة آلاف مناضل وببرنامج ثوري واضح وتكتيكات صحيحة لكانت الطبقة العاملة قد استولت على السلطة وهو ما كان سيغير مصير العالم بأسره. لنتذكر أن البلاشفة خلال ثورة 1917 لم يكن عددهم يتجاوز 8000 مناضل.
غياب مثل ذلك الحزب وتلك القيادة مكن الطبقة السائدة من استعادة المبادرة نسبيا، ودفع المسار في اتجاه برلماني ودستوري، ليتمكن العسكر في النهاية من الاستيلاء على السلطة بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، والانقلاب على الثورة الشعبية.
لم يكن ما قام به السيسي والمجلس العسكري انقلابا على مرسي العياط وحكومة الإخوان المسلمين، كما يروج لذلك الانتهازيون والرجعيون الإسلاميون. لأن مرسي والإخوان يبقون، في آخر المطاف، مكونا من مكونات الطبقة السائدة، واستيلاء السيسي على السلطة كان، في آخر المطاف، لمصلحة تلك الطبقة بالذات بأسرها، وإن لم يرض مؤقتا فريقا منها. إنه لم ينقلب على الطبقة السائدة، ولا على السياسات التي كانت حكومة الإخوان تنفذها ولا المصالح التي كانت تدافع عنها، أي مصالح الرأسماليين والإمبريالية وصندوق النقد الدولي، بل انقلب على أهداف الثورة: “عيش حرية عدالة اجتماعية”، والطبقات الكادحة التي أشعلتها.
وخلال هذا الشهر كذلك تكون قد مرت أزيد من سنتين منذ أن خلع الجنرال السيسي بزة العسكري وارتدى قناع الرئيس المدني، وتسلم السلطة على اثر انتخابات شكلية محسومة النتائج سلفا. وصعد إلى السلطة على سلم من الأكاذيب والوعود المستحيلة التحقيق.
آنذاك قررت الجماهير أن تعطيه فرصة لتنفيذ تلك الوعود. ليست الجماهير غبية ولا متخلفة، كما يحب المثقفون البرجوازيون الصغار أن يقولوا، لكنها كانت قد تعبت بعد سنوات عاصفة من الحراك والتضحيات الجسيمة، بدون برنامج ولا أفق واضح، كما أنها كانت قد سئمت من بلطجية الإخوان المسلمين والاضطرابات التي كانوا يتسببون فيها، وزادت العمليات الإرهابية في تأكيد الحاجة إلى فرصة من الهدوء، فقررت أن تقدم “للريس” التفويض الذي طلبه.
استغل النظام الفرصة لكي يصفي حساباته مع الشباب الثوري ويعمل على سحق الطلائع الثورية التي استمرت في الحراك دفاعا عن الثورة، والتي يمكن لها أن تشكل نقطة مرجعية للجماهير عند عودتها إلى الشوارع. وهو ما يفسر موجة القمع الرهيب ضد شباب الثورة والتيارات اليسارية والقيادات العمالية والطلابية.
فقمع العسكر التعبير والصحافة، وكان أول ضحاياه الصحفي الثوري ناجي كامل واعتقل الكثير من الشباب الثوري من قبيل، على سبيل المثال لا الحصر، المناضل اليساري هيثم محمدين، القيادي في الاشتراكيين الثوريين، والمناضل زيزوه عبده والمناضل عمرو علي، أحد قيادات حركة 6 أبريل، و الحقوقي اليساري مالك عدلي. والشباب المعتقلين على خلفية النضالات ضد بيع الأراضي المصرية، تيران وصنافير، للمملكة السعودية الرجعية، والتعذيب في السجون، ثم القمع الذي يتعرض له الآن عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية…
ليس هذا القمع دليلا عن قوة النظام، بل على العكس تماما إنه تعبير عن ضعفه وحالة الرعب التي يعيشها من أي حراك شعبي يعلم جيدا أنه غير قادر على الوقوف في وجهه فيحاول وأده في المهد.
قد يكون الجنرال السيسي هو الرئيس الذي أعطى في بداية حكمه من الوعود أكثر مما أعطاه أي رئيس آخر سبقه. لكن ما الذي تحقق الآن من كل تلك الوعود؟ هل وفر الخبز والشغل والسكن والعيش الكريم للجماهير التي ثارت بالضبط من أجل هذه المطالب الملموسة؟ كلا!
يعيش النظام المصري أزمة خانقة على كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إضافة إلى الاضطرابات الأمنية المرتبطة بالإرهاب، الخ. والأوضاع المعيشية للجماهير ما تزال سيئة بل وقد ازدادت سوءا.
فلندع الأرقام تتحدث: أظهر تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن الغالبية العظمى من الأسر الريفية لا تتمتع بخدمة شبكة الصرف الصحي التي لا تشمل سوى 30% من أسر الريف، مقابل 89,8% من أسر الحضر، وأن 97,3% من أسر الحضر متصلون بالشبكة العامة للمياه مقابل 89,2% في الريف .
عجز الميزانية في مصر بلغ قرابة 12% من إجمالي الناتج المحلي وبلغ عجز الحساب الجاري 7%. معدل البطالة، بالأرقام الرسمية، وصل إلى حوالي 13% من الساكنة النشيطة ، وهو أعلى مستوى له خلال 11 سنة. وقد بلغت البطالة بين الشباب مستوى قياسيا تجاوز الآن 40% . وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن 75% من الساكنة النشيطة يشتغلون في القطاع غير المهيكل في ظروف أقرب إلى العبودية ومقابل أجور البؤس.
الغلاء وصل مستويات قياسية، وقد عملت الدولة على الاقتطاع من الدعم الموجه للمواد الغذائية والطاقة. وفي يوليوز 2014 قفز سعر الوقود بـ 78%، والكهرباء ب 20%، كما عملت الحكومة على الرفع من الضرائب إلى الضعف على السجائر والمشروبات الكحولية . وقد عرف الجنيه سقوطا حرا أمام الدولار ليقترب من مستوى 13 جنيها للدولار الواحد في السوق السوداء، وذلك للمرة الأولى في تاريخه على الإطلاق..
الاقتصاد في شبه شلل، تضررت السياحة بشكل كبير بفعل الأزمة العالمية والعمليات الإرهابية التي تضرب البلاد. كما شهدت الصادرات انخفاضا متتاليًا خلال الفترة (2011 – 2015) حيث كانت في عام 2011 حوالي 31,57 مليار دولار، لتصل إلي 29,33 مليار دولار في عام 2012، ثم استمر الانخفاض لتصل إلى 28,73 مليار دولار في عام 2013، ثم 26,77 مليار دولار في عام 2014.
مساعدات دول الخليج، التي تعتبر مصدرا أساسيا للميزانية المصرية، تراجعت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وستستمر في التراجع نتيجة انخفاض أسعار البترول والحروب التي تدعمها دول الخليج في المنطقة. كما أنه من المتوقع أن تنخفض تحويلات المصريين العاملين بدول الخليج، بسبب التأثير السلبي على مدخراتهم بعد رفع تكاليف المعيشة هناك، وهو ما سيكون له أثر كبير في مصر، حيث تدبر هذه التحويلات احتياجات نحو 5 مليون أسرة مصرية .
وانخفضت قيمة الصادرات البترولية من 9,23 مليار دولار عام 2011 إلي 7,54 مليار دولار عام 2013 ثم إلي 6,26 مليار دولار عام 2014، كما انخفضت في النصف الأول من عام 2015 لتسجل 2,11 مليار دولار بعد أن كانت 3,47 مليار دولار في النصف الأول من العام 2014، بمعدل انخفاض وصل إلي 39%.
كما شهدت الصادرات السلعية غير البترولية انخفاضا متتاليًا، حيث كانت في عام 2011 حوالي 23,32 مليار دولار، انخفضت لتصل إلى 22,85 مليار دولار في عام 2012، بمعدل انخفاض وصل إلى 2%، ثم استمر الانخفاض لتصل الصادرات إلي 22,09 مليار دولار في عام 2013، بمعدل انخفاض وصل إلي 3%، ثم حدث زيادة في الصادرات لتصل إلى 22,26 مليار دولار في عام 2014، بمعدل زيادة قدره 1%، ثم حدث انهيار في إجمالي قيمة الصادرات في عام 2015 لتصل إلي15,36 مليار دولار، بمعدل انخفاض وصل إلي 31%عن العام السابق.
أما فيما يتعلق بالديون فقد ارتفع إجمالي الدين الخارجي لمصر 34,1% في الربع الثالث من 2015-2016، بينما زاد الدين العام المحلي 23,8% في نفس الفترة. وأوضحت بيانات البنك المركزي المصري أن إجمالي الدين الخارجي للبلاد وصل إلى 53,44 مليار دولار، في الربع الثالث الذي انتهى في 31 مارس، من 39,85 مليار دولار في الربع المقابل من 2014-2015. وارتفع الدين العام المحلي إلى 2,49 تريليون جنيه بنهاية مارس من 2,01 تريليون جنيه قبل عام، وفق ما ذكرت وكالة رويترز .
مصر بلد غني بالثروات، بلد يمتلك الذهب والحديد والبترول والغاز، ويعتبر سادس أكبر بلد مصدر للغاز في العالم . والأهم من كل ذلك بلد يتمتع بساكنة شابة كثيفة نشيطة، فمصر أكبر بلد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث عدد السكان. لكن في ظل الرأسمالية والتبعية للإمبريالية هو مجرد بلد فقير يستجدي المساعدات من الولايات المتحدة وشيوخ الخليج.
نسبة الفقر بلغت 27,8% عام 2015، بارتفاع معدله 1,5% قياسا إلى نسبته في عام 2012/2013، حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. لكن الفقر ليس معمما على الجميع: أورد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في مؤتمر صحفي له بحثا عن الدخل والإنفاق والاستهلاك، أظهر بين نتائجه تفاوت متوسط الاستهلاك الفعلي للأسر المصرية في شرائح الاستهلاك المختلفة، إذ بلغ نصيب الأسرة في شريحة الإنفاق الدنيا 4,2% من إجمالي الاستهلاك الفعلي، وهي النسبة التي زادت إلى 14% في الشريحة التاسعة (قبل الأعلى)، وصولًا إلى 25% في الشريحة الأعلى، وهي البيانات التي قال أبو بكر الجندي –رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- خلال المؤتمر إنها تشير إلى تفاوت واضح في توزيع الدخول في مصر .
واحتلت مصر المركز الثاني لقائمة فوربس العالمية بأغنى الدول العربية لعام 2015 من حيث عدد المليارديرات: 8 مليارديرات. والذين بلغت ثرواتهم مجتمعين في هذا العام نحو 44,2 مليار دولار، وهو ما يساوي 336 مليار جنيه مصري . والجدير بالذكر هو أن هذه القائمة لم تتضمن كل القطط السمان، فلم تشر إلى جنرالات الجيش وكبار المسؤولين في الدولة وأبنائهم، الخ. الذين اعتصروا مصر وشعب مصر طيلة عقود وراكموا ثروات خيالية، على حساب بؤس الأغلبية الساحقة. ينبغي أن نعلم أن المؤسسة العسكرية تسيطر فعليا على أهم مفاتيح الاقتصاد المصري حيث تقدر ملكيتها بـ 45% من حجم الاقتصاد المصري.
في ظل هذه الأوضاع يصير تطبيق الإجراءات التقشفية مسألة حتمية في ظل الرأسمالية. وبالفعل استقبلت مصر مؤخرا (السبت 30 – 07- 16) وفدا من صندوق النقد الدولي للتفاوض على طلب قرض بقيمة 12 مليار دولار على ثلاث سنوات، فطلب الصندوق مقابلها تنفيذ سلسلة من الإجراءات الاقتصادية التقشفية القاسية على العمال وعموم الفقراء.
ورطة نظام السيسي هي أنه يريد تطبيق تلك السياسات التقشفية، لكنه في نفس الآن يعرف أن نظامه ضعيف وأن الجماهير قادرة على إسقاطه بسهولة، لذلك فهو لا يغامر باستفزازها بالإجراءات التقشفية رغم ضغط أسياده. وكما قالت صحيفة الايكونوميست عنه إنه «يصر على الدفاع عن الجنيه (العملة المحلية) لئلا يفاقم معدلات التضخم ويثير مظاهرات انتفاضة الخبز» .
لكن السياسات التقشفية من وجهة النظر الرأسمالية إجراء حتمي لا مفر منه. وهذا ما جعل الجنرال يحاول تسويقها للجماهير وكأنها إجراءات ضرورية “لمصلحة البلد”، الخ. قال في خطاب له بعد اللقاء مع وفد صندوق النقد الدولي إن «التحدي الرئيسي الذي تواجهه مصر ليس الإجراءات، ولكن مدى قبول المجتمع والرأي العام، الإشكالية تكمن في إذا ما كان الرأي العام لديه الاستعداد أو قدر من المعرفة لقبول الإجراءات التي قد تكون صعبة أو قاسية» .
إلا أن الأكيد هو أن الجماهير التي انتظرت أن ترى وعود السيسي الجميلة تتحقق على أرض الواقع، لن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى أنه ليس فقط لم يف بوعوده، بل ويعمل على شن الهجومات القاسية عليها. وسوف ترد بقوة.
أولى مؤشرات التململ ضد نظام السيسي ظهرت في موجة الإضرابات البطولية الطويلة النفس التي اجتاحت العديد من القطاعات الصناعية والخدماتية، (انظر على سبيل المثال مقالنا “مصر: التحركات العمالية ومهام المناضلين الماركسيين“). كما أنها تظهر كذلك في تراجع شعبية السيسي، وهو ما أظهرته آخر دراسة ميدانية أجراها المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام “تكامل مصر” في يوليوز2016، حيث أكد «أن 74% من المصريين يرفضون استمرار نظام السيسي مقابل 11% فقط يريدون استمراره، بينما 15% ليس لديهم اهتمام بما يحدث، وترتفع نسبة الرفض في الفئات العمرية أقل من أربعين عاما لتصل إلى 81%، وتتقارب نسب رفض استمرار النظام عند الذكور والإناث» . ناهيك عن ضعف نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية التي جرت شهر نوفمبر 2015 ، وهو ما عبر عن تراكم السخط في أعماق المجتمع واليأس من إمكانية حل المشاكل عبر الطريق الانتخابي.
لقد تمكن السيسي في وقت قياسي من تحويل مصر إلى سجن كبير، أكبر حتى مما كانت عليه في عهد مبارك. في أواخر الشهر الماضي، فرقت قوات الأمن المصرية اعتصامًا في حوض لبناء السفن في الإسكندرية، وألقت القبض على 13 عاملًا ومهندسًا، يواجهون اليوم محاكمات عسكرية لأن المنشأة عائدة للقوات البحرية العسكرية […] العمال والمهندسين محتجزون في سجن عسكري بتهمة المشاركة في احتجاجات غير مصرح بها.(نون بوست)
وصنفت منظمة Freedom House، مصر باعتبارها بلدا لا توجد فيه حرية الصحافة، ووضعته في المرتبة 35 على سلم من 40 من حيث المناخ السياسي والمرتبة 77 ضمن 100 من حيث حرية الصحافة. وقالت إن مصر ثاني أسوء بلد من حيث اعتقال الصحفيين بأزيد من 23 صحفيا وراء القضبان .
وبحسب تقرير أصدرته منظمة “التنسيقية المصرية للحقوق والحريات”، بلغت حالات «الاعتقال والاحتجاز التعسفي في عام 2015 نحو 23 ألف واقعة، فيما بلغت في النصف الأول من عام 2016 نحو 3.207 وقائع». وأوضح تقرير المنظمة أن هذا العدد لا يشمل حالات الاعتقال بمحافظتي شمال وجنوب سيناء بشمال شرق البلاد “لصعوبة العمل بهما في ظل التضييقات الأمنية”.
وذكرت المنظمة أن ثمة مؤشرات “تؤكد أن الأرقام الحقيقية تفوق تلك التي تم رصدها بكثير”، غير أنها لم تتمكن من توثيق جميع الوقائع بسبب “التضييق الأمني”. من ناحية أخرى، أغلقت قوات الأمن المصرية، محيط نقابة الصحفيين وسط العاصمة القاهرة، إثر دعوة إلى التظاهر .
هذه الوحشية جعلت حتى أسياده يحرجون من علاقتهم معه. فقد أعربت الولايات المتحدة عن قلقها البالغ من تراجع وضع حقوق الإنسان في مصر، لا سيما خلال الأشهر الأخيرة. وقال رئيس مجلس النواب الأميركي بول ريان إن وضع حقوق الإنسان في مصر يجعل دعمها بالمساعدات “أكثر صعوبة”. وأضاف أنه قال للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي »أنت تجعل مساندتنا لك أكثر صعوبة عندما يكون لديك العديد من انتهاكات حقوق الإنسان» .
لكنه من المستحيل الجلوس طويلا على الحراب. هذا ما يعلمه جيدا المنظرون المتبصرون للرأسمالية في واشنطن، لذلك لا يتوقفون عن تحذيره من الإغراق في السير في هذا الاتجاه الخطير. ليس طبعا لاعتبارات إنسانية وعشق حقيقي للديمقراطية وحقوق الإنسان، بل لأن ذلك يهدد بتفجير الوضع وإشعال لهيب ثورة جديدة ليسو متأكدين من إمكانية احتوائها.
إن المنظرين المتبصرين للرأسمال يفهمون ما نفهمه نحن الماركسيون، لكن من وجهة نظر طبقية نقيضة بطبيعة الحال، من وجهة نظر مصالح الرأسمالية واستمرارها. وهذا ما يتضح من خلال مقال الصحيفة البرجوازية المرموقة، The Economist، حيث تقول بقلق:
«يخلق هذا الشروط للانفجار المقبل. وليس هناك مكان آخر حيث الخليط السام للضغط الديمغرافي والقمع السياسي وانعدام الكفاءة الاقتصادية أكثر إثارة للقلق مما هو عليه الحال في مصر في ظل الرجل القوي عبد الفتاح السيسي».
وتضيف: «باعتبارها أكبر بلد عربي، تعتبر مصر مركزية بالنسبة لمستقبل المنطقة. إذا نجحت سوف يبدأ الشرق الأوسط في الظهور بمظهر أقل قتامة، لكن إذا فشلت، فإن الفوضى الحالية ستصير أكثر بشاعة».
وكتبت في نفس المقال:
«لقد أثبت السيد السيسي، الجنرال الذي استولى على السلطة من خلال انقلاب عسكري سنة 2013، أنه أكثر قمعا من حسني مبارك، وأنه منعدم الكفاءة مثله مثل محمد مرسي.
إن أهمية مصر الإستراتيجية هذه لا تجعل أمام العالم من خيار سوى التعامل مع السيد السيسي. لكن على الغرب أن يعامله بمزيج من البراغماتية والإقناع والضغط. يجب القيام بكل هذا بشكل تدريجي. فمصر بلد هش جدا، والشرق الأوسط منطقة جد مضطربة، لتحمل العلاج بالصدمة.
السيد السيسي غير قادر على توفير الاستقرار الدائم. إن النظام السياسي المصري في حاجة إلى إعادة الانفتاح، والنقطة الجيدة للبدء في ذلك ستكون هي إعلان السيسي عدم ترشحه لانتخابات 2018» .
لكن هذه “النقطة الجيدة”، من وجهة نظر الأسياد الإمبرياليين، هي بالضبط هي ما يرفضه حكام مصر، حيث انطلقت بالفعل حركة لدعم التمديد للجنرال، خلال الانتخابات القادمة 2018.
إن المنظور هو بالتأكيد احتداد الصراع الطبقي والنضالات الجماهيرية ضد الاستغلال والغلاء وضد التقشف والبطالة… النظام القائم ضعيف ولا يمتلك هامشا كبيرا للمناورة، ليس لديه ما يقدمه للعمال والشباب وعموم الكادحين. سيحاول البقاء في السلطة من خلال المناورة واستعمال مزيج من القمع والوعود الكاذبة. أما الجماهير فقد أثبتت قوتها وتمتلك فئاتها الطليعية قدرا كبيرا من الثقة في النفس، بعد كل الملاحم التي سطرتها خلال السنوات القليلة الماضية.
ستنهض الجماهير للنضال مرارا فتحقق بعض الانتصارات كما يمكن أن تتكبد الهزائم. النصر والهزيمة سيسيران يدا في يد خلال الفترة التي تنفتح أمامنا. كل الحكومات البرجوازية، التي ستصل إلى السلطة، عسكرية كانت أم مدنية، ستكون ضعيفة وعاجزة عن تقديم أي حل للمشاكل، لكن الجماهير المفتقدة للتنظيم والقيادة والبرنامج الثوري، لن تتمكن من تقديم البديل عن تلك الحكومات المأزومة. إن انفجار ثورات شعبية جديدة مسألة حتمية، وفي مواجهتها ستستعمل الطبقة السائدة ودولتها كل الأوراق التي بين أيديها: ستستعمل المناورات البرلمانية والوعود الكاذبة، كما ستستعمل القمع وتقسيم صفوف الجماهير على أساس ديني وطائفي وإقليمي؛ ستنظم بعض العمليات الإرهابية هنا وهناك، أو على الأقل ستسمح بحدوثها بين الحين والآخر، لكي تجبر الجماهير على الخضوع وطلب “الأمان” مقابل الخبز والحرية. ستكون السيرورة طويلة ومؤلمة، وسيسقط الكثير من الضحايا الأبرياء.
استمر المثقفون البرجوازيون الصغار والعصبويون المحسوبون على اليسار من كل نوع يشتكون طيلة عقود من “تخلف” العامل والفلاح في مصر و”استكانته” و”ضعف الوعي لديه”، كما ساهموا إلى جانب وسائل الإعلام الغربية في تسويق صورة عن الجماهير المصرية بكونها “أصولية” وغارقة في “التعصب”، وقاعدة للإخوان المسلمين، وما إلى ذلك. ولم يكونوا طبعا بحاجة إلى دليل على مزاعمهم، إذ يكفي أن يقولوا الشيء ليكون صحيحا. لكن الطبقة العاملة والشباب الثوري عندما نهضوا كنسوا بضربة واحدة كل هذه المزاعم. ليتضح أن هؤلاء السادة المثقفين هم من ينقصهم الوعي والشجاعة. جميع اليساريين المزعومين وجميع العصبويين أصيبوا بالدوار عندما انطلق المسار الثوري. بعضهم ارتمى في أحضان العسكر، والبعض الآخر ارتمى في أحضان الإخوان المسلمين، بينما ارتمى البعض الآخر في الفراغ…
وحدهم الجماهير والشباب الثوري، بمن فيهم مناضلون طليعيون نقديون داخل تلك المنظمات والعصب والذين انشق أغلبهم عنها لاحقا لتقززهم من سياساتها الخيانية في دعم العسكر أو دعم الإخوان أو التيارات البرجوازية اللبرالية، من استمروا بحسهم الطبقي ، طيلة المسار الثوري، يميزون بوضوح العدو الطبقي رغم اختلاف الشعارات التي يرفعها دينية أو لبرالية، أو غيرها. من الذي أثبت التاريخ الآن جبنه وغبائه وانعدام الوعي لديه الآن؟
لا ينقص الطبقة العاملة المصرية الشباب الثوري لا العزيمة ولا الإصرار، لا تنقصهم الشجاعة ولا الكفاحية، كما لا ينقصهم الوعي بالواقع الذي يعيشونه ويرفضونه. إن ما ينقصهم هو التنظيم الثوري والبرنامج العلمي والبديل الجذري عما هو قائم. إن أزمة الحركة الثورية المصرية هي أزمة القيادة الثورية. وهذا بالضبط ما ينبغي على العمال الطليعيين والشباب الثوري المصري أن يركزوا جهودهم عليه.
إن مهمة بناء القيادة الثورية لن تنجز من تلقاء نفسها، ليس الحزب الثوري بكتيريا بدائية أو طحالب يمكنها أن تظهر من تلقاء نفسها عندما تتوفر الظروف الموضوعية الملائمة. إنه ثمرة عمل واع منظم صبور لتكوين الكوادر الثورية وبناء التنظيم وترسيخ التقاليد البلشفية. كما أنه ليس مهمة ملقاة على كاهل مخلص سيأتي من وراء السحاب. إنها مهمتي أنا وأنت أيها الشاب الثوري المصري وأنت أيتها الشابة الثورية المصرية، إن تركتها لـ “الآخرين” سيتركها هؤلاء “الآخرون” لـ “الآخرين” وستبقى المهمة عالقة، وستستمر الثورة بدون قيادة، وستستمر التضحيات في الضياع هباء وسيبقى حسم الصراع لصالح العمال وعموم الفقراء مؤجلا إلى ما لا نهاية.
يجب الآن على كل مناضل يساري مصري الشروع في بناء الحزب الماركسي الثوري عبر تنظيم خلايا الدراسة الماركسية وكسب المناضلين الشباب الواحد تلو الآخر وتكوينهم على قاعدة الماركسية الثورية والشروع في طرح مطالب برنامجية انتقالية من أجل تحقيق أهداف الثورة المصرية ثورة 25 يناير 2011 و30 يونيو2013: الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، وهي المطالب التي لا يمكن أن تتحقق في ظل الرأسمالية، مهما كان شكل الحكومة عسكرية أو مدنية، لبرالية أو دينية. لا يمكنها أن تتحقق إلا في ظل حكومة عمالية تنفذ برنامجا اشتراكيا يقوم على تأميم وسائل الإنتاج الكبرى ووضعها تحت الرقابة العمالية ومخطط اشتراكي يلبي حاجات الأغلبية الساحقة.
- وليكن شعارنا الآن:
- ليسقط حكم العسكر!
- لتسقط الحركات الدينية الرجعية!
- لتسقط الرأسمالية!
- فلنبن الحزب الثوري لقيادة النضال من أجل إنجاز مهام الثورة: عيش – حرية – عدالة اجتماعية!