بمناسبة رحيل القائد التاريخي للثورة الكوبية، فيديل كاسترو، نعتبر، في هيئة تحرير موقع ماركسي، أن أفضل تعزية نقدمها هو الدفاع عن المستقبل الاشتراكي للثورة الكوبية في وجه مخاطر عودة الرأسمالية إلى الجزيرة، سواء بواسطة الضغوط والمناورات الإمبريالية الخارجية، أو بفعل سعي الطابور الخامس المتمثل في جزء مهم من البيروقراطية الكوبية نفسها، التي ترى من مصلحتها إعادة الرأسمالية إلى كوبا.
وفي هذا السياق ننشر هذا المقال الهام الذي كتبه الرفيق خورخي مارتن، يوم الجمعة 17 شتنبر 2010، حيث يحلل الوضع في كوبا والتهديدات التي تواجه الثورة والمنظور الاشتراكي للسير قدما نحو حل المشاكل التي تواجهها وبناء الاشتراكية.
في أي اتجاه تسير كوبا؟ نحو الرأسمالية أم نحو الاشتراكية؟
خورخي مارتن
الجمعة: 17 شتنبر 2010
يوم 13 شتنبر [2010]، أعلن بيان صادر عن كنفدرالية العمال الكوبيين (CTC)، نشر في صحيفة غرانما، عن سلسلة كاملة من التغييرات الجذرية في اقتصاد البلاد. هذه التدابير نتيجة للأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تؤثر على كوبا، التي تضررت بشدة من جراء الركود الرأسمالي العالمي. وهذا ما يؤكد اعتماد كوبا على السوق العالمية، واستحالة “بناء الاشتراكية في بلد واحد”.
كان أكثر ما يلفت الانتباه في التدابير التي أعلنت في بيان كنفدرالية العمال الكوبيين، إلغاء 500.000 وظيفة في القطاع العام، بحلول مارس 2011، كجزء من عملية تهدف لخفيض مليون منصب شغل. حوالي 85٪ من العمال في كوبا، أي خمسة ملايين عامل، هم موظفون في القطاع العام، لذلك فإن هذا الإجراء يعني تسريح 20٪ من العمال، و10٪ خلال الستة أشهر المقبلة.
وأوضح البيان أيضا أن هؤلاء العمال سوف يتوجب عليهم الانتقال إلى القطاع غير الحكومي، وذلك من خلال زيادة رخص خلق مقاولات التشغيل الذاتي والشركات العائلية، ومن خلال تحويل بعض المقاولات الصغرى والوحدات الإنتاجية الصغرى إلى تعاونيات، وتمرير بعض المحلات والمقاولات للعمال لكي يشغلوها لحسابهم الخاص، الخ.
خسارة مناصب الشغل
في الماضي، كان العمال الذين يتم تسريحهم يحصلون على كامل الأجر الأساسي (100%) إلى حين توفير وظيفة أخرى لهم. لكن الآن سوف تقتصر هذه الإعانة بالأجر الكامل على شهر واحد فقط، بعد ذلك سيحصل العمال المسرحون على إعانة بقيمة 60٪ من الأجر الأساسي، والتي ستطول مدتها وفقا لطول مدة عملهم السابق: لمدة شهر بالنسبة لهؤلاء الذين اشتغلوا حتى 19 عاما، أو شهرين لأولئك الذين اشتغلوا ما بين 20 و25 عاما، وثلاثة أشهر بالنسبة لأولئك الذين راكموا ما بين 26 إلى 30 عاما من العمل، ولمدة أقصاها خمسة أشهر للذين عملوا أكثر من 30 عاما.
وعلاوة على ذلك، فإن هؤلاء الذين سيبقون في وظائف القطاع العام ستكون رواتبهم مرتبطة بالإنتاجية، وهو الإجراء الذي كان قد أعلنه سابقا راؤول كاسترو، لكن لم تطبقه كل الشركات بسبب الأزمة الاقتصادية العميقة التي يمر منها الاقتصاد الكوبي.
كما كرر البيان النقاط التي سبق لراؤول كاسترو أن أشار إليها ومفادها أنه لابد من تخفيض “الإنفاق الاجتماعي المتضخم” وأنه لا بد من القضاء على “الدعم المفرط” و”الهبات التي لا مبرر لها”. يبدو أن هذا يعني القضاء الكامل على نظام دولة الرفاه، والانتقال من الإعانات الشاملة إلى الإعانات المشروطة. من المحتمل أنه سيعني القضاء على بطاقة التقنين التي تعطي لجميع الكوبيين الحق في الحصول على سلة من السلع الأساسية المدعومة بشكل كبير، وخاصة المواد الغذائية. وسوف يعني توسيع تراخيص مقاولات التشغيل الذاتي في الواقع إضفاء الشرعية على حالة الأمر الواقع التي تجبر العديد من الكوبيين على التورط في السوق السوداء لتلبية حاجياتهم.
التشغيل الذاتي
سوف يسمح للمرة الأولى للشركات الخاصة الصغيرة بتوظيف العمالة المأجورة، وسيكون عليها دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي للعمال الذين تستخدمهم. وسيكون على أولئك الذين سيستفيدون من توسيع رخص التشغيل الذاتي والشركات العائلية أن يخضعوا لنظام ضريبي جديد، بما في ذلك تأدية 25٪ لاشتراكات الضمان الاجتماعي والضريبة على الأرباح التي تتراوح بين 40٪ للمطاعم و20٪ لأولئك الذين يأجرون الغرف.
تأمل الدولة في زيادة إيرادات الضرائب على العاملين لحسابهم الخاص والمقاولات الصغيرة بنسبة 400٪. ويوجد في كوبا بالفعل 170.000 من مقاولات التشغيل الذاتي (CUENTA PROPISTAS) من الذين يشتغلون لحسابهم الخاص بصورة قانونية ويوجد ربما عدد مماثل في السوق السوداء. وهذا ما يشكل انخفاضا مقارنة مع عدد 210.000 خلال فترة فتح للاقتصاد في بداية التسعينات.
الأجور النقدية في كوبا منخفضة نسبيا، لكن الكوبيين يحصلون على خدمات مدعومة بشكل كبير (أو مجانا) فيما يخص السكن والنقل والتعليم والرعاية الصحية والمواد الغذائية من خلال بطاقة التقنين. المشكلة هي أن الأجر الاجتماعي لم يعد يسمح للكوبيين بالعيش ويتعين عليهم القيام بنسبة كبيرة من التسوق للمواد الأساسية بواسطة بيزو قابل للتحويل والذي يصرف بقيمة 1 بيزو لكل 24 بيزو كوبي يتلقونه كأجر.
المتاجر التي تبيع بالبيزو القابل للتحويل هي محلات مملوكة من طرف الدولة وتعمل على أساس هامش ربح عال كوسيلة في يد الدولة لاسترداد العملة الصعبة التي يحصل عليها الكوبيون من خلال التحويلات المالية من الخارج والتعاملات القانونية وشبه القانونية وغير القانونية مع السياح.
وتشمل التدابير الأخرى، التي أعلن عنها مؤخرا، تمديد مدة عقود إيجار الأراضي للمستثمرين الأجانب، من 50 إلى 99 عاما. وأوضح أن هذا الإجراء يهدف إلى توفير “أفضل الضمانات للمستثمرين الأجانب” وخاصة في قطاع السياحة. وهناك بالفعل حديث عن قيام شركات كندية ببناء منتجعات فاخرة مع ملاعب للغولف من 18 حفرة في الجزيرة.
كوبا تحت رحمة السوق العالمية
إن التدابير التي أعلن عنها للتو، وتلك التي سبق الإعلان عنها، أو التي هي في طور الإعداد، تهدد بزيادة اللامساواة وتطوير تراكم الرأسمال الخاص، وتهدد بشكل جدي بتقويض الاقتصاد المخطط وبدء سيرورة قوية جدا نحو إعادة الرأسمالية. كل هذه التدابير هي نتيجة للأزمة الاقتصادية الخطيرة التي ضربت كوبا في العامين الماضيين.
كما سبق لنا أن شرحنا في مقال آخر (كوبا بعد مرور 50 عاما – الجزء الثاني)، يعتمد الاقتصاد الكوبي بشكل كبير على السوق العالمية، ونتيجة لذلك يعاني بشكل كبير من تذبذبات الاقتصاد الرأسمالي. أولا ارتفعت أسعار النفط والمواد الغذائية بشكل كبير في 2007- 2008. وتستورد كوبا نحو 80٪ من جميع المواد الغذائية التي تستهلكها، أي ما مجموعه 1,5 مليار دولار، معظم تلك الواردات من الولايات المتحدة. ثم انهار سعر النيكل من ذروة بلغت 24 دولارا للرطل الواحد إلى 7 دولارات للرطل الواحد أوائل عام 2010. ونتيجة لهذه العوامل، انخفضت معدلات التبادل التجاري بنسبة 38٪ في عام 2008 وحده.
كما أثر الركود العالمي سلبا على صناعة السياحة الهامة والتحويلات المالية من الكوبيين في الخارج والتي تبلغ 1,1 مليار دولار. وإلى كل هذه العوامل السلبية علينا أن نضيف الدمار الذي سببته ثلاثة أعاصير في عام 2008 والتي تسببت في خسائر قيمتها ما يقرب من 10 ملايير دولار.
كوبا الآن تعتمد بشكل كبير على تصدير الخدمات المهنية (وخاصة الأطباء إلى فنزويلا) لتطوير دخلها من العملة الصعبة لشراء السلع في السوق العالمية. تصدير الخدمات الطبية يساوي 06 ملايير دولار في السنة، أي ثلاثة أضعاف الدخل المتأتي من السياحة.
أدى مزيج كل هذه العوامل إلى عجز تجاري قياسي قدره 11,7 مليار دولار عام 2008 (بزيادة قدرها 70٪ عن عام 2007)، وعجز في ميزان المدفوعات بأكثر من 1,5 مليار دولار في نفس العام (مقارنة مع فائض قدره 500 مليون دولار في عام 2007). كوبا ليست عضوا في أي مؤسسة مالية دولية وفي سياق أزمة الائتمان العالمية والحصار الأمريكي ثبت انه من المستحيل الحصول على أي قروض. دفع هذا بكوبا إلى التخلف عن تسديد التزاماتها إلى الدائنين الأجانب بحلول منتصف 2008 (في عام 2007 كان الدين الخارجي لكوبا 17.820 مليار دولار، أو حوالي 45٪ من الناتج المحلي الإجمالي).
بعد أن كان معدل النمو يتقدم باطراد في الفترة ما بين 2003 و2007، حيث بلغ 11,2٪ و 12,1٪ سنتي 2005 و2006، تراجع بشكل حاد إلى 4,1٪ عام 2008 و 1,4٪ عام 2009. وفي عام 2008 سجلت الدولة أكبر عجز مالي خلال عقد من الزمن، بلغ 6,7٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت مجبرة على تنفيذ برنامج للتقويم، تضمن خفضا كبيرا في الواردات (بما في ذلك المواد الغذائية).
كل هذه الأرقام ترسم صورة اقتصاد كوبي ذو قاعدة ضعيفة جدا ويعتمد اعتمادا كبيرا على السوق العالمية. لتلخيص ذلك يمكن القول بأن كوبا تصدر المواد الخام (النيكل)، والمنتجات الزراعية (السكر)، ولكن بصورة رئيسية الخدمات المهنية (الأطباء)، وتحصل على الدخل من السياحة والتحويلات المالية. وبالعملة الصعبة التي تحصل عليها تستورد كل شيء تقريبا، من المواد الغذائية إلى السلع المصنعة، الخ.
يوضح هذا حقا، ليس بطريقة نظرية، بل بلغة الحقائق الاقتصادية الباردة، استحالة بناء الاشتراكية في بلد واحد. لم يكن ذلك ممكنا في الاتحاد السوفياتي، والذي قبل كل شيء، كان بلدا يمتد على قارة بأكملها ويمتلك موارد طبيعية هائلة. وهو أكثر استحالة في جزيرة صغيرة تبعد 90 ميلا عن أكبر قوة إمبريالية فوق الأرض.
انهيار الستالينية
الشيء المدهش حقا هو حقيقة أن الثورة الكوبية تمكنت من الصمود بعد انهيار الستالينية في الاتحاد السوفيتي، الذي كانت تعتمد عليه كليا من الناحية الاقتصادية (فسرنا سبب هذا بمزيد من التفصيل في مقال: كوبا بعد مرور 50 عاما – الجزء الثاني). هذا دليل على عمق الجذور التي لا تزال الثورة الكوبية تمتلكها في صفوف الشعب. وقد أظهر ما يسمى بالفترة الخاصة إصرار شعب بأكمله على عدم العودة إلى العبودية مرة أخرى.
إذن ما هو الموقف الذي ينبغي علينا أن نتبناه تجاه هذه المقترحات؟ صحيح أن فتح شركات صغيرة ليس إجراءا سلبيا في حد ذاته. لا يحتاج الاقتصاد المخطط إلى تأميم كل شيء، حتى آخر محل للحلاقة. لقد كان ذلك الإجراء مسخا ستالينيا. جاء تأميم جميع الشركات الصغيرة والمتوسطة في كوبا جزءا من “الهجوم الثوري” في عام 1968، عندما تمت مصادرة 58.000 من الشركات الصغيرة، خاصة في المدن. تم تأميم كل شيء بما في ذلك محلات بيع المثلجات وصالونات الحلاقة ومحلات تصليح الأحذية، وما إلى ذلك.
كانت تلك خطوة غير ضرورية مطلقا، مما أدى فقط إلى خلق فئة أخرى من البيروقراطية للإشراف على هذه الوحدات الإنتاجية الصغيرة حقا وإدارتها. في مسار التحول نحو الاشتراكية، لا مناص من استمرار بعض عناصر الرأسمالية في الوجود جنبا إلى جنب مع عناصر الاقتصاد الاشتراكي المخطط. يتضمن هذا عددا معينا من الشركات الصغيرة والمتاجر واستغلاليات الفلاحين الصغار، الخ.
لن يشكل ذلك، في حد ذاته، أي تهديد للاشتراكية، طالما بقيت القطاعات الأساسية للاقتصاد في يد الدولة، وبقيت الدولة والصناعة في أيدي الطبقة العاملة. بهذا الشرط، وفقط بهذا الشرط، يمكن ويجب أن يسمح للقطاع الخاص الصغير بالوجود، طالما تحتفظ الدولة بسيطرتها على مفاتيح الاقتصاد.
في عشرينيات القرن العشرين أجبرت الثورة الروسية على تقديم تنازلات للإنتاج الخاص (أساسا في الزراعة)، وتقديم تنازلات لرؤوس الأموال الأجنبية، من خلال السياسة الاقتصادية الجديدة. كان لينين على استعداد حتى لتأجير أجزاء من سيبيريا للرأسماليين الأجانب. ونظرا للفقر المدقع الذي كانت تعرفه الدولة السوفيتية الفتية، فإنه لم يكن للبلاشفة أي وسيلة لتطوير الإمكانات المعدنية الهائلة في تلك المنطقة الضخمة.
في مقابل الاستثمارات والتكنولوجيا الأجنبية، واللتان كانت الثورة تفتقر إليهما، كان لينين على استعداد للسماح لرجال الأعمال الأجانب بإنشاء المصانع والمناجم في الأراضي السوفيتية، وتوظيف العمال وتحقيق الأرباح، بشرط أن يحترموا قوانين العمل السوفياتية ودفع الضرائب. لكن الشرط المسبق لتقديم مثل هذه التنازلات هي أن تحافظ الطبقة العاملة، تحت قيادة الحزب البلشفي، على السيطرة على الدولة. في الواقع، تم رفض هذه العروض لأن الإمبرياليين كانوا مصممين على إسقاط الدولة السوفيتية، وليس التجارة معها.
ومع ذلك، فإن مثل هذه المقارنات التاريخية لها حدود واضحة ويمكن أن تكون مضللة. إن الحقيقة دائما ملموسة. ليست المسألة هي تكرار الحقائق العامة حول الاقتصاد الانتقالي، بل تحليل الحقائق والاتجاهات الملموسة. علينا أن نسأل أنفسنا السؤال الأساسي التالي: في هذا السياق التاريخي المحدد، ماذا ستكون النتائج الملموسة لهذه السياسات على كوبا؟
المشكلة الأولى هي أن كوبا لديها قاعدة اقتصادية ضعيفة للغاية، والمشكلة الثانية هي أنها لا تبعد سوى ببضعة أميال عن أقوى اقتصاد رأسمالي في العالم، والثالثة هي أن الشركات المملوكة للدولة توجد في حالة سيئة للغاية، نتيجة لسنوات من سوء الإدارة البيروقراطية، وأخيرا لكن ليس آخرا، لا يشعر العمال بأنهم يسيطرون على الصناعات التي يعملون فيها، وبالتالي لا يهتمون بمسائل مثل الإنتاجية والكفاءة وما إلى ذلك. هناك شعور عام بالضيق والسخط والذي يمكن أن يؤدي إلى مزاج من الاغتراب الذي يمكنه أن يشكل أكبر خطر على مستقبل الثورة.
الجميع يتفق على أن الوضع الحالي لا يمكنه أن يستمر وأن “شيئا ما يجب أن يتغير” و”يجب القيام بشيء ما”. لكن السؤال الأكبر هو: ما العمل؟
هل ستنفع هذه الإجراءات؟
فكرة أن مشاكل الاقتصاد الكوبي يمكن حلها من خلال تشجيع القطاع الخاص هي خطأ خطير جدا، خطأ يمكن أن يتسبب في مخاطر وخيمة على مستقبل الثورة. هذا ما أظهرته التجربة. كانت هناك بالفعل بعض حالات الاختبار لخصخصة الشركات الصغيرة، بما في ذلك تأجير محلات الحلاقة وشركة سيارات أجرة.
كانت النتائج متفاوتة. وجد بعض الحلاقين أنفسهم عاجزين عن تحقيق أرباح كافية لتحمل الإيجار والضرائب التي عليهم أن يدفعوها للدولة، بينما البعض الآخر يزدهرون. واشتكى سائقو سيارات الأجرة الذين صاروا الآن مضطرين لاستئجار سياراتهم من الشركة أنه عليهم العمل لساعات طويلة جدا وذلك فقط لتغطية ما عليهم دفعه ثمنا لاستغلال سيارات الأجرة.
وليس من الواضح كيف يمكن لهذه الشركات الحصول على القروض أو مدى كفاءتهم في الحصول على الإمدادات، وما إلى ذلك. لم تكن تجربة التعاونيات الفلاحية والمنتجين الزراعيين الخواص ناجحة جدا، لأنها اضطرت إلى التعامل مع جهاز حكومي شديد التبقرط لشراء منتجاتهم، وبسبب التأخير في المدفوعات، ومشاكل في الحصول على الأسمدة والبذور، الخ
تشير وثيقة رسمية لانهيار كثير من هذه الشركات التي أنشئت حديثا في غضون عام واحد. لا يتيح هذا مجالا كبيرا للتفاؤل! وخلافا لإصلاحات سنوات التسعينيات سيسمح هذه المرة لشركات القطاع الخاص بتوظيف العمالة المأجورة. سيخلق هذا فئة شرعية كبيرة من الرأسماليين الصغار: نحن نتحدث عن 250.000 ترخيص جديد يضاف إلى 170.000 موجود بالفعل. لا مناص من أن هذه الفئة سوف تطور مصالحها الخاصة وتصوراتها الخاصة.
ستنفتح هوة بين القطاعين الخاص والعام. وفي ظل وضع الدولة فيه غير قادرة على إنتاج نوعية جيدة من المنتجات الصناعية، سيميل القطاع الخاص إلى النمو على حساب القطاع العام. وبعبارة أخرى فإن العناصر الرأسمالية ستنمو بينما العناصر الاشتراكية ستتراجع. إن الفكرة القائلة بأنه في مقدور الدولة أن تبقي العناصر الرأسمالية تحت السيطرة هي فكرة طوباوية. وبقدر ما سيصبح القطاع الخاص أقوى، بقدر ما ستعزز عناصر السوق مواقعها.
سيكون هناك جنبا إلى جنب اتجاهان متناقضان ومتعارضان مع بعضها البعض. وعاجلا أم آجلا واحد منهما يجب أن يسود. أي واحد منهما سيسود؟ القطاع الذي سيسود في نهاية المطاف هو ذلك الذي سيجذب أكبر الاستثمارات، وعلى هذا الأساس سينجح في تحقيق مستوى أعلى لإنتاجية العمل وكفاءة أكبر. إن الاتجاه الحالي نحو تخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية سيعني زيادة سريعة في تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى القطاع الخاص، بدءا من السياحة ووصولا إلى قطاعات رئيسية أخرى.
لن يتم كسب المعركة بين التيارين بواسطة الخطابات الأيديولوجية والنصائح بل بالرأسمال والإنتاجية. وهنا سوف يكون الوزن الهائل للاقتصاد العالمي الرأسمالي حاسما. الخطر الرئيسي على الاقتصاد المخطط لا يأتي من بضعة سائقي سيارات الأجرة أو صالونات الحلاقة، بل من اختراق السوق العالمية لكوبا ومن تلك العناصر بين صفوف البيروقراطية الذين يؤيدون اقتصاد السوق بدلا من اقتصاد اشتراكي مخطط .
دعونا نتكلم بصراحة: هناك تيار قوي في أوساط خبراء الاقتصاد الكوبيين يدافع عن هذه التدابير، لأنهم يؤيدون التخلي عن الاقتصاد المخطط بشكل نهائي، وإدخال آليات السوق على جميع المستويات، وفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي في جميع القطاعات. أي أنهم يؤيدون الرأسمالية.
هؤلاء الناس يقترحون أساسا “الطريقة الصينية”، على الرغم من أنهم مضطرون، بسبب الانتقادات الشديدة الموجودة في كوبا ضد الصين بين صفوف المثقفين اليساريين، إلى الحديث عن “النموذج الفيتنامي”. تغيير المصطلحات لا أهمية له هنا. رائحة الوردة زكية مهما كان الاسم الذي نطلقه عليها، ورائحة الرأسمالية نتنة مهما كان الاسم الذي نطلقه عليها.
بغض النظر عن كيف يريدون وصف نموذجهم، فإن المقترحات واضحة: “يجب على الدولة أن تتوقف عن تخطيط الاقتصاد وتكتفي بتنظيمه”، “يجب فتح قطاعي الصناعة والزراعة للاستثمار الأجنبي”، وما إلى ذلك. لا شك في أن نوايا الذين يقترحون هذه التدابير حسنة، لكن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، وستكون إعادة الرأسمالية إلى كوبا بمثابة جهنم لشعب كوبا، حتى ولو كان البعض لا يفهمون ذلك بعد.
رفض فيدل كاسترو، منذ فترة طويلة، “النموذج الصيني” لأنه كان مجرد اسم آخر لإعادة الرأسمالية. لكن حتى ولو كان علينا النظر في هذا الخيار، فإنه سيتضح على الفور أنه من المستحيل أن يطبق في كوبا. إن الظروف الملموسة في كلا البلدين مختلفة تماما. كوبا هي جزيرة صغيرة وعدد سكانها قليل وتمتلك موارد قليلة، بينما الصين أرض شاسعة تضم أكثر من مليار نسمة، والعديد من الموارد وقاعدة صناعية قوية.
وقد وفرت طبقة الفلاحين الصينية الضخمة للمشاريع الرأسمالية في الصين احتياطيا كبيرا من اليد العاملة الرخيصة، التي زودت باستمرار مصانع قوانغدونغ بعمال يشتغلون في ظل ظروف عبودية حقيقية مقابل أجور زهيدة جدا. الشيء الوحيد الذي سوف يتقاسمه النموذج الكوبي مع ذلك النموذج هو المعطى الأخير، أي انخفاض الأجور.
لن تشبه كوبا الرأسمالية لا الصين ولا فيتنام، بل ستشبه السلفادور أو نيكاراغوا بعد انتصار الثورة المضادة. وسوف تعود عاجلا لوضع مشابه لذلك الذي كان موجودا قبل عام 1959: وضع البؤس والانحطاط والتبعية شبه الاستعمارية. وبغض النظر عن نوايا المسؤولين، فإن التدابير التي بدءوا بالفعل في تنفيذها ستؤدي إلى انطلاق حركة قوية نحو إعادة الرأسمالية، والتي من شأنها أن تدمر كل مكاسب الثورة. إنه اتجاه نحو منحدر زلق جدا، وبمجرد أن يبدأ سيكون من الصعب أن يتوقف.
الفساد والبيروقراطية
سيقول البعض: “لكن لا يمكننا أن نستمر كما من قبل!”. كلا، لا نستطيع ذلك. لكن قبل أن نصف الدواء من الضروري أولا أن نقوم بتشخيص دقيق للمرض. إذا كنا نعتقد أن المشكلة موجودة في تأميم وسائل الإنتاج، فإنه يجب أن ندافع عن الخصخصة واقتصاد السوق. لكننا لا نقبل بهذا.
لقد تجلى تفوق الاقتصاد المؤمم المخطط في النجاحات الهائلة التي حققها الاتحاد السوفياتي في الماضي. وقد قوضت تلك النجاحات بسبب التشوهات البيروقراطية التي نشأت عن الستالينية والفساد والنصب وسوء الإدارة، والتي هي نتائج حتمية للنظام البيروقراطي. وعلى مدى فترة طويلة تسببت هذه الأشياء في إلغاء وتقويض المكاسب التي حققها الاقتصاد المخطط. ذلك ما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وليس وجود أي عيب متأصل في التخطيط الممركز.
على جميع الذين يعتبرون أنفسهم شيوعيين في كوبا، والذين يشعرون بالقلق وهم يرون التهديد الذي تتعرض له مكتسبات الثورة، أن يدرسوا التجارب المستفادة من انحطاط الثورة الروسية. لقد كان الوجود الطفيلي للبيروقراطية، الذي هو نتيجة لعزلة الثورة في بلد متخلف، هو ما أدى في النهاية إلى إعادة الرأسمالية، مع الانهيار الاجتماعي الكارثي الذي رافق ذلك. أدى التخطيط البيروقراطي للاقتصاد إلى الهدر وسوء الإدارة والفساد. وأخيرا قرر البيروقراطيون أن يصيروا أنفسهم أصحاب وسائل الإنتاج.
سبق لفيدل كاسترو نفسه أن ندد بالفعل بمشكلة الفساد والبيروقراطية في كوبا، في خطاب مهم لطلاب الجامعات في عام 2005. وفي الآونة الأخيرة تم أخذ المسألة بطريقة دقيقة من قبل استيبان موراليس، المدير الفخري لمركز الدراسات الأمريكية في جامعة هافانا. في مقال نشر على الموقع الإلكتروني للاتحاد الوطني للكتاب والفنانين (UNEAC)، حدد بوضوح خطر الثورة المضادة الرئيسي في كوبا اليوم:
«عندما ننظر عن كثب للوضع الداخلي لكوبا اليوم، لا يمكننا أن نشك في أن الثورة المضادة قد بدأت، شيئا فشيئا، تكسب المواقع في مستويات معينة من الدولة والحكومة. وقد أصبح واضحا، دون أدنى شك، أن هناك أشخاصا في مناصب قيادية في الحكومة والدولة يحضرون أنفسهم ماليا لكي يكونوا مستعدين، عندما تسقط الثورة، لنقل الأصول المملوكة للدولة إلى أيدي القطاع الخاص، كما حدث في الاتحاد السوفياتي سابقا».
وأوضح أن مشكلة السوق السوداء والفساد ليست في وجود أفراد أمام مراكز التسوق الرئيسية يقدمون المنتجات التي لا توجد في رفوف المحلات التجارية، وإنما في أولئك الذين يزودونهم بها. وفي مقال آخر يوضح موراليس أن:
«إن الفاسدين الحقيقيين ليسوا أولئك الذين يبيعون الحليب المجفف، ولا حتى هؤلاء الذين يبيعون السلع المعمرة أمام أبواب نفس مراكز التسوق، بل أولئك الذين من مناصبهم في الحكومة والدولة يمارسون الرقابة ويفتحون أبواب المستودعات».
ويوضح موراليس كيف أن الفساد البيروقراطي، المستشري على جميع المستويات، هو في الواقع أكثر خطورة ممن يسمون بالمنشقين، والذين ليس لهم جذور أو دعم بين السكان، حيث:
«أن هذا الشعب نفسه، الذي ليس للمعارضين أي تأثير عليه في الوقت الراهن، إذا تأثر بمزاج الفساد وانعدام الثقة في قيادة البلاد، وشهد التبذير في التعامل مع موارده (لأن الموارد ملك للشعب، وينبغي ألا يكون هذا مجرد كلام)، ووسط حالة الأزمة الاقتصادية، التي لم يتم التغلب عليها، سوف تنهار روحه المعنوية وتضعف مقاومته في الصراع السياسي».
بعد وقت قصير على نشر مقاله الأصلي، بعنوان “الفساد: الثورة المضادة الحقيقية؟”، تعرض موراليس للطرد من الحزب الشيوعي، على الرغم من الاحتجاجات من أعضاء فرعه المحلي، وتمت إزالة مقاله من موقع UNEAC.
استيبان موراليس، كما يوضح هو نفسه، مناضل شيوعي مقتنع يجر وراءه أكثر من 50 عاما من النضال. بعد ذلك كتب مقالا آخر شجب فيه هذه الأساليب لما لها من تأثير سلبي على معنويات الثوريين والشيوعيين. وأصر على ربط مشكلة الفساد بمسألة البيروقراطية ووجه نداء إلى قواعد الحزب من أجل شن حملة ضدهما معا.
وقال إن المنظمات القاعدية للحزب ينبغي ألا تقتصر أنشطتها ونقاشاتها على المشاكل المحلية لمنطقتها، بل عليها أن تتطرق للمشاكل في شموليتها. وقال إن الوضع الحالي:
«يمنع المنظمات القاعدية للحزب من توجيه انتقاداتها إلى القيادات، وهو الشيء الضروري لممارسة الرقابة على نشاط الأجهزة القيادية من طرف القواعد». وتابع مشيرا إلى أن «المكون الأهم للحزب هو أعضاؤه، وليس هيئاته القيادية مهما كان مستواها. لقد دفع الاتحاد السوفياتي ثمن هذا التشويه غاليا».
من الواضح أن موراليس يحلل أحد الجوانب المركزية للمشاكل التي تواجه الثورة الكوبية. عندما تولى راؤول كاسترو السلطة فتح نقاشا وطنيا واسع النطاق حول مستقبل الثورة. شارك مئات الآلاف، والملايين من الناس، في النقاش وساهموا بأفكارهم حول كيفية تحسين الثورة. خلق ذلك النقاش حماسا حقيقيا. ومع ذلك، لم تكن هناك آلية حقيقية يمكن من خلالها للناس الذين شاركوا ليقرروا نتيجة هذا الجدل. قدمت الآلاف من المقترحات وأرسلت، لكن لم يسمع أحد عنها بعد ذلك. في واقع الأمر لم تكن تلك عملية حقيقية لصنع القرار، وإنما مجرد مشاورة وهي شيء مختلف تماما.
إن غياب الديمقراطية العمالية الحقيقية، التي يشارك في ظلها الشعب العامل بشكل مباشر في إدارة الدولة والاقتصاد، هو واحد من التهديدات الرئيسية التي تواجه الثورة. إن غيابها يولد الإحباط والشك والكلبية ويقوض عموما المعنويات الثورية للشعب. وهي المشاعر التي إذا تم دمجها مع وضع لا يتم في ظله تلبية الاحتياجات الأساسية وتعرف فيه القوة الشرائية للأجور تراجعا والجميع يدرك استشراء الفساد والسرقة في رأس الدولة، يصبح خطر الثورة المضادة تهديدا من الدرجة الأولى.
ومثال آخر على ذلك هو تأخير انعقاد المؤتمر السادس للحزب الشيوعي، الذي كان من المفترض أن ينظم في العام الماضي، بعد تأخير طويل دام 12 عاما، منذ المؤتمر الخامس في عام 1997. هناك العديد من أعضاء الحزب الذين يشاركون استيبان موراليس قلقه. إنهم يخشون من أن تقوم فئات من البيروقراطية بإعادة الرأسمالية كما حدث في الاتحاد السوفياتي. وهناك مؤشرات كثيرة على هذا الغليان نحو اليسار في كوبا.
ما هو الطريق إلى الأمام؟
من الواضح أن الوضع الراهن لا يمكنه أن يستمر إلى ما لا نهاية، لكن هل تلك التدابير المقترحة خطوة إلى الأمام، أم خطوة إلى الوراء؟ يمكن للمرء أن يقول إنه في ظل مواجهة ظروف غير مواتية، يجب أن تكون الثورة على استعداد، في بعض الأحيان، للقيام بخطوة إلى الوراء. ومن المعتاد أن تتم الإشارة إلى لينين والسياسة الاقتصادية الجديدة في هذا السياق. وكقاعدة عامة من الصحيح بدون شك أنه لا بد، في بعض الأحيان، من التراجع. لكن الجنرال الذي يتراجع يجب أن يحرص على ألا يحول التراجع إلى هزيمة. والشيء غير المقبول تماما هو الخلط بين التراجع التكتيكي وبين الاستسلام التام.
لم يكن لدى البلاشفة أبدا أي وهم في إمكانية بناء الاشتراكية في روسيا المتخلفة. وقد أشار لينين مرات عديدة إلى أنه من أجل تعزيز مكاسب الثورة والتقدم نحو الاشتراكية، كان لا بد من انتصار الثورة الاشتراكية في بلد أو أكثر من البلدان الأوروبية الأكثر تقدما. وقد كان ذلك ممكنا لولا جبن وخيانة قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. لكن بمجرد أن عزلت الثورة الروسية في ظروف التخلف المخيفة، صار التراجع واقعا لا مفر منه.
لقد شرح لينين بوضوح أن التدابير التي يدافع عنها هي تنازلات مؤقتة، بسبب تأخر الثورة العالمية، وليست طريقا إلى الأمام. واصل البلاشفة، بقيادة لينين وتروتسكي، التأكيد على الحاجة إلى أن تأتي الثورة العالمية لمساعدة روسيا السوفياتية وناضلوا ضد البيروقراطية الزاحفة على مؤسسات الدولة للحفاظ على الديموقراطية العمالية. واستندت كل آمالهم على منظورات الثورة الاشتراكية العالمية.
ليس من قبيل الصدفة أن لينين وتروتسكي ركزا الكثير من الاهتمام لبناء الأممية (الشيوعية) الثالثة. لقد كان الموقف القومي الضيق بعيدا تماما عن تصورهما. وفي نفس الاتجاه جسد تشي غيفارا الروح الأممية للثورة الكوبية. لقد فهم تشي [غيفارا] أن الطريقة الوحيدة، في أخر المطاف، لإنقاذ الثورة الكوبية هي نشر الثورة في أمريكا اللاتينية، وهي القضية التي كان مستعدا للتضحية بحياته من أجلها.
إن الشروط الموضوعية لانتصار الثورة الاشتراكية في أمريكا اللاتينية هي اليوم ألف مرة أكثر نضجا مما كانت عليه في عام 1967. لقد وفرت الثورة الفنزويلية، جنبا إلى جنب مع كوبا، نقطة مرجعية للثورة في بوليفيا والاكوادور وبلدان أخرى. ومبادرة الرئيس تشافيز لإطلاق الأممية الخامسة، المكرسة لإسقاط الامبريالية والرأسمالية، ينبغي أن تحصل على الدعم الأكثر حماسا من طرف الثورة الكوبية. هذا هو الأمل في المستقبل!
في رأينا إن الطريق الحقيقي الوحيد للمضي قدما أمام الثورة الكوبية هو الأممية الثورية والديمقراطية العمالية. إن مصير الثورة الكوبية يرتبط ارتباطا وثيقا بمصير الثورة الفنزويلية والثورة في أمريكا اللاتينية في المقام الأول، وبالثورة العالمية بشكل عام.
ليست المسألة متعلقة بـ “تصدير نموذجنا”، بل بإعطاء الدعم النشط للقوى الثورية التي تناضل ضد الإمبريالية والرأسمالية في أمريكا اللاتينية وخارجها. وبدلا من تقديم التنازلات للنزعات الرأسمالية، يجب أن تدافع الثورة الكوبية بوضوح عن مصادرة أملاك الأوليغارشية والرأسماليين والإمبريالية، باعتبارها السبيل الوحيد للمضي قدما في فنزويلا وفي بوليفيا، وغيرهما. هذا بالضبط هو الدرس الذي يمكن استخلاصه من التجربة الحية للثورة الكوبية نفسها. وحدها مصادرة أملاك الإمبريالية والرأسماليين الكوبيين هي من سمحت للثورة بالمضي قدما بعد عام 1959.
لكن السياسة الأممية لن تلبي احتياجات الشعب الكوبي هنا والآن! بالطبع لا! نحن لسنا طوباويين، ولا نحن نخلط بين الاستراتيجية والتكتيكات. من الضروري الجمع بين السياسة الأممية الثورية وبين تدابير ملموسة من أجل حل المشاكل الاقتصادية في كوبا. والسؤال هو: كيف يمكن أن يتحقق هذا؟ من وجهة نظرنا لا توفر التدابير المقترحة حلا دائما. قد تنجح مؤقتا في القضاء على بعض جوانب النقص والعقبات أو التخفيف منها، لكن فقط على حساب التسبب في تناقضات جديدة وغير قابلة للحل على المدى المتوسط والطويل.
من المحتمل أن يرحب قسم من المجتمع الكوبي بالإصلاحات المقترحة، على افتراض أن هناك “إجراءات تتخذ”. لكن عندما يبدأ الشعور بالآثار الكاملة لها، سيتغير هذا المزاج. إن الطريق الحقيقي الوحيد لتحسين إنتاجية العمل هو جعل العمال يشعرون بأنهم في موقع المسؤولية، وهذا من خلال تطبيق أوسع تدابير الديمقراطية العمالية في الصناعة والمجتمع والدولة.
لقد أظهر الشعب الكوبي مرارا أنه مستعد لتقديم التضحيات للدفاع عن الثورة. لكن من الضروري أن تكون التضحيات هي نفسها بالنسبة للجميع. فلتسقط الامتيازات! يجب أن نعود إلى القواعد البسيطة للديمقراطية العمالية التي وضعها لينين في كتاب الدولة والثورة، ليس لتطبق في ظل الشيوعية أو الاشتراكية، بل لتطبق خلال اليوم الأول للثورة: أن يكون جميع المسؤولين منتخبين وخاضعين لحق العزل، ينبغي ألا يحصل أي مسؤول على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل، والتناوب بين الجميع على أداء جميع الوظائف (عندما يصير الجميع بيروقراطيا، لا يبقى أحد بيروقراطي)، ولا للجيش النظامي بل تسليح الشعب.
أصر شي غيفارا على أهمية العنصر الأخلاقي في الإنتاج الاشتراكي. هذا صحيح بالطبع، لكن لا يمكن ضمانه إلا في نظام الرقابة العمالية، عندما يشعر كل عامل وعاملة أنهما يمتلكان حق اتخاذ القرارات التي تؤثر على الإنتاج وعلى كل جانب من جوانب الحياة. لكن ونظرا للمشكلات الخطيرة الموجودة، ستكون بعض الحوافز المادية ضرورية.
إن المبدأ الأساسي في هذه المرحلة سوف يظل هو: من كل حسب قدرته، ولكل حسب العمل الذي أنجزه. وهذا يعني وجود فوارق في الأجور، مثلما كان الحال أيضا في روسيا مباشرة بعد الثورة. لكن يجب أن يكون هناك سقف للفروق، والتي ينبغي أن تميل نحو الانخفاض في المستقبل، مع زيادة الإنتاج ومعه زيادة الثروة ورفاهية المجتمع.
لكن الحافز الأكبر هو عندما يشعر العمال أن هذا البلد والاقتصاد والدولة ملك لهم، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان العمال أنفسهم هم الذين يتخذون جميع القرارات وجميع المسؤولين المنتخبين خاضعون للمساءلة أمامهم. فقط على هذا الأساس يمكن الدفاع عن القاعدة الاشتراكية للثورة الكوبية وهزم الثورة المضادة الرأسمالية.
ما هو البديل؟
عندما شرع قادة الحزب الشيوعي في الصين في البداية في تطبيق برنامج الإصلاحات، لم تكن لديهم فكرة عن أنهم كانوا يعدون الطريق لعودة الرأسمالية. لكن إدخال بعض إجراءات السوق الرأسمالية (تحت اسم الكفاءة)، أدى على مدى فترة طويلة من الزمن إلى إعادة الرأسمالية، مع زيادة كبيرة في اللامساواة، وتدمير نظام الرعاية الاجتماعية، الخ.
ليس العمال والفلاحون هم الذين استفادوا من هذه العملية بل البيروقراطيون. لذلك ليس من المستغرب أن فئات من البيروقراطية في كوبا تتطلع إلى الصين كنموذج يحتذى. قد يعجب بعض الناس بالنمو الذي يحققه الناتج المحلي الإجمالي في الصين، ويتغاضون عن رؤية التناقضات الاجتماعية الضخمة التي تراكمت. وعلى أي حال لن يؤدي تطبيق “الطريقة الصينية” في كوبا إلى تحقيق النمو الاقتصادي، بل سيؤدي بالأحرى إلى الانهيار السريع والكارثي للاقتصاد المخطط. إن الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، من اسبانيا وكندا والبرازيل والمكسيك وغيرها، التي تعمل بالفعل داخل كوبا، تترقب هذه العملية وبدأت بالفعل في الاستعداد. ما الذي يبحثون عنه فعلا؟ إنهم يبحثون عن المواد الخام والعمالة الرخيصة ومناخ الجزيرة الملائم، أي إعادة استعمار كوبا.
لقد بدأت أقسام مهمة من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة تتسائل بالفعل عما إذا كان الحصار هو السياسة الأكثر ذكاء لتقويض الثورة الكوبية، أم أنهم يضيعون فرص الاستثمار لصالح الشركات متعددة الجنسيات من بلدان أخرى. إن إعادة الرأسمالية إلى كوبا ستعيد الجزيرة إلى سنوات الثلاثينات، عندما كان يسيطر عليها الرأسمال الأجنبي، عندما كانت مرتعا لنزوات سياح البلدان الرأسمالية المتقدمة. لكن هذا ليس قدرا مفروضا.
يوجد في كوبا العديد من الذين يشعرون بحق بالقلق إزاء الوضع الحالي، لكنهم في نفس الوقت لا يريدون حلا على أساس الرأسمالية. فإذا ما تم تقديم بديل واضح على أساس الأممية الثورية والديمقراطية العمالية، يمكن حشد آلاف الشيوعيين الشرفاء وقدامى المحاربين والمثقفين والشباب والعمال، الذين ليسوا على استعداد للسماح بتدمير الثورة سواء على يد الإمبريالية أو من قبل القوى الداخلية.
من أجل المضي قدما يجب علينا أن نعود إلى برنامج لينين!
عنوان النص بالإنجليزية: