صدر هذا المقال، بقلم الرفيق خورخي مارتن، العضو القيادي في التيار الماركسي الاممي، يوم 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، ويتناول بالتحليل المظاهرة التي كانت المعارضة اليمينية قد دعت اليها والتي كان من المنتظر تنظيمها يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني، لتشكل حدثا يطلق سيرورة من الاحداث تبرر تدخل القوى الامبريالية في كوبا وتسرع وتيرة استعادة الرأسمالية وفرض التبعية على الجزيرة. لكن المظاهرة لم تحدث مما أعطى الدليل مرة أخرى على ان الثورة ما تزال تمتلك احتياطيات دعم كبيرة بين صفوف الشعب الكوبي، رغم الصعوبات والبيروقراطية والدعاية الامبريالية. ورغم أن الحدث الرئيسي الذي يناقشه المقال صار متجاوزا، الى حد ما، فإن المقال يتضمن تحليلا ماركسيا للاوضاع في كوبا ويفسر الطبيعة الحقيقية للمظاهرات ومطالبها ويشرح اسباب الاوضاع التي تعرفها كوبا ويقدم الحل من وجهة نظر الماركسية، لذا فإنه ما يزال يتمتع براهنية كبيرة لفهم المخاطر الداخلية والخارجية التي تواجهها الثورة الكوبية والمنظورات امامها.
هيئة تحرير ماركسي
من الواضح أن المظاهرة التي دعا إليها ما يسمى بمنبر الأرخبيل في 15 نوفمبر، هي استفزاز رجعي يخدم مصالح الإمبريالية. تواجه كوبا وضعا اقتصاديا خطيرا للغاية. ويعتزم منظمو مسيرة 15 نوفمبر (التي رفضت السلطات الترخيص لها) استغلالها لإطلاق سيرورة يأملون أن تؤدي إلى الإطاحة بالثورة الكوبية وإعادة الرأسمالية وتحطيم التخطيط الاقتصادي. إننا في مواجهة هذا الوضع، نضع أنفسنا بوضوح وبشكل لا لبس فيه في موقع الدفاع عن الثورة الكوبية.
ليست هناك حاجة للتنقيب عميقا من أجل إظهار الطابع السياسي الحقيقي للدعوة إلى مسيرة 15 نوفمبر. فتحت ستار “لا يمين ولا يسار” و”ضد القمع” و”حل الخلافات من خلال الوسائل الديمقراطية والسلمية”، يتم إخفاء برنامج رجعي بشكل واضح.
ماذا تمثل الدعوة إلى مظاهرات 15 نوفمبر؟
المروج الرئيسي لمنبر الأرخبيل هو الكاتب المسرحي يونيور غارسيا أغيليرا. وقد انضم مؤخرا إلى ما يسمى بـ”المجلس التشاوري” لمجموعة كوبا بروكسيما، التي هي واحدة من العديد من المنظمات المكرسة لتعزيز استعادة الرأسمالية (“سيادة القانون”) في كوبا. ولإعطائكم فكرة عن مميزات هذه الشرذمة، فإن إسبيرانزا أغيري، السياسية الإسبانية الرجعية المنتمية للحزب الشعبي، والملوثة بالعديد من فضائح الفساد، هي عضو في “اللجنة الاستشارية الدولية” للمجموعة. لكن هذا ليس أسوء ما في الأمر، إذ أنه من بين “الجواهر” الأخرى داخل “المجلس التشاوري” لكوبا بروكسيما نجد أورلاندو غوتيريز بورونات، زعيم ما يسمى بالمديرية الديمقراطية الكوبية وجمعية المقاومة الكوبية، واللتان كلتاهما منظمتان رجعيتان في المنفى في ميامي تتلقيان ملايين الدولارات من مختلف الوكالات الحكومية الأمريكية (NED ، USAID ، IRI). وفي 12 يوليوز من هذا العام، كان غوتيريز بورونات قد صرخ من ميامي مطالبا بتدخل عسكري في كوبا، وهو الأمر الذي سبق أن دعا إليه بالفعل في ديسمبر 2020.
كما حظي الاحتجاج الذي دعا إليه الأرخبيل بتأييد “المجلس من أجل التحول الديمقراطي في كوبا” الذي تم إنشاؤه مؤخرا (والذي نظرا لأهدافه وللأعضاء الذين يشكلونه، يجب أن يُطلق عليه حقا اسم “المجلس من أجل استعادة الرأسمالية وإلحاق كوبا بالولايات المتحدة”). تجمع المنظمة معا مجموعات مختلفة من المعارضة الساعية إلى استعادة الرأسمالية وإلحاق كوبا، ورئيسها، بالطبع، هو خوسيه دانيال فيرير، من الاتحاد الوطني الكوبي (UNPACU) سيئ السمعة.
ومن أجل إزالة أي شك وضح برنامج الخمسين إجراءا الذي أعلنه المجلس بشكل جلي أن: “الهدف النهائي… يجب أن يكون هو تحويل كوبا إلى نظام اقتصاد سوق يكون فيه القطاع الخاص والشركات المملوكة للقطاع الخاص محور الاقتصاد”، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال “عملية خصخصة مفتوحة وشفافة للشركات والوكالات والأصول المملوكة للدولة، بما في ذلك الأراضي المنتجة”. وأضافوا إلى هذه الحزمة من التدابير الإستعادية والنقدية “خطة خاصة للتعويض عن المصادرات التي حدثت خلال الفترة الثورية” من شأنها أن تسمح “بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة” (اقرأ: “التبعية الذليلة”).
يونيور غارسيا والأرخبيل، الذين يخبروننا أنهم “ليسوا من اليمين ولا من اليسار ولا من الوسط”، ليست لديهم أي مشكلة على الإطلاق في أن يكونوا في نفس المنظمة مع رجعيين، بل وحتى إرهابيين وإلحاقيين، يتلقون المال من الحكومة الأمريكية، وليس لديهم أي اعتراض على تلقي الدعم لمظاهرتهم من طرف أولئك الذين يعلنون صراحة رغبتهم بإعادة الرأسمالية ووضع كامل ثقل الأزمة على أكتاف الطبقة العاملة. عادة ما يكون هذا هو الحال مع أولئك الذين يقولون إنهم لا ينتمون سياسيا “لا إلى، ولا إلى”.
لا شيء من هذا يحدث بمحض الصدفة. كان يونيور غارسيا أغيليرا بالفعل أحد المروجين الرئيسيين لاحتجاج 12 نوفمبر 2020 أمام وزارة الثقافة ضد الرقابة وتضامنا مع حركة سان إيسيدرو الرجعية. وكان لاحقا جزءا من مجموعة طالبت، خلال احتجاجات 11 يوليوز، باستعمال التلفزيون العمومي لنشر أفكارها. كما أن أغيليرا قد شارك بالفعل في 2018 و2019 في ورشات عمل في مدريد وبوينس آيرس، تم عقدها من خلال هيئات أكاديمية تمولها الولايات المتحدة لمناقشة “الانتقال في كوبا”، وعلى وجه الخصوص “دور القوات المسلحة الثورية” في هذا “الانتقال” الذي طال انتظاره.
ترافقت الدعوة للاحتجاج يوم 15 نوفمبر مع سلسلة من التصريحات الاستفزازية من جانب المتحدثين باسم الإمبريالية الأمريكية، الذين هددوا بفرض المزيد من العقوبات “إذا كان هناك قمع”. يا له من نفاق! هل فرضت واشنطن عقوبات على لينين مورينو عندما شن قمعه الدموي ضد انتفاضة أكتوبر 2019 في الإكوادور؟ هل أدانت الولايات المتحدة القمع الوحشي الذي قام به بينيرا ضد الانتفاضة في تشيلي؟ هل استنكر المتحدثون باسم البيت الأبيض استخدام حكومة دوكي في كولومبيا للقوة العسكرية ضد الإضراب الوطني؟
ويضاف إلى ذلك دعوة الأرخبيل لسفراء الاتحاد الأوروبي “لمرافقة” مسيرة 15 نوفمبر غير المرخص لها، وهو ما سيكون تدخلا إمبرياليا سافرا من قبل نفس الاتحاد الأوروبي الذي يقمع طالبي اللجوء على حدوده في انتهاك للمعايير العالمية لحقوق الإنسان.
لهذه الأسباب نحن نعارض مظاهرة 15 نوفمبر، التي هي استفزاز رجعي يهدف إلى خلق حوادث عنيفة يمكن أن تبرر المزيد من الهجوم على الثورة الكوبية.
استراتيجية واشنطن ضد الثورة الكوبية
سياسة واشنطن ضد الثورة الكوبية لها جوانب عديدة. أحدها هو الهجوم المباشر وتمويل الأنشطة الإرهابية والدعاية المغرضة والعقوبات الاقتصادية والحصار. وهذه الإجراءات ما تزال مستمرة، بل إنها في الواقع أصبحت أكثر تشددا في ظل إدارة ترامب التي طبقت 240 إجراء مختلفا جديدا لمحاولة خنق الاقتصاد الكوبي، وكان لها تأثير مدمر. وهي الإجراءات التي لم يتراجع بايدن عن أي منها.
لكن هذا العدوان له أيضا جوانب أخرى. فخلال السنوات الأخيرة، بعد إدراك أن الجماعات المعادية للثورة التي تمولها الولايات المتحدة مباشرة لم تحصل على أي دعم، حدث تغيير طفيف في سياسة التدخل. إذ أن الولايات المتحدة ودون التخلي عن عملائها التقليديين، قامت بتغيير التركيز، في محاولة -منافقة تماما- لتقديم الثورة المضادة بوجه أكثر “ودية”، والتأكيد على الإعلام “المستقل”، و”المجتمع المدني”، والنشاط الفني والثقافي، والحوار والإدماج. لقد حاولوا استخدام حتى حقوق الحيوان، والنسوية، ومجتمع الميم، والنشاط المناهض للعنصرية، كأدوات لضرب الثورة.
تحاول تلك العناصر ممارسة الضغط، واختبار الحدود، وتجاوزها، كما تحاول، باستخدام راية حرية التعبير والإبداع كذريعة، إطلاق سلسلة من الأحداث التي تسمح بخلق إجماع لم تتمكن الثورة المضادة من تحقيقه في كوبا منذ عام 1959. وقد كان لهذه الاستراتيجية بعض التأثير وبعض النجاح المحدود. وأساليب البيروقراطية والرقابة والتعسف والستالينية، كلها سياسات تصب في مصلحة تكتيك الإمبريالية هذا، ويسمح لها بتجميع بعض فئات الشباب الساخطين.
لكن الحقيقة هي أنه لم تكن حملات الإمبريالية وعملائها المأجورين (الموجودة)، ولا رفض البيروقراطية (الموجود هو أيضا) في حد ذاتها هي التي أثارت احتجاجات 11 يوليوز، على الرغم من أن هذه العوامل قد ساهمت فيها. لقد كانت القضية المركزية التي أخرجت فئة من الطبقة العاملة إلى الشوارع للاحتجاج على الحكومة الكوبية هي تأثير الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تواجه الجزيرة. تجدر الإشارة إلى أن تلك الفئة كانت قليلة العدد، حوالي 2000 شخص في هافانا، لكنها مع ذلك كانت معبرة. لقد كانت هذه، بلا شك، هي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا منذ حركة ماليكونازو عام 1994.
والجانب الأكثر إثارة للقلق في تلك الاحتجاجات، والتي ضمت فئات تضررت وفقرت بسبب الوضع الاقتصادي، هو أنها قد هيمنت عليها سياسيا الشعارات الرجعية من قبيل: “الوطن والحياة”، “تسقط الديكتاتورية”، “تسقط الشيوعية”. هذا لا يعني أن كل من شاركوا في تلك المظاهرات كانوا موافقين على تلك الشعارات، لكن القوة السياسية المنظمة الوحيدة التي كانت حاضرة كانت مشكلة من أنصار استعادة الرأسمالية، ولكونها القوة المنظمة الوحيدة فقد هيمنت سياسيا على الاحتجاجات.
احتجاجات 11 يوليو تفتح نقاشا ضروريا
لذلك فقد كانت احتجاجات 11 يوليوز بمثابة صدمة للجميع، وكذلك للثوريين الذين خرج العديد منهم إلى الشوارع في ذلك اليوم، بدعوة من الرئيس دياز كانيل، للدفاع عن الثورة.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: كيف حدث هذا في كوبا؟ ربما يكون أحد أوضح التعبيرات عن هذا التساؤل هو مقال لويس إميليو أيبار في صحيفة La Tizza، بعنوان “اليوم التالي لا يمكن أن يكون مشابها“، والذي نُشر في 20 يوليوز. وفيه يتساءل أيبار كيف يمكن أن “جزءا من الشعب، لم يتم دفع المال له للتظاهر، ولا ينتمي إلى التعبيرات المعارضة المرتبطة بواشنطن، قد رفع شعارات إمبريالية خلال الاحتجاجات”. والخلاصة التي يستنتجها هي أن “ما حدث في 11 يوليوز يمكن تفسيره أيضا بأننا نحن الشيوعيين والثوريين لا نناضل بما يكفي من القوة والكفاءة ضد الممارسات الضارة للدولة، نحن ندافع عن الوحدة بطريقة تضر بها فعليا، ونستمر في قول الأشياء من خلال القنوات حتى ولو لم يتحقق الحل، نحن نساير القادة دون نقد عوض تصحيح المسار، ونستمر في التزام الانضباط عندما كان ما يتعين علينا فعله هو التفكير والتصرف بشكل مستقل”.
المقال عبارة عن انتقاد لاذع للبيروقراطية وأساليبها، والاستنتاج الذي توصل إليه حازم للغاية: “يجب أن نبدأ في النضال ضد الثورة المضادة المؤسساتية بقوة الشعب”، ويضيف أنه يجب ألا “نخشى المزيد من المواجهة أو أساليب التحريض العام عندما يكون الافتقار إلى الإرادة أو وجود عقبات معادية للثورة واضحا”. إنها ليست فقط دعوة للتعبئة من اليسار، بل إنها أيضا تشير بشكل صحيح إلى أن غياب مثل هذه التعبئة والنقد يخدم مصالح قوى استعادة الرأسمالية: “إن الفشل في الضغط على الحكومة من اليسار يعني أن اليمين سيأخذ زمام المبادرة، وتغيير موازين القوى لصالحه، أي لصالح المزيد من السوق والملكية الخاصة، وضرب التعليم والصحة العموميتين، وامتيازات من جميع الأنواع لقواعد اللعبة الإمبريالية”.
أسباب الأزمة الاقتصادية
هذا التحليل صحيح في خطوطه العامة: لقد استولى اليمين على العناصر المشروعة للاحتجاج لأن اليسار غائب. ولذلك فإنه على النقد من جانب اليسار ألا يحصر نفسه ضمن ما هو مسموح به فقط، بل عليه بالأحرى ألا يخشى من استخدام “المواجهة” وأساليب “التحريض العام”، أي أن يعبئ بشكل حاسم ضد استعادة الرأسمالية وضد البيروقراطية.
إن المشاكل التي تواجه الثورة الكوبية متعددة ولها جذور مختلفة. فمن ناحية هناك الحصار والعدوان الإمبريالي المستمر منذ 50 عاما. يضاف إلى ذلك التأثير القوي للجائحة على اقتصاد يعتمد بشدة على السياحة (فقدت كوبا كامل مداخيلها من السياحة لمدة 12 شهرا أو أكثر، حوالي 03 مليارات دولار، أي ما يعادل 150 % من قيمة الواردات الغذائية السنوية).
لكن الشيء الذي لا يقل صحة (والذي يشير إليه أيبار جزئيا في مقالته) هو أنه يجب إضافة مشكلة الإدارة البيروقراطية للاقتصاد إلى تلك المشاكل الخطيرة، وهي الإدارة التي تتسبب في عدم الكفاءة والفساد والكسل واللامبالاة والإحباط، وتمثل ضغط السوق الرأسمالية العالمية على الثورة المنعزلة في جزيرة صغيرة ذات موارد محدودة. هناك العديد من الأمثلة، وبعضها خطير للغاية، عن التأثير السلبي للأساليب البيروقراطية، من أعلى إلى أسفل دون أي رقابة من جانب العمال على تخطيط الاقتصاد.
وأخيرا من الضروري الإشارة إلى الأثر السلبي لـ Ordenamiento، أي تلك الحزمة من الإجراءات الاقتصادية التي طبقتها الحكومة في بداية العام. توحيد النقد وسعر الصرف وإدخال حوافز الأجور وآليات السوق في إدارة الشركات المملوكة للدولة، في سياق انكماش اقتصادي حاد (انخفض إجمالي الناتج المحلي بنسبة 13 % في عام 2020 والنصف الأول من عام 2021) وتراجع حاد في التحويلات المالية من الخارج، وهو ما أدى حتما إلى زيادة التمايز الاجتماعي، وضرب أكثر القطاعات هشاشة، وأطلق العنان للتضخم ونقص المنتجات الأساسية.
لقد أدى قانون Ordenamiento، وغيره من الإجراءات ذات الصلة، إلى تسريع عملية تراكم رأس المال الخاص على حساب الطبقة العاملة، ولا سيما فئاتها الأكثر هشاشة.
كيف يمكن الدفاع عن الثورة وضد من؟
السؤال هو كيف يمكن الدفاع عن الثورة؟ وبأي برنامج؟ هناك قطاع مهم بين القيادة الكوبية (ربما الأغلبية أو الفئة المهيمنة) قد تبنى لبعض الوقت النموذج “الفيتنامي”، أي استعادة الرأسمالية بوتيرة بطيئة والتحكم فيها من الأعلى، بطريقة تبقي البيروقراطية في مركز السلطة.
من الواضح أنه توجد مقاومة لهذه الاستراتيجية وهو ما جعل الحركة في هذا الاتجاه بطيئة للغاية، مما أثار احتجاجات نفاد صبر من جانب وسائل الإعلام البرجوازية. وقد كان تأثير احتجاجات 11 يوليوز عمليا هو تسريع هذه السيرورة، مع تنفيذ تدابير مثل اضفاء الشرعية على وجود الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي يمكن أن تضم ما يصل إلى 100 عامل. إنها خطوة كبيرة أخرى في اتجاه استعادة الرأسمالية وتسمح بدرجة متزايدة من تراكم رأس المال الخاص.
إن الجمع بين إجراءات السوق، التي تزيد من حدة التفاوتات الاجتماعية وتقوض مكاسب الثورة، وبين الأساليب البيروقراطية في الإدارة السياسية والاقتصادية، هو أسوء الوصفات الممكنة. وعلى طول هذا المسار لا يتم فقط تحريك الآليات التي تدفع بلا هوادة نحو الرأسمالية، بل أيضا يتم ببطء تحطيم شرعية الثورة وقاعدة الدعم الاجتماعي للثورة، مما يزيل العقبات أمام استعادة الرأسمالية. إن مجرد وجود البيروقراطية في حد ذاته يؤدي إلى عودة الرأسمالية. فمديرو الشركات العمومية يريدون أن يصبحوا مالكين لتلك الشركات التي يديرونها، ولا سيما أولئك الذين هم على اتصال مباشر مع الشركاء الرأسماليين، في قطاع السياحة على سبيل المثال.
كيف يمكن إذن الدفاع عن مكاسب الثورة؟ إن العنصرين الأساسيين من وجهة نظرنا، وقد كررنا ذلك مرات عديدة، هما الديمقراطية العمالية الحقيقية والأممية البروليتارية.
وفي مقال سابق، أشار أيبار بنفسه إلى هذا الاتجاه حيث قال:
من الضروري أن نضيف إلى الرقابة من فوق الرقابة من الأسفل على الكوادر الوسيطة والقادة الوطنيين، مع سلطة أكبر في أيدي الشعب والطبقة العاملة، معبر عنها في القدرة على نقض القرارات وعزل المسؤولين، ووضع برامج العمل والتصويت عليها.
نحن نقول إن الأمر لا يتعلق بـ “إضافة الرقابة من الأسفل” ، ولا يتعلق بإعطاء “سلطة أكبر“، بل إن الديمقراطية العمالية الحقيقية تقوم على وجه التحديد على مبدأ المشاركة الديمقراطية والملزمة للطبقة العاملة في صنع القرار، وفي إدارة جميع الشؤون المشتركة. يجب أن تكون كل السلطة في أيدي الطبقة العاملة.
هذه، في الواقع، ليست قضية سياسية بحتة، بل إنها قبل كل شيء قضية اقتصادية. إن الطبقة العاملة تعرف كيف يتم إنتاج الأشياء، وتعرف أين تكمن المشاكل، والمآزق، وانعدام الكفاءة البيروقراطية. إن المشاركة المباشرة للطبقة العاملة في التخطيط الديمقراطي للاقتصاد هي الطريقة الوحيدة “لتحرير القوى المنتجة”، وهو الشعار الذي يستخدم حاليا لتبرير هيمنة السوق الرأسمالية على التخطيط الاقتصادي. الديمقراطية العمالية هي السبيل الوحيد ليشعر العمال بأنهم المالكون الحقيقيون لوسائل الإنتاج، حقا وليس كمجرد عبارات ينص عليها الدستور على الورق.
وعلى نفس المنوال، وفي مداخلة له في برنامج تلفزيوني حول الاشتراكية والديمقراطية، أشار لويس إميليو أيبار إلى مسألتين حاسمتين: فمن جهة لا يمكن أن تكون الوحدة الضرورية للدفاع عن الثورة “وحدة حول البيروقراطية والفساد والظلم، بل لمحاربتها”.
ثم أضاف ضرورة الثقة في الشعب وذلك، على سبيل المثال، من خلال منح سلطة ملزمة لتجمعات العمال في الشركات.
لقد أسس لينين مبادئ الدولة العمالية بالاستناد إلى تجربة كومونة باريس وحددها في: حق انتخاب الموظفين العموميين والحق في عزلهم في جميع الأوقات، وأنه لا ينبغي لأي مسؤول أن يتقاضى أجرا أعلى من أجر العامل المؤهل، والتناوب العام على المناصب (إذا كنا جميعنا بيروقراطيين، فلا أحد يكون بيروقراطيا) والتسليح العام للشعب.
الديمقراطية العمالية والاشتراكية الأممية
عندما نتحدث عن الديمقراطية العمالية فإننا نشير إلى ذلك النوع من الديمقراطية التي كانت في كومونة باريس أو الديمقراطية السوفياتية خلال السنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر في روسيا. لا علاقة لذلك بـ”الديمقراطية” البرجوازية الليبرالية التي يعدنا بها دعاة “الانتقال”. ففي ظل “ديمقراطيتهم”، سيكون مالكو وسائل الإنتاج هم من يقررون.
إن الاقتصاد المخطط، كما قال تروتسكي، يحتاج إلى المشاركة الديمقراطية للعمال مثلما يحتاج الجسم البشري إلى الأكسجين. إن العمال في الأحياء يعرفون الصعوبات ويمكنهم التنظيم بشكل جماعي لإيجاد حلول لها. ويجب، حيثما أمكن ذلك، ملء المنظمات الحالية بالمحتوى. على لجان الدفاع عن الثورة أن تنظم، من خلال التجمعات الجماهيرية، الرقابة على توزيع المنتجات الأساسية، وشن النضال ضد المضاربين والفساد والسوق السوداء. يجب عليها الحرص على عدم السماح بتبذير المحاصيل بسبب سوء الإدارة البيروقراطية. يجب أن يكون هناك نقاش مفتوح وعام حول ما هي الاستثمارات الأكثر ضرورة والأكثر أهمية على المدى القصير والمتوسط والطويل، مع الموارد المحدودة المتاحة. ويجب القيام بجرد للموارد المعطلة (الأرض، المنشآت، المستودعات، المركبات) وتشغيلها تحت رقابة وإشراف العمال أنفسهم لصالح الأغلبية. فليطلق العنان للقدرة الإبداعية للطبقة العاملة لمواجهة هذه الأزمة.
لكن لا بد أن يكون واضحا ولو للمراقب الأكثر سطحية أنه حتى الإجراءات الأكثر تقدما للرقابة العمالية لن تحل المشكلات الخطيرة التي تواجه الثورة الكوبية، على الرغم من أنها ستعمل بطريقة معينة على التخفيف منها جزئيا. إذ في النهاية سيتقرر مصير الثورة الكوبية على أرض الصراع الطبقي العالمي، ولهذا نؤكد أيضا على الحاجة إلى الأممية البروليتارية.
لا يمكن للثورة الكوبية أن تقتصر على مجرد موقف دبلوماسي في الساحة العالمية. بل على العكس من ذلك يجب أن تدعم بنشاط، على أساس تجربتها الخاصة، الثورة الاشتراكية، بدءا من القارة الأمريكية. صحيح أن الدولة الكوبية المعرضة للهجوم الإمبريالي لها الحق والواجب في إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية مع كل الراغبين في ذلك. لكن وفي الوقت نفسه يجب أن تكون للثورة الكوبية سياسة ثورية أممية. يجب على الشيوعيين الكوبيين المشاركة في النقاشات حول الاستراتيجية الثورية في البلدان الأخرى، والدفاع بوضوح عن وجهة نظر الثورة الاشتراكية.
سبق لفرانك خوسيه سولار كابراليس أن أوضح بشكل جلي في مقال مهم جدا له حول وحدة أمريكا اللاتينية صدر في صحيفة غرانما، أن: “الثورة الاشتراكية هي الشرط الضروري لتحقيق التطور وحل المشاكل الملحة لشعوب قارتنا”. وأضاف أن: “هدف القوى الثورية لا يمكن أن يكون مجرد الوصول إلى الحكومة من أجل إدارة الرأسمالية، بل إعادة توزيع أكبر للثروة”.
يجب تعميق هذه المناقشات التي تدور بين الشيوعيين الكوبيين. إن اللحظة حرجة. الثورة الكوبية على مفترق طرق حاسم. وللدفاع عنها لا بد من فتح باب النقاش وإعادة تسليح الطليعة أيديولوجيا، ولا سيما الشباب. يجب أن نطالب بأن يتم السماح لجميع التيارات الثورية بالحق في الوصول بحرية كاملة إلى وسائل الإعلام الحكومية. للنضال ضد الثورة المضادة من الضروري النضال ضد البيروقراطية بـ”أساليب المواجهة” و”التحريض العام”. لقد حان الوقت للانتقال من الأقوال إلى الأفعال. لا وقت لنضيعه.
11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021
ترجم عن النص الأصلي:
Cuba faced with reactionary provocation on 15 November: how to defend the revolution?