في الأعوام الأخيرة، تطور النضال ضد الاضطهاد القائم على الجندر والتمييز القائم على الميول الجنسية إلى حركات جماهيرية في بلدان عديدة. شهدنا احتجاجات واسعة النطاق تعبيرا عن الغضب والتمرد -الذين تراكما طوال سنواتٍ وعقود- ضد التدخل المستفز لنظام لا يجبرك على الكفاح اليومي لتلبيةِ احتياجاتك فحسب، بل يدعي أيضا الحق في تقرير ما يمكنك أو لا يمكنك القيام به في حياتك الشخصية، ومع من يمكنك إقامة علاقة، سواء كانت جنسية أو غير ذلك، وما إذا كان بإمكانك تربية طفل، إلخ… ويعرض أي شخصٍ يخرج عن معايير ما يسمى بـ “العائلة التقليدية” للإقصاء القانوني والاجتماعي.
إن هذه الاحتجاجات، بالاضافة إلى مطالبتها بالتحرر وقاعدتها الجماهيرية، تحمل إمكانيات ثورية جوهرية. لكن وفي الوقت عينه، هناك محاولة واعية لتقليص هذه القضايا إلى مسألةٍ ثقافية ولتحديد أهداف الحركة في النضال من أجل تنازلاتٍ بسيطة تتماشى مع الوظيفة الطبيعية (أي القمعية) للرأسمالية. يتم التركيز على نظريات تبدو راديكالية للوهلة الأولى ولكنها في الواقع توجه نضال حركة المثليين على أسس مثالية ووجودية تنتهي إلى طريقٍ مسدود، فيما المطلوب حقا هو تغيير الظروف المادية.
إن تبني النهج الطبقي، الذي يوحد النضال ضد القمع المعادي للمثلية ومن أجل الحقوق المدنية الكاملة مع النضال العام من أجل حياة كريمة خالية من القمع الاقتصادي والاجتماعي، لهو ذو أهميةٍ حيوية لتحقيق انتصار حركة مناصرة المثليين. ومن المهم كذلك أن تتبنى الحركة العمالية نضال حركة مناصرة المثلية، متجاوزة الانقسام التاريخي الذي ولدته القيادات الستالينية والإصلاحية اليسارية على وجه التحديد.
بصفتنا ثوريين، يشكل هذا الهدف جزءا حيويا من نشاطِنا السياسي ويقدم هذا المقال أساسا للمزيد من النقاش حول هذه المسألة.
التمييز ورهاب المثلية اليوم
ما زالت المثلية اليوم تعتبر، كما أي سلوكيات مشابهة، أفعالا غير قانونية في 72 بلدا، وتتراوح العقوبات من شهر إلى 15 عاما سجنا، إلى السجن المؤبد وحتى الإعدام (في ثماني بلدان). وفي بعض البلدان، كالمملكة العربية السعودية، يتم تنفيذ عقوبة الإعدام عن طريق الرجم، بينما في بلدان أخرى تفرض عقوبات جسدية مثل الجلد. يتم الاعتراف بزواج المثليين في 23 بلدا فقط، ويتم الاعتراف بالاتحادات المدنية في 27 بلدا آخر[2].
ومع ذلك، حتى في الأماكن التي توجد فيها أشكال من الحماية القانونية، يتخذ التمييز أشكالا أخرى عديدة. فعلى سبيل المثال، توجد في العديد من الولايات الأمريكية “قوانين ضد الترويج للمثلية الجنسية” التي تحد من سلوكيات معينة أو توفر مبادئ توجيهية للأخلاقيات الجنسية التي يجب تعليمها في المدارس والمؤسسات العامة الأخرى. هذا مألوف جدا في إيطاليا، حيث أطلق اليمين المتطرف والكنيسة الكاثوليكية حملات شرسة ضد ما يسمى بـ”نظرية الجندر” في المدارس الإيطالية. يشجع هؤلاء اليمين المتطرف على التحرك لتنظيم مجموعات تهدف لتنفيذ هجمات عنيفة ضد المثليين (وكذلك ضد المهاجرين والناشطين اليساريين). ليس من قبيل الصدفة أن مشروع القانون ضد التحريض على كراهية المثليين والظروف المشددة، قد تم إهماله في لجنة برلمانية لمدة ثلاث سنوات. رغم أن هذا القانون ليس كافيا بحد ذاته، فإنه كان سيضمن على الأقل درجة أكبر من الحماية. من الواضح أن مشروع القانون “مينيتي” الذي يسمح بطرد المهاجرين الذين نجوا من عبور البحر الأبيض المتوسط بالقوارب يحتل مكانة أعلى بكثير في قائمة أولوياتهم!
وعلاوة على كل هذا، يتوغل التمييز في الحياة اليومية في المدارس، وفي أماكن العمل، وفي البيوت، ويختبره الأشخاص المثليون من خلال الضغط الأيديولوجي والاجتماعي المستمر الذي يثقل كاهلهم. ووفقا لبحث أجراه المعهد الوطني الإيطالي للإحصاء (ISTAT) في عام 2011، فإن واحدا فقط من كل أربعة عمال مثليين يعلنون علانية عن ميولهم الجنسية بسبب الخوف من التعرض للمضايقات أو الفصل من العمل، وهي ظاهرة موجودة بشكل خاص في المناطق الريفية. ووفقا لاستطلاع أجراه الاتحاد الأوروبي، فإن 68٪ من مواطني الاتحاد الأوروبي يعتبرون أن التمييز بناء على التوجه الجنسي موجود بالفعل. ووفقا لاستطلاع آخر، في إيطاليا، فقط 6٪ من المراهقين المثليين في المدارس الثانوية يعبرون بشكل كامل عن ميولهم الجنسية داخل المجتمع ككل، بينما 39٪ آخرون يعبرون عن ذلك جزئيا داخل دائرة أصغر من الأصدقاء -تتشابه هذه النِسب في بلدان الاتحاد الأوروبي. إن حقيقة أن 94٪ من المراهقين المثليين يفضلون إخفاء ميولهم الجنسية، جزئيا أو كليا، تفصح عن الكثير من الصعوبات الشخصية التي يخلقها التمييز الاجتماعي. هذا الضغط لا يتوقف عند عتبة المنزل، بل إن الأسرة غالبا ما تكون أول مكان يتم فيه مواجهة الرفض الذي قد يتمظهر في جميع أنواع العنف، من الاحتجاز في المنزل، إلى الضرب والاغتصاب “التصحيحي”. ليس من غير المألوف قراءة أخبار عن مراهقين “انتحروا بسبب ميولهم الجنسية”، وهي النتيجة المأساوية النهائية للضغط النفسي الذي يتم توليده على المستوى الاجتماعي والأسري.
أي عائلة تقليدية؟
تستند كل حملة معادية للمثليين إلى الحجة القائلة بأن المثلية الجنسية تتعارض بشكل جذري مع ” الطبيعة”. نجد المظاهر الأكثر ابتذالا من هذا النمط من التفكير في الأصوليةِ الدينية. لكن هذه الحجة كانت موجودة لفترة طويلة أيضا في العالم “العلمي”، مما يؤكد حقيقة أن العلم مشروط بالأيديولوجية السائدة. في علم النفس، اعتبرت المثلية الجنسية لفترة طويلة حالة مرضية من قبل غالبية المجتمع العلمي، أو على الأقل حالة غير فسيولوجية، حتى من قبل أكثر علماء النفس تقدمية. كان هذا هو الحال مع فرويد الذي، على الرغم من أنه لم يشجع على التمييز، اعتبرها انقطاعا في التطور الجنسي. حتى فيلهلم رايش، الذي كان عموما مؤيدا للتحرر الجنسي، وكانت لديه نظرة مادية وثورية (على الأقل في بداية حياته)، عرف المثلية الجنسية بأنها “نتيجة لاضطراب مبكر جدا في تطور الوظائف العاطفية والجنسية”. فقط في عام 1973 توقفت جمعية الطب النفسي الأمريكية (APA) عن اعتبار المثلية الجنسية حالة مرضية، وفي عام 1986 أزالت أخيرا فئة “المثلية الجنسية المجافية للأنا” (وهي شكل مزعوم من المثلية الجنسية المرضية، التي تعتبر مصدرا للتوتر، على عكس المثلية الجنسية المتوافقة مع الأنا ذات الأسسس الفسيولوجية)، اعترافا منها بأن التوتر النفسي كان في الواقع ناجما عن الضغوط الاجتماعية التي يعاني منها المثليون. وبعد أربع سنوات، في 17 ماي 1990، أزالت منظمة الصحة العالمية أخيرًا المثلية الجنسية عن قائمة الأمراض النفسية.
إن حقيقة عدم وجود أي شيء غير طبيعي في التوجهات والسلوكيات المثلية تؤكد ببساطة من خلال وجودها الواسع عبر تاريخ البشرية وفي جميع أنحاء العالم. وهو واقع موثق بغزارة من خلال الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية والأدبية[3]. توجد سجلات لما يسمى “ذوو الروحين” بين الأمريكيين الأصليين، وهم رجال يرتدون ملابس النساء ويتصرفون كالنساء، والعكس صحيح، وغالبا ما كانوا يشاركون في الطقوس الدينية. ومن المعروف أنه في مدينة طيبة القديمة (واست) في القرن الرابع قبل الميلاد، تم إنشاء كتيبة مقدسة تتكون من 150 زوجا من الجنود الذكور، كانت لا تقهر في المعارك بسبب رغبة كل جندي في حماية شريكه الخاص والظهور بمظهر الشجاع أمامه -حيث كان كل جندي يبذل كل طاقته في كل معركة. ومن المعروف أيضا أن العلاقات المثلية بين الذكور كانت معترفا بها اجتماعيا وقانونيا في أثينا وروما. ومع ذلك، سيكون من الخطأ اعتبار هذه الأمثلة كمظاهر للحرية الكاملة في العلاقات الجنسية، كما نرى في بعض التفسيرات السطحية، أو للبحث عن “عصر ذهبي للمثلية الجنسية” قبل القمع الحديث.
في أثينا، كانت العلاقات المثلية المنظمة اجتماعيا بين الذكور في الفترة ما قبل الحضرية وفي السنوات الأولى بعد نشوء المدن، تتكون من علاقة بين رجل بالغ حر (عادة فوق 25 عاما) ومراهق ذكر حر (بين ١٢ و١٧ عاما)، وكان هدفها تعليم وتوجيه الشاب إلى البلوغ ومكانة المواطن. كانت العلاقة الجنسية جزءا من هذه العلاقة التعليمية، موروثة من طقس قديم للانتقال إلى مرحلة البلوغ، حيث كانت الأدوار ثابتة بشكل صارم: يقوم البالغ بدور العاشق النشط، والشاب بدور المستسلم والخجول، الذي يخضع فقط عندما يتم إثبات جدية نوايا العاشق. تستمر هذه العلاقة حتى يصل الشريك الأصغر إلى مرحلة البلوغ، ثم يمر بفترة من الامتناع قبل أن يتبنى دورا آخر حتى الزواج.
لم تكن مسموحة أي علاقات مع العبيد، حيث لم يكن لهذه العلاقات أي غرض تعليمي لأن العبيد لم يكونوا مهيئين ليصبحوا مواطنين، كذلك الأمر بين البالغين (على الأقل من الناحية النظرية). كانت هذه العلاقات شائعة بين الجميع قبل الزواج، وفقط في بعض الحالات استمرت بعدها. أما النساء، فكن معزولات داخل المنزل وممنوعات من الحياة الاجتماعية، بينما كانت العلاقات المثلية بين النساء تعتبر مستهجنة، رغم أنها كانت موجودة، خاصة في المدارس لتعليم الفتيات (كانت صافو معلمة) قبل أن يتم عزلهن أخيرا داخل المنزل. على مر القرون، أدى انتشار العلاقات المثلية بين الذكور وضعف تقسيم الأدوار إلى وصم اجتماعي.
في روما، على النقيض، كانت الجنسانية دليلا على الهيمنة الذكورية، ولذلك كان من غير المقبول أن يتخذ المواطن الحر دورا سلبيا/خاضِعًا (حتى في سن صغيرة). كانت العلاقات المثلية بين الذكور تعتبر مشروعة تماما بشرط أن يكون الشريك الخاضع عبدا أو عامل جنس ذكر، إذ أن قانون ليكس سكاتينيا Lex Scantinia (في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد) حظر التحرش الجنسي بالشباب الصغار الأحرار، ومنعهم من اتخاذ دور سلبي/خاضع مع الرجال البالغين، وعاقب على هذا السلوك بالغرامات. تدريجيا، خلال فترة الإمبراطورية، وبسبب التأثير اليوناني، انتشرت علاقة مماثلة للبيدراستية الهلنستية. ومع التحرر التدريجي، انتشر السلوك الجنسي السلبي/الخاضع بين الرجال الأحرار، العبيد، والبغايا الذكور، بما في ذلك شخصيات بارزة مثل يوليوس قيصر وأغسطس قيصر. لكن فيما بعد، بدءا من القرن الرابع الميلادي فصاعدا، بدأت العلاقات المثلية تحدد بالقانون، مع فرض عقوبة الإخصاء على الممارسات الخاضعة (342 م)، والموت حرقا على الخشبة لعاملي الجنس الذكور الخاضعين (390 م)، والموت لجميع الذكور الخاضعين (438 م) وأخيرا لجميع أشكال النشاط المثلي (533 م).
لعب صعود الديانة المسيحية دورا حاسما في قمع المثلية الجنسية، حيث كانت الكنيسة أول من أصدر فتاوى بأن العلاقات المثلية “ضد الطبيعة”، وهي فكرة ما زالت تسود الأخلاق الدينية حتى يومنا هذا.
كان هذا مفهوما جديدا تماما، إذ أن العلاقات المثلية لم تكن تعتبر منافية للطبيعة حتى من قبل أولئك الذين يعارضونها، الذين كانوا يسعون في الغالب إلى تعزيز دور الأسرة واستقرارها في المجتمع، مجادلين بأنها ضرورية لنمو السكان. وكان جستينيان الأول أول من روج لفكرة العقاب الإلهي للمثليين. ورافق قمع المثلية الجنسية هذا مفهوم التنسك المسيحي، الذي يقتضي أن تكون العلاقة الجنسية مشروعة فقط عندما تتم بغرض التكاثر، وبالتالي يجب قمع العلاقات غير المنظمة والزنا (الذي كان مقبولا اجتماعيا في السابق: للرجال حصرا بالطبع)[4].
انطلاقا من هذا العرض التاريخي الموجز، يمكننا استخلاص بعض الاستنتاجات:
أولا، لقد كانت السلوكيات الجنسية المثلية وثنائية الجنس موجودة دائما، كما يتضح من الممارسات الاجتماعية ولكن على وجه الخصوص من خلال حقيقة أن القيود كانت تفرض على العلاقات المثلية غير المنظمة (على سبيل المثال بين المواطنين الذكور البالغين أو بين النساء، سواء في اليونان أو في روما)، وهي العلاقات التي تشبه إلى حد كبير الحب المثلي بالمعنى الحديث، والذي ظهر بشكل متكرر عبر التاريخ.
ثانيا، يمكننا أن نرى أنه ولكل فترة تاريخية كانت هناك معايير اجتماعية مختلفة فيما يتعلق بالجنس، وهذا يثبت أنه لا يوجد أساس لمفهوم “العائلة التقليدية”، ولا سيما العائلة الأحادية التقليدية المبنية على روابط الوفاء المتبادل، كما يُزعم اليوم. هذا النموذج لم يُعتمد إلا في ظل المسيحية، حتى أنه كان حينها مجرد مفهوم مثالي. والواقع الاجتماعي المتمثل في الزنا والدعارة المتاحة للرجال كان مختلفا تماما، وقد خضع لتحولات لا حصر لها، ويـأخذ اليوم أشكالا عديدة، اعتماد على السياق الاجتماعي والاقتصادي (فكّر فقط في الفرق بين العائلة الممتدة القديمة للفلاحين مقارنة بالعائلة النووية للعمال أو الموظفين اليوم).
ثالثا وأخيرا، يجب أن نلاحظ أن هذه المعايير لم تكن في أي حال من الأحوال تمثيلا للحرية الجنسية والعاطفية. بداية، كان العبيد والنساء مستبعدين تماما، وكانت بعض السلوكيات مشروعة، بينما كانت سلوكيات أخرى محظورة، وعلى الأقل في حالة اليونان، كانت العلاقات البيدراستية مؤسسة اجتماعية لم تأخذ في الحسبان التوجه الجنسي سواء للمواطن البالغ أو للغلام المعني، الذي ربما لم يكن يشعر بالارتياح حيالها.
وبالتالي، كانت تلك القوانين في الواقع أشكالا مختلفة من تنظيم الحياة العاطفية والمنزلية والجنسية، تشمل اتخاذ إجراءات قمعية عندما يتم انتهاكها، حيث إن ما يُعتبر قانونيا يعتمد على هيكل المجتمع.
وأيضا، في ضوء هذه الاعتبارات، يمكننا التأكيد على أنه بشكل عام، ظهر القمع للسلوك غير المغاير جنسيا (المثلي، ازدواجي الميول الجنسية…) عبر تاريخ البشرية بدرجات متفاوتة من الحدة ومستويات مختلفة من القيود، بهدف ضمان استقرار العلاقات الأسرية، ولا سيما لضمان تأسيس وتقوية الأسرة الأحادية.
وكما شرح إنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، وكما أكدت الاستنتاجات الرئيسية لعدة دراسات أنثروبولوجية حديثة، فإن العائلة ليست مؤسسة مستقرة كانت موجودة دائما. خلال مرحلة الصيد والجمع، عندما كانت إدارة الاقتصاد والطعام والأدوات وتربية الأطفال تُجرى على مستوى المجتمع، كان للنساء دور بارز وكان المجتمع أموميا.
بفعل تدجين الحيوانات والثورة الزراعية وتركيز وسائل الإنتاج في أيدي الرجال، نشأ القمع الأبوي -إلى جانب المجتمع الطبقي- وأصبح الزواج الأحادي أساس البنية الأسرية الجديدة، وكان هدفه الأساسي ضمان الأبوة في الميراث. من هنا ينبع الإحساس بالملكية تجاه الزوجة والأطفال الذي ما يزال منتشرا على نطاق واسع اليوم، والذي يؤثر على حياة مليارات الأفراد.
في هذا السياق، ظهر قمع النساء وتهميشهن داخل المجتمع وقمع سلوكهن الجنسي، مما حولهن إلى مجرد أدوات للتكاثر (والعناية بالمنزل والأطفال)، وأصبح ذلك هيكليا ومتجذرا تاريخيا مع تطور الهياكل الأسرية والاجتماعية المختلفة. أما المواقف تجاه السلوك الجنسي الذي يقع خارج نطاق التكاثر داخل الأسرة الأحادية، فيتوقف على مدى اعتباره تهديدا للأسرة كمؤسسة. لقد كان الحب المثلي بين النساء عرضة لدرجات متفاوتة من القمع في فترات مختلفة من التاريخ (لقد ذكرنا بعضا منها أعلاه).
إلا أنه يمكننا أن نؤكد أنه طالما اعتُبرت الأسرة الأحادية الحجر الأساس للمجتمع والنموذج الوحيد للسلوك العاطفي والجنسي المشروع، سيكون من المستحيل التغلب على التمييز الاجتماعي المبني على التوجهات الجنسية.
الصراع الطّبقي والتحرر المثلي
إن النضال ضد التمييز الجنسي مرتبط بالنضال ضد المجتمع الطبقي بشكل عام، وذلك لعدة أسباب:
الأول، كما شرحنا، هو أن وحده إلغاء المجتمع الطبقي ما سيمكن من خلق الأساس الاقتصادي المادي والدافع الثقافي الضروريين للتغلب على الحالة التي تعتبر فيها الأسرة الأحادية بين الرجل والمرأة الشكل الوحيد المشروع كوحدة أساسية للمجتمع. من خلال تحويل جميع المهام التي تُسند اليوم إلى نطاق الأسرة، وبشكل خاص إلى النساء (الطبخ، التنظيف، تربية الأطفال)، إلى عمل جماعي، والسماح بالتطور الحر للأفراد مع الوصول إلى أفضل الموارد المادية والثقافية التي يمكن أن يوفرها المجتمع، سيكون من الممكن تسهيل عملية يتم من خلالها تحرير الروابط الشخصية والأسرية تدريجيا من إكراهات الضرورة المادية، لتصبح متوافقة فقط مع الرغبات الرومانسية والجنسية، وبالتالي حل المعايير القمعية وأشكال التمييز التي توجد في الوقت الحاضر.
السبب الثاني هو أن الغالبية العظمى من الأشخاص المثليين وازدواجيي التوجه الجنسي والعابرين جنسيا هم عمال، وشباب، وعمال مؤقتون، وعاطلون عن العمل، والذين بالإضافة إلى استغلالهم في مكان العمل وقلقهم بشأن كسب الأجر ومكان العيش، وما إلى ذلك، يتعرضون أيضا للاضطهاد بسبب هويتهم الجنسية وتوجهاتهم الجنسية. لذلك، فإن توحيد النضال ضد شكلي الظلم هذين هو الأمر الأكثر طبيعية، خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أن العدو هو نفسه. علاوة على ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن التحيزات المعادية للمثليين يتم تعزيزها أيضا لأجل تقسيم العمال -على سبيل المثال، لجعل العمال المغايرين جنسيا يعتقدون أنه، رغم أنهم قد يكونون مضطهدين، فإنهم ما يزالون متفوقين على الشخص المثلي (يا لها من سعادة!)، بنفس الطريقة التي يتم بها تغذية التحيزات العنصرية. الدور الذي يلعبه اليمين في هذه العملية واضح بحد ذاته.
من يدعي أن جبهتي النضال هاتين يجب فصلهما يلعب لصالح العدو. وغالبا ما يكون المروجون لمثل هذه الادعاءات داخل حركة مناصرة المثليين أفرادا أثرياء لا يواجهون المشاكل المادية التي يواجهها العمال والشباب المثليون والعابرون جنسيا. في الواقع، إنهم يحدون بذلك الحركة بمطالبتهم بتنازلات صغيرة من الحكومة، دون إثارة الكثير من الضجة وغالبا دون تحقيق أي مكاسب جوهرية. هذا هو الحال، على سبيل المثال، في الحركات الصديقة للمثليين في الخمسينيات (سواء في إيطاليا أو على المستوى العالمي)، التي انتُقدت بشدة فيما بعد من قبل حركات تحرر المثليين في الستينيات والسبعينيات، والتي تطورت على أسس ثورية بناء على موجات النضال الطبقي خلال تلك السنوات.
على الجانب الآخر، يجب ملاحظة أن جزءا كبيرا من المسؤولية عن الانقسام بين حركة المثليين وحركة العمال في النصف الثاني من القرن العشرين يقع على عاتق قيادات الأحزاب الشيوعية التي، وبفعل الانحراف الستاليني، تبنت بشكل علني مواقفا معادية للمثلية. هذه المواقف لم تتغير إلا في مرحلة لاحقة، لتتحول في الغالب إلى رؤية إصلاحية للنضال من أجل الحقوق المدنية، وهو ما يعكس النهج الإصلاحي في برنامجهم السياسي.
ومع ذلك، لم يكن الأمر على هذا النحو دائما. فعلى الرغم من غياب مسألة المثلية الجنسية في كتابات ماركس وإنجلز، إلا أن هناك عدة تصريحات من قادة الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية القديمة تعبر عن معارضة التمييز ضد المثليين أو إدانة المثلية الجنسية في القانون الألماني. ليس من قبيل الصدفة أنه عندما أسس ماغنوس هيرشفيلد اللجنة الإنسانية العلمية في نهاية القرن التاسع عشر للترويج لإلغاء الفقرة 175 من القانون الجنائي الألماني التي تنص على إدانة المثلية الجنسية قانونيا، حصلت عريضته، التي نوقشت في البرلمان عام 1898، على دعم الأقلية الاشتراكية الديمقراطية في البرلمان حصرا. استمر عمل هيرشفيلد بإطلاق معهد الأبحاث الجنسية وتنظيم المؤتمر الأول للإصلاح الجنسي في عام 1921 (مع مشاركة مندوب سوفياتي). يمثل عمل هيرشفيلد أول جهد كبير في العصور الحديثة لإلغاء تجريم المثلية الجنسية بناء على النقاش العلمي. هيرشفيلد نفسه اعتبر المثلية الجنسية حالة مرضية -أو على الأقل غير فسيولوجية- لكن ليس هناك سبب لفرض العقوبة. ومع ذلك، لم تُلغ الفقرة 175 وأدى انتصار النازية على الحركة العمالية الألمانية إلى فترة ظلامية سحقت بلا رحمة المثليين.
كان معهد الأبحاث الجنسية من أول المباني التي داهمتها النازية في 6 ماي 1933، حيث أحرق الشباب النازيون في الساحة جميع النصوص التي وجدوها في المكتبة. زادت النازية من العقوبات التي نصت عليها الفقرة 175، مما أدى إلى اعتقال 100 ألف مثلي، وإصدار 60 ألف حكم بالسجن، والإيداع في المستشفيات النفسية، والتعقيم القسري. وكان المثليون من بين الذين أُرسلوا إلى معسكرات الاعتقال مع اليهود والاشتراكيين والشيوعيين.
حالة المثليين بعد ثورة أكتوبر
غيرت الثورة البلشفية عام 1917، التي استولى فيها العمال على السلطة لأول مرة في التاريخ (باستثناء فترة قصيرة خلال كومونة باريس عام 1871)، حياة الملايين، ليس فقط من الناحية السياسية والاقتصادية، بل أيضا في ما يتعلق بالأسرة.
منحت الحكومة السوفياتية النساء نفس حقوق الرجال، وشرعت الطلاق والإجهاض، وروجت للتطوير المكثف للخدمات الاجتماعية لتوفير الأسس الاقتصادية للتحرر من الواجبات الأسرية: دور حضانة، مطاعم عامة، مغاسل، مستشفيات نهارية، دور سينما، مسارح، إلخ. في الوقت نفسه، مع إلغاء القانون الجنائي القيصري، تم إلغاء تجريم المثلية الجنسية (بينما كانت تحت حكم القيصر تعاقب بأحكام سجن قاسية).
موقف الحزب البلشفي كان أن السلوك الجنسي ينتمي إلى النطاق الخاص، وبالتالي لا يجب معاقبته أو تنظيمه، ما لم يؤذ الآخرين (على سبيل المثال، في حالة وجود إكراه أو عنف). في النقاش العلمي الروسي، كان ما يزال النظر إلى المثلية الجنسية على أنها مرض -كما في كل بلد آخر- لكن لم ينشأ عن هذا الرأي أي تمييز. من بين الأمثلة العملية على موقف الحكومة السوفياتية في هذه القضية، يمكننا أن نذكر مشاركة مندوب سوفياتي في مؤتمر هيرشفيلد لإصلاح الجنس، بالإضافة إلى تعيين جورجي تشيتشيرين، الذي كان يعترف بميوله المثلية بشكل علني، وزيرا للشؤون الخارجية في عام 1918. هذا الوضع، في ذلك السياق التاريخي، لم يكن مسبوقا في أي مكان آخر في العالم.
بدأت الأسرة التقليدية تتفكك بفعل التغييرات الاجتماعية: دُعي الرجال والنساء للمشاركة في الحياة الاجتماعية، وتحرر الشباب، جزئيا على أقل تقدير، من السلطة الأسرية التقليدية وسعوا نحو علاقات اجتماعية (بما في ذلك علاقات عاطفية وجنسية) جديدة[5]، خاصة داخل مجموعات الشباب.
ومع ذلك، لم تمضِ فترة طويلة حتى واجهت التغييرات الجذرية التي أنجبتها الثورة، حتى في العلاقات الأسرية والجنسية، مشاكل ناجمة عن العزلة والصعوبات الاقتصادية التي كانت تواجهها الثورة. كانت الموارد المادية محدودة جدا لتقديم بديل: غالبا ما كانت الخدمات العامة منخفضة الجودة إلى حد أنها خلقت ضرورة للعودة إلى الهيكل الأسري القديم.
وفي الوقت نفسه، كانت التشوهات البيروقراطية، التي أدت إلى الستالينية، قد بدأت في الظهور، مما يعني الانحراف عن أفكار لينين وتروتسكي والثورة البلشفية.
كان لتلك الظاهرة عاقبتان. فمن جهة، نظرا لعدم وجود قاعدة مادية لتطوير العلاقات العائلية والعاطفية على مستوى اجتماعي أكثر تقدما، عادت الأسرة التقليدية إلى الواجهة؛ سيتطلب تجاوز هذا الأمر بشكل كامل عقودا، حتى في ظل أفضل الظروف. ومن جهة أخرى، رأى النظام الستاليني في العودة إلى الأسرة والأخلاق التقليدية مصدر استقرار للنظام، خاصة كأداة لتعزيز فكرة السلطة (ابتداء من سلطة رب الأسرة على الأطفال) التي كان يروج لها باستمرار.
كتب تروتسكي في كتابه “الثورة المغدورة”:
“إن رد الاعتبار الاحتفالي للأسرة الذي ترافق مع رد الاعتبار للروبل -يا للصدفة الإلهية!- يعود إلى فقر الدولة ماديا وثقافيا. وبدل أن يقول قادة النظام: “كنا فقراء وجاهلين لدرجة منعتنا من تأمين علاقات اشتراكية بين الناس، إلا أن أولادنا وأحفادنا سيفعلون ذلك”، يقومون بترميم بناء الأسرة المحطم. ويفرضون عبر التهديد بالعقوبات القاسية عقيدة الأسرة التي تشكل القاعدة المقدسة للاشتراكية المظفرة، ومن الصعوبة بمكان قياس عمق هذا التراجع”[6].
هذه السيرورة غيرت أيضا المواقف تجاه المثلية الجنسية. فبدلا من الاعتماد على البروليتاريا الحضرية، التي تجاوزت بشكل أكثر تلقائية التحيزات ضد المثليين، اعتمد النظام على العناصر البورجوازية الصغيرة والمناطق الشرقية النائية (على سبيل المثال، في عام 1925، تمت إضافة بند إضافي إلى القانون الجنائي للاتحاد السوفياتي في تركستان ينص على عقوبات ضد المثلية الجنسية). وفي عامي 1933-1934، تمت إعادة حظر العلاقات المثلية بين الرجال، وصار يعاقب عليها بالسجن. في عام 1935، تم تقييد الطلاق بشدة؛ وتم إلغاء الاعتراف بالعلاقات الحرة، وفي عام 1946 تمت إعادة حظر الإجهاض قانونيا.
إذا، وبكلمات تروتسكي، باتت “عقيدة الأسرة” تشكل “القاعدة المقدسة للاشتراكية المظفرة”. وصارت المثلية الجنسية، التي اعتبرت تهديدا للعائلة، رذيلة بورجوازية فاسدة. هذا الموقف المعادي للمثلية الجنسية أصاب في وقت لاحق الأحزاب الشيوعية (الستالينية) على المستوى العالمي، معرضا حركة المثليين، التي كان ينبغي أن تتطور بشكل طبيعي، والتي كانت مرتبطة بالحركة الثورية نفسها، للخطر.
من ستون وول إلى ركود في الحركة
بعد الحرب العالمية الثانية، في فترة من الانحسار العام للصراع الطبقي، لعبت أدوارا رئيسية تلك الجماعات المثلية التي، كما شرحنا أعلاه، حاولت إقامة حوار حبي مع الحكومات واتخذ نهج لطيف تجاهها للفوز ببعض الحقوق الدنيا، لكنها لم تلاقي سوى نجاح ضئيل. بعد فترة من الهدوء في النضالات الاجتماعية وضعف حركة المثليين، اندلعت مرة أخرى (أو، بمعنى ما، لأول مرة) كحركة جماهيرية في عام 1969 في نيويورك، في إطار أحداث الشغب في ستون وول. خلال ليلة 28-29 يونيو، تم اعتقال مئات الأشخاص في مطعم “ستون وول إن”، الذي كانت الحملات الشرطية ضده روتينية في ذلك الحين، لكنها قوبلت لأول مرة بمقاومة جماعية، وتطورت إلى معركة استمرت يومين، شارك فيها ألف شخص.
أحدث تمرد ستون وول تغييرا جذريا في شكل وطبيعة حركة المثليين، التي لم تعد تقتصر على دوائر صغيرة من العلماء أو اللجان، وكسرت فكرة المثلية كشذوذ، بل أعربت عن الفخر بها. وتحت تأثير موجة الصراع الطبقي، في نهاية الستينات والسبعينات، شهدنا تحولا كبيرا نحو اليسار داخل الحركة، وظهور مجموعات صغيرة تعرف نفسها بأنها ثورية، على الرغم من أنها كانت تمتلك قاعدة نظرية مشوشة وانتقائية.
بعد ستون وول، في بداية يوليوز 1969، تأسست “الجبهة الثورية لتحرير المثليين” في الولايات المتحدة الأمريكية. اعتمدت مواقف معادية للرأسمالية و”عالم ثالثية”، وأعلنت دعمها لنضال حزب الفهود السود. أُنشئت منظمات مماثلة في عدة بلدان: “الجبهة الثورية لتحرير المثليين” في المملكة المتحدة عام 1970، التي جمعت بعد ذلك مئات الناشطين ولكنها انقسمت سياسيا، والجبهة المثلية للعمل الثوري (FHAR) في فرنسا، والحركة المثلية للعمل الثوري (MHAR) في بلجيكا.
في إيطاليا عام 1971 تأسست جبهة المثليين الإيطاليين الثوريين (FUORI). أما بالنسبة للجماعات الأخرى، فكانت أعدادهم غير ضخمة: بالكاد مائة ناشط في ثلاث مجموعات في تورينو وميلانو وروما (مع اختلافات سياسية كبيرة بين المدن الثلاث). في البداية، كانت صحيفتهم تباع شهريا في الأكشاك، بطبعات تصل إلى 8000 نسخة.
في الخامس من أبريل 1972، في مدينة سان ريمو، نظمت FUORI أول تظاهرة عامة ضد المؤتمر الدولي لعلم الجنس، الذي كان على جدول أعماله مناقشة أسباب المثلية والعلاجات المحتملة لها. ولتوضيح طابع النقاشات، كانت إحدى العلاجات المقترحة هي الصعق بصدمات كهربائية مؤلمة بشكل طفيف مرتبطة مع عرض صور لرجال عراة وليس لنساء عاريات، كما تم اقتراح القيام باستئصال انتقائي لأنسجة دماغية كعلاجٍ آخر.
خارج قاعة المؤتمر، احتشد العشرات من الناشطين في مظاهرة احتجاجية يهتفون بشعارات مثل “نحن طبيعيون! نحن طبيعيون!” ورفعوا لافتات تقول “أطباء النفس، ضعوا الأقطاب الكهربائية في أدمغتكم”. داخل قاعة المؤتمر، اعتلى المنبر عضو في FUORI، أنجيلو بيزانا، مفتتحا بالعبارة الشهيرة “أنا مثلي الجنس وسعيد بذلك”. شكلت التظاهرة نقطة تحول في حركة المثليين وقطيعة مع المنظمات المعتدلة الموالية للمثلية.
كانت محاولات إقامة روابط مع الحركة العمالية أمرا مهما: في العدد الأول من الصحيفة، توجهت هيئة التحرير إلى “الرفاق الثوريين [المغايرين]” مطالبة إياهم بـ”أن يكونوا أول من يفهم واقع المثليين”، نظرا لأن “القمع الجنسي هو الأسلوب الأول، والأكثر خبثا وخطورة للقهر تحت أي نظام قمعي”. واصل ناشطو FUORI بالقول: “نحن ندافع عن الحاجة إلى ثورة جنسية، بالتوازي وانسجاما مع الثورة السياسية التي تجري بالفعل في كل بلد”[7].
نحن نتعامل هنا مع منظمة سياسيا مرتبكة وغير متجانسة، لكنها تدفع بواسطة الظروف المادية نحو فكرة تغيير شامل في المجتمع. لو كانت هناك قيادة ماركسية ثورية على رأس الحركة العمالية، لكان في مقدورها أن تقدم أساسا نظريا ملموسا لذلك التغيير، إضافة إلى برنامج ثوري قادر على توحيد النضال ضد الاستغلال الرأسمالي والنضال ضد القمع المعادي للمثلية. لكن، عوضا عن ذلك، رد القادة الإصلاحيون والستالينيون بموقف معاد بشكل واضح.
بعد مرور بضعة أسابيع على مظاهرة سان ريمو، في فاتح ماي 1972، نظم فرع روما لـFUORI، بالتعاون مع مجموعات أخرى، مظاهرة في ساحة كامبو دي فيوري، “احتفالا بالفرح، وضد العمل ومن أجل الحرية الجنسية”. إلى أن هاجمتهم مجموعة من الناشطين من اليسار غير البرلماني، “معرفين عن أنفسهم كأعضاء في بوتيري أوبرايو [سلطة العمال، مجموعة يسارية شيوعية متطرفة]، وقد صاحوا :”اللواط خارج كامبو دي فيوري، وبدأوا في رش المحتفلين بدلاء الماء”[8].
بالنسبة للحزب الشيوعي الإيطالي (PCI)، الذي لم يكن قد تناول المسألة رسميا سابقا، فقد نشر في عام 1974 مقالا بقلم لوتشيانو غروبي في مجلة “كريتيكا ماركسيستا” Critica Marxista (العددين 3-4)، طرح فيه الأفكار التالية: “إن العلاقة التي نرى ضرورة إقامتها بين المجتمع وبين الطبيعة تُظهر مدى تعارض المثلية الجنسية مع هذه العلاقة، من خلال تناقضها مع الغريزة الأساسية لكل كائن حي، والتي هي استمرارية النوع. ولذلك، فإن المثلية الجنسية تضعف شخصية الإنسان وتغيرها بعمق. وغالبا ما تنشأ من العزلة، وتنتهي أيضا بالعزلة”[9]. لا حاجة للتعليق على مدى عدم الارتياح الذي شعر به العمال والطلاب المثليون أثناء نشاطهم في ذلك الحزب. فتح مقتل بيير باولو باسوليني عام 1975 النقاش داخل الحزب، مما أدى إلى تغيير موقفه من المثلية الجنسية بحلول نهاية السبعينيات، وذلك قبل بداية تراجع موجة النضال المسلح التي اجتاحت إيطاليا منذ عام 1968. وكل ذلك تم في إطار سياسة الحزب الإصلاحية المتزايدة.
لذا وبدلا من تقديم منظور للنضال السياسي العام لناشطي الحركة المثلية الجديدة، والذي كان من الممكن أن يتغلب على الانتقائية السياسية العامة، تم إبعاد هؤلاء عن الحركة العمالية، مما أدى بهم إلى سلوك مسارات مختلفة. من وجهة نظر تنظيمية، اندمجت FUORI في عام 1974 مع الحزب الراديكالي -الذي كان يميل نحو اليسار في تلك السنوات- وتخلت بذلك عن أي منظور ثوري، مكتفية بالنضال من أجل الحقوق المدنية ضمن حدود المجتمع البرجوازي. انفصلت بعض الشخصيات القيادية في FUORI، مثل ماريو ميلي، عن الحركة بسبب هذا، واتجهت نحو اليسار خارج البرلمان، ولكن لسوء الحظ في وقت كان فيه هذا الأخير على وشك الدخول في أزمة لا رجعة فيها.
وفي سياق الهدوء الذي أعقب الموجة الهائلة من الصراع الطبقي في السبعينيات، شهدت حركة تحرير المثليين تشرذما، مما دفعها إلى التركيز على الحملات من أجل الرعاية الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بقضية الإيدز في الثمانينيات، والتضامن ضد العنف ضد المثليين، والنضال من أجل قوانين ضد التمييز، ولاحقا من أجل الاعتراف بالحقوق المدنية. وهكذا، كانت هناك عودة إلى النهج الإصلاحي والتصالحي الذي اتبعته مجموعات المثليين في الخمسينيات، بينما استند، من ناحية أخرى، إلى مكاسب نضال السبعينيات التي أعلنت مرة واحدة وإلى الأبد طبيعية الوجود المثلي، والفخر، والكرامة. كل هذا أجبر المجتمع العلمي على تغيير نهجه في السنوات اللاحقة والاعتراف بشرعية السلوك المثلي، مما كسر عزلة النضال من أجل حقوق المثليين.
على هذا الأساس، تطورت جمعية Arci-gay الإيطالية، ونمت من عدد قليل من الفروع في أوائل الثمانينيات إلى شبكتها الحالية على مستوى البلاد.
نظريات جديدة أم طريق مسدود؟
بينما أدى تراجع الحركات في الثمانينيات والتسعينيات إلى التراجع عن النضال المفتوح، نشأ في العالم الأكاديمي نقاش حول مسألة الهوية الجنسية، مما أدى إلى بروز ما يسمى بالدراسات الكويرية، أو النظرية الكويرية، التي تعود بدايتها إلى عام 1990. في عام 1989، نشرت جوديث بتلر كتاب “مشكلة النوع الاجتماعي”، الذي أصبح مرجعا أساسيا للمزيد من التوضيحات اللاحقة.
وعلى الرغم من أن تلك التوضيحات لم تتطور أبدا إلى نظرية عامة، فإن النقطة المركزية هي نقد فكرة أن الهوية الجنسية والجنس البيولوجي (الذكر والأنثى) موجودان في الطبيعة. على العكس، هما نتاج مجتمع ذو معايير مغايرة، مجتمع يؤسس لتقسيم ثنائي قائم على “خطاب” مغايري الجنس. هذه النظرية هي الحلقة الأخيرة في سلسلة فكرية تبدأ بالانفصالية النسوية (ضد المجتمع الأبوي، وعبر تأليب المرأة ضد الرجل)، مرورا بالانفصالية المثلية (لم يعد يجب تمكين المرأة لأنها تُعرف باعتبارها امرأة نظرا لعلاقتها بالرجال: فقط السحاقية بالمعنى السياسي يمكنها التمرد على الهيمنة الأيديولوجية للذكور)، وتنتهي بنظرية الكوير (كل شكل من أشكال الهوية الجنسية هو نتيجة للهيمنة الأيديولوجية الأبوية المغايرة، وبالتالي يجب رفضها جميعا).
بالنسبة لأولئك الذين لا يُسمح لهم بالتعبير بحرية عن هويتهم الجنسية أو ميولهم الجنسية، قد تبدو هذه النظريات بمثابة رفض جذري للاكراهات الاجتماعية، وبالتالي قد تبدو جذابة. المشكلة هي أنه بمجرد أن يتعمق المرء قليلا، يتبين أن هذه النظريات تمثل طريقا مسدودا لأي شخص يحاول تغيير الأمور فعليا.
وفقا لبتلر، الهوية الجندرية ليست طبيعية ولكنها تنشأ “أدائيا”، أي على أساس تكرار الأفعال التي تحددها المعايير والخطاب الاجتماعي الراسخ[10]. إن هذه الهوية المصطنعة هي التي تعطينا فكرة وجود جنسين طبيعيين، الذكر والأنثى. هذه نظرية مستلهمة من فوكو: “بالنسبة لفوكو، لا يتم “تجنيس” الجسد بأي معنى دقيق قبل تحديده ضمن خطاب معين يستثمر في فكرة الجنس الطبيعي أو الأساسي. يكتسب الجسد معانيه داخل الخطاب فقط في سياق علاقات السلطة. الجنسانية هي تنظيم تاريخي محدد للسلطة، الخطاب، الأجساد، والعواطف. وبالتالي، يفهم فوكو الجنسانية كمنتج لمفهوم “الجنس” الاصطناعي الذي يعمل بشكل فعال على توسيع وإخفاء علاقات السلطة التي أدت إلى نشأته”[11].
وبالتالي، فإن الذكر والأنثى، وكذلك المغايرين جنسيا والمثليين والمثليات ومزدوجي الميل الجنسي، كلها فئات وهمية ناتجة عن هذا الآلية، لأنه نظرا لعدم وجود الجنسين البيولوجيين، فلا توجد أيضا توجهات جنسية.
هذا مثال كلاسيكي على كيفية أخذ حقيقة جزئية وفصلها عن الواقع وجعلها نهاية الحجة التي تؤدي إلى طريق مسدود. لا أحد يشكك في حقيقة أن وعي الشخص يتأثر بشكل كبير بالسياق الاجتماعي الذي يتطور فيه. ولكن، انطلاقا من هذه المقدمة الصحيحة، ما الجدوى من إنكار وجود الجنسين، الذكر والأنثى، بكل اختلافاتهما التشريحية والبيولوجية؟[12] هذا الأمر له أهمية معينة إذا انتقلنا، على سبيل المثال، من عالم الفرضيات الأكاديمية إلى العلاجات الطبية، أو إلى الحمل والرضاعة الطبيعية. علاوة على ذلك، حتى إذا قلت إن وعيي (وبالتالي الطريقة التي أتصور بها هويتي الجندرية) يتحدد بالظروف الاجتماعية التي أعيش فيها، هل يجعل ذلك وعيي أقل واقعية؟ كلا، إنه يعكس طروف وجودي الحقيقية، سواء كانت طبيعية أو اجتماعية، وسوف يتطور مع تطور المجتمع.
ولكن الأهم من ذلك: في ظل هذه النظرية، كيف يمكنني النضال من أجل التحرر الجنسي؟ ببساطة، لا أستطيع. للاقتباس مرة أخرى من بتلر: “لذا، لا يمكن الإطاحة بالسلطة أو رفضها، بل يمكن إعادة استخدامها فقط. في رأيي، يجب أن يكون التركيز المعياري للمثلي والمثلية على إعادة استخدام وتوزيع السلطة بطريقة تخريبية وكاريكاتورية بدلا من الفانتازيا المستحيلة المتمثلة بتجاوزها بالكامل”[13]. أي أن أفضل ما يمكننا تحقيقه هو محاكاة إبداعية، كاريكاتيرية لهويات الجنسين، لإظهار أنها ليست كيانات طبيعية بل هي بالفعل منتج مصطنع. بفعل ذلك، نثبت أن الجندر لا وجود له، ومن ثم تكون هناك إمكانية لـ”تكاثر تكوينات الجندر خارج الأطر التقييدية للهيمنة الذكورية والإلزامية الجنسية المغايرة[14]“. تمخض الجبل فأنجب فأر ما بعد الحداثة: أستطيع رؤية الاضطهاد الجندري ولكنني تخليت عن التحليل الطبقي للمجتمع، لذا لم أعد أرى أسباب هذا الاضطهاد؛ ثم أرفع الاضطهاد (أو بالأحرى: جانب واحد أو جانب خاص من الاضطهاد، القوة المغايرة جنسيا) إلى كيان ميتافيزيقي أنسب إليه كل شيء، وليست لدي أدنى فكرة عن كيفية الإطاحة به؛ الشكل الوحيد المتبقي من التمرد هو أن أسقط في الذاتية حيث أنكر الواقع وأدعي أن الجميع يمكنهم اختراع واقعهم الخاص، دون تغيير أي شيء خارج وعيي الشخصي.
ليس من المستغرب أن الطبقة السائدة لا تخشى هذه النظريات. في الوقت نفسه، من الواضح أن هذه النظريات نفسها ليس لديها ما تقدمه، أو لديها القليل فقط لتقدمه خارج دائرة النقاش الأكاديمي. كل أولئك الذين يحتاجون بشكل ملح إلى النضال من أجل حقوقهم في العالم الحقيقي، سيكون من الأفضل لهم أن يتسلحوا بنظريات وأشكال نضال أكثر حدة.
هنا، من المفيد النظر بإيجاز إلى فكرة التقاطعية، التي أصبحت شائعة جدا في الآونة الأخيرة بين بعض شرائح الحركة. تعني، بشكل أو بآخر، أنه في المجتمع توجد عدة أشكال من الاضطهاد (بناء على الجنس، الاثنية، الطبقة، التوجه الجنسي، إلخ)، وهذه تتشابك وتتداخل عرضيا، وبالتالي الطبيعة العرضية للحركات وإمكانية جمعها في تحالفات.
بتلر نفسها تبرز حقيقة أن الحاجة إلى إضعاف الفئة العامة لـ “المرأة” تنشأ من “انتقادات من النساء اللواتي يدعين أن فئة ‘النساء’ معيارية وإقصائية، ويتم الاستناد إليها للحفاظ على الامتياز الطبقي والعرقي ذو الأبعاد غير المحددة”[15]. صحيح! في الواقع، الاضطهاد الجندري ليس هو نفسه بالنسبة للمرأة العاملة والمرأة البرجوازية، وإن مسائلة النضال من أجل تحرر النساء لامتيازات الطبقة السائدة يؤدي إلى انقسام على طول الخطوط الطبقية مع انسحاب النساء البرجوازيات، لأنه يتعين عليهن الدفاع عن امتيازاتهن الطبقية المادية، حتى لو بقين خاضعات لأزواجهن (البرجوازيين) داخل المنزل.
نرى نفس الشيء في حركة المثليين عندما ندخل في مجال النضالات الاقتصادية (من أجل الإسكان، الوظائف، الرعاية الصحية، وما إلى ذلك)، وهو ما يجعل الحقوق المدنية ملموسة. هذا ببساطة يخبرنا أن التناقض الأساسي في المجتمع، التناقض الطبقي، هو ما يحدد الإطار الذي نناضل ضمنه وأنه فقط من خلال تقدم النضال الطبقي حتى إسقاط الرأسمالية، سيمكننا تقديم منظور لمناصرة الحركات التي تناضل ضد العديد من أشكال الاضطهاد الموجودة في المجتمع.
إذا تخلينا عن فكرة أن النضال الطبقي هو الأساس لكل شيء، فما الذي يتبقى؟ لدينا محاولة مستمرة -وغير مكتملة- لبناء تحالفات بين حركات مختلفة (المثليين، المناهضين للعنصرية، البيئة، إلخ)، ذات تركيبات وتوازنات متغيرة، حسب القوة النسبية لكل حركة في لحظة معينة. في النظرة ما بعد الحداثية، يصل هذا النهج إلى حد إعادة تعريف هوية المشاركين أنفسهم: “تحالف مفتوح سيعترف بالهويات التي تتغير حسب الحاجة. سيكون تجمعا مرنا يسمح بالاتفاق والاختلاف دون التقيد بتعريف ثابت”. لذا، يمكن أن تتغير هويتي في كل مناسبة، بناء على تكوين الاجتماع أو ما يقرره! ليس من المستغرب أن يشعر الناس بالارتباك بسبب كل هذا…
ليس من المفاجئ أن هذه النظريات اكتسبت شعبية في فترة ركود الصراع الطبقي، عندما كان المرجع الرئيسي -الطبقة العاملة- مفقودا، ولم يكن بإمكانه تقديم إمكانية حقيقية لإسقاط الرأسمالية ومعها كل أشكال الاضطهاد التي يخلقها أو يديمها. نهوض الصراع الطبقي، كما هو الحال دائما، سيكون له تأثير توضيحي في المجال الأيديولوجي كذلك.
الحقوق المدنية خلال أزمة الرأسمالية
منذ عام 2000، شهدنا في العديد من البلدان تمرير قوانين ضد التمييز ومن أجل الحقوق المدنية، من زواج المثليين إلى الاتحادات المدنية. وقد تم تحقيق هذه المكاسب المهمة بفضل الضغط المستمر من قبل الناشطين المثليين والدعم المتزايد في المجتمع، بما في ذلك بين الأشخاص المغايرين جنسيا، للمساواة في الحقوق. اليوم، ترفع راية الحقوق المدنية ليس فقط في اليسار، ولكن أيضا داخل قطاعات من الطبقة الرأسمالية وممثليها السياسيين: لدينا اليوم الدولي لمكافحة رهاب المثلية الذي يروج له الاتحاد الأوروبي، ونرى قرارات تعتمدها الأمم المتحدة بشأن هذه المسألة، وهكذا.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نحمل أي أوهام أو أن نتبنى نهجا غامضا تجاه أي من هذا. إن هذه الحكومات “الليبرالية” و”القطاعات المستنيرة” من البرجوازية هم نفس الأشخاص الذين يدعمون الديكتاتوريات في أجزاء مختلفة من العالم حيث يتم شنق أو قطع رؤوس المثليين والمثليات. لذلك، نرى كيف أن الحكومة الأمريكية -سواء في عهد ترامب أو أوباما- تزود السعودية بالأسلحة. نفس الحال مع جميع القوى الأوروبية الكبرى التي، بينما تشرع زواج المثليين، تدعم في الوقت نفسه نظام السيسي في مصر الذي، بالإضافة إلى جميع الاعتقالات والقتل والتعذيب للمعارضين السياسيين، أطلق أيضا قمعا شديدا ضد المثليين. يمكن استخدام هذا النفاق لأغراض رجعية، ويمكن أن يصبح الدفاع عن حقوق المثليين ذريعة لدعم السياسات الإمبريالية. هذا واضح عندما يقال لنا إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لديها التشريعات الأكثر تقدما بشأن حقوق المثليين. هل هذا يخول لإسرائيل ارتكاب المجازر والقصف وفرض الحصار على الفلسطينيين، الذين تهتم إداراتهم بشكل أقل بالتشريعات بشأن الحقوق المدنية؟ في هولندا، تستخدم الحكومة دعم حقوق المثليين للحد مما يسمى هجرة “الذين يتصفون برهاب المثلية”، حتى مع وجود اختبارات دخول في السفارات الهولندية حول العالم. إذا فقدنا الرؤية العامة، وخاصة إذا تخلينا عن المنظور الطبقي، يمكننا بسرعة أن ننتهي في معسكر الرجعية، كما فعلت بعض مجموعات حقوق المثليين، الأكثر اهتماما بالفوز بمناصب السلطة والأكثر استعدادا لغض النظر عما تفعله الحكومات[16].
ليس لدى إيكيا أي مشكلة في وضع صور للأزواج الذكور في كتالوجها، بشرط أن يكون لديهم المال اللازم لشراء المطبخ. وبنفس الطريقة، ليس لديها مشكلة في إدراج الآباء المطلقين في إعلاناتها، طالما لديهم المال لشراء نفس الأثاث لغرفتي نوم للطفل، بحيث يكونان متطابقين تماما في كلا المنزلين. من ناحية أخرى، يجب على المثليين العاطلين عن العمل أن يتقبلوا حقيقة أنهم غير موجودين في عالم الإعلانات، تماما كما هو الحال مع المغايرين العاطلين عن العمل.
أما على الجبهة السياسية، فيحاول قسم من الطبقة السائدة نزع فتيل الصراع الاجتماعي المحتمل عن طريق استيعاب ما يمكن امتصاصه في ظل النظام، والسعي للحصول على دعم القادة المعتدلين لحركة المثليين. وفي الوقت نفسه، يروجون لسياسات التقشف الصارمة، والمعادية للأجانب، والمناهضة للعمال، ويقومون بتخفيضات في الخدمات الأساسية.
وهكذا نرى كيف أن قسما من الطبقة السائدة، في مواجهة أزمة الأسرة وضغط القاعدة، قد تقبل الاعتراف القانوني بالأزواج المثليين. ومع ذلك، يواصل دفع المثليين نحو الدور الأساسي للأسرة في المجتمع الرأسمالي ودعم النظرة الأيديولوجية للبرجوازية. ومن هنا يأتي الترويج لزواج المثليين، الذي يجب أن يتكيف مع نموذج الأسرة الأحادية. يؤدي هذا في بعض الحالات إلى تكرار الأدوار الجندرية الذكورية والأنثوية بين الزوجين المثليين، بما في ذلك تقسيم مهام العمل المنزلي وتبني القيم البرجوازية التقليدية.
هل يعني ذلك أننا نقلل من شأن مسألة الحقوق المدنية؟ كلا، إطلاقا! نحن نناضل من أجل الاعتراف الكامل وتطبيق الحقوق المدنية، أي المساواة الكاملة في حقوق الأسرة والفرد، بغض النظر عن الجنس والتوجه الجنسي. يشمل ذلك حق الزواج والتبني (ويجب أن يطبق أيضا على الأشخاص العزاب) والتبني لابن الزوج (أي حق تبني طفل الشريك) أيضا للأزواج المثليين.
ومع ذلك، يجب ألا نفقد الرؤية العامة ولا ننسى إلى أي جانب من المتراس نقف نحن في الصراع الطبقي.
لهذا السبب، فإننا لا نشمل من بين الحقوق التي ندافع عنها تشريع الأمومة البديلة، والذي نعارضه لأنه تحت الرأسمالية سيؤدي بالضرورة إلى خلق سوق للنساء اللواتي، بسبب الحاجة الاقتصادية، يبعن أجسادهن ويخضعن لتجارب مؤلمة للغاية مثل المرور بالحمل ثم نزع الطفل الوليد منهن، مع كل العواقب الجسدية والنفسية التي ينطوي عليها ذلك. لا نشك في أن هناك حالات يتم فيها ذلك طوعا، كـ”هدية”، ولكن الواقع الاجتماعي السائد يختلف تماما عن ذلك، ولا يمكننا قبوله.
يجب أن نؤكد أيضا على أن الرغبة في إنجاب ذرية بيولوجية، أو الفكرة القائلة بأن الارتباط العاطفي بالطفل مرتبط بالضرورة بالأبوة البيولوجية، قد غرست فينا بسبب الحاجة إلى نقل الملكية من خلال الأسرة الأحادية، والتي لم تكن موجودة قبل ظهور الملكية الخاصة:
قال أحد الأمريكيين الأصليين لأحد المبشرين: “أنتم البيض تحبون أطفالكم فقط. نحن نحب أطفال العشيرة. إنهم ينتمون للجميع ونحن نهتم بهم. إنهم عظم من عظامنا ولحم من لحمنا. نحن جميعا آباء وأمهات لهم. البيض هم المتوحشون؛ لا يحبون أطفالهم. إذا أصبح الأطفال أيتاما، يجب دفع المال للناس لرعايتهم. نحن لا نعرف شيئا عن هذه الأفكار الهمجية”[17].
الثورة والتحرر
نحن نناضل من أجل الاعتراف بجميع الحقوق المدنية، ونرحب بها بحماس عندما تكتسب، حتى تحت الرأسمالية. لكن يجب علينا أيضا أن نكون على علم بأن اشتداد الصراع الطبقي يمكن أن يدفع الطبقة السائدة إلى اختيار نهج مقاربة أكثر رجعية، وبالتالي سحب ما منحته سابقا. لنتذكر أن الكلينتونية تؤدي إلى الترامبية، والماكرونية إلى اللوبينية، ما لم يتم إيقافهم بالنضال الطبقي. لا يمكن لأي انتصار أن يكون دائما طالما نحن داخل النظام الرأسمالي.
وفي المجالات التي تم فيها منح هذه الحقوق، هل هدفنا حقا هو أن يتم استغلال المثليين والمغايرين على قدم المساواة؟ ما الفائدة من الحقوق المدنية إذا لم تضمن لي بيتا أو وظيفة، إذا كان نظام الرعاية الصحية في حالة انهيار وليس لدي المال للوصول للرعاية الطبية لي ولأحبائي، وإذا لم يكن لدي تصريح إقامة؟ ما الفائدة من الحق في الزواج المثلي إذا كان علي أن أكرس كل وقتي وطاقتي لصاحب عمل وأن أعود منهكا إلى المنزل؟
بمجرد أن ندخل في مشاكل الحياة اليومية، يتوضح الانقسام الطبقي داخل حركة المثليين، لأن الحياة اليومية تختلف بشكل كبير بناء على الطبقة التي ينتمي إليها الشخص. رأينا ذلك بوضوح في إيطاليا خلال تحركات عام 2016 لدعم الزيجات المدنية، حيث كانت قاعدة الحركة، المكونة في الغالب من الشباب والعمال المؤقتين والطلاب، أكثر تقدما بكثير من القيادة (بمن فيهم Arci-gay)، الذين رأوا التحركات مجرد وسيلة لحشد التأييد للقانون الجديد، وربما للضغط على الجناح اليميني للمجموعة البرلمانية للحزب الديمقراطي. ما رأيناه بعد ذلك هو قيام الحزب الديمقراطي بإلغاء تبني أبناء الشريك والحد من نطاق الإصلاح. وقد قبلت قيادة الحركة تلك التسوية، لكن القواعد طالبت باستئناف الاحتجاجات.
كان ذلك الانقسام بين القيادة وجماهير المحتجين واضحا لنا عندما تدخلنا في الحركة، وكنا ندعو إلى تعميم النضال ضد حكومة الحزب الديمقراطي ليشمل النضال من أجل الوظائف والإسكان والرعاية الاجتماعية. تبنى معظم المحتجين شعاراتنا بحماس، بينما شعرت القيادة -وأحيانا الحزب الديمقراطي نفسه، الذي نظم اجتماعات لإظهار اهتمامه بالحقوق المدنية-بالحرج، ودعت الناس إلى عدم المبالغة. لا يمكننا تفويض هؤلاء الأشخاص مهمة قيادة النضال من أجل حقوقنا.
رأينا ساحات مزدحمة حيث لم يكن أولئك الذين يطالبون بالحقوق المدنية الكاملة للجميع مشكلين من مجتمع المثليين فقط، بل كان هناك أيضا العديد من المغايرين جنسيا، وشهدنا كيف ارتبط النضال من أجل الحقوق المدنية فورا بالنضال من أجل السكن والوظائف والرعاية الصحية. مثل هذه الوحدة يمكن أن تؤدي إلى النصر. المطلوب هو أن تتطور حركة المثليين على أسس طبقية، مع اندماجها الكامل في الحركة العمالية، وأن تتبنى الحركة العمالية برنامجا ثوريا.
نحن بحاجة إلى الإطاحة بالرأسمالية، وتحرير أنفسنا من الطبقة السائدة، والاستيلاء على الموارد الإنتاجية والثروات واستخدامها بطريقة مخططة ومتناغمة، ليس لتحقيق الأرباح لصالح الأقلية، بل لتلبية الاحتياجات الجماعية للمجتمع. يجب أن تكون الأعمال المنزلية اجتماعية؛ وأن تكون رعاية الأطفال وتعليمهم ذات جودة عالية. ينبغي أن يكون لكل فرد الحق في الحصول على منزل، وينبغي تخفيض ساعات العمل بحيث يكون لدى الجميع الوقت والطاقة ليعيشوا حياتهم.
وعلى هذا الأساس المادي، سنكون قادرين على التخلص من الأخلاق التي تفرضها البرجوازية فيما يتعلق ببنية الأسرة والتوجه الجنسي. سنتمكن من إلقاء النظام الأبوي ورهاب المثلية الجنسية في مزبلة التاريخ، وسنكون أحرارا في عيش حياتنا كما نرغب، وستكون للجميع حرية التعبير عن مشاعرهم الجنسية والعاطفية. وتحديد كيفية تحقيق ذلك، وبأي أشكال وأي علاقات أسرية سيقيمها المجتمع، هي مهمة تخص الأجيال القادمة.
أليسيو ماركوني، هيئة تحرير مجلة Rivoluzione[1]
12 سبتمبر2017
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
LGBT: Liberation and Revolution
الهوامش:
[1] جريدة الفرع الايطالي للأممية الشيوعية الثورية
[2] ILGA, state-sponsored homophobia report 2017
[3] إننا نستشهد هنا كحجة تكميلية بانتشار السلوك المثلي في مملكة الحيوان، وهو ما يسلط الضوء على وجوده في الطبيعة، لكنه ليس قاطعا بسبب الاختلافات بين السلوك الاجتماعي والعاطفي للإنسان والحيوان. ولنقتبس هنا دراسة حديثة نُشرت كجزء من معرض “ضد الطبيعة؟” في متحف التاريخ الطبيعي في أوسلو، نجد فيه: “لقد تم الابلاغ عن وجود المثلية الجنسية […] في أكثر من 1500 نوع من الحيوانات، وتم توثيقها جيدا بالنسبة لخمسمائة منها، ولكن المدى الحقيقي ربما يكون أعلى من ذلك بكثير”.
[4] نظر، من بين النصوص العديدة حول هذا الموضوع: Eva Cantarella, Bisexuality in the Ancient World, Yale University Press, 2002.
[5] حول هذه المحاولة وفشلها، انظر فيلهلم رايش، “النضال من أجل “حياة جديدة” في الاتحاد السوفياتي”، في الثورة الجنسية، 1936. انظر أيضا ليون تروتسكي، “مشاكل الحياة اليومية”، وفصل “الأسرة والشباب والثقافة” في الثورة المغدورة.
[6] The Revolution Betrayed, Chapter 7, Family, Youth and Culture, Thermidor in the Family
[7] Gianni Rossi Barilli, Il movimento gay in Italia (“The gay movement in Italy, not translated into English). Feltrinelli, 1999, p. 51—52.
[8] Ibid., page 59.
[9] Fabio Giovannini, Comunisti e diversi: il PCI e la questione omosessuale, (“Communists and the diverse: the PCI and the homosexual question,” not translated into English), Edizioni Dedalo, 1980, p. 72.
[10] “بعبارة أخرى، فإن الأفعال والإيماءات والرغبات المعبر عنها والمنفذة تخلق وهما بوجود جوهر جنساني داخلي منظم، وهو وهم يتم الحفاظ عليه خطابيا لأغراض تنظيم الجنس داخل الإطار الإلزامي للجنسانية الإنجابية”. (Judith Butler, Gender Trouble, Routledge, 1990)
[11] Ibid
[12] لا يهدف هذا المقال إلى تحديد أصول الهوية الجنسية. فمن وجهة نظر مادية، نقتصر هنا على القول بأنها تتطور بالضرورة من مزيج من العناصر الطبيعية (الجسدية والبيولوجية) والنفسية والاجتماعية.
[13] Ibid
[14] Ibid
[15] Ibid
[16] انظر الحالات المبلغ عنها في: https://paper-bird.net/2016/11/02/selling-out-the-gays-and-governmentality
[17] M.F. Ashley Montagu, Marriage: Past and Present, a Debate Between Robert Briffault and Bronislaw Malinowski, Boston, Porter Sargent Publisher, 1956, p. 48.