الرئيسية / التيار الماركسي الأممي / بيانات ومنظورات / الماركسية ضد سياسات الهوية

الماركسية ضد سياسات الهوية

هذه الوثيقة، التي عنوانها الأصلي هو: النظرية الماركسية والنضال ضد الأفكار الدخيلة على الطبقة العاملة، تمت المصادقة عليها بالإجماع من قبل المؤتمر العالمي للتيار الماركسي الأممي، الذي عقد في نهاية يوليو 2018،  وذلك بعد مناقشة شاملة على جميع مستويات التيار الماركسي الأممي قبلها بعام. هدف الوثيقة هو رسم خط فاصل بين الماركسية وبين مجموعة من الأفكار الطبقية الدخيلة المثالية وما بعد الحداثية، والتي أثرت، لبعض الوقت، على شريحة من النشطاء في الأوساط الأكاديمية، وتلعب دورا رجعيا داخل الحركة العمالية العالمية.

وهذه الوثيقة هي دعوة لتكثيف النضال النظري والسياسي ضد تلك الأفكار والأساليب.


لقد كشفت أزمة الرأسمالية عن العديد من التيارات العميقة لمعارضة المجتمع القائم وقيمه وأخلاقه ومظالمه واضطهاده الذي لا يطاق. يظل التناقض المركزي في المجتمع هو التناقض بين العمل المأجور ورأس المال. ومع ذلك فإن الاضطهاد يتخذ العديد من الأشكال المختلفة، بعضها أقدم وأعمق جذورا من عبودية العمل المأجور.

ومن بين أكثر أشكال الاضطهاد كونية وحدة، هناك اضطهاد النساء في عالم يهيمن عليه الذكور. إن تمرد النساء ضد هذا الاضطهاد الوحشي له أهمية أساسية في النضال من أجل الثورة الاشتراكية، والتي لا يمكن تحقيقها دون المشاركة الكاملة للنساء في النضال ضد الرأسمالية.

لقد وجد استقرار المجتمع الطبقي، على مدى قرون، نقطة دعم صلبة له في مؤسسة الأسرة، أي استعباد الرجال للنساء. وهذا الشكل من العبودية أقدم بكثير من الرأسمالية، إذ شكل ظهور الأسرة الأبوية، كما أوضح إنجلز، «الهزيمة التاريخية العالمية للجنس الأنثوي. فقد تولى الرجل القيادة في البيت أيضا. وانحطت مكانة المرأة وفرضت عليها العبودية، وأصبحت أمة لشهوته ومجرد أداة لإنجاب الأطفال».

هذه الهيمنة الذكورية والمكانة الدونية للنساء في المجتمع والأسرة أصبحت الآن موضع تساؤل، مثلها في ذلك مثل جميع المؤسسات البربرية الأخرى التي ورثناها عن الماضي. لماذا يجب على المرأة أن تستمر في تحمل مكانة المواطن من الدرجة الثانية؟ إن مساءلة الدور المخصص للمرأة في المجتمع والأسرة له تداعيات ثورية جدية ويمكن أن يؤدي إلى مساءلة ثورية للمجتمع الرأسمالي نفسه.

انحطاط الرأسمالية يؤدي إلى تدهور خطير في أوضاع جميع العمال، لكنه يفرض ظروفا قاسية بشكل خاص على النساء والشباب. يجد الكثيرون أنفسهم محرومين من الحصول على عمل وسكن مناسبين. والآباء أو الأمهات الوحيدون وأطفالهم محكوم عليهم بالفقر والمشقة التي لا تنتهي. بل حتى المأوى يصبح بالنسبة للكثيرين أمرا صعبا أو حتى مستحيلا. وفي مكان العمل تعاني النساء من عدم المساواة في الأجر وجميع أنواع المضايقات وسوء المعاملة. لقد أصبح الوضع لا يطاق نهائيا.

من الممكن الحكم على مستوى حضارة ثقافة معينة من خلال معاملتها للنساء والأطفال وكبار السن. ومن وجهة النظر هذه فإن الرأسمالية الحديثة أقل تحضرا وأكثر وحشية وقسوة من الأشكال السابقة للمجتمع البشري. إن مستوى الاغتراب والانحطاط لدى البشر واللامبالاة تجاه المعاناة الإنسانية والأنانية الفجة قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ.

يتجلى انحطاط المجتمع الرأسمالي في أبشع صوره في وباء العنف ضد النساء. وقد عبر ذلك عن نفسه في الهند وباكستان والأرجنتين والمكسيك وبلدان أخرى، في عدد غير مسبوق من عمليات الاختطاف والاغتصاب والقتل. لكن حتى في المجتمعات التي تحب أن تصف نفسها بأنها “متحضرة”، تُرتكب فظائع مماثلة ضد النساء والأطفال. هذه أعراض مقززة لمرض مجتمع متعفن جاهز للإطاحة به.

إن الشعور المتزايد بالاغتراب والظلم والاضطهاد يغذي حركة تمرد عامة بين النساء ضد الوضع القائم. استيقاظ ملايين النساء، وخاصة جيل الشابات اللواتي يشعرن بسخط شديد إزاء التمييز والاضطهاد والإذلال الذي يتعرضن له في ظل نظام جائر، ظاهرة تقدمية وثورية عميقة يجب أن نحتفل بها وندعمها بأقصى درجات الحماس.

وغني عن الذكر أن الماركسيين يؤيدون بنسبة مائة بالمائة التحرر الكامل للنساء. لا يمكن أن يكون هناك أدنى تردد أو غموض أو شك في هذا الصدد. يجب أن نناضل ضد اضطهاد النساء على جميع المستويات، ليس فقط بالأقوال بل بالأفعال. لا يمكننا تحت أي ظرف من الظروف أن نسمح بأن يسود، بطريقة ما، انطباع بأن هذه مسألة ثانوية ويمكن إدراجها ضمن التصنيف العام للصراع الطبقي. سيكون من الخطأ القاتل لقضية الماركسية إذا اعتقدت النساء أن الماركسيين على استعداد لتأجيل النضال من أجل حقوقهن إلى ما بعد انتصار الاشتراكية. هذا غير صحيح نهائيا وهو صورة كاريكاتورية بشعة عن الماركسية الثورية.

وفي حين أنه من الصحيح أن التحرر الكامل للنساء (والرجال) لا يمكن تحقيقه إلا في مجتمع لا طبقي، فإنه من الصحيح أيضا أن مثل هذا المجتمع لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الإطاحة الثورية بالرأسمالية. لا يمكن أن يطلب من النساء أن تضعن جانبا مطالبهن العاجلة والملحة وانتظار وصول الاشتراكية. إن انتصار الثورة الاشتراكية مستحيل بدون النضال اليومي من أجل التحسينات في ظل الرأسمالية.

يجب على الماركسيين أن يناضلوا من أجل حتى أصغر الإصلاحات التي يمكن أن تحسن مستويات عيش العمال في ظل الرأسمالية، وذلك لسببين: أولا لأننا نناضل من أجل الدفاع عن العمال ضد الاستغلال، وللدفاع عن مستويات المعيشة والحقوق الديمقراطية وكل شروط الوجود الحضاري، وللدفاع عن الثقافة والحضارة ضد الهمجية. وثانيا، وهو الأهم، لأنه فقط من خلال تجربة النضال اليومي يمكن للطبقة العاملة أن تكتسب إحساسا بقوتها الخاصة وتطور قوتها التنظيمية وترفع وعيها الجماعي إلى المستوى الذي يتطلبه التاريخ.

أما مطالبة العمال، كما يفعل العصبويون والدوغمائيون، بتنحية مطالبهم اليومية جانبا “لصالح الثورة”، فهي ذروة الغباء. سوف يحكم علينا ذلك بالعقم الكامل والعزلة المطلقة. بالسير على ذلك الطريق ستبقى الثورة الاشتراكية حلما مستحيلا إلى الأبد. وبنفس الطريقة فإن النضال من أجل النهوض بوضعية النساء، وضد رجعية النزعة الذكورية، ومن أجل الإصلاحات التقدمية والمساواة الكاملة في المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هو واجب أساسي على جميع الماركسيين الثوريين الحقيقيين.

يوم 08 آذار/مارس 2018، رأينا مؤشرا واضحا عن الإمكانيات الثورية الهائلة للحركة النسائية في إسبانيا، عندما استجاب 5.3 مليون شخص (من النساء والرجال) للدعوة إلى الإضراب. شارك مئات الآلاف في مظاهرات في جميع أنحاء إسبانيا. تمت هذه التعبئة الرائعة تحت راية الحركة النسوية، على الرغم من أنها عكست أيضا مزاجا هائلا من الاستياء الذي تراكم في المجتمع الإسباني حول مجموعة كبيرة من القضايا، على سبيل المثال المتقاعدين الذين نظموا أيضا مظاهرات حاشدة في نفس الوقت.

إلا أن القضايا المركزية في ذلك اليوم كانت تتعلق على وجه التحديد باضطهاد النساء: الفرق في الأجور، والعنف والتحرش ضد النساء في الأسرة وفي العمل وفي المؤسسات التعليمية وعبء الأشغال المنزلية، وما إلى ذلك. وقد تجلى ذلك في حالة العصابة التي ارتكبت جريمة الاغتصاب البشعة في بامبلونا، والسلوك الفاضح للقضاة اليمينيين، والذي كان دليلا واضحا على تعفن ورجعية الدولة الإسبانية بأكملها، والشرطة والقضاء، والتي كلها موروثة بشكل مباشر عن ديكتاتورية فرانكو نتيجة للخيانة التي يطلق عليها اسم الانتقال الديمقراطي.

من الحقائق الأساسية للماركسية أنه من الضروري في أي حركة جماهيرية التمييز بدقة بين العناصر الرجعية والعناصر التقدمية. إن وجود عنصر تقدمي هائل في تلك الحركة الرائعة هو أمر لا يرقى إليه الشك. ونحن لم نقتصر على دعمها فحسب، بل عبئنا وشاركنا فيها بحيوية وحماس.

لكنه سيكون من الخطأ تماما، وتعبيرا عن أحادية النظرة، إذا ما نحن أكدنا على هذا الجانب من الحركة وتجاهلنا الجانب الآخر. ماذا كان دور قادة تلك الحركة؟ لقد طالبن بأن تكون هناك اعتصامات للنساء وحدهن وبفصل النساء في المظاهرة وأردن ألا ترفع سوى الأعلام الأرجوانية فقط. كان من المفترض ألا يشارك في الإضراب سوى النساء فقط، في حين يأخذ الرجال مكانهن في العمل، أي أن يقوموا بدور كاسري الإضراب!

كان من شأن ذلك أن يقيد نطاق حركة 08 آذار/مارس بشدة، ويجعل الإضراب العام مستحيلا تماما. كان ذلك ضد مصالح الحركة تماما، وعكس بوضوح النظرة الضيقة والسياسات الرجعية والتقسيمية للنسويات البرجوازيات والبرجوازيات الصغيرات.

لقد تدخل رفاقنا ورفيقاتنا الإسبان بنشاط في هذه الحركة الجماهيرية وحظوا بتعاطف شديد. وعلى الرغم من أننا لا نعرف أنفسنا كنسويات/ين، فإننا نوضح بشكل كامل أننا نقف بكل إخلاص لصالح النضال من أجل تحرر النساء ونناضل جنبا إلى جنب مع كل أولئك الذين يكافحون ضد الاضطهاد. وفي جميع المظاهرات والاجتماعات لم نجد أي إشارة إلى أي تحيز ضدنا، على الأقل بين الغالبية العظمى من النساء اللواتي يعتبرن أنفسهن نسويات.

هل صحيح أن النسوية ليست مدرسة فكرية أو نظرية؟ هذا يعتمد على كيف تنظر إليها. صحيح تماما أن الملايين من اللائي شاركن في الإضرابات والمظاهرات التي شهدتها إسبانيا يوم 08 آذار/مارس، تحت راية النسوية، لم تكن لديهن أي علاقة على الإطلاق بالتحيزات النسوية للقيادة. لقد كن يناضلن بالفطرة ضد الظواهر الرجعية التي تصيبهن بسخط عارم بحق. هذه هي نقطة البداية للتطورات الثورية.

ومع ذلك فقد كانت قيادة تلك الحركة في أيدي النسويات البرجوازيات والبرجوازيات الصغيرات اللائي يمثلن بكل تأكيد مدرسة فكرية وأيديولوجية محددة تتعارض بشكل أساسي، ليس فقط مع الماركسية، بل وبشكل أساسي مع مصالح النضال من أجل تحرر النساء نفسها.

لقد أصبح مفهوم النسوية، في الوقت الحاضر، واسعا لدرجة أنه أصبح بلا معنى تقريبا. فجأة أصبح الجميع “نسويات/ين”. حتى السياسيون الرجعيون في الحزب الشعبي يصفون أنفسهم بأنهم نسويات/ين، لأنه، كما ترون، لديهم وزيرات نساء، جميعهن رجعيات وفاسدات مثل نظرائهن الرجال.

تصر النسخة الجديدة من الحزب الشعبي، أي حزب المواطنون (Ciudadanos)، بشكل خاص على أنها “نسوية” بالفطرة. لكن الطبيعة الحقيقية لهذه الحركة النسوية البرجوازية انفضحت بشكل صارخ من خلال حقيقة أن قائد الحزب ألبرت ريفيرا نفسه، صرح بأنه لا يمكنه دعم الإضراب النسوي في 08 مارس “لأنه [إضراب] مناهض للرأسمالية”. كما نشير أيضا إلى أن سياسيي حزب المواطنون (Ciudadanos) الذين قرروا أخيرا المشاركة في المظاهرات قد تعرضوا لصيحات استهجان من قبل المتظاهرين وتم طردهم من الحركة.

حتى بين القطاعات الأكثر تقدما، توجد جميع أنواع الالتباسات والأوهام، التي تغذيها عن قصد “منظرات” الحركة النسوية البرجوازيات و البرجوازيات الصغيرات. وهناك فكرة أخرى منتشرة حول الطابع “العابر” للحركة، أي أن الحركة يجب أن تشمل جميع النساء بغض النظر عن الطبقة أو الأيديولوجية السياسية، إلخ.

يمكننا، من خلال مقاربة ودية وصبورة، أن نكافح هذه التحيزات ونوضح الالتباس. لكنه يجب علينا أن نتجنب خلط الرايات. فمن أجل كسب أفضل العناصر، من الضروري الحفاظ دائما على موقف ماركسي حازم وواضح.

هل علينا أن نسمي أنفسنا نسويات/ين من أجل الارتباط بهذه الفئة المهمة؟ كل تجربتنا تؤكد أن الأمر ليس كذلك. والمثال التالي له أهمية كبيرة: نظمنا في أنتكيرة (مالقة) لقاء حول الإضراب النسوي ليوم 08 آذار/مارس مع العديد من المتحدثات المنتميات إلى اليسار والمنظمات النقابية. تحدثت إحدى رفيقاتنا في الاجتماع، وشرحت أنها نقابية وماركسية ثورية ووضحت برنامجنا. ومباشرة بعد نهاية الاجتماع، جاءت عندها مجموعة من الشابات، إلى رواقنا، وقلن إنهن يردن المشاركة. من الواضح أن تلك الشابات يعتبرن أنفسهن نسويات، لكن لم تكن لديهن مشكلة على الإطلاق في الالتحاق بالبرنامج الماركسي.

لو أن رفاقنا كانوا قد تبنوا موقفا عصبويا ودغمائيا تجاه تلك الحركة، لكانوا بلا شك قد عزلوا أنفسهم عن مثل أولئك النساء. لا يمكن أن يتبنى الماركسيون مثل تلك المقاربة الحمقاء. لكنه يجب علينا في الوقت نفسه أن نتبنى موقفا مبدئيا، بحيث نوضح بشكل جلي أننا ماركسيون نناضل من أجل حقوق النساء وأننا نعتبر أن هذا النضال المهم لا يمكن خوضه بنجاح إلا بوصفه جزءا من نضال طبقي ثوري عام من أجل التغيير الجذري للمجتمع.

نسوق فيما يلي مثالا مشابها للغاية، وهو موقف الماركسيين من المسألة القومية. هل نؤيد مطلب استقلال كتالونيا عن الدولة الإسبانية؟ نعم نؤيد ذلك. لكننا نفعل ذلك وفي نفس الوقت نوضح أنه على الأساس الرأسمالي، لن يحل الاستقلال شيئا. نحن ندافع عن جمهورية كتالونية عمالية، والتي يمكنها أن تشكل في المستقبل جزءا من فدرالية اشتراكية للشعوب الإيبيرية.

لكن هل نطلق على أنفسنا إذن اسم ماركسيين قوميين؟ كلا بالتأكيد! نحن لسنا قوميين، بل أمميين بروليتاريين. جزء من برنامجنا الأممي الثوري دعم نضال الشعب الكتالوني لتحرير نفسه من وصاية الدولة الإسبانية الرجعية، وحكومة الحزب الشعبي الفاسدة والملكية غير الديمقراطية الموروثة عن فرانكو. لكن عبارة “ماركسي قومي” مصطلح متناقض في حد ذاته.

ومرة أخرى، تؤكد تجربتنا في كتالونيا أنه ليس من الضروري استخدام مثل تلك اللغة الغامضة لإقناع أفضل العناصر وأكثرها ثورية بين العمال والشباب الذين بدأ العديد منهم في فهم الطبيعة المحدودة والرجعية للقومية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، ويبحثون عن بديل طبقي أكثر راديكالية وثورية.

كل المسائل -مسألة الاضطهاد القومي ومسألة النضال من أجل تحرر النساء ومسألة النضال ضد العنصرية- لها، في التحليل الأخير، طابع طبقي. هذا هو الخط الفاصل الأساسي الذي يفصل الماركسية عن القومية والنسوية، وكل الأشكال الأخرى للنضال ضد الاضطهاد.

ليست حركة 08 آذار/مارس في إسبانيا إلا تأكيدا لهذه النقاط. تمتلك الحركة الجماهيرية ضد اضطهاد النساء إمكانات ثورية هائلة. لكن هذه الإمكانات لا يمكن أن تصل إلى أقصى مدى لها إلا بقدر ما تتمكن  الحركة من تجاوز القيود الضيقة للنسوية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، والارتباط بالحركة العامة للطبقة العاملة لتغيير المجتمع. ومهمتنا هي مساعدة الحركة على إجراء هذا الانتقال الضروري.

أثناء مشاركتنا بنشاط في مثل هذه الحركات ومحاولة كسب أفضل العناصر، يجب علينا في جميع الأوقات أن نبرز بشكل واضح الانقسامات الطبقية الموجودة في كل تلك الحركات، مستندين إلى ما هو تقدمي فيها، بينما نفضح وننتقد العناصر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة في القيادة.

أهمية النظرية

لقد شدد إنجلز على أهمية النظرية بالنسبة للحركة الثورية. وأشار إلى أنه ليس هناك نوعان فقط من النضال (سياسي واقتصادي)، بل ثلاثة، حيث وضع النضال النظري على قدم المساواة مع النوعين الأولين. وقد وافق لينين بشكل قاطع على وجهة نظر إنجلز عندما كتب في “ما العمل؟”:

لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. مهما أكدنا على هذه الفكرة فلن نوفيها حقها في وقت يسير فيه الوعظ الانتهازي المألوف جنبا إلى جنب مع الافتتان بأضيق أشكال النشاط العملي.

إن الشرط المسبق لبناء أممية ماركسية حقيقية هو الدفاع عن المبادئ الأساسية للماركسية. وهذا يعني خوض صراع عنيد ضد جميع أنواع الأفكار التحريفية، والتي تعكس في جوهرها ضغوط الطبقات الأخرى على الحركة العمالية.

لقد خاض ماركس وإنجلز صراعا عنيدا ضد كل محاولات تمييع أفكار الحركة، وفضحا بلا رحمة النظريات الخاطئة، أولا عند الاشتراكيين الطوباويين ثم أتباع برودون وباكونين، وأخيرا ضد انتهازية الأساتذة الاشتراكيين مثل دوهرينغ -أساتذة الجامعات “الأذكياء” الذين حاولوا، بذريعة “تحديث الاشتراكية”، تجريد الماركسية من جوهرها الثوري.

أعلن لينين، منذ بداية نشاطه الثوري، الحرب على “الشباب” الذين زعموا، مثلهم مثل دوهرينغ، أن بعض أفكار ماركس قد أصبحت قديمة وتحتاج إلى مراجعة، مطالبين بـ”حرية النقد”. لقد أظهر أن ما يسمى بـ”معارضة الدوغمائية” كانت مجرد ذريعة لأشخاص يرغبون في استبدال المحتوى الثوري للماركسية بالسياسة الانتهازية المتمثلة في “المكاسب الصغيرة”، وهو اتجاه تبلور لاحقا في شكل المنشفية.

وفي وقت لاحق، خلال فترة الردة التي أعقبت هزيمة ثورة 1905، وجد مزاج اليأس بين شرائح المثقفين من الطبقة الوسطى صدى له داخل البلشفية عندما بدأ قسم من القيادة (بوجدانوف ولوناتشارسكي) يتبنى نزعة التصوف والفلسفة المثالية الذاتية (الكانطية الجديدة) التي كانت على الموضة.

ليس من قبيل المصادفة أن لينين كتب أحد أهم أعماله الفلسفية: “المادية والنقد التجريبي” لمحاربة تلك الأفكار. ويمكننا أن نضيف أن لينين كان مستعدا للانفصال عن غالبية القادة البلاشفة بسبب هذه المسائل الفلسفية، التي كانت مرتبطة أيضا بالسياسات اليسراوية المتطرفة.

وانخرط تروتسكي قبيل وفاته في صراع حاد للغاية ضد تيار برجوازي صغير داخل حزب العمال الاشتراكي الأمريكي (بقيادة برنهام وشاختمان) حول مسألة الطبيعة الطبقية للاتحاد السوفياتي. أوضح تروتسكي أن موقفهم الخاطئ الرافض للدفاع عن الاتحاد السوفياتي كان، من ناحية، انعكاسا لضغط الطبقات الأخرى (المثقفون البرجوازيون الصغار) على حزب العمال الاشتراكي، ومن ناحية أخرى، رفضا للفلسفة الماركسية (الديالكتيك).

من هذه الأمثلة القليلة يمكننا أن نرى الدور الحيوي الذي لعبه دائما النضال من أجل النظرية في تاريخ حركتنا. وما يميز التيار الماركسي الأممي عن جميع التيارات الأخرى هو، قبل كل شيء، موقفنا المتمسك بالنظرية. لقد قامت الماركسية، على مدى قرن ونصف، ببناء برنامج علمي على أساس القوانين التي تحكم حركة المجتمع الرأسمالي. وهذا مكسب هائل يجب أن ندافع عنه ضد كل الهجمات -سواء من اليمين أو من “اليسار”.

لدى التيار الماركسي الأممي تقليد يدعو للفخر في هذا الصدد. فخلال فترة كان فيها كثيرون يتخلون عن الأفكار الماركسية، بما في ذلك العديد من “الشيوعيين” السابقين، بقينا نحن حازمين في دفاعنا عن الأفكار الأساسية لماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. لقد أسس موقع (Marxist.com) سمعة ممتازة لوضوحه النظري. وهذا هو ما ميزنا بحزم عن بقية التيارات الأخرى داخل الحركة العمالية.

لقد رفضنا دائما تقديم أي تنازل للتحريفيين الذين يعكسون الضغوط الأيديولوجية البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. ونبقى منيعين تماما أمام الجوقة التي تصم الآذان التي تطالب بـ”أفكار جديدة” بدلا من أفكار ماركس التي يزعمون أنها صارت “قديمة”، والتي هي، في الواقع، الأفكار الأكثر حداثة، والأفكار الوحيدة التي يمكنها أن تفسر الأزمة الحالية وتُظهر طريق الخروج منها.

انحطاط الثقافة

هناك فترات في التاريخ تتميز بسيادة مزاج التشاؤم والشك واليأس. في مثل هذه الفترات، بعد أن تفقد الجماهير الثقة في المجتمع القائم وأيديولوجيته، تبدأ في البحث عن بديل قابل للتطبيق، والذي هو بديل ثوري بالضرورة. لكن المجتمع القديم، على الرغم من أنه يحتضر، يستمر في ممارسة تأثير قوي. لا يبقى له أي دعم إيجابي، بل مصدر دعمه هو الحالة المزاجية السلبية، مثلما تنبعث الرائحة الكريهة من الجثة.

في عهد شبابها كانت البرجوازية تؤمن بالتقدم، لأن الرأسمالية، وعلى الرغم من كل سماتها الوحشية والاستغلالية، لعبت دورا تقدميا للغاية في تطوير القوى المنتجة، وبالتالي أرست الأساس المادي لمرحلة أعلى من مراحل المجتمع البشري: الاشتراكية.

في الماضي، عندما كانت البرجوازية ما تزال قادرة على لعب دور تقدمي، كانت لديها أيديولوجية ثورية. لقد أنتجت مفكرين عظماء وأصيلين، مثل لوك وهوبز وروسو وديدرو وكانط وهيجل وآدم سميث وديفيد ريكاردو ونيوتن وداروين. لكن الإنتاج الفكري للبرجوازية في مرحلة احتضارها يظهر كل الأدلة على الانحطاط والشيخوخة المتقدمة.

إن الارتباك ما بعد الحداثي، الذي يقدم على أنه فلسفة في عصرنا، هو في حد ذاته اعتراف بأشد حالات الإفلاس الفكري. هؤلاء المثقفون المتعجرفون، الذين يتجولون في حرم الجامعات بإحساس بالتفوق العظيم، يعاملون فلاسفة الماضي بازدراء. لكن فقر محتوى هذه الفلسفة المزعومة صارخ للغاية لدرجة أن براغيث ما بعد الحداثة يتقلصون على الفور إلى أشخاص عديمي الأهمية عند مقارنتهم بأي من المفكرين العظام السابقين.

ما بعد الحداثة تنكر مفهوم التقدم التاريخي بشكل عام، وذلك لسبب بسيط هو أن المجتمع الذي أفرزها لم يعد قادرا على أي تقدم. إن مجرد أخذ “السرد” ما بعد الحداثي على محمل الجد باعتباره فلسفة جديدة، هو في حد ذاته إدانة ساحقة للإفلاس النظري للرأسمالية والمثقفين البرجوازيين في عصر الانحطاط الإمبريالي. وعلى حد تعبير هيغل: «يمكننا أن نقيس مدى ما تخسره الروح البشرية بذلك القليل الذي يمكنه أن يلبي احتياجاتها».

هذا ليس من قبيل الصدفة. فالعصر الحالي يتسم بالارتباك الأيديولوجي والردة والتفكك والتشتت. وفي ظل هذه الظروف، يسيطر جو من التشاؤم على المثقفين، الذين كانوا إلى حدود الأمس يرون في الرأسمالية مصدرا لا ينضب للمهن وضمانة لمستوى معيشي مريح.

الرأسمالية مستعدة للتضحية بالمجتمع كله من أجل إنقاذ أصحاب الأبناك. يواجه ملايين الناس مستقبلا غامضا. لا يؤثر الخراب العام على الطبقة العاملة وحدها، بل يمتد إلى الطبقة الوسطى، إلى الطلاب والأساتذة والباحثين والتقنيين والموسيقيين والفنانين والمحاضرين والأطباء.

هناك حالة من الغليان العام بين صفوف الطبقة الوسطى، والتي تجد أكثر تعبيراتها حدة في المثقفين. ولأنها طبقة تنسحق بين كبار الرأسماليين وبين الطبقة العاملة، فإنها تشعر بشدة بعدم استقرار وضعها. وفي حين أن البعض من بينهم يتجهون إلى اليسار، فإن الغالبية، وخاصة في الأوساط الأكاديمية، يهيمن عليهم مزاج التشاؤم وعدم اليقين.

عندما يقولون إنه “لا يوجد شيء اسمه تقدم”، فإن ما يقصدونه هو أن: المجتمع الحالي لا يعطينا أي ضمانة على الإطلاق بألا يكون الغد أسوء من اليوم. وهذا صحيح تماما. لكن وبدلا من أن يستنتجوا أنه من الضروري الكفاح من أجل الإطاحة بالنظام الحالي الذي قاد البشرية إلى مأزق تاريخي مسدود، وأصبح يهدد مستقبل الحضارة والثقافة، إن لم نقل الجنس البشري نفسه، تراهم ينكمشون في الزاوية و ينكفئون على أنفسهم، بينما يريحون ضميرهم القلق بالفكرة المطمئنة حول أنه “لا يوجد أصلا شيء اسمه تقدم “.

من هذا التحيز الضيق الأفق، والافتقار إلى الرؤية والجبن الفكري، تتدفق حتما استنتاجات أخرى أكثر عملية، وهي: رفض الثورة لصالح “الأعمال الصغيرة” (مثل النقاشات المضللة حول الكلمات و”السرديات”)، والتراجع إلى النزعة الذاتية، وإنكار الصراع الطبقي، ورفع الاضطهاد “الخاص بي” على “الاضطهاد” الخاص بك، مما يؤدي بدوره إلى زيادة الانقسام، وتفكيك الحركة في نهاية المطاف.

هناك، بالطبع، بعض الاختلافات بين الوضع اليوم وبين الأفكار التي حاربها لينين بضراوة في عام 1908. لكن الاختلافات في الشكل فقط، أما المحتوى فهو متشابه جدا، إن لم يكن متطابقا. والنتائج العملية هي رجعية مائة بالمائة.

عصر الردة

لينين كان دائما نزيها بشأن المشاكل والصعوبات. كان شعاره: قل الحقيقة دائما. أحيانا تكون الحقيقة غير مستساغة، لكننا نحتاج إلى قول الحقيقة دائما. والحقيقة هي أنه بسبب مجموعة من الظروف، الموضوعية والذاتية، تراجعت الحركة الثورية، وتحولت قوى الماركسية الحقيقية إلى أقلية صغيرة. هذه هي الحقيقة، ومن ينكرونها إنما يخدعون أنفسهم ويخدعون الآخرين.

خلال العقود الأخيرة أصبح الطلب الحاد بمراجعة أسس الماركسية يصم الآذان. يقولون لنا إن الماركسية مرادفة لـ”الدوغمائية” أو حتى الستالينية. وهذا البحث اليائس عن “الأفكار الحديثة” التي يُزعم أنها يجب أن تحل محل الأفكار الماركسية “القديمة” و”المتجاوزة”، ليس من قبيل الصدفة إطلاقا.

لا تعيش الطبقة العاملة في عزلة عن الطبقات الأخرى، وهي تخضع حتما لتأثير الطبقات الأخرى والأيديولوجيات الدخيلة. ونحن أيضا نعيش ونعمل في المجتمع ونتعرض باستمرار لهذه الضغوط والحالات المزاجية. يمكن للحالة المزاجية العامة للمجتمع أن تخترق أيضا الطبقة العاملة ومنظماتها. وخلال الفترات التي تكون فيها الطبقة العاملة خاملة بشكل عام، تزداد ضغوط البرجوازية وخاصة البرجوازية الصغيرة.

بعد فترة طويلة من سقوط العمال في حالة خمول مؤقت، صعدت العناصر البرجوازية الصغيرة إلى مقدمة الحركة العمالية، وأزاحت بالعمال جانبا. تم إسكات صوت العمال من طرف جوقة من الناس “الأذكياء” الذين فقدوا كليا الرغبة في النضال، وهم حريصون على إقناع العمال بأن الثورة لا تجلب سوى الدموع وخيبة الأمل.

بعد سقوط الستالينية ساد مزاج عام من الارتباك والتراجع الأيديولوجي. انسحب الكثيرون من الحركة الشيوعية، وأصبحت الكلبية والارتياب أمرا شائعا. وبعد أن أصيبوا بخيبة الأمل بسبب خيانة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، كان رد فعل المثقفين اليساريين ليس القطع مع الستالينية والإصلاحية، بل الابتعاد عن الأفكار الماركسية والاشتراكية الثورية.

تخلى الكثيرون، ولا سيما الستالينيون السابقون، عن الماركسية والنضال من أجل الاشتراكية، وانطلقوا في مهام خيالية للبحث عن “أساليب جديدة” (“أساليب” غير موجودة مثلها مثل جرة الذهب في نهاية قوس قزح). وبالنسبة لهؤلاء العجائز الكلبيين صارت كل أحلام شبابهم بالثورة تبدو لهم الآن مجرد حماقة (“خطايا الشباب”، كما يحب التحريفي هاينز ديتريخ أن يسميها). ويشعرون برغبة قوية في تصفية الحسابات مع ماضيهم، لتصحيح هفوات الماضي، وبالتالي حث الجيل الجديد على عدم اتباع طريق الخطيئة.

تم دفع منظمات الحركة العمالية تدريجيا نحو اليمين. وتمت إزاحة العمال جانبا من قبل الوصوليين من الطبقة الوسطى، الذين استولوا على المناصب القيادية. وهو ما تسبب بدوره في سقوط العديد من العمال في حالة خمول، مما أدى إلى زيادة أكبر في العناصر البرجوازية الصغيرة.

في مثل هذه الفترات، يتم إغراق الصوت العمالي بصراخ جوقة الإصلاحيين حول “التجديدات” مثل “الواقعية الجديدة” و”الأحزاب العمالية الجديدة”، وما إلى ذلك. تصير الأفكار البرجوازية الصغيرة هي السائدة. ويتم وصم أفكار السياسة الطبقية والاشتراكية الثورية بأنها “طراز قديم”. وبدلا من “الماركسية الدغمائية” لدينا العديد والعديد من الأفكار المختلفة: السلمية والنسوية والبيئية، وفي الواقع أي “يـة” تريدها، باستثناء، بالطبع، الاشتراكية والماركسية.

سبق لتروتسكي أن تطرق إلى هذه الظاهرة عندما كتب “البرنامج الانتقالي”، عام 1938، حيث قال: «الهزائم المأساوية، التي عانت منها البروليتاريا العالمية على مدى سنوات طويلة، أدت بالمنظمات الرسمية إلى المزيد من الغرق في النزعة المحافظة وأدت، في الوقت نفسه، بـ “الثوريين” البرجوازيين الصغار المحبطين إلى السعي وراء ”طرق جديدة”. وكما هو الحال دائما في فترات الردة والأفول، يظهر السحرة والمشعوذون من كل الجهات، يريدون إعادة النظر في كل مسيرة الفكر الثوري. وعوض أن يتعلموا من الماضي، تراهم ”يرفضونه”. فيكتشف بعضهم تناقضات الماركسية، ويعلن الآخرون إفلاس البلشفية. وهناك الذين يلقون على المذهب الثوري مسؤولية أخطاء وجرائم من خانوه؛ فيما يلعن الآخرون الطب لأنه لا يضمن شفاء فوريا وعجائبيا. أما الأكثر جسارة بينهم فيعدون باكتشاف ترياق لكل الأمراض، وينصحون، في انتظار ذلك، بإيقاف صراع الطبقات. ويتهيأ العديد من أنبياء ”الأخلاق الجديدة” لإعادة إحياء الحركة العمالية بواسطة علاج أخلاقي. والحال أن معظم هؤلاء الرسل قد نجحوا في أن يصبحوا هم أنفسهم مجرد معاقين أخلاقيا وذلك حتى قبل أن ينزلوا إلى ساحة المعركة. وهكذا تحت مسمى ‘الطرق الجديدة’ يعرضون على البروليتاريا وصفات قديمة، تم دفنها منذ زمن بعيد في أرشيفات الاشتراكية ما قبل الماركسية». (ليون تروتسكي، البرنامج الانتقالي).

ليست الأمور اليوم أفضل مع العصب اليسارية المتطرفة التي تعيش حياة بائسة على هامش الحركة العمالية. والذين على الرغم من أنهم يستشهدون بماركس ولينين وتروتسكي في كل جملة، إلا أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء إعادة طبع أعمالهم، مفضلين أفكارا أكثر ”حداثة” (أو ”ما بعد حداثية”) تحصلوا عليها، دون نقد، من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. وتعتبر العصبة المانديلية (ما يسمى بالأمانة العامة المتحدة للأممية الرابعة) أوضح مثال على ذلك.

وفي الطرف النقيض عادت عصب مثل أنصار تاف (اللجنة من أجل أممية عمالية)، وحزب العمال الاشتراكي في بريطانيا والنضال العمالي في فرنسا، إلى مستنقع “الاقتصادوية”، التي انتقدها لينين بشدة. إن القناع الديماغوجي للنزعة ”العمالوية” ورفض الطلاب والمثقفين ككل هو مجرد واجهة لإخفاء ازدراء النظرية واستبدال السياسة الثورية بما يسمى بـ”السياسة العملية” و”النضالات الخبزية”. من الصعب أن نحدد أي انحراف من بين هذين الانحرافين عن الماركسية الحقيقية هو الأسوء من الآخر.

“أفكار جديدة مقابل القديمة”

في حكاية علاء الدين، يرتدي ساحر شرير زي بائع متجول ويقدم مصابيح جديدة لامعة مقابل المصابيح القديمة. قبلت أميرة علاء الدين ذلك العرض بحماقة، وبهذه الطريقة أضاعت خدمات الجني الموجود في المصباح. إنها حكاية مسلية، لكنها تحتوي على رسالة جادة وهي أنه من الحماقة استبدال الأشياء ذات القيمة المثبتة مقابل البريق الخادع.

من المثير للسخرية أنه يوجد في هذا الوقت بالضبط، عندما أثبتت أزمة الرأسمالية صحة الماركسية بشكل كامل، سباق حقيقي بين صفوف ”اليسار” لرمي النظرية الماركسية في البحر، كما لو أنها ثقل عديم الفائدة. لم يعد ”الشيوعيون” السابقون حتى يتحدثون عن الاشتراكية وقد رموا كتابات ماركس وإنجلز في سلة المهملات.

تم تصنيف أفكار الماركسية الثورية على أنها قديمة الطراز وغير ذات نفع. ويسابق مثقفو الطبقة الوسطى و”التقدميون” بعضهم البعض في محاولاتهم تشويه سمعة الماركسية. يمكن لهذا الجو العام من الارتباك الأيديولوجي، والتشكيك في “الأرثوذكسية” الماركسية ورفض النظرية، أن يكون له تأثير ضار حتى في صفوفنا.

ليست هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مثل هذه الأشياء. لطالما كانت هذه الاتجاهات الإصلاحية المناهضة للثورة موجودة في الحركة. وكما رأينا فقد كان على ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي جميعا أن يتصدوا لنفس حملة ”الأفكار الجديدة”، والتي كانت دائما صرخة الحرب من قبل كل التحريفين، منذ دوهرينغ وبرنشتاين حتى وقتنا الحالي. لقد سبق لنا أن ناقشنا مع بعض هذه ”البدائل” المعاصرة في كتاب آلان وودز “إصلاحية أم ثورة، اشتراكية القرن الحادي والعشرين، رد على هاينز ديتريتخ”.

ما يعكسه هذا السعي المتواصل لمراجعة الماركسية هو يأس الشريحة الأقدم الذين، بعد أن أصيبوا بالإحباط بسبب الهزائم والإخفاقات السابقة، فقدوا الرغبة في النضال من أجل التغيير الثوري في الممارسة، لكنهم يرغبون في إراحة ضمائرهم من خلال الظهور بمظهر الماركسيين الذين، بعد أن أصبحوا ”أنضج وأكثر حكمة”، فهموا أن ”الأفكار القديمة” لم تكن إلا أحلاما طوباوية ليس لها علاقة عملية بالعالم الحقيقي.

الغرض الوحيد من وراء هذه الحجج هو تشتيت انتباه الشباب، وإحداث أكبر قدر من الارتباك، والعمل كحاجز لمنع الجيل الجديد من الوصول إلى الماركسية. إنها فقط انعكاس لحملة البرجوازية ضد الاشتراكية والشيوعية. لكنها أخطر وأكثر ضررا من هذه الأخيرة لأنها حملة تتم تحت راية مزيفة.

مؤيدو تلك الحملة يعارضون بشكل جذري الثورة والاشتراكية، لكنهم لا يجرؤون على الاعتراف بذلك، ربما حتى لأنفسهم (أما إلى أي مدى يؤمنون حقا بذلك الهراء الذي يكتبونه، فهو شيء لا يستطيع تحديده إلا خبير نفسي). إنهم يخفون رسالتهم الرجعية المعادية للثورة والاشتراكية تحت طبقة سميكة من العبارات ”اليسارية” و”الراديكالية” التي تجعل التعرف عليها أكثر صعوبة بالنسبة لمعظم الناس. يعملون على تمييع الأفكار الاشتراكية أو تنقيحها أو إهمالها ببساطة.

إن التيار الماركسي ليس بمنأى عن ضغوط الرأسمالية. يمكن لمزاج الارتباك والتشاؤم لمفكري الطبقة الوسطى أن يجد، في بعض الأحيان، صدى له داخل الحركة الماركسية، حيث يظهر على شكل هجوم دائم على ”الأرثودوكسية الخانقة” ونداء دائم لتبني ”شيء جديد”، وهو ما يذكرنا كثيرا بنداء الساحر في قصة علاء الدين.

أخطار العمل الطلابي

اعتاد الاشتراكيون الثوريون على الهجمات الشرسة ضد الاشتراكية والشيوعية – ليس فقط من جانب أولئك المدافعين الصريحين عن الرأسمالية والإمبريالية، بل أيضا من جانب الإصلاحيين (من اليمين واليسار على حد سواء)، وأيضا من جانب من يسمون بالمثقفين الراديكاليين البرجوازيين الصغار، الذين يرغب بعضهم في محاربة الرأسمالية، لكن ليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك.

لقد أكدنا بشدة على أهمية العمل الطلابي والشبابي، وقد حقق لنا هذا نتائج مهمة للغاية، ليس في بريطانيا فقط، بل أيضا في العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا. ويجب علينا أن نستمر في هذا التوجه خلال المستقبل المنظور، لكنه يجب علينا أيضا أن ندقق بعناية في الطريقة التي يتم تنفيذه بها.

صحيح أن العمل بين الطلاب له إمكانيات هائلة بالنسبة لنا. لكن من الصحيح أيضا أنه يحتوي على العديد من التهديدات والأخطار. يجب علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة دائما على هذه الأخطار، من أجل تجنب العواقب الوخيمة لها. من الضروري أن نضع في اعتبارنا أن الجامعات هي بيئة غريبة، مليئة بأناس من طبقات أخرى وخاضعة بشكل كبير لتأثير الأفكار البرجوازية والبرجوازية الصغيرة.

People March Woman Intersectionality Rally

ما يزال الوسط الطلابي بورجوازيا وبرجوازيا صغيرا بشكل أساسي، مما يؤثر أيضا على الطلاب من أصول عمالية. وهم، في كثير من الحالات، لا يريدون سوى صعود السلم الاجتماعي ثم التخلص منه، تاركين طبقتهم وراءهم في خضم اندفاعهم ليصبحوا أطباء ومحامين وسياسيين. قد لا يكون هذا هو الحال دائما، لكنه كذلك في كثير من الأحيان.

الجامعات هي وسيلة لنشر الأفكار البرجوازية الرجعية في المجتمع. إنها بيئة حاضنة حقيقية حيث تطور البرجوازية آلاف الأفكار الغريبة والعجيبة لإرباك الشباب وتضليلهم وإبعادهم عن الثورة. إن الجامعات ليست “حرما للتعلم” بل هي مصانع للإنتاج الضخم للمدافعين الأيديولوجيين عن الرأسمالية.

في حقبة احتضار الرأسمالية أصبحت الجامعات مستنقعا ساما تزدهر فيه الأفكار الرجعية، ولا يبدو أن أحدا لديه الشجاعة للتصدي لها وجها لوجه.

إن الواجب الأول للطلبة الماركسيين هو محاربة تلك الأفكار -ليس فقط الأفكار الرجعية الصريحة للمؤسسة الأكاديمية البرجوازية، بل أيضا المفاهيم المربكة العديدة للعناصر البرجوازية الصغيرة ”التقدمية” و”الراديكالية” التي تتظاهر بأنها ضد النظام، لكنها من الناحية العملية تحصر نفسها في الاحتجاج ضد هذا المظهر أو ذاك.

سلاح إيديولوجي للرجعية

ليس من قبيل المصادفة أيضا أن أنصار تلك الأفكار قد اكتسبوا مكانة بارزة في الجامعات بدءا من أواخر الثمانينيات أو التسعينيات. فمع انحسار الصراع الطبقي، شُنت حملة واسعة النطاق ضد الماركسية في الجامعات. والأفراد الذين سبق لهم أن انخرطوا في الحركات الثورية خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات تم نقلهم إلى الجامعات وتعيينهم في وظائف مريحة لمهاجمة الماركسية.

بعض تلك الهجمات كان فجا ومؤيدا للرأسمالية بشكل علني، لكن البعض الآخر كان أكثر تنكرا ومكرا. ولقد أتاحت سياسات التقاطعية والهوياتية للمثقفين ”اليساريين” وسيلة ملائمة للتخلي عن الصراع الطبقي والتخلي عن الاشتراكية، مع الاستمرار في التشدق بدفاعهم عن ”القضايا التقدمية”.

ليس من قبيل الصدفة أن تقوم الطبقة السائدة بإدماج هذه الأفكار في جميع مستويات النظام التعليمي اليوم. يمكن إرجاع نظرية الكوير (Queer Theory)، على سبيل المثال، إلى موجة ما بعد الحداثة وغيرها من الأفكار المثالية والذاتية التي تطورت كرد فعل ضد الماركسية في العقود الأخيرة. يكشف تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، صدر عام 1985، رُفعت عنه السرية مؤخرا، بعنوان “فرنسا: انشقاق المثقفين اليساريين” عن ابتهاج وكالة الاستخبارات للميل نحو اليمين في الأوساط الأكاديمية:

ربما أدت إخفاقات سياسة ميتران وتحالفه قصير الأمد مع الشيوعيين إلى انتشار الاستياء من حكومته، لكن المثقفين اليساريين ينأون بأنفسهم عن الاشتراكية -سواء كحزب أو كأيديولوجيا- على الأقل منذ أوائل السبعينيات. العديد من مفكري اليسار الجديد، بقيادة مجموعة من الشباب المنشقين عن الحزب الشيوعي الذين وصفوا أنفسهم بالفلاسفة الجدد، رفضوا الماركسية وطوروا كراهية عميقة الجذور تجاه الاتحاد السوفياتي. لقد أصبحت مناهضة الاتحاد السوفياتي، في الواقع، حجر الأساس للشرعية في الأوساط اليسارية، مما أضعف النزعة التقليدية المعادية لأمريكا لدى المثقفين اليساريين وسمح للثقافة الأمريكية -وحتى السياسات الاقتصادية والسياسية الأمريكية- بأن تلقى رواجا جديدا. (خط التشديد من عندنا).

ويتابع التقرير قائلا:

كان إفلاس الأيديولوجية الماركسية، وعدم الرضى تجاه الماركسية كنظام فلسفي –والذي هو جزء من تراجع أوسع عن الأيديولوجية بين صفوف المثقفين من جميع الألوان السياسية– مصدر خيبة الأمل الفكرية القوية والواسعة الانتشار في أوساط اليسار التقليدي. عمل ريموند آرون لسنوات طويلة على تشويه سمعة زميله القديم في الكلية، سارتر، ومن خلاله تشويه سمعة الصرح الفكري للماركسية الفرنسية. إلا أن الأكثر فاعلية في تقويض الماركسية هم هؤلاء المثقفون الذين كانوا مؤمنين حقيقيين بتطبيق النظرية الماركسية في العلوم الاجتماعية لكنهم انتهوا بإعادة التفكير ورفض التقليد الماركسي بأكمله.

«وبين المؤرخين الفرنسيين في فترة ما بعد الحرب، طغت المدرسة الفكرية المؤثرة المرتبطة بمارك بلوخ ولوسيان فبر وفرناند بروديل، على مدرسة المؤرخين الماركسيين التقليديين. قلبت مدرسة الحوليات، كما تسمى مجلتها الرئيسية، منحى الدراسة التاريخية الفرنسية رأسا على عقب في الخمسينيات والستينيات، وذلك في المقام الأول عن طريق تحدي، ثم رفض، النظريات الماركسية السائدة للتقدم التاريخي. وعلى الرغم من أن العديد من مؤيديها يؤكدون على أنهم ”ضمن التقليد الماركسي”، فإنهم يقصدون فقط أنهم يستخدمون الماركسية نقطة انطلاق حاسمة لمحاولة اكتشاف الأنماط الفعلية للتاريخ الاجتماعي. لقد استنتجوا في غالبيتهم أن المفاهيم الماركسية عن بنية الماضي -العلاقات الاجتماعية ومسارات الأحداث وتأثيرها على المدى الطويل- سطحية وغير صالحة. وفي مجال الأنثروبولوجيا، قامت المدرسة البنيوية المؤثرة، المرتبطة بكلود ليفي شتراوس وفوكو وآخرين، بنفس المهمة تقريبا. وعلى الرغم من أن كلا من المنهجية البنيوية والمنهجية الحولية قد مرا بأوقات عصيبة (يتهمهما النقاد بأن لغتهما صعبة الفهم على غير المتخصصين)، فإننا نعتقد أنه من المرجح أن يشكل هدمهما النقدي للتأثير الماركسي في العلوم الاجتماعية مساهمة عميقة في الدراسة الحديثة، سواء في فرنسا أو أماكن أخرى في أوروبا الغربية على حد سواء. (التشديد من عندنا).

وبالمثل فقد شاركت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في دعم سري لعدد من المنشورات اليسارية ”المناهضة للشمولية”، مثل: “Partisan Review” و”Der Monat” (التي نشرت مقالات لثيودور أدورنو و حنا أرندت، من بين آخرين) و”Mundo Nuevo” وما إلى ذلك. وقد كان الموضوع المشترك بين هذه المجلات هو الدفاع عن ”المثقف” في مقابل الصراع الطبقي.

على أيدي هؤلاء المثقفين بالضبط نشأت الأفكار البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المسيطرة على الجامعات اليوم. يُنظر إلى فوكو على أنه أب نظرية الكوير. ومع انحسار الصراع الطبقي، في أعقاب خيانات لا حصر لها من قبل القادة، خلص هؤلاء السيدات والسادة إلى أن الصراع الطبقي والطبقة العاملة هما السبب وليست القيادة. لقد قاموا فقط بتكييف ”فلسفتهم” مع مصالح البرجوازية والبيروقراطية العمالية. انحل الصراع الطبقي، في أذهانهم، إلى سلسلة لا نهائية من النضالات الفردية الصغيرة بدون خصائص مشتركة.

وحتى إذا اعترفوا بالصراع الطبقي تراهم يزدرون “التخلف” المزعوم للطبقة العاملة ويدعون إلى تغيير ”الخطاب”، عوض الدعوة إلى توفير قيادة جريئة تحل محل القادة الجبناء على رأس الحركة. وكما نرى من تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فإن الطبقة السائدة لم تشعر بالتهديد من أي من تلك الأفكار ”الراديكالية” الرائجة، بل إنها بالعكس رحبت بها من صميم قلبها بوصفها أدوات قيمة في النضال الإيديولوجي ضد الماركسية.

“التقاطعية” و”سياسات الهوية”

من بين أحدث نسخ سياسات الهوية التي تكتسح البرجوازية الصغيرة الراديكالية نجد مفهوم التقاطعية. ليس هذا مجرد انحراف بسيط أو ارتباك من قبل شباب ذوي نوايا حسنة، بل أيديولوجيا رجعية بالمطلق ومعادية للثورة يجب علينا محاربتها بكل الوسائل المتاحة لنا.

لطالما سعت الطبقة السائدة إلى زرع الانقسام في صفوف الطبقة العاملة، باتباع التكتيك القديم المتمثل في فرق تسد. إنهم يستخدمون أي وسيلة لدفع قسم من العمال للاصطدام بقسم آخر: فالعنصرية والمسألة القومية واللغة والجندر والدين، كلها تم استخدامها، وما تزال تُستخدم، لتقسيم الطبقة العاملة وصرف انتباهها بعيدا عن الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بين المستغلِين والمستغَلين.

هذه الحقيقة معروفة ومفهومة جيدا من قبل كل القوى اليسارية تقريباً. لكن في سياق النضال ضد العنصرية والتمييز الجنسي، وغيرهما من أشكال الاضطهاد الأخرى الموجودة في المجتمع، من الممكن بسهولة السقوط في التطرف المعاكس، والتخلي عن وجهة النظر الطبقية ولعب نفس لعبة الطبقة السائدة من خلال وضع ما يفرقنا فوق كل شيء آخر، وتجاهل جذور الاضطهاد في المجتمع الطبقي، وتقديم المصالح القطاعية لهذه المجموعة أو تلك على حساب الصراع الطبقي الموحد.

يميل معظم الأشخاص الذين يركزون على أشكال معينة من الاضطهاد إلى تجاهل الأساس الحقيقي للاضطهاد، أو التقليل من شأنه، والذي هو المجتمع الطبقي نفسه. إنهم يعارضون أي محاولة لتوحيد الطبقة العاملة في صراع ثوري ضد رأس المال، ويصرون على أن نركز على هذه القضية أو تلك، وهو ما تكون له نتائج سلبية إلى أقصى الحدود.

في عدد متزايد من الحالات، تمارس السلطات الجامعية واتحادات الطلاب، التي تختبئ وراء ”الصوابية السياسية” وسياسات الهوية والرغبة المزعومة في عدم الإضرار بمشاعر بعض الأشخاص، سياسة التمييز والرقابة الصارخة، وتمنع بعض الأشخاص من التحدث -ليس فقط العنصريين والفاشيين، بل أيضا، وبدرجة متزايدة، حتى اليساريين.

والمثال التالي من كندا كاف لفضح الأنشطة المعادية للثورة لهذه الجماعات. فخلال الانتخابات الأمريكية، كانت مجموعة من الشباب في تورنتو تحاول، بشكل عفوي، أن تنظم، عبر فيسبوك، مظاهرة مناهضة لترامب. لكن هؤلاء الشباب تعرضوا على الفور لسيل من الإساءات والاتهامات من قبل أنصار “سياسة الهوية”، الذين نددوا بهم بأشد العبارات لعدم وجود متحدث أسود على منصتهم، وما إلى ذلك. ونتيجة لذلك شعر هؤلاء الشباب بالخوف وأصبحوا محبطين وجمدوا نشاطاتهم. هذه ليست حالة منعزلة، لكنها معبرة بشكل نموذجي تماما عن التكتيكات الرجعية لذلك التيار.

لقد حان الوقت لتسمية الأشياء باسمها الصحيح: أي أن نعلن بوضوح أن سياسات الهوية وكل الهراء المتعلق بها، الذي رفع رأسه في السنوات الأخيرة، يمثل تيارا رجعيا واضحا، يجب مكافحته بأقصى قوة.

المسألة القومية

من الممكن إجراء مقارنة جزئية بين ما يسمى بسياسات الهوية وبين المسألة القومية. لكل مقارنة حدودها بطبيعة الحال. لكن أوجه الشبه في هذه الحالة مذهلة للغاية ويمكن توضيحها ببساطة: الماركسيون يعارضون ويناضلون ضد كل أشكال الاضطهاد أو التمييز، سواء على أساس القومية أو الجندر أو الإثنية أو اللغة أو الدين، أو أي شيء آخر. وهذا كاف للغاية.

يدافع الماركسيون عن الأمم المضطهَدة ضد الدول الإمبريالية القوية والمعتدية. نحن ضد الاضطهاد بكل أشكاله. هذه هي نقطة انطلاقنا. لكن هذه المسلمات الأولية لا تكفي بأي حال لشرح كل الموقف الماركسي من المسألة القومية. فبعد الألف والباء والتاء، هناك المزيد من الأحرف في الأبجدية.

لقد أوضح ماركس أن المسألة العمالية هي دائما المسألة الأهم، والمسألة القومية دائما تابعة لها. حق الأمم في تقرير مصيرها ليس حقا مطلقا خارج الزمان والمكان. إنه خاضع دائما للمصالح العامة للثورة البروليتارية العالمية. كثيرا ما شدد لينين على نفس النقطة. يتطلب نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية التضامن الكامل والوحدة الأوثق بين عمال جميع الأمم.

وأثناء النضال ضد كل مظهر من مظاهر الاضطهاد أو التمييز القوميين، من الضروري مقاومة محاولات القوميين البرجوازيين والبرجوازيين الصغار إخضاع العمال لآرائهم وسياساتهم الخاصة. وقد كتب في “حق الأمم في تقرير مصيرها”، الذي ألفه عام 1914، ما يلي:

لا فرق بالنسبة للعامل المأجور سواء تم استغلاله بشكل رئيسي من قبل البرجوازية الروسية بدلا من البرجوازية غير الروسية، أو من قبل البرجوازية البولندية بدلا من البرجوازية اليهودية، إلخ. إن العامل المأجور الذي توصل إلى فهم مصالحه الطبقية لا يبالي، بنفس القدر، بامتيازات الدولة للرأسماليين الروس ولوعود الرأسماليين البولنديين أو الأوكرانيين بإقامة جنة على الأرض عندما يحصلون على امتيازات الدولة. تتطور الرأسمالية وستستمر في التطور، على أي حال، سواء في الدول الممتدة ذات الساكنة المختلطة أو في الدول القومية المنفصلة.

من المعروف أن لينين قد أيد باستمرار المطالبة بحق الأمم في تقرير مصيرها، بما في ذلك حقها في الانفصال. لكن هذا ليس سوى جانب واحد من المعادلة. فقد دافع لينين كذلك عن وحدة الطبقة العاملة ومنظماتها وعارض بشدة أي اقتراح لإنشاء منظمات عمالية على أسس قومية (هل نجرؤ على القول، على أسس “سياسات الهوية”؟).

في كتاباته حول المسألة القومية، وإلى جانب إصراره على حق الأمم في تقرير مصيرها، بما في ذلك الانفصال، أكد لينين أيضا على ضرورة قيام الماركسيين برسم خط فاصل واضح بينهم وبين القوميين والديمقراطيين البرجوازيين الصغار:

ثانيا، في بلدنا، يخاض النضال الحتمي لفصل البروليتاريا عن البرجوازية والديمقراطية البرجوازية الصغيرة -وهو نضال يشبه في الأساس النضال الذي يحدث في كل بلد آخر- في ظل ظروف انتصار نظري كامل للماركسية في الغرب وفي بلادنا. وبالتالي، فإن الشكل الذي يتخذه هذا النضال ليس شكل نضال من أجل الماركسية، بقدر ما هو نضال من أجل، أو ضد، كل النظريات البرجوازية الصغيرة التي تختبئ وراء عبارات ”شبه ماركسية”. (البرنامج القومي لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، 1913).

سندافع دائما عن حقوق الأمم المضطهَدة ضد مضطهدِيها. لكن هذا لا يعني أنه علينا أن نقبل بمطالب برجوازية الأمم المضطهَدة أو إخضاع مصالح الطبقة العاملة لمطالبها. بل على العكس من ذلك، إن المهمة الأولى، وقبل كل شيء، لعمال الأمة المضطهَدة هي أن يخوضوا نضالا عنيدا ضد برجوازيتهم القومية الخاصة، وفضح ادعاءاتها الديماغوجية ومقاومة كل محاولات إخضاع عمال الأمة المضطهَدة لبرجوازيتـ’هم’.

يقول لينين في كتابه “حق الأمم في تقرير مصيرها”، الذي ألف في شباط/فبراير – أيار/مايو 1914: «إن البرجوازية تضع دائما مطالبها القومية في المقدمة، وتفعل ذلك بشكل حازم. أما بالنسبة للبروليتاريا، فإن هذه المطالب تخضع لمصالح الصراع الطبقي».

عانى اليهود من أفظع أشكال الاضطهاد في روسيا القيصرية. كان العمال اليهود يعانون من اضطهاد مضاعف: باعتبارهم عمالا وباعتبارهم يهودا أيضا. لقد دافع البلاشفة عن الحقوق الكاملة لليهود وقاتلوا بالأسلحة ضد منظمي المذابح المعادين للسامية. ومع ذلك فقد ندد لينين بأشد الطرق حدة بمحاولات حزب البوند اليهودي الحصول على وضع خاص داخل حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي. لقد أنكر حقهم في التحدث حصريا باسم العمال اليهود. وقال إن قبول مثل هذه الادعاءات يعني الانحراف عن السياسة البروليتارية وإخضاع العمال لسياسة البرجوازية. شعر البونديون بالسخط وهاجموا لينين بسبب افتقاره المزعوم إلى الحساسية تجاه مشاكل الشعب اليهودي، لكن لينين لم يأبه بذلك. يجب أن تكون لمبادئ وحدة الطبقة البروليتارية والأممية الأسبقية على المسألة القومية.

دعونا نجري مقارنة بين موقف لينين من الاضطهاد القومي وبين مسألة “سياسات الهوية” بشكل عام والنسوية بشكل خاص. تطالب النسويات البرجوازيات والبرجوازيات الصغيرات، مثلهن مثل القوميين البرجوازيين، بشكل قاطع بأن يكون لمسألة الجندر الأسبقية على أي شيء آخر، وأن على نساء الطبقة العاملة أن يتماهين، أولا وقبل كل شيء، مع جميع النساء الأخريات، بمن في ذلك، وعلى وجه الخصوص، النساء البرجوازيات و البرجوازيات الصغيرات المثقفات ”الذكيات”، اللائي تسيطرن على الحركة النسوية.

نجيب على مطالبهن الملحة على النحو التالي: إننا وبينما نناضل للدفاع عن حقوق النساء، لسنا مستعدين لإخضاع أنفسنا لقيادة النساء البرجوازيات والبرجوازيات الصغيرات اللواتي يسعين لتحقيق مصالحهن الخاصة تحت ستار النضال من أجل قضية ”جميع النساء”. إن مصالح نساء الطبقة العاملة هي في الجوهر نفس مصالح رجال الطبقة العاملة. كلهم مضطهَدون ومستغَلون من قبل المصرفيين والرأسماليين، ولا فرق بالنسبة لهم سواء كان هؤلاء المصرفيون والرأسماليون رجالا أم نساء.

تتعرض نساء الطبقة العاملة للاضطهاد ليس باعتبارهن عاملات فقط، بل وباعتبارهن نساء أيضا، ويواجهن أوضاعا خاصة يجب طرحها في مطالبنا البرنامجية. ومع ذلك فإنه لا يمكننا أن نثق في أن العناصر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة ستكافحن من أجل مطالب نساء الطبقة العاملة، لأن مصالحهن، في التحليل الأخير، غير متوافقة مع بعضها البعض، ومتعارضة مع بعضها البعض.

في حالة المسألة القومية، كثيرا ما عبر العداء بين العمال والفلاحين من جهة وبين البرجوازية القومية من جهة أخرى عن نفسه في شكل حرب أهلية. ماذا كان موقف البلاشفة في مثل هذه الحالات؟ دعونا نأخذ مثالا محددا من تجربة الثورة الروسية. هل كانت الحركة القومية في فنلندا تقدمية أم رجعية؟ منح البلاشفة حق تقرير المصير للقوميات المضطهَدة، بما في ذلك الفنلنديون والبولنديون. لكن هذا ليس سوى نصف القصة. ففي فنلندا اندلعت حرب أهلية بين البلاشفة والبيض، حيث قاتل الأخيرون تحت راية الاستقلال الفنلندي.

ليس هناك شك على الإطلاق في أنه لو كانت لدى البلاشفة قوة عسكرية قوية بما فيه الكفاية، لكانوا قد تدخلوا في فنلندا لسحق القوميين البرجوازيين ودعم العمال، ولم يكن انتصار العمال الفنلنديين ليؤدي إلى الاستقلال، بل كان سيؤدي إلى انضمام  فنلندا إلى اتحاد الجمهوريات السوفياتية.

كتب تروتسكي ذات مرة أن قومية المضطهَدين يمكنها أن تكون «الغلاف الخارجي لنزعة بلشفية غير ناضجة». هذه العبارة صحيحة تماما –في بعض الحالات. لكنها ليست صحيحة في كل الحالات. قد تكون قومية الأمم المضطهَدة الغلاف الخارجي لنزعة بلشفية غير ناضجة، وقد تكون بنفس القدر الغلاف الخارجي لفاشية وليدة. هذا يعتمد على الظروف الملموسة.

فعلى سبيل المثال لو كان ميزان القوى مختلفا، لكان الحق الفنلندي في تقرير المصير ليخضع بشكل كامل لمصالح الثورة البروليتارية العالمية. لكن ولسوء الحظ لم يكن لدى الجمهورية السوفياتية الجيش الأحمر بعد، فتمكن البيض من سحق الثورة الفنلندية. وفي هذه الحالة سيكون من الرجعي تماما القول بأن القومية الفنلندية كانت «الغلاف الخارجي لنزعة بلشفية غير ناضجة»، ويمكن للمرء أن يستشهد بالعديد من الأمثلة المشابهة.

العنصرية وسياسات الهوية

الولايات المتحدة بلد متنوع بشكل لا يصدق، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى تاريخها الطويل والوحشي من الحروب والغزو والاستعباد. وعندما كانت الرأسمالية الأمريكية الشابة واثقة من نفسها ومستقبلها، وبإمكانها استيعاب موجات لا نهاية لها من المهاجرين، قامت بالكتابة على تمثال الحرية: «أعطوني جماهيركم المتعبة، الفقيرة، الغفيرة التي تتوق إلى استنشاق الحرية». لكن ذلك تغير إلى نقيضه اليوم. يجد انحلال وشيخوخة الرأسمالية الأمريكية تعبيرا واضحا عنه في السياسات الرجعية وضيقة الأفق والمعادية للأجانب التي يتبناها دونالد ترامب. تشير سياسة “أمريكا أولا” إلى محاولة العودة إلى سياسات الانعزالية القديمة في وقت يستحيل فيه على الولايات المتحدة أن تعزل نفسها عن بقية العالم وبالتالي عن الأزمة الرأسمالية العالمية.

تهدف ديماغوجية ترامب الرجعية إلى إرباك عمال الولايات المتحدة من خلال اتهام المهاجرين والأجانب بكونهم سبب البطالة والفقر. هناك تكثيف للعنصرية ومزاج من الخوف بين المهاجرين والملونين. ويمكن لأفكار “سياسات الهوية” أن تجد تعاطفا معها بين هذه الشرائح. وهذا مفهوم تماما. لكن هنا، مثلما هو الحال دائما، عندما تتطرف الفكرة الصحيحة بشكل حاد تتحول إلى نقيضها.

للولايات المتحدة تاريخ طويل من النزعات “الهوياتية” التي تسبق “سياسات الهوية” الأحدث. تم استخدام مفهوم الهوية بمعنى التعريف: أمريكي إيرلندي، أمريكي إيطالي، أمريكي يهودي، وما إلى ذلك، لترويج فكرة أن العمال الأمريكيين الأيرلنديين يجب أن يتماهوا مع أرباب العمل الأمريكيين الأيرلنديين، بينما العمال الأمريكيين الإيطاليين عليهم أن يتماهوا مع أرباب العمل الأمريكيين الإيطاليين، والعمال الأمريكيين اليهود مع أرباب العمل الأمريكيين اليهود، ومؤخرا العمال السود واللاتينيين مع أرباب العمل السود واللاتينيين. تم استخدام هذا بطريقة رجعية لتقسيم العمال وفقا لأصولهم الإثنية وبالتالي إضعاف الطبقة العاملة ككل.

لكن، وعلى الرغم من ذلك فإن رغبة شاب أسود في تأكيد هويته والشعور بالفخر بها هو رد فعل مفهوم ومبرر تجاه العنصرية المؤسسية التي احتقرت السود لأجيال، وحرمتهم من أي مكان في تاريخ وثقافة أرض ولادتهم. وهذا هو الشعور نفسه الذي طورته بعض مجموعات السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية، الذين سئموا الاستغلال والقهر، ويشعرون بالفخر لكونهم السكان الأصليين ويرغبون في الدفاع عن لغتهم وثقافتهم.

وبالمثل فإنه لا نحتاج إلى أن نؤكد أن الماركسيين يعارضون بنشاط أي تمييز أو قمع ضد الناس بسبب ميولهم الجنسية أو إثنيتهم أو جندرهم، ويناضلون من أجل إلغاء جميع القوانين الرجعية المتعلقة بالزواج وما شابه. هذا جزء لا يتجزأ من النضال العام ضد اليمين وضد الطبقة السائدة. يدين الماركسيون كل القمع والظلم الذي تمارسه الرأسمالية، أيا كان من يعاني منه. كل ويلات الرأسمالية، من اضطهاد النساء إلى الكوارث البيئية، أو اضطهاد الأمم الصغيرة، تملأنا بالغضب تجاه النظام. نحن نناضل تحت شعار “أي صفعة موجهة لواحد هي صفعة للجميع”. الماركسية نظرية شاملة للنضال من أجل تحرر البشرية، وهي تضع الطبقة العاملة على رأس هذا النضال لأنها أكثر الطبقات الاجتماعية المضطهَدة ثورية، ولها دور متميز في الإنتاج والمجتمع، ولأنها نتاج مباشر للنظام الرأسمالي. هذا الدور القيادي للطبقة العاملة في النضال ضد جميع أنواع الاضطهاد ينبع أيضا من ظروف حياتها وعملها التي تحتوي، في شكل جنيني، على العناصر المستقبلية للمجتمع الاشتراكي، الذي يلغي الانقسام الطبقي واضطهاد أمة ما أو شعب ما من قبل شعب آخر، وبالطبع اضطهاد الرجال للنساء.

هذا التضامن النشط يتعارض بشكل مطلق مع مفهوم ”النصرة”، الذي ينشأ من تأكيد أتباع سياسات الهوية على أولوية التجربة الذاتية. لأنهم يزعمون أن الذين عاشوا شكلا معينا من الاضطهاد هم وحدهم من يفهمونه ويستطيعون محاربته، بينما أولئك الذين يتعاطفون مع محنة المجموعات المضطهَدة والمهمشة فتتم تنحيتهم إلى دور ثانوي كمناصرين سلبيين.

لكن ما يسمى “بسياسات الهوية” هي في الواقع ضارة بقضية النساء والأمريكيين السود والمهاجرين والسكان الأصليين ومجتمع الميم. إنها تعمق الانقسامات بينما تدعي تجاوزها، وتخنق حرية التعبير وتجعل النقاش العقلاني مستحيلا. يعمل السياسيون الديماغوجيون والمتعصبون البرجوازيون الصغار الذين يستبدلون الحجج بالشجب والصراخ، على قمع أي شخص يجرؤ على التشكيك في “صوابيتهم السياسية”. ويتم تعميم جو من الهستيريا.

يفترض هؤلاء الناس أن المشاكل السياسية والاجتماعية يمكن حصرها في مشاكل المجموعات المضطهَدة. يبدو أنهم يعتقدون أن المطالبة بقوانين عادلة خاصة باللون والجندر سوف تحل جميع المشاكل. في الواقع إن مشاكل الأقليات المضطهَدة هي انعكاس للتناقضات العميقة للرأسمالية، وليست السبب وراءها. وبهذه الطريقة فإن تلك المطالب تصرف الانتباه عن المشاكل الحقيقية وتنشر ارتباكا وانقساما لا نهاية لهما. هؤلاء الناس يتهمون الماركسيين بتجاهل نضال المضطهَدين. يقولون إننا ننتظر ثورة تحل كل المشاكل، وليست لدينا إجابات لما هو موجود الآن هنا. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. نحن نقترح أساليب الصراع الطبقي للنضال ضد الاضطهاد. نقترح تكتيكات النضال الجماهيري ضد كل المظالم. إن أنصار سياسات الهوية الإصلاحيين هم الذين يتبنون المحاصصة والتقيد بالقوانين بينما يتركون هيكل الرأسمالية كما هو. إنهم يزرعون الارتباك ويقسمون الناس إلى مجموعات أصغر فأصغر، ويجعلونهم عاجزين عن مقاومة المصدر الحقيقي للاضطهاد والاستغلال. نحن نوضح فقط أن مشاكل المضطهَدين هي انعكاس للتناقضات العميقة للمجتمع الطبقي، ومن الطوباوي الاعتقاد بأن هذه المشاكل يمكن حلها بالكامل مع بقاء العبودية الطبقية. وحدها أكبر وحدة ممكنة بين جميع قطاعات المضطهَدين والمستغَلين هي التي يمكنها محاربة الظلم اليوم، وتمهيد الطريق للإطاحة بالنظام الرأسمالية.

سياسات التقسيم

لا شك في أن العنصرية هي مسألة مهمة في المجتمع الرأسمالي. لطالما استُخدمت من قبل الطبقة السائدة لتقسيم الطبقة العاملة وإضعافها، من خلال دفع الفئات الاجتماعية ضد بعضها البعض على أساس الإثنية أو لون البشرة أو اللغة، وما إلى ذلك. لذا فإن النضال ضد العنصرية بجميع أشكالها هو من أولويات الماركسيين الذين يسعون دائما لتحقيق أقصى قدر من وحدة الطبقة العاملة في نضالها ضد رأس المال.

ليس هناك من بلد رأسمالي متقدم تكتسي فيه مكافحة العنصرية أهمية عظمى مثلما هو الحال في الولايات المتحدة. ظهور حركة “حياة السود مهمة” هو تعبير عن رغبة الملايين من السود في مقاومة عنف الشرطة والتمييز والعنصرية. وهذا حراك تقدمي بشكل كامل ويجب دعمه.

ومع ذلك فإن الميل إلى “التنظير” لهذه الظاهرة أدى إلى مبالغات يمكن أن تكون لها نتائج سلبية، خاصة بالنسبة لنضال الأمريكيين السود من أجل حقوقهم العادلة. نناضل نحن الماركسيون ضد العنصرية وضد العنف البوليسي، لكننا لسنا ملزمين على الإطلاق بقبول أيديولوجية أحادية الجانب وخاطئة لا تفعل شيئا لمساعدة هذا النضال، بل تؤدي لإعاقته وإضعافه.

لا شك أن هناك أشكالا عديدة من الاضطهاد بالإضافة إلى الاستغلال الطبقي، مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس ورهاب المثلية الجنسية ورهاب المتحولين/ات جنسيا، وما إلى ذلك. ونحن الماركسيون نعترف بكل أشكال الاضطهاد ونناضل ضدها. تكمن المشكلة مع النظرية التقاطعية في أنها تركز على ما يفرقنا وليس ما يوحدنا، حيث تركز على تنويعات لانهائية لأشكال الاضطهاد المختلفة وما يسمى بـ”الامتياز” الذي قد يحظى به أي شخص، وتجادل [النظرية التقاطعية] بأننا نتيجة لذلك لدينا جميعنا مصالح متضاربة. وهذا يضع مختلف المجموعات والشرائح المضطهَدة من الطبقة العاملة ضد بعضها البعض، بدلا من تعزيز النضال الطبقي الوحدوي الكفاحي المطلوب لمحاربة الاضطهاد وإنهاء الاستغلال الطبقي.

تقول النسوية التقاطعية البارزة، باتريسيا هيل كولينز: «تمتلك كل المجموعات درجات متفاوتة من الاضطهاد والامتياز»، وتضيف: «وحسب السياق قد يكون الفرد مضطهِدا، أو عضوا في مجموعة مضطهَدة، أو مضطهَدا ومضطهِداً في نفس الوقت». وتستخدم مثال النساء البيض اللائي يتم اضطهادهن بسبب جنسهن ولكنهن يتمتعن بامتياز بسبب عرقهن. تكمن مشكلة وجهة النظر هذه في أنها تعتبر أنه إذا لم يتعرض الشخص لشكل معين من أشكال الاضطهاد، فهو إذن مضطهِد له مصلحة في الحفاظ على هذا الشكل من الاضطهاد على الآخرين. هذا التركيز على الفرد باعتباره المرتكب الأساسي للاضطهاد لا يؤدي إلا إلى المزيد من تفتيت نضالات المضطهَدين. وعلاوة على ذلك فإنه لا توجد بين الطبقة العاملة أي شريحة لها مصلحة في الحفاظ على اضطهاد شريحة أخرى، بل على العكس تماما.

وبدلا من توحيد كل المضطهَدين في نضال مشترك ضد الرأسمالية والدولة البرجوازية، يريد “التقاطعيون” تقسيم النضال إلى أصغر مكوناته: تحريض النساء السود ضد الرجال السود، والنساء السود ذوات الإعاقة ضد النساء السود السليمات، إلخ. ومن خلال تفكيكهم للأشياء وفصلها بهذه الطريقة فإنهم يقسمون الحركة، ويحولون الانتباه عن القضايا الرئيسية ويضعون مختلف مجموعات وشرائح المضطهَدين ضد بعضها البعض.

وهكذا تتم دعوة كل جزء منفصل لتأكيد حقوقه الخاصة ضد حقوق الآخرين. وبهذا يتم تقسيم الحركة إلى أجزاء أصغر فأصغر. وفي هذه الأثناء، يقوم المضطهِدون الحقيقيون، المصرفيون والرأسماليون وبارونات الصحف ورؤساء الشرطة والرجعيون والعنصريون، بفرك أيديهم بابتهاج ومشاهدة الحركة وهي تستهلك طاقاتها في عدد لا يحصى من الخلافات والصراعات التي لا معنى لها.

وهذا يؤدي إلى هجوم بعض النشطاء على نشطاء آخرين بسبب تصنيفهم المفترض في “التسلسل الهرمي للامتيازات”. وهكذا يُقال إن الرجال السود “متميزون” مقارنة بالنساء السود، الخ. القائمة لا تنتهي والنتيجة الحتمية هي تفتيت الحركة إلى آلاف الأجزاء. وبدلا من النضال ضد العدو المشترك، يتم تشجيع كل شريحة من شرائح المضطهَدين على التركيز على الشكل الخاص الذي تتعرض له من الاضطهاد، ومعارضة كل الشرائح المضطهَدة الأخرى.

وبدلا من الانخراط في النضال الجماهيري، تخوض المجموعات الصغيرة من النشطاء معاركها المنعزلة حول قضايا محددة. لكن الأمور لا تنتهي عند هذا الحد، إذ أنه إذا أخذنا هذه النظرية إلى نهايتها المنطقية، فإنه لا يمكن بناء منظمة، لأن كل فرد هو حتما فريد من نوعه، وله تجربته الفريدة الخاصة مع الرأسمالية. أما حديثهم عن “النصرة” والتلاقي فهو مجرد غطاء لإخفاء الطبيعة التقسيمية للمقاربة التي يتبنونها.

ومن بين الأمثلة عن التطرف العبثي الذي تؤدي إليه هذه الأفكار نجد تلك الضجة الأخيرة حول الرهاب ضد المتحولين/ات جنسيا الذي تبنته النسويات الراديكاليات، مثل جولي بيندل وجيرمين جرير وغيرهن، اللائي أطلقن عددا من التعليقات القدحية ضد النساء المتحولات جنسيا، متهمينهن بـ”عدم كونهن نساء حقيقيات”. هذا تعبير عن هوس سياسات الهوية بتحديد الفئة التي ينتمي إليها الشخص. علاوة على ذلك فإنه بدلا من مناقشة ونقد الأفكار السياسية التي يختلفون معها، يرد كلا الجانبان بمقاطعة بعضهم البعض وعدم استخدام المنصات المشتركة والاحتجاجات والبلطجة التي توقف الأنشطة وتمنع النقاش.

إذا كان صحيحا أن كل شريحة من المضطهَدين تعاني من الاضطهاد بطريقة خاصة ومختلفة، فيمكن القول بأن كل فرد على حدة يختبر الأشياء أيضا بشكل مختلف، وبالتالي لا يمكن لأي شخص آخر فهم مشاكلي الخاصة، والتي هي ملكيتي الشخصية. تقودنا هذه الفكرة مباشرة إلى المستنقع الفلسفي للمثالية الذاتية التي هدمها لينين بشكل شامل في كتابه “المادية والنقد التجريبي”. تظهر المثالية الذاتية المتأصلة في النظرية التقاطعية في أكثر صورها فجاجة في الاقتباس التالي مما كتبته باتريسيا هيل كولينز: «تضم المصفوفة الشاملة للهيمنة مجموعات متعددة، لكل منها تجارب مختلفة مع الاضطهاد والامتياز الذي ينتج وجهات نظر جزئية مرتبطة به… لا توجد مجموعة تملك زاوية رؤية واضحة. لا توجد مجموعة واحدة تمتلك النظرية أو المنهجية التي تسمح لها باكتشاف “الحقيقة” المطلقة».

التخلي عن وجهة النظر الطبقية

من النادر جدا أن يجد المرء في أي من المقالات والخطب التي يلقيها أتباع “التقاطعية” أي ذكر لمصطلح “الطبقة”، ناهيك عن الطبقة العاملة.

وفي تلك اللحظات النادرة التي يتم فيها ذكر الطبقة، فإنه لا يتم التعبير عنها بطريقة ماركسية، بل بكونها شكلا من أشكال التمييز (“الطبقوية”)، باعتبارها مجرد واحدة من بين العديد من أشكال التمييز وليس الأهم بأي حال من الأحوال. لم تعد الطبقة العاملة منتجة كل الثروات، الطبقة التي يتم استغلالها في العملية الإنتاجية، بل مجرد فئة واحدة أخرى من الأشخاص الذين “يتعرضون للتمييز”، وهذه حالة مؤسفة أخرى من اليساريين السابقين الذين تخلوا تماما عن وجهة النظر الشيوعية والثورة الاشتراكية.

وعوض العثور على جذور الاضطهاد في المجتمع الطبقي، في الرأسمالية، في الهيمنة الاقتصادية للمصرفيين والرأسماليين، يحاول “التقاطعيون” العثور على تلك الجذور في السلوك الاجتماعي للبشر واللغة التي يستخدمونها. من وجهة نظرهم، ليس اضطهاد المرأة اليوم نتيجة للعبودية المأجورة في ظل الرأسمالية، بل نتيجة لاستخدام لغة تمييزية أو هياكل تمييزية في المنظمات والمؤسسات.

في البلدان المستعمرة سابقا، ونتيجة للإفلاس الأيديولوجي للستالينية، سعت مجموعات أو تيارات مختلفة، بعد انتصار الثورتين الصينية والكوبية، إلى إيجاد شكل جديد أكثر أصالة، بعيدا عن “الأرثوذكسية الماركسية”، في شكل فلسفة تحرير جديدة. تجادل هذه الفلسفة المزعومة بأن مفتاح تحرير البلدان المستعمَرة سابقا هو التخلص من المركزية الأوروبية في مجال الفكر واللغة، وهو ما سيؤدي إلى إنهاء الاستعمار إبستيمولوجيا وفكريا. سيكون ذلك هو الأساس لفهم تاريخ تلك البلدان بطريقة “أصيلة”، وحينها سيبدأ تحريرها. يدعونا هذا التفكير الإصلاحي والرجعي، ليس إلى النضال ضد البرجوازية وأشكال الاستغلال الوحشية التي تمارسها، بل لإيجاد طرق جديدة للمضي قدما، من منظور إبستيمولوجي.

المطلوب، طبقا لوجهة النظر هذه، ليس ثورة تهدف إلى تغيير المجتمع بشكل جذري، بل الإصلاح وتغيير عقلية الناس وسلوكهم. الهدف ليس هو تغيير المجتمع، بل السعي لتحقيق الذات الفردية بشكل مجرد، بغض النظر عن حقيقة أنه طالما استمرت الرأسمالية فسيظل الاستغلال والاضطهاد كذلك.

الحزب الثوري هو أداة للطبقة العاملة لحسم السلطة وتغيير المجتمع. إنه ليس نسخة مصغرة من المجتمع الجديد، بل هو الأداة الضرورية لبنائه. غني عن القول إننا نحارب أي شكل من أشكال الاضطهاد بين صفوفنا وفي نشاطنا السياسي. لكن التقاطعيين يتصورون أنه يمكنهم بناء منظمة خالصة خالية من السلوك التمييزي، قادرة على خلق مجتمع خال من التمييز. إنهم لا يفهمون أن أي منظمة ستتعرض لضغط المجتمع الذي بنيت في ظله. فعلى سبيل المثال، اضطهاد النساء في ظل الرأسمالية يجعل من غير المرجح أن يكون لدينا تمثيل متساو للرجال والنساء في معظم المنظمات طالما أن الرأسمالية موجودة. يجب علينا إزالة جميع الحواجز التي تحول دون مشاركة النساء وبقية المجموعات المضطهَدة الأخرى، لكنه لا يمكننا إزالة ضغوط المجتمع الطبقي، طالما أن المجتمع الطبقي نفسه مازال موجودا. ينتهي الأمر بالتقاطعيين بتركيز كل طاقاتهم على بناء نموذجهم المثالي للمجتمع المستقبلي ضمن حدود المجتمع القديم، بدلا من بناء المنظمة التي يمكنها بالفعل القضاء على المجتمع القديم وسلوكه التمييزي. هذا المفهوم المثالي هو نفي كامل للمفهوم المادي الديالكتيكي للمجتمع. ويجد المفهوم المثالي طريقه أيضا إلى أنواع “الإصلاحات” التي تطرحها بعض مكونات هذه الحركة: “لغة محايدة بين الجنسين”، “تنشئة أطفال محايدين جنسيا”، إلخ. وبهذه الوسائل يتخيل “التقاطعيون” أن جذور الاضطهاد موجودة في الأفكار السيئة التي يمكن ببساطة “تصحيحها”، وهذا مفهوم إصلاحي ومثالي بشكل كامل.

“مدارس نسوية مختلفة”؟

شهدنا خلال السنوات القليلة الماضية حركات جماهيرية ضد الاضطهاد والتمييز في عدة بلدان. بدءا من حركة “حياة السود مهمة” ضد قتل الشرطة للشباب السود، إلى الاستفتاء حول زواج المثليين في إيرلندا وحركة الدفاع عن الحق في الإجهاض في بولندا والحركة ضد العنف ضد النساء في الأرجنتين والمكسيك وبلدان أخرى. تعكس هذه الحركات شعورا تقدميا يجب علينا أن نرتبط به ويتضمن مساءلة للنظام ككل.

في إسبانيا، اندلع إضراب 08 آذار/مارس والحركة ضد عصابات المغتصبين “La Manada”، والذي شارك فيه مئات الآلاف، بل حتى الملايين، تحت راية النسوية. اكتسبت الكلمة [نسوية] في نظر الجماهير معنى “النضال من أجل المساواة للنساء”. ومع ذلك فإن قادة المنظمات الداعية إلى “الإضراب النسوي” في 08 آذار/مارس هن نسويات بمعنى التمسك بالنظرية النسوية. يجادلون بأن النضال من أجل تحرر النساء يجب أن يكون “أفقيا” (أي يتخطى الحدود الطبقية والسياسية)، وأن الرجال لا يمكنهم أن يكونوا في أفضل الأحوال سوى “حلفاء”، وأنه لا ينبغي لهم أن يشاركوا في الإضراب، بل يجب أن يكون دورهم هو تعويض النساء المضربات في العمل ذلك اليوم. كما يروجن أيضا لفكرة أن استغلال النساء في ظل الرأسمالية يحدث في إعادة إنتاج العمل، وبالتالي يجب علينا النضال من أجل “أجور مقابل الأعمال المنزلية”. لكن عندما اتخذت الحركة ابعادا جماهيرية، لم يكن معظم المشاركين على علم بالعديد من هذه الأفكار.

في ظل هذه الظروف، أثار بعض الرفاق فكرة أنه يجب علينا تبني كلمة “نسوية” ووصف أنفسنا بها. لا نعتقد أن هذا موقف صحيح ولا ضروري. سيكون من الخطأ السياسي الجسيم بالطبع أن نستهل نقاشاتنا في مقالاتنا وفي مداخلتنا بالجدال حول معنى كلمة “النسوية”. إن ما يتعين علينا القيام به، كما هو الحال في أي تدخل في أي حركة جماهيرية، هو استخدام جوانبها الأكثر تقدمية وثورية واقتراح برنامجنا واستراتيجيتنا بطريقة إيجابية. علينا أن نجادل، بطريقة رفاقية، ضد الأفكار الخاطئة وذات النتائج العكسية التي يطرحها قادة الحركة، مع الارتباط بالروح الثورية التي تلهم صفوفها. هذا ما فعلناه حتى الآن، في أماكن مثل المكسيك وإيطاليا (حيث كانت هناك حركة جماهيرية يوم 08 آذار/مارس في عام 2017) وفي إسبانيا. لم تكن حقيقة أننا لا نطلق على أنفسنا “نسويين/ات” عقبة أمام تدخلنا.

يطلق العديد من الشبان والشابات على أنفسهم نسويين/ات دون أن يكونوا في الواقع كذلك من وجهة نظر ماركسية. لقد بدأوا في إدراك انعدام المساواة في المجتمع وما يقصدونه بتسمية أنفسهم بالنسويين/ات هو أنهم ضد اضطهاد النساء ويريدون مجتمعا متساويا. يمكن أن يكون ذلك نقطة انطلاق مناسبة لكسبهم للأفكار الماركسية الثورية.

غالبا ما تتهم النسويات “النظام الأبوي” بمعظم مشاكل المجتمع. صحيح أن استعباد النساء هو أقدم أشكال العبودية، والتي نشأت جنبا إلى جنب مع الهيمنة الطبقية وهي موجودة منذ آلاف السنين. وحده التغيير الجذري للمجتمع ما سيمكن من إنهاء هذا العبودية البغيضة بشكل نهائي. لكن مثل هذا التغيير الجوهري لا يمكن تحقيقه إلا من خلال العمل الثوري الموحد للطبقة العاملة. وهذا يفترض مسبقا وحدة الفعل بين رجال ونساء الطبقة العاملة الذين يناضلون من أجل تحررهم كطبقة. تميل النسويات إلى رؤية النظام الأبوي كهيكل منفصل عن المجتمع الطبقي، مما يؤدي إلى الاستنتاج الحتمي بأن النضال من أجل تحرر النساء منفصل عن النضال من أجل تحرر الطبقة العاملة. هذه فكرة رجعية وتؤدي للانقسام، وهي حاضرة أيضا، وإن بشكل مخفف، بين العديد ممن يسمون أنفسهن نسويات ماركسيات ونسويات اشتراكيات.

لا يمكن أن يتحقق التحرر الكامل للنساء إلا من خلال ثورة اجتماعية تقضي على الاستغلال الذي يقوم عليه اضطهاد المرأة. هل هذا يعني أننا نتجاهل النضال من أجل تحسين حياة النساء في ظل الرأسمالية؟ كلا بالطبع! نحن نناضل ضد حتى أصغر مظاهر التمييز واضطهاد النساء. وهذا هو الشرط المسبق لتحقيق الوحدة النضالية لجميع العمال والعاملات.

يُقال أحيانا إن هناك مدارس نسوية فكرية مختلفة، وهذا صحيح بلا شك. مثلما هناك العديد من المدارس المختلفة للاسلطوية، وبعضها أقرب إلى الماركسية من البعض الآخر. لكن هذا لا يغير حقيقة وجود خط فاصل واضح بين الماركسية الحقيقية وبين اللاسلطوية.

على الرغم من وجود مدارس مختلفة من اللاسلطوية، فإن جميعها لديها نفس النوع من التحيزات، بدرجة أو بأخرى. إن الطريقة الصحيحة لكسب هؤلاء اللاسلطويين القريبين إلى الشيوعية لا تتمثل في التظاهر بعدم وجود تلك الاختلافات، أو أن نقول لهم: “ها أنتم ترون! نحن نناضل جميعا من أجل نفس الشيء!”، بل على العكس تماما؛ إن الطريقة الصحيحة لتبديد ارتباك لاسلطوي نزيه هي أن نشرح له الفرق بين الأفكار المشوشة وغير العلمية للاسلطوية وبين الأفكار العلمية الواضحة للماركسية الثورية.

في زمن الثورة الروسية كان البعض يصفون أنفسهم بأنهم “لاسلطويون شيوعيون”. لكن ونتيجة لتجربة الثورة، اقتربت أفضل العناصر البروليتارية بين اللاسلطويين من البلشفية وقاتلت جنبا إلى جنب مع البلاشفة خلال الثورة والحرب الأهلية. وانضم الكثير منهم إلى الحزب الشيوعي. لقد مثلت نزعة “اللاسلطوية الشيوعية” نوعا من المرحلة الوسيطة أو الانتقالية في الحركة نحو الشيوعية.

وبنفس الطريقة قد تكون بعض مدارس النسوية أكثر تقدما من غيرها. يجب على الماركسيين أن يناضلوا بكل الوسائل المتاحة لهم من أجل التحرر الكامل للنساء. قد يتساءل المرء ماهي النسوية؟ هذا سؤال يستحيل الإجابة عنه بدقة. إنه مصطلح يستخدمه كل من المحافظين والليبراليين والتقدميين واليساريين. يتم استخدامه للدعوة إلى غزو أفغانستان، بمبرر حماية حقوق النساء، وفي نفس الوقت يستخدمه الأشخاص الذين يريدون النضال من أجل المساواة وتحرر الجنس البشري. في الواقع، حتى في إسبانيا، استخدم الحزب اليميني الحاكم أيضا شرائط نسوية أرجوانية في 08 آذار/مارس لإظهار أنهم “نسويون/ات أيضا”! ويعرّف قاموس أكسفورد “النسوية” بأنها: «الدفاع عن حقوق النساء على أساس المساواة بين الجنسين». وهذا التعريف يوضح المشكلة المركزية للمصطلح: إنه لا يقول شيئا على الإطلاق عن المنظور الطبقي.

يمكن تعريف النسوية بما ليست عليه: فهي لا تقدم أي إجابة عن كيفية نشوء الاضطهاد ومن تم كيف يمكن مكافحته وإزالته. لكل واحدة من مدارس النسوية المختلفة إجاباتها الخاصة بها، هذا إذا كانت لديها إجابات أصلا. تشير النسوية إلى أنه من الممكن بطريقة ما القضاء على اضطهاد النساء قبل القضاء على السبب الجذري لهذا الاضطهاد، أي: الرأسمالية والمجتمع الطبقي بشكل عام. وعوض أن توضح الحدود الطبقية تعمل على طمسها. كل مدارس النسوية المختلفة لا تنظر سوى إلى الأعراض وليس إلى الأسباب الجذرية. علينا نحن الماركسيين أن نقول الأشياء كما هي. نحن بحاجة إلى خط فاصل واضح بيننا وبين النسوية. وهذا ليس لأننا لا نناضل من أجل “حقوق النساء ومن أجل المساواة بين الجنسين”، نحن نناضل من أجل ذلك بالطبع، بل لأنه حتى “أفضل أنواع” النسوية لا تؤدي إلا إلى الارتباك والشعور الزائف بالوحدة العابرة للطبقات.

لذلك ليس من المنطقي أن نعلن أنفسنا نسويات/ين ماركسيات/ين. بل إن ذلك، في الواقع، يأتي بنتائج عكسية بشكل مباشر، ولا يساعد على توضيح المسألة للمناضلات الشابات النزيهات اللواتي يطلقن على أنفسهن اسم نسويات. على العكس من ذلك، علينا أن نشرح بوضوح لماذا لسنا نسويات/ين، لمساعدة هؤلاء الناس وكسبهم للماركسية، وحتى لا نخلق جسرا للأفكار البرجوازية الصغيرة غير الطبقية والمثالية الفلسفية للتسلل إلى صفوف الماركسيين.

على الرغم من أنه لا يمكن أن نعلن أنفسنا نسويات/ين، فإنه يجب ألا نعطي، بأي حال من الأحوال، أي انطباع بأننا غير مبالين بالشعور العميق بالسخط الذي تشعر به جماهير نساء الطبقة العاملة اللائي يعانين في ظل الرأسمالية سواء بوصفهن عاملات أو بوصفهن نساء. كما ينبغي ألا نعطي أي مبرر للفكرة الخاطئة القائلة بأن الماركسيين يُخضعون النضال من أجل تحرر النساء لمستقبل اشتراكي بعيد. تحت راية النسوية، وعلى الرغم من كل تناقضاتها وقيودها، ينهض جيل جديد من النساء إلى النضال ضد الوضع الحالي. وانطلاقا من هذا الوضع الملموس، وبالاعتراف بالإمكانيات الثورية التي يتضمنها، يجب علينا أن نجد السبيل لربط اضطهاد النساء الموروث عن الماضي، بالظروف الملموسة لعصر الانحلال الرأسمالي.

وبالمثل، فإننا عندما نشتغل باعتبارنا ثوريين داخل النقابات العمالية، نشارك في النضالات اليومية لرفاقنا العمال والعاملات، بينما نطالب في نفس الآن بنقابات كفاحية وسياسات اشتراكية. وبنفس الطريقة يجب علينا أن نشارك في كل حركة نسائية جماهيرية، ونسعى جاهدين لمنحها الطابع الأكثر كفاحية، وربط المطالب الفورية بالحاجة إلى إحداث تغيير جوهري في المجتمع. من واجبنا بناء جسر الانتقال بين التطلعات الديمقراطية للنساء ونضالهن من أجل المساواة وبين فكرة النضال المشترك لجميع العمال والعاملات ضد النظام الذي يضطهدنا جميعا، مع التأكيد على الحاجة إلى الاتحاد لتوجيه الضربة القاضية ضد الرأسمالية، التي تسعى دائما لتقسيم الطبقة المضطهَدة من أجل تأبيد هيمنتها.

بقولك إنك “نسوية ماركسية” ينتهي بك الأمر إلى اعتبار أن الماركسية لا تشمل النضال من أجل المساواة. صحيح أن الستالينية لم تفعل ذلك، لكن مثلما نخوض النضال ضد الستالينية لاستعادة التراث الماركسي في جميع المجالات، يجب علينا القيام بذلك في هذا المجال أيضا. نحن نجادل بأن الستالينية ليست الماركسية وأن النظام البيروقراطي الستاليني لم يكن نظاما اشتراكيا، وبنفس الطريقة يجب أن نجادل بأن وجهة النظر الستالينية حول النساء والمثليين/يات…الخ، لا علاقة لها مع الماركسية.

إن مصطلح “النساء” بالتعريف، يشمل النساء من جميع الطبقات: الطبقات التي لها مصالح لا يمكن التوفيق بينها. وبالنظر إلى أن النسوية تطمس هذه الفروق والتناقضات الطبقية الحاسمة، فإنه لا يمكن التوفيق بين النسوية وبين الماركسية التي تبدأ بالتحليل الطبقي. إذا كنا نريد كسب النسويات اللائي يتجهن نحو الماركسية، فإن ذلك غير ممكن إلا من خلال الثبات التام على مبادئنا. علينا أن نشدد دائما على أن التحرر الكامل للنساء لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الوحدة الطبقية والثورة الاشتراكية. هناك من يسمين أنفسهن نسويات لأنهن يدافعن عن حقوق النساء. نحن الماركسيين بدورنا ندافع عن حقوق النساء، رغم أننا لسنا نسويات/ين. على أي حال، نحتاج إلى أن نشرح بطريقة رفاقية أننا لا نعارض نضالهن، بل على العكس تماما، نحن نؤيد حقوق النساء، لكننا نعتقد أن تحقيقها رهين بالنضال ضد الرأسمالية، وليس عن طريق تقسيم الصفوف. وفي الوقت نفسه يجب أن نكون في طليعة كل نضال ضد التمييز واللامساواة، ونناضل من أجل حتى أصغر المطالب التي من شأنها خدمة قضية المساواة، ونعارض أي شكل من أشكال الاضطهاد أو التمييز، ونطرح مطالب مثل:

• التوظيف الكامل بأجر متساو عن العمل المتساوي القيمة.

• وضع حد للتقشف (الذي يؤثر بشكل أكبر نسبيا على النساء، ويقطع من أجورهن ويجبرهن على القيام بالمزيد من الأعمال المنزلية، ورعاية الأطفال وكبار السن لتعويض نقص الخدمات الاجتماعية).

• الحق في الإجهاض.

• رعاية صحية مجانية عالية الجودة للجميع، بحيث تشمل الوصول المجاني غير المقيد إلى مراكز تنظيم الأسرة والإجهاض ومراكز مكافحة العنف المنزلي.

• إجازة أمومة بأجر كامل.

• إطلاق برنامج واسع لبناء المساكن الاجتماعية.

• شبكة واسعة من دور الحضانة المجانية وعالية الجودة، تغطي ساعات العمل الفعلية.

• نظام رعاية للمسنين مجاني وعالي الجودة، سواء داخل منازلهم أو خارجها.

• توفير خدمات المطاعم والمصابن.

• مطاعم مجانية عالية الجودة في أماكن العمل وفي المدارس.

• محاربة العنف ضد النساء.

لكن الشرط المسبق لخوض نضال ناجح في أماكن العمل هو وحدة العمال والعاملات بوصفهم عمالا. يتمثل الخط الجوهري الفاصل في أن الماركسية تفسر المجتمع من منظور طبقي، وليس من منظور جندري. إن الانقسام الأساسي في المجتمع هو بين العمال والرأسماليين، بين المستغَلين والمستغِلين. صحيح أن هناك أنواعا أخرى من الاضطهاد، لكن في التحليل الأخير، لا يمكن حل أي منها على أساس الرأسمالية.

وكما هو الحال في كل القضايا الأخرى (الأجور والمعاشات التقاعدية والإسكان والصحة وظروف العمل)، فإن النضال اليومي من أجل الإصلاحات في ظل الرأسمالية هو السبيل الوحيد لتعبئة وتنظيم الطبقة العاملة استعدادا للإطاحة بالرأسمالية، وهو النضال الذي ستلعب فيه النساء العاملات دورا مهما للغاية.

نحن بالطبع نرحب بحقيقة أن هناك نسويات بدأن في فهم حدود النسوية. لكن هذا الاتجاه الإيجابي لا يمكنه أن يكتسي أهمية إلا بكونه مرحلة انتقالية تؤدي في النهاية إلى تبني وجهة نظر طبقية ثورية حازمة. سيتحقق التحرر الكامل للنساء من خلال انتصار الثورة الاشتراكية، أو لن يتحقق أبدا.

“التجذر الاصطلاحي”

بدلا من النضال الحقيقي من أجل المساواة يقدمون محاصصات مصطنعة. وبدلا من النضال من أجل التحرر من خلال إعادة بناء المجتمع بطريقة ثورية، يقدمون لنا “تصحيح سياسي”. وينتهي هذا بمجادلات تافهة لا نهاية لها حول الكلمات والدلالات: مدى جواز أو عدم جواز استخدام هذه الكلمة أو تلك، والحاجة إلى تغيير “اللغة القائمة على الجندر”، وما إلى ذلك.

وفي انسجام مع الروح الحقيقية “للسرد” ما بعد الحداثي الذي يعوض الفعل بالكلمة، تمت إضاعة وقت طويل في بعض البلدان، حيث يقوم الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بـ “اليساريين” وحتى “الماركسيين” بأداء بهلوانيات لفظية لتحريف اللغة، وتحييد المذكر والمؤنث، وما إلى ذلك. هذا النوع من التلاعب بالكلمات لا يقدم أي شيء على الإطلاق للنضال من أجل تحرر النساء أو السود أو أي فئة أخرى. إنها الرمزية في أشد أشكالها فظاظة وسخافة.

لقد سبق لماركس وإنجلز أن تعاملا في كتاب “الأيديولوجيا الألمانية” مع الفكرة القائلة بأنه من خلال تغيير وعي الأفراد يمكنك تغيير الظروف المادية، وأنه من أجل إحداث ثورة عليك أولا “تثقيف” الناس:

سواء من أجل إنتاج هذا الوعي الشيوعي على نطاق واسع، أو من أجل انتصار القضية نفسها، فإن تغيير الناس على نطاق واسع هو، بالضرورة، تغيير لا يمكنه أن يحدث إلا في خضم حركة عملية، في خضم الثورة؛ هذه الثورة ضرورية، ليس فقط لأنه لا يمكن الإطاحة بالطبقة السائدة بأي طريقة أخرى، بل وأيضا لأن الطبقة المنتصرة لا يمكنها أن تنجح في تخليص نفسها من كل قمامة العصور السابقة وتصبح مهيأة لتأسيس المجتمع الجديد إلا في الثورة.

هوس ما بعد الحداثة باللغة يقلب المسألة برمتها رأسا على عقب. إن تغيير اللغة لن يغير ولو ذرة واحدة من حقيقة الاضطهاد الواقع. والتفكير بتلك الطريقة يكشف عن موقف مثالي تماما. تتغير اللغة وتتطور لتعكس التغييرات في العالم الحقيقي، لكن العكس غير صحيح نهائيا.

الخلافات حول الكلمات هي نزعة نموذجية داخل الحلقات الدراسية الجامعية حيث يكون لدى الناس كل الوقت للانخراط في نقاشات لا نهاية لها حول لا شيء على وجه الخصوص، مثل كلب يطارد ذيله. كتب الشاعر الألماني غوته: “في البدء كان الفعل”. إن المطلوب لتحرر النساء هو العمل على محاربة الاضطهاد والتمييز. لكن الشرط المسبق للعمل الجماهيري الناجح هو على وجه التحديد الوحدة النضالية لنساء ورجال الطبقة العاملة ضد أرباب الأعمال الذين تقوم سيطرتهم على الاستعباد المشترك للطبقة العاملة كلها.

يبدو أن البرجوازية الصغيرة “الراديكالية” يجب أن يكون لديها دائما شيء لتثير الضجيج حوله، مثل ما يسمى بنظرية الكوير. ليس هذا هو المكان المناسب لتحليل هذه النظرية بالتفصيل. يمكن القيام بذلك في وثائق ومقالات منفصلة. يكفي أن نقول إنها نظرية رجعية تماما متجذرة في المثالية الفلسفية في أكثر صورها فجاجة. إنها تزرع الانقسامات التي تقوض النضال ضد الاضطهاد وتصبح حتما لعبة في أيدي الرجعية، بغض النظر عن نوايا أولئك الذين يتبنون هذه المفاهيم.

تقوم الماركسية على المادية الفلسفية، التي هي الطريقة العلمية الحقيقية الوحيدة لتحليل الطبيعة والمجتمع والسلوك البشري. سواء أحب المرء ذلك أم لا، فإن الجنس في عالم الحيوان (بما في ذلك البشر) هو الطريقة الطبيعية للتكاثر. يوجد التكاثر اللاجنسي في عالم الحيوان، عند ديدان الأرض وبعض الأسماك، على سبيل المثال، لكنه يختفي مع مسيرة التطور، ولا وجود له نهائيا بين الثدييات.

الجنس ليس شيئا حدده الناس أو اخترعوه بوعي. لقد كان نتاجا للتطور. إن الفكرة القائلة بأن الجنس يمكن تحديده بشكل مصطنع بإرادة الإنسان هي فكرة تعسفية، وخاطئة فلسفيا وعلميا.

التقسيم الجنسي الأساسي هو بين الذكر والأنثى. هذا محدد بشكل طبيعي من خلال عملية الإنجاب. وهذا بدوره يحمل في داخله بذرة تقسيم العمل، الذي أصبح في مرحلة معينة أساس الانقسامات الطبقية في المجتمع. يتزامن اضطهاد النساء من قبل الرجال، المُعبَّر عنه في العلاقات الأسرية الأبوية، مع بدايات المجتمع الطبقي، ولن يُستأصل إلا بعد إلغاء المجتمع الطبقي نفسه.

يناضل الماركسيون من أجل التحرر الحقيقي للنساء وجميع الفئات المضطهَدة الأخرى. لكن التحرر لا يمكن أن يتحقق بمجرد تخيل أنه لا يوجد شيء اسمه جندر. يمكن للمرء أن يتخيل نفسه على أنه أي شيء يريد. لكن المرء في النهاية مضطر لقبول الواقع المادي على حساب الشطحات العقلية والفكرية للمثالية الفلسفية.

يبدو أن هناك خيطا مشتركا يجمع كل التنويعات الغريبة والتي لا حصر لها لنظرية الكوير (لا ينبغي لنا أن نكرِّم هذه الأفكار ونطلق عليها اسم نظرية) وهو أولا أنها تصور الجندر (وحتى الجنس) على أنه بنية اجتماعية بحتة، وتنكر كل الجوانب البيولوجية والمادية. وتتمثل الخطوة التالية في إنشاء مجموعة متنوعة لا حصر لها تقريبا من التوجهات الجندرية في المخيلة، والتي يمكن للجميع الاختيار من بينها.

لا ننكر حقيقة أنه بالإضافة إلى الذكور والإناث، هناك أشكال وسيطة بينهم معروفة منذ فترة طويلة جدا. ففي أمريكا ما قبل كولومبوس، كان يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم مجموعة اجتماعية خاصة وكانوا يعاملون باحترام.

العلم الحديث يمكّن الناس من تغيير جنسهم، ويجب أن يكون ذلك متاحا لأي شخص يطلبه. وغني عن القول إننا نعارض تماما أي شكل من أشكال التمييز والتعصب تجاه المتحولين والمتحولات جنسيا. كما لا يوجد لدينا أي اعتراض على تحديد أي شخص لنفسه كما يحلو له. لكن تصوير ذلك وكأنه وسيلة لتغيير المجتمع، ينتهي إلى الفكرة (الملائمة للغاية للطبقة السائدة) القائلة بأن التحرر هو مجرد مسألة شخصية في اختيار أسلوب الحياة.

نرى الآثار السلبية لهذا النوع من الأفكار في الانقسامات القبيحة والصراع المرير بين بعض النسويات الراديكاليات وبعض النشطاء المدافعين عن حقوق المتحولين/ات جنسيا. لا يمكن القول بأن مثل هذه التطورات والأحداث تخدم النضال ضد الاضطهاد بأي شكل من الأشكال. إنهم جميعهم رجعيون بشكل كامل ويجب مكافحتهم.

“الهوية” في الحركة العمالية

يناضل الماركسيون من أجل تحرر النساء، وسيدافعون عن أي مكسب تقدمي، مهما كان جزئيا، يميل إلى تحسين وضع النساء حتى في حدود النظام الرأسمالي الحالي. لكننا سنخوض هذه المعركة بأساليبنا الخاصة، أي بأساليب الصراع الطبقي البروليتاري.

نشير إلى أنه، في التحليل الأخير، لا يمكن تحقيق التحرر الحقيقي والكامل للنساء إلا على أساس التحول الجذري والكامل للمجتمع، أي عن طريق الثورة الاشتراكية. لكن الشرط المسبق لذلك هو أن الطبقة العاملة يجب أن تتحد وأن تعي مهامها الثورية.

يعارض الماركسيون كل أنواع الاضطهاد أو التمييز ويناضلون ضدها. لكن في سياق معارضتنا ونضالنا ضد الاضطهاد والتمييز، يجب علينا ألا ننسى أبدا أن هدفنا الرئيسي هو النضال من أجل الاشتراكية، وهذا يعني قبل كل شيء الدفاع عن وحدة الطبقة العاملة. نحن ندافع عن الوحدة الكاملة للطبقة العاملة، فوق ورغم كل الفروق في الجندر والاثنية واللغات والأديان. كل ما يساهم في الحفاظ على وحدة العمال ورفع وعيهم الطبقي هو تقدمي، وكل ما يؤدي إلى تقسيم العمال، لأي سبب كان، هو رجعي ويجب مكافحته. هذه نقطة يجب أن نصر عليها. إن اضطهاد النساء -وبشكل خاص اضطهاد نساء الطبقة العاملة- بالإضافة إلى ويلات الرأسمالية الأخرى، مثل تدمير البيئة أو الاضطهاد القومي، هي جزء لا يتجزأ من الرأسمالية. لا يمكن أن تكون هناك رأسمالية بدون العبودية المنزلية أو العبء المزدوج الذي تعانيه نساء الطبقة العاملة؛ كما لا يمكن أن تكون هناك رأسمالية بدون تدمير الكوكب بسبب تعطش الشركات المتعددة الجنسيات للربح؛ ولا يمكن أن تكون هناك رأسمالية بدون استعباد الأمم الصغيرة من قبل القوى الإمبريالية لنهب مواردها وضمان هيمنتها ضد القوى الأخرى. ومن ثم فإن الطريقة الحقيقية الوحيدة لوضع حد لكل هذه الشرور هي من خلال التحويل الاشتراكي للمجتمع، بقيادة الطبقة العاملة.

لقد تعلمت بيروقراطية الحركة العمالية كيف تدفع مختلف مجموعات العمال ضد بعضها البعض، وسمحت بتفاوت الأجور بين مختلف أقسام الطبقة العاملة. ويعمل القادة النقابيون، الذين يبحثون عن حياة سهلة وتسويات مع أرباب العمل، على التضحية بمجموعات معينة من العمال مقابل الحصول على تنازلات لصالح أخرى. في المزيد والمزيد من البلدان يتم استخدام “التمييز الإيجابي” بشكل منهجي من قبل البيروقراطية لملء المناصب القيادية داخل الحركة العمالية بعناصر وصولية تستخدم جندرها أو اثنيتها للتسلق إلى أعلى، بمساعدة وتحريض من طرف البيروقراطية اليمينية، مما يؤدي إلى دفع مرشحي اليسار جانبا.

يحرص البيروقراطيون، لأسبابهم الخاصة، على إنشاء “مقاعد محجوزة” للنساء والسود وغيرهم. تستخدم البيروقراطية النقابية على وجه الخصوص هذا الإجراء من أجل تمييع مكونات الهيئات المنتخبة. إنهم يعتمدون على مجموعات من البيروقراطيين الوصوليين الذين يُفترض أنهم يمثلون “مجموعات خاصة”، والذين يشقون طريقهم إلى أعلى السلم الاجتماعي من خلال هذه الرعاية، ويكونون سعداء بدعم القيادة طالما تمنحهم الاستقلالية في الدفاع عن “قضاياهم”. لكن ما يحدث هو أنه بدلا من إعطاء “تمثيل” لتلك “المجموعات الخاصة”، فإن ما يتم تحقيقه هو قيادة أقل تمثيلية، غير منتخبة على أساس مواقفها السياسية الفعلية، بل ببساطة لتلبية المحاصصة وما إلى ذلك.

إن الإصرار على الجندر أو الاثنية كقضية رئيسية يؤدي إلى تقسيم الناس ليس على أسس طبقية، بل على أسس واعتبارات أخرى. وعواقب ذلك سلبية للغاية بالنسبة للطبقة العاملة. ليس من قبيل المصادفة أن قادة النقابات العمالية اليمينيين والإصلاحيين، والإصلاحيين اليساريين على وجه الخصوص، يستخدمون عبارات “التصحيح السياسي” و”سياسات الهوية” لصرف الانتباه عن الصراع الطبقي وعن القضايا الحقيقية التي تواجه الطبقة العاملة. إنهم يركزون على مسائل اللغة بدلا من محاربة الاضطهاد بالصراع الطبقي الكفاحي.

هذه الأفكار الخبيثة هي أسلحة في أيدي الأقسام الأكثر رجعية بين البيروقراطية النقابية، والتي يتمثل دورها الرئيسي في مراقبة الطبقة العاملة والحد من نطاق وفعالية الصراع الطبقي. إلى جانب الأسلحة التقليدية للأساليب البوليسية التي تنهجها البيروقراطية، مثل التهديد بالإجراءات التأديبية واقصاء الأعضاء الكفاحيين والطرد، وما إلى ذلك، تنضاف الآن طريقة جديدة وهي: الترهيب والمطاردات من قبل متعصبي “سياسات الهوية”.

في أحد المؤتمرات النقابية في بريطانيا، قدم المدافعون عن سياسة الهوية مقترح قرار ينص على أن النقابة يجب أن تقبل تلقائيا أي إتهام بالتحرش من قبل امرأة ضد رجل على أنه صحيح، دون الحاجة لأي دليل آخر سوى كلمة المرأة المعنية. وقد جادل مندوب ذكر ضد هذا الاقتراح قائلا: «أنا مندوب نقابي. تخيلوا أن لدي مشرفة تريد التخلص مني، ستكون مهمتها سهلة للغاية: ليس عليها إلا أن تتهمني بالتحرش وسأطرد على الفور ولن تتمكن النقابة من الدفاع عني». لقد تم رفض الاقتراح في ذلك الاجتماع، لكن خطر مثل هذه السياسات واضح.

السبب في عدم تعرض أنصار سياسة الهوية للتحدي الجاد ليس كونهم كسبوا الجدل، بل لأن الناس يخافون من التعرض للتنمر من قبلهم. فأي شخص يجرؤ على الاعتراض على مؤامراتهم يتم وصفه على الفور بأنه عنصري أو كاره للنساء، أو أي نعت مشابه آخر. وقد أدى ذلك إلى جو من التنمر وحملات شرسة من الافتراءات ضد النقابيين اليساريين الذين يتم اصطيادهم بتهم ملفقة. وتغرق الشكاوى على الفور بسبب عويل وصراخ دعاة سياسة الهوية الذين لا يترددون في إلقاء أبشع الإهانات والانتهاكات ضد خصومهم.

إن مبدأ المحاصصة هو في الواقع أكثر أنواع التزوير وقاحة. لقد تم انتخاب العديد من اليمينيين بمبرر أنه أو أنها ممثل لهذه الأقلية أو تلك. لكن الجميع يلتزم الصمت حيال ذلك خوفا من اتهامه بأنه يدافع عن التمييز.

في بريطانيا، كان توني بلير حريصا على استخدام القوائم المختصرة الخاصة بالنساء فقط لاختيار أعضاء البرلمان الوصوليين والضغط على اليسار. ومن المفارقات أن “اليساريين” كانوا هم في الأصل من اقترحوا هذه الأفكار كجزء من أجندة التمييز الإيجابي الخاصة بهم. وبهذه الطريقة خدموا مصالح الجناح اليميني. استخدم الجناح اليميني لحزب العمال المسألة القومية لتقويض جيريمي كوربين، من خلال اقتراح مقعدين إضافيين في اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال، أحدهما لويلز والآخر لاسكتلندا، بحجة وجوب تمثيل “الأمم”. و”للمصادفة الغريبة” فقد كان الجناح اليميني هو من يسيطر على فرعي حزب العمال في كل من اسكتلندا وويلز.

الإصلاحيون اليساريون، الذين يحرصون دائما على تقديم أنفسهم على أنهم الأكثر نسوية، يصرون بقوة أكبر على هذا. إنهم يصرون على نظام المحاصصة وعلى المعاملة الخاصة للنساء والفئات المضطهَدة الأخرى. ويذهب قادة بوديموس [اسبانيا] ومومينتم [بريطانيا]، وغيرهم أبعد بكثير في هذه المسائل عما هو الحال في الحركة العمالية التقليدية، مما يعكس التأثير البرجوازي الصغير على هذه المنظمات. إن إحدى النتائج الرجعية للمحاصصة هي أنها تعمق الانقسام والمنافسة داخل الطبقة العاملة. فخلال المرحلة الحالية من الأزمة الحادة للرأسمالية، ومع تطبيق جميع الحكومات لسياسة الاقتطاعات والتقشف، يمكن لعدد كبير من الأفكار الرجعية أن تلقى استجابة من بعض الفئات المتخلفة من الطبقة العاملة، الذين يمكنهم استخلاص النتيجة الرجعية بأن مشاكلنا لا تنبع من الرأسمالية في حد ذاتها، بل من وجود الأقليات القومية والمهاجرين، ومن النساء المطالبين بحقوقهن، وما إلى ذلك. هذا هو أساس دعاية الحركات اليمينية الفاشية والأكثر رجعية: ليس لدينا وظائف أو حضانات كافية، أو لدينا عدد محدود من المقاعد الجامعية أو المكاسب الاجتماعية، وما إلى ذلك، بسبب الحصص الممنوحة للأقليات القومية والجندرية، وما إلى ذلك. كل هذا يساعد على نشر سموم العنصرية والانقسام داخل الطبقة العاملة. وإلى جانب ذلك فإن أولئك الذين يتم انتخابهم على أساس المحاصصة سيتم اعتبارهم دائما منتخبين من الدرجة الثانية، ويمكن بسهولة رفض ما يقولونه بالقول إنهم ليس لديهم تفويض بل تم انتخابهم فقط لأنهم نساء/ سود/ مثليين أو أيا كان سبب الحصة التي انتخبوا على أساسها.

في البرازيل الوضع أسوء. لقد استسلم اليسار بأكمله تقريبا للاقتراح الشنيع بتقسيم السكان كلهم على أساس “الاثنية” من أجل إدخال نظام المحاصصة إلى الجامعات، وما إلى ذلك – وهو أمر اتخذ رفاقنا البرازيليون موقفا حازما ضده. لقد جادلوا بأن ما يجب أن نكافح من أجله هو التعليم والرعاية الصحية والإسكان وما إلى ذلك للجميع -وهو الهدف القابل للتحقيق بالنظر إلى الثروة الموجودة في المجتمع- بدلا من النظر إلى هذه الموارد على أنها شحيحة وبالتالي نكافح من أجل تخصيصها النسبي.

نحن نعارض بشدة ما يسمى بالتمييز الإيجابي والمحاصصة والتمثيلية وما شابه ذلك. إن طريقة ضمان أقصى مشاركة للنساء والأقليات في الحركة العمالية هي أن نثبت عمليا، وليس بالأقوال، أننا نكافح ضد جميع أنواع الاضطهاد والتمييز، من أجل الوظائف للجميع، والأجور المتساوية مقابل العمل ذو القيمة المتساوية، إلخ. وفقط على أساس برنامج كفاحي سننجح في اجتذاب أكثر شرائح المجتمع اضطهادا. لكن هذا يعني أن القيادة يجب أن تكون في أيدي أفضل المناضلين، سواء كانوا رجالا أو نساء، سودا أو بيضا، مثليين أو غير مثليين.

تم إدخال هذه الرمزية الفارغة إلى الحركة العمالية لأول مرة من خلال نقابات العمال ذوي الياقات البيضاء، المستندة إلى مهنيي الطبقة الوسطى، والذين كانوا أقرب إلى المثقفين والطلاب من الطبقة الوسطى. ونتيجة لانحسار التصنيع والاندماجات النقابية، تمكنت هذه الشرائح من إزاحة العمال جانبا. كان أعضاء الطبقة الوسطى الأكثر بلاغة (أو على الأقل الأكثر صراخا) قادرين على إصابة الحركة بأفكارهم “العصرية”، التي وضعوها كمعيار مقبول.

وقد أثر ذلك على النقابات في العديد من البلدان بدرجة أو بأخرى. وهكذا صارت لدينا مقاعد محجوزة للنساء ولمجتمع الميم وللسود وللمعاقين، وغيرهم. وصار لكل منهم مؤتمرات ولجان منفصلة خاصة بهم، وما إلى ذلك، ولكل منهم بيروقراطيته الصغيرة. إنهم يصرون على أنهم وحدهم من يمكنهم اتخاذ قرار بشأن تلك القضايا. وبما أنهم لا يهددون سيادة البيروقراطية النقابية، فإنه يُسمح لهم بإدارة إقطاعياتهم الخاصة. ويتقبل الإصلاحيون والعصبويون اليساريون هذا الوضع، وذلك لأن أفكارهم وسياساتهم هي أيضا ذات طابع برجوازي صغير.

رد الفعل ضد النسوية الليبرالية

تطالب نساء الطبقة الوسطى بمنافذ وظيفية جديدة: ليصبحن صاحبات أبناك أو مديرات تنفيذيات أو أساقفة، أو حتى رئيسات للولايات المتحدة. وهذه صيغة جديدة للأغنية القديمة للإصلاحيين: “أنا أؤيد تحسين ظروف الطبقة العاملة، واحدا تلو الآخر، بدءا بنفسي”.

لكن لا أحد منهن يشرح كيف يمكن لدخول النساء إلى مجالس إدارة البنوك أن يساعد في خدمة قضية النساء العاملات. هل المديرات أكثر لطفا مع موظفيهن من المديرين الرجال؟ الحصيلة ليست مشجعة جدا في هذا الصدد. أما مسألة كيف يمكن اعتبار نجاحات مارغريت تاتشر أو أنجيلا ميركل أو تيريزا ماي قد ساعدت قضية “شقيقاتهن” في المصانع، فهو لغز ما يزال يتعين حله.

تدريجيا بدأ عدد متزايد من النساء المهتمات بالسياسة يفهمن الجوانب السلبية للنسوية. صرن يرين أن الحركة النسوية بدلا من أن تدعو إلى النضال ضد الرأسمالية باعتبارها نظاما استغلاليا وقمعيا، فإنها تشجع النساء على التفكير في تحقيق مكاسب فردية لشريحة معينة من النساء.

في كتابها “لماذا لست نسوية”، وصفت جيسا كريسبين الحركة النسوية بأنها علامة تجارية يساندها المديرون التنفيذيون وشركات التجميل، وهي «معركة لتمكين النساء من المشاركة على قدم المساواة في اضطهاد الضعفاء والفقراء». هذا كلام جيد، على الرغم من أن جيسا كريسبين، ورغم عنوان الكتاب، ما زالت تصف نفسها بأنها… نسوية.

Sen. Hillary Clinton stopped to shake hands with people as she came out to the stage to address the crowd.

وتعلق مجلة نيويوركر قائلة: « يأتي [كتاب] “لماذا لست نسوية” في وقت قد تكون فيه بعض النساء الليبراليات في أمريكا مستعدات لتحول كبير، بأن يملن فجأة نحو نظام لا يقدس “علامات النجاح في الرأسمالية الأبوية… المال والسلطة”، على حد تعبير كريسبين. يبدو أن هناك رغبة متزايدة في نسوية تهتم بحياة النساء ذوات الدخل المنخفض أكثر من اهتمامها بعدد المديرات التنفيذيات.

وجهة النظر المعارضة -القائلة بأن النسوية ليست فحسب متوافقة على نطاق واسع مع الرأسمالية، بل تخدمها في الواقع- تمتعت بالتأكيد بنصيبها من الاهتمام. فهذه هي الرسالة التي تناقلتها الغالبية العظمى من النماذج النسائية على مدى السنوات العشر الماضية، وهي أن النسوية هي الكلمة التي تطلقها على المرأة عندما تحصل على ما يكفي من المال لتفعل ما تشاء. كريسبين لا ترحم في تشريح هذا النوع من النسوية. تقول عنها إنها تعني ببساطة التخلص الفردي من الاضطهاد ثم العمل على إدامته، وإنها تتبنى النموذج الأبوي للسعادة، والذي يعتمد على “وجود شخص آخر يخضع لإرادتك”. تعتقد كريسبين أن النساء، اللائي تم استغلالهن طيلة قرون، قد أصبح لديهن شغف لا شعوري باستغلال الآخرين. “فبمجرد أن نصبح جزءا من النظام ونستفيد منه على نفس المستوى الذي يتمتع به الرجال، فلن نهتم، كمجموعة، بمن عليه الدور كي يتأذى”.

تجد أزمة النسوية انعكاسها في تحول سريع للسياسة في اتجاه اليسار في الولايات المتحدة، تحول نحو الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية، لا سيما منذ انتخاب دونالد ترامب. لقد  انفضحت الطبيعة الرجعية لسياسات الهوية خلال الانتخابات الأمريكية لعام 2016، عندما ناشدت هيلاري كلينتون، الممثلة الأكثر إخلاصا لوول ستريت وطبقة أصحاب الملايير، النساء بالتصويت لها “لأنني امرأة!”.

وزيرة الخارجية السابقة، مادلين أولبرايت، الرجعية المتشددة ومشعلة الحروب المعروفة، قالت أثناء تقديمها لهيلاري كلينتون في حدث في نيو هامبشاير، للجمهور والناخبين بشكل عام: “هناك مكان خاص في الجحيم مخصص للنساء اللواتي لا يساعدن بعضهن البعض!”. وخلال الحدث، رفضت ملايين النساء الأميركيات تلك الدعوة إلى “سياسة الجندر”، وأدرن ظهورهن لكلينتون وأولبرايت ودعمن ساندرز. كانت هذه ضربة حقيقية لأنصار “سياسة الهوية”.

أظهر ذلك أن النساء في الولايات المتحدة عند التصويت لمرشح في الانتخابات الرئاسية يعتبرن سياسات وأفكار المرشح أكثر أهمية من جندره. وهن محقات تماما في ذلك، على الرغم من أنه من المؤسف أن البديل الوحيد الذي كان أمامهن هو الرجعي المتشدد، دونالد ترامب، الذي استعمل خطابا ديماغوجيا صور به نفسه على أنه المرشح “المناهض للمؤسسة”. لو ترشح بيرني ساندرز ضد ترامب، لكان الكثيرون قد صوتوا له. ولكن هذا موضوع آخر.

التراث الذي ندافع عنه

من الغريب أن نلاحظ أن الماركسيين متهمون بإهمال أو تجاهل مشاكل النساء. لكن الماركسيين رفعوا مطلب حق الاقتراع العام في برامجهم منذ البداية. وكان هذا قبل حركة النساء المطالبات بحق الاقتراع (suffragettes). ناضلت إليانور ماركس في الحركة النقابية البريطانية من أجل المساواة في الأجور بين النساء والرجال. ومنذ عام 1848 رفع ماركس وإنجلز مطلب إلغاء الأسرة البرجوازية، على الرغم من إدراكهما أنه لا يمكن تنفيذ ذلك بين عشية وضحاها.

بمجرد أن استولى الحزب البلشفي على السلطة في روسيا عام 1917، نفذ البرنامج الأكثر شمولية لتحرر النساء في التاريخ، فضلا عن إلغاء تجريم المثلية الجنسية، الشيء الذي كان أكثر تقدما من أي شيء شهده العالم الرأسمالي في تلك الفترة. أظهر البلاشفة في الممارسة العملية أن الإطاحة بالرأسمالية كانت قادرة على ضمان حق النساء والمثليين أكثر بكثير من أي قدر من الجدال المجرد حول الاضطهاد بشكل عام.

وكما أشار تروتسكي:

لقد بذلت الثورة جهدا بطوليا لتدمير ما يسمى بـ”قلب الأسرة”، تلك المؤسسة القديمة الخانقة والراكدة التي تؤدي فيها امرأة الطبقات الكادحة العمل المنزلي منذ الطفولة حتى الموت. كان من المقرر، وفقا للخطط، استبدال الأسرة باعتبارها مشروعا صغيرا مغلق، بنظام مكتمل للرعاية الاجتماعية: دور الأمومة، ودور الحضانة، ورياض الأطفال، والمدارس، والمطاعم الاجتماعية، والمغاسل الاجتماعية، ومحطات المساعدة الأولية والمستشفيات والمصحات والمنظمات الرياضية والسينمات، وما إلى ذلك. الاستيعاب الكامل لوظائف التدبير المنزلي للأسرة من قبل مؤسسات المجتمع الاشتراكي، وتوحيد جميع الأجيال بالتضامن والمساعدة المتبادلة، هو أساس تمكين المرأة، وبالتالي الزوجين المتحابين، من تحقيق تحرر حقيقي من قيود عمرها آلاف السنين.

(…) لقد اتضح أنه من المستحيل تحطيم الأسرة القديمة بضربة واحدة -ليس بسبب نقص الإرادة، وليس لأن العائلة كانت راسخة الجذور في قلوب الناس. بل على العكس من ذلك، فبعد فترة قصيرة من عدم الثقة في الحكومة ودور الحضانة ورياض الأطفال وما شابهها، أدركت النساء العاملات، وبعدهن الفلاحات الأكثر تقدما، المزايا التي لا تُحصى للرعاية الجماعية للأطفال وكذلك تشريك اقتصاد الأسرة بأكمله. لكن ولسوء الحظ اتضح أن المجتمع فقير للغاية ومنخفض الثقافة. والموارد الحقيقية للدولة لم تتوافق مع خطط ونوايا الحزب الشيوعي. لا يمكنك “إلغاء” الأسرة، عليك استبدالها. لا يمكن تحقيق التحرر الفعلي للمرأة على أساس “العوز العام”. سرعان ما أثبتت التجربة هذه الحقيقة الصارمة التي صاغها ماركس قبل ثمانين عاما. (الثورة المغدورة – الفصل 7).

مرة أخرى حول أهمية النظرية

ما هي النظرية التي يدافع عنها التيار الماركسي الأممي؟ إننا أولا وقبل كل شيء، نقف على أساس أفكار ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي، التي صمدت أمام اختبار الزمن وما تزال راهنية وصالحة بشكل كامل في عالم القرن الحادي والعشرين. نحن ندافع عن أفكار الأممية الأولى ووثائق المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية (قبل الانحطاط الستاليني) وبرنامج تروتسكي الانتقالي. وقد تم تطوير هذه الأفكار وإغناؤها عن طريق كتابات تيد غرانت خلال العقود التي تلت وفاة تروتسكي، والتي تعد أيضا جزءا أساسيا من تراثنا الأيديولوجي.

من الحتمي أن بعض الرفاق الذين انضموا إلى المنظمة في الفترة الأخيرة لم يكتسبوا بعد فهما كاملا للأفكار الماركسية. من الواضح أن هذا سيستغرق بعض الوقت وهو ما لا يشكل في حد ذاته أي خطر جسيم. لكنه سيكون خطأ قاتلا من جانبنا إذا ما نحن قدمنا​ أدنى تنازل للانحرافات البورجوازية الصغيرة والخاطئة والدخيلة على الماركسية الحقيقية في صفوفنا. إذا رغب أحد الطلاب في الانضمام إلى منظمتنا، فسنقول له: أنت مرحب بك جدا للانضمام إلى منظمتنا، لكن فقط إذا كنت على استعداد لتبني وجهة نظر ومنظور الطبقة العاملة وتكريس نفسك لدراسة الماركسية. رجاء اترك أحكامك المسبقة عند الباب قبل أن تدخل.

كتب ماركس في رسالة إلى إنجلز (17-18 أيلول/سبتمبر 1879): «إذا انضم أناس من الطبقات الأخرى إلى الحركة البروليتارية، يجب أن يكون الشرط الأول هو ألا يجلبوا أي بقايا من الأحكام المسبقة البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة، الخ، معهم. ينبغي أن يتبنوا بصدق النظرة البروليتارية».

لقد كانت للحركة التروتسكية العديد من التجارب من هذا النوع في الماضي. يكفي أن نشير إلى مثال حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، الذي انحط بالكامل لأنه تجاهل نصيحة تروتسكي الممتازة في الثلاثينيات. لقد غرقوا في الوسط الطلابي، وتخلوا عن وجهة النظر الطبقية، وتبنوا كل أنواع الأفكار، التي على الموضة، البورجوازية الصغيرة والنسوية والقومية السوداء، وما إلى ذلك. وانتهى بهم الأمر في الحالة المؤسفة التي يجدون أنفسهم فيها الآن.

يجب علينا تثقيف المنظمة بأكملها بشأن هذه المسائل لكي نضمن عدم حدوث مثل هذا التطور داخل التيار الماركسي الأممي. لا يمكننا أن نتسامح ولو مع أدنى تنازل، ولو مع أصغر مظاهر هذا التوجه في صفوفنا. إن السماح بدخول مثل هذه الأفكار البرجوازية الصغيرة إلى المنظمة سيؤدي في نهاية المطاف إلى تدميرها باعتبارها قوة ماركسية ثورية حقيقية قادرة على كسب الطبقة العاملة لقضية الثورة الاشتراكية.

لينين، مثله في ذلك مثل إنجلز وماركس وتروتسكي، لم يدخر مطلقا أي مجهود في مهاجمة الأفكار الدخيلة، ولا سيما أفكار البرجوازية الصغيرة الراديكالية. يجب عليا أن نعيد نشر ما كتبه لينين وروزا لوكسمبورغ وكلارا زيتكين حول مسألة النسوية. إنهم واضحون جدا في هذا الصدد. يجب أن نعلن صراحة معارضتنا للتقاطعية وجميع الأشكال الأخرى لـ”سياسات الهوية”، والتي تمثل بوضوح اتجاها مضادا للثورة. لا مجال للغموض بخصوص هذه المسألة: يجب علينا أن نعلن موقفنا بأكثر الطرق وضوحا وحزما.

نحن نريد كسب الطلاب إلى صفوفنا، لكن يجب أن يكونوا من الطلاب المستعدين للقطيعة الجذرية مع الأفكار البرجوازية الصغيرة وأن يتبنوا بحزم وجهة نظر الطبقة العاملة. يجب على الرفاق الطلاب أن يتوجهوا نحو الطبقة العاملة، نحو المصانع والأحياء العمالية، ونحو النقابات العمالية في الحركة العمالية. يجب على كل رفيق طالب أن يضع لنفسه هدف كسب عامل شاب، واحد على الأقل، للمنظمة. في نوفمبر 1932، كتب تروتسكي:

لا يمكن للطالب الثوري أن يقدم مساهمة إلا إذا مر، في المقام الأول، بعملية صارمة ومتسقة من التعلم الذاتي الثوري، وفي المقام الثاني، إذا انضم إلى الحركة العمالية الثورية بينما ما يزال طالبا. وفي الوقت نفسه اسمحوا لي أن أوضح أنني عندما أتحدث عن التعلم الذاتي النظري، فإنني أقصد دراسة الماركسية غير المزورة. (تروتسكي، حول الطلاب والمثقفين، نوفمبر 1932).

إن السبيل لبلترة رفاقنا الطلاب هو، أولا وقبل كل شيء، تزويدهم بفهم شامل للنظرية الماركسية. لدى العديد من الطلاب الكثير من الأفكار المشوشة التي تشربوها في الوسط الأكاديمي الفاسد. ومهمتنا هي تصحيح تلك الأفكار الخاطئة في أسرع وقت ممكن. لا يمكن القيام بذلك بطريقة ناعمة وهادئة. تظهر التجربة أن الطلاب الجادين لا يعتبرون الكلام الصريح إساءة لهم، بل سوف يحترمونك لذلك. أما أولئك الذين لا يستطيعون قبول النقاش الصريح فإنهم لم يستاؤوا بسبب “حدة نبرتنا”، بل ببساطة لأنهم يجدون أنه من المستحيل عليهم التخلي عن أفكارهم وأحكامهم المسبقة البرجوازية الصغيرة. ونحن، بصراحة، لسنا بحاجة إلى هذا النوع من الأشخاص.

لقد نجحنا في الحفاظ على منظمة متينة ومتجانسة أيديولوجيا. وهذا نتيجة لعقود من التدريب الأيديولوجي الماركسي الصارم لكوادرنا الأساسية.

لكن الأخطاء الصغيرة في الأسلوب والشعارات والصياغات الخاطئة يمكنها أن تتطور إلى مشاكل أكثر خطورة. وكما قال لينين: «يمكن لخدش واحد أن يسبب تعفنا». يجب علينا أن نستفيد من النقاشات لرفع المستوى السياسي والفهم من أجل بناء الأممية على أسس سليمة.

لقد أدت عقود من النمو الاقتصادي في البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى انحطاط غير مسبوق للمنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة. أدى ذلك إلى عزل التيار الثوري، الذي تحول في كل مكان إلى أقلية صغيرة. وبدافع الضرورة تعلمنا السباحة عكس التيار.

ومع ذلك فإن هذا التوضيح لأفكارنا وأساليبنا وتقاليدنا الحقيقية لم يتحقق بسهولة أو بدون صراع. لقد عبر عن نفسه من خلال سلسلة من الانشقاقات. لكن سيرورة الانتقاء تلك لم تؤد إلى إضعاف التيار الماركسي الأممي، بل على العكس من ذلك قوتنا بشكل كبير. كان الشرط المسبق للنجاحات المستقبلية هو القطع بشكل جذري مع التيارات الانتهازية والتحريفية. وكما أوضح لينين: «قبل أن نتحد، ولكي نتحد، يجب علينا، أولا وقبل كل شيء، رسم حدود فاصلة صارمة ومحددة».

التيار الماركسي الأممي، وحده في اليسار، من لديه موقف جاد تجاه النظرية الماركسية. إن التدريب النظري للكوادر من أهم مهامنا الأساسية والأكثر إلحاحا. هذا هو الأساس الذي سنبني عليه تيارا ماركسيا قويا متجذرا في الطبقة العاملة.

إيطاليا ، 27 يوليو/تموز 2018

ترجم عن النص الأصلي:

Marxism vs Identity Politics

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *