بدأ الجيش الإسرائيلي أخيرا، وبعد الكثير من المراوغة، في شن عملياته البرية في غزة خلال نهاية الأسبوع. لكنه لم يكن غزوا واسع النطاق. يدرك القادة العسكريون الإسرائيليون تماما الخطر الكبير الذي سيواجهه جنودهم إذا بدأوا قتال الشوارع مع القوات الموجودة على الأرض. كما أنهم يشعرون بالقلق من إعطاء حزب الله الذريعة التي يحتاجها لتوسيع رقعة الصراع، وفتح جبهة ثانية على الحدود الشمالية مع لبنان. إذن ما الذي يحضر له نتنياهو وجنرالاته؟
وفقا لصحيفة فايننشال تايمز، قال أمير أفيفي، النائب السابق لقائد فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي: “نحن لا نجازف. عندما يقوم جنودنا بالمناورة فإننا نقوم بذلك بعد قصف مدفعي ضخم، حيث تحلق 50 طائرة في السماء لتدمير أي شيء يتحرك”.
في الواقع، لقد تصاعد القصف يوم الجمعة إلى أعلى مستوياته حتى الآن، حيث استهدف ما يصل إلى 600 هدف. وقد أدى هذا إلى ارتفاع عدد القتلى الفلسطينيين إلى أكثر من 8300، وهو رقم من المتوقع أن يستمر في الارتفاع بشكل مأساوي.
لغة عدوانية
إن تصريحات نتنياهو، ووزير دفاعه، والعديد من الشخصيات السياسية الهامة والمعلقين داخل إسرائيل، عدوانية للغاية، وتؤكد على أنهم في حالة حرب، وأنه الآن ليس الوقت المناسب للحديث عن “هدنة إنسانية” أو وقف لإطلاق النار. إنهم مصممون على سحق وتدمير حماس، بغض النظر عن العواقب التي قد تترتب على السكان المدنيين في غزة.
ألقى نتنياهو خطابا، في 29 أكتوبر، أعلن فيه عن “المرحلة الثانية من الحرب”، قال فيه: “يجب أن تتذكروا ما فعله بكم عماليق، يقول كتابنا المقدس”. ما الذي من المفترض أن الإله قد قاله، في ذلك الكتاب اللطيف، لبني إسرائيل القدماء؟ في سفر صموئيل الأول 15: 3 نقرأ ما يلي: “الآن اذهب واضرب عماليق وحطم كل ما لديهم ولا تعف عن أحد منهم، بل اقتل الرجل والمرأة والطفل والرضيع، والبقر والغنم والجمال والحمير”. وفي التثنية 25: 19 نجد ما يلي: “… ستمحو ذكر عماليق من تحت السماء…”.
إن لغة العهد القديم هي لغة إبادة جماعية حقا. هذه الكلمات لا تعني أقل من الإبادة الكاملة لشعب ما. كان العماليق شعبا قديما يسكن صحراء النقب، وكانوا يعتبرون من أشد أعداء بني إسرائيل. إلا أن الإله الطيب لليهود القدماء ـوهو نفس الإله الذي يعتبره المسيحيون والمسلمون اليوم إلههم- لم يكن من نوع “أدر خدك الآخر” أو “أحب جارك”. كلا، لقد كان مثل كل آلهة العالم القديم: إلها منتقما وغاضبا، يدعم عباده في أي حرب يشنونها ضد أعدائهم. وهذا ما يتذرع به نتنياهو اليوم!
ويمكن تفسير هذه اللغة المتعطشة للدماء أيضا بموقفه الضعيف في السياسة الإسرائيلية. إنه رئيس الوزراء، لكن من المعروف أنه لو أجريت انتخابات قبل هجمات 07 أكتوبر، لكان من المرجح أن يتم استبعاده. وحتى بعد الهجوم، تكشف استطلاعات الرأي أن نتنياهو لا يحظى بشعبية كبيرة ويعتبر مسؤولا عن الفشل الاستخباراتي الهائل الذي سمح لحماس بمفاجأة قوات الأمن الإسرائيلية. وتريد أغلبية كبيرة أن يستقيل نتنياهو بمجرد انتهاء الحرب.
وفي محاولة منه للرد على الانتقادات، حاول إلقاء اللوم على الآخرين بخصوص الانعدام التام للاستعداد من قبل الحكومة وقوات الأمن. ويوم الأحد كتب أن القيادات الأمنية أكدت له أن كل شيء تحت السيطرة فيما يتعلق بحماس. وقد كان رد الفعل ضده عنيفا إلى درجة أنه اضطر، في غضون ساعات قليلة، إلى حذف التغريدة وتقديم اعتذار.
يعلم الجميع أن الترويج لحماس لتصير ثقلا موازنا للسلطة الفلسطينية كان من فعل نتنياهو. وقد نددت افتتاحية صحيفة هآرتس، التي تعتبر أقدم الصحف الإسرائيلية، مؤخرا بنتنياهو لأنه سمح بتحويل مليارات الدولارات إلى حماس عبر قطر. لقد تم تحذيره من أن هذه استراتيجية خطيرة، لكنه بالرغم من ذلك مضى قدما في تطبيقها، حيث اعتبرها وسيلة لإبقاء الفلسطينيين منقسمين بين غزة والضفة الغربية. وأعرب عن اعتقاده بأن سياسة إبقاء الفلسطينيين ضعفاء ومنقسمين ستجعل فكرة حل الدولتين غير عملية تماما، وستسمح بمواصلة ضم الأراضي الفلسطينية.
والآن انقلبت عليه هذه السياسة لتحرق أصابعه، وهو يناور بشكل يائس للتمسك بمنصبه كرئيس للوزراء. وهذا ما يفسر كل غطرسته ومحاولته الظهور بصورة القائد الحربي، مع كل الاقتباسات من العهد القديم، و”الحاجة إلى محو شعب عدو”.
قد لا يكون في مقدور نتنياهو إبادة شعب بأكمله، لكنه بصدد تنفيذ أكبر مذبحة ضد الفلسطينيين على الإطلاق. وهنا يجدر النظر إلى ما قالته بعض الشخصيات الإسرائيلية المهمة. يتبادر إلى ذهني اثنان من الشخصيات البارزة، جيورا إيلاند، باحث مشارك في معهد دراسات الأمن القومي والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي؛ ونفتالي بينيت، رئيس وزراء إسرائيل الثالث عشر، من يونيو 2021 إلى يونيو 2022، وزعيم حزب اليمين الجديد، من 2018 إلى 2022.
إليكم كيف افتتح إيلاند تصريحه في 12 أكتوبر:
…لا يمكن لإسرائيل أن تكتفي بأي هدف آخر غير القضاء على حماس في غزة باعتبارها هيئة عسكرية وحكومية. وأي شيء أقل من ذلك سيكون بمثابة فشل إسرائيلي. […] أحد الخيارات هو عملية برية ضخمة ومعقدة، بغض النظر عن المدة والتكلفة، في حين أن الخيار الثاني هو خلق الظروف التي تجعل الحياة في غزة غير مستدامة. […] تحتاج إسرائيل إلى خلق أزمة إنسانية في غزة، وإجبار عشرات الآلاف، أو حتى مئات الآلاف، على البحث عن ملجأ في مصر أو الخليج. (التأكيد من عندي).
إذا كنتم تعتقدون أن وجهة نظر إيلاند هامشية داخل النخبة الحاكمة الصهيونية، فسيكون كافيا أن تنظروا إلى الأزمة الإنسانية التي فرضها الجيش الإسرائيلي بالفعل على الشعب الفلسطيني في غزة. لقد تمت ترجمة كلماته إلى واقع على الأرض. وكان إيلاند قد توقع التصرفات الحالية للجيش الإسرائيلي، حين قال: “من وجهة نظرنا، فإن كل مبنى في غزة معروف أن تحته مقر لقيادة حماس، بما في ذلك المدارس والمستشفيات، يعتبر هدفا عسكريا. كل مركبة في غزة تعتبر آلية عسكرية لنقل المقاتلين”.
ويذهب إلى أبعد من ذلك عندما يقول:
[هجوم 07 أكتوبر] يشبه الهجوم الياباني على بيرل هاربر، والذي أدى إلى إطلاق قنبلة نووية على اليابان. ونتيجة لذلك، ستصبح غزة مكانا لا يمكن أن يوجد فيه أي إنسان […] لا يوجد خيار آخر لضمان أمن دولة إسرائيل. نحن نخوض حربا وجودية. (التأكيد من عندي).
ومرة أخرى، هذا ما يتكشف الآن في غزة.
إذا كنتم ربما تتوقعون صدور هذا النوع من اللغة من رئيس سابق للأمن القومي، فما عليكم سوى إلقاء نظرة على ما يقوله “السياسي” نفتالي بينيت (وهو نفسه مستوطن في الضفة الغربية). إنه يقترح فرض “حصار كامل” على الجزء الشمالي من غزة، ويوصي بأن يستخدم الجيش الإسرائيلي “قوة النيران بشكل مستمر ضد حماس في جميع أنحاء القطاع”. وبعد ذلك: “إنشاء شريط أمني جديد بعمق كيلومترين داخل أراضي الشريط على طول حدودنا بأكملها، شريط دائم. وذلك من خلال استخدام القوة النارية الهائلة والقوات البرية والهندسة. حيث تقوم الجرافات ببساطة بتسوية المنطقة”.
“المرحلة الثانية” من الحرب
لكن تحقيق كل هذا في جميع أنحاء غزة ليس بالأمر السهل. فالفلسطينيون سيرفضون الاستسلام لكل ذلك. إنهم يقاومون بكل الطرق الممكنة، ويحظون بتعاطف كبير من العمال والشباب في جميع أنحاء العالم.
إذن، ما الذي يحدث بالفعل على الأرض من الناحية العسكرية؟ لن يعلن الجيش الإسرائيلي عن خططه بطبيعة الحال. لذا، علينا أن نبني تحليلنا على ما يفعلونه الآن، وأن نحاول أيضا فهم الوضع من خلال ما يقوله المعلقون الجادون.
صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن الجيش الإسرائيلي دخل الآن “مرحلة جديدة في الحرب”. هذا ليس غزوا بريا كاملا وشاملا. إنه ينطوي على زيادة هائلة في القصف الجوي، مقترنا بدخول أعداد محدودة من الدبابات والقوات البرية. وهو أمر منطقي إذا أخذنا في الاعتبار مدى الدموية التي قد يصل إليها القتال من شارع إلى شارع، ومن منزل إلى منزل، في ظل المخاطر الهائلة التي تهدد الجنود الإسرائيليين. سوف يتم إبطاء تحركات الجيش في عدد لا يحصى من الشوارع، التي تحول الكثير منها إلى أنقاض، مما يخلق وضعا يمكن فيه لمقاتلي حماس تنفيذ هجمات مفاجئة، ونصب كمائن، وما إلى ذلك، بما في ذلك استخدام الصواريخ المضادة للدبابات، وهو الأمر الذي حدث بالفعل في المناوشات الأولى.
إن قادة الجيش الإسرائيلي على اتصال وثيق مع كبار ضباط الجيش الأمريكي، الذين يقدمون أيضا المشورة بناء على التجارب السابقة في الاستيلاء على مناطق ذات كثافة سكانية عالية، مثل الموصل (انظر مقالتنا السابقة) أو الفلوجة في الماضي. وكما حذر الرئيس السابق للقيادة المركزية الأمريكية، الجنرال جوزيف فوتيل: “سيكون قتالا دمويا ووحشيا”. وقد صرح جالانت نفسه أن الحرب قد تستمر لأشهر. وذهب بينيت، الذي استشهدنا به سابقا، إلى حد القول إن الحرب قد تستغرق “ما بين 6 أشهر و5 سنوات”. لكن ومهما كان أمدها، فإنها لن تكون عملية سريعة لبضعة أسابيع، كما حدث في الاجتياحات السابقة لغزة.
كان هناك خياران يواجهان الجيش الإسرائيلي: 1) غزو بري شامل، أو 2) حملة أطول أمدا، والتي ستكون في الواقع نوعا من الحصار على غزة.
إنهم يرغبون في تجنب الخيار الأول، لأنهم يدركون أنه قد يؤدي بسرعة إلى إشعال صراع أوسع نطاقا، لأنه قد يجر حزب الله إلى القتال على الحدود الشمالية لإسرائيل. في الوقت الحالي، يبدو أن حزب الله يحصر تدخله في مناوشات منخفضة المستوى، دون الدخول في حرب شاملة.
حزب الله ليس ميليشيا خرقاء. لديه قوات صقلها تدخلها في الحرب الأهلية السورية، ولديه القدرة على حشد ما بين 30 ألف إلى 50 ألف مقاتل، ويعتمد على ترسانة تضم أكثر من 100 ألف صاروخ. وفي عام 2006، اضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب بعد قيامه بغزو سريع لجنوب لبنان. وبالفعل، لقد أدى مجرد التهديد القادم من الشمال إلى حشد حوالي 100 ألف جندي إسرائيلي على الحدود اللبنانية. يفضل الجيش الإسرائيلي أن تبقى الأمور على هذا المستوى، دون الاضطرار إلى الدخول في حرب على جبهتين.
إن التهديد بمشاركة أوسع، ليس فقط من طرف حزب الله بل من طرف وكلاء آخرين لإيران في المنطقة، هو تهديد حقيقي. وبالفعل، كانت هناك هجمات على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، والتي اضطرت الولايات المتحدة للرد عليها بقصف ما تعتبر قواعد للميليشيات المدعومة من إيران في كلا البلدين. و قد أصدرت حماس دعوة لتنفيذ هجمات على المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، بما في ذلك القواعد العسكرية الأمريكية وأي شيء مرتبط بالبلدين.
هناك مجموعات في العراق وسوريا والأردن مستعدة حتى للانضمام إلى القتال ضد إسرائيل في غزة. يشعر النظام الأردني بضغوط داخلية هائلة في هذا الوضع، وأصبح غير مستقر إلى حد كبير. بل إنه معرض لخطر الإطاحة به من خلال التحركات الجماهيرية التي يعرفها البلد. وهذا من شأنه أن يزيد من زعزعة استقرار المنطقة، مع ظهور نظام معاد على الجانب الآخر من نهر الأردن، على عكس النظام الحالي، الذي يفضل الانتظار حتى انتهاء الصراع والعودة إلى العلاقات الطبيعية في أقرب وقت ممكن.
تمارس الولايات المتحدة على وجه الخصوص الضغوط لتجنب أي شيء يمكنه أن يؤدي إلى تصعيد الحرب. وتستخدم الولايات المتحدة مسألة الرهائن الإسرائيليين للضغط على نتنياهو وحكومته لحملهم على التصرف بحذر. وهذا يسبب أيضا انقسامات داخلية في المجتمع الإسرائيلي.
مباشرة بعد هجوم 07 أكتوبر، كان المزاج السائد على نطاق واسع مؤيدا للرد على حماس، لكن ومنذ ذلك الحين، تغيرت الآراء إلى حد ما. كشفت دراسة أجرتها الجامعة العبرية في القدس أن المخاوف بشأن الرهائن أدت إلى تحول آراء الناس لصالح إتاحة المزيد من الوقت للتفاوض بشأن إطلاق سراحهم. فمن 65% كانوا يؤيدون الغزو البري مباشرة بعد هجوم 07 أكتوبر، انخفض مستوى التأييد الآن إلى 46%.
أعلنت حماس أنها تؤيد مبادلة جميع الرهائن الذين تحتجزهم، مقابل جميع الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية. لكن من الواضح أن نتنياهو لا يهتم كثيرا بالرهائن. ويقول إن إسرائيل ستنقذهم عبر الغزو البري. وهذا مؤشر على أن حياة الرهائن هي آخر ما يفكر فيه نتنياهو. اضطر، تحت الضغط، للقاء عائلات الرهائن، لكن ذلك كان مجرد تكتيك لدرء الانتقادات على هذه الجبهة.
وقد ذهب اليمين المتطرف داخل إسرائيل إلى حد تصوير عائلات الرهائن على أنهم خونة لأنهم تجرأوا على الدعوة إلى وقف إطلاق النار للسماح بمواصلة المفاوضات. بالنسبة لهؤلاء إن أية تنازلات على هذه الجبهة تعتبر هزيمة من شأنها أن تقوي موقف حماس.
وهذا كله هو ما يفسر سبب تفضيل الجيش الإسرائيلي لشن حملة حصار طويلة الأمد بدلا من الغزو البري الشامل.
ويبدو أن الخطة تتضمن عمليات توغل سريعة لضرب أهداف تابعة لحماس، وإغراء مقاتليها بالخروج والكشف عن قواعدهم ومنصات إطلاق الصواريخ وغيرها من المواقع الثابتة، ثم قصف تلك المواقع بكثافة. والمشكلة بالطبع هي أن مقاتلي حماس يدركون ذلك تماما، وسيعملون قدر الإمكان على نحو يقلل من تعرض مواقعهم للخطر. وستكون هذه العملية بالفعل دموية ووحشية وطويلة الأمد. وهذا يعني أن مدينة غزة ستتدمر بشكل كارثي، وارتفاع عدد القتلى إلى عشرات الآلاف.
أي مستقبل لغزة؟
هذا هو السيناريو قصير المدى، لكن ما هي الخطط التي لدى الحكومة الإسرائيلية لغزة بمجرد انتهاء هذه المذبحة؟ الجواب البسيط هو أنه لا توجد خطة. وحتى المسؤولون الأمريكيون أعربوا عن صدمتهم الكاملة لعدم التفكير في هذا الأمر. ستظل غزة بحاجة إلى إدارتها وحكمها من قبل جهة ما. من تكون تلك الجهة؟
يؤكد الإسرائيليون بصراحة تامة أنه لا يمكن أن تكون حماس. إنهم يفضلون أن تتولى السلطة الفلسطينية المهمة. لكن عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، قد صرح بالفعل بأنه لن يدخل غزة على ظهر دبابة إسرائيلية. إنه أصلا معلق بخيط رفيع، حيث فقدت السلطة الفلسطينية مصداقيتها تماما بين جميع الفلسطينيين، بما في ذلك في الضفة الغربية. ولا يمكنه أن يظهر على أنه يدير غزة لصالح الإسرائيليين.
وقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، أن هناك أربع مراحل لهذه الحرب: الأولى كانت حملة قصف جوي مكثفة استمرت ثلاثة أسابيع. والثانية هي ما يحدث الآن، والتي تتضمن البحث عن كل قواعد حماس، وكل مقاتليها، وكل منصات إطلاق الصواريخ، وتدميرها بالكامل. وكما أوضحنا فإن ذلك سوف يستغرق وقتا طويلا، وقد لا يتحقق بالكامل أبدا. ولكن ماذا بعد ذلك؟
بحسب تايمز أوف إسرائيل (29 أكتوبر 2023):
[…]يستعد الجيش لمرحلة متوسطة ثالثة من القتال سيبدأ خلالها في البحث عن قيادة جديدة للجيب المدمر، مع استئصال “جيوب المقاومة.
وقال غالانت إنه فقط بعد هذا الصراع الأقل حدة، والذي من المقدر أن يستغرق عدة أشهر، ستنتقل إسرائيل إلى مرحلتها النهائية: الانفصال عن قطاع غزة […]. (التأكيد من عندي).
ما الذي ينطوي عليه هذا “الانفصال” بحسب الحكومة الإسرائيلية؟ حتى غالانت لا يعرف، وهو ما يوضحه نفس المقال، إذ يضيف:
بصرف النظر عن القول بأنه لن تسيطر لا إسرائيل ولا حماس على غزة في أعقاب الحرب، فإن وزير الدفاع لم يوضح بالتفصيل ما سيترتب عن هذا الانفصال في نهاية المطاف. قال غالانت: “كل ما سيأتي بعد ذلك سيكون أفضل، مهما كان.
حسنا، إذا لم تكن لدى غالانت أدنى فكرة عما يجب فعله بمجرد انتهاء هذه الحرب، فسوف نعود إلى نفتالي بينيت -الذي، دعونا لا ننسى، كان رئيسا لوزراء إسرائيل مؤخرا- ونرى ما إذا كان بإمكانه أن يعطينا فكرة عما ينوون القيام به.
يقول إنه، على المدى القصير، يجب على سكان غزة إما الانتقال جنوبا -على الرغم من تعرضهم للقصف هناك أيضا- أو الخروج فعليا من قطاع غزة بالكامل ويصبحون لاجئين على بلدان أخرى أن تهتم بهم. وهذا يرقى إلى مستوى التهديد بالتطهير الاثني الفعلي على نطاق واسع، مما يستحضر ذكريات نكبة عام 1948 وتهجير 750 ألف فلسطيني طردوا من منازلهم وقراهم.
بينيت على علم بهذا الاتهام، ولذلك يقترح أن هذه الخطوة ستكون مؤقتة! وبمجرد أن ينتهي التدمير الكامل لمدينة غزة، سيُسمح للفلسطينيين بالعودة إلى منازلهم غير الموجودة. عندها ستغسل إسرائيل يديها من الفلسطينيين في غزة، وتتوقف عن توفير المياه والكهرباء، وتتوقف عن التجارة مع القطاع، وتعزله بالكامل.
وستكون تلك هي المرحلة الرابعة والأخيرة من هذه الحرب، والتي ستشهد، بحسب غالانت، “إزالة مسؤولية إسرائيل عن الحياة في قطاع غزة، وإنشاء واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل”. وهذا -كما رأينا- سيتم ضمانه من خلال شريط طوله كيلومترين، وهو نوع من الأرض المحرمة داخل القطاع، على طول الحدود مع إسرائيل.
الحرب التي تحضر للمزيد من الحروب
إن ما ننظر إليه الآن بالتالي هو حرب طويلة الأمد، مع دمار هائل للبنية التحتية في غزة، وأعداد هائلة من الضحايا المدنيين، وبعد ذلك ستغسل إسرائيل يديها من أي مسؤولية مستقبلية عن غزة، وتترك الفلسطينيين لمصيرهم. إذا كان هؤلاء الذين يحكمون إسرائيل اليوم يعتقدون أن هذا حل، فلا بد أنهم يعيشون على كوكب آخر!
يقول محللون جادون إنه لا يمكن تدمير حماس. أجل، تستطيع إسرائيل أن تقتل العديد من مقاتلي حماس، وتستطيع أن تدمر العديد من قواعدهم، وتستطيع أن تسعى لقتل قيادتها. لكن المشكلة هي أن جزءا من قيادة حماس وقاعدة دعمها لا توجد في غزة، بل تتمركز في الخارج. إن تدمير مدينة غزة يعني أيضا أن قسما من حماس ومقاتليها ستكون لديهم قواعد جاهزة في الجزء الجنوبي من القطاع، مما يعني أنه سيتعين على الجيش الإسرائيلي أيضا مواصلة الحرب من خلال قصف الجنوب بشدة.
إن الاعتقاد بأن أهل غزة، في ظل هذه الظروف، سوف يقبلون إدارة مفروضة من الخارج بناء على طلب إسرائيل، هو في واقع الأمر بمثابة العيش في عالم خيالي. هناك شيء واحد مؤكد سيحققه الغزو الإسرائيلي، وهو أن جيلا جديدا من الفلسطينيين سيتراكم لديهم سخط هائل. ومقابل كل مقاتل من حماس يُقتل، سيكون هناك عشرة شبان على استعداد لحمل السلاح نتيجة لهذا الصراع. وسوف يتم تمهيد الطريق لمزيد من الصراعات الأكثر دموية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن الإمبرياليين الغربيين يدركون كل هذا جيدا، لكنهم في موقف ضعيف جدا. الأمر الأكثر وضوحا هو مدى الضعف الذي أصبحت عليه الولايات المتحدة في هذا الوضع. لدينا هنا أقوى دولة إمبريالية شهدها العالم على الإطلاق، مع قوة عسكرية ضخمة، وأكثر من 700 قاعدة عسكرية في حوالي 80 بلدا حول العالم، ومع ذلك تثبت أنها غير قادرة على الحفاظ على السيطرة على الوضع. يقتصر دورها على “نصح” نتنياهو بشأن ما يجب فعله، وتحذيره من التمادي، وبالتفكير مليا قبل القيام بأي خطوة محفوفة بالمخاطر.
إن ضعف الإمبريالية الأمريكية يظهر أيضا من خلال ما يجري في الأمم المتحدة. فالقرارات التي يتم تقديمها إلى مجلس الأمن من قبل الروس، والبرازيليين، والولايات المتحدة، تتم عرقلتها جميعها بحق النقض، مما يظهر للعالم الطبيعة الحقيقية لتلك الهيئة.
لكن تمرير قرار غير ملزم في الجمعية العامة مؤخرا، يدعو إلى هدنة إنسانية في غزة، والذي صاغته الدول العربية، وتم إقراره بأغلبية 120 صوتا مقابل 14 صوتا وامتناع 45 عضوا عن التصويت، على الرغم من أنه ليست له أي عواقب عملية فورية، قد كشف عن مدى العزلة التي أصبحت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها. لقد عكس تغير توازن القوى بين القوى الكبرى. وقد ضم “التحالف” الذي يدعم الولايات المتحدة وإسرائيل، المؤلف من 12 دولة، قوى مثل النمسا والمجر وجزر مارشال وتونغا.
وهذا يفسر أيضا سبب اضطرار بايدن إلى الاستمرار في ترديد شعار “المساعدات الإنسانية” لغزة، في حين أنه ما يزال يدعم النظام الإسرائيلي بشكل كامل. حتى أنه أعاد صياغة الموقف القائل بأنه بمجرد انتهاء هذه الحرب، سوف يكون من الضروري البحث عن إجابة سياسية (وليست عسكرية)، وأنه لا بد من النظر في حل الدولتين.
هذا مجرد كلام فارغ، لأن الأساس المادي لحل الدولتين قد تم تدميره بسبب عقود من استعمار الضفة الغربية. وهذا أمر تفضل وسائل الإعلام الغربية عدم تسليط الضوء عليه أكثر من اللازم. قبل هجوم حماس على جنوب إسرائيل، كان الجيش الإسرائيلي يركز عملياته العسكرية في الضفة الغربية، ولأي غرض؟ كان ذلك لدعم اعتداءات المستوطنين اليهود المستمرة على الأراضي الفلسطينية.
إلى حدود هذا الصيف، قُتل حوالي 200 فلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، معظمهم في الضفة الغربية. وكان هذا جزءا من حملة منهجية لإنشاء المزيد والمزيد من المستوطنات، مما أدى إلى وضع يخشى فيه الفلسطينيون في الضفة الغربية على حياتهم أثناء محاولتهم العمل في أراضيهم. حتى قطف الزيتون في حقولهم أصبح عملا خطيرا.
في شهر يونيو، قامت حكومة نتنياهو بتسريع الموافقة على بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة للمستوطنين في الضفة الغربية (انظر إسرائيل تكثف التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة). كان هذا كله قبل هجوم حماس في أكتوبر. ومنذ ذلك الحين، قام المستوطنون المسلحون، مستغلين الوضع، بتكثيف عملياتهم، بدعم كامل من الجيش الإسرائيلي. وقد أدى ذلك إلى مقتل أكثر من 100 فلسطيني في الضفة الغربية. وبدلا من إبطاء برنامج المستوطنات غير القانونية، يتم تسريعه بشكل كبير. والواقع هو أنه لم تعد توجد اليوم أرض فلسطينية موحدة يمكن الحديث عنها. وبالتالي فإن الحل السياسي الذي يشير إليه بايدن غير موجود.
إن سيناريو الكابوس الحالي الذي يواجه الشعب الفلسطيني تم إعداده من قبل نتنياهو وكل الطبقة السائدة الصهيونية، بدعم من الإمبريالية الأمريكية وجميع القوى الإمبريالية الغربية، من بريطانيا إلى فرنسا إلى ألمانيا، وجميع القوى الصغيرة الأخرى، والذين اصطفوا خلف ستار “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
عندما يتعامل الماركسيون مع حرب مثل الحرب الحالية التي تجري في غزة، لا ينحطون إلى مستوى محاولة معرفة “من بدأها”. إننا لن نتجاهل 75 عاما من الاحتلال الوحشي الذي سبق هجوم 07 أكتوبر، ولن ننضم إلى الجوقة الصهيونية والإمبريالية التي تلقي كل المسؤولية على عاتق حماس. والمنطق وراء ذلك هو إلقاء اللوم على سكان غزة بسبب الكابوس الذي يعانون منه في الوقت الحاضر: وهو ما يشبه إلقاء اللوم على ضحية جريمة ما.
هذا الصراع هو استمرار لسياسة ترجع جذورها إلى ما قبل إنشاء إسرائيل في عام 1948، عندما تم تنظيم حملة تطهير اثني ضد 750 ألف فلسطيني وطردهم من وطنهم. وفي هذا الصراع التاريخي، الشعب الفلسطيني هو الذي حرم من وطنه، وهو يقاوم، بينما يتم انتزاع المزيد والمزيد من أراضيه منه.
واليوم، يتم تذكير الشعب الفلسطيني بالنكبة كما لم يحدث من قبل. والطبقة السائدة الصهيونية لا تخفي حقيقة أنها تدعم استعمار الضفة الغربية على وجه الخصوص. لقد كانوا مستمرين في هذه السياسة قبل 07 أكتوبر، وهم الآن يكثفونها إلى أبعد من ذلك، حيث يعيش أكثر من 700 ألف مستوطن يهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان (الأراضي السورية المحتلة).
وهذا هو جوهر هذه الحرب: لقد تعرض الشعب الفلسطيني للقتل، والمضايقات، والطرد من أرضه، وفي غزة دفع إلى اليأس وحبس في سجن مفتوح. ويجب علينا نحن الشيوعيين تفسير كل هذا؛ يجب علينا استخدام كل قوانا وكل طاقاتنا، والوسائل المحدودة المتاحة لنا، لمواجهة وابل الدعاية التي تطلقها الطبقة الرأسمالية في كل مكان.
ومع ذلك، فإنه لا يكفي التصدي لهذه الدعاية، مثلما أنه لا تكفي الدعوة إلى وقف إطلاق النار (الذي ليس لدى الإسرائيليين وداعميهم الإمبرياليين أي نية لتحقيقه على أية حال)، ناهيك عن تلك “الهدنة الإنسانية” التي يدعو إليها الإصلاحيون الخونة وقسم من الإمبرياليين للسماح بدخول المساعدات إلى غزة، وبعد ذلك ستستمر المذبحة. نحن الشيوعيون لا نناضل من أجل العودة إلى نفس الوضع الذي أدى إلى التدمير الحالي لغزة وقتل الآلاف.
يجب أن نوضح أن محنة الشعب الفلسطيني تنبع من الرأسمالية نفسها. هذا النظام المأزوم هو الذي ينتج الحروب، مثل حرب أوكرانيا والحرب في اليمن. وكلها حروب تنبع من نظام كان ينبغي دفنه منذ زمن بعيد. إن شعوب الشرق الأوسط تتعاطف فطريا مع الشعب الفلسطيني، والعديد منهم على استعداد للقتال دفاعا عن حقوقه.
لكن النخب الحاكمة في المنطقة، من القاهرة إلى الرياض، وكل النخب الأخرى، ليست لديها أية مصلحة في النضال الحقيقي من أجل تحرر فلسطين. إنهم مضطهِدون لشعبهم، ويخشون أن يؤدي أي تورط في الصراع إلى جانب فلسطين إلى تأجيج الوضع في الداخل، مما يعرض سلطتهم وامتيازاتهم للخطر. ولهذا الخوف ما يبرره إذا نظرنا إلى تلك الاحتجاجات الحاشدة التي اندلعت في جميع أنحاء العالم العربي تضامنا مع فلسطين.
يوضح الشيوعيون أن حل الأزمة الحالية لا يمكن إيجاده إلا من خلال الصراع الطبقي في جميع أنحاء المنطقة، صراع العمال والفقراء ضد الأغنياء والأقوياء، وضد حكوماتهم الفاسدة. ومن خلال توحيد كل هذه النضالات معا، سيصبح من الممكن رؤية الخطوط العريضة للفدرالية الاشتراكية المستقبلية في الشرق الأوسط، والتي من شأنها أخيرا أن تضع حدا لعقود من الحرب والدمار.
وعلاوة على ذلك فقد أصبح اضطهاد الشعب الفلسطيني نقطة محورية لتجميع غضب العمال والشباب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في البلدان الإمبريالية، التي شهدت أيضا احتجاجات ضخمة، في تحد للقمع والافتراءات البرجوازية. وهذا يجعل الصراع الحالي عاملا من عوامل النضال العالمي الذي تخوضه الطبقة العاملة.
فريد ويستون
31 أكتوبر/تشرين الأول 2023
ترجم عن النص الأصلي:
Gaza: the land offensive begins – but what next?