لماذا نحتاج الحزب الثوري؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه العديد من الناس، بمن في ذلك مناضلات ومناضلون منخرطون بشكل فعلي وحماسي في مختلف جبهات النضال.
لماذا علينا أن نؤسس تنظيما وندرس النظرية ونقدم مساهمات مالية، ونكرس حياتنا لالتزامات وآلاف المهام التي لا تنتهي؟ في حين أن النضال الطبقي موجود هناك في الشوارع والجامعات والمصانع.
إننا نعيش في خضم مرحلة أحداث كبرى على جميع المستويات. مرحلة نعتبرها الأكثر اضطرابا في تاريخ الإنسانية، إذ لم يسبق في التاريخ أن تزامنت كل هذه الأزمات الاقتصادية (الركود التضخمي) والصحية (جائحة عالمية) والبيئية (كوكبنا يحترق، على حد تعبير غوتيريش نفسه) والحروب والمجاعات واللامساواة، الخ، الخ. لتعطينا وضعا لا يطاق بالنسبة للملايين عبر العالم.
إنها مرحلة تشهد أعراض احتضار نظام اقتصادي سياسي اجتماعي وصل إلى أقصى حدوده، بل تجاوزها، وأفلس كليا، لكنه يرفض أن يموت ويقاوم، وفي سياق تشبثه ذاك يجر البشرية والكوكب كله إلى الهاوية.
فلحل أزماتهم والحفاظ على معدلات أرباحهم وإيجاد مناطق نفوذ وأسواق جديدة يطبق الرأسماليون وحكوماتهم أقسى سياسات التقشف على ميزانيات التعليم والصحة والثقافة (أي بقايا الحضارة)، بينما يضخمون ميزانيات التسلح والتدمير والقمع، ويقتلعون الغابات ويلوثون البحار، الخ.
هذا مقابل نظام آخر يكافح من أجل أن يولد. نظام صارت الظروف الموضوعية لتحقيقه متوفرة، بل تعفنت، على حد تعبير تروتسكي.
المتضررون من الاستغلال والتفقير والحروب يشكلون الأغلبية الساحقة، في حين أن المستفيدين هي طغمة صغيرة على الصعيد العالمي، ومنطقتنا. وتلك الأغلبية تناضل وتنهض مرارا وتكرارا في هبات ثورية تعبر فيها عن بطولة وشجاعة عظيمتين.
لكن تلك الأغلبية وبالرغم من كل التضحيات وبعض الانتصارات المؤقتة، تعود فتنهزم وتضيع فرصة إحداث تغيير جدي وعميق ودائم في المجتمع لصالح أغلبية المجتمع.
لقد شكلت الثورات التي شهدتها منطقتنا خلال العقد الأخير، و مازالت، مثالا حيا على ذلك.
لقد كانت مصدر إلهـام حقيقي لملايـين العـمال والشـباب في جميـع أنحـاء العـالم. فهنا رأينا، عـلى أرض الواقع، عظمة القوة التي تختزنها الجماهير. وإذا كان هناك من يشكك في قدرة الجماهير على القيام بثورة، فهذا هو الجواب المدوي. والآن ما الـذي أظهرته تلك الأحداث؟
إن صور ملايين العمال والفلاحين وهم ينهضون للإطاحـة بدكتاتوريات الطغاة، في بلد تلو الآخر، قدمت دليـلا قاطعا على أن هناك قوة في المجتمع أعظم مـن أي حكومة أو جيـش أو شرطـة.
لقد أظهرت أنه عندما تتخلص الجماهير من خوفها، لا يعود في استطاعة أي قدر من القمع أن يوقفها. فبدون قيادة أو تنظيم أو برنامج واضح، نزلت الجماهير إلى الشوارع وأطاحت بحكوماتها.
لقـد فشـل الثوار، رغم كل بطولاتهم، في استغلال الوضع لتوجيه الضربة القاضية للنظام القديم. كانت الجماهير تمتلك السلطة في أيديها (سيريلانكا كأحدث مثال)، لكنها لم تعرف ماذا تفعل بها.
لقد ترددوا وفقدوا المبادرة، فتمكنت قوى النظام القديم من العودة. كانت الجماهير ترقص وتحتفل في الشوارع، بينمـا كانت قوات النظام القديم تعيد تجميع صفوفها وتتحرك لاسـتعادة السلطة بين أيديها. ونتيجة لذلك أعيـدت ثمار النصر إلى المضطهِدين القدامى.
هذه حقيقة غير مستساغة، لكنها الحقيقة مع ذلك.
والآن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا حدث ذلك يا ترى؟
سواء اتفقت معنا أم لا، فلا بد أن تطرح على نفسك سؤال لماذا؟ وما العمل؟ فتلك الهزائم تحتاج تفسيرا.
هل انهزمت لقلة التضحيات وغياب الرغبة في التغيير بين صفوف الجماهير؟ هذا ما يردده بعض المتعبين المحترقين من الداخل. لكن كلا ! لقد عبرت الجماهير عن أقصى أشكال التصميم والتضحية، انظروا إلى الملاحم التي صنعها الشعب المصري والتونسي، وانظروا إلى الملحمة التي ما زال الشعب السوداني يصنعها طوال أزيد من أربع سنوات من النضال، فالطبقة العاملة السودانية خاضت العديد من الإضرابات العامة والعصيانات المدنية، بلغت نسبة المشاركة فيها أحيانًا إلى 98%، كل ما كان ينقص هو قيادة تعلن إسقاط النظام، كأمثلة من بين أمثلة عديدة أخرى…
لقد كانت السـلطة في أيدي الجماهير، لكنها تسربت مـن بين أصابعها. كان يكفـي لقـادة الاحتجاجـات أن يقولـوا: “نحـن نمتلـك السـلطة الآن. نحـن الحكومـة”. لكـن هـذه الكلـمات لم تُقَـل قـط.
هل حدثت تلك الهزائم بسبب قوة الطبقة السائدة؟ كلا ! فلقد فر رأس الدولة في تونس وسيطرت الجماهير لفترة من الزمن على الشوارع وأماكن العمل والجامعات. وصارت الدولة عاجزة معلقة بخيط رفيع. نفس الشيء حدث في مصر لوهلة. ونفس الشيء رأيناه في مختلف البلدان (السودان، لبنان، اليونان، سيرلانكا، الخ).
بل هناك من يعتبرون أن الهزيمة كانت حتمية، وأنها قضاء وقدر. من وجهة نظرهم ستستمر الثورات في الهزيمة إلى الأبد. لكننا ليس لدينا وقت لنضيعه مع مثل هؤلاء. أيتها الرفيقات والرفاق لا تلتفتـوا إلى هـؤلاء المتشائمين هؤلاء المحترقـين المتعبـين الذيـن تلتقونهـم في كل مكان وهم يشـتكون مـن كل شيء، قائلـين: “ضـاع كل شيء، لم يعـد هنـاك أمـل”.
أصحاب هذا التفسير لا يفسرون أي شيء. فالثورة الروسية عام 1905 انهزمت لأنه كان مقدر لها أن تنهزم. بينما ثورة 1917 انتصرت لأنها كان مقدرا لها أن تنتصر، لماذا؟ لأنها انتصرت. وكذلك الثورة الألمانية 1918 انهزمت لأنه كان مقدرا لها أن تنهزم. وكذلك الثورات في منطقتنا. الخ.
هذا تفسير غير جدي، ولا يقدم أي منظور للتقدم إلى الأمام والحل.
لقد انهزمت تلك الثورات لأنه لم تكن هناك قيادة قادرة على تقديم البرنامج الصحيح والشعارات الصحيحة والتكتيكات الصحيحة، لقيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة.
حدث ذلك لأن الجماهير كانت تفتقد للتنظيم والقيادة الثورية والبرنامج الاشتراكي وخطة العمل…
هذه هي الأزمة رفاقي ورفيقاتي…
لكن إذا كانت هذه الأمثلة تأكيدا بشكل سالب على ضرورة الحزب الثوري، فلدينا تجربة تؤكد بشكل موجب عن تلك الضرورة. إنها تجربة الثورة الروسية أكتوبر 1917.
تعـد الثـورة البلشـفية في روسـيا عـام 1917، مثـالا إيجابيـا عـن كيـف يمكـن للطبقـة العاملـة أن تناضل وتنتصر وتصـل إلى السـلطة وتشرع في بناء دولتها في ظل أقسى الظروف وفي عزلة، ورغم كل شيء تحقق منجزات عظيمة.
السؤال هو أيـن يكمـن الاختـلاف بـين الثورات التي شهدتها منطقتنا وبين الثورة الروسية أكتوبر 1917.
لا يوجـد الاختـلاف في الظـروف الموضوعيـة، ولا في حجم التضحيات ولا في القضاء والقدر، بـل يوجـد بالكامـل في توفر غيـاب العامـل الـذاتي، أي: الحـزب والقيـادة الثورية، في الثورة الروسية، مقابل غيابه عن الثورات في منطقتنا.
لقد كان العامـل الحاسـم في نجـاح الثـورة الروسـية هـو وجـود الحـزب الماركـسي: الحـزب البلشـفي بقيـادة لينـين وتروتسـكي.
مـن المسـتحيل العثـور في تاريـخ كل الأحـزاب السياسـية، عـلى مثـال مشـابه للبلاشـفة الذيـن نمـوا في فـترة قصـيرة، مـن عقديـن، مـن مجـرد مجموعـة صغيـرة إلى حـزب جماهيري قـوي قـادر عـلى قيـادة ملاييـن العـمال والفلاحيـن إلى الاسـتيلاء عـلى السـلطة.
كان الحزب البلشفي عند اندلاع ثورة أكتوبر يضم ما لا يزيد عن 8000 عضو. في بلد شاسع يضم حوالي 150 مليون نسمة. كانوا أقل من قطرة في المحيط.
حتى لينين ذلك الماركسي الحازم، صاحب النظرة التاريخية الشاملة والعميقة، وبالتالي المتفائل دائما، لم يتوقع اندلاع ثورة فبراير.
في خطاب ألقاه للشباب العمال السويسريين، يوم 09 يناير 1917، أي قبل أسابيع قليلة عن اندلاع ثورة فبراير. قال:
نحن الشيوخ ربما لن نعيش حتى المعارك الفاصلة في الثورة المقبلة، ولكن بوسعي، كما أعتقد، أن أعرب بثقة كبيرة عن الأمل في أن الشباب الذي يعمل جيدا جدا في الحركة الاشتراكية في سويسرا وفي العالم أجمع، في أنه سيكون من حظ هذا الشباب، لا أن يناضل وحسب، بل أيضا أن ينتصر في الثورة البروليتارية المقبلة.
بعد ذلك الخطاب بأسابيع قليلة اندلعت الثورة الروسية، وبعده بأشهر قليلة كان الحزب الذي كرس حياته لبنائه وتصليبه نظريا يقود الطبقة العاملة لحسم السلطة في ثورة اشتراكية ظافرة، ما تزال تثير رعب وحقد الطبقة السائدة في العالم لحد الآن.
لم يتوقع لينين بشكل دقيق وقت اندلاع الثورة. ولا أحد يستطيع أن يتوقع بشكل دقيق متى يمكن للثورة أن تندلع. لكنه اعتبرها حتمية واستمر طوال حياته يبني الأداة التي تجعل انتصارها ممكنا بأقل التضحيات، أي الحزب البلشفي.
تحدث الثورة بشكل عفوي، عندما يصبح الوضع الراهن لا يطاق وغير قابل للاستدامة، عندما تتحول حياة الأغلبية إلى معاناة مستمرة، وعندما تزداد عبثية النظام الاجتماعي سفورا على مرأى ومسمع الجميع، حينها تخلق الظروف التي تجبر الملايين على الثورة.
الملايين من العمال، غير المبالين إلى حدود الأمس، ينزلون إلى الشوارع في اليوم التالي. وعي الأمس، الذي كان متخلفًا، يحقق قفزات نوعية ويتدارك تخلفه عن متطلبات اللحظة، بل يتجاوز في الكثير من الأحيان حتى وعي من يسمون انفسهم قادة.
وهنا تظهر الحاجة إلى الحزب الثوري. إلى القيادة القادرة على تقديم البرنامج والتنظيم والخطة والشعارات والتكتيكات. وهذا ما توفر للثورة الروسية فتمكنت من الانتصار وهذا ما افتقدته ثوراتنا ففشلت.
لكن ذلك الحزب لم يسقط مكتملا من السماء. لقـد واجـه لينـين صعوبـات موضوعيـة كبـيرة في مسار تأسيسه، لكنـه ورغـم كل تلـك الصعوبـات نجـح في مهمتـه.
لكـن قبـل فـترة طويلـة مـن قيـام البلاشـفة من حسم مسـألة السـلطة، كان عـلى الحـزب أن يمـر بفـترة طويلـة، مـرورا بمجموعـات صغيـرة سريـة تتكـون بشـكل أسـاسي مـن الطـلاب والمثقفـين.
ذلـك الحـزب لم يسـقط مـن سـماء زرقـاء صافيـة. ولم يكـن مـن الممكـن ارتجالـه في خضـم الأحـداث. لقـد تـم بنـاؤه بصعوبـة كبـيرة عـلى مـدى عشريـن عامـا، معظمهـا في ظـروف العمـل الـسري القاسـية.
وكل شيء رهين، في آخـر المطـاف، بـشيء واحـد وهـو: القدرة عـلى تكويـن الكـوادر الثوريـة. وكما يقول آلان في مقدمته للطبعة العربية لكتابه “البلشفية: الطريق نحو الثورة” (المتوفر على موقعنا بالعربية والذي نوصيكم بدراسته):
إن الـكادر الثـوري الواحـد يسـاوي عـشرة أو مائـة مـن الأفـراد الفاقديـن للتكويـن والتجربـة، علينـا أن نـدرب مـن يمكـن أن نسـميهم ضبـاط وجنـرالات الجيـش الثـوري. علينـا أن نكـون مسـتعدين. إن جيـش العـدو الـذي يقـف أمامنـا مسـتعد جـدا ومنظـم جـدا ومنضبـط جـدا وممركـز جـدا. وعلينـا أن نكـون كذلـك.
يجـب أن يكـون لدينـا حزبنـا الثـوري المنظـم المنضبـط. هـذا لا يسـقط مـن السـماء ولا يمكـن ارتجالـه في اللحظـة الأخيـرة، بـل يجـب تحضـره مسـبقا
أيتها الرفيقات والرفاق،
الثورات لا تحدث دائما وفي كل وقت. في الواقع لا تلجأ الجماهير إلى الإطاحة بالنظام الاجتماعي إلا تحت ضغط مهول من الأحداث الكبرى المتسارعة. لأن الوعي البشري في النهاية ليس تقدميا بطبيعته، بل بالعكس إنه محافظ للغاية، ويتشبث بعناد بالوضع الحالي.
تغيير النظام الاجتماعي بالنسبة لأغلبية البشر هي قفزة للمجهول، وفي العادة لا يرغب أحد اختبار أحداث مزلزلة وهذا ميل بشري طبيعي.
في الأوضاع العادية يميل الناس إلى عيش حياتهم العادية يذهبون إلى العمل ويربون أطفالهم ويدفعون فواتيرهم، ويحلمون بمستقبل أفضل لأبنائهم… لا يميلون إلى دراسة تجارب الماضي ولا نقاش القضايا السياسية والفلسفية، ما إلى ذلك.
بينما الدولة البرجوازية آلة جبارة ممركزة بجيش واسع من الخبراء والسياسيين والمنظرين الدائمي الاستعداد شغلهم الشاغل هو تجميع المعلومات واستخلاص الدروس وتوقع مسارات الأحداث والاستعداد لها…
هنا تظهر ضرورة الحزب الثوري، حزب الثوريين المحترفين الذين يمثلون هيئة أركان للبروليتاريا وعقلا جماعيا للبروليتاريا وذاكرة جماعية لدروس التاريخ وآلة لنشر الفكر الثوري ومصاحبة الجماهير في نضالاتها اليومية من أجل تمكينها من تعلم الدروس واستخلاص النتائج والوعي بمهمتها التاريخية. بدون الحزب الثوري تضيع المراكمة، أو على الأقل تكون بطيئة وطويلة.
خلال الوضع الثوري تتسارع الأحداث ويكون الصراع بين الطبقات قاسيا لا يرحم، لا يتوفر خلال ذلك الوضع الكثير من الوقت لممارسة التعلم بالتجربة والخطأ، بل يصل الوضع الثوري إلى نقطة حاسمة يصير فيها مصير الثورة بأكملها رهينا باتخاذ القرار المناسب ورفع الشعار المناسب والدعوة فورا إلى الهجوم، فإذا ضاعت تلك الفترة ولم تجد من يحسمها تضيع الثورة.
وصلت الثورة الروسية يوم 25 أكتوبر إلى تلك النقطة، فلولا وجود الحزب البلشفي، بل لولا وجود لينين وتروتسكي تحديدا في قيادة الحزب، لكانت الثورة قد ضاعت بسبب تردد الكثير من القادة، بمن فيهم الكثير من البلاشفة.
الثورة معادلة معقدة بمجاهيل كثيرة، صراع قوى حية لكل منها مصالحها الخاصة. ولا تسير في مسار صاعد دوما، بل هي سلسلة من الانتصارات والهزائم، من المد والجزر، من التقدم والتراجع.
وفي خضم كل هذا تحتاج الطبقة العاملة إلى قيادة ثورية محنكة، مثلما يحتاج الجيش إلى جنرالات.
في الحرب بين الأمم كم من جيش صغير العدد منضبط وبقيادة محنكة انتصر على جيوش كثيرة العدد لكنها سيئة التنظيم والتدريب وبقيادات فاقدة للكفاءة. لكن ذلك الجيش المنضبط وتلك القيادة لا ترتجل في خضم الحرب، بل تصنع عبر سنين طويلة من التدريب والتكوين.
والحرب بين الطبقات شديدة الشبه بين الحرب بين الأمم، رغم أنها أشرس منها وأكثر قسوة منها، فالحرب بين الأمم ليست حربا وجودية ولا تهدف إلى قضاء أمة بشكل كامل على الأخرى، بينما الحرب الطبقية بطبيعتها تهدف من وجهة نظر الطبقة السائدة إلى إخضاع الطبقة الكادحة لظروف العبودية، كما تهدف من وجهة نظر الطبقة العاملة إلى القضاء على الطبقة السائدة وتحطيم دولتهم وكسر سيطرتهم على الثروة والثقافة…
لذلك فهي بدورها حرب تتطلب القيادة المحنكة والبرنامج والتقاليد والتي يتم مراكمتها وغرسها عبر سنوات طويلة من العمل الجدي الصبور.
وتجدر الإشارة إلى أن الطبقة العاملة لا تحمل أفكار موحدة حول الوضع، وتصورات حول المجتمع وكيف يمكن أن نحسن حياتنا. معركة الأفكار والأساليب هذه لا يتم حسمها مقدما. كما لا يتوصل جميع العمال إلى نفس الاستنتاجات في نفس الوقت. ستدرك أقلية قبل البقية ضرورة احتلال المصانع والإضراب العام وأخذ السلطة السياسية والاقتصادية من الرأسماليين وما إلى ذلك. في حين تكون فئات أخرى ما تزال متخلفة وأحيانا محافظة.
مهمة الحزب الثوري في هذه اللحظة أن يحول دون سقوط الطلائع في انعدام الصبر والانعزال عن الطبقة والدخول في نضالات مغامراتية.
يقول لينين:
كان حزب العمال الثوريين، البلاشفة، يعد يوم 09 حزيران/ يونيو مظاهرة في بتروغراد، من أجل إضفاء تعبير منظم على استياء الجماهير وسخطها، المتعاظمين بلا مرد. وتملك الرعب نفوس الزعماء الاشتراكيين الثوريين والمناشفة […] وتعالى العويل والصرخات العامة ضد المظاهرة، […] ألغى البلاشفة المظاهرة غير راغبين إطلاقا في أن يقودوا العمال إلى معركة يائسة.
إن مهمة القيادة ليست فقط تنظيم الهجوم عندما تسنح الفرصة، بل كذلك تنظيم التراجع المنظم بأقل الخسائر عندما تحدث انتكاسة ما.
بدون تنظيم ليست الجماهير سوى لحم خام للاستغلال. الجميع غاضبون ويريدون حلا. وبعض الفئات تناضل معزولة قبل أن تنهزم، فتنهض أخرى لتناضل معزولة ثم تنهزم، ودور الحزب الثوري هو توحيد كل المتضررين من الأوضاع القائمة وإعطائهم راية وبرنامج وتكثيف جهودهم في نقطة الهجوم.
بدون حزب ثوري مجرب وكوادر محنكة لا يمكن حتى تخيل هذه الإمكانية فبالأحرى تحققها.
الرفاق والرفيقات، أضيف ختاما إن الثورة الاشتراكية، بمعنى تمكن الطبقة العاملة من إسقاط الرأسمالية وتحطيم جهاز الدولة البرجوازي وبناء دولة جديدة وعلاقات اجتماعية جديدة تقوم على التخطيط العقلاني الديمقراطي للاقتصاد مهمة لا يمكن أن تتم بالعفوية أو بمجرد تراكم النضالات اليومية، بما في ذلك الإضراب العام والانتفاضة المسلحة والحرب الأهلية.
الدولة البرجوازية التي نناضل ضدها ممركزة بشكل جيد ومتقنة في هياكلها وقد أوصلت البرجوازية القمع المادي والإيديولوجي إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ. بحيث صارت أعتى الإمبراطوريات والدول الإقطاعية السابقة مقارنة مع الدولة البرجوازية الحديثة، بجيوشها وأجهزتها السرية وترسانتها الإيديولوجية، مجرد لعب أطفال.
لا يمكن إسقاط هذه الدولة وتحطيمها وبناء دولة جديدة بمجرد نضالات الشوارع والعفوية واللاتنظيم.
كان يكفي للثورات البرجوازية لكي تنتصر أن تندلع النضالات التي تؤدي إلى إسقاط النظام القديم فتقوم طبقة مستغلة جديدة، تمتلك ما يكفي من الثروة والثقافة، هي الطبقة الرأسمالية، فتدخل في مساومات مع الطبقات القديمة (الثورة الإنجليزية) أو تجبرها الحركة الثورية على المضي بعيدا بحيث تقطع رأس الطبقة القديمة وتجتثها وتبني على أنقاض النظام القديم نظامها (الثورة الفرنسية).
بعد ذلك يأتي نظام الجري الحثيث وراء الربح بدون تخطيط ولا تدخل واع، نظام شعاره دعه يعمل دعه يسير، واليد الخفية للاقتصاد، فيستمر في العمل والسير، وما يزال كذلك، عبر الأزمات والحروب والاستعمار وفرض ما لا يحصى من أشكال الرعب بلا نهاية على الأغلبية الساحقة وعلى البيئة…
الاشتراكية تتطلب الرقابة الواعية والإدارة الواعية للعملية الإنتاجية من طرف الطبقة العاملة نفسها، ولا يمكنها أن تعمل بدون التدخل الواعي للطبقة العاملة، وبالتالي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الحركة الواعية للطبقة العاملة.
وهذا التدخل المنظم الواعي من جانب الطبقة العاملة مستحيل بدون حزب ماركسي.
سبقت الإشارة أعلاه إلى أن ما لدينا اليوم هو صراع بين عالمين أحدهما يحتضر والآخر يكافح من أجل أن يولد، والحزب هو القابلة التي تساعد على ولادة هذا العالم الجديد بأقل الآلام والتضحيات.
يقولون لك أنت ضعيف، أنت لا شيء، ما عليك إلا أن تقبل بالأوضاع وتحاول أن تجد لنفسك حلا فرديا. فإذا فشلت في ذلك فالسبب فيك أنت.
وهذا إلى حد ما صحيح، لأنه لوحدك معزولا لا يمكنك أن تقدم الكثير للنضال العام من أجل إسقاط هذا النظام المفلس المحتضر وبناء عالم جديد.
لكنك إذا التحقت بالحزب الماركسي، بالأممية الماركسية، تصير قويا، وقادرا على إحداث الفرق لبناء الاشتراكية في حياتنا.
أيتها الرفيقات أيها الرفاق إن الحياة، كما قال تروتسكي:
ليست مسألة سهلة وإنك لن تستطيع خوضها دون الوقوع في براثن الإحباط واللامبالاة، إلا وضعت نصب عينيك فكرة عظيمة ترفعك فوق البؤس الشخصي فوق الضعف وفوق كل أشكال الخسة والغدر.
وليس هناك من فكرة أعظم من فكرة الانخراط في النضال من أجل بناء القيادة الثورية التي ستمكن الطبقة العاملة خلال الأحداث الكبرى التي تنفتح أمامنا من أن تحسم السلطة وتبني عالم الاشتراكية
قال تروتسكي: «أجل إن حزبنا يأخذ كل واحد منا بالكامل، لكنه في المقابل يمنح لكل واحد منا أعلى درجات السعادة، إنه يمنح المرء الوعي بأنه يشارك في بناء مستقبل أفضل، وأنه يحمل على كتفيه جزءا من مصير البشرية وأن حياته لن تكون عبثا».
أيتها الرفيقات وأيها الرفاق، التحقوا بنا في نضالنا، التحقوا بالتيار الماركسي الأممي، لنشارك جميعا في بناء مستقبل أفضل، لنحمل على أكتفنا جزءا من مصير البشرية ولكي لا تمر حياتنا عبثا. إلى الأمام لبناء القيادة الثورية في بلداننا ومنطقتنا والعالم.