الرئيسية / قضايا نظرية / الأممية / الماركسية ضد نظرية المراكز والأطراف: دفاعًا عن الثورة الدائمة

الماركسية ضد نظرية المراكز والأطراف: دفاعًا عن الثورة الدائمة

هذا المقال في الأصل عرض قدمه الرفيق مود سعيد،  عضو هيئة تحرير موقع marxy.com ومجلة “الحرية والشيوعية”، في الجامعة الماركسية بالعربية 2023، التي انعقدت اعمالها شهر مارس الماضي.


أيتها الرفيقات والرفاق،

تدخل الرأسمالية في عصرنا أقصى مراحل انحطاطها تنتشر الأزمات الاقتصادية والحروب بوتيرة متسارعة. في ظل هذه الأزمات تنظم الطبقات السائدة في كل العالم الهجوم الوحشي على البشرية بنشر البطالة وغلاء المعيشة ووضع الطبقة العاملة في كل العالم في أوضاع في غاية الصعوبة:

  • زيادات أوقات العمل وفرض واقع الحاجة للقيام بأعمال متعددة من أجل توفير الحاجات الضرورية، في الوقت الذي تقوم فيه الطبقات السائدة بشن الهجوم على مكاسب تاريخ من النضال الطبقي مثل حقوق التعليم والصحة والعمل.
  • وتزداد هذه الصعوبات أكثر فيما يسمى بالعالم الثالث (الأطراف)، ففي الوقت الذي تمارس فيه الامبريالية نهبا مضاعفا على اقتصادات هذه البلدان تساهم البرجوازيات المحلية في تنظيم القمع الطبقي وتطوير أجهزته وقدراته بدعم وتواطؤ من الإمبرياليات نفسها التي تجد في البرجوازيات المحلية حليفا طبقيا لها، من جهة، ومصدر استهلاك لفائض التسليح من جهة أخرى.

وقد عبر الرفاق بأحسن طريقة في الجلسة الأولى حول المنظورات العالمية ومنظورات المنطقة، عن، إلى أي مرحلة وصلنا في هذا الانحطاط. هذا الانحطاط يرافقه صراع طبقي وكفاحية مبهرة للطبقة العاملة في كل مكان من العالم تقريبا. تجري هذه الكفاحية الرائعة في ظل علاقات تبعية معقدة بين القوى الإمبريالية والبرجوازيات المحلية في البلدان المتخلفة. كما يصاحبها ارتباك وتحلل متزايد ومستمر في صفوف المنظرين الأكاديميين والقوى البيروقراطية التي تقدم نفسها كمشاريع للتحرر من الامبريالية، تنتج أكثر الأفكار انتهازية وترهلا حول ما يبدو مشروعات لمكافحة الامبريالية.

يقدم هؤلاء نظرية تعمد بشكل رئيسي على التعاون الطبقي وذيلية الطبقة العاملة للطبقات البرجوازية، خصوصا، إن قدمت هذه البرجوازية نفسها كمشروع مقاوم للإمبريالية. الأمر الذي ستتبين استحالته في هذا العرض.

ولأن هذه النظريات كثيرة ومتفاوتة، فسنركز في هذا العرض على واحدة من بينها تدعي أنها ماركسية وتحظى بقبول كبير بين الشباب الذي تدفعه الشروط الصعبة التي هي نتاج حتمي للرأسمالية إلى التجذر والبحث عن بدائل ثورية، أي أهم ما يقدمه الدكتور سمير أمين من أفكار حول طبيعة المهام الثورية وطبيعة القيادة الثورية.

الرفيقات والرفاق،

أول ما نلاحظه عند سمير أمين هو عدم فهمه للنظرية الماركسية فيما يتعلق بالمسألة القومية، وبسبب نظرته الصورية المفتقدة للديالكتيك نجده ينسب لماركس وإنجلز تهمة «التقلب بين الوقوف ضد التحرر القومي والوقوف معه دون بوصلة واضحة».

  • يكتب سمير أمين في الصفحة 87 من كتابه الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية –دار الطليعة – بيروت:

إن الشكل الرئيسي الذي ارتداه التاريخ الأوروبي خلال العقود الممتدة بين عام 1850 و1914 كان شكل تاريخ صراعات قومية إلى حد أن ماركس وإنجلز قد وجدا من الضروري أن تتخذ الحركة البروليتارية موقفا من هذه المسائل. وبما أنهما قدما الطبقات على الأمم، فقد أخضعا بوجه عام حق الأمم في تقرير مصيرها لما كانا يعتقدان أنه مصلحة البروليتاريا على المدى البعيد. غير أنهما إزاء ما عايناه من قصور في الصراعات الطبقية السافرة، ومن قوى وعنف في الصراعات القومية، أجريا على نظرتهما بعض التعديل فـ“خلعا على الأمم دور الطبقات” – ميكلوس مولنار ماركس وإنجلز والسياسة الدولية- وتكلما من ثم عن أمم تقدمية وأمم رجعية…

– الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية الصفحة 87 –

وهكذا، وفق تحليل سمير أمين، كان ماركس وإنجلز يقدمان “الطبقات على الأمم”، لكنهما تراجعا عن ذنبهما عندما رأيا تصاعد الصراعات القومية، وعندما عاينا قصور الصراعات الطبقية وقوة وعنف الصراعات القومية، فغيرا نظرتهما وخلعا على الأمم دور الطبقات؟؟؟

يا له من تشويه بشع للماركسية وموقفها سواء من الصراع الطبقي أو المسألة القومية، ويا لها من تهمة تضرب جوهر الماركسية تلك التي تزعم أنها خلعت على الأمم دور الطبقات.

لقد أعطت الماركسية منذ بداياتها الأولى أهمية كبرى للمسألة القومية وتتبع كل من ماركس وإنجلز كل الصراعات القومية التي كانت مطروحة على الساحة في عصرهما، ولم يكن ذلك بسبب تراجع حدة الصراع الطبقي، بل لأنهما كانا يعرفان ويعبران بشكل دائم على أنه لا امكانية لتحرر الطبقة العاملة العالمية وانتصارها، دون وحدتها وأن وحدتها رهينة بالقضاء على أسباب الخلاف بينها، وعلى رأسها الأحقاد القومية.

إلا أنهما أخضعا المسألة القومية للتحليل الملموس، ولم يقدموا شيكا على بياض لكل الحركات القومية. بل ميزوا بدقة بين الحركات القومية النابعة عن مطالب ديمقراطية تقدمية لشعوب مضطهَدة في نضالها ضد الشعوب المضطهٍدة. وبين تلك الحركات التي تقودها طبقات رجعية هدفها تأبيد التخلف وإحكام سيطرتها على الكادحين…

لذلك اختلف تقييمهما لكل حركة قومية على حدة.

أما مسألة أنهما أضفيا على الأمم دور الطبقات. وتكلما من ثم عن أمم تقدمية وأمم رجعية، فهو يناقض جوهر الماركسية، أن الماركسية لا تتحدث عن الأمم هكذا بالمطلق بل تقسمها إلى مضطهدين ومضطهدين، مالكين وغير مالكين، مستغلين ومستغلين.

ففي كل أمة، حسب التعريف الماركسي، طبقات رجعية وطبقات تقدمية.

ومهمتنا هي أن ندعم الطبقة التقدمية ضد الطبقة الرجعية، لا أن نذر الرماد في عيون الناس بالحديث عن الأمة بشكل عام. مثلما يحب البرجوازيون، ومنظروهم وضحاياهم أن يقولوا.

أيتها الرفيقات والرفاق،

سمير أمين حين يعبر بتلك الكاريكاتورية عن مواقف ماركس وإنجلز حول المسألة القومية هو – فقط- يعبر عن عجزه عن فهم المنهج الماركسي أو رغبته الواعية في تشويهه لخدمة نظريته التي تعتمد كمنهج أساسي حل المسألة القومية.

يتابع سمير أمين هجومه على ماركس وإنجلز في الصفحة التي تلي صفحة الاقتباس السابق مع محاولة تسييل مضمون تلك الهجمات ببعض المجاملات هنا وهناك:

ولا يشعر ماركس وإنجلز بأي تعاطف إزاء هذه الأمم الفلاحية، التي يعتبرانها عاجزة عن تحقيق ثورة برجوازية، فكم بالأحرى بروليتارية، والتي تشكل، من جراء ذلك قطعانا تتحكم بها أبشع الرجعيات الاقطاعية. والمثال الذي يقض مضجع ماركس هو مسلك الجيوش (التشيكية والكرواتية في شطرها الأكبر) التي استخدمت في تقتيل ثوريي سنة 1848 في النمسا. وكان ماركس وإنجلز مقتنعين بأن شعوب الدانوب والبلقان السلافية الفلاحية ستظل مجرد أداة في يد القيصر، عن طريق الجامعة السلافية، أداة تشهر ضد الشعب الألماني الأكثر تقدما، لأنه مؤلف من برجوازيين وبروليتاريين.

يا لها من نزاهة هذه التي تقوم على كيل الاتهامات لماركس وإنجلز بدون أي استشهاد مما كتباه لتأكيد تلك الاتهامات. ولكن لماذا نبحث عن النزاهة كحد أدنى لحقوقنا كقراء، ونحتاج إلى الاستشهاد بما قالاه حقا إذا كان ذلك سيفسد ما يريد سمير أمين أن يثبته ؟ !

ثم يستمر إلى أن يقول:

ولما كانت ثورات 1848 البرجوازية تفتقر إلى مركب فلاحي قوي، فقد استحال عليها أن تأخذ خطا جذريا. ولئن لم يناصر الفلاحون التشيكيون والكرواتيون الثورة الألمانية-النمساوية، فلربما لأنهم شعروا بأنها لا تقدم شيئا للفلاحين. فلماذا لم يدرك ماركس ذلك؟

في الواقع كتابات ماركس وإنجلز توضحان أنهما فهما بشكل دقيق لماذا فشلت في أن تتخذ خطا جذريا، وشرحا أن السبب هو من جهة خيانة الطبقة البرجوازية وأن خوفها من الثورة كان أكثر من خوفها من الطبقات السائدة القديمة.

في نفس السياق يشرح تروتسكي كيف تحلل الماركسية فشل ثورات ألمانيا والنمسا في منتصف القرن التاسع عشر:

في عام 1848 كانت البرجوازية قد اثبتت عجزها عن لعب دور ذي قيمة. فهي لم تحاول ولم تتمكن من تصفية النظام الاجتماعي الذي يعترض طريقها إلى الحكم تصفية ثورية. إننا نعرف الآن لماذا كان الأمر كذلك. كان هدفها أن تدخل إلى النظام القديم الضمانات الضرورية ليس لتحقيق سيطرتها السياسية وإنما لمجرد أن تتقاسم السلطة مع قوى الأمس. وكانت تعي هذا الهدف الوعي التام. فكانت تلك مسلكية حقيرة […]

البرجوازية الألمانية لم تصنع “الثورة” بادئ بدء بل تبرأت منها. لقد تمرد وعيها على الظروف الموضوعية التي تؤهل لها السيطرة. فلم يكن بالإمكان تحقيق الثورة بواسطتها بل ضدها. فعوضا عن أن تبدو المؤسسات الديمقراطية لها هدفا تناضل من اجله، بدت خطرا يهدد مصالحها.

في عام 1848 ظهرت الحاجة إلى طبقة تستطيع أن تتولى الأمور بمعزل عن البرجوازية وبالرغم عنها، طبقة لا تكون مستعدة لدفع البرجوازية إلى الأمام بوساطة ضغطها فحسب ولكنها ترمي إلى التخلص من جثة البرجوازية السياسية عندما يحين الأوان. ولم يكن بإمكان البرجوازية الصغيرة بالمدن ولا الفلاحون أن يحققوا ذلك.

(تروتسكي: الثورة الدائمة. ص: 81-82)

وبعد أن شرح تروتسكي، لماذا البرجوازية الصغيرة كانت عاجزة عن ذلك، وكذلك الفلاحون الذين كانوا عاجزين بسبب افتقادهم للاستقلال السياسي، ينتقل إلى البروليتاريا فيشرح  أنها كانت «جد ضعيفة وتفتقر إلى التنظيم والخبرة والمعرفة» رغم أنها، كما يشرح: “برهنت على بطولة نادرة وحيوية لا تنضب” (نفسه: ص: 83-84)

وهكذا نفهم أن الماركسيين فهموا منذ البداية، وقبل سمير أمين بوقت طويل لماذا لم تأخذ تلك الثورات خطا جذريا: لأن البرجوازية كانت قد صارت مذعورة من الثورة، ولأن الفلاحين فاقدين للاستقلال السياسي بطبيعتهم، ولأن البروليتاريا كانت ما تزال ضعيفة نظريا وتنظيميا رغم كل تضحياتها في النضال.

ثم يردف سمير أمين مباشرة:

ثمة سببان في نظرنا وراء هذا الموقف.

السبب الأول، هو ظرفي يتمثل في خوفه المرضي من كل ما هو روسي […]

أما السبب الثاني فأكثر خطورة من الأول، لأنه ليس ظرفيا خالصا. فقد كان ماركس […] يؤمن بأن الثورة الفلاحية لن تتحقق إلا بقيادة البرجوازية»

– الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية الصفحة 88-89

الرفيقات والرفاق،

إذا تجاوزنا الملاحظات الهجومية التي تقدم توصيفا شعوريا لكيف كان يشعر ماركس وإنجلز وما هي مساحات تعاطفهما إلى لب الموضوع.

لب الموضوع يوضح على أي أساس طبقي يقف السيد سمير أمين ومن خلاله يحكم على ماركس، فسمير أمين حين يضع هاتين المسألتين كجوهر لقضيته يعبر عن نزعة البرجوازي الصغير الذي لا يعنيه الصراع الطبقي إلا بما يخدم هاتين المسألتين، ولا يعنيه التحول الثوري إلى الاشتراكية إلا بما تقتضيه من حل لهاتين المسألتين.

إن تشابك هذا الموقف المرجعي من القضية القومية، أي اعتبار المسألة القومية بوصفها المحددة الرئيسية في موقف السيد سمير أمين وفي محاكمته لمواقف ماركس وإنجلز من جهة والمسألة الفلاحية من جهة أخرى. يبين هذا التشابك – أيضا – إلى منهج الفصل الميكانيكي بين هذه القضايا بوصفها مرجعا يحاكم على أساسه البرنامج الماركسي وليست مجرد قضايا جزئية، من بين قضايا أخرى تشكل كلها تمثلات للصراع الطبقي…

يتضح هذا الفصل الميكانيكي أكثر في الفقرة التالية:

لم يغب عن ذهن ماركس احتمال حصول تحول مرحلي من الثورة البرجوازية إلى الثورة الاشتراكية في ألمانيا (وفيما بعد إسبانيا)، حادسا بذلك على نحو عبقري بالتطور اللامتكافئ الذي عرف لينين كيف يجلو وجوده. غير أنه لم يتصور تحول ثورة فلاحية إلى ثورة اشتراكية، علما بأن الثورة التي انفجرت في روسيا كانت فلاحية أكثر منها برجوازية.

– الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية الصفحة 88

يتضح الفصل الميكانيكي بذلك التوصيف أن الثورة في روسيا كانت فلاحية أكثر من كونها برجوازية. إن القضية الفلاحية بالنسبة للماركسية إما أن تكون ضمن مشروع برجوازي ديمقراطي (في المرحلة التاريخية التي كانت فيها البرجوازية تناضل نضالا تقدميا ضد أشكال العلاقات الإنتاجية الرجعية للإقطاعية بما تعنيه من تجميد ملكية الأرض) أو أن تكون ضمن مشروع اشتراكي (في هذه المرحلة التي لم تعد فيه أي طبقة تقدمية قادرة على قيادة عجلة التاريخ إلى الأمام إلا الطبقة العاملة).

إن الثورة الروسية التي – يقول سمير أنها ثورة “فلاحية”- ظهرت في شروط صارت فيها الرأسمالية تخيط كل العلاقات عن طريق انتشار نمط الإنتاج التصنيعي الرأسمالي (معتمدا على الرأسمال الأجنبي) والذي ربط علاقات التبادل بين المدن والريف عن طريق وسائل الدفع، النقود التي أعيد تبنيها بواسطة الرأسمال البنكي في روسيا حينها، وفي الوقت الذي تطورت فيه الطبقة العاملة الروسية وتكاثرت وتكدست المصانع بشكل كبير جدا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر: ففي سنة 1865 كان مجموع المصانع والورشات ومناجم التعدين 674 وقفز هذا الرقم إلى 1180 في 1890 – البلشفية الطريقة نحو الثورة – آلان وودز-، وشهدت زيادات كبيرة بعدها متأثرة بالحرب اليابانية 1904 والحرب الامبريالية الأولى 1914. كل تلك التحولات على مستوى الرأسمالية الروسية التي ترافقت مع نشوء طبقة برجوازية ضعيفة ومهلهلة، تعادي ببعض التردد الطابع الإقطاعي لكنها تعادي بخوف أكبر وحدية أعلى الطبقة العاملة، الشيء الذي أظهر الطابع الخياني لهذه البرجوازية في أكثر من مناسبة. في الوقت ذاته مرت البروليتاريا الروسية بالكثير من النضالات التي صارت مع الوقت دروس ممارسة ونظرية جعلتها تنفرد بقدرة القيادة الثورية. أما بخصوص الحركة الفلاحية أو المهام الزراعية الثورية فكل الماركسيين الروس وعلى رأسهم لينين لم يكونوا ينظرون لها كعنوان رئيسي للمرحلة، أي كونها قادرة على أن تطبع بطابعها التحول الثوري الاشتراكي (كون الحركة الفلاحية يمكنها نفسها أن تثور وتوصل للاشتراكية، هذا كان رأي الشعبويين)، فأي حركة فلاحية – بالنسبة للماركسية- إما أن تكون جزءا من ثورة برجوازية أو أن تكون جزءا من ثورة اشتراكية، كتب لينين في مقاله (الاشتراكية البرجوازية الصغيرة والاشتراكية البروليتارية – المختارات دار التقدم المجلد 3. الصحفات: 12 – 13 – 14)

إن تأخر روسيا يفسر، بالطبع، بقاء شتى المذاهب الاشتراكية المتأخرة مكينة الجذور في بلادنا. إن كل تاريخ الفكر الثوري الروسي في غضون ربع القرن الأخير هو تاريخ نضال الماركسية ضد الاشتراكية الشعبوية البرجوازية الصغيرة. وإذا كان ما بلغته حركة العمال الروسية من نهوض سريع وما أحرزته من نجاحات مدهشة قد أدى إلى انتصار الماركسية في روسيا أيضا، فان تطور حركة فلاحية واضحة المعالم الثورية – ولا سيما بعد الانتفاضات الفلاحية الشهيرة التي جرت في مالوروسيا (أوكرانيا) عام 1902- قد أدى إلى بعض الانتعاش في الشعبية العجوز المتداعية – يذكر بالماضي النارودني القديم للثورة الروسية -. إن الشعبية القديمة المرقعة بالانتهازية الأوروبية المنتشرة كالموضة (التحريفية، البرنشتينية، انتقاد ماركس)، تشكل كل الجعبة الفكرية الأصيلة عند من يطلق عليهم اسم الاشتراكيين-الثوريين. ولهذا تحتل مسالة الفلاحين المكان الأول في مناقشات الماركسيين مع الشعبيين الصرف وكذلك مع الاشتراكيين الثوريين.

لقد كانت الشعبية إلى حد ما مذهبا كاملا منسجما. كانت تنكر سيطرة الرأسمالية في روسيا؛ كانت تنكر سيطرة الرأسمالية في روسيا؛ كانت تنكر دور عمال المصانع كمكافحين في طليعة البروليتاريا كلها؛ كانت تنكر أهمية الثورة السياسية والحرية السياسية البرجوازية، وكانت تدعو إلى القيام بالانقلاب الاشتراكي فورا استنادا إلى المشاعة الفلاحية وزراعتها الصغيرة. غير أنه لم يبق من هذا المذهب المكتمل سوى خرق بالية……

ثم يستطرد:

فالشعبي يرى أن حركة الفلاحين تدحض الماركسية وأن هذه الحركة تؤيد بالضبط ضرورة القيام فورا بثورة اشتراكية؛ كما أنها لا تقر بأي حرية سياسية برجوازية؛ ولا تتخذ أساسا لها الاستثمارات الزراعية الكبيرة بل الاستثمارات الصغيرة بالضبط. وقصارى القول، يرى الشعبي أن حركة الفلاحين هي حركة اشتراكية حقا واشتراكية مباشرة. إن إيمان الشعبيين بالمشاعة الفلاحية وفوضويتهم يفسران إلى أقصى حد حتمية هذه الاستنتاجات.

ثم يستطرد – وأرجو أن نركز هنا –

أما الماركسي فإنه يرى أن حركة الفلاحين ليست حركة اشتراكية، إنما هي بالضبط حركة ديمقراطية. فهي في روسيا، كما كان شأنها في سائر البلدان، الرفيقة الملازمة للثورة الديمقراطية. التي هي ثورة بورجوازية من حيث مضمونها الاجتماعي والاقتصادي.

إذا أقررنا بالطبيعة السجالية للكتابات السابقة للينين فإننا من جهة أخرى نؤكد أنها تقدم بشكل واضح الفهم الماركسي لحركة الفلاحين التي لا يمكن أن تكون منفصلة بحد ذاتها عن البرامج الطبقية لأنماط الإنتاج الأكثر حيوية (نقصد هنا الرأسمالية (ممثلة بسلطة البرجوازية) والاشتراكية (ممثلة بسلطة الطبقة العاملة)، أما الجانب من إمكانيات سير الحركة الفلاحية في مسار الثورة الاشتراكية (أي الثورة ذات الطابع الاشتراكي العمالي التي تحمل على عاتقها حل المسالة الزراعية لصالح الفلاحين الكادحين) فإننا نلمس ذلك في كل مقالاته المتعلقة بالقضية المسألة الزراعية أثناء ثورة 1917،

  • مقالات خدعة جديدة للفلاحين من قبل حزب الاشتراكيين الثوريين، المختارات – المجلد 7 – الصفحة 371.
  • جواب على أسئلة الفلاحين، نفس المصدر الصفحة 407، التحالف بين العمال والفلاحين الكادحين والمستثمرين، نفس المصدر، الصفحة 409… إلخ

الرفيقات والرفاق،

إن سلسلة الاتهامات التي دشنها سمير أمين لمواقف ماركس وإنجلز بخصوص المسالة القومية والمسألة الفلاحية المضمرة داخلها بالرغم من خطئها الكامل ووضوح التعسف فيها باتهام ماركس وإنجلز بالمركزية الأوروبية، تؤكد أنها ليست سوى مقدمات ستبنى عليها كل المقترحات الاستراتيجية الرجعية، مثل اعتبار البرجوازية الوطنية صاحبة مشروع تحرري ومناهض للإمبريالية ويصيغ في نفس الإطار مقترحات من قبيل جبهات داخلية لبلدان الجنوب (جبهات تعاون طبقي):

وبالنظر إلى ما سبق ذكره فلا بد أن يسير المشروع الوطني المستقل البديل هو الآخر على قدمين.

فمن جهة ينبغي أن تتخذ دول الجنوب ضحايا النظام القائم مبادرات جريئة تفتح الطريق للتنمية المستقلة الصحيحة. والمقصود بناء منظومة إنتاجية شاملة متمركزة على الذات وذات المضمون الاجتماعي التقدمي، تطابق المعايير التي أوضحت مكوناتها في المقال الأول من هذه السلسلة. علما بأن مثل هذه المبادرات تناقض مبادئ الليبرالية الفجة. وبالتالي فيجب أن تتخذ الدول المعنية إجراءات ملائمة في المجال السياسي لحماية نفسها. والمقصود هنا إنعاش مؤسسات الدولة الوطنية الشعبية من جانب والبحث عن تحالفات دولية تنتج تبلور جبهة موحدة للجنوب وروسيا من الجانب الآخر.

(من مقال نحو جبهة الجنوب)

الرفيقات والرفاق،

إن هذه الجبهات التي يتحدث عنها سمير أمين لابد أن تكون بقيادة البرجوازية المحلية، البرجوازية المرتبطة بشكل عميق بالنظام الرأسمالي العالمي/الامبريالي وهذا ما يؤكده سمير أمين نفسه – مشكورا – في نفس المقال:

علما بأن بورجوازية تخوم المنظومة العالمية (الجنوب وروسيا) قد تمت إعادة هيكلتها وإثراؤها في ظل سيادة الليبرالية المعولمة، حتى تقبل العمل من الباطن لمصلحة الاحتكارات الإمبريالية، وهو الشرط الذى يتيح تواصل إثرائها. وبالتالي تقف هذه البورجوازية عقبة في سبيل الدفع نحو المشروع الوطني المستقل.

لكنه للخروج من هذا التناقض الكبير يقوم بفصل ميكانيكي آخر! بين ما يسميه “الطبقة السياسية” والطبقة البرجوازية المعبرة عنها، هذا الفصل الغامض الذي لا يمكن أن يقوم به أي ماركسي. ثم يقترح في مشروعه المزيد من الضغط “الشعبي” على هذه “الأنظمة البونابرتية البرجوازية” لكي تميل باتجاه طابع أكثر اجتماعية. إن هذا التحليل الغارق إلى أذنيه في الانتهازية ينبي إلى أي درجة وصل السيد سمير أمين في مثاليته وبعده عن التحليل الطبقي الماركسي لمسائل في غاية الجوهرية بالنسبة للماركسيين، مثل مسألة الدولة.. وهنا أتوقف قليلا لإلقاء النظر على مسألة الدولة في الماركسية باختصار شديد.

يكتب لينين في كتابه الدولة والثورة، المختارات-المجلد 7 الصفحة 16:

الدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا التوفيق بين التناقضات الطبقية ولا يمكن التوفيق بينها.

ويتابع في نفس المصدر السابق، الصفحة 49:

إن أشكال الدول البرجوازية في منتهى التنوع، ولكن كنهها واحد: فجميع هذه الدول هي بهذا الشكل أو ذاك وفي نهاية الأمر ديكتاتورية البرجوازية على التأكيد.

كما يطيب لي هنا أيضا أن أذكر – في نفس الكتاب الصفحة 132 – كيف وصف لينين انتهازية كاوتسكي في رده على برنشتين:

…. وقد كتب كاوتسكي “ضد” برنشتين قائلا:

“يمكننا أن نترك للمستقبل بكل راحة ضمير أمر تقرير مسألة دكتاتورية البروليتاريا”

إن هذا ليس بجدال ضد برنشتين، ولكنه في الجوهر تنازل أمامه، تخل عن المواقع للانتهازية، لأن الانتهازيين لا يريدون في هذه الظروف أكثر من أن “تترك للمستقبل بكل راحة ضمير” جميع المسائل الجذرية بشأن مهام الثورة البروليتارية.

وفي مسألة الدولة دائما دعونا نخطو إلى الأمام إلى بعد أكثر تفصيلا حول طبيعة الدول البونابرتية (التي يعزلها سمير أمين بوصفها طبقة جديدة بتعبيره “الطبقة السياسية”) يكتب الرفيق تيد غرانت في مقاله (الثورة في المستعمرات والدول العمالية المشوهة):

لا تقف الأنظمة البونابرتية في الهواء بل تتأرجح بين الطبقات. إنها تمثل في أخر المطاف الطبقة المسيطرة في المجتمع. واقتصاد تلك الطبقة يحدد الطبيعة الطبقية لتلك الأنظمة. بعض تلك البلدان، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، القارة شبه المستعمرة التي كانت طيلة القرن الماضي تحت هيمنة الإمبريالية البريطانية ثم الأمريكية، مستقلة اسميا لأكثر من قرن من الزمان. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من مرورها من فترة من الاضطراب استفادت الطبقة الحاكمة المشكلة من ملاك الأراضي والرأسماليين من فترة كافية لإتقان بناء جهاز دولتها. أحيانا يمكن لمختلف فئات القوات المسلحة أو فصائل من القوات المسلحة أن تعكس مصالح فئات مختلفة من الطبقة الحاكمة، بل وقد تعكس حتى ضغوط الإمبريالية، وفي المقام الأول الإمبريالية الأمريكية.

الرفيقات والرفاق،

إن الأنظمة السياسية البونابرتية أو من يسميهم السيد سمير أمين “الطبقة السياسية” لا يمكن إلا أن تعكس مصلحة طبقة ما، وهي في هذه الحالة تعكس بجلاء مصالح البرجوازية، نفس البرجوازية التي وصفها سمير أمين – أنه قد تمت إعادة هيكلتها وإثرائها في ظل سيادة الإمبريالية. – نفس هذه “الطبقة السياسية” – على تعبير سمير أمين – لن تتوانى عن تدمير أي حركة “شعبية” أو عمالية حتى لو ارتمت بشكل عبودي كامل في حضن الإمبريالية.

إنني لا أجد أي تفسير لنزعة الغموض المتناقض هذه لدى سمير أمين إلا إذا ألحقناها بالنزعة البرجوازية الصغيرة المرتعبة من الطبقة العاملة أو التي لا ترى فيها أي حل، وعوضا عن البحث في القوة الكامنة فيها وكونها الطبقة الوحيدة القادرة على مواجهة الامبريالية والقادرة تحت قيادتها ومشروعها الاشتراكي حل كل المسائل الديمقراطية العالقة التي لم تعد البرجوازية بإمكانها تقديم أي جديد حولها سوى تكرير الخيانات وتطوير أجهزة القمع الطبقي.

لكن سمير أمين نفسه – أحيانا – يعي ذلك وإن بطريقة مشوهة حيث كتب في (كتاب الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الامبريالية – الصفحة 150):

بيد أن الإمبريالية دفعت، في الوقت نفسه، إلى مقدمة المسرح بقوة جديدة مناهضة للرأسمالية، هي قوة الأمم الطرفية التي غدا كفاحها محركا للتاريخ. وثمة صراع، هائل الأبعاد، قد بدأ؛ صراع تتواجه فيه بروليتاريا هذه الأمم وبرجوازيتها، صراع ستكون نهايته حاسمة بالنسبة إلى مستقبل الاشتراكية. فبما أن حركة التحرر القومي عاجزة عن تحقيق كامل أهدافها بقيادة البرجوازية، فمن المحتم عليها أن تتواصل من مرحلة إلى أخرى من تطور النظام الامبريالي إلى أن يأتي يوم تتمكن فيه البروليتاريا من انتزاع قيادتها، فيطرح عندئذ التحرر القومي المكتمل المشكلات الجديدة للانتقال الاشتراكي. على هذا النحو تشق الاشتراكية طريقها، طريقا لم يكن بالإمكان التنبؤ بها مقدما.

عدا عن كوني تذكرت عبارة كاوتسكي «يمكننا أن نترك للمستقبل بكل راحة ضمير أمر تقرير مسألة دكتاتورية البروليتاريا» في عبارة سمير أمين: «إلى أن يأتي يوم تتمكن فيه البروليتاريا من انتزاع قيادتها». فإن التناص هنا ليس تناصا تعبيريا فقط. بل إن ترك هذه المسألة للمستقبل الغامض يقع في لب النزعة البرجوازية الصغيرة السمير أمينية والكاوتسكية المعبر عنهما في عدة أماكن أخرى. إن الجانب الانتهازي لهذه التصورات يبدو جليا في جانب غموضه حول مسألة القيادة الثورية للطبقة العاملة وكونها متروكة إلى مستقبل ما وبكل راحة ضمير.

كذلك نلمس في النص السابق وفي عدة نصوص لسمير أمين مركزية نظرية الثورة على مراحل بالرغم من عرضها بطرق وأشكال جديدة. تقول تلك النظرية المنشفية الإصلاحية أن الثورة الروسية ينبغي أن تكون بقيادة البرجوازية بوصفها الطبقة الوحيدة التي يمكن أن تقود الثورة الديمقراطية.. ثم حين تكتمل تلك المرحلة الديمقراطية «يأتي يوم تتمكن فيه البروليتاريا من انتزاع قيادتها»، لكن ليس الآن… إنه متروك للمستقبل البعيد.

إن هذه النظرية ناضل ضدها لينين وتروتسكي وأثبتت تجربة الثورة الروسية بشكل ايجابي خطأها، من خلال استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وبدئها في إنجاز مهام التحرر القومي وحل المسألة الزراعية، وغيرها من المهام الديمقراطية الأخرى، يدا في يد مع المهام الاشتراكية (مصادرة كبريات الشركات، القضاء على الدولة البرجوازية، الاقتصاد المخطط، السلطة للسوفييتات، الخ).

كما أثبتت تجارب أخرى خطأها لكن بشكل سالب، من خلال الهزائم التي تكبدتها كل الثورات التي راهنت على البرجوازية التقدمية أو الطريق الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية.

إن البرجوازية المحلية في بلداننا، أيتها الرفيقات والرفاق.. لا يمكن أن يكون لها دور تقدمي بسبب بسيط، أنه ليس لديها الأساس المادي لأن تكون تقدمية وتؤدي مهامها التاريخية… ولا يمكن أن تخلقه في مسار مستقل لأنها تحت الهيمنة الإمبريالية…..

مثل ما قال الرفيق حميد في الجلسة الأولى: إن البرجوازية في البلدان العربية لا يمكن أن توفر ديمقراطية.. لأنها ببساطة لا يمكن أن توفر للطبقة العاملة كل حاجياتها الضرورية.. العمل.. المسكن.. إلخ، إذا سيكون من الضروري عليها أن تقمعهم، أن تقمع كل الحريات.

الرفيقات والرفاق،

تثبت نظرية الثورة الدائمة صحتها ضد ترهات التعاون الطبقي للمركز والاطراف.

فرغم ان أنصار نظرية المركز والاطراف يعتقدون انهم اتوا بشيء جديد عندما يتحدثون عن ان نمط الانتاج الرأسمالي دخل الى ما يسمونها بلدان الاطراف من الخارج وان المهام الديمقراطية البرجوازية لم تنجز بالطريقة التي انجزت بها في المركز، وبالتالي يقترحون طريقا ثالثا لبلدان الاطراف، وقوى ثورية جديدة -الفلاحون حينا، وتحالف الطبقات الشعبية حينا آخر بما في ذلك فئات من البرجوازية التي يسمونها وطنية أو طبقة سياسية أحيانا،…الخ، فإنهم – أيتها الرفيقات والرفاق – في الواقع لم يعملوا سوى على نفض الغبار عن نظريات قديمة تم الحسم معها منذ زمن بعيد: نظرية الشعبويين الروس الذين كانوا يزعمون طريقا ثالثا لروسيا والمناشفة والستالينيين انصار الثورة عبر مراحل، الخ.

تثبت الثورة الدائمة صحتها لأنها تشرح انه رغم التطور الخاص الذي مرت به بلدان ما يسمى بالأطراف فإنها جزء من السوق العالمية وان نمط الانتاج السائد فيها هو الرأسمالية وان الطبقة الوحيدة القادرة فيها على قيادة مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية ليس الفلاحين (بسبب افتقادهم الاستقلالية السياسية وللانسجام) ولا ما يسمى البرجوازية الوطنية (نظرا لارتباطها بالبنية القائمة واستفادتها منها) بل الطبقة العاملة صاحبة الموقع الرئيسي في عملية الانتاج والقادرة على قيادة كل الطبقات الكادحة الاخرى (بما في ذلك الفلاحون الفقراء) في ثورة تنجز المهام الديمقراطية لكن دون التوقف عندها بل بإجراءات اشتراكية (المصادرة والتأميم والتخطيط الخ)

هذا هو المنظور الذي ندافع عنه في التيار الماركسي الاممي ولهذا نعمل على بناء القيادة العمالية الثورية القادرة على قيادة الطبقة العاملة لحسم السلطة وانجاز كل مهام ثوريتها.

عاشت الاشتراكية!

عاشت الطبقة العاملة!

عاشت القوى الماركسية!

عاش التيار الماركسي الأممي!

مود سعيد