الرئيسية / قضايا نظرية / الأممية / كيف تم بناء الأممية الشيوعيةوما هي الدروس المستفادة اليوم؟

كيف تم بناء الأممية الشيوعيةوما هي الدروس المستفادة اليوم؟

لقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى انهيار الأممية الثانية في بدايتها، وموجة من الثورات في نهايتها. وفي هذا السياق نجح لينين في بناء الأممية الثالثة (الشيوعية)، مع فروع قوية في العديد من البلدان، بهدف توفير القيادة اللازمة لانتصار الثورة العالمية. في هذه المقالة، التي نشرت في العدد العدد 47 من مجلة “الدفاع عن الماركسية، يشرح فريد ويستون العمليات التي تشكلت من خلالها هذه الأممية الجديدة، والدور الذي لعبه لينين وتروتسكي في تثقيف طبقة جديدة من الشيوعيين للمهام التي تنتظرهم.

الافتتاح الكبير للمؤتمر الثاني للكومنترن (1924)، إسحاق برودسكي

الرأسمالية نظام عالمي، وبالتالي فإن النضال من أجل الإطاحة بها لابد وأن يكون عالميا. وهذا ما يفسر لماذا قام الماركسيون -الشيوعيون الثوريون- منذ أيام ماركس وإنجلز، بتنظيم أنفسهم على المستوى الأممي، بدءا بالأممية الأولى ثم الثانية والثالثة والرابعة.

واليوم نواجه مرة أخرى نظاما رأسماليا في أزمة عميقة على المستوى العالمي. أينما نظرنا نرى الحروب والحروب الأهلية والمجاعات وتغير المناخ وارتفاع تكاليف المعيشة والديون بمستويات غير مسبوقة والأزمات السياسية في جميع البلدان الواحد منها تلو الآخر، مع تغيرات حادة وانعطافات نحو اليسار ونحو اليمين.

نتيجة لهذا نشهد انفجارات ثورية للجماهير في جميع أنحاء العالم، كما حدث في سريلانكا العام الماضي، وكينيا وبنغلاديش هذا العام. إن العالم يتجه نحو الثورة الاجتماعية في كل مكان.

وهذا يطرح مرة أخرى، كما كان الحال في أيام لينين، الحاجة إلى منظمة أممية تجمع الشيوعيين الثوريين من جميع البلدان. ولهذا السبب أعلنا تأسيس الأممية الشيوعية الثورية لتكون منارة لكل العمال والشباب الجادين الذين أدركوا الحاجة إلى الثورة.

إن هدفنا هو بناء أممية ثورية جماهيرية قادرة على توفير القيادة المطلوبة لضمان نجاح الموجة القادمة من الثورات في وضع حد للنظام الرأسمالي بشكل نهائي، وألا تنتهي بهزيمة الطبقة العاملة، كما حدث في الماضي.

إن السنوات الأولى للأممية الشيوعية الثالثة (“الكومنترن”) تشكل تجربة تاريخية ثمينة بالنسبة لنا اليوم ونحن نمضي قدما في بناء فروع الأممية الشيوعية الثورية. كيف يمكن تحويل القوى الصغيرة نسبيا التي لدينا اليوم إلى أحزاب شيوعية ثورية جماهيرية قوية؟

كان اندلاع الحرب العالمية الأولى، في يوليوز 1914، نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم. فقد حشدت القوى الإمبريالية في أوروبا طبقاتها العاملة لذبح بعضها البعض من أجل خدمة أهدافها الحربية الافتراسية. آنذاك صارت هناك، أكثر من أي وقت مضى، حاجة ماسة إلى قيادة أممية واضحة، لقطع الطريق على حمّى الحرب والمساعدة في تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب طبقية. لكن جميع قادة أحزاب الأممية الثانية تقريبا استسلموا للضغوط، وقدموا الدعم لرأسمالييـ’هم’.

كانت بذور تلك الخيانة تكمن في حقيقة مفادها أن الأممية الثانية، التي تأسست في عام 1889، قد تطورت خلال فترة من الازدهار الرأسمالي. كانت قدرة الطبقة العاملة في تلك الفترة على الفوز بالإصلاحات من خلال الصراع الطبقي، قد أثرت على نظرة قادتها، الذين طوروا وجهة نظر مفادها أن الاشتراكية يمكن تحقيقها من خلال الإصلاحات التدريجية. وهكذا، بمرور الوقت، حل التعاون الطبقي والإصلاحية محل برنامج الثورة الاشتراكية.

ورغم أن عددا من الجدالات دارت ضد تلك الاتجاهات الانتهازية، فإن درجة الانحطاط كانت قد وصلت مستويات كبيرة تحت السطح. ففي الأنشطة اليومية، بدأ العديد من ممثلي الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني (SPD) يمارسون سياسة التعاون الطبقي، بحكم الأمر الواقع. لكن الموقف الرسمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني استمر متمسكا بالماركسية. وقد أصيب لينين بصدمة شديدة حين قرأ عن استسلام زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي عند اندلاع الحرب، حتى أنه تصور أن إصدار الصحيفة، التي أعلنوا فيها تأييدهم للحرب، كان خدعة من جانب هيئة الأركان العامة الألمانية.

لكن وبمجرد أن اتضحت أمام أعين لينين أبعاد الخيانة، تمكن من تشخيص حقيقة مفادها أن الأممية الثانية قد ماتت ولم تعد قادرة على قيادة الثورة الاشتراكية العالمية نحو النصر. ولذلك أعلن، منذ نوفمبر 1914، الحاجة إلى إنشاء أممية ثالثة.

لكن وفي ظل ظروف الحرب الإمبريالية، وإفراغ المنظمات العمالية، إلى جانب خيانة الزعماء “الاشتراكيين”، لم تكن الظروف اللازمة لتأسيس مثل تلك الأممية موجودة بعد. والواقع هو أن لينين أشار في مؤتمر زيمروالد المناهض للحرب، عام 1915، إلى أن كل الأمميين الحقيقيين في العالم يمكن حشرهم في بضع عربات تجرها الخيول. وسوف يتطلب الأمر تطور الأحداث، وأهمها الثورة الروسية في عام 1917، لجلب القوى اللازمة لإنشاء أممية جديدة إلى الوجود.

الاستعراض الافتتاحي للمؤتمر الثاني للكومنترن (1921)، إسحاق برودسكي

لذلك كانت مهمة لينين الأكثر أهمية لأجل إعادة تأسيس الأممية الثورية هي إنقاذ منهج وبرنامج الماركسية الحقيقية من تشويهات الانتهازيين.

ولم يكن من قبيل المصادفة أنه في عام 1914، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، قام لينين بتخصيص وقت ثمين لدراسة هيغل بعمق. لماذا فعل ذلك؟ كان ذلك لأنه بدون فهم ديالكتيك هيغل، سيكون من غير الممكن فهم منهج ماركس بشكل كامل.

لقد طبق لينين هذا المنهج بمهارة لمحاربة من يسمون بـ“الماركسيين”، الذين كانوا يقتبسون بشكل خاطئ مقتطفات من ماركس لتبرير دعمهم للطبقات السائدة “الخاصة بهم” أثناء الحرب. ولذلك فإن كتابات لينين التي تعود لتلك الفترة تشكل كنزا من النظرية الماركسية. وتشمل هذه الكتابات “انهيار الأممية الثانية” (1915)؛ وكراس “الاشتراكية والحرب” (1915)؛ وكتابه الشهير “الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية” (الذي كتبه في يناير ويونيو 1916).

كان شرح لينين للماركسية ودفاعه عنها أمرا حيويا لتمكين البلاشفة من قيادة الثورة الروسية إلى النصر. ويتضح هذا في “رسائل من بعيد” (التي كتبها في مارس 1917)؛ تليها “أطروحات أبريل”؛ وعمله البارز: “الدولة والثورة” (الذي كتبه في غشت وشتنبر 1917)؛ وكلها كانت ضرورية في مكافحة تردد القيادة البلشفية أثناء مسار الثورة.

إن تاريخ الحزب البلشفي غني بالدروس حول كيفية بناء حزب ثوري. فقد مر الحزب بفترات من العمل السري، حيث عملت الخلايا الصغيرة في ظروف بالغة الصعوبة، لكن الحزب مر أيضا بفترات من العمل الجماهيري، كما حدث في عام 1905 عندما اندلعت الثورة الروسية الأولى.

إن تلك التجربة الغنية التي مر بها الحزب البلشفي هي التي شكلت الأساس النظري للأممية الشيوعية في فترة مؤتمراتها الأربعة الأولى، 1919-1922. وكل هذا يظهر بوضوح شديد من خلال المناقشات التي جرت آنذاك.

إذا نظرنا إلى القرارات والوثائق والخطابات التي ألقيت في المؤتمرات الأربعة الأولى، فسوف ندرك بوضوح الدور التعليمي الأساسي الذي لعبه عملاقا النظرية الماركسية، لينين وتروتسكي. لقد أدركا مهمتهما المتمثلة في نقل خبرتهما وأفكارهما المتراكمة إلى جيل جديد من القادة الثوريين الذين كانوا يبرزون إلى الواجهة. وبهذه الطريقة كانا قادرين على المساعدة في تسليح الأحزاب الشيوعية، الناشئة حديثا، في جميع أنحاء العالم، بالأساليب والتكتيكات الصحيحة لتحقيق النصر.

إن الأحداث الكبرى هي التي تعِد الظروف للثورة، وفي المقابل فإن أزمة الرأسمالية هي التي تعِد الظروف لتلك الأحداث. لقد دشنت الثورة الروسية، عام 1917، فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، والتي شهدت موجة من الثورات التي اجتاحت أوروبا. كانت الظروف الموضوعية للثورة قد نضجت، أو كانت في طور النضوج، في بلد تلو الآخر.

في يناير 1918، اجتاح إضراب عام النمسا- المجر وكانت له أبعاد ثورية. وفي نوفمبر من ذلك العام، بدأت الثورة الألمانية، التي أطاحت بالقيصر وأنهت الحرب. شارك قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الحكومة، وفعلوا كل ما في وسعهم لإعادة السلطة إلى الرأسماليين. ومن ثم عادت الثورة إلى النمسا، حيث خان الاشتراكيون الديمقراطيون النمساويون بدورهم الثورة.

وفي الوقت نفسه، انقسمت الأممية الثانية عموما إلى ثلاثة معسكرات. كان المعسكر الأول هو معسكر الشوفينيين الصريحين، الذين عبروا بشكل علني عن خيانتهم أثناء الحرب. وكان هناك معسكر ثان أسماه لينين “الوسط” -كان كاوتسكي الوجه البارز داخله- والذي أخفى انتهازيته وراء لغة ثورية. وثالثا كان هناك الجناح الثوري المتنامي، والذي انشق كثيرون منه عن الأممية الثانية من أجل تشكيل أحزاب شيوعية في بلدانهم.

انعقد المؤتمر الأول للكومنترن، في موسكو، في الفترة من 02 إلى 06 مارس 1919، بهدف تجميع مختلف التيارات الثورية على المستوى الأممي. لم يحضر المؤتمر سوى 52 مندوبا، نظرا للصعوبات التي واجهوها في السفر إلى موسكو أثناء ذروة الحرب الأهلية، إلى جانب حقيقة مفادها أن سيرورة التجذر كانت ما تزال في مرحلة مبكرة. وهكذا فقد كان المؤتمر بمثابة دعوة إلى التعبئة، ليكون بمثابة نقطة مرجعية لذلك الجناح اليساري الثوري المتنامي على المستوى الأممي مع تنامي نضج سيرورة الثورة العالمية.

أصدر المؤتمر بيانا -صاغه ليون تروتسكي- قال بجرأة:

“إن البروليتاريا هي التي يجب أن تقيم النظام الحقيقي، نظام الشيوعية. يجب أن تضع حدا لهيمنة رأس المال، وتجعل الحرب مستحيلة، وتمحو الحدود، وتحول العالم بأسره إلى كومنولث تعاوني واحد، وتحقق الأخوة والحرية الإنسانية الحقيقية”[1].

كان أحد الأهداف الرئيسية للمؤتمر هو رسم خط فاصل واضح بينه وبين الإصلاحيين في الأممية الثانية، بما في ذلك “وسط” كاوتسكي. ولذلك فقد ركزت أغلب المناقشات على الاعتراف بـ“دكتاتورية البروليتاريا”، والديمقراطية السوفياتية -أي سلطة العمال- التي كان الإصلاحيون معادين لها.

وبالتالي فقد رفع المؤتمر بحزم راية الثورة العالمية ليراها عمال العالم. واستمرت الأممية الشيوعية الجديدة لتصبح نقطة مرجعية لملايين البشر في فترة النضال العاصفة التي تلت ذلك.

يتراكم الصراع الطبقي على مدى عقود من الزمان، لكن هناك فترات نرى فيها تطورات سريعة في وعي الطبقة العاملة. ففي بريطانيا، بلغ عدد الأيام الضائعة بسبب نشاط الإضرابات 35 مليون يوم عمل في عام 1919، و86 مليونا في عام 1921. وارتفع عدد أعضاء النقابات العمالية من 4,1 مليون عضو في عام 1914 إلى 8,3 مليون عضو في عام 1920. وقد اقترن ذلك بزيادة في الدعم لصالح حزب العمال.

في ألمانيا بلغ عدد الإضرابات في عام 1919 نحو 3682 إضرابا، ثم ارتفع إلى 4348 إضرابا بحلول عام 1922. وارتفع عدد أعضاء النقابات العمالية الاشتراكية من 1,8 مليون في عام 1918 إلى 5,5 مليون في عام 1919 -أي بزيادة بلغت نحو أربعة ملايين عامل في عام واحد فقط. وبحلول عام 1920 بلغ عدد أعضاء جميع النقابات -وليس الاشتراكية فقط- عشرة ملايين. هذا تعبير إحصائي عن الثورة التي بدأت في عام 1918.

في إيطاليا، ارتفع عدد أعضاء اتحاد النقابات العمالية، بقيادة الاشتراكيين، من 250 ألف عضو في عام 1918 إلى 2,1 مليون في عام 1920. وفي الوقت نفسه، تضاعف عدد أعضاء الحزب الاشتراكي الإيطالي (PSI) بأكثر من ثلاثة أضعاف في نفس الفترة، حيث انتقل من 60 ألفا في عام 1918 إلى 210 آلاف بحلول عام 1920. وقد شهد هذان العامان موجة إضرابات ضخمة، بلغت ذروتها باحتلال المصانع في شتنبر 1920.

يمكن العثور على أرقام مماثلة في العديد من البلدان الأخرى. ويكفي أن نقول إنه في كل مكان كانت النقابات العمالية تتوسع بشكل كبير، وكانت أحزاب الطبقة العاملة تزيد من قوتها بشكل كبير أيضا.

في الوقت نفسه، نرى في كل مكان قادة النقابات العمالية يلعبون دورا محافظا، ويكبحون العمال، وكانت هناك أيضا الخيانة العلنية من جانب الزعماء السياسيين للطبقة العاملة.

كانت تلك التجربة هي التي أدت إلى ظهور تيارات يسارية قوية داخل الأحزاب الاشتراكية. ومن تلك التيارات نشأت بعض الأحزاب الشيوعية الرئيسية في أوروبا، مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

لم تكن هناك صيغة واحدة لكيفية تطور تلك السيرورة. ففي فرنسا وإيطاليا وألمانيا، جاءت القوى الجماهيرية للأحزاب الشيوعية من الانشقاق عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القديمة.

أما في أماكن أخرى، مثل بريطانيا، فقد كان هناك اندماج لمجموعات ثورية صغيرة لتشكل فروعا قطرية للأممية الشيوعية. وفي أماكن أخرى، في معظم أنحاء آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تم بناء الأحزاب الشيوعية من ثلة من الكوادر المؤسسين، وكانت الصين هي المثال الرئيسي عن ذلك.

في فرنسا، شعرت قواعد الحزب الاشتراكي الفرنسي (الفرع الفرنسي للأممية العمالية SFIO) بتأثير كل من الأزمة في فرنسا والثورة الروسية. وفي عام 1920، عقد الحزب مؤتمرين: أحدهما في أبريل، والذي رشح وفدا لزيارة روسيا السوفياتية ثم مؤتمر ثان في تورز، والذي تم تنظيمه في نهاية دجنبر من نفس العام.

دعا الأمين العام للحزب، لودوفيك أوسكار فروسارد، بالاشتراك مع مارسيل كاشين، المحرر الجديد لصحيفة الحزب، لومانيتيه، إلى العضوية غير المشروطة في الأممية الشيوعية. وفي معارضة ذلك، كان الفصيل اليميني، بقيادة النائب البارز ليون بلوم، في حين كان الموقف الثالث، الذي عبر عنه جان لونغيه، هو الانضمام لكن بشروط معينة، أي دون الالتزام الكامل ببرنامج ومبادئ الأممية الشيوعية.

بعد الاستماع إلى المواقف المختلفة المعبر عنها في المؤتمر، صوتت أغلبية المندوبين، 3252 مقابل 1022، لصالح الانضمام إلى الأممية الشيوعية. وكان شباب الحزب قد اتخذوا بالفعل قرار الانضمام إلى الأممية الشيوعية للشباب قبل بضعة أشهر.

بعد بضعة أشهر تبنوا اسم الحزب الشيوعي -الفرع الفرنسي للأممية الشيوعية- مع 110 ألف عضو. انشق ليون بلوم لإصلاح SFIO الذي لم يضم سوى 40 ألف عضو.

حراس حمر في مصنع محتل في إيطاليا، 1920

في إيطاليا انضم الحزب الاشتراكي الإيطالي رسميا إلى الأممية الثالثة في مارس 1919. وفي مؤتمره الذي عقد في أكتوبر 1919 في بولونيا، دعا الحزب حتى إلى إنشاء السوفييتات في إيطاليا، وإلى الإطاحة بالديمقراطية البرجوازية. لكن ذلك كان بالكلام فقط؛ بينما في الممارسة العملية لم يفعل شيئا ملموسا للعمل بشكل منسجم على أساس تلك القرارات.

لقد عبر مؤتمر بولونيا عن الرغبات الحقيقية لقواعد الحزب، لكن تلك الرغبات تمت تصفيتها من طرف القادة الإصلاحيين والوسطيين.

في شتنبر 1920، أدى الدور الخياني الذي لعبه الإصلاحيون أثناء حركة احتلال المصانع، إلى تسريع سيرورة التمايز الداخلي بين الجناح الثوري الحقيقي للحزب، وبين الوسطيين والإصلاحيين المتذبذبين.

بطاقة عضوية الحزب الشيوعي الإيطالي، 1923

عندما اجتمع الحزب لعقد مؤتمره، في ليفورنو في 15 يناير 1921، كانت شروط العضوية -“الشروط الـ 21”- التي تبناها المؤتمر الثاني للكومنترن لرسم خط فاصل مع الانتهازيين، في قلب المناقشة. وقد طرح المؤتمر صراحة مسألة طرد الجناح الإصلاحي للحزب وزعمائه، وخاصة فيليبو توراتي وجوزيبي موديلياني.

دافع أماديو بورديغا -الذي أصبح زعيم الحزب الشيوعي- عن ضرورة قبول الشروط الـ 21 بالكامل. ورفض جياسينتو سيراتي، زعيم التيار الوسطي في الحزب، قبول ذلك.

وقد تم تقديم ثلاثة توصيات إلى المؤتمر، حيث فاز سيراتي بدعم 100 ألف عضو في الحزب، واليمين 15 ألفا، والشيوعيين 58 ألفا.

في أعقاب ذلك انسحب الشيوعيون من المؤتمر، وهم يغنون نشيد الأممية، وتجمعوا في مسرح سان ماركو لتأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي، الفرع الإيطالي للأممية الشيوعية.

في ألمانيا لم تكن السيرورة مباشرة كما كانت في فرنسا وإيطاليا. ومع ذلك، فقد عبرت عن اتجاه مماثل للتطور: جاء الجزء الأكبر من أعضاء الحزب الشيوعي الألماني المستقبلي من قواعد الحزب الاشتراكي الديمقراطي القديم، الذي كان قد نما بشكل كبير على خلفية الأحداث الثورية خلال الفترة التي تلت مباشرة نهاية الحرب.

في البداية، تجمع الثوريون الحقيقيون حول راية “المجموعة الأممية”، التي صارت تعرف فيما بعد باسم “السبارتاكيين”، داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. في أبريل 1917 حدث انقسام كبير في صفوف الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتم تشكيل حزب “المستقلين”، “الحزب الاشتراكي الديمقراطي الموحد”. سار السبارتاكيون على خطى الانقسام، لكنهم بعد اندلاع الثورة الألمانية في نوفمبر 1918، قرروا الانفصال عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الموحد وأسسوا الحزب الشيوعي في نهاية عام 1918.

ونتيجة لرد الفعل ضد السياسة الإصلاحية التي تبناها الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وضد انتهازية كاوتسكي وأغلبية زعماء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الموحد، فقد نشأ الحزب الشيوعي الألماني مصابا بأفكار يسارية متطرفة. حيث قاموا، على سبيل المثال، بمقاطعة النقابات العمالية، ورفضوا المشاركة في انتخابات الجمعية التأسيسية التي تمت الدعوة إليها في يناير 1919. كان الحزب أيضا ميالا إلى المغامرة، مثل “انتفاضة السبارتاكيين” المبكرة في يناير 1919. وبعد مقتل زعيميه البارزين -روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت- في أعقاب الانتفاضة، تقلص إلى حد كبير عدد القادة ذوي الخبرة القادرين على كبح جماح ميوله اليسارية المتطرفة.

برز الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل كقوة رئيسية، حيث بلغ عدد أعضائه 300 ألف عضو في مارس 1919، ثم نما بسرعة إلى 800 ألف عضو بحلول أبريل 1920.

أصبح “المستقلون” قناة التعبير عن التجذر الهائل للطبقة العاملة. ونتيجة لذلك، قبلت أغلبية أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل “الشروط الـ 21” وصوتوا لصالح الانضمام إلى الأممية الشيوعية في مؤتمرها الذي عقد في أكتوبر 1920، واندمجوا مع الحزب الشيوعي الألماني. وفي سياق هذه السيرورة انقسم الحزب إلى نصفين، فتخلص من جناحه اليميني. وهكذا تشكل أكبر حزب شيوعي خارج روسيا السوفياتية، حيث بلغ عدد أعضائه 500 ألف عضو.

“دكتاتورية ستينس أم دكتاتورية البروليتاريا؟”
ملصق انتخابي للحزب الشيوعي الألماني عام 1920 . ساعد الصناعي والسياسي هوغو ستينس، المصوَّر على الجانب الأيسر، في تمويل “فريكوربس”، التي كانت مسؤولة عن اغتيال الشيوعيين الثوريين كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ عام 1919 .

لدينا في فرنسا وإيطاليا وألمانيا أمثلة ملموسة لأحزاب شيوعية جماهيرية نشأت من الجناح اليساري للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية القديمة. ولكن في بريطانيا، تأسس الحزب [الشيوعي] في عام 1920 من خلال اندماج عدد من المجموعات الماركسية صغيرة الحجم، والتي شملت الحزب الاشتراكي البريطاني، ومجموعة الوحدة الشيوعية لحزب العمال الاشتراكي، فضلا عن جمعية جنوب ويلز الاشتراكية. وبعد عام واحد انضم إليهم حزب العمال الشيوعي الإسكتلندي أيضا.

وكما كان الحال في ألمانيا وإيطاليا، فقد كان الحزب الشيوعي في بريطانيا مصابا في البداية بالنزعات اليسارية المتطرفة. وكان البعض داخله يقولون بضرورة رفض العمل البرلماني، وعدم جواز أن تكون للحزب أية علاقة بحزب العمال.

لكنه لم يكن هناك مفر من حقيقة أن جماهير واسعة من العمال في بريطانيا كانت ما تزال ترى في حزب العمال نقطة مرجعية لها. وكان هذا هو السبب الذي جعل لينين يخصص قسما من كتابه، “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”، لتثقيف وإعادة توجيه الشيوعيين البريطانيين للعمل داخل حزب العمال وفي محيطه. وقد خصصت جلسة كاملة من جلسات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية لمناقشة هذه المسألة بالتفصيل.

لقد انعكس التجذر المتزايد لشريحة واسعة من الطبقة العاملة العالمية في تكوين ومهام المؤتمر الثاني للكومنترن، الذي عقد في الفترة من 19 يوليوز إلى 07 غشت 1920. وفي حين كان المؤتمر الأول بمثابة دعوة حاشدة للتيارات والمجموعات الشيوعية الصغيرة، فقد شهد المؤتمر الثاني حضور 218 مندوبا من 54 حزبا ومنظمة من جميع أنحاء العالم، لتوضيح برنامج وتكتيكات الأممية الجديدة.

ونظرا لأن فئة كبيرة من قواعد العديد من الأحزاب الاشتراكية كانت حريصة على الانضمام إلى الأممية، فقد كان هناك خطر يتمثل في أن يتمكن العديد من القادة الإصلاحيين القدامى من القفز إلى السفينة معهم، من أجل محاولة الحفاظ على مكانتهم ومناصبهم.

فعلى سبيل المثال، انضم الحزب الاشتراكي الإيطالي بأكمله إلى الأممية الشيوعية، تحت ضغط قواعد الحزب التي تجذرت بفعل الصراع الطبقي المكثف في الفترة 1918-1920 في إيطاليا. لكن الجناح الإصلاحي، بقيادة توراتي وموديلياني، كان ما يزال داخل الحزب، ويعمل ضد الأفكار الثورية للأممية.

وقد لفت ذلك الخطر انتباه المؤتمر الثاني منذ البداية. فعقدت سلسلة من المناقشات، بما في ذلك حول دور الأحزاب الشيوعية والسوفييتات وأساليب العمل، من أجل التمييز بشكل قاطع بين برنامج الشيوعيين وبرنامج الإصلاحيين. وقد تم تلخيص تلك النقاشات في “شروط القبول في الأممية الشيوعية”، أو “الشروط الـ 21” كما يشار إليها غالبا، والتي صاغها لينين نفسه.

أشار لينين إلى أن: “الأحزاب والمجموعات التي انضمت مؤخرا فقط إلى الأممية الثانية قد صارت تتقدم أكثر فأكثر بطلب العضوية في الأممية الثالثة، على الرغم من أنها لم تصبح شيوعية حقا. إن الأممية الثانية قد تحطمت بالتأكيد. وإذ بدأت أحزاب ومجموعات “الوسط” تدرك أن الأممية الثانية قد صارت بدون أمل، فإنها تحاول أن تتكئ على الأممية الشيوعية التي تكتسب قوة متزايدة. بيد أنهم في الوقت نفسه يأملون في الاحتفاظ بدرجة من “الاستقلال الذاتي” تمكنهم من انتهاج سياساتهم الانتهازية أو “الوسطية” السابقة. إن الأممية الشيوعية قد صارت، إلى حد ما، على الموضة.

إن رغبة بعض المجموعات “الوسطية” الرائدة في الانضمام إلى الأممية الثالثة تؤكد بوضوح أن الأممية قد حصلت على تعاطف الغالبية العظمى من العمال الواعين طبقيا في جميع أنحاء العالم، وأنها تصير أكثر قوة يوما بعد يوم.

قد تواجه الأممية الشيوعية، في ظل ظروف معينة، خطر التمييع بسبب تدفق مجموعات متذبذبة ومشوشة والتي لم تقطع حتى الآن مع أيديولوجية الأممية الثانية”[2]. [التشديد من عندي].

ومن أجل حماية الأممية الجديدة من مثل تلك العدوى، نصت النقطة السابعة على وجه التحديد على أنها: “… لا يمكن أن تتسامح مع وضع يحق فيه لإصلاحيين واضحين، مثل توراتي وموديلياني وغيرهما، أن يعتبروا أنفسهم أعضاء في الأممية الثالثة”[3]. وكان ذلك الإجراء موجها على وجه التحديد إلى الخونة الطبقيين الذين لا يمكن إصلاحهم، وإلى المتعاونين الطبقيين الإصلاحيين الذين أصبحوا أعضاء في بعض فروع الأممية الشيوعية.

شهد المؤتمر الثاني مناقشات معمقة حول سلسلة من القضايا المهمة.

فعلى سبيل المثال، حذر لينين من الفكرة القائلة بـ“الانهيار الوشيك للرأسمالية” باعتبارها خطأ يساريا متطرفا يحتاج إلى تصحيح. ونبه المندوبين في المؤتمر إلى أنه على الرغم من وجود أزمة ثورية واضحة في العديد من البلدان، فإنه ما يزال هناك احتمال لأن يجد الرأسماليون مخرجا، طالما بقوا قادرين على التمسك بالسلطة، وأن النتيجة تعتمد على الحزب الثوري في كل بلد. ليست هناك أية ضمانة مسبقة لنجاح الثورة.

كما كرس لينين الكثير من الاهتمام لمسائل نظرية رئيسية أخرى. وكتب (وعدل) مسودة أطروحات حول المسألة القومية والاستعمار للمؤتمر الثاني. مثلت الأطروحات قطيعة واضحة مع المواقف الغامضة التي تبنتها، في كثير من الأحيان، أحزاب الأممية الثانية، حيث كان الإصلاحيون اليمينيون يرون في الاستعمار “مهمة حضارية أوروبية”، وبالتالي دعموا طموحات برجوازياتهم الإمبريالية.

لقد وقفت الأممية الشيوعية بثبات إلى جانب الشعوب المضطهَدة في المستعمرات ودعت الطبقة العاملة في البلدان المتقدمة إلى دعم النضالات المناهضة للإمبريالية التي تخوضها تلك الشعوب. وقد ميزت بوضوح بين الأمم المضطهَدة والأمم المضطهٍدة. ولولا هذا الموقف المبدئي من الاستعمار لكان من المستحيل بناء فروع للأممية الشيوعية في البلدان المستعمَرة. نرى هنا، مرة ​​أخرى، كيف تشكل الأفكار المفتاح لبناء منظمة.

وعلى سبيل المثال، ففي الصين -التي كانت آنذاك بلدا شبه مستعمر- كان لتلك الأفكار دور عظيم في جمع القوى الأولى للحزب الشيوعي. فقد بدأت كوادرها الأولى على شكل مجموعة دراسية ماركسية في جامعة بكين، حيث لعب الأستاذ -تشين دوكسيو- دورا رئيسيا.

في البداية كانت المجموعة تتألف من مثقفين، قاموا بتأسيس الحزب الشيوعي الصيني في يوليوز 1921. في مؤتمره التأسيسي اجتمع اثنا عشر مندوبا، يمثلون 59 عضوا في المجموع.

ضآلة القوى الصغيرة للغاية التي كانت لديهم لم تمنعهم من أن يسموا أنفسهم حزبا، والذي تم بناؤه حرفيا من الصفر. إلا أنه بحلول شهر ماي من عام 1925، تمكن ذلك التجمع الأولي الصغير من الوصول إلى رقم ألف عضو -معظمهم من طلاب الجامعات والمثقفين-.

ثم جاء حدث تاريخي كبير، وهو الثورة الصينية في الفترة ما بين 1925 و1927، والتي فتحت إمكانيات هائلة للحزب، حيث استقطبت صفوفه عشرات الآلاف من العمال. وفي غضون عامين ارتفع عدد أعضاء الحزب إلى ما يقرب من 60 ألف عضو.

كان للثورة الروسية تأثير كبير على المستوى العالمي. فبدأت الأحزاب والمجموعات الشيوعية في الظهور في العديد من البلدان الأخرى حول العالم، على سبيل المثال في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، حيث انطلقت غالبا على شكل حلقات صغيرة من المثقفين، التي بدأت لاحقا في الاتصال مع شرائح أوسع من العمال.

نجحت الأممية الشيوعية في أن تجذب إلى لوائها شريحة كبيرة من العمال والشباب المناضلين، والذين كان العديد منهم قد تجذروا بفعل الأحداث الكبرى التي عرفتها تلك الفترة. ومع ذلك، فقد كان العديد منهم -بمن في ذلك قادة الأحزاب الشيوعية الجديدة- عديمي الخبرة تماما عندما يتعلق الأمر بفهم المنهج والتكتيكات الماركسية.

كان العديد من هؤلاء الشيوعيين الجدد يتحلون برفض سليم لانتهازية الأممية الثانية، التي تكيفت مع البرلمانية. وكذلك شعر العديد منهم بالاشمئزاز من الزعماء الإصلاحيين للنقابات العمالية، الذين عملوا بمثابة كابح للحركة. لكن شريحة من هؤلاء الشيوعيين توصلت إلى استنتاج خاطئ مفاده أن “البلشفية” تعني ببساطة التعنت الثوري ورفض جميع التسويات. لقد اعتقدوا أنه يكفي بناء الأحزاب الشيوعية بمجرد التنديد بالديمقراطية البرجوازية، وإنشاء نقابات عمالية “ثورية” بحتة. حتى أن الشيوعي الهولندي، هيرمان غورتر، هاجم لينين، واتهمه بـ “الانتهازية” لدفاعه عن النضال البرلماني والعمل داخل النقابات العمالية.

وصف لينين ذلك الموقف بأنه “يساري متطرف”، أو “شيوعية يسراوية”. وأكد أنه لا يكفي مجرد التنديد بالرأسمالية وانتظار انضمام الجماهير إلى الحزب الثوري. بل يجب كسب الجماهير، وهو ما يتطلب أقصى قدر من المرونة في التكتيكات. كان هذا هو الدرس الأساسي من كامل تاريخ الحزب البلشفي.

لقد أدرك لينين أنه ما لم يتم تصحيح مثل تلك الأفكار العصبوية بسرعة، فإن فروع الأممية الشيوعية قد تتحطم على صخور الثورة نفسها. ومع ذلك فقد وصف لينين ذلك الخطأ بأنه “طفولي”، أي أنه نتاج عدم النضج، والذي يمكن تصحيحه من خلال الشرح الصبور والنقاش.

لذلك ألف لينين كتابه “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”، في أبريل وماي من عام 1920، وذلك على وجه التحديد لمعالجة تلك المسألة في المؤتمر الثاني للكومنترن. يعمل لينين في هذا الكتاب على تلخيص الدروس التي تعلمها الحزب البلشفي من مشاركته في ثلاث ثورات، بين عامي 1905 و1917، والدروس المستفادة منذ الاستيلاء على السلطة. ويحذر من مخاطر كل من الانتهازية والنزعة اليسراوية المتطرفة.

نشر ذلك الكتاب باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية حتى يتمكن جميع المندوبين إلى المؤتمر الثاني من قراءته. ويمكن ملاحظة الأهمية التي أولاها لينين لهذا النص من خلال مشاركته الشخصية في تنضيد الكتاب وطباعته. لقد أراد أن يتأكد تماما من نشره قبل افتتاح المؤتمر.

لقد سعى كل من لينين وتروتسكي إلى توضيح الأفكار والتكتيكات الشيوعية الحقيقية من خلال الشرح والمناقشة الصبورة سواء في مؤتمرات الأممية الشيوعية أو بالموازاة معها. لقد كتبا نصوصا مطولة وألقيا خطابات حول القضايا الرئيسية.

وكما يمكننا أن نرى من هذا المثال، فقد سعى لينين في معظم الحالات إلى حل المشاكل السياسية بالأساليب السياسية، وليس من خلال التدابير التنظيمية.

لقد كرس الكثير من الوقت لذلك. كان يدرك أنه لا يمكنك إقناع وتعليم الشيوعيين الثوريين الحقيقيين والمفكرين بأسلوب الأوامر، لأن كل ما ستحققه بأسلوب الأوامر هو صناعة “حمقى مطيعين” غير قادرين على توجيه أنفسهم في خضم عواصف وضغوط الصراع الطبقي والثورة.

“العالم يقف على فوهة بركان…” (1921)، فلاديمير ماياكوفسكي. اللافتة مكتوب عليها “الكومنترن”.

ناقش المؤتمران الثاني والثالث كذلك مسألة النقابات العمالية بالتفصيل. وفي أطروحات الحركة النقابية ولجان المصانع والأممية الثالثة التي نوقشت في المؤتمر الثاني، ورد بوضوح ما يلي:

“… أثبتت النقابات العمالية، أثناء الحرب، أنها كانت، في أغلب الحالات، جزءا من الجهاز العسكري للبرجوازية، تساعد هذه الأخيرة على استغلال الطبقة العاملة إلى أقصى قدر ممكن في صراع محموم من أجل الأرباح. فالنقابات التي كانت تضم في المقام الأول العمال المهرة، الذين يحصلون على أجور أفضل، والمقيدين بضيق أفقهم المهني، والذين تقيدهم أجهزة بيروقراطية منفصلة عن الجماهير، والمصابين بالإحباط على يد قادتهم الانتهازيين، قد خانت ليس فقط قضية الثورة الاجتماعية، بل وأيضا النضال من أجل تحسين ظروف حياة العمال الذين تنظمهم تلك النقابات”[4].

لكن وبعد أن أوضحت الأطروحات تلك الحقيقة بكل صراحة ووضوح، أقرت أيضا بأن:

“… الجماهير الأوسع من العمال، الذين وقفوا حتى الآن بعيدين عن النقابات العمالية، صاروا يتدفقون الآن إلى صفوفها في تيار قوي. وفي جميع البلدان الرأسمالية، يمكن ملاحظة زيادة هائلة في النقابات العمالية، التي أصبحت الآن منظمات للجماهير الرئيسية من البروليتاريا، وليس فقط عناصرها المتقدمة. وتسعى هذه الجماهير، من خلال تدفقها إلى النقابات، إلى أن تجعل منها سلاحها لخوض معركتها.

إن تفاقم العداء الطبقي يضطر النقابات العمالية إلى قيادة الإضرابات، التي تتدفق في موجة واسعة النطاق عبر العالم الرأسمالي بأكمله، مما يقطع استمرار سيرورة الإنتاج والتبادل الرأسماليين. ومن خلال رفع الطبقات العاملة من سقف مطالبها بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار والإرهاق الذي تتعرض له، تقوض أساس كل الحسابات الرأسمالية والمقدمات الأولية لكل إدارة اقتصادية منظمة بشكل جيد. إن النقابات، التي كانت خلال الحرب أجهزة إكراه على الجماهير العاملة، أصبحت بهذه الطريقة أجهزة للقضاء على الرأسمالية[5]. [التأكيد من عندي]

وهنا نرى المنهج الديالكتيكي للينين على أرضية الممارسة. فهو يسمح للشيوعيين برؤية كيف أن الأشياء، مع تطورها وتغيرها، يمكن أن تتحول في الواقع إلى نقيضها. كانت النقابات العمالية تتعرض للضغوط من طرف مصلحتين طبقيتين متعارضتين تماما.

فمن ناحية، كان الرأسماليون يعملون بوعي على إفساد قادة النقابات العمالية من أجل استخدامهم لضبط الطبقة العاملة. ومن ناحية أخرى، كانت قواعد النقابات تنمو مع شعور جماهير العمال بضغوط التضخم وتدهور ظروف العمل، مما دفع القادة إلى اتخاذ موقف لخدمة مصالحهم.

لهذا أكدت الأطروحات أن “الشيوعيين يجب أن ينضموا إلى تلك النقابات في جميع البلدان”. وأضافت أن كل محاولات الانسحاب من النقابات، أو تنظيم نقابات بديلة، تمثل “خطرا كبيرا على الحركة الشيوعية”. وأن القيام بذلك يهدد “… بتسليم العمال الأكثر تقدما والأكثر وعيا إلى القادة الانتهازيين، مما يخدم مصالح البرجوازية”[6].

وكما هو الحال في جميع التصريحات المشابهة لهذه، هناك دائما خطر التفسير الميكانيكي أحادي الجانب. هل مبدأ ضرورة انضمام الشيوعيين إلى النقابات، يستبعد دائما وفي كل مكان إمكانية الانفصال عنها؟

منهج لينين مرن، حيث كان دائما يأخذ في الاعتبار الظروف الملموسة التي كان الشيوعيون يواجهونها. ولهذا السبب تنص الوثيقة نفسها، بعد بضع فقرات فقط، على أنه: “… يجب على الشيوعيين ألا يترددوا أمام الانشقاق عن تلك المنظمات، إذا كان رفض الانشقاق يعني التخلي عن العمل الثوري في النقابات العمالية…”. وفي الوقت نفسه، “يجب على الشيوعيين، في حالة ظهور ضرورة للانشقاق، أن يناقشوا باستمرار وباهتمام مسألة ما إذا كان ذلك الانشقاق قد يؤدي إلى عزلهم عن الجماهير العاملة”[7].

كما ناقش المؤتمر الثالث أطروحات حول أساليب وأشكال عمل الأحزاب الشيوعية بين النساء والتي حددت التدابير الخاصة التي يجب أن تتخذها الأحزاب الشيوعية لتطوير عملها بين النساء.

كما سلط المؤتمر الضوء على التجذر المتزايد الذي كان يحدث بين الشباب وروج لأممية الشبيبة الشيوعية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأممية الشيوعية، وتحت رقابة قيادتها، وليس ككيان منفصل.

ناقشت مؤتمرات الأممية الشيوعية صعود وهبوط الصراع الطبقي على الصعيد العالمي. وقد كانت العلاقة بين الدورة الاقتصادية وبين الصراع الطبقي من بين القضايا المهمة التي نوقشت.

إن التفسير التبسيطي والميكانيكي لهذه العلاقة يمكن أن يؤدي إلى استنتاج مفاده أن الركود الاقتصادي يؤدي دائما إلى انتعاش الصراع الطبقي، وأن الانتعاش الاقتصادي ينتج استقرارا في النظام. لقد حذر قادة الأممية الفروع القطرية من هذا الخطأ، وحاولوا نقل فهمهم النظري إلى قادة وقواعد الأحزاب الشيوعية، لأنه يمكن أن تنجم أخطاء تقييمية خطيرة عن مثل ذلك الاستنتاج.

لقد أصبح ذلك الأمر بالغ الأهمية بشكل خاص في المؤتمر الثالث للكومنترن، الذي عقد في الفترة من 22 يونيو إلى 12 يوليوز 1921. كانت سنوات ما بعد الحرب مباشرة قد شهدت أزمة عميقة للرأسمالية، مقترنة بموجة ثورية اجتاحت أوروبا. لكن وبحلول عام 1921، نجح النظام الرأسمالي في تحقيق الاستقرار، وذلك بسبب خيانة الإصلاحيين. لقد أدى التحسن الذي عرفه الاقتصاد إلى إرباك عدد من القادة الشيوعيين، الذين تبنوا مقاربة ميكانيكية لديناميات الصراع الطبقي.

في تقريره إلى المؤتمر الثالث حول الأزمة الاقتصادية العالمية والمهام الجديدة للأممية الشيوعية، أوضح تروتسكي أنه “سيكون موقفا أحادي الجانب للغاية وخاطئا تماما” اعتبار أن “الأزمة توَلد دائما فعلا ثوريا بينما تؤدي الطفرة، على العكس من ذلك، إلى تهدئة الطبقة العاملة”[8].

استند تروتسكي في تقريره إلى تجربة الصراع الطبقي في السنوات الأولى من القرن العشرين في روسيا، خلال فترات صعوده وهبوطه. وفي معرض رده على التبسيط المفرط، قال:

“يقول العديد من الرفاق إن حدوث تحسن [اقتصادي] في هذه الفترة سيكون خطيرا على ثورتنا. كلا، على الإطلاق. فبشكل عام، لا يوجد اعتماد تلقائي للحركة الثورية البروليتارية على الأزمة. هناك فقط تفاعل ديالكتيكي[9]. [التشديد من عندنا]

أشار تروتسكي إلى أن هناك لحظات في الصراع الطبقي حيث يمكن للتراجع الشديد في الاقتصاد أن يثبط بالفعل روح النضال لدى الطبقة العاملة، وفقط عندما يبدأ الاقتصاد في التعافي يبدأ العمال في الشعور بالقوة في علاقتهم بأرباب العمل، وبالتالي -وعلى نحو متناقض على ما يبدو- يصير في إمكان الطبقة العاملة أن تشرع في النضال الكفاحي. إن تأثير الانحدار أو الانتعاش الاقتصادي على الصراع الطبقي ليس فوريا أو ميكانيكيا. يمكن أن يتأخر، لكنه يعتمد أيضا على السياق، وعلى ما حدث من قبل.

خلص تروتسكي إلى أنه بينما كان الرأسماليون يكافحون من أجل الوصول إلى توازن اقتصادي جديد، فإن محاولات القيام بذلك من شأنها في نهاية المطاف أن تضرب التوازن الاجتماعي والسياسي. وأن تراجع الصراع الطبقي كان من المحتم أن يفسح المجال في مرحلة ما لعودة مد الثورة العالمية. وبالتالي فإن مهمة الكومنترن هي الاستعداد للموجة التالية من خلال بناء أحزاب شيوعية قوية، بتكتيكات قادرة على كسب الجماهير.

كانت تلك المناقشة مهمة بشكل خاص في سياق “عملية مارس” التي كان الشيوعيون الألمان قد قاموا بها في وقت سابق من ذلك العام.

كانت ألمانيا تمر بموجات من الثورة والثورة المضادة منذ عام 1918. وبحلول تلك المرحلة، كان الحزب الشيوعي الألماني قد صار أكبر حزب شيوعي خارج روسيا، حيث بلغ عدد أعضائه أكثر من نصف مليون عضو.

لكن في مارس 1921، وعلى الرغم من تراجع الثورة، حاولت قيادة الحزب الشيوعي الألماني استنهاض موجة جديدة من الثورة بشكل مصطنع من خلال تحركات الحزب وحده. حتى أن البعض ذهب إلى حد تفجير مقر لجمعية تعاونية للعمال وإلقاء اللوم على الشرطة.

هجمات على السكك الحديدية في وسط ألمانيا خلال “عملية مارس” عام 1921

سار ذلك على هدي ما يسمى بـ“نظرية الهجوم”. حيث زعمت فئة من اليساريين المتطرفين أن الأحزاب الشيوعية لابد وأن تنتهج “تكتيكات هجومية” ـ بغض النظر عن الظرف الموضوعي- من أجل استنهاض العمال ودفعهم إلى الثورة.

لم يعط هؤلاء أي اعتبار للحركة الحقيقية للطبقة العاملة، وبالتالي فإن ذلك “التحرك” انتهى إلى كارثة كاملة. فقد اعتُقِل الآلاف، وتعرض الحزب الشيوعي الألماني للحظر، واستقال أكثر من مائتي ألف عضو أو انسحبوا من النشاط.

ومع ذلك فقد استمرت فئة من اليساريين المتطرفين داخل الحزب الشيوعي الألماني تدافع عن تلك التكتيكات باعتبارها صحيحة. وانضمت إليهم شخصيات بارزة في الأممية الشيوعية مثل راديك، وبوخارين، وزينوفييف، الذين رحبوا بـ“نظرية الهجوم”. وأشاد “الشيوعيون اليساريون” في المجر، وتشيكوسلوفاكيا، وإيطاليا، والنمسا، وفرنسا “بتحرك مارس”، ورأوا فيه مثالا بطوليا ينبغي اتباعه.

لذلك كان لزاما على لينين وتروتسكي أن يصححا هذا الانحراف اليساري المتطرف في المؤتمر الثالث للكومنترن. فقد أوضحا أن شجاعة الشيوعيين وبطولتهم لا تكفيان لقيادة الثورة. وأنه من أجل تحقيق ذلك الهدف، لا بد من كسب الجماهير.

ولكي تتمكن الأحزاب الشيوعية من تحقيق تلك الغاية، فقد كانت تحتاج إلى قادة قادرين على تحليل الوضع الموضوعي، وتحديد المرحلة التي يمرون بها في السيرورة الثورية. ومن هنا تأتي أهمية الفهم الديالكتيكي للصراع الطبقي، والقدرة على دراسة وعي الجماهير في كل مرحلة معينة.

اعتقال شيوعيين بعد مظاهرات “عملية مارس”

لا يمكن خلق الأوضاع الثورية بطريقة إرادوية. وبدلا من أن تحاول الأحزاب الشيوعية دفع الطبقة العاملة إلى الفعل، يتعين عليها أن تعرف كيف تحاور الجماهير بشكل حقيقي. وهذا يعني القدرة على التواصل معهم على أساس مستوى وعيهم الحالي، ورفعه إلى مستوى فهم الحاجة إلى الاستيلاء على السلطة. لكن فقط عندما ينضج الوضع الثوري بشكل كامل، ويفوز الشيوعيون بأغلبية الطبقة العاملة، يصبح من الممكن قيادة انتفاضة ناجحة.

وفي تلخيصه للمناقشة، أشار تروتسكي إلى أن “الغبي وحده هو الذي يمكنه تحويل كل الاستراتيجية الثورية إلى مجرد الهجوم”[10]. إن فن القيادة لا ينطوي فقط على توجيه القوات نحو التقدم، بل ويتضمن أيضا معرفة متى يجب التراجع. إن هذا قد يعني الفرق بين الانسحاب المنظم -والحفاظ على سلامة القوات لأجل المعارك المستقبلية- وبين الهزيمة الكاملة.

وفي النهاية، تم قبول موقف لينين وتروتسكي في المؤتمر الذي أصبح شعاره هو: “إلى الجماهير”.

كان لينين وتروتسكي يحاولان رفع مستوى الفهم بين قواعد الأممية الشيوعية، بدءا من قادة الفروع. ومن أهم المسائل التي حاولا غرسها في نفوسهم، هي مسألة كيف يمكن للحزب الثوري، الذي كسب الفئات المتقدمة من الطبقة العاملة -طليعة الطبقة العاملة-، أن يكسب الجماهير التي ما تزال متأثرة بالقادة الإصلاحيين للحركة العمالية.

عندما تندلع الأحداث التاريخية الكبرى، تبدأ شرائح واسعة من الجماهير في دخول ساحة النضال. وفي هذه السيرورة، تبدأ تلك الشرائح في وضع قادتها على محك الاختبار. فقادة النقابات العمالية الذين يرفضون النضال، والذين يستخدمون مواقعهم لكبح كفاحية العمال، يتم دفعهم جانبا في نهاية المطاف، ليحل محلهم قادة أكثر جرأة. وعلى الجبهة السياسية، يبحث العمال عن قادة لديهم إجابات عن أزمة النظام الرأسمالي، أو على الأقل يبدو أن لديهم الإجابات، قادة مستعدون لقيادة النضال ضد الرأسمالية.

لكن تطور الوعي الثوري لا يحدث بطريقة سحرية. إن الأمر هنا لا يتعلق بحدث واحد، بل بسلسلة من الأحداث التي تتكشف على مدى مرحلة مضطربة، مع فترات صعود وهبوط، حيث تأتي فترات اندلاع صراع طبقي مكثف تتبعها فترات من التراجع، وهو ما ينتج في النهاية طفرات في الوعي.

كما أن مختلف شرائح الطبقة العاملة تتحرك بإيقاعات مختلفة. فهناك شرائح متقدمة تبدأ في استخلاص النتائج قبل بقية الطبقة. وهذه هي الشريحة التي يجب كسبها للحزب الثوري، وتنظيمها وتثقيفها وتوجيهها نحو كسب جماهير الطبقة العاملة.

يتعين علينا استبعاد فكرة أن الحزب الثوري قادر على كسب الجماهير في فترات انتعاش النظام الرأسمالي المطولة، أي عندما يكون في مقدور ذلك النظام منح تنازلات للطبقة العاملة. ففي مثل تلك الأوقات تهيمن الإصلاحية، كما كان عليه الحال في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين. إذ تفكر الشرائح الأوسع بمنطق أنه إذا كانت الرأسمالية قادرة على تقديم المكاسب، فلماذا الحاجة إلى الإطاحة بها؟

في مثل تلك الفترات، تتقلص قوى الماركسيين الحقيقيين إلى أعداد صغيرة تسير ضد التيار، وتكافح للحفاظ على تماسك قواها، والدفاع عن أفكار الماركسية الثورية. وحتى عندما يبدأ النظام الرأسمالي في الدخول في أزمة، بعد تلك الفترة الطويلة من الازدهار، يكون المزاج في البداية هو النظر إلى الوراء إلى “الأيام الجميلة السابقة” والبحث عن سبل للعودة إليها، بدلا من إدراك حتمية الثورة. إن الوعي البشري محافظ بطبيعته ويستغرق الأمر بعض الوقت حتى يلحق بالواقع الموضوعي.

وهذا ما يفسر لماذا في المراحل المبكرة، يكون الجناح الثوري للحركة مجرد أقلية، في حين أن الجزء الأكبر من الطبقة العاملة يبحث عما يبدو أنه الطريق الأسهل “الواقعي”. ولماذا يكون القادة الإصلاحيون في البداية هم الذين يتمتعون بنفوذ أكبر على الجماهير.

ولهذا السبب تمت دعوة المؤتمر الرابع -الذي عقد بين 05 نوفمبر و05 دجنبر 1922- إلى تبني أطروحات حول الجبهة المتحدة، التي أشارت إلى “عودة الحياة للأوهام الإصلاحية …” و“… السعي العفوي نحو الوحدة” داخل الطبقة العاملة[11]. لقد تغير شيء ما في الوضع الموضوعي، شيء مهم للغاية. وكما تمت الإشارة في المؤتمر السابق، فقد كانت موجة الثورة تتراجع، وكان النظام يشهد حدوث استقرار مؤقت.

ولاحظت الأطروحات أنه: “… بينما تنمو بشكل مطرد الثقة في أولئك الأكثر صرامة ونضالية، في العناصر الشيوعية من الطبقة العاملة، فإن الجماهير العاملة ككل تشهد تطلعا غير مسبوق نحو الوحدة. إن الشرائح الجديدة من العمال عديمي الخبرة السياسية، الذين دخلوا للتو إلى ساحة النشاط، يتوقون إلى توحيد جميع الأحزاب العمالية وحتى جميع المنظمات العمالية بشكل عام، على أمل أن يعززوا بهذه الطريقة قوة المعارضة للهجوم الرأسمالي”[12].

في ذلك السياق، كانت الأحزاب الإصلاحية مثل حزب العمال في بريطانيا، والحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، والحزب الاشتراكي الإيطالي، ما تزال تتمتع بالهيمنة على شرائح واسعة من الطبقة العاملة. لذلك، طُرح السؤال حول كيفية كسب تلك الشرائح إلى الأفكار الشيوعية الثورية. لا يمكن القيام بذلك من خلال المواقف العصبوية والاكتفاء بالإدانات. يتطلب الأمر مهارة كبيرة في تطبيق تكتيك الجبهة العمالية المتحدة.

كان المفهوم الأساسي هو أنه لكسب ثقة قواعد المنظمات الإصلاحية والنقابات العمالية، كان من الضروري أن يُظهِر الشيوعيون استعدادهم للنضال في جبهة عمالية متحدة. والتي من شأنها أن تناضل من أجل المصالح المباشرة للطبقة العاملة، مع وضع مطالب أمام القادة الإصلاحيين ورفع المطالب الأكثر عمومية للطبقة العاملة ككل.

وبالتالي سيصير من الممكن، في خضم النضالات اليومية، إظهار من هم المناضلون الحازمون في الممارسة العملية، ووضع القادة المتعاونين مع الطبقة الرأسمالية على المحك، وبالتالي كسب القواعد العمالية إلى برنامج الشيوعيين الثوريين، برنامج الثورة الاشتراكية.

لقد تباينت طريقة تطبيق تكتيك الجبهة المتحدة من بلد إلى آخر، وذلك تبعا للظروف المحلية، ونقاط القوة والضعف لدى كل حزب شيوعي على حدة، مقارنة بالمنظمات الإصلاحية الجماهيرية. لكن الفكرة الأساسية ظلت كما هي.

في إيطاليا، تمت ترجمة هذه الفكرة إلى الضرورة الملحة لبناء لجان المقاومة ضد خطر الردة الرجعية المتزايد. ففي أكتوبر 1922، عين الملك موسوليني رئيسا للوزراء. لذلك فإن شعار الجبهة المتحدة كان يعني قيام الحزب الشيوعي الإيطالي باقتراح نضال موحد مع الحزب الاشتراكي والنقابات العمالية لمواجهة العنف الفاشي المتصاعد.

أما في بريطانيا، ونظرا لصغر حجم قوات الحزب الشيوعي البريطاني، فقد نصت الأطروحات على أن “الشيوعيين البريطانيين لابد وأن يشنوا حملة قوية من أجل قبولهم في حزب العمال. (…) ويتعين على الشيوعيين البريطانيين أن يبذلوا قصارى جهدهم، مهما كانت التكلفة، لتوسيع نفوذهم إلى القواعد العمالية، باستخدام شعار الجبهة الثورية المتحدة ضد الرأسماليين”[13].

لكن ولكي ينجح هذا التكتيك فإنه يتطلب أن “… تكون الأحزاب الشيوعية التي تنفذه قوية ومتحدة وتحت قيادة تمتلك الوضوح الإيديولوجي”[14]. وقد كان تحقيق تلك الغاية هي المهمة المركزية التي طرحها لينين وتروتسكي على كاهلهما خلال مؤتمرات الأممية.

لكنهما للأسف لم ينجحا دائما في تحقيق تلك الغاية. فجودة ومستوى ووعي العديد من قادة الأحزاب الشيوعية الشابة لم يكن في مستوى المهام التي كانت مطلوبة في ذلك الوقت.

ففي قيادة الحزب الشيوعي الإيطالي، مثلا، لم تقبل شخصيات مثل بورديغا أبدا نصيحة لينين وتروتسكي. وبذلك ساهمت في الانقسام المأساوي لقوى الطبقة العاملة الإيطالية، وذلك على وجه التحديد في الوقت الذي كانت فيه البرجوازية تشن هجوما مضادا. كانت الطبقة السائدة عازمة على تدمير الحركة العمالية الإيطالية بالكامل، وتفتيتها، وقتل الآلاف من قادتها المحليين الرئيسيين، واعتقال العديد من الآخرين، وأخيرا إقامة دكتاتورية وقحة لرأس المال في شكلها الأكثر وحشية: الفاشية.

إذا نظرنا إلى الوراء إلى تلك الفترة، فإن ما يتبين بوضوح هو أن ما سمح للقوى الثورية الصغيرة بالتحول بسرعة إلى أحزاب ثورية جماهيرية هو التغيرات السريعة في الوضع الموضوعي. لقد مهد اندلاع الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الشديدة التي أعقبتها -مع البطالة الجماهيرية ومستويات التضخم المرتفعة- الطريق للأحداث الثورية.

لكن ومن دون نظرية ثورية مكتملة، فإن إمكانية بناء أحزاب ثورية جماهيرية قد تضيع أيضا.

تؤكد السنوات الأولى للأممية الشيوعية على أهمية بناء كوادر الحزب الثوري المستقبلي قبل وقت طويل من اندلاع الأحداث الثورية. كما توضح أهمية القيادة داخل الحزب الثوري نفسه. وقد تجلى ذلك بوضوح بعد اندلاع ثورة فبراير 1917 في روسيا، عندما كانت ضغوط الإصلاحية هائلة.

“عاشت الأممية الثالثة! أهلاً وسهلاً بالرفاق!”، (1920)، دميتري مور

وكما ذكرنا أعلاه، فإن جماهير الطبقة العاملة في المراحل الأولى من الثورة تسعى إلى طريق الإصلاحية الذي يبدو أنه الطريق الأكثر عملية والأكثر سهولة. ويفسر هذا لماذا كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون هم الذين سيطروا على الحركة في أوائل عام 1917. وقد أثر ذلك على قادة الحزب البلشفي داخل روسيا، الذين صاروا ينحنون تحت الضغط ويميلون نحو التسوية ودعم الحكومة المؤقتة.

لقد تطلب الأمر وجود قائد من عيار لينين -قائد ماركسي متمكن جدا، ويفهم بعمق المنهج الماركسي، الذي يتضمن تطبيق التفكير الديالكتيكي- لأجل توجيه الحزب في الاتجاه الصحيح، والتمسك بموقف ثوري ثابت، حتى عندما يعني ذلك السير ضد التيار.

وهكذا، فقد كان لينين الديالكتيكي هو الذي تمكن من مقاومة الضغوط بعد فبراير 1917 والتمسك بموقف ثابت. لقد كان بوسعه أن يرى المستقبل أبعد مما كان يستطيع القادة البلاشفة المحليون أن يروا. وكان بوسعه أن يرى الخيانة الحتمية التي كان القادة المناشفة سيرتكبونها، وكيف أن ذلك سيعني أنهم سيبدأون حتما في خسارة دعم الجماهير العاملة لهم، والتي كانت ستصبح أكثر انفتاحا على الموقف الثوري للبلاشفة. فلو لم يكن لينين على رأس الحزب آنذاك، لكان البلاشفة قد خسروا الفرصة التي سنحت لهم في أكتوبر.

وقد تأكدت أهمية القيادة بشكل سلبي مع هزائم الحركات الثورية في النمسا والمجر وألمانيا وإيطاليا وأماكن أخرى. إذ لأسباب عديدة متنوعة، لم يكن لدى أي من الأحزاب الشيوعية الشابة التي نشأت في تلك الفترة، مع الأسف، قادة من عيار لينين وتروتسكي. ومن هنا كانت المهمة العاجلة للكومنترن هي المساعدة في تطوير مثل تلك القيادة مع تطور السيرورة الثورية، وتصحيح الأخطاء المختلفة التي ارتكبت.

لقد كان لهزيمة الثورة في إيطاليا وغيرها من البلدان، وخاصة في ألمانيا، تأثير دراماتيكي على روسيا السوفياتية نفسها، مما أدى إلى عزل الثورة في بلد واحد. وقد كان ذلك هو العامل الموضوعي الأكثر أهمية في سيرورة الانحطاط البيروقراطي للحزب البلشفي، والذي كان أيضا نتاجا للتخلف الاقتصادي والثقافي للاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.

لقد وجد ذلك الانحطاط انعكاسه في قيادة الأممية الشيوعية ذاتها. وخاصة بعد عجز لينين عن العمل، بسبب المرض في مارس 1923، لجأت اللجنة التنفيذية للكومنترن، بزعامة زينوفييف، بشكل متزايد إلى القيادة البيروقراطية لقادة الفروع القطرية. وفي نهاية المطاف، بحلول منتصف الثلاثينيات، تحولت الأممية الشيوعية من أداة للثورة العالمية إلى مجرد أداة لخدمة السياسة الخارجية للبيروقراطية الستالينية.

هناك درسان يمكننا استخلاصهما من تجربة الأممية الشيوعية في أيام لينين. الأول هو أن الوضوح المطلق في الأفكار النظرية أمر ضروري. فإذا ارتكبت خطأً خطيرا في التحليل، سواء كان ذا طابع انتهازي أو عصبوي، فإنك ستدمر قواتك، ما لم يتم تصحيحه. ولهذا السبب نحن نكرس الكثير من الوقت والطاقة لتثقيف صفوفنا.

يمكن للأخطاء النظرية أن تؤدي إلى أخطاء خطيرة في الممارسة. إن النزعة اليسارية المتطرفة التي تبناها زعماء الحزب الشيوعي الإيطالي في الفترة 1921-1924، على سبيل المثال، لعبت دورا سلبيا في عزل الحزب الشاب عن الجماهير التي كانت ما تزال متأثرة بالقيادة الإصلاحية للحزب الاشتراكي الإيطالي. وفي ألمانيا ارتكبت أخطاء جسيمة. ولهذا فإن دراسة تلك الفترة، إلى جانب النصوص الكلاسيكية للينين، تشكل جزءا أساسيا من مجهودنا لبناء قواتنا اليوم.

والدرس الرئيسي الثاني هو أن الصرامة والحزم فيما يتعلق بالنظرية لابد أن يسيرا جنبا إلى جنب مع المرونة التكتيكية. لقد كان هذا جزءا لا يتجزأ من منهج الحزب البلشفي في عهد لينين، وقد تجسد في المناقشات والأطروحات والقرارات التي تبنتها المؤتمرات الأربعة الأولى للأممية الشيوعية، التي وصفها تروتسكي بأنها مدرسة للاستراتيجية الثورية.

لقد تم بناء الفروع القطرية في الأيام الأولى للأممية الشيوعية بطرق مختلفة، وذلك اعتمادا على الظروف الموضوعية الملموسة في كل بلد على حدة. ولابد لنا أن نتبع نفس المقاربة المنفتحة تجاه المنظورات المستقبلية اليوم. إن عدم القيام بذلك يعني خسارة الفرص التي قد تتاح لنا.

مع تغير الوضع الموضوعي، تحت تأثير أزمة الرأسمالية والصراع الطبقي العنيف الذي سينجم عن ذلك، ستتاح لنا العديد من الفرص لزيادة قواتنا بشكل كبير. لكن ولكي نتمكن من تحديد موقفنا بشكل صحيح، سوف نحتاج إلى حزب محنك، لديه فهم عميق للتاريخ، وفهم عميق للنظرية الماركسية، مع التحلي بالمرونة اللازمة والجرأة التي يتطلبها الوضع منا.

يجب أن يكون نداءنا الحاشد هو: العودة إلى لينين! بناء الأحزاب الشيوعية الثورية الآن! إلى الأمام نحو الثورة الاشتراكية العالمية!

[1] L Trotsky, ‘Manifesto of the First Congress of the Comintern’, The New International, Vol. 9, No. 6, 1943, pg 191

[2] V I Lenin, ‘Terms of Admission into Communist International’, Lenin Collected Works, Vol. 31, Progress Publishers, 1966, pg 206-207,

[3] bid., pg 209

[4] R A Archer (trans.), Second Congress of the Communist International: Minutes and Proceedings, Vol. 2, New Park, 1977, pg 277

[5] bid., pg 279

[6] bid.

[7] ibid., pg 280

[8] L Trotsky, ‘Report on the World Economic Crisis and the New Tasks of the Communist International’, The First Five Years of the Comintern, Wellred Books, 2020, pg 275

[9] ibid., pg 277

[10] L Trotsky, ‘A School of Revolutionary Strategy’, The First Five Years of the Comintern, Wellred Books, 2020, Pg 410

[11] Published in Resolutions and Theses of the Fourth Congress of the Communist International, Centropress, 1922, pg 36

[12] ibid.

[13] ibid. pg 39-40

[14] ibid. pg 40