البلدان والشركات والأسر في جميع أنحاء العالم تغرق في الديون. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، صار خطر التخلف عن السداد يلوح في الأفق. ولتجنب وقوع كارثة لا تكفي الدعوات لإلغاء الديون، بل يجب أن نناضل من أجل الثورة.
كتب الأب المؤسس للولايات المتحدة، توماس جيفرسون أن: “النظرية الحديثة لإدامة الدين قد أغرقت الأرض بالدماء، وسحقت سكانها تحت أعباء تتراكم باستمرار”.
العالم كله مدفون في الديون. تمويل العجز يضع الحكومات في منطقة الخطر بعشرات المليارات كل السنة. الدين العام في المملكة المتحدة يتجاوز الآن 100٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الولايات المتحدة يلعب الجمهوريون والديمقراطيون لعبة خطيرة بشأن سقف الدين العمومي، مما يهدد بخطر التخلف عن السداد في أكبر اقتصاد في العالم.
هذا دون ذكر البلدان منخفضة الدخل في إفريقيا وغيرها، المحاصرة بأعباء ديون هائلة وفوائد متصاعدة، والقابعة تحت رحمة رأس المال المالي العالمي.
ومع قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة في محاولة لكبح التضخم، فإن مسألة ما يجب فعله بكل هذه الديون تُطرح بشكل أكثر حدة من أي وقت مضى. الطبقة السائدة منقسمة جدا حول هذا السؤال، كما تظهر ذلك المواجهة الأخيرة التي حدثت في الكونغرس.
لكنهم جميعا متفقون على شيء واحد وهو أن الطبقة العاملة هي التي يجب أن تدفع الفاتورة من عمليات إنقاذ البنوك إلى تكاليف الإنفاق أثناء جائحة كوفيد 19.
أما في صفوف اليسار فهناك العديد من الأفكار المختلفة التي يتم تداولها: من حملة “يوبيل الديون” التوراتية الأصل، إلى الإلغاء الجماعي، إلى اقتراح أن تعمل الحكومات على طباعة النقود للخروج من المتاعب، كما يقول الكينيزيون الجدد أنصار النظرية النقدية الحديثة.
كيف يعقل هذا الوضع، حيث يبلغ الدين العالمي أكثر من 360٪ من الناتج الإجمالي العالمي؟ هذه ليست مجرد خدعة من قبل الطبقة الرأسمالية.
في الحقيقة ليست “النظرية الحديثة للديون” هي التي أغرقت العالم في الدماء، كما يزعم جيفرسون، بل الرأسمالية الحديثة، التي، باستخدام تعبير ماركس، “تنز دما من كل مسامها”.
في ظل الرأسمالية يبدو أننا جميعنا أحرار في العمل حيثما نختار: أحرار في الشراء والبيع؛ في التسول والاقتراض. وكون العامل يتعرض دائما للإفقار، نتيجة لهذه التفاعلات “الحرة”، بينما يواصل الرأسمالي الاغتناء، يبدو من قبيل الصدفة البحتة.
لكن الواقع هو أن ذلك هو النتيجة الحتمية للرأسمالية، التي هي نظام قائم على الاستغلال والربح، حيث لا يتلقى العامل أبدا القيمة الكاملة لما ينتجه.
وبعبارة أخرى، فإن استغلال الأغلبية الساحقة من قبل طبقة صغيرة واقع مستتر تحت قناع الحرية. وينطبق الشيء نفسه على الديون، حيث يقال إن المدينين يقترضون “طواعية”. ومن ثم، فإنه من “الأخلاقي” أن يسددوا تلك الديون.
لكن الأمم التابعة، أو الأسر الكادحة، لا تختار أن تكون مدينة، مثلما لا تختار الطبقة العاملة أن تكون مستغَلة.
هذه ليست مسألة أخلاق. فكما أن الفقر واللامساواة اللذين خلقهما النظام الرأسمالي لا يرجعان ببساطة إلى الجشع أو السياسة السيئة أو الاختيار الحر، كذلك الأمر بالنسبة إلى ديون المجتمع الهائلة.
الحقيقة هي أن تناقضات وأزمات الرأسمالية ، بما في ذلك الأسس المفخخة بديناميت الديون التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الآن، لا يمكن تجنبها من خلال إدخال التنظيم أو الإصلاح. فلحل مسألة الديون نحتاج إلى ثورة.
ما هو المال؟
لقد صار من المألوف في بعض الدوائر “اليسارية”، خلال السنوات الأخيرة، القول إن “المال ليس حقيقيا”، أو الحديث عن “أسطورة العجز“. لكن العلاقات الاقتصادية للمال والديون هي حقيقة موضوعية في ظل الرأسمالية.
أوضح ماركس أن تطور المال عبر التاريخ مرتبط بإنتاج وتبادل السلع، البضائع والخدمات المنتجة ليس للاستهلاك الشخصي بل للتبادل.
وقد أظهر في كتاباته الاقتصادية أن النقود تعمل، أولا وقبل كل شيء، كمعيار لقياس القيمة.
القيمة جزء لا يتجزأ من جميع السلع لأن تلك السلع نتاج للعمل. يمكن مقارنة السلع ببعضها البعض من حيث مقدار وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها. والمال هو “المعادل العام”، والذي على أساسه يمكن قياس قيم السلع المختلفة. وبهذه الطريقة، فإنه يسهل التبادل والتجارة.
إنه بسبب هذه الخاصية الفريدة -القدرة على استبدال نفسه بأي سلعة أخرى في عملية التبادل؛ لتمثيل القيمة التبادلية للسلع الأخرى– يمكن للمال أيضا أن يأخذ أدوارا أخرى، حيث يعمل كوحدة حساب، ومخزن للقيمة، ووسيلة للتبادل، ووسيلة للدفع.
كل هذه الوظائف مهمة في حد ذاتها. لكن الماركسيين لا يقعون في الفخ الاختزالي للاقتصاديين البرجوازيين، الذين يميلون إلى عزل هذا الدور أو ذاك من أدوار المال.
ومن هذا المنطلق تشرع مدارس الاقتصاد البرجوازي المختلفة في إعلان أن هذه السمة أو تلك هي “المعنى الحقيقي للمال”، ودعم نظرياتها الخاصة حول كيفية عمل الرأسمالية.
لقد رأينا هذا مرات عديدة. يدافع النقديون عن “النقد المادي” (Hard cash’) والسياسات النقدية المتشددة، كما لو أنه يمكن لذلك أن يسيطر على فوضى الرأسمالية. بينما يرى منظرو الائتمان والكينزيون أن المال تقريبا مجرد أداة في يد الدولة، للمساعدة في تحفيز الاقتصاد.
النقطة الأكثر أهمية التي أكد عليها ماركس هي أن المال، والقيمة التبادلية، هي في الأساس علاقة اجتماعية.
إذا فصلت المال عن الدور الذي يلعبه في تداول السلع، في التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فإنه سيكتسب بالضرورة سلطة سحرية علينا. ويؤدي هذا إلى ما أسماه ماركس “صنمية المال”، كما يشرح في رأس المال:
من أين نشأت أوهام النظام النقدي؟ بالنسبة له، لا يمثل الذهب والفضة، عند استخدامهما كنقود، علاقة اجتماعية بين المنتجين، بل أشياء طبيعية ذات خصائص اجتماعية غريبة. وخرافة الاقتصاد الحديث، الذي ينظر إلى النظام النقدي بازدراء، تظهر بوضوح الشمس عندما يتحدث عن رأس المال! (خط التشديد من عندنا).
القروض والأزمات
إن مجرد وجود المال نفسه يفتح الباب أمام وجود القروض، لأنه يفصل بين أعمال البيع والشراء فيما يتعلق بتبادل السلع. إذ لماذا لا نسمح للشركات والأسر والحكومات بالشراء قبل أن يتمكنوا من البيع؟
القرض سيف ذو حدين. فهو، من ناحية، يساعد الرأسمالية على الاستمرار في العمل والتوسع. ومن ناحية أخرى يؤدي وجوده إلى خلق تناقضات واضطراب في النظام.
في ظل الرأسمالية، حيث يكون من الضروري توفر قدر معين من رأس المال لأجل توسيع أي عمل تجاري، ويجب أن يتم تداول السلع والمال باستمرار، يكون وجود الاقتراض ليس أمرا اختياريا، بل ضروريا.
في فترة الانتعاش الرأسمالي تكون للنظام شهية لا تشبع للاقتراض. وحتى اليوم، بينما النظام في أزمة، ما تزال القروض مطلوبة. وهي مثل الأكسجين، تمكن النظام بأكمله من التنفس. ومثلها مثل الأوكسجين، لا تلاحظ مدى أهميتها حتى يتم حرمانك منها -كما هو الحال في “أزمة الاقتراض”، عندما يتجمد تدفق القروض –سواء الجيدة والسيئة- فجأة.
كما يسمح الاقتراض للرأسماليين بتوسيع السوق بشكل مصطنع بما يتجاوز حدوده، من خلال الزيادة مؤقتا في الاستهلاك والطلب من خلال القروض.
هذه محاولة للتحايل على التناقض المتأصل في الرأسمالية، أي: حقيقة أن العمال لا يتلقون أبدا القيمة الكاملة للبضائع التي ينتجونها. هذا هو مصدر أرباح الرأسماليين، العمل غير مدفوع الأجر الذي يستخلص من الطبقة العاملة. وبالتالي لا يمكن للطبقة العاملة ككل أن تستهلك مجموع السلع التي تنتجها.
وفي حالة ما لم يتم العثور على طريقة ما لمواصلة توسيع السوق، ينفجر هذا التناقض في نهاية المطاف على شكل أزمة فائض الإنتاج.
والأهم هو أن ذلك الاقتراض يخلق توسعا مصطنعا. تلك “الوعود بالدفع” ليست قيما حقيقية. وفي غضون ذلك لا يؤدي الدعم الذي تقدمه الدولة والتحفيز، إلا إلى تأجيل موعد الانهيار النهائي، كل ذلك في الوقت الذي تتراكم فيه المزيد من التناقضات.
وعندما تضرب الأزمة أخيرا، كما رأينا في عام 2008، تتحول القروض من مصدر للاستقرار والنمو مؤقتين إلى مصدر للفوضى.
ينضب الإقراض، حيث يتضح أنه لا يمكن بيع البضائع، وأنه لا يمكن سداد الديون، وأن العديد من الوصولات والصكوك المتداولة في شرايين الاقتصاد ليست سوى قطع ورقية لا قيمة لها. فيبدأ الركود. وتتبع ذلك حالة من الذعر.
نظام محتضر
اليوم صارت ديون كل من الأفراد والدول أكبر مما كانت عليه في أي وقت مضى. تعرضت الطبقة العاملة، على مدى عقود، لهجمات على جميع الجبهات، بما في ذلك التخفيضات في الأجور الحقيقية والتقشف القاسي. وقد صاحب هذا توسع هائل في الاقتراض -من خلال الرهون العقارية وبطاقات الائتمان وغيرها من الوسائل- لسد الفجوة الموجودة في السوق.
العمال مثقلون بالديون الطلابية والديون الطبية وقروض يوم الدفع، وما شابه ذلك. يبدو الأمر وكأن الأمر مزحة قاسية: فالرأسماليون يحاولون امتصاص المزيد من الدماء حتى من الحجر، مع انخفاض الأجور الحقيقية وارتفاع الإيجارات.
لكن ذلك يبدو هزيلا إذا قورن بمستويات الديون التي تتحملها الشركات. فمنذ انهيار عام 2008، بقيت ملايين الشركات “الزومبي” تعمل فقط بفضل معدلات الفائدة المنخفضة بشكل مصطنع ووفرة الأموال الرخيصة.
إن وباء الديون والتخلف عن السداد الآن هو استمرار للأزمة نفسها.
أوضح ماركس في كتابه رأس المال أن: “الجزء الوحيد مما يسمى بالثروة الوطنية الذي يدخل في الواقع في الممتلكات الجماعية للشعوب الحديثة هو ديونها الوطنية”.
وعندما تنفجر فقاعات الديون الخاصة، كما حدث في عام 2008، تضطر الدولة للتدخل لإنقاذ البنوك. وبالتالي، فإن النسب الرهيبة للديون العمومية التي نراها اليوم تعكس سياسة تحويل الديون الخاصة إلى ديون عامة، وبالتالي يتم وضعها على أكتاف الطبقة العاملة بأكملها.
كما أن هذا الجبل من الديون الحكومية يعكس أيضا حقيقة أن الدولة الرأسمالية مطالبة باستمرار بإنقاذ النظام نيابة عن الطبقة الرأسمالية ككل. أثناء الجائحة، على سبيل المثال، تم ضخ تريليونات الدولارات من الدعم العمومي في شرايين الاقتصاد العالمي، مما أدى إلى تفاقم المشكلة بشكل كبير.
والأهم من كل ذلك هو أن تلك الديون لا يمكن سدادها أبدا. هذا أحد أعراض احتضار النظام الرأسمالي، الذي لم يعد يتمتع بالحيوية والدينامية التي كانت لديه في الماضي، ولم يعد في إمكانه البقاء إلا بفضل الرئة الحديدية للدولة، مما يمهد الطريق لأزمات مستقبلية.
الإمبريالية اليوم
يجب أن نضيف إلى ما قيل أعلاه الدور الذي تلعبه الإمبريالية العالمية. فكما أوضح لينين، أصبح رأس المال المالي أكثر فأكثر تشابكا مع الدولة الرأسمالية، ونشر مخالبه في جميع أنحاء العالم.
فالبلدان الأفقر، التي كانت خاضعة بشكل مباشر للإمبراطوريات الأوروبية في يوم من الأيام، صارت الآن تحت السيطرة غير المباشرة. تقوم الشركات متعددة الجنسيات بتجريد البلدان المستعمَرة سابقا من مواردها وثرواتها، في حين تقوم في نفس الوقت بإقراضها جزءا بسيطا من تلك الثروة بأسعار فائدة مرتفعة، من أجل دفع تكاليف الخدمات العامة والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، وما إلى ذلك.
وعندما يعجز بلد ما عن الدفع، يأتي صندوق النقد الدولي بحزمة إنقاذ، ويطالب الحكومات بفتح أسواقها أمام رأس المال الأجنبي؛ ومهاجمة العمال والفقراء. وبيع أي أصول مملوكة للدولة. فيزداد الإمبرياليون ثراء في حين تزداد الجماهير فقرا.
كيف تمت حماية هذا الخداع الهائل لفترة طويلة؟
ليس من الصحيح القول إنها مسألة القوة والعنف والنهب فقط. لقد أوضح إنجلز في مجادلته الشهيرة ضد دوهرينغ أن “القوة لا تعمل سوى على حماية الاستغلال، فهي لا تخلقه”.
القوة العسكرية للإمبريالية الأمريكية، على سبيل المثال، أصبحت ممكنة بفضل الازدهار الاقتصادي للرأسمالية الأمريكية. إنها تحمي مصالح رأس المال المالي الأمريكي. وينطبق الشيء نفسه على كل القوى الإمبريالية الكبرى الأخرى.
يصل الدين العالمي الآن إلى نقطة تحول خطيرة، مما يثير قلق الإمبرياليين. أشارت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، مؤخرا إلى أن 15٪ من البلدان منخفضة الدخل تعاني بالفعل من ضائقة ديون، مع اقتراب 50٪ أخرى من الوقوع فيها.
وقد تفاقم هذا بسبب التضخم وارتفاع أسعار الفائدة، فضلا عن الارتفاع النسبي لقيمة الدولار، مما أدى إلى تفاقم أعباء القروض المقومة بالدولار.
سبق لنا بالفعل أن رأينا النتائج المحتملة لهذا في سريلانكا. والآن هناك العديد من البلدان، مثل باكستان، التي تتأرجح بالفعل على حافة التخلف عن سداد الديون، أو أنها تخلفت بالفعل عن سداد ديونها، مثل لبنان والسلفادور وزامبيا والقائمة تطول.
الطبقة الرأسمالية ليست لديها إجابات. جاء في مقالة صريحة للغاية منشورة على مدونة البنك العالمي: “إن أفضل طريقة للهروب من فخ الديون هو الخروج منه”. أي أن هذه الديون، بعبارة أخرى، هي مجرد رهان تخميني على النمو المستقبلي للاقتصاد.
لكن ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي والركود والكساد، يصبح من المرجح بشكل متزايد أن منزل الورق هذا سوف ينهار بأكمله في أزمة ديون ذات أبعاد ملحمية.
الإعفاء من الديون
ارتفاع تكاليف المعيشة والاقتراض يوما بعد يوم، يدفع الغضب إلى آفاق جديدة. ففي بريطانيا وغيرها من البلدان الرأسمالية المتقدمة الأخرى، انتشرت حملات المقاطعة مثل حملة “Don’t Pay UK”. وفي غضون ذلك، نرى على الصعيد العالمي، دعوات لموجة أخرى من أجل “الإعفاء” من الديون لصالح بلدان الجنوب.
لكن هذه الإجراءات عندما تصل إلى أيدي الرأسماليين تصير مزحة. خذوا على سبيل المثال مبادرة تعليق خدمة الديون أثناء الجائحة. حيث أن أولئك الذين شاركوا اضطروا إلى شراء “تخفيف الديون” بالدولار، وانتهى بهم الأمر في وضع أسوء. زامبيا، على سبيل المثال، تلقت 700 مليون دولار لتخفيف الديون. ومع ذلك فقد زاد عبء ديونها نتيجة لذلك بمقدار 1.7 مليار دولار، بسبب انخفاض قيمة كواتشا، العملة الزامبية.
كان هذا المخطط بالنسبة للبلدان الفقيرة كارثة. لكنه كان بالنسبة للدائنين مصدرا لطفرة هائلة في الأرباح.
وردا على هذا الظلم، دعا بعض الإصلاحيين إلى “يوبيل ديون” على نطاق أوسع، حتى أنهم ذهبوا إلى حد الدعوة إلى الإلغاء الكامل للديون بشكل دوري.
ربما يستلهمون فكرتهم من الكتاب المقدس. إذ وفقا لسفر اللاويين، فقد كان في نهاية كل دورة مدتها سبع سنوات، يتم تحرير العبيد وإلغاء كل الديون. يمكن للمرء أن يرى السبب وراء الاستحسان الذي تلاقيه هذه الفكرة اليوم.
كان أفضل تلخيص لحملة اليوبيل العالمي للديون هو ما قامت به الحملة من أجل عدالة الديون. فقد دعا النشطاء على موقعهم الإلكتروني لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock لإلغاء ديون زامبيا، وطالبوا حكومة المملكة المتحدة بشطب ديون الطاقة عن كاهل الأسر.
ومع ذلك فإن برنامج الإعفاء من الديون هذا لا يمكنه إلا أن يشكل رفعا مؤقتا للحذاء عن الرقبة، ما لم يكن مصحوبا بنضال جماهيري للتخلص من الرأسمالية والإمبريالية بشكل كامل. وكما تعترف حملة عدالة الديون فإنه:
كجزء من حملة اليوبيل العالمية، فزنا بإلغاء 130 مليار دولار من ديون البلدان ذات الدخل المنخفض… لكن وعلى الرغم من أن هذا كان نصرا مهما، فإن الأسباب الهيكلية التي تحافظ على تكرار حدوث أزمات الديون، ظلت قائمة.
إلا أن العنصر الطوباوي الحقيقي هو فكرة أنه يمكن إقناع لاري فينك، أو أي رأسمالي آخر، بالموافقة على “عدالة الديون”؛ أو إيجاد أي مجال للـ”تسامح” في قلوبهم.
يقوم هذا على أساس المثالية البحثة. لكن أخلاق المجتمع الطبقي تنبع من الاحتياجات الاقتصادية للنظام، وقبل كل شيء من مصالح الطبقة السائدة. فأولئك الذين لا يسددون ديونهم ويخالفون قواعد الملكية الخاصة يجب تأديبهم.
وهذا هو السبب في أن البلدان التي تتخلف عن سداد ديونها تجد نفسها معزولة اقتصاديا. وسبب تعرض الأشخاص الذين يرفضون دفع الفواتير أو الرهون العقارية للمنع من الحصول على الطاقة، أو يفقدون منازلهم، أو تتدهور تصنيفاتهم الائتمانية. ليست للـ”الإنصاف” أية علاقة بالموضوع.
الديون والثورة
لطالما كان مطلب إلغاء الديون وعبودية الديون دائما صرخة الحرب بالنسبة للجماهير الفقيرة: منذ عوام روما القديمة، إلى الثورة الفرنسية عام 1789، إلى الفلاحين في الهند تحت حكم الإمبراطورية البريطانية.
واليوم لا يمكن لحملة فعالة حقا لإلغاء الديون على نطاق واسع أن تأتي من جانب أصحاب الأبناك وأرباب العمل، أو ممثليهم السياسيين. يجب أن تأتي من جماهير العمال والفلاحين في جميع أنحاء العالم الذين يعانون من أعباء الديون التي لا تنتهي.
هناك حاجة إلى مثل هذا البرنامج الآن أكثر من أي وقت مضى. تشكل أزمات الديون صدمة حادة للمجتمع، ويمكن أن تكون، في كثير من الأحيان، حافزا للحركات الثورية، كما كان الحال في سريلانكا مؤخرا. سبق لنا أن شاهدنا ذلك في فايمار بألمانيا عام 1923، حينما اندلعت أزمة التضخم المفرط ثم الثورة بسبب التخلف عن سداد التعويضات.
إن أي تحرك في هذا الاتجاه اليوم سيواجه بمقاومة شرسة من جانب الطبقة السائدة. من الواضح أن أي برنامج لإلغاء الديون في العصر الحالي سيعتبر على أنه حملة مصادرة جماعية، وسيواجه بمعارضة كاملة من قبل الدولة البرجوازية والإمبريالية ورأس المال المالي العالمي.
لماذا إذن لا نخوض هذا النضال حتى نهايته؟ لماذا نتوقف عند مجرد إلغاء الديون؟
نحن نقول: هذه ليست ديوننا! فلنعمل على مصادرة أملاك أصحاب الملايير! فلنجعل أرباب العمل وأصحاب الأبناك يدفعون ثمن هذه الأزمة!
لكي نعالج هذا الخطر بشكل حقيقي، نحتاج إلى حركة جماهيرية تستهدف في المقام الأول الظروف التي سمحت بتراكم مثل هذه الديون الضخمة، أي: الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج؛ وانقسام المجتمع إلى طبقات مستغِلة وأخرى مستغَلة؛ والسيطرة الإمبريالية على الأمم الفقيرة والمضطهَدة.
من خلال الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، تحت الرقابة الديمقراطية للطبقة العاملة، سيصير من الممكن تخطيط الاقتصاد لتلبية الحاجيات، وليس الربح.
ومع مرور الوقت سيتم إخراج المزيد والمزيد من السلع والخدمات الأساسية -مثل النقل والإسكان والطاقة والغذاء، وغير ذلك- من السوق، وستتوقف عن أن تكون سلعا.
وفي نهاية المطاف، وعلى أساس الوفرة والتخطيط الاشتراكي، سوف تتلاشى الحاجة إلى المال نفسه. وقبل ذلك بوقت طويل سيصير من الممكن إلغاء شبكة الديون التي تطعم الأغنياء الطفيليين.
فقط على هذا الأساس الثوري يمكننا التخلص من آفة الديون.
لوري أوكونيل
21 يونيو/حزيران 2023
ترجم عن النص الأصلي: