الرئيسية / قضايا نظرية / المادية الجدلية / ما هي المادية الديالكتيكية؟

ما هي المادية الديالكتيكية؟

ننشر فيما يلي مقالا للرفيق روب سويل، العضو القيادي في التيار الماركسي الأممي، حول المادية الديالكتيكية. كتب الرفيق روب سويل هذا المقال في الأصل من أجل توفير مدخل لدراسة الفلسفة الماركسية، في مجموعات الدراسة الماركسية في بريطانيا وعلى الصعيد الأممي. وبالنظر إلى أهميته نعمل هنا على إعادة نشره ونوصي المناضلات والمناضلين الذين يريدون حقا أن يتعرفوا على الفكر الماركسي أن يدرسوه.


مقدمة

الماركسية، أو الاشتراكية العلمية، هي التسمية التي تطلق على مجموعة الأفكار التي وضعها كارل ماركس (1818-1883) وفريدريك إنجلز (1820-1895). توفر هذه الأفكار، في مجملها، أساسا نظريا متكاملا لنضال الطبقة العاملة من أجل الوصول إلى شكل أعلى من المجتمع البشري: الاشتراكية.

تندرج دراسة الماركسية تحت ثلاثة عناوين رئيسية، نحددها بشكل عام في الفلسفة والتاريخ الاجتماعي والاقتصاد، أي المادية الجدلية والمادية التاريخية والاقتصاد الماركسي. هذه هي “الأجزاء الثلاثة المكونة للماركسية” الشهيرة التي كتب عنها لينين.

تم إطلاق سلسلة التعليم للاشتراكيين هذه من أجل الدعاية لدراسة الماركسية. إنها تهدف إلى مساعدة دارسي الماركسية من خلال توفير مقدمة للموضوع، مع نصوص ماركسية مناسبة نأمل أن تثير شهيتهم لمزيد من القراءة والدراسة. في الدليل الأول من أدلة الدراسة الخاصة بتعليم الاشتراكيين، نقدم مجموعة مختارة من المواد حول المادية الجدلية. أما “الأجزاء المكونة” الأخرى، فضلا عن المسائل الأساسية الأخرى، فسيتم تناولها في كتابات مستقبلية. تعتبر هذه الأدلة مناسبة للدراسة الفردية أو باعتبارها أساسا لمجموعات النقاش الماركسية.

وفي بداية هذه الدراسة عن المادية الديالكتيكية، ينشر المحررون مقالة تمهيدية بقلم روب سيويل. هذه بداية جيدة للموضوع، إذ لا توجد نقطة انطلاق أفضل من هذه للتعاطي مع الأعمال الفلسفية لماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وبليخانوف وآخرين. لسوء الحظ، لم يقم ماركس وإنجلز بكتابة مؤلف شامل عن المادية الديالكتيكية، رغم أنهما كانا ينويان القيام بذلك. إنجلز، عند وفاته، ترك كومة من المخطوطات، التي كان ينوي العمل عليها سواء حول الديالكتيك، أو قوانين حركة الطبيعة والمجتمع والفكر البشريين. وهي المخطوطات التي تم نشرها لاحقا باسم “ديالكتيك الطبيعة”، وهي الملاحظات التي تعطي، حتى في شكلها الخام غير المكتمل، نظرة ثاقبة رائعة لمنهج الماركسية وعلاقته بالعلوم.

ينبغي للقارئ المبتدئ ألا يستسلم أمام الأفكار الصعبة والمجردة التي يجدها في تلك الكتابات في بعض الأحيان. لأنه مهما كانت الصعوبة الأولية، فإن المثابرة ستعود بالنفع العميم. 

الماركسية علم له مصطلحاته الخاصة، وبالتالي فإنها تفرض على المبتدئين مهمات ثقيلة. لكن كل عامل/ة جاد/ة وطالب/ة جاد/ة يعرفان أنه لا يمكن تحقيق أي شيء ذي قيمة دون درجة معينة من الكفاح والتضحية.

تزود النظريات الماركسية العامل الواعي بفهم شامل. إنه من واجب كل عامل/ة وطالب/ة أن يتملكا بنفسيهما نظريات ماركس وإنجلز، كشرط مسبق أساسي لتملك المجتمع من قبل العمال.

المحتويات

  • مقدمة
  • هل نحن بحاجة إلى فلسفة؟
  • حدود المنطق الصوري
  • المادية ضد المثالية
  • الديالكتيك والميتافيزيقا
  • قانون انتقال الكم إلى الكيف (والعكس)
  • وحدة الأضداد
  • نفي النفي
  • هيغل وماركس

نحن ندرك أن هناك عقبات حقيقية تقف في طريق نضال العمال من أجل تملك النظرية. فالعامل أو العاملة اللذان يضطران للكدح لساعات طويلة في المعمل، واللذان لم يحصلا على تعليم لائق وبالتالي يفتقران إلى عادة القراءة، يجدان صعوبة كبيرة في استيعاب بعض الأفكار الأكثر تعقيدا، خاصة في البداية. إلا أن ماركس وإنجلز قد كتبا للعمال وليس للأكاديميين “الأذكياء”. “كل بداية صعبة” بغض النظر عن العلم الذي نتحدث عنه. ويمكننا أن نقدم للعامل الواعي طبقيا المستعد للمثابرة وعدا واحدا وهو أنه: بمجرد بذل الجهد الأولي للتعامل مع الأفكار الجديدة وغير المألوفة، سيجد أن النظريات الماركسية هي في جوهرها واضحة وبسيطة.

وبمجرد ما يتم تملك المفاهيم الأساسية للماركسية، ينفتح منظور جديد شامل للسياسة والصراع الطبقي وكل جوانب الحياة.

ولتوفير مدخل آخر للديالكتيك، نعيد في هذا العدد نشر مقال تروتسكي ألف باء الديالكتيك المادي، وانتصار المادية الديالكتيكية بقلم تروتسكي أيضا، ومقتطف من مؤلف لينين مصادر الماركسية الثلاثة وأجزاؤها المكونة الثلاثة، ومقتطف من “لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية” لإنجلز.

ولمزيد من الدراسة، نوصي بالأعمال التالية التي كتبها إنجلز، وخاصة الفصلين 12 و13 لأنتي دوهرينغ، ومقدمة ديالكتيك الطبيعة، ولودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.

كما يجب على أولئك الذين يرغبون في التعمق أكثر قراءة كتاب بليخانوف النظرة الأحادية للتاريخ، وكتاب لينين المادية والنقد التجريبي، بالإضافة إلى دفاتره الفلسفية. على الرغم من أن هذه الكتابات ليست سهلة القراءة، إلا أنها مجزية للغاية إذا تمت دراستها بعمق.

أكتوبر 2002


هل نحن بحاجة إلى فلسفة؟

تتشكل الاشتراكية العلمية، أو الماركسية، من ثلاثة أجزاء مكونة: المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية والاقتصاد الماركسي. هذا الكتيب، وهو الأول في هذه السلسلة، هو مقدمة لمفاهيم المادية الديالكتيكية، أي المنهج الماركسي.

قد تبدو المادية الديالكتيكية، بالنسبة لغير المطلعين على الفلسفة الماركسية، مفهوما غامضا وصعبا. ومع ذلك فإنه بالنسبة لأولئك المستعدين لتخصيص الوقت لدراسة هذه الطريقة الجديدة في النظر إلى الأشياء، سوف يكتشفون نظرة ثورية تمكنهم من فهم أسرار العالم الذي نعيش فيه واستيعابها. إن فهم المادية الديالكتيكية شرط أساسي لفهم الماركسية. والمادية الديالكتيكية هي فلسفة الماركسية، التي تزودنا بنظرة علمية وشاملة عن العالم. إنها الأساس الفلسفي -المنهج- الذي يقوم عليه كل المذهب الماركسي.

إن الديالكتيك، وفقا لإنجلز، “أفضل أداة عمل لدينا وأمضى سلاح في أيدينا”. إنه بالنسبة لنا أيضا دليل لعملنا ولأنشطتنا داخل الحركة العمالية. إنه يشبه البوصلة أو الخريطة، والذي يمكننا من تحديد اتجاهاتنا في خضم اضطراب الأحداث، ويسمح لنا بفهم السيرورات العميقة التي تشكل عالمنا.

كل شخص لديه فلسفة، سواء أحببنا ذلك أم لا، وسواء بوعي أو بغير وعي. الفلسفة هي ببساطة طريقة للنظر إلى العالم. وفي ظل الرأسمالية، إذا لم نمتلك فلسفتنا العلمية الخاصة، سوف نتبنى حتما الفلسفة السائدة للطبقة السائدة والأحكام المسبقة للمجتمع الذي نعيش فيه. “الأشياء لن تتغير أبدا” هي لازمة شائعة، تعكس عدم جدوى محاولة تغيير الأشياء وضرورة القبول بالوضع القائم. وهناك أمثال أخرى مشابهة من قبيل: “لا جديد تحت الشمس”، و”التاريخ يعيد نفسه دائما”، والتي تعكس نفس النظرة المحافظة. تشكل مثل هذه الأفكار، كما أوضح ماركس، عبئا ثقيلا على وعي الرجال والنساء.

ومثلما قامت البرجوازية الناشئة أثناء ثورتها ضد المجتمع الإقطاعي بتحدي الأفكار المحافظة للأرستقراطية الإقطاعية القديمة، فإن الطبقة العاملة، في نضالها من أجل مجتمع جديد، تحتاج إلى تحدي النظرة السائدة للطبقة التي تضطهدها، أي الطبقة الرأسمالية. وبطبيعة الحال فإن الطبقة السائدة، من خلال احتكارها لوسائل الإعلام والمدرسة والجامعة والمنابر، تبرر بوعي نظامها الاستغلالي باعتباره “الشكل الأكثر طبيعية للمجتمع”. آلة الدولة القمعية، بأجهزتها من “الرجال المسلحين”، ليست كافية للحفاظ على النظام الرأسمالي. لذا تعمل الأفكار والأخلاق السائدة في المجتمع البرجوازي بمثابة آلية دفاع حيوي عن المصالح المادية للطبقة السائدة. بدون هذه الأيديولوجية القوية، لا يمكن للنظام الرأسمالي أن يستمر لأي فترة من الزمن.

يقول لينين:

جميع العلوم الرسمية والليبرالية تدافع، بطريقة أو بأخرى،  عن العبودية المأجورة… إن توقع أن يكون هناك علم محايد في مجتمع قائم على العبودية المأجورة هو سذاجة صبيانية كأن تتوقع الحياد من جانب الرأسماليين فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان ينبغي خفض أرباح رأس المال لزيادة أجور العمال.

تشن الأيديولوجية البرجوازية الرسمية حربا لا هوادة فيها ضد الماركسية، التي تعتبرها بحق خطرا قاتلا على الرأسمالية. يبث الكتبة والأساتذة البرجوازيون فيضا مستمرا من الدعاية في محاولة لتشويه سمعة الماركسية، وخاصة الديالكتيك. كان هذا هو الحال بشكل خاص منذ انهيار جدار برلين، والهجوم الإيديولوجي الشرس ضد الماركسية والشيوعية والثورة وما شابه ذلك. “لقد ماتت الماركسية”، هكذا أعلنوا مرارا وتكرارا، كما لو أنهم يرددون بعض التعويذات الدينية. لكن الماركسية ترفض الاستسلام أمام هؤلاء المشعوذين! تعبر الماركسية عن الإرادة اللاواعية للطبقة العاملة لتغيير المجتمع. ومصيرها مرتبط بمصير البروليتاريا.

المدافعون عن الرأسمالية، إلى جانب خدمهم داخل الحركة العمالية، يؤكدون باستمرار أن نظامهم هو شكل طبيعي ودائم للمجتمع. لكن الديالكتيك، في المقابل، يؤكد أنه لا يوجد شيء دائم وأن كل الأشياء تفنى عند نقطة معينة. تشكل مثل هذه الفلسفة الثورية تهديدا مميتا للنظام الرأسمالي، وبالتالي يجب تشويه سمعتها بأي ثمن. وهذا ما يفسر الحملات  المتواصلة للدعاية المعادية للماركسية. لكن كل خطوة حقيقية إلى الأمام يحققها العلم والمعرفة تعمل على تأكيد صحة الديالكتيك. تظهر أزمة الرأسمالية المتزايدة صحة الماركسية لملايين الناس. إن الوضع الموضوعي يجبر الكادحين على البحث عن مخرج من المأزق. قال لينين: “الحياة تعلم”. واليوم يمكننا أن نقول، باستخدام الكلمات الشهيرة للبيان الشيوعي: “هناك شبح يطارد أوروبا، شبح الشيوعية”.

في سياق الكفاح من أجل تحرر الطبقة العاملة، تشن الماركسية أيضا حربا لا هوادة فيها ضد الرأسمالية وأيديولوجيتها، التي تدافع عن نظامها الاستغلالي و”اقتصاد السوق” وتبررهما. لكن الماركسية تقوم بأكثر من ذلك. إن الماركسية، حسب لينين، تزود الطبقة العاملة “بنظرة شاملة متكاملة لا يمكن التوفيق بينها وبين أي شكل من أشكال الخرافات أو الرجعية أو الدفاع عن الاضطهاد البرجوازي”. إنها تسعى إلى الكشف عن العلاقات الحقيقية الموجودة في ظل الرأسمالية وتزويد الطبقة العاملة بفهم لكيفية تحقيق تحررها. إن المادية الديالكتيكية، على حد تعبير الماركسي الروسي بليخانوف، هي أكثر من مجرد نظرة، إنها “فلسفة فعل”.

حدود المنطق الصوري

يحاول الرجال والنساء التفكير بطريقة عقلانية. والمنطق (Logic التي هي كلمة يونانية تعني الكلمة أو العقل) هو علم قوانين التفكير. فمهما كانت الأفكار التي نعتقدها، ومهما كانت اللغة التي يتم التعبير عنها بها ، فإنه يجب أن تفي بمتطلبات التفكير. وتؤدي هذه المتطلبات إلى ظهور قوانين الفكر ومبادئ المنطق. كان الفيلسوف اليوناني أرسطو (384 – 322 قبل الميلاد)، هو الذي صاغ، قبل أكثر من 2000 عام، النظام الحالي للمنطق الصوري، والذي هو النظام الذي يشكل أساس برامجنا التعليمية حتى يومنا هذا. لقد صنف الطريقة التي يجب أن نفكر بها بشكل صحيح، وكيف يتم دمج المفاهيم للوصول إلى الأحكام، ومنها كيفية استخلاص النتائج. لقد وضع ثلاثة قوانين أساسية للمنطق: مبدأ الهوية (A = A)، وعدم التناقض (A لا يمكن أن يكون A وليس A)، والثالث المرفوع (A إما أن يكون A أو غير A؛ لا يوجد بديل ثالث).

سيطر المنطق الصوري لأكثر من ألفي عام، وكان أساس التجربة والتطورات العظيمة للعلم الحديث. استند تطوير الرياضيات على هذا المنطق. لا يمكنك أن تعلم طفلا عملية الجمع بدونه. واحد زائد واحد يساوي اثنين وليس ثلاثة. قد يبدو المنطق الرسمي مثل الفطرة السليمة ويمكن من تنفيذ ملايين المهام اليومية، لكنه -ونسطر على لكن– له حدوده. فعند التعامل مع سيرورات مطولة أو أحداث معقدة، يصبح المنطق الصوري طريقة غير مناسبة تماما للتفكير. هذا هو الحال بشكل خاص في التعامل مع الحركة والتغيير والتناقض. المنطق الصوري يعتبر الأشياء ثابتة وغير متحركة. هذا بالطبع لا يعني إنكار الفائدة اليومية للمنطق الصوري، على العكس من ذلك، لكن علينا أن ندرك حدوده.

كتب ليون تروتسكي:

إن الديالكتيك ليس خيالا أو تصوفا، بل هو علم لأشكال تفكيرنا بقدر ما لا يقتصر (تفكيرنا) على مشاكل الحياة اليومية، بل يحاول الوصول إلى فهم أكثر السيرورات تعقيدا واستمرارية. توجد بين المنطق الديالكتيكي والمنطق الصوري علاقة مماثلة للعلاقة بين الرياضيات العليا والدنيا.

ومع تطور العلم الحديث، اعتمد نظام التصنيف (نظام لينيوس) على المنطق الصوري، حيث تم تقسيم جميع الكائنات الحية إلى أنواع ورتب. شكل ذلك قفزة كبيرة إلى الأمام لعلم الأحياء مقارنة مع الماضي. ومع ذلك، فقد كان، بتقسيماته الصارمة، نظاما جامدا اتضحت مع مرور الوقت حدوده. لقد أظهر داروين على وجه الخصوص أنه من خلال التطور كان من الممكن أن يتحول نوع ما إلى نوع آخر. وبالتالي كان لابد من تغيير نظام التصنيف الصارم لفتح المجال أمام هذا الفهم الجديد للواقع.

لقد انهار نظام المنطق الصوري في الواقع. لم يستطع التعامل مع تلك التناقضات. لكن من ناحية أخرى، فإن الديالكتيك -منطق التغير- يوضح أنه لا توجد تقسيمات مطلقة أو ثابتة في الطبيعة أو المجتمع. كان إنجلز يحب كثيرا الإشارة إلى خلد الماء ذي منقار البط، هذا الشكل الانتقالي، ويطرح السؤال عن مكانه في ذلك المخطط الجامد للأنواع!

وحدها المادية الديالكتيكية التي يمكنها تفسير قوانين التطور والتغيير، التي ترى العالم ليس كمركب من الأشياء الجاهزة، بل كمركب من السيرورات، التي تمر من خلال تحول مستمر للوجود والفناء. بالنسبة لهيغل كان المنطق القديم يشبه تماما لعبة أحجية الأطفال التي تقوم على تركيب صور من قطع منفصلة. كتب تروتسكي أن “الخلل الأساسي في الفكر المبتذل يكمن في حقيقة أنه يرغب في الاكتفاء بسمات ثابتة للواقع الذي هو في حركة سرمدية”.

لكن وقبل أن ننظر إلى القوانين الأساسية للمادية الديالكتيكية، دعونا نلقي نظرة على جذور النظرة المادية.

المادية ضد المثالية

قال لينين: “فلسفة الماركسية هي المادية”. تنتمي الفلسفة نفسها إلى معسكرين أيديولوجيين كبيرين: المادية والمثالية. وقبل أن نبدأ نشير إلى أنه حتى هذين المصطلحين يحتاجان إلى تفسير. بادئ ذي بدء لا توجد أية علاقة بين المادية والمثالية في الفهم الفلسفي وبين معناهما في استخدامهما اليومي، حيث ترتبط المادية بالجشع والخداع المادي (أي باختصار: أخلاق الرأسمالية الحالية)، بينما ترتبط المثالية بالمُثُل العليا والفضيلة. كلا على الإطلاق!

المادية الفلسفية هي النظرة التي تشرح أنه لا يوجد سوى عالم مادي واحد. وأنه لا توجد لا جنة ولا جهنم. وأن الكون، الذي هو موجود منذ الأزل وليس من صنع أي كائن خارق للطبيعة، هو في طور سيلان (Flux) مستمر. البشر جزء من الطبيعة، وتطوروا من أشكال الحياة الدنيا، التي نشأت من كوكب هامد منذ حوالي 3.6 مليار سنة أو نحو ذلك. ومع تطور الحياة، في مرحلة معينة، جاء تطور الحيوانات بجهاز عصبي، وفي النهاية البشر بدماغهم الكبير. ومع البشر ظهر الفكر والوعي البشريين. العقل البشري وحده القادر على إنتاج أفكار عامة، أي التفكير. وبالتالي فإن المادة، التي كانت موجودة منذ الأزل، كانت موجودة وما تزال موجودة بشكل مستقل عن العقل والبشر. لقد كانت الأشياء موجودة قبل وقت طويل من ظهور أي وعي بها من جانب الكائنات الحية.

بالنسبة للماديين لا يوجد وعي مستقل عن الدماغ الحي، الذي هو جزء من الجسم المادي. الاعتقاد بوجود العقل بدون جسد هو اعتقاد سخيف. والمادة ليست نتاجا للعقل، بل إن العقل نفسه هو أعلى نتاج للمادة. والأفكار هي ببساطة انعكاس للعالم المادي المستقل الذي يحيط بنا. الأشياء التي تنعكس في المرآة لا تعتمد على ذلك الانعكاس لكي توجد. يقول إنجلز: “كل الأفكار مأخوذة من التجربة، هي انعكاسات -حقيقية أو مشوهة- للواقع”. أو على حد تعبير ماركس: “ليس الوعي من يحدد الوجود، بل الوجود هو من يحدد الوعي”.

لا ينكر الماركسيون وجود العقل أو الوعي أو الفكر أو الإرادة أو المشاعر أو الإحساس. ما ينكره الماديون هو أن يكون الشيء الذي يسمى “العقل” موجودا بشكل منفصل عن الجسد. العقل غير منفصل عن الجسد. التفكير هو نتاج للدماغ الذي هو جهاز الفكر.

ومع ذلك فإن هذا لا يعني أن وعينا هو مجرد مرآة هامدة للطبيعة. يرتبط البشر بمحيطهم؛ إنهم يعون محيطهم ويتفاعلون وفقا لذلك؛ كما أن البيئة بدورها تتفاعل معهم. وبينما يتجذر البشر في الظروف المادية، فإنهم يعممون ويفكرون بشكل إبداعي. ويعملون بدورهم على تغيير محيطهم المادي.

ومن ناحية أخرى، تعتبر المثالية الفلسفية أن العالم المادي ليس حقيقيا، بل هو ببساطة انعكاس لعالم الأفكار. هناك أشكال مختلفة من المثالية، لكن جميعها تتبنى بشكل أساسي أن الأفكار أولية بينما المادة، إذا كانت أصلا موجودة، فهي ثانوية. بالنسبة للمثاليين، الأفكار منفصلة عن المادة وعن الطبيعة. هذا هو مفهوم هيغل عن الفكرة المطلقة، أو ما يمكن أن نعتبره الإله. تفتح المثالية الفلسفية الطريق، بشكل أو بآخر، للدفاع عن الدين والخرافات. وهذه النظرة ليست خاطئة فحسب، بل إنها أيضا محافظة جدا، مما يقودنا إلى الاستنتاج المتشائم بأنه لا يمكننا أبدا فهم “القوانين الغامضة” للعالم. في حين أن المادية تدرك أن البشر لا يقتصرون فقط على مراقبة العالم الحقيقي، بل يمكنهم تغييره، وبذلك يغيرون انفسهم.

نشأت النظرة المثالية للعالم عن تقسيم العمل بين العمل البدني والعمل الذهني. شكل هذا التقسيم تقدما هائلا لأنه حرر قسما من المجتمع من العمل البدني وأتاح لهم الوقت لتطوير العلوم والتكنولوجيا. لكنهم كلما ابتعدوا عن العمل البدني، كلما أصبحت أفكارهم أكثر تجريدية. وعندما يفصل المفكرون أفكارهم عن العالم الواقعي، يصيرون أكثر إغراقا في “الفكر الخالص” المجرد وينتهون إلى مختلف أنواع التخيلات. علم الكونيات (Cosmology) اليوم، على سبيل المثال، تسيطر عليه المفاهيم الرياضية المجردة المعقدة، والتي أدت إلى جميع أنواع النظريات الخاطئة الغريبة والعجيبة: الانفجار العظيم، بداية الزمن، الأكوان المتوازية، إلخ. إن كل انفصال عن الممارسة يؤدي إلى نظرة مثالية أحادية الجانب.

 النظرة المادية لها تاريخ طويل يمتد إلى الإغريق القدامى، مع أناكساغوراس (حوالي 500 – 428 قبل الميلاد) وديموقريطس (حوالي 460 – 370 قبل الميلاد). لكن مع انهيار اليونان القديمة، خفتت هذه النظرة العقلانية طيلة حقبة تاريخية كاملة، وفقط بعد نهضة الفكر عند نهاية العصور الوسطى المسيحية كان هناك إحياء للفلسفة والعلوم الطبيعية. كانت إنجلترا خلال القرن السابع عشر موطن المادية الحديثة. وفي هذا الصدد كتب ماركس: “إن السلف الحقيقي للمادية الإنجليزية هو بيكون”. وقد تم تنظيم وتطوير مادية فرانسيس بيكون (1561 – 1626) من قبل توماس هوبز (1588 – 1679)، الذي بدوره طور أفكاره جون لوك (1632 – 1704). لقد توصل هذا الأخير بالفعل إلى أنه من الممكن أن تمتلك المادة ملكة التفكير. ليس من قبيل المصادفة أن هذه التطورات في الفكر البشري قد تزامنت مع صعود البرجوازية والتقدم الكبير في العلوم، وخاصة الميكانيكا وعلم الفلك والطب. قدم هؤلاء المفكرون العظماء بدورهم أساسا للمدرسة الرائعة للماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، والذين من أبرزهم رينيه ديكارت (1596 – 1650).

شكلت ماديتهم وعقلانيتهم عقيدة الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789. لم يكن هؤلاء المفكرون الثوريون يعترفون بأي سلطة خارجية. فقد كان كل شيء بالنسبة لهم من الدين إلى العلوم الطبيعية، من المجتمع إلى المؤسسات السياسية، عرضة لأشد أنواع النقد. لقد صار العقل مقياس كل شيء.

تلك الفلسفة المادية، التي دافع عنها باستمرار هولباخ (1723 – 1789) وهيلفيتيوس، كانت فلسفة ثورية. يقول هولباخ: “الكون هو الوحدة الهائلة لكل شيء موجود، ففي كل مكان تظهر لنا فقط المادة أثناء الحركة. هذا هو كل ما هو موجود ولا يعرض سوى سلسلة غير محدودة ومتواصلة من الأسباب والأفعال؛ بعض هذه الأسباب نعرفها، لأنها تضرب حواسنا على الفور؛ والبعض الآخر لا نعرفها لأنها تؤثر علينا من خلال عواقب بعيدة تماما عن الأسباب الأولى”.

كانت هذه الفلسفة العقلانية انعكاسا أيديولوجيا لنضال البرجوازية الثورية ضد الكنيسة والأرستقراطية والمَلكية المطلقة. كانت تمثل هجوما شرسا على أيديولوجية النظام القديم. لكن في النهاية لم تسفر مملكة العقل تلك إلا عن مملكة البرجوازية. لقد أصبحت المِلكية البرجوازية أحد الحقوق الأساسية للإنسان. مهد الماديون الثوريون الطريق أمام المجتمع البرجوازي الجديد وسيطرة أشكال جديدة للملكية الخاصة. قال دينيس ديدرو (1713 – 1784): “أزمنة مختلفة، وظروف مختلفة، وفلسفة مختلفة”.

إلا أن تلك المادية الجديدة، وعلى الرغم من أنها كانت تقدما ثوريا، فقد كانت جامدة وميكانيكية للغاية. هاجم هؤلاء الفلاسفة الجدد الكنيسة واعتبروا أن الإنسان مجرد جسد مادي مثل جميع الحيوانات الأخرى والأشياء غير العضوية. نظروا إلى الإنسان على أنه آلة أكثر تعقيدا من الكائنات الأخرى. ووفقا لدينيس ديدرو، في حديثه مع دالامبير “نحن آلات تمتلك إحساسا وذاكرة”.

إن أصل المعرفة –أي اكتشاف الحقيقة الموضوعية- بالنسبة للماديين الفرنسيين،  يتم من خلال تأثير الطبيعة على حواسنا. الكواكب ومكان الإنسان داخل النظام الشمسي والطبيعة نفسها أشياء ثابتة. كان العالم، بالنسبة لهم، يعمل مثل الساعة، حيث كل شيء له مكانه المنطقي الثابت، وحيث يأتي الدافع للحركة من الخارج. وعلى الرغم من أن المنهج كان ماديا، فإنه كان برمته ميكانيكيا، وفشل في فهم الواقع الحي للعالم. لم يستطع فهم الكون باعتباره سيرورة، ومادة تخضع لتغير مستمر. أدى هذا الضعف إلى الانقسام الزائف بين العالم المادي وعالم الأفكار. وقد فتحت هذه الثنائية الباب للمثالية.

بينما تبنى آخرون وجهة نظر أحادية (Monist) مفادها أن الكون نظام واحد ليس روحا خالصة أو مادة خالصة. كان سبينوزا أول من وضع مثل هذا النظام. وبينما قال بالحاجة إلى إله، فإنه اعتبر الكون نظاما واحدا ماديا بالكامل.

الدياكتيك والميتافيزيقا

إن النظرة الماركسية للعالم ليست مادية فحسب، بل هي ديالكتيكية أيضا. يتم تصوير الديالكتيك من طرف منتقديه على أنه شيء صوفي تماما، وبالتالي ليس ذا قيمة. لكن هذا ليس هو الحال بالتأكيد. إن المنهج الديالكتيكي هو ببساطة محاولة لفهم أوضح لعالمنا الحقيقي المترابط. الديالكتيك، كما يقول إنجلز في كتابه “أنتي دوهرينغ” “ليس أكثر من علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع البشري والفكر”. أو ببساطة إنه منطق الحركة.

من الواضح لمعظم الناس أننا لا نعيش في عالم جامد. في الواقع كل شيء في الطبيعة في حالة تغير مستمر. يقول إنجلز: “الحركة هي نمط وجود المادة. لم توجد في أي مكان مادة بدون حركة، ولا يمكن أن توجد”. تدور الأرض باستمرار حول محورها، وتدور بدورها حول الشمس. ينتج عن هذا النهار والليل، والفصول المختلفة التي نشهدها على مدار العام. نحن نولد ونكبر ونشيخ ثم في النهاية نموت. كل شيء يتحرك ويتغير، إما يرتفع ويتطور أو يتدهور ويفنى. كل توازن هو نسبي فقط، وليس له معنى إلا فيما يتعلق بأشكال الحركة الأخرى.

قال إنجلز:

عندما ننظر ونفكر في الطبيعة ككل أو في تاريخ البشرية أو نشاطنا الفكري، نرى في البداية صورة التشابك اللامتناهي للعلاقات وردود الفعل والتقلبات والتوليفات، حيث لا يبقى شيء كما كان وأين كان وكيف كان، بل كل شيء يتحرك ويتغير ويوجد ويفنى. لذلك نرى في البداية الصورة ككل، مع بقاء أجزائها الفردية في الخلفية بشكل أو بآخر؛ نلاحظ الحركات والانتقالات والاتصالات بدلا من رؤية الأشياء التي تتحرك وتتجمع وتتصل. هذا المفهوم البدائي الساذج عن العالم، لكن الصحيح من حيث الجوهر، هو مفهوم الفلسفة اليونانية القديمة، وكان هرقليطس هو من صاغه بوضوح لأول مرة: كل شيء موجود وغير موجود، لأن كل شيء سائل، يتغير باستمرار، ويظهر ويفنى باستمرار.

قام الإغريق بسلسلة كاملة من الاكتشافات الثورية والتقدم في العلوم الطبيعية. رسم أناكسيماندر خريطة للعالم، وألف كتابا عن علم الكونيات، لم تصلنا منه سوى شظايا قليلة. ويبدو أن آلية أنتيكيثيرا (Antikythera mechanism)، كما يطلق عليها، هي بقايا ساعة فلكية يعود تاريخها إلى القرن الأول قبل الميلاد. وبالنظر لمحدودية المعرفة في ذلك الوقت، فقد كانت العديد من تلك الأفكار توقعات وتخمينات ملهمة. لم يكن من الممكن، في ظل مجتمع عبودي، استخدام تلك الاختراعات الرائعة في العمل المنتج، وكان يُنظر إليها ببساطة على أنها ألعاب للتسلية. حدثت التطورات الحقيقية في العلوم الطبيعية في منتصف القرن الخامس عشر. كانت طرق التحقيق الجديدة تعني تقسيم الطبيعة إلى أجزائها الفردية، مما يسمح بتصنيف الأشياء والسيرورات. وفي حين أن ذلك وفر كمية هائلة من البيانات، فإنه تمت دراسة الكائنات بمعزل عن بيئتها المعيشية. أنتج ذلك نمطا ميتافيزيقيا ضيقا ومتصلبا أصبح السمة المميزة للتجريبية. أصبحت “الحقائق” أهم ميزة. “ما أريده الآن  هو الحقائق. لا تعلموا هؤلاء الأولاد والبنات سوى الحقائق. وحدها الحقائق مطلوبة في الحياة”، هكذا صرح توماس غرادغريند، شخصية ديكنزية في روايته أوقات صعبة.

يقول إنجلز:

بالنسبة للميتافيزيقي الأشياء وانعكاساتها العقلية، أي الأفكار، منفصلان، ويجب اعتبارهما واحدة تلو الأخرى وبانفصال عن بعضها البعض، إنها موضوعات بحث ثابتة، جامدة، معطاة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه يفكر في تناقضات لا يمكن التوفيق بينها على الإطلاق. ‘موقفه هو: “أجل هي أجل؛ وكلا هي كلا”؛ أما كل ما هو غير ذلك فمصدره الشيطان’. بالنسبة له الشيء إما أن يكون موجودا أو غير موجود؛ فالشيء لا يمكن أن يكون هو نفسه وشيئا آخر في نفس الوقت. الموجب والسالب ينفيان بعضهما البعض تماما؛ السبب والنتيجة يقفان في تناقض صارم مع بعضهما البعض.

لكن الحس السليم، ورغم أنه رفيق محترم ما دام بين الجدران الأربعة لحياته المنزلية، يمر بأعجب المغامرات إذا أقدم على الخروج إلى عالم البحث الواسع. ورغم أنه لنمط التفكير الميتافيزيقي ما يبرره، بل ويجعله ضروريا في عدد من المجالات التي يختلف مداها باختلاف طبيعة موضوع البحث، فإنه يصل، عاجلا أو آجلا، إلى ذلك الحد الذي يصبح عنده أحادي الجانب ومحدودا ومجردا، ويضيع في تناقضات غير قابلة للحل. لأنه خلال تأمله للأشياء المنفصلة ينسى الصلة بينها؛ وخلال التأمل في وجودها، ينسى بداية ذلك الوجود ونهايته؛ وعند التأمل في سكونها ينسى حركتها. لا يمكنه رؤية الغابة من خلف الأشجار.

يمضي إنجلز في الشرح أننا، لأغراض الحياة اليومية، نعرف ما إذا كان الحيوان على قيد الحياة أم لا. لكن عند الفحص الدقيق، نضطر إلى إدراك أن هذه ليست مسألة بسيطة ومباشرة. بل هي على العكس من ذلك، مسألة معقدة.

هناك نقاشات ما تزال محتدمة حتى اليوم حول متى تبدأ الحياة في رحم الأم. وبالمثل، من الصعب تحديد وقت حدوث لحظة الموت بالضبط، حيث يثبت علم وظائف الأعضاء أن الموت ليس فعلا فوريا واحدا، بل هو سيرورة مطولة. وحسب الكلمات الرائعة للفيلسوف اليوناني هيراقليتس فإن: ” نفس الشيء فينا حي وميت، نائم ومستيقظ، صغير وكبير؛ كل شيء يغير مكانه ويصير شيئا آخر. نحن نخطو ولا نخطو في نفس النهر؛ نحن نكون ولا نكون”.

الأشياء ليست كما تبدو عليه في الظاهر. كل الأنواع وكل مظهر من مظاهر الحياة العضوية، هي في كل لحظة نفسها وليست نفسها. إنها تتطور عن طريق استيعاب المادة من الخارج وفي نفس الوقت التخلص من مواد أخرى غير مرغوب فيها؛ وباستمرار تموت بعض الخلايا، بينما تتجدد خلايا أخرى. ومع مرور الوقت، يتحول الجسم بالكامل ويتجدد من الأعلى إلى الأسفل. وبالتالي فإن كل كيان عضوي هو نفسه ومع ذلك هو شيء آخر غير نفسه.

لا يمكن تفسير هذه الظاهرة بالفكر الميتافيزيقي أو المنطق الصوري. فهذا المنهج غير قادر على تفسير التناقض. هذا الواقع المتناقض لا يدخل ضمن مجال الحس السليم. في حين أن الديالكتيك يدرك الأشياء في اتصالها وتطورها وحركتها. وبالنسبة إلى إنجلز فإن “الطبيعة هي برهان الديالكتيك”.

إليكم هنا كيف وصف إنجلز سيرورات التغير الغنية في كتابه ديالكتيك الطبيعة:

تتحرك المادة في دورة سرمدية، تكمل مسارها في زمن طويل جدا بحيث لا تمثل سنتنا الأرضية شيئا بالمقارنة معه؛ في دورة تكون فيها فترة التطور الأعلى، أي فترة الحياة العضوية مع نتاجها الأسمى، أي الوعي بالذات، هي هنيهة قصيرة نسبيا في تاريخ الحياة والوعي الذاتي؛ في دورة يكون فيها كل شكل معين من أشكال وجود المادة -سواء كانت الشمس أو سديم، أو حيوان معين أو نوع حيواني، أو تركيب كيميائي أو تحلل- هي نفسها في مرحلة انتقالية؛ في دورة لا يوجد فيها شيء أبدي، باستثناء المادة الدائمة التغير والدائمة الحركة، وقوانين حركتها وتغيرها. لكن ورغم تكرار وصرامة تحقق هذه الدورة في الزمن والمكان، ورغم أن ما لا يحصى من الشموس والكواكب قد تنشأ وتنهار، ورغم طول الزمن الضروري حتى تظهر في نظام شمسي ما، على كوكب ما ظروف مناسبة لنشوء الحياة العضوية، ورغم أن ما لا يحصى من الكائنات قد تنقرض وتنشأ قبل أن تتطور من بينها حيوانات تمتلك دماغا مفكرا تجد بيئة تسمح لها بالعيش، حتى ولو لفترة قصيرة، فإننا، مع ذلك، مطمئنون إلى أن المادة في جميع تغيراتها تظل سرمدية واحدة وهي نفسها، وأن لا شيء من صفاتها قد يفنى، وأن نفس الضرورة الحديدية التي تفرض تحطيم أسمى  أشكال المادة -النفس المفكرة- هي التي تفرض أيضا ولادة جديدة لها في مكان آخر وفي وقت آخر.

وإلى جانب فلسفة القرن الثامن عشر الفرنسية، نشأت فلسفة ألمانية راديكالية جديدة. ومرورا بإيمانويل كانط توجت هذه الفلسفة من خلال نظام جورج ف. هيغل، الذي كان معجبا جدا بالثورة الفرنسية. كان هيغل، على الرغم من كونه مثاليا، أعظم عقل موسوعي في عصره. وقد كانت أعظم مساهمة لهذا العبقري هي إنقاذه لمنهج التفكير الديالكتيكي، الذي طوره في الأصل الفلاسفة اليونانيون القدماء قبل حوالي 2000 عام.

كتب هيغل: “لا تتمثل التغيرات في الكينونة في حقيقة انتقال كم ما إلى كم آخر فقط، بل وأيضا في انتقال الكيف إلى كم، والعكس صحيح. يمثل كل انتقال من النوع الأخير قطيعة، ويمنح الظاهرة مظهرا جديدا، متميزا من الناحية الكيفية عن سابقه. وهكذا فإن الماء عند تبريده يصير صلبا، ليس بشكل تدريجي… بل مرة واحدة؛ وبعد أن يبرد بالفعل إلى درجة التجمد، يستمر بإمكانه أن يبقى سائلا فقط إذا حافظ على حالة هادئة، وعندها تكون أقل صدمة كافية لكي يصبح صلبا بشكل مفاجئ… في عالم الظواهر الأخلاقية… تحدث نفس التغيرات من الكم إلى الكيف، وهناك أيضا تستند الاختلافات في الكيف إلى اختلافات في الكم. وهكذا فإن كما أقل قليلا، أو كما أكثر قليلا، يمثل ذلك الحد الذي يتوقف بعده العبث ويظهر شيئًا مختلف تماما: الجريمة….

تمتلئ أعمال هيغل بالاشارات والأمثلة عن الديالكتيك. لكن هيغل، لسوء الحظ، لم يكن مثاليا فحسب، بل إنه كتب بطريقة شديدة الغموض والصعوبة، مما يجعل قراءة أعماله مسألة عسيرة للغاية. عندما كان لينين يعيد قراءة هيغل في المنفى، خلال الحرب العالمية الأولى، كتب قائلا: “أنا بشكل عام أحاول أن أقرأ هيغل بشكل مادي: هيغل مادي يقف على رأسه (حسب إنجلز)، وهذا يعني أنني في معظم الأحيان ألقي جانبا بالله والمطلق والفكرة الخالصة، إلخ”. لقد تأثر لينين بهيغل بشكل كبير، وأوصى لاحقا الشباب الشيوعيين أن يدرسوا كتاباته بأنفسهم، على الرغم من مثاليته.

كان الشابان ماركس وإنجلز من أتباع العظيم هيغل. لقد تعلما الكثير جدا من ذلك المعلم. لقد فتح أعينهما على نظرة جديدة للعالم يجسدها الديالكتيك. قام هيغل، من خلال استعماله للديالكتيك بتحرير التاريخ من الميتافيزيقا. بالنسبة للديالكتيك، لا يوجد شيء نهائي أو مطلق أو مقدس. إنه يكشف الطابع الانتقالي لكل شيء. ومع ذلك فقد كان هيغل مقيدا بمعرفته، ومعرفة عصره، وحقيقة أنه كان مثاليا. لقد اعتبر الأفكار داخل الدماغ ليست صورا مجردة إلى حد ما لأشياء وسيرورات واقعية، بل اعتبرها تحقيقا لـ”الفكرة المطلقة”، الموجودة منذ الأزل. لقد قلبت مثالية هيغل الواقع رأسا على عقب.

ومع ذلك فقد حدد هيغل بشكل منهجي قوانين التغير المهمة، والتي تم التطرق إليها سابقا.

قانون تحول الكم إلى كيف (والعكس)

قال هيغل:

قيل إنه لا توجد قفزات مفاجئة في الطبيعة، ومن الشائع القول إن الأشياء تنبع من الزيادة أو النقصان التدريجيين. لكن هناك أيضا ذلك التحول المفاجئ من الكم إلى الكيف. فالماء، على سبيل المثال، لا يصير صلبا بشكل تدريجي عند التبريد، بحيث يتحول في البداية إلى مائع ليصل في النهاية إلى صلابة الجليد، بل يصير صلبا في الحال. إذا تم تخفيض درجة الحرارة إلى درجة معينة، يتغير الماء فجأة إلى جليد، أي أن الكم -عدد درجات الحرارة- يتحول إلى كيف: تغيير في طبيعة الشيء. (نفسه)

هذا هو حجر الزاوية في فهم التغير. التغير، أو التطور، لا يحدث تدريجيا في خط مستقيم هادئ. شبه ماركس الثورة الاجتماعية بخلد عجوز يحفر بنشاط تحت الأرض، بشكل غير مرئي لفترات طويلة، لكنه يقوض النظام القديم بثبات ويظهر لاحقا إلى الضوء على شكل انقلاب مفاجئ. حتى تشارلز داروين كان يعتقد أن نظريته عن التطور كانت تدريجية في الأساس، وأن الثغرات في سجل الحفريات لا تمثل أي انقطاع أو قفزات في التطور، وأنه سوف يتم “سدها” باكتشافات أخرى. لقد كان داروين مخطئا في هذا الصدد. واليوم ظهرت نظريات جديدة، ديالكتيكية في الأساس، لشرح القفزات في التطور. أطلق ستيفن جيه غولد ونايلز إلدردغ على نظريتهما الديالكتيكية للتطور اسم: “التوازن المتقطع”. حيث أوضحا أن هناك فترات طويلة من التطور حين لا تكون هناك تغيرات واضحة تحدث، ثم فجأة يظهر شكل أو أشكال حياة جديدة. أو بعبارة أخرى فإن الاختلافات الكمية أدت إلى حدوث تغير كيفي أدى إلى ظهور أنواع جديدة. يتسم التطور برمته بفترات انقطاع في الاستمرارية، وقفزات كوارث وثورات.

كان ظهور الحياة أحادية الخلية في محيطات الأرض، منذ حوالي 3.6 مليار سنة، قفزة نوعية في تطور المادة. كان “الانفجار الكمبري” -قبل حوالي 600 مليون سنة، حيث انفجرت الحياة المعقدة متعددة الخلايا ذات الأجزاء الصلبة- قفزة نوعية أخرى إلى الأمام في التطور. خلال العصر الباليوزي الأدنى، منذ حوالي 400 إلى 500 مليون سنة، ظهرت أول الأسماك الفقرية. أصبح هذا التصميم الثوري مهيمنا ومتقدما من خلال البرمائيات (التي عاشت في الماء وعلى اليابسة) ومن خلال الزواحف، ثم تفرع أخيرا إلى كائنات ذوات الدم الحار: الطيور والثدييات. بلغت هذه القفزات الثورية ذروتها في البشر، الذين لديهم القدرة على التفكير. التطور هو سيرورة طويلة حيث يؤدي تراكم التغييرات داخل وخارج الكائن الحي إلى قفزة، إلى حالة تطور أعلى كيفيا.

وتماما مثل الضغوط الهائلة التي تتراكم تحت السطح وتضرب بشكل دوري القشرة الأرضية في شكل زلازل، فإن التغييرات التدريجية في وعي العمال تؤدي إلى انفجار في الصراع الطبقي. إن الإضراب في المصنع لا ينتج عن “محرضين” خارجيين، بل ينتج عن تراكم التغيرات داخل المصنع التي تدفع العمال في النهاية إلى خوض الإضراب. قد يكون “سبب” الإضراب شيئا صغيرا وعرضيا، استراحة شاي على سبيل المثال، لكنه يكون “القشة الأخيرة التي قسمت ظهر البعير”، إذا أردنا استخدام تعبير شائع (ديالكتيكي). يكون العامل المحفز الذي من خلاله يتغير الكم إلى كيف.

واليوم هناك سلسلة كاملة من الانتصارات الانتخابية لليسار داخل النقابات العمالية البريطانية، والتي هي نتاج لتراكم طويل من السخط داخل بين قواعد النقابات. لقد أدت عشرون عاما من الهجمات المريرة على الطبقة العاملة إلى إنتاج هذه التغيرات في قمة النقابات العمالية. وحدهم أولئك المسلحين بالفلسفة الماركسية من يمكنهم توقع هذا التطور المتضمن في الظرف الموضوعي المتغير. هذه التغيرات في المزاج، التي تحدث بالفعل داخل النقابات العمالية، ستنعكس حتما داخل حزب العمال وفي مرحلة معينة ستؤدي إلى سقوط اليمين البليري. 

دائما ما كان اليساريون المتطرفون، الذين يعيشون في هوامش الحركة العمالية، يعتبرون حزب العمال شيئا لا يمكن تغييره أبدا. إنهم غير قادرين على التفكير بشكل ديالكتيكي، ولديهم نظرة تجريبية وصورية لا ترى سوى سطح الواقع. لقد فشلوا في التمييز بين المظهر والواقع -بين المظهر المباشر الواضح للملاحظة وبين السيرورات الخفية والترابطات والقوانين التي تكمن وراء الحقائق المرصودة. إنهم، بعبارة أخرى، عاجزون عن رؤية السيرورات العميقة التي تحدث أمام أعينهم. يهتفون قائلين إن: “البليرية تهيمن على حزب العمال!”، ويرفعون أيديهم في يأس. إنهم خاضعون لسحر المنطق الصوري، ولا يفهمون السيرورة التي تتراكم والتي ستقوض حتما البليرية، وتؤدي إلى انهيارها، بشكل حتمي مثلما يلي النهار الليل. وكما كانوا قد شطبوا في الماضي النقابات اليمينية من حساباتهم، يقومون اليوم بشطب حزب العمال من حساباتهم. لكن على أساس الأحداث وضغوط الحركة النقابية اليسارية، سوف يتحرك حزب العمال، بالنظر إلى جذوره في النقابات العمالية، حتما في اتجاه مماثل.

لقد أكد ماركس على أن مهمة العلم هي دائما الانتقال من المعرفة المباشرة للمظاهر إلى اكتشاف الواقع، والجوهر، والقوانين من وراء تلك المظاهر. وكتاب ماركس “رأس المال” هو مثال جيد على هذه المنهج. كتب ماركس إلى إنجلز قائلا إن: “طريقة تفكير الاقتصاديين المبتذلين مستمدة من حقيقة أنه فقط الشكل المباشر الذي تظهر فيه العلاقات هو الذي ينعكس في الدماغ، وليس روابطها الداخلية”. (27 يونيو 1867)

يمكن قول الشيء نفسه عن أولئك الذين شطبوا في الماضي الاتحاد السوفياتي من حساباتهم باعتبارهم له “رأسمالية دولة”. لم يكن للنظام الستاليني أية علاقة مع الاشتراكية. لقد كان نظاما قمعيا، حيث كانت للعمال حقوق أقل مما كان في الغرب. لكنهم عوض القيام بتحليل علمي للاتحاد السوفياتي، أعلنوا ببساطة أنه رأسمالية دولة. وكما أوضح تروتسكي فإن أنصار النظرية القائلة بأن الاتحاد السوفياتي رأسمالية دولة ينظرون إليه من خلال أعين المنطق الصوري. الواقع بالنسبة لهم إما أسود أو أبيض. والاتحاد السوفياتي إما هو دولة اشتراكية رائعة، كما يقول الستالينيون، أو يجب أن يكون نظام رأسمالية (دولة). مثل هذا التفكير شكلي بحت. إنهم، كما أوضح تروتسكي، لم يفهموا أبدا إمكانية انحطاط الدولة العمالية إلى شكل مشوه مزمن من أشكال الحكم البروليتاري. من الواضح أن الثورة مرت بسيرورة انحطاط بسبب عزلتها في بلد متخلف. ومع ذلك لم يضع كل شيء، طالما بقي الاقتصاد المؤمم المخطط قائما. لم تكن البيروقراطية طبقة سائدة جديدة، بل زائدة طفيلية استولت على الدولة، واغتصبت السلطة السياسية. كان لا بد من  ثورة سياسية جديدة للقضاء على البيروقراطية وإعادة بناء السوفييتات والديمقراطية العمالية.

وضع أنصار نظرية رأسمالية الدولة أنفسهم في ورطة، وخلطوا بين الثورة والثورة المضادة، وبين الثورة المضادة والثورة. ففي أفغانستان دعموا المقاتلين الأصوليين الرجعيين بوصفهم “مقاتلين من أجل الحرية” ضد “الإمبريالية” الروسية. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي والتحرك لاستعادة الرأسمالية منذ عام 1991 فصاعدا، وقفوا على الحياد في مواجهة ثورة مضادة رأسمالية حقيقية.

وحدة الأضداد

 قال هيغل:

التناقض هو مصدر كل حركة وحياة؛ ولا يمكن لأي شيء أن تكون له حركة وقوة وتأثير إلا بقدر ما يحتوي على تناقض”. وقال لينين: ” يمكن تعريف الديالكتيك، باختصار، على أنه مذهب وحدة الأضداد. وهذا يجسد جوهر الديالكتيك….

العالم الذي نعيش فيه هو وحدة من التناقضات أو وحدة من الأضداد: الحرارة والبرودة، النور والظلام، العمل والرأسمال، الولادة والموت، الثراء والفقر، الموجب والسالب، الازدهار والركود، الفكر والوجود، المحدود واللانهائي، التنافر والتجاذب، اليسار واليمين، فوق وتحت، التطور والثورة، الضرورة والصدفة، البيع والشراء، وما إلى ذلك.

يطلق على وحدة فكرتين متناقضين اسم مفارقة. المفارقة هي الاعتراف بأن موقفين متناقضين أو متعارضين قد يكونان كلاهما صحيحان. وهذا انعكاس في الفكر لوحدة الأضداد الموجودة في العالم المادي.

ليست الحركة والمكان والزمان سوى نمط لوجود المادة. الحركة، كما أوضحنا، هي تناقض -فهي الوجود في مكان وفي آخر في نفس الوقت. إنها وحدة الأضداد. قال هيغل: “الحركة تعني التواجد في هذا المكان وعدم التواجد فيه؛ هذه هي استمرارية المكان والزمان، وهذا في المقام الأول هو أول ما يجعل الحركة ممكنة”.

لفهم شيء ما، في جوهره، من الضروري البحث عن تلك التناقضات الداخلية. في ظل ظروف معينة، يكون العام هو الفرد، والفرد هو العام. تتحول الأشياء إلى أضدادها -إذ يمكن للسبب أن يصير نتيجة ويمكن للنتيجة أن تصير سببا- لأنها مجرد روابط في سلسلة لا تنتهي في مسار تطور المادة.

قال هيغل: “السالب هو إلى حد ما موجب”. الفكر الديالكتيكي هو “استيعاب التناقض في وحدته”. ويذهب هيغل في الواقع إلى أبعد من ذلك، إذ يقول:

التناقض هو أصل كل حركة وحيوية، ولا يمكن لأي شيء أن يتحرك ويكون له دافع ونشاط إلا بقدر ما يحتوي على تناقض… يتحرك شيء ما، ليس لأنه موجود هنا في وقت ما وهناك في وقت آخر، بل لأنه في نفس الوقت هو هنا وليس هنا، وهو في كليهما موجود وغير موجود. علينا أن نعترف للديالكتيكيين القدامى إثباتهم لوجود التناقضات في الحركة؛ لكن ما يترتب عن ذلك ليس أنه لا توجد حركة، بل بالأحرى أن الحركة في حد ذاتها هي تناقض.

وبالتالي فإن الشيء، بالنسبة لهيغل، يعيش بقدر ما يحتوي على تناقض، مما يمنحه الحركة الذاتية.

طرح فلاسفة الذرة اليونانيون لأول مرة النظرية الثورية القائلة بأن العالم المادي يتكون من ذرات، والتي اعتبروها أصغر وحدة للمادة. الكلمة اليونانية Atomos تعني غير قابل للتجزئة. كان ذلك تخمينا عبقريا. وقد أثبت العلم في القرن العشرين أن كل شيء مكون من ذرات، على الرغم من أنه اكتشف لاحقا وجود جسيمات أصغر. تحتوي كل ذرة على نواة في مركزها، تتكون من جسيمات تحت ذرية تسمى البروتونات والنيوترونات. وتدور حول النواة جسيمات تعرف بالإلكترونات. جميع البروتونات تحمل شحنة كهربائية موجبة، وبالتالي تتنافر مع بعضها البعض، لكنها مرتبطة ببعضها البعض بنوع من الطاقة يعرف باسم القوة النووية الشديدة. وهذا يدل على أن كل ما هو موجود مبني على وحدة الأضداد وله حركة ذاتية لـ “الدافع والنشاط”، على حد تعبير هيغل.

يعتبر مستوى السكر في الدم ضروريا للحياة عند البشر. لكن المستوى المرتفع جدا من المحتمل أن يؤدي إلى غيبوبة السكري، والمستوى القليل جدا يؤدي إلى عدم قدرة الشخص على تناول الطعام. يتم تنظيم هذا المستوى الآمن من خلال معدل إطلاق السكر في مجرى الدم عن طريق هضم الكربوهيدرات، ومعدل تحويل الغليكوجين أو الدهون أو البروتين المخزن إلى سكر، ومعدل إزالة السكر واستخدامه. فإذا ارتفع مستوى السكر في الدم، يزداد معدل الاستخدام عن طريق إطلاق المزيد من الأنسولين من البنكرياس. أما إذا انخفض، فيتم إطلاق المزيد من السكر في الدم، أو يشعر الشخص بالجوع ويستهلك مصدرا للسكر. خلال هذا التنظيم الذاتي للقوى المتعارضة، للتغذية الإيجابية والسلبية،  يتم الحفاظ على مستوى السكر في الدم ضمن حدود مقبولة.

يشرح لينين هذه الحركة الذاتية في ملاحظة عندما يقول:

الديالكتيك هو العلم الذي يوضح كيف يمكن أن تكون الأضداد وكيف تصير متطابقة -تحت أي ظروف تكون متطابقة، وتتحول إلى بعضها البعض- ولماذا يجب على العقل البشري استيعاب هذه الأضداد ليس باعتبارها ميتة وجامدة، بل باعتبارها حية ومشروطة ومتحركة، تتحول إلى بعضها البعض.

كما شدد لينين بشكل كبير على أهمية التناقض باعتباره قوة دافعة للتطور، حيث قال:

من المعروف للجميع، أنه في كل المجتمعات، تتعارض مطامح البعض مع مطامح الآخرين، وأن الحياة الاجتماعية مليئة بالتناقضات، وأن التاريخ يكشف لنا عن الصراع بين الأمم والمجتمعات، وكذلك داخل الأمم والمجتمعات، كما أنه يبين لنا تعاقب فترات الثورة والردة الرجعية، والسلام والحرب، والركود والتقدم السريع أو الانحطاط.

يتضح هذا بشكل أفضل من خلال الصراع الطبقي. تتطلب الرأسمالية وجود طبقة رأسمالية وطبقة عاملة. فالصراع على فائض القيمة الذي يخلقه العمال ويستولي عليه الرأسماليون يؤدي إلى صراع تناحري من شأنه أن يوفر الأساس للإطاحة النهائية بالرأسمالية وحل التناقض من خلال إلغاء الطبقات.

نفي النفي

إن المسار العام للتطور التاريخي ليس مسارا خطيا صاعدا، بل هو مسار تفاعل معقد لا تتحقق فيه كل خطوة إلى الأمام إلا على حساب خطوة جزئية إلى الوراء. ثم يتم تصحيح تلك التراجعات، بدورها، في المرحلة التالية من التطور.

يشرح قانون نفي النفي التكرار على مستوى أعلى لميزات وخصائص معينة للمستوى الأدنى والعودة الظاهرية للسمات السابقة. هناك صراع مستمر بين الشكل والمضمون وبين المضمون والشكل، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحطيم الشكل القديم وتغير المضمون.

يمكن تصوير هذه السيرورة برمتها على أنها لولبية، حيث تعود الحركة إلى الموضع الذي بدأت به، لكن عند مستوى أعلى. وبعبارة أخرى فإن التقدم التاريخي يتم إحرازه من خلال سلسلة من التناقضات. وعندما يتم نفي المرحلة السابقة، فإن هذا لا يمثل القضاء التام عليها. إنه لا يمحو بشكل كامل المرحلة التي تم نفيها.

وكما أشار ماركس في المجلد الأول من كتاب رأس المال فإن: “نمط التملك الرأسمالي، الذي ينبثق من نمط الإنتاج الرأسمالي، وبالتالي الملكية الخاصة الرأسمالية، هي النفي الأول للملكية الخاصة الفردية القائمة على عمل الفرد. لكن الإنتاج الرأسمالي يخلق نفيه بنفس حتمية السيرورة الطبيعية. إنه نفي النفي”.

يقدم إنجلز في كتابه أنتي دوهرينغ سلسلة كاملة من الأمثلة لتوضيح قانون نفي النفي، حيث يقول على سبيل المثال: “دعونا نأخذ حبة الشعير. يتم طحن الملايين من حبوب الشعير وغليها وتخميرها ثم استهلاكها. لكن إذا توفرت لحبة الشعير هذه الشروط التي تكون طبيعية بالنسبة لها، إذا سقطت على تربة مناسبة، فعندئذ تحت تأثير الحرارة والرطوبة يحدث تغيير معين، فتنبت؛ وعلى هذا النحو تتوقف الحبة عن الوجود، يتم نفيها، وفي مكانها تظهر النبتة التي نشأت منها، التي هي نفي الحبة. لكن ما هي سيرورة حياة الطبيعية لهذا النبتة؟ إنها تنمو وتزهر ويتم تخصيبها، وأخيرا تنتج حبوب الشعير مرة أخرى، وبمجرد ما تنضج هذه الأخيرة، يموت الساق، وبالتالي يتم نفيها بدورها. ونتيجة لهذا النفي تعود لنا مرة أخرى حبة الشعير الأصلية، لكن ليس كوحدة واحدة، بل على شكل عشرة أو عشرين أو ثلاثين ضعفا”.

تعيش حبة الشعير وتتطور عن طريق العودة إلى نقطة البداية، لكن عند مستوى أعلى. حبة واحدة أنتجت الكثير من الحبوب. ومع مرور الوقت أيضا، تتطور النباتات من حيث الكيف والكم. حيث أظهرت الأجيال المتعاقبة اختلافات، وأصبحت أكثر تكيفا مع بيئتها.

ويعطي إنجلز مثالا آخر من عالم الحشرات. “الفراشات، على سبيل المثال، تنشأ من البويضة من خلال نفي البويضة، وتمر بتحولات معينة حتى تصل إلى مرحلة النضج الجنسي، فتتزاوج وتنتفي بدورها، وتموت بمجرد اكتمال عملية التزاوج وتضع الأنثى العديد من بيضها”.

هيغل وماركس

هيغل، الذي كان مفكرا عملاقا، حقق الكثير من الاكتشافات العظيمة. لقد كان ذلك دينا اعترف به ماركس مرارا وتكرارا. يقول ماركس: “الغموض الذي يعاني منه الديالكتيك بين يدي هيغل، لا يمنعه بأي حال من أن يكون أول من قدم شكل عمله العام بطريقة شاملة وواعية”. ومع ذلك فقد تعرض نظام هيغل الفلسفي لإجهاض كبير. لقد عانى من تناقض داخلي غير قابل للشفاء. مفهوم هيغل للتاريخ هو مفهوم تطوري، حيث لا يوجد شيء نهائي أو أبدي. ومع ذلك فإن نظامه ادعى أنه الحقيقة المطلقة، في تناقض تام مع قوانين الفكر الديالكتيكي. وبينما دافع هيغل عن الوضع القائم في ألمانيا آنذاك، فإن الديالكتيك نظرة ثورية للتغير المستمر. بالنسبة لهيغل كل ما هو واقعي هو عقلاني. لكن باستخدام الديالكتيك الهيغيلي، فإن كل ما هو واقعي سيصير غير عقلاني. كل ما هو موجود محكوم بالفناء. وهنا تكمن الأهمية الثورية للفلسفة الهيغيلية.

السعي إلى حل هذا التناقض أدى إلى المادية، لكن ليس المادية الميكانيكية القديمة، بل المادية القائمة على العلوم والتطورات الجديدة. كتب بليخانوف: “عادت المادية مرة أخرى مستفيدة من كل المكتسبات التي حققتها المثالية. وقد كان أهم تلك المكتسبات هو المنهج الديالكتيكي، دراسة الظواهر في تطورها، في ظهورها ودمارها. وقد كان كارل ماركس هو العبقري الذي مثل هذا الاتجاه الجديد للفكر”. وبفعل التطورات الثورية التي شهدتها أوروبا في 1830-1831، انقسمت المدرسة الهيغلية إلى يسار ويمين ووسط.

كان أبرز ممثل لليسار الهيغلي هو لودفيغ فيورباخ الذي تحدى الأرثوذكسية القديمة، وخاصة الدين، ووضع المادية في المركز مرة أخرى. كتب فيورباخ قائلا: ” ليست للطبيعة بداية ولا نهاية. كل شيء فيها هو في تفاعل متبادل، كل شيء هو في نفس الآن نتيجة وسبب، وكل شيء فيها متعدد الجوانب ومتبادل…”، مضيفا أنه لا يوجد هناك مكان للإله. “ينزع المسيحيون روح الإنسان ونفسه من جسده ويجسدون هذه الروح الممزقة غير المجسدة في إلههم”. وعلى الرغم من حدود فكر فيورباخ، فقد رحب ماركس وإنجلز بحماس بالاختراق الجديد الذي حققه.

كتب إنجلز:

لكن في هذه الأثناء دفعت ثورة 1848 الفلسفة بأكملها جانبا كما تم دفع فيورباخ نفسه إلى الخلفية”. وقد تُركت المهمة لماركس وإنجلز لكي يطبقا بتناسق الديالكتيك على المادية الجديدة، منتجين بذلك المادية الديالكتيكية. لم تكن الفلسفة الجديدة بالنسبة لهما فلسفة مجردة، بل مرتبطة ارتباطا مباشرا بالممارسة.

“الديالكتيك باختصار هو علم القوانين العامة للحركة، لكل من العالم الخارجي والفكر البشري، وهما مجموعتان من القوانين المتطابقة في الجوهر،  إلا أنها تختلف في تعبيرها بقدر ما يمكن للعقل البشري أن يطبقها بوعي، بينما في الطبيعة، وفي الجزء الأكبر من تاريخ البشرية حتى الآن، تؤكد هذه القوانين نفسها بشكل غير واع، على شكل ضرورة خارجية، في خضم سلسلة لا نهاية لها من الحوادث العرضية.

لم يترك لا ماركس ولا إنجلز وراءهما كتابا شاملا عن الديالكتيك في حد ذاته. كان ماركس منشغلا بكتاب رأس المال. وكان إنجلز ينوي تأليف مثل ذلك الكتاب، لكنه لم يجد الوقت الكافي لذلك بسبب الحاجة إلى إكمال كتاب رأس المال بعد وفاة ماركس. إلا أنه كتب الكثير هذا الموضوع، لا سيما في أنتي دوهرينغ وديالكتيك الطبيعة. علق لينين على ذلك قائلا: “إذا كان ماركس لم يترك وراءه ‘منطقا’، فإنه قد ترك منطق رأس المال، ويجب استخدام ذلك بالكامل. ففي رأس المال، طبق ماركس في نفس الوقت المنطق العلمي والديالكتيك ونظرية المعرفة المادية (ليست هناك حاجة لثلاث كلمات: إنه شيء واحد وحيد) والذي أخذ كل شيء ذي قيمة عند هيغل وطوره أكثر”.

أصبح بعض العلماء اليوم، ومعظمهم من العلوم الطبيعية، مدركين لأهمية الديالكتيك، الذي فتح أعينهم على المشاكل في مجالات تخصصهم. وقد تمت مناقشة هذه العلاقة بين العلم والمادية الديالكتيكية بشكل واف في كتاب آلان وودز وتيد غرانت ” Reason in Revolt”. لقد أظهرا، إلى جانب إنجلز، أن الطبيعة ديالكتيكية بالكامل. 

وبصرف النظر عن ستيفن جيه غولد ونيلس إلدردج، فإن ريتشارد ليفينز وريتشارد ليونتين، اللذان يعتبران نفسيهما ماديين ديالكتيكيين، قد كتبا هما أيضا عن تطبيق الديالكتيك في مجال علم البيولوجيا في كتابهما The Dialectical Biologist، حيث قالا:

إن ما يميز العالم الديالكتيكي، من جميع جوانبه، كما وصفناه هو أنه دائم الحركة. تصبح الثوابت متغيرات، وتصبح الأسباب نتائجا، وتتطور الأنظمة، وتقضي على الظروف التي أدت إلى ظهورها. وحتى العناصر التي يبدو أنها مستقرة، تكون في توازن ديناميكي للقوى يمكنه فجأة أن يصير غير متوازن، كما هو الحال عندما تصير كتلة رمادية باهتة من المعدن بحجم حرج، كرة نارية أكثر إشراقا من ألف شمس. ومع ذلك فإن الحركة ليست غير مشروطة وموحدة. تتطور الكائنات الحية وتتمايز، ثم تموت وتتحلل. تنشأ الأنواع لكنها تنقرض حتما. حتى في العالم الفيزيائي البسيط لا نجد حركة موحدة. حتى الأرض التي تدور حول محورها قد تباطأت خلال الزمن الجيولوجي. إذن يبدو أن تطور الأنظمة عبر الزمن هو نتيجة لقوى متعارضة وحركات متعارضة.

لقد أدى ظهور القوى المتعارضة إلى ظهور المفهوم الأكثر صعوبة وإثارة للجدل، لكنه الأكثر مركزية، في الفكر الديالكتيكي، أي مبدأ التناقض. التناقض، بالنسبة للبعض، هو مبدأ ابستيمولوجي فقط. فهو يصف كيفية فهمنا للعالم. من خلال تاريخ من النظريات المتعارضة التي تقود، في تناقض مع بعضها البعض وتعارض مع الظواهر المرصودة، إلى رؤية جديدة للطبيعة. نظرية كوهن (1962) للثورة العلمية لديها بعض هذه النكهة من التناقض والحل المستمرين، مما يفسح المجال أمام تناقض جديد. بينما بالنسبة للآخرين، يصبح التناقض خاصية أنطولوجية، على الأقل للوجود الاجتماعي البشري. أما بالنسبة لنا فإن التناقض ليس مبدءا ابستيمولوجيا وسياسيا فقط، بل أيضا أنطولوجيا بالمعنى الأوسع للكلمة. توجد التناقضات بين القوى في كل مكان في الطبيعة، ليس فقط في مؤسسات المجتمع البشري. يعود ارث هذا الديالكتيك إلى إنجلز (1880) الذي كتب، في ديالكتيك الطبيعة، أنه “بالنسبة لي لا يمكن أن تكون هناك مسألة بناء قوانين ديالكتيك الطبيعة، بل اكتشافها فيها وتطويرها منها.

لطالما شدد الماركسيون على وحدة النظرية والممارسة. “لم يعمل الفلاسفة حتى الآن إلا على تفسير العالم بطرق مختلفة؛ لكن المهمة الآن تغييره”، كما أشار ماركس في أطروحاته عن فيورباخ. يقول هيغل: “إذا كانت الحقيقة مجردة فلا بد أنها غير صحيحة”. كل الحقائق ملموسة. علينا أن ننظر إلى الأشياء كما هي، بهدف فهم تطورها المتناقض الداخلي. هذا له نتائج مهمة للغاية، خاصة بالنسبة لأولئك الذين يكافحون من أجل تغيير المجتمع. وعلى عكس الاشتراكيين الطوباويين الذين اعتبروا الاشتراكية مجرد فكرة رائعة، فإن الماركسيين يرون أن تطور الاشتراكية ناجم عن تناقضات الرأسمالية. إن المجتمع الرأسمالي، بقواه الإنتاجية المتطورة للغاية وتقسيمه العالمي للعمل، قد أعد الأساس المادي لإقامة مجتمع لا طبقي. لقد أدى إلى ظهور الطبقة العاملة التي يجعلها وجودها نفسه في صراع تناحري مع الرأسمالية، والتي، على أساس تجربتها الملموسة، ستدرك تماما مكانتها في المجتمع وتتحول، على حد تعبير ماركس، من “طبقة في ذاتها” إلى “طبقة لذاتها”.

يقوم الديالكتيك على الحتمية، لكن ليس لهذا أية علاقة بالجبرية التي تنكر وجود الصدفة في الطبيعة والمجتمع والفكر. الحتمية الديالكتيكية تؤكد وحدة الضرورة والصدفة، وتوضح أن الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. جميع الأحداث لها أسباب، سواء الأحداث الضرورية أو العرضية. لو لم تكن هناك قوانين سببية في الطبيعة، لكان كل شيء في حالة من الفوضى المطلقة. سيكون ذلك وضعا مستحيلا حيث لا يمكن لأي شيء أن يوجد. لذلك فكل شيء يعتمد على كل شيء آخر، كما هو الحال في السلسلة المستمرة من الأسباب والنتائج.  دائما ما يكون لأحداث معينة صفة عرضية، لكنها لا تنشأ إلا نتيجة لضرورة أعمق. في الواقع، تتجلى الضرورة من خلال سلسلة من الحوادث. للحوادث مكانها بدون شك، لكن الشيء الأساسي هو اكتشاف ما هي القوانين التي تحدد تلك الضرورة الأعمق.

من وجهة نظر الملاحظة السطحية، قد يبدو كل شيء عرضيا أو مفتوحًا للصدفة. يمكن أن يظهر هذا بشكل خاص عندما لا تكون لدينا معرفة بالقوانين التي تحكم التغير وبترابطها. قال إنجلز في كتابه لودفيغ فيورباخ: “عندما يكون للحادث السطحي تأثير، فإنه في الواقع محكوم دائما بقوانين داخلية خفية، والأمر يتعلق فقط باكتشاف هذه القوانين”.

يتبع تطور المادة في الطبيعة مسارا معينا، على الرغم من أن كيف ومتى وبأي شكل يتحقق ذلك يعتمد على الظروف العرضية. وعلى سبيل المثال، فإن نشأة الحياة على سطح الأرض يعتمد على سلسلة كاملة من العوامل العرضية، مثل وجود الماء والعناصر الكيميائية المختلفة، والمسافة التي تفصل الأرض عن الشمس، والغلاف الجوي، وما إلى ذلك. يقول إنجلز: ” “إنها طبيعة المادة أن تفضي إلى تطور الكائنات المفكرة. إلا أن هذا يحدث بالضرورة دائما عندما تكون الظروف (التي ليست بالضرورة متطابقة في جميع الأماكن والأوقات) لذلك موجودة… ما يعتبر ضروريا يتكون من مجرد حوادث، وما يسمى بالصدفة هو الشكل الذي تختبئ وراءه الضرورة”.

كتب المؤرخون السطحيون أن الحرب العالمية الأولى “سببها” اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو. ليس تلك الواقعة بالنسبة للماركسي ليست سوى حادث تاريخي، بمعنى أن تلك الصدفة كانت بمثابة ذريعة، أو محفز، للصراع العالمي الذي كان بالفعل حتميا بسبب التناقضات الاقتصادية والسياسية والعسكرية للإمبريالية. إذا لو أن القاتل لم ينجح في مهمته، أو لو أن ولي العهد لم يولد أصلا، لكانت الحرب ستبقى حتمية، بهذه الحجة الدبلوماسية أو تلك. كانت الضرورة ستعبر عن نفسها من خلال “حادث” مختلف.

كل ما هو موجود موجود بالضرورة، على حد تعبير هيغل. لكن، وبالمثل، فإن كل شيء موجود محكوم بالفناء وأن يتحول إلى شيء آخر. وهكذا فإن ما هو “ضروري” في وقت ما ومكان ما يصير “غير ضروري” في وقت آخر ومكان آخر. كل شيء ينتج نقيضه، والذي سيتغلب عليه وينفيه. هذا صحيح بالنسبة للكائنات الحية الفردية، بقدر ما هو صحيح بالنسبة للمجتمعات والطبيعة بشكل عام.

“لا يختفي اي نظام اجتماعي على الإطلاق قبل ان تكون جميع قوى الانتاج التي يمكنها أن تتطور ضمنه قد تطورت؛ ولن تظهر علاقات انتاج جديدة قبل ان تكون الظروف المادية لوجودها قد نضجت في رحم المجتمع القديم ذاته. لذلك فان الجنس البشري دائما لا يطرح على نفسه سوى المشاكل التي يمكنه حلها؛ وإذا تفحصنا الامر عن كثب سنجد دائما ان المشكلة ذاتها لا تنشأ الا اذا كانت الظروف المادية الضرورية لحلها قد سبق ان تشكلت، أو أنها على الاقل في طور تشكلها”.

مثلت العبودية في وقتها قفزة هائلة إلى الأمام مقارنة مع البربرية. لقد كانت مرحلة ضرورية في مسار تطور قوى الإنتاج والثقافة والمجتمع البشري. وكما أوضح هيغل ببراعة فإنه: “ليس من العبودية تحرر الإنسان، بل من خلالها تحرر”.

وبالمثل فقد كانت الرأسمالية في الأصل مرحلة ضرورية وتقدمية في مسار تطور المجتمع البشري. لكن الرأسمالية اليوم، ومثلما كان الحال مع الشيوعية البدائية والعبودية والإقطاعية، قد توقفت منذ زمن بعيد عن أن تكون نظاما اجتماعيا ضروريا وتقدميا. لقد انحطت بفعل التناقضات العميقة المتأصلة فيها، وصار محكوما عليها بالهزيمة أمام القوى الصاعدة للمجتمع الجديد داخل المجتمع القديم، والتي تمثلها البروليتاريا الحديثة. إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية، تلك السمات الأساسية للمجتمع الرأسمالي، التي شكلت في الأصل خطوة كبيرة إلى الأمام، لم تعد تعمل الآن إلا على تقييد وتقويض قوى الإنتاج وتهديد جميع المكاسب التي تحققت خلال قرون من التطور البشري.

لقد صارت الرأسمالية الآن نظاما اجتماعيا منحطا بشكل كامل، يجب الإطاحة به واستبداله بنقيضه أي: النظام الاشتراكي، إذا كنا نريد بقاء الحضارة البشرية. الماركسية نظرية حتمية، لكنها ليست جبرية. فالرجال والنساء يصنعون التاريخ. لا يمكن تحقيق التغيير في المجتمع إلا من قبل الرجال والنساء الذين يسعون بوعي من أجل تحررهم. ونتيجة هذا الصراع الطبقي ليست محددة مسبقا. ومسألة من سينتصر تعتمد على العديد من العوامل، والطبقة الصاعدة التقدمية لها مزايا عديدة على قوى الردة الرجعية القديمة المتداعية. لكن النتيجة في نهاية المطاف سوف تعتمد على من هو المعسكر الذي لديه الإرادة الأقوى والتنظيم الأكبر والقيادة الأكثر مهارة وحزما.

سوف يمثل انتصار الاشتراكية مرحلة جديدة ومختلفة نوعيا في تاريخ البشرية. ولكي نكون أكثر دقة نقول إنه يمثل نهاية عصور ما قبل التاريخ للجنس البشري، وبداية تاريخ حقيقي.

لكن ومن ناحية أخرى ستشكل الاشتراكية عودة إلى الشكل الأول للمجتمع البشري -الشيوعية البدائية- ولكن على مستوى أعلى بكثير، مستوى سيعتمد على جميع المكاسب الهائلة التي تحققت طيلة آلاف السنين من المجتمع الطبقي. إن نفي المجتمع الطبقي للشيوعية البدائية قد نفته بدوره الاشتراكية. سوف يصبح اقتصاد الوفرة ممكنا من خلال تطبيق التخطيط الواعي على الصناعة والعلم والتقنية التي أنشأتها الرأسمالية على نطاق عالمي. وهذا بدوره سيقضي إلى الأبد على الفرق بين العمل الذهني واليدوي، وبين المدينة والريف، والصراع الطبقي الهمجي والمستنزف للطاقات، وسيمكن الجنس البشري أخيرا من تخصيص موارده لغزو الطبيعة، أو بعبارة إنجلز الشهيرة سيشكل: “قفزة الإنسان من عالم الضرورة إلى عالم الحرية”

روب سويل

ترجم عن النص الأصلي:

What is dialectical materialism?

تعليق واحد