خلال بداية الشهر السابق (يوليوز/تموز) اندلعت انتفاضة في جميع أنحاء ليبيا، حيث اقتحم المتظاهرون مبنى البرلمان في طبرق، برقة، واحرقوه جزئياً، وذلك بعد أن استخدمت الجماهير جرافة لتحطيم بوابات القصر. وقد كتب الرفيق روبيرتو سارتي، من الفرع الإيطالي للتيار الماركسي الأممي، هذه المقالة خلال اندلاع هذه الانتفاضة، ونشرت باللغة الإيطالية والإنجليزية، وننشر ترجمتها العربية نظرا لأن الأحداث التي أدت إلى اندلاع هذه الانتفاضة ما زالت قائمة ومرشحة للتطور.
أحاط آلاف المتظاهرين في طرابلس بالقصر الرئاسي. قامت الشرطة بتفريقهم، فانتقل المتظاهرون نحو مقر رئيس الوزراء. دفعتهم قوات الأمن للتراجع عبر إطلاق النار في الهواء، لكن الاحتجاجات لم تتوقف. وأقيمت حواجز يوم السبت [02 يوليوز] على الطرق الرئيسية شرق العاصمة وخاصة في تاجوراء. واندلعت مظاهرات حاشدة في جميع المدن الكبرى.
رفع الشعب الذي نزل إلى الشوارع مرة أخرى الشعار الأكثر شهرة في انتفاضات 2011: “الشعب يريد إسقاط النظام”. وهتف مئات الأشخاص، في بنغازي، معقل اللواء القوي خليفة حفتر: “ليبيا، ليبيا”، وطالبوا بظروف معيشية أفضل. وفي مصراتة حاول المتظاهرون اقتحام مبنى البلدية.
كان الشباب والعمال في الطليعة. إنهم يطالبون بدفع الأجور التي لم يتم دفعها منذ شهور، وبالكهرباء التي تنقطع في هذه الأسابيع الحارة لأكثر من 12 ساعة في اليوم، فيما بلغت درجات الحرارة 45 درجة. كما أثرت أزمة الغذاء، مع عدم تسلم القمح من أوكرانيا، بشكل كبير على البلاد.
اختار المتظاهرون ارتداء سترات صفراء، رمز الحركة الجماهيرية في فرنسا 2018/2019، هذا دليل على نظرتهم الأممية. ردد المتظاهرون في طرابلس: “لقد سئمنا، لقد سئمنا! الشعب يريد إسقاط الحكومات! نريد الكهرباء!”، وطالبوا بانتخابات جديدة.
قال أحد المتظاهرين: «نحن بلد منتج للنفط وتنقطع فيه الكهرباء كل يوم. هذا يعني أن البلاد يديرها أشخاص فاسدون».
الوضع في ليبيا يائس. فبسبب الجمود السياسي القائم، تراوح إنتاج ليبيا من النفط بين 100 ألف و150 ألف برميل يومياً، في النصف الأول من عام 2022، مسجلا انخفاضاً عن أكثر من 1,2 مليون برميل يومياً العام الماضي!
يعتبر عدم الثقة في جميع السياسيين سمة مشتركة للحركة، لكن العديد من المظاهرات عبرت أيضاً عن عدم ثقة في الميليشيات المسلحة التي انخرطت في حرب أهلية دموية منذ عام 2011 (تغذيها وتمولها القوى الأجنبية)، والتي أدت إلى خراب البلاد، وتلعب بشكل متزايد دوراً سياسياً.
والأكثر إثارة للاهتمام هو حقيقة أن الجماهير في طرابلس حملت صور عليها علامات “X”، ليس فقط صور السياسيين الليبيين، ولكن أيضاً على صورة ستيفاني ويليامز، مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا.
تتجاوز الحركة الانقسامات الإقليمية التي سببتها الحرب الأهلية وتقدم مطالب مشتركة، من طرابلس إلى برقة عبر فزان. إنها حركة عفوية تماماً. كما أوضح مراسل صحيفة “la Repubblica” الإيطالية إن: “لها سمات ربيع عربي جديد”.
الطبقة السائدة في جميع أنحاء العالم قلقة للغاية. دعا الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش، إلى “السلام” وحث المتظاهرين على “تجنب أعمال العنف”، وأدان صراحة الهجوم على البرلمان. يا له من نفاق قذر!
نفس الأمم المتحدة هي التي وضعت الأساس القانوني للتدخل العسكري، من خلال قرارها عدد: 1973 لعام 2011، والذي طالبت فيه بـ”وقف فوري لإطلاق النار” والسماح للإمبرياليين بإنشاء منطقة حظر طيران فوق البلاد.
أعطت الأمم المتحدة الضوء الأخضر لتحطيم ما كان ثورة حقيقية، مرتبطة بالربيع العربي عام 2011، مما أدى إلى مقتل القذافي وبدء الحرب الأهلية. الأمم المتحدة مسؤولة عن الكابوس الذي عاشت فيه الجماهير الليبية طوال الإحدى عشر سنة الماضية.
انهارت الدولة عملياً بعد التدخل الإمبريالي. ولأنها البلد التي تمتلك تاسع أكبر احتياطيات نفطية في العالم، أصبحت ليبيا ساحة معركة بين الميليشيات المتناحرة وأمراء الحرب، وكلهم مدعومون من قوى إقليمية أو دولية.
تركزت المواجهة، منذ عام 2015، على حكومة الوفاق الوطني في طرابلس من جهة، والجيش الوطني الليبي في طبرق من جهة أخرى.
شن حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، هجوماً للسيطرة البلاد بأكملها، لكنه فشل في النهاية في 2019-2020. ويدعم الجيش الوطني الليبي مصر والإمارات وفرنسا وروسيا.
كانت تركيا، بدعم من قطر وبقية ما يسمى بـ “المجتمع الدولي”، حاسمة في إيقاف حفتر من خلال عملية أردوغان العسكرية: “عاصفة السلام”.
نجت حكومة الوفاق الوطني، لكنها لم تنجح في هزيمة حفتر. تبع رؤساء ضعفاء جدًا بعضهم الواحد تلو الآخر، وكلهم كانوا رهائن للميليشيات.
تلقت هذه الميليشيات ملايين اليوروهات من الاتحاد الأوروبي، وخاصة من إيطاليا، مقابل السيطرة على البحر الأبيض المتوسط ومنع الهجرة “غير الشرعية”. «من 10 مليون في 2020 إلى 10,5 في 2021. تم تخصيص ما مجموعه 32,6 مليون لخفر السواحل الليبي منذ عام 2017؛ لقد ارتفع عدد الملايين التي أنفقتها إيطاليا على مهمات في البلد الواقعة في شمال إفريقيا إلى 271 مليوناً». زعم تقرير أوكسفام نفسه أن ما لا يقل عن 20 ألف مهاجر قد اختفوا في ليبيا في السنوات الخمس الماضية!
ثم توصل الجانبان إلى اتفاق بشأن إجراء انتخابات رئاسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي لكنها تأجلت. السبب؟ بالإضافة إلى المرشحين الرئيسيين، خليفة حفتر ورئيس الوزراء آنذاك عبد الحميد دبيبة، ظهر طرف ثالث هو سيف الإسلام القذافي، نجل العقيد الشهير. لقد تسبب المأزق وحطام البلاد في دفع شرائح من الجماهير، وخاصة من فزان، لكي تتطلع إلى الماضي.
في زمن القذافي، وبفضل بعض الإصلاحات الراديكالية (التي فشلت مع ذلك في الانفصال عن الرأسمالية)، كان لدى الجماهير على الأقل طعام وكهرباء على مدار 24 ساعة في اليوم! لذا، فلا عجب أن بعض المتظاهرين حملوا علماً أخضرًا يرمز لعهد القذافي. إنها الخطوة الأولى للاستيقاظ بعد سبات طويل.
كان السباق الثلاثي بدون فائز، أو أسوأ من ذلك، مع فوز سيف الإسلام القذافي، سيكون محرجاً للغاية بالنسبة للغرب. اشتدّت الاشتباكات داخل المؤسسات منذ ذلك الحين. حاول فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المعين في مارس/آذار من قبل البرلمان في طبرق، دخول طرابلس لتولي منصبه في العاصمة. ومع ذلك، فقد أُجبر على التراجع صباح يوم 17 مايو/أيار، بعد قتال عنيف مع الميليشيات المتمركزة في طرابلس.
يمكن أن تستمر حالة الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى أجل غير مسمى. لن تتراجع الميليشيات وحكومة الوفاق الوطني لأنهم يعلمون أنهم محميون. يسيطر أردوغان بشكل متزايد على الحياة العسكرية والسياسية في طرابلس. استولت تركيا، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، على خفر السواحل الليبي وبدأت تدرب أطقمه، وهي مهمة سبق أن نفذتها إيطاليا. مددت تركيا، في يناير/كانون الثاني، إقامة جنودها ومستشاريها العسكريين، الذين يقدر عددهم بنحو سبعة آلاف جندي، في ليبيا لمدة ثمانية عشر شهرًا. بدت الولايات المتحدة بعيدة، لكن تعيين أحد دبلوماسييها، ستيفاني ويليامز، كرئيسة لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، يظهر أن واشنطن تريد سيطرة أوثق على الوضع.
فيما يتعلق بطبرق، فقد حظي ترشيح فتحي باشاغا بتأييد قوي من فرنسا. إن باريس تحاول إعادة ترسيخ نفوذها في شمال وغرب إفريقيا بعد العديد من النكسات (أهمها انسحابها من مالي قبل بضعة أشهر). ساعدت روسيا حفتر بالمعدات والطائرات العسكرية، ولديها ما لا يقل عن 100 جندي من مجموعة فاغنر على الأرض.
هذه حرب دموية بالوكالة تختبر فيها القوى الإقليمية أدواتها الحربية وقواتها على حساب السكان العزل، بينما يحاول كل أمير حرب أيضاً أن يلعب لصالحه، على أساس قوته العسكرية. إنه صراع رجعي من جميع الأطراف.
بدا أن هذا الكابوس الحي لا نهاية له، حتى دخلت، الجماهير، القوة الدافعة الرئيسية للتاريخ، إلى المشهد في 1 يوليو/تموز. لقد أظهرت الحركة الرائعة للعمال والشباب الليبيين أنه حتى في أصعب الظروف، يمكن للجماهير أن تجد طريقها للنضال الجماعي.
أظهرت الجماهير في الشوارع أنهم يفهمون ما لا يريدون بكل وضوح: كل السياسيين والميليشيات والأمم المتحدة والقوى الأجنبية. يجب عليهم تطوير برنامج لتوضيح مطالبهم الإيجابية، على أساس تجربتهم النضالية.
ما هو ضروري هو: برنامج الثورة الاشتراكية، من ليبيا إلى كل العالم العربي، لإنهاء الإحدى عشر سنة الهمجية.
روبيرتو سارتي
7 يوليو/تموز 2022