تمثل ثورة 1905 أول دخول مهم للطبقة العاملة الروسية في تاريخها، لكنه كان دخولا مرتبكا محملا بكثير من الأوهام، فيه تعلمت الجماهير والثوريون من مدرسة التجربة المؤلمة. كانت ثورة ملحمية تطور فيها وعي الجماهير بسرعة، من تقديم العرائض والالتماسات لراعي الأمة الروسية “القيصر” وتحت قيادة الكهنة، للإضرابات السياسية والثورة المسلحة ضد الحكم المطلق بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي “الماركسيون”. كانت تجربة مهمة ومفيدة لكل التيارات السياسية، ومفرزة للبرامج والأفكار التي وضعت جميعها على محك التجربة، وبروفة ثورية بنيت عليها ثورة 1917.
دخلت المنظمات الثورية ثورة 1905 بقوة صغيرة وضعيفة ومبعثرة، ليس لها علاقات متجذرة وقوية مع العمال، لدرجة أن بعض المنظمات والجمعيات العمالية كانت تحت هيمنة الكهنة، ومن أحدها خرج الأب غابون الذي قاد مظاهرات الأحد الدامي. وهذا خلق أيضاً نقاشات بين الماركسيين حول المشاركة أو عدم المشاركة في الجمعيات والنقابات العلنية التي تقع تحت هيمنة العناصر اليمينية والدينية، والتي اتخذ فيها لينين موقفا واضحا وحازما، التوجه للجماهير والطبقة العاملة أينما كانوا مع الحفاظ على الخطاب الماركسي والراية الثورية نظيفة، ضدا على مواقف العصبويين والانتهازيين التي كانت ستؤدي إما لانعزال الماركسيين أو تذيلهم للحركة.
تحت قيادة الأب غابون ذو الشخصية الكاريزمية خرجت مظاهرة متوجه للقيصر لتقديم عريضة له، كانت تلك الدعوة المغرقة في لطفها ووداعتها هي الصدفة التي تعبر عن الضرورة التاريخية، كان النظام الروسي بالفعل يجلس فوق برميل بارود على وشك الانفجار. بسرعة انتشرت الدعوة بين الجماهير ولقت دعما مهولا، وأخذت الحركة تتطور في اتجاه إضراب عام، متأثرة بدعاية الاشتراكيين الديمقراطيين “الماركسيين” الذين ظلوا يعملون لمدة عشر سنوات على الأقل بين الجماهير، وهو ما كان له أثر أيضا في شعارات الجماهير، لكن هذا لا يعني أن الجماهير كانت تحت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بالعكس الحزب كان معزولا جدا.
أدى القمع الوحشي للجماهير يوم الأحد الدامي، 9 يناير 1905، لاشتعال الأوضاع، برغم كل مجهودات منظمي المظاهرات، الأب غابون وزملائه، لإظهار نواياهم الحسنة للقيصر، لدرجة منع الماركسيين من رفع اعلامهم الحمراء، خصوصاً في مقدمة المظاهرة، وهو ما دفع الماركسيين للرجوع للوراء، والمفارقة هذا هو ما حماهم جزئياً من القتل حينها.
وهنا تعلمت الطبقة العاملة، حتى شرائحها الأكثر تخلفاً، بسرعة فائقة، وراحت فكرة الثورة المسلحة تنتشر كالنار في الهشيم. سوط الثورة المضادة دفع الجماهير للذهاب أبعد مما كانت تنوي. لدرجة أن المحرضين الماركسيين، البلاشفة بشكل خاص، لما يكونوا يجدون أي صعوبة لإقناع الجماهير بفكرة الانتفاضة المسلحة والعنف الثوري.
وبدأت الثورة، كانت الطبقة الحاكمة تتلقى الضربات تلو الضربات، والأحداث كانت تزيد تجذر الجماهير والعمال، لكن كان الحزب ما يزال يعاني من الضعف والترهل، وهو ما دفع لينين للدعوة لفتح أبواب الحزب، عكس موقفه القديم الداعي لتقييد حق العضوية، لإفساح المجال لدخول عناصر جديدة شابة تحرك المياه الراكدة، وهو ما لم يكن يفهمه ويستوعبه رجال الحزب القدامى الذين اعتادوا على العمل السري.
ومع ذلك استمرت الحركة في التجذر، وحاول القيصر احتوائها بتقديم تنازلات من قبيل السماح بإنشاء مجلس الدوما، وحاول قمعها مرات أكثر، لكن الجماهير كانت تجاوزت كل ذلك، من إصلاحات وعقوبات. كانت الجماهير تكسب الأرض تلو الأخرى، وتنتزع المكسب تلو الأخر، وهو ما أعطى انطباع في مرحلة معينة أنه تم احتواء الثورة. لكن موجة جديدة من الإضرابات كانت كفيلة بإشعال الحريق من جديد، هذه المرة كانت في سان بيترسبورغ، وهنا بدأت السوفيتات في الظهور، والتي كانت إبداعا بروليتاريا خالصا، لم تكن من إبداع أي حزب. وانتشرت السوفيتات من سان بيترسبورغ لعموم روسيا، لكن بوتيرة مختلفة.
وهنا ننتقل للحديث عن تروتسكي، صاحب الدور الأبرز بين القادة الاشتراكيين الديمقراطيين في ثورة 1905، رغم صغر سنه الذي كان يبلغ حين تولى قيادة سوفييت سان بيترسبورغ 26 عاماً. مع بداية الثورة وضع تروتسكي نفسه في قلب الحركة العمالية، وفي قلب السوفيتات، كان هو من يكتب أغلبية البيانات ويلقي كثير من الخطب ويخوض نقاشات لا حصر لها مع الجميع، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة بين العمال.
وقتها بدأ تروتسكي، بمساعدة بارفوس، في إصدار جريدته، التي ذاع صيتها سريعاً لخطها السياسي الثوري والجذري والذي كان يتوافق مع المزاج الجماهيري حينها، كان يتم توزيع عشرات آلاف النسخ كل يوم. من وقتها تحول تروتسكي لواحد من أهم كوادر الحركة العمالية الروسية والأممية.
حتى بعد إلقاء القبض عليه ورفاقه في قيادة سوفييت سان بيترسبورغ، كان موقفه البطولي نادرا وقتها، ودارت نقاشات حول هذا الموضوع، والموقف الواجب الذي على الماركسيين أن يتبعوه في المحاكمات، تروتسكي كان له نفس رأي لينين وهو استخدام المحاكمات كمنبر للدعاية وتحويلها لمحاكمة للنظام. والخطاب الذي ألقاه في المحاكمة زاد من شعبيته وأهميته بين صفوف الحركة الاشتراكية الديمقراطية:
«إن السلطة التاريخية التي يتحدث باسمها المدعي العام في هذه المحكمة، هي سلطة العنف المنظم من طرف الأقلية ضد الأغلبية! أما السلطة الجديدة، التي كان السوفييت بشيرها، فتمثل الإرادة المنظمة للأغلبية التي تدعو الأقلية إلى التزام النظام. وبفضل هذا التمييز يقف الحق الثوري للسوفييت في الوجود فوق كل المزاعم القانونية والأخلاقية.»
حتى لينين كان ينظر إلى تروتسكي باحترام لمجهوده وشجاعته، وتحت ضغط الأحداث وضغط القواعد من أجل وحدة الحزب، الذين كانوا يعملون أحياناً كثيرة مع بعضهم البعض بدون انتظار أوامر القادة، كان يرغب في انضمام تروتسكي للبلاشفة، وهو ما لم يحدث حينها. وعندما عاد لينين إلى روسيا في أواخر 1905 أصدر دعوته بضرورة اعادة توحيد جناحي الحزب، وتحت وطأة الأحداث كان بدأ كثير من القادة المناشفة يميلون نحو اليسار، ولعبت جريدة تروتسكي دوراً مهما في هذا.
واستمرت الأحداث في الصعود والهبوط، ولم يكن يبدو أي أفق للانتصار، وبدأ الإرهاق يتسلل إلى الجماهير، وانتقل مركز الأحداث إلى موسكو بعد قمع سوفييت سان بيترسبورغ، وخاض عمال موسكو إضرابا مسلحا بطوليا، لكنهم ظلوا معزولين إلى حد كبير، خصوصاً مع عدم قيام عمال سان بيترسبورغ من جديد، وهو ما أدى لانتشار مزاج الإحباط، وكان ذلك يمثل صافرة النهاية لثورة 1905 وبداية الهزيمة.
«حتى في ظل وضع ثوري تتحرك مختلف شرائح الطبقة العاملة بسرعات مختلفة وفي أوقات مختلفة. وباستخدام لغة عسكرية، كان نقطة ضعف ثورة 1905 هي أن القسم الأكبر من جنود الاحتياط كان يدخل ميدان القتال في الوقت الذي كانت فيه فرق الطليعة قد تعبت وصارت غير قادرة على مواصلة الكفاح. وهذا ما يفسر الحقيقة التي تبدو متناقضة بأن المناطق العمالية الأكثر تخلفاً صارت مستعدة للنضال في حين أن القطاعات الأكثر تقدماً لم تستجب. تصلح نفس الملاحظة بالنسبة للفلاحين، والذين بدونهم كان محكوماً على الثورة في المدن بالفشل. لم تبدأ الحركة في القرى تأخذ أبعاداً هائلة إلا في عام 1906. لكن بحلول ذلك الوقت كان العمود الفقري للحركة العمالية قد انكسر، على الرغم من أن ذلك لم يكن واضحاً في ذلك الوقت.» – البلشفية طريق الثورة، آلان وودز، ص181.
وفي النهاية هزمت الثورة، التي وضعت الإضراب العام على جدول الأعمال والمناقشات في الحركة العمالية العالمية.
«كانت 1905 نقطة تحول حاسمة. فللمرة الأولى أصبحت الاشتراكية الديمقراطية الثورية قوة حاسمة داخل صفوف الطبقة العاملة في عموم روسيا. في غضون تسعة أشهر، شهدت الحركة تحولاً كاملاً. تطور وعي العمال بقفزات واسعة على أساس الأحداث العظيمة، مما هز أسس كل المعتقدات والعادات والتقاليد القديمة، ومكن الطبقة العاملة من التوصل إلى فهم حقائق وجودها الخاص. ومن خلال سيرورة تجارب متواصلة، اختبر الشعب العامل الخيارات السياسية الواحد منها تلو الآخر، بدءا من الكهنة والعرائض المتواضعة، مروراً بالإضرابات الاقتصادية لتحسين الأجور وظروف العمل، والإصلاحات الدستورية والبيانات الإمبراطورية، والمذابح الدموية، والمظاهرات في الشوارع وفرق الدفاع الذاتي العمالية، إلى أسمى تعبير عن الصراع الطبقي أي: الإضراب السياسي العام والانتفاضة المسلحة. وفي كل مرحلة تميز كسر الجماهير لأوهامها القديمة بصعود ونزول تيارات سياسية وشخصيات عرضية من جميع الأنواع . برز أمثال غابون وخروستاليوف – نوسار للحظة وجيزة على مسرح التاريخ قبل أن يختفوا إلى الأبد دون ترك أي أثر وراءهم. لكن التيار الثوري الحقيقي الذي تمثله البلشفية، وعلى الرغم من كل الأخطاء وفترات الصعود والهبوط الحتمية، تقدم بحزم لاحتلال مكانه الطبيعي على رأس البروليتاريا الثورية. الأسلحة النظرية والسياسية والتنظيمية، التي مكنت الحزب البلشفي من قيادة العمال إلى النصر في أكتوبر 1917، صقلت في نار ثورة 1905، وشحذت في ليل الردة الرجعية المظلمة الطويلة التي تلتها.» – البلشفية طريق الثورة، آلان وودز، ص 182.
ثورة 1905 المهزومة كانت تجربة لا بديل عنها لاختبار وصقل نظرية الماركسيين الذين ظلوا لسنوات طويلة تحت الأرض في العمل السري يبشرون بها، حسمت الكثير من الأسئلة النظرية في التجربة العملية، على الأقل بالنسبة للماركسيين الثوريين، منها مسألة الموقف تجاه الليبراليين الخونة الذين يمارسون دائماً رياضتهم المفضلة بالرقص على كل الحبال وخانوا الجماهير أكثر من مرة في 1905، والموقف من المنظمات العمالية والجماهيرية ذات القيادة اليمينية وغيرها، وهي التي حافظت على الراية الثورية البلشفية نظيفة وساعدت حتى العناصر النزيهة بين المناشفة للتخلص من أوهامها، وطرحت أيضاً الكثير من الأسئلة النظرية والعملية التي عمل الماركسيين على التنظير لها والعمل على إيجاد إجابة نظرية صحيحة لها، ومنها بداية نظرية تروتسكي حول الثورة الدائمة، ودور الطبقة العاملة الضروري في قيادة الجماهير لتحقيق مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية وضرورة الانتقال للثورة الاشتراكية، التي استمر في تطويرها لاحقاً، وهي النظرية التي لولاها لما انتصرت الثورة البلشفية في 1917.
محمد حسام، 27 مارس/ آذار 2022