آلان وودز
27 فبراير 2018
«الحرب هي أب الجميع ومَلِك على الجميع، جعلت من البعض آلهة ومن البعض بشرا، وجعلت البعض عبيدا والبعض أحرارا». (هيراقليطس)
«يعالجون جراح شعبي باستخفاف قائلين: سلام، سلام؛ في حين لا يوجد سلام» (إرميا 6:14)
كان مجلس الأمن الدولي قد وافق بالإجماع على قرار يطالب بوقف إطلاق النار لمدة 30 يوما في سوريا للسماح بتسليم المساعدات وعمليات الإجلاء الطبي. وكان من المفترض أن يمكِّن ذلك من تقديم المعونات الإنسانية إلى سكان الغوطة الشرقية، التي هي بلدة قريبة من دمشق تم الاستيلاء عليها لبعض الوقت من قبل القوات المعادية للرئيس الأسد، والتي تعرضت للقصف من قبل القوات الحكومية خلال الأسبوع الماضي.
قال الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريس، إن الوضع في الغوطة الشرقية بمثابة “الجحيم على الأرض”. وهذا صحيح، لكن هذا الوصف يمكن أن ينطبق على معظم أجزاء سوريا. لقد تعرض البلد كله للتدمير بسبب ست سنوات من الحرب، كانت خلالها سوريا ساحة معركة بين القوى الامبريالية المتنافسة وعملائها المحليين والإقليميين.
إن ما يظهر للعالم هو صورة مرعبة حيث يتم إسقاط البراميل المتفجرة والقذائف على منطقة ما يزال يعيش فيها 393.000 شخص تحت الحصار. ويقال إنه يتم استهداف المدارس والمستشفيات بشكل متعمد، كما تعرض الكاميرات جثث الأطفال القتلى والجرحى.
يشير المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقرا له، بأصابع الاتهام إلى النظام السوري وروسيا، على الرغم من أن هذه الأخيرة تنفي تورطها المباشر، كما أن الحكومة السورية قد نفت استهداف المدنيين وقالت إنها تحاول تحرير الغوطة الشرقية من الإرهابيين. من يجب أن نصدق؟
“الأمم المتحدة”
تأخر التصويت على القرار عدة مرات في كوميديا بغيضة تم تمثيلها داخل الأمم المتحدة. طالبت روسيا، حليفة الحكومة السورية، بتغيير النص، كما كان متوقعا. وكما كان متوقعا كذلك، اتهم الأميركيون، وأتباعهم في الجمعية العامة، موسكو بمحاولة ربح الوقت.
تأخر التصويت على القرار عدة مرات في كوميديا بغيضة تم تمثيلها داخل الأمم المتحدة.
صورة Flickr، مقر الأمم المتحدة
من الواضح أن الروس لم يكونوا على عجلة من أمرهم للتوصل إلى وقف لإطلاق النار لأن أصدقائهم السوريين كانوا يكسبون الحرب على الأرض. أما الأمريكيون فعلى النقيض من ذلك، كانوا في عجلة من أمرهم لأنهم كانوا يتعرضون للهزيمة. بينما مصير الشعب المسكين، الذي يعاني من ويلات حرب وحشية، لا يدخل في حسابات هؤلاء، سوى أن الأمريكيين وحلفائهم كانوا يستعملون صور تلك المعاناة من أجل كسب انتصار دعائي رخيص على روسيا.
اتهمت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية في الأمم المتحدة روسيا بأنها “تعطل المفاوضات”، واحتجت بغضب قائلة: «خلال الأيام الثلاثة التي أمضيناها لتبني هذا القرار، كم من الأمهات فقدن أطفالهن بسبب القصف الجوي والمدفعي؟» لكن من الغريب أنها لم تعبر عن نفس الحنان تجاه العدد الهائل من الأطفال وأمهاتهم الذين قتلوا بسبب القصف العشوائي الجوي والمدفعي على الموصل! هل يمكن أن يكون السبب في ذلك هو أن تلك القاذفات كانت موجهة من طرف الأميركيين؟ سنتكلم أكثر عن الموصل لاحقا.
وقال مبعوث روسيا في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبنزيا، إن وقف إطلاق النار لن يكون ممكنا بدون اتفاقات بين الفصائل المتحاربة وهاجم وابل الدعاية بخصوص الوضع في الغوطة الشرقية التي يسيطر عليها المتمردون. وأضاف «إننا نعرف أن الوضع الإنساني في سوريا مروع ويتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة، لكن من المهم الانخراط ليس فقط مع الغوطة الشرقية، بل يجب تقديم المساعدة إلى جميع أجزاء سوريا».
خلال المناقشات المطولة والساخنة، أصر الروس على أن يتم تغيير نص القرار حتى لا يتم اتهام دمشق بكونها الطرف الوحيد المسؤول عن العنف. وفي النهاية وقع الروس قرار مجلس الأمن الدولي الذي نص على فرض وقف لإطلاق النار لمدة 30 يوما في سوريا. لكن ما الذي تم توقيعه بالضبط؟ لقد كانت وثيقة وقف إطلاق النار المزعومة غامضة جدا وعمومية إلى درجة أنها لم تحدد حتى تاريخ تنفيذها، ولم تشر إلى الغوطة الشرقية تحديدا، بل إلى سوريا ككل.
السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي، التي أدركت أن الولايات المتحدة قد انهزمت مرة أخرى بفعل مناورات الدبلوماسية الروسية، دعت إلى أنه يجب تنفيذ وقف إطلاق النار فورا، لكنها قالت إنها تشكك في أن سوريا ستلتزم. وقد كانت بالطبع محقة في هذا الخصوص.
وفي النهاية خلص “وقف إطلاق النار” إلى خمس ساعات فقط كان من المفترض أن تقوم الأمم المتحدة خلالها بتقديم المساعدات الموعودة، وكان من المفترض أن يسمح خلالها للسكان بمغادرة المناطق المحاصرة. لم يحدث أي من هذا، فقد واصل الجهاديون قصف دمشق واستمرت القوات الجوية السورية في إلقاء القنابل ولم يتم تسليم أي مساعدات، وأولئك الذين حاولوا الفرار من الغوطة الشرقية تعرضوا للقصف بقذائف الهاون التي أطلقها الجهاديون لمنعهم من المغادرة.
ما الذي يوجد على المحك؟
يدعي الأمريكيون أنهم يقاتلون إلى جانب المتمردين “المعتدلين”، الذين يطلق عليهم الآن اسم جميل هو “النشطاء السوريين”. إنهم بالتأكيد نشيطون، وخاصة في مجال الإنترنت والدعاية، لكنهم لا شيء تقريبا من حيث القوة القتالية. إن الجماعات التي تسيطر بالفعل في الغوطة الشرقية هي الجهاديين المتشددين الذين يتبنون نفس الأيديولوجية السامة التي تتبناها داعش والقاعدة، اللتان تنتمي إليهما الجماعة الجهادية الرئيسية.
إن ما يسمى بالإسلاميين المعتدلين هو مجرد أكذوبة. فهم مجرد ورقة تين الهدف منها إخفاء حقيقة أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تدعم هؤلاء الوحوش الجهاديين في سوريا لتصفية الحسابات مع الأسد. لكن، لسوء حظهم، الأسد هو الذي يصفي، بدعم من روسيا وإيران، الحسابات مع المتمردين.
“جبهة فتح الشام” الجهادية السورية، كانت تعرف بجبهة النصرة قبل قطع علاقاتها الرسمية مع القاعدة/ صورة Flickr
وكانت “جبهة فتح الشام” الجهادية السورية، التي كانت تعرف بجبهة النصرة قبل قطع علاقاتها الرسمية مع القاعدة، في شهر يوليوز الماضي، قد أعادت تسمية نفسها في أكثر من مناسبة. لكن هذه التغييرات الحربائية لم تغير ولو مثقال ذرة من الطبيعة الرجعية لهذه الجماعة الجهادية. وكما يقول الفرنسيون: “Plus ça change, plus c’est la même chose” (“بقدر ما يتغير الشيء، بقدر ما يبقى هو نفسه”).
يعمل الجهاديون بشكل متعمد على عرقلة تقديم المساعدات الإنسانية إلى الغوطة الشرقية، ويمنعون المدنيين من مغادرة الضاحية. وكما هو الحال في حلب والموصل، فإنهم يحتفظون بمئات الرهائن، بمن فيهم النساء والأطفال. كما أنهم يواصلون قصف دمشق، مما يشكل بدوره انتهاكا “للهدنة الإنسانية”، على الرغم من أن وسائل الإعلام الغربية لا تولي ذلك اهتماما كبيرا.
قرار الأمم المتحدة لا يسري على أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش سابقا) أو النصرة، وكانت روسيا قد طالبت بأن يشمل القرار حتى المجموعات الأخرى التي “تتعاون معها”. وهكذا فقد أشار النص النهائي إلى أن العمليات قد تستمر ضد “الأفراد والجماعات والمشاريع والكيانات” المرتبطة بتنظيم الدولة أو القاعدة أو غيرها من الجماعات التي يحددها مجلس الأمن على أنها إرهابية. لكن من الصعب علينا أن نرى مَن مِن الجماعات “المتمردة” لا ينطبق عليها هذا الوصف!
لم تشمل الهدنة أكبر وأهم الجماعات المتمردة، أي الجهاديين وشركائهم. إن جبهة النصرة تنتمي إلى تنظيم القاعدة، على الرغم من محاولاتها إنكار ذلك. وبما أنهم يقومون بكل العمليات القتالية ويمتلكون الأسلحة الأكثر خطورة، وبالتالي فإنهم يملكون السلطة الحقيقية في الأراضي المحتلة بالغوطة الشرقية، فإن ما يسمى بوقف إطلاق النار لا يستحق حتى الورقة التي كتب عليها.
الموصل وحلب: قصة مدينتين
تثير وسائل الإعلام في الغرب ضجة كبيرة حول الغوطة الشرقية، تماما كما أثارت ضجة كبيرة حول حلب. لكنهم كانوا صامتين بشكل غريب عن مصير الموصل، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، ارتكبت فيها جرائم أكبر بكثير. استغرق الأمر من القوات العراقية، المدعومة من الولايات المتحدة، نحو تسعة أشهر لانتزاع الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية. وقد تم “تحرير” المدينة أخيرا في العاشر من يوليوز من العام الماضي، لكن التكلفة كانت فظيعة جدا. واليوم كل ما تبقى من تلك المدينة العظيمة هي فقط جبال من الأنقاض والحجارة التي تدفن تحتها عددا غير معروف من القتلى من الرجال والنساء والأطفال.
بقيت آلاف الأسر بدون مأوى، وتمت تسوية المدارس بالأرض، ودمرت شبكات التوزيع وتحولت الطرق السريعة إلى خراب. كما تضررت جميع جسور المدينة الخمسة الممتدة على نهر دجلة. وصار المجمع الاستشفائي الرئيسي، حيث دارت معارك حامية لأكثر من شهر، بناية محترقة. وتشمل قائمة الدمار ما يلي:
-
9 من المستشفيات الرئيسية العشرة
-
76 من المراكز الطبية الـ 98
-
6 جسور كبيرة على نهر دجلة
-
ثلاثة أرباع طرق الموصل
-
400 مؤسسة تعليمية، بما في ذلك المدارس والجامعات ومراكز التعليم
-
11.000 وحدة سكنية
-
4 محطات طاقة كهربائية، و 65% من شبكة الكهرباء
-
6 أنظمة تنقية المياه، كما أن الكثير من البنية التحتية للمياه في المدينة مفخخة
-
المجمع الصناعي الصيدلاني
-
جميع مخازن الحبوب
-
معملان كبيران للألبان
-
212 من مصافي النفط ومحطات النفط والوقود
-
جميع المباني العامة
-
جميع البنوك الحكومية والخاصة
-
63 مركزا دينيا (كنائس ومساجد)، معظمها مواقع تاريخية قيّمة
-
250 مصنعا وورشة عمل ومصنع صغير، بما في ذلك الصناعات الفلاحية
-
29 فندقا
-
أكثر من 40.000 إصابة بين المدنيين
-
تدمير 38 من أصل 54 منطقة سكنية في غرب الموصل.
وقال مدير مكتب محافظة نينوى: «النصف الشرقي من الموصل قد دمر، لكن الدمار في النصف الغربي أكبر بكثير». وقال عضو في مجموعة متطوعة محلية إن الدمار في غرب الموصل قريب من “99%”.
هذا الدمار الرهيب، الذي يصل إلى مستوى التصفية المادية للمدينة العظيمة، تسببت فيه أساسا القنابل والصواريخ والمدفعية الأمريكية واستخدام الجيش الأمريكي للفسفور الأبيض، وهو السلاح المحظور دوليا استخدامه في المناطق المأهولة بالسكان. تمثل كل هذه الممارسات جرائم حرب خطيرة من جانب الأمريكيين.
لكن بينما شهدنا فيما يخص حلب (والآن في الغوطة الشرقية) سيلا من الإدانات اليومية للجرائم -الحقيقية أو الخيالية- للنظام السوري وحلفائه الروس، فقد تم إخفاء الجرائم الفظيعة التي ارتكبت ضد سكان الموصل تحت سجادة سميكة من الصمت والأكاذيب وأنصاف الحقائق.
كارثة إنسانية يتجاهلها الغرب
والأكثر خطورة من الدمار المادي هو الدمار الذي لحق بالبشر. ما يزال عدد الضحايا المدنيين غير معروفا حتى يومنا هذا، حيث لم تبذل لا الولايات المتحدة، ولا حلفاؤها في بغداد، أي جهد لإحصاء الجثث، التي ما يزال الكثير منها تحت الأنقاض. يعتقد أن أكثر من 40.000 مدني قد قتلوا نتيجة النيران الشديدة التي استعملت ضدهم، وخاصة من قبل الشرطة الاتحادية [قوة عسكرية تابعة لوزارة الداخلية العراقية – المترجم] والقصف الجوي، ناهيك عن العديد من ضحايا داعش نفسها.
لكن وسائل الإعلام الغربية تجاهلت بشكل كبير تلك الكارثة الإنسانية الضخمة. لا يحصل العدد المأساوي حقا للقتلى من المدنيين في الموصل إلا على تغطية ضعيفة في وسائل الإعلام العالمية أو اهتمام السياسيين والصحفيين، مقارنة مع الغضب الدولي العارم تجاه قصف شرق حلب من طرف الحكومة السورية والقوات الروسية في نهاية عام 2016.
لم يتقدم أي من المعنيين، سواء داعش أو التحالف الدولي أو الحكومة العراقية، ولا حتى الأمم المتحدة، بأية معلومات عن الأعداد الحقيقية للضحايا. ويقدر موقع Airwars، استنادا إلى تقارير صحفية، عدد المدنيين الذين قتلوا خلال الفترة ما بين 19 فبراير و19 يونيو 2017، بـ 5805 شخصا. لكن، وكما نعلم، لا تغطي التقارير الصحفية سوى نسبة ضئيلة من العدد الفعلي للوفيات.
لماذا كان عدد القتلى المدنيين في الموصل مرتفعا جدا؟ يمكن قراءة تفسير ذلك في تقرير لمنظمة العفو الدولية تحت عنوان: “بأي ثمن: الكارثة المدنية في غرب الموصل”.
على الرغم من أن هذا التقرير لا يقدم رقما دقيقا عن عدد الوفيات، فإنه يؤكد الضرر الرهيب الذي نجم عن القصف المدفعي والصاروخي المستمر لمدة خمسة أشهر في منطقة مغلقة حيث كان المدنيون عاجزين عن الفرار. بقي العديد من سكان الموصل في منازلهم لأن داعش كانت تقتل الناس الذين يحاولون الفرار، لكن الكثيرين بقوا لأن الحكومة طلبت منهم ذلك. كان الجيش قد ألقى منشورات من طائرات الهليكوبتر تطلب من السكان عدم الفرار، وهو ما كان بمثابة حكم بالإعدام عليهم.
أسفر القصف العشوائي، ولا سيما خلال الهجوم الأخير على المدينة القديمة، عن حمام دم كان معظم ضحاياه من النساء والأطفال. يعتقد أن أكثر من 4000 جثة قد دفنت تحت الأنقاض في غرب مدينة الموصل وحدها، حيث ما تزال رائحة الجثث المتعفنة تملأ الهواء. لقد أكد العديد من شهود العيان وحشية القوات العراقية، وكان موقع Middleeasteye الإخباري على الانترنت قد نشر شهادة لجندي عراقي قال: «لقد قتلناهم كلهم، داعش، رجالا ونساء وأطفالا. لقد قتلنا الجميع».
قال أحد كبار قادة الجيش العراقي، الذي اشترط عدم الإفصاح عن هويته: «هناك العديد من المواطنين بين الجثث. فبعد الإعلان عن التحرير، أعطي الأمر بقتل كل شخص وكل ما يتحرك». وقال إن هذه الأوامر كانت غير صائبة، لكن كان على الجنود تنفيذها بغض النظر عن ذلك. وقال «لم يكن ذلك صائبا على الإطلاق، كان غالبية مقاتلي داعش قد استسلموا، لكننا قتلناهم ببساطة».
خلال الحصار الذي استمر تسعة أشهر، اضطر 1.048.044 شخصا إلى الفرار. لم يعد الكثير منهم بعد. ويعيش الرجال والنساء والأطفال الذين هربوا من تدمير الموصل في مخيمات، هي غالبا سجون حقيقية. كما يتم توجيه النساء والأطفال، المشتبه في كونهم من أفراد أسر محاربي الدولة الإسلامية، الذين قتلوا في الحصار، إلى “معسكرات إعادة التأهيل”.
لقد تعرض هؤلاء للتعذيب على يد داعش، وهم الآن يعانون من جرائم وإساءات القوات العراقية. لكن لا أحد يحاسب على الإطلاق. وكثيرا ما انتقد رئيس الوزراء العبادي منظمات حقوق الإنسان التي تحقق في تلك الجرائم، فالتعذيب وسوء المعاملة ممارسات ذات طابع مؤسسي داخل القوات المسلحة العراقية، وهي في جميع الأحوال ممارسات يتسامح معها القضاء.
تقول بغداد إنها بحاجة إلى 100 مليار دولار لإعادة إعمار البلاد، بينما يقول الزعماء المحليون في مدينة الموصل، التي كانت أكبر المدن التي احتلتها داعش، إن هذا المبلغ يكفي بالكاد لإعادة إعمار مدينتهم وحدها. تقدر الأمم المتحدة أن هناك 40 ألف منزل في حاجة إلى إعادة البناء أو الترميم، ولم يتمكن حوالي 600 ألف من السكان من العودة إلى المدينة التي كانت موطنا لما يقرب من مليوني نسمة.
حتى الآن، لا أحد يعرض تقديم المساعدة. قالت إدارة ترامب للعراقيين إنها لن تدفع ثمن حملة إعادة إعمار واسعة النطاق، بينما يأمل العراق أن تتقدم المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى لمساعدته، كما أن إيران قد تلعب دورا في ذلك أيضا. وتقوم الأمم المتحدة بإصلاح بعض البنى التحتية في حوالي عشرين مدينة وبلدة حول العراق، لكن ميزانيتها لا تشكل سوى جزء بسيط مما هو مطلوب في الواقع. ونتيجة لذلك، فإن الكثير من عمليات إعادة البناء تتم من قبل أفراد يستخدمون مدخراتهم الشخصية لإنقاذ المنازل والمحلات التجارية بأفضل ما يمكنهم.
وبينما تم فحص كل تفصيل من تفاصيل حصار حلب وتم تكراره وتضخيمه من طرف “الصحافة الحرة” عندنا، فإنه لم يكن هناك أي اهتمام بالأهوال التي عانى منها سكان الموصل. يحق للمرء أن يسأل لماذا.
مرة أخرى “هجوم بالغاز”
أثار الفشل الكامل للدبلوماسية الأمريكية داخل الأمم المتحدة السخط واليأس في صفوف المتمردين الذين ردوا بسيل من الغضب، لكنه غضب نابع من العجز. لا يساوي المتمردون السوريون شيئا بدون الدعم الأميركي المباشر، وهم يتعرضون للسحق الممنهج على يد قوات الأسد. إلا أن الأميركيين ليسوا مستعجلين جدا للتورط في حملة عسكرية جدية في المستنقع السوري. كيف يمكن إجبارهم على التدخل؟
كان جواب الجهاديين على هذا السؤال فوريا، وكان مرة أخرى متوقعا تماما. لقد صعدوا من حملة الدعاية، لكنهم هذه المرة أدخلوا عنصرا جديدا. أثناء حصار حلب، أعطت وسائل الإعلام الغربية الكثير من الدعاية لما يسمى بالخوذ البيضاء، وهي جماعة تزعم أنها منظمة غير حكومية إنسانية محايدة مكرسة لإنقاذ الأرواح في سوريا؛ لكن هذه المنظمة غير الحكومية، هي في الواقع منظمة جهادية هدفها الوحيد إنتاج مقاطع فيديو صادمة عن الضحايا المدنيين (وهي ليست مهمة صعبة في ظل الظروف الحالية التي تعيشها سوريا) من أجل الحصول على تعاطف الرأي العام العالمي.
وقد حققت هذه المناورة نجاحا كبيرا بحيث تم منح منظمة الخوذ البيضاء جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي قصير يظهر عملياتها اليومية في عام 2017. هذا على الرغم من الاتهامات المتكررة لهم بتزوير المعلومات وفبركة محاولات إنقاذ مزيفة.
يزعم الآن أنه تم إدخال عدة أشخاص إلى مستشفيات في بلدة الشيفونية المجاورة، تظهر عليهم أعراض مثل “ضيق التنفس، وتهيج مكثف لغشاء المخاط، وتهيج العينين والدوار”. ووفقا للخوذ البيضاء واجه العديد من النساء والأطفال صعوبة في التنفس، كما أن “طفلا واحدا على الأقل” قد مات نتيجة الاختناق.
وعلى الرغم من عدم وجود أي تحقيق مستقل في هذه الادعاءات، فإن ذلك لم يمنع “الصحافة الحرة” للعالم الغربي من استنساخها كل يوم كما لو كانت تقارير حقيقة. من بين نماذج عناوين الصحف هناك صحيفة سكاي نيوز، التي كتبت: النظام السوري “هجوم بغاز الكلور القاتل على المدنيين”.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الجهاديون تهمة الهجوم بالغاز على الغوطة الشرقية من أجل دفع الأميركيين للتدخل عسكريا. لقد فعلوا نفس الشيء تماما عام 2013 عندما نظم أوباما حملة دولية صاخبة حول هجوم مزعوم بغاز الكلور لتبرير إرسال طائرات حربية أمريكية لقصف مواقع الجيش السوري.
كانت إدارة أوباما قد حصلت على اتصالات اعترضت لمسؤول سوري رفيع المستوى بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية، لكنها رفضت كل المطالب بنشر تلك الاتصالات. كما تم رفض طلب للأسوشيتد بريس لرؤية نسخة من الاتصالات التي يزعم أنها تتضمن أوامر لعسكريين سوريين بالتحضير لهجوم بالأسلحة الكيميائية عن طريق ارتداء أقنعة الغاز.
على الرغم من كل هذه الضجة الإعلامية، لم يكن هناك أي دليل على تلك الهجمات المزعومة، باستثناء بعض صور الفيديو التي لا تثبت شيئا. أدى عدم الاتفاق في تحديد عدد القتلى وغير ذلك من التفاصيل المتعلقة بالهجوم إلى إثارة الشكوك عند الكثيرين. وبعد يومين على الهجوم المزعوم، بث التليفزيون الحكومي صورا من أواني بلاستيكية وأقنعة واقية من الغاز وقوارير أدوية ومتفجرات وغيرها من المواد التي قيل إنه تم الاستيلاء عليها من مخابئ المتمردين. وكان أحد البراميل يحمل ختم: “صنع في المملكة العربية السعودية”.
جاءت الشكوك حتى من جهات مثل صحيفة The Times of Israel. فقد استشهدت مقالة نشرتها الصحيفة في 08 شتنبر 2013، بتشارلز هيمان، وهو ضابط عسكري بريطاني سابق، رئيس تحرير مجلة القوات المسلحة البريطانية، التي هي مجلة رسمية نصف سنوية للقوات البريطانية، والذي قال:
«لا يمكننا أن نفهم شيئا بخصوص هذا الموضوع، لماذا يوافق أي قائد على قصف ضاحية دمشق بالأسلحة الكيميائية لتحقيق كسب تكتيكي جد قصير الأجل، مقابل كارثة طويلة الأجل».
حقا، لماذا! ويجب طرح نفس السؤال اليوم. في يناير، مباشرة قبل اجتماع مختلف فصائل الصراع السوري في المؤتمر الوطني السوري في سوتشي بروسيا، استخدم وزير الخارجية الأمريكي هذه التقارير لإلقاء اللوم على روسيا بخصوص جميع الحوادث المتعلقة بالأسلحة الكيميائية في سوريا، بغض النظر عمن قام بها.
إن السؤال الأول الذي يطرحه المحامي في أي تحقيق في أي جريمة القتل هو “Cui bono”، وهو ما يعني حرفيا “من المستفيد؟” ما الذي سيستفيده الأسد أو جيشه من استخدام سلاح من شأنه أن يؤدي حتما إلى حملة انتقام من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؟ هذا السؤال يجيب عن نفسه. ليست للأسد أية مصلحة، بأي شكل من الأشكال، في ارتكاب مثل هذا الخطأ الغبي الذي من شأنه أن يلحق ضررا بالغا بمصالحه. يمكن للمرء أن يتهم الأسد بأشياء كثيرة، لكن لا يمكن أن يكون الغباء من بينها.
يصر الجيش السوري على عدم امتلاكه لغاز الكلور، حيث كان قد تم تسليمه كجزء من اتفاق تم التوصل إليه مع الأمريكيين والروس قبل سنوات. وهذا ما أكدته منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW).
وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فإن الجيش السوري لا يحتاج إلى استخدام أي أسلحة أكثر من القوة المميتة والقاسية التي يستعملها بالفعل لسحق المتمردين.
تشن القوات الحكومية السورية حملة لتطهير الغوطة الشرقية من الجماعات الإسلامية التي استمرت تروع السكان المحليين لسنوات ورفضت أي مبادرات لإلقاء السلاح ومغادرة المنطقة. وبما أن الجيش السوري في طريقه لشن هجوم بري حاسم ضد الجهاديين، فإن آخر ما يحتاجه هو استخدام سلاح غير موثوق به، مثل غاز الكلور، الذي يمكن أن يتحول بسرعة ضده إذا ما غيرت الرياح اتجاهها.
في الواقع، إن الجهة الوحيدة التي تستفيد من استخدام غاز الكلور هي الجهاديون المعروفون بحيازتهم له، والذين من المؤكد أنهم مستعدون لاستخدامه بهدف إلقاء اللوم على الحكومة السورية، وبالتالي تمهيد الطريق للهجمات الجوية من قبل الأمريكيين.
وقد حذرت الولايات المتحدة مرارا من أنها قد تقوم بضربات جوية مباشرة ضد القوات السورية إذا استخدمت، هذه الأخيرة، الأسلحة الكيماوية في البلاد. في أبريل الماضي، أمر الرئيس دونالد ترامب بإطلاق صواريخ توماهوك على قاعدة شيرات الجوية ردا على هجوم كيماوي في إدلب، كانت الولايات المتحدة قد نسبته، بدون أدلة، إلى الرئيس بشار الأسد. كما هدد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “بضرب” سوريا إذا ما ظهر دليل على استخدامها للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين.
إن الغرض الوحيد من وراء هذه الحملة الإعلامية هو زرع الارتباك في الرأي العام العالمي، وتشويه سمعة أعداء أمريكا، وتقديم مبرر “أخلاقي” لمزيد من التدخل الإمبريالي في شؤون الشرق الأوسط. لكن ورغم كل شيء فإن الحرب الدعائية الجارية لن تكون لها النتيجة المرجوة. ستنتهي الحرب بانتصار القوات الحكومية السورية في ساحة المعركة، وهذا هو المهم في آخر المطاف.
غضب واشنطن العاجزة
في الواقع، لا تملك الإمبريالية الأمريكية أي حق في توجيه أصابع الاتهام إلى أي كان. لقد كان الغزو الإجرامي الأمريكي للعراق هو السبب الجذري للفوضى الدموية الحالية التي تسببت في الكثير من الموت والدمار والبؤس لملايين الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
وفي محاولتها لتحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة، دعمت واشنطن، بشكل مباشر أو غير مباشر، أكثر القوى الرجعية في الشرق الأوسط. لم نكن بحاجة لمن يخبرنا بأن صدام حسين كان وحشا دمويا، أو أن الأسد ديكتاتور. لكن كيف تفسر واشنطن “المحبة للديمقراطية” دعمها للمملكة العربية السعودية، ملاذ الإرهاب الوهابي، التي تقوم على التعذيب والإعدامات العلنية وقطع الرؤوس والصلب والرجم حتى الموت لإبقاء شعبها في حالة خضوع؟
من المعلوم أن السعودية تقف وراء كل جماعة إرهابية جهادية ابتداء من طالبان إلى القاعدة، من بن لادن إلى داعش، وكان المتطرفون السعوديون وراء الهجوم على البرجين التوأمين في نيويورك، أما صدام حسين فلم يكن له علاقة به. ومع ذلك، فإن العراق هو الذي تعرض للغزو والتدمير وليس السعودية، وما تزال واشنطن، في شخص دونالد ترامب، تحافظ على علاقات ودية مع هؤلاء الوحوش في الرياض.
وقد سمح بعض اليساريين التائهين لأنفسهم بأن ينخدعوا بالدعاية المضللة في وسائل الإعلام. إنهم يتصورون أن “المتمردين” هم الورثة الحقيقيون للموجة الثورية التي اجتاحت سوريا قبل سبع سنوات. لكن تلك الحركة كانت قد سحقت بسرعة، ليس من قبل الأسد بشكل أساسي، بقدر ما سحقت من قبل السعوديين المعادين للثورة الذين عوضوها بتياراتهم الإسلاموية الرجعية.
عمل السعوديون (وكذلك القطريون) على تسليح وتمويل العصابات الجهادية الرجعية التي اجتاحت سوريا طوال السنوات الست الماضية، ذبحت واغتصبت وعذبت وحرقت ودمرت كل شيء في طريقها. تحمل هذه العصابات أسماء مختلفة، لكنها تشترك في نفس الإيديولوجية الإسلامية المشوهة ونفس جدول أعمالها. كما أنها مدعومة أيضا من قبل وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، الذين عادة ما يصفون هؤلاء الجزارين باسم “المتمردين”، أو، لاستخدام الوصف الأخير، “الناشطين السوريين”.
تدعم الإمبريالية هذه الجماعات لخدمة مصالحها الكلبية، كما أنها تتلقى إعانات ضخمة من طرف السعوديين، الذين يسعون جاهدين لتحقيق هيمنة مذهبهم الوهابي الرجعي. مهما كان موقف المرء من الأسد، فإنه سيكون من الفظيع جدا أن يعتقد أن انتصار تلك العصابات الرجعية سيكون أي شيء أقل من كابوس دموي بالنسبة للشعب السوري.
من الضروري التخلص من الضباب الكثيف للدعاية والتضليل وإيضاح المصالح الحقيقية لمختلف القوى الفاعلة في الصراع. يجب أن نبدأ من الأساسيات. إن الإمبريالية الأمريكية هي أكثر القوى معاداة للثورة على هذا الكوكب، لا يمكن لليسار أن يقدم لها أي دعم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما ما يسمى بالأمم المتحدة، فقد انفضحت مرة أخرى باعتبارها مجرد مهزلة لممارسة الخداع. خلال الجلسة الأخيرة، قال ممثل فرنسا في الأمم المتحدة، فرانسوا ديلاتر، إن القرار “متأخر جدا”. وأعلن بشكل دراماتيكي أن عدم التحرك يمكن أن يعني نهاية الأمم المتحدة نفسها، لكن هذا التصريح لم يكن له الأثر الدراماتيكي المنشود لأن جميع الحاضرين يدركون جيدا أن الأمم (غير) المتحدة قد انتهت بالفعل منذ فترة طويلة.
ليست الأمم المتحدة في الواقع سوى ناد للثرثرة يسمح داخله للدول الصغيرة بإثارة الضجة وإلقاء خطابات لامعة تجعلها تشعر بالأهمية، في حين أن القوى الكبرى هي من تقرر بالفعل ما يحدث. فقط شخص أحمق مثل السيد ديلاتر من يعتقد أن الأمم المتحدة يمكنها أن تقرر في الواقع أي شيء ذا أهمية، هذا على افتراض أنه يصدق ذلك.
تركيا والأكراد
لقد أدى التدخل الروسي في سوريا إلى تحويل ميزان القوى بشكل حاسم في صالح الأسد. كان سقوط حلب نقطة تحول حاسمة وهزيمة قاسية ومذلة ليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا لحلفائها، وخاصة السعودية. زعق ممثلو واشنطن وصرخوا بغضب خلال المناقشات في مجلس الأمن. لكن ذلك الغضب في الواقع هو غضب العاجز الذي يهدف إلى إخفاء عدم قدرته على الفعل على أرض الواقع، أي في ساحة المعركة.
كان قسم من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة يريد مواصلة الحرب، لكن تلك المحاولة كان محكوما عليها بالفشل. لقد تمكن بوتين من هزمهم في كل خطوة. عندما دعا الروس إلى مؤتمر سلام في كازاخستان (الدولة التابعة لروسيا) لم يتلق الأميركيون والأوروبيون حتى دعوة الحضور. في النهاية، وعلى الرغم من كل الخطابات، كان الأميركيون مضطرين على مضض لقبول الأمر الواقع الذي تمليه موسكو.
لا أحد يستطيع اليوم أن يشك في أن الروس هم القوة المهيمنة الآن في سوريا، وأن الولايات المتحدة لا تقرر شيئا. هذا ما لا يستطيع الأمريكيون ابتلاعه، لكنهم مجبرون على ذلك. إنهم يحاولون الظهور بمظهر المتحكم، ويبذلون أقصى جهودهم لتسجيل نقاط الدعاية الرخيصة، من خلال الاحتجاجات المنافقة حول سلوك الأسد والروس، في حين أنه من الصعب اعتبار سلوكهم درسا جيدا في الأخلاق والإنسانية.
لقد هزمت داعش في كل من سوريا والعراق. وليست سوى مسألة وقت فقط قبل أن تقوم قوات الأسد، بدعم من روسيا وإيران، بالقضاء على أخر جيوب المعارضة المتبقية. بالطبع، لا يمكن استبعاد احتمال أن يقوم الأميركيون باستغلال الدعاية حول الهجوم المزعوم بغاز الكلور لشن ضربات جوية، لكن هذه الخطوات لا يمكنها أن تحدد النتيجة النهائية للحرب، التي ستحددها القوات على الأرض.
لكن، وعلى الرغم من كل شيء، لم يتم حل المشكلة الجذرية. ماذا سيحدث الآن؟ إن العراق وسوريا قد تفككتا وستبقيان في حالة اضطراب خلال الفترة القادمة. كما أن الإيرانيين قد وسعوا نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة، مما يثير قلق الأميركيين والسعوديين وإسرائيل. بينما يشن الأتراك هجوما ضد القوات الكردية في عفرين من أجل انتزاع ما يمكنهم انتزاعه.
يلعب المقاتلون الجهاديون، وأفراد الجماعات المصنفة منظمات إرهابية في الولايات المتحدة وأوروبا، دورا بارزا في العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة التركية ضد الأكراد، في حين أن الميليشيات الإيرانية الموالية للأسد قد انضمت إلى الجيش السوري والأكراد لمقاومة الأتراك الغزاة.
موسكو، من جانبها، تلعب أيضا لعبة قذرة في سوريا. إنها تتوازن بين القوى المختلفة، وتتبع دائما مصالحها الكلبية. لقد أنقذت الأسد، لكنها تناور أيضا مع تركيا. لم يكن في مقدور أردوغان أن يرسل جيشه إلى سوريا لمهاجمة الأكراد لولا إذن من روسيا. لا شك في أن بوتين قد توصل إلى اتفاق مع أردوغان على ألا يعارض عمليات القوات السورية والروسية ضد الجهاديين في إدلب، المدعومين من طرف تركيا. لكن السؤال المطروح هو ما إذا كان الأتراك سيلتزمون بالصفقة.
دخلت روسيا في تحالف، بحكم الأمر الواقع، مع إيران في الحرب في سوريا. لكن موسكو لا تريد أن تحصل إيران على نفوذ كبير جدا في سوريا، وهو سبب آخر وراء ميل سياستها مؤخرا نحو تركيا. كانت روسيا قد دعمت الأكراد، لكنها لم تتردد في طعنهم في الظهر بمجرد أن اقتضت مصالحها ذلك. ربما كان بوتين يحسب أن الهجوم التركي على وحدات حماية الشعب سيجعلها تدخل في صراع مع الأمريكيين.
من المفترض أن تركيا حليفة للولايات المتحدة، وعضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي، لكن الأتراك والأميركيين وجدوا أنفسهم، على نحو متزايد، يدعمون قوى متصارعة في سوريا. وهذا ما سبب مزيدا من القلق لواشنطن، التي لا يمكنها أن تخاطر بإغضاب الأتراك ودفعهم إلى التقارب مع روسيا. ومرة أخرى سوف يجد الأكراد أنه من الحماقة البحث عن الخلاص من خلال الاعتماد على القوى الإمبريالية.
تمتلك وحدات حماية الشعب أسلحة ثقيلة. وقد زاد هذا من عامل الخطر بالنسبة للجيش التركي. لا يمكن لأردوغان أن يتحمل خطر مقتل عدد كبير من الجنود الأتراك مما قد يتسبب في رد فعل داخل تركيا. وهذا هو السبب الذي يجعل تركيا تعتمد على الجماعات الجهادية. تعمل الطائرات التركية على فتح الطريق من خلال شن غارات جوية، بعد ذلك يأتي دور تلك المجموعات، ثم تتبعهم القوات التركية.
لكن الأتراك ربما تجاوزوا قدراتهم هذه المرة. قالت تركيا في البداية إنها لن تحتاج سوى لبضعة أيام لكي تستولي على عفرين، لكن الواقع سوف يثبت لها صعوبة المهمة. إن الأكراد مقاتلون صقلتهم المعارك يكافحون من أجل بقائهم، وبدعم من القوات السورية والإيرانية، قد يتمكنون من توجيه ضربة قاسية لأردوغان. سيدفع ذلك الأكراد السوريين إلى أيدي الأسد الذي سيكون ربما على استعداد للتوصل معهم إلى صفقة الحكم الذاتي، بشرط أن يظلوا جزءا من سوريا، الشيء الذي سيكون، على أي حال، أفضل مما يمكن أن يتوقعوه على يد أردوغان.
وهكذا فقد وصلت الحرب في سوريا إلى مرحلة جديدة: مرحلة حيث كل مجرى الأحداث داخل البلد تحدده القوات والمصالح التي تقع خارج الحدود. والتحالفات بين القوى المختلفة تتغير باستمرار وستتغير مرارا في المستقبل. يمكن للحرب أن تستمر لبعض الوقت. وهناك شيء واحد فقط مؤكد، هو أن الضحايا الرئيسيين سيكونون، كما هو الحال دائما، هم الشعب السوري الذي عانى طويلا.
عنوان النص بالإنجليزية:
تعليق واحد
تعقيبات: عشرون عاما على غزو العراق: الإرث الوحشي للإمبريالية – ماركسي