كشفت جائحة كورونا التناقضات الكامنة في الرأسمالية، مما تسبب في اندلاع أزمة عميقة من حجم أزمة الثلاثينات. لن يكون هناك انتعاش بعد انتهاء الحظر، بل كساد اقتصادي مطول.
لقد انقلب العالم رأسا على عقب بسبب جائحة كورونا. وقد حدثت بالفعل أشياء غريبة وغير متوقعة. نظام السوق الحرة في حالة انهيار، وقوانين الرأسمالية تحطمت. وبسبب شلل الإنتاج انخفض العرض بشكل كبير، لكن حتى الطلب تراجع بسبب حبس الناس في منازلهم. ولم تعد “اليد الخفية” تعرف إلى أي طريق تشير.
صارت أسعار النفط سلبية وذلك للمرة الأولى في التاريخ. وأسعار الفائدة –التي كانت أصلا عند مستويات جد منخفضة- أصبحت في العديد من الاقتصادات تحت الصفر، من حيث القيمة الحقيقية. وتقلص الحد الفاصل بين السياسة النقدية والسياسة المالية، حيث اتحدت البنوك المركزية والحكومات لدعم صرح الرأسمالية المتهاوي.
وأولئك الذين بشروا في السابق بـ “كفاءة” السوق الحرة، صاروا الآن يطالبون بأكثر الإجراءات تطرفا وبتدخل الدولة لإنقاذ الرأسمالية. وبحسب الصحيفة اليمينية “سبيكتايتور”، فقد “حولت أزمة كوفيد 19 المحافظين إلى اشتراكيين”.
تضخ الطبقة السائدة تريليونات الدولارات في الاقتصاد العالمي. الشركات الكبرى المفلسة تطالب بخطط للإنقاذ. وتلك الأفكار التي كانت تتعرض للنقد والسخرية، مثل فكرة “إلقاء الأموال من الهليكوبتر“، صار المنظرون الرأسماليون الجادون يصرحون بها علانية.
لكن حتى هذا لا يكفي. الاقتصاد في حالة سقوط حر، وينهار بشكل أسرع وأعمق حتى من انهيار عام 2008. تتصاعد البطالة إلى مستويات رهيبة، ففي الولايات المتحدة وحدها، تم طرد أكثر من 30 مليون عامل (رسميا حتى الآن). وبالتالي فإن مقارنة ما يحدث الآن بالكساد الكبير [1929] ليست مبالغة، بل هي في الواقع تبخيس.
لقد أصبح عدد سكان العالم -والطبقة العاملة- أكبر بكثير مما كان عليه الحال خلال الثلاثينيات. والأهم من ذلك هو أن الاقتصاد العالمي أصبح أكثر تداخلا من أي وقت مضى. باختصار إن ما نواجهه اليوم، وعلى عكس كل ما رأيناه في السابق، هو أزمة رأسمالية عالمية حقيقية.
ينابيع الأمل لا تنضب
ومع ذلك فإن ينابيع الأمل لا تنضب بالنسبة للرأسماليين. فالقطط السمان وأصدقاؤهم المصرفيون يقولون: “بالتأكيد هذا كله مجرد وعكة مؤقتة؟”، ومن هنا جاءت التوقعات المتفائلة بشأن انتعاش “على شكل حرف V”، أي: انخفاض حاد في النشاط الاقتصادي، خلال فترة الإغلاق، يليه انتعاش قوي.
ليس هناك شك في صحة الجزء الأول من هذا التنبؤ. فمن المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بالفعل بنحو الثلث خلال الربع الثاني من هذا العام. وبأكثر من 5% لعام 2020 ككل. وقد تم إجراء تقديرات مماثلة لاقتصاد المملكة المتحدة وأوروبا أيضًا.
لكن النصف الثاني من هذه المعادلة غير مؤكد. إذ هناك العديد من الأحرف الأخرى في الأبجدية [اللاتينية] التي يمكن اعتمادها لوصف منحنيات الاقتصاد الرأسمالي.
تحدث البعض عن “شكل حرف U”، أي انحدار طويل ثم انتعاش في نهاية المطاف. بينما اقترح آخرون حرف W، ليصوروا ركودا مزدوجا، وهو احتمال ممكن إذا كان هناك تفش لموجة ثانية للفيروس. كما تمت الإشارة إلى حرف “L”، الذي يصف كسادا جديدا مطولا. بل هناك من حذر حتى من حرف ” I”، أي حدوث هبوط مستقيم بلا نهاية!
إذا أي من هذه السيناريوهات هو الأكثر احتمالا؟ وما هي الصورة الوردية “على شكل V” التي يتوقعها الرأسماليون؟
تستند توقعات التعافي السريع هذه على نفس الافتراض المثالي الذي طالما حفز المدافعين عن الرأسمالية، أي: الصلاحية التامة للسوق الحرة، وإيمانهم الجامح بها. يضاف إلى ذلك الاعتقاد بأن تدابير الإبعاد الاجتماعي الحالية ليست سوى مرحلة عابرة.
يقول الرأسماليون الأكثر تفاؤلا: «أجل، ربما نحن نغرق الآن، لكن المرض سيصبح تحت السيطرة قريبا، وستعود “الحياة الطبيعية”. عندها سيُعاد فتح الاقتصاد، مثل حيوان يستيقظ من السبات، مليئا بالحيوية، ويصير من الممكن تحقيق الأرباح مرة أخرى».
بل إن أكثر الأصوات تحررا رحبت حتى بأزمة كوفيد 19، باعتبارها فرصة “للتدمير الخلاق” الشومبيتري [نسبة إلى الاقتصادي جوزيف شومبيتر].
من الواضح أن هذا هو الموقف الذي يدافع عنه الرئيس ترامب، الذي أكد أن “العلاج لا يمكن أن يكون أسوأ من المرض“. ونفس الموقف القاسي الذي يسوقه جناح من حزب المحافظين في بريطانيا، يمثل مصالح الشركات الكبرى، والتي ليس لديها أي حرج في وضع مصلحة الأرباح فوق الأرواح.
العدوى الاقتصادية
لكن الحقيقة هي أن الاقتصاد العالمي لن يعود إلى سابق عهده. سوف تترك الجائحة ندبة دائمة عليه. عندما تنهار الرأسمالية لا يتم وقف ذلك بالضغط ببساطة على زر الإيقاف. إذ أن الصناعات التي تم وقفها والعمال الذين تم طردهم -“مؤقتًا”- اليوم قد لا يعودون إلى النشاط مرة أخرى.
كتب الاقتصادي في صحيفة فاينانشيال تايمز، تيم هارفورد، “الضائقة الاقتصادية معدية أيضا” مثلها مثل فيروس كورونا. و”التكلفة الاقتصادية لعمليات الإغلاق تتزايد بشكل أُسّي”.
ويتابع قائلا: «الإغلاق ليوم واحد ليس أكثر من عطلة رسمية، أما الإغلاق لأسبوعين فيهدد أولئك الذين هم بالفعل في وضع هش، بينما الإغلاق لمدة ثلاثة أشهر فيمكن أن يؤدي إلى حدوث أضرار واسعة النطاق تستمر لسنوات».
هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى أن الطلب المكبوت سينفجر بمجرد رفع الحظر. قطاعات السياحة والبيع بالتجزئة والترفيه قد لا تعود لسابق عهدها مرة أخرى. ما بين 60 و70% من الناس، قالوا إنه من غير المرجح أن يحجزوا عطلة في عام 2021، بسبب مخاوف اقتصادية وصحية. وفقط 20% من يعتقدون أنهم سيرتادون المحلات فور فتحها مرة أخرى.
شركات الطيران بدورها صارت تتساقط من السماء، وتسرع إلى الحكومات من أجل الاستفادة من عمليات الإنقاذ، مما يجعل مستقبل صناعة الطيران برمتها موضع تساؤل. نفس الشيء مع قطاع النفط، لا سيما في أمريكا، حيث ضخ المستثمرون المليارات، على مدى العقد الماضي، في إنتاج النفط الصخري. والآن، مع انهيار الطلب والأسعار، صارت شركات النفط الأمريكية تواجه تهديدا وجوديا.
ينطبق الشيء نفسه على شركات تصنيع السيارات العملاقة في العالم، والتي حتى قبل تفشي الفيروس كان العديد منها يعاني بالفعل. من المقرر أن تنهار شركات مثل فيات كريزلر بعد ثلاثة أشهر فقط من الإغلاق. أما الشركات الأخرى مثل فورد ورينو، فلن تصمد سوى بضعة أشهر أخرى فقط. ويجب ألا ننسى أن جميع هذه الصناعات ليست فقط توظف الملايين بشكل مباشر، بل وتوفر أيضا الأعمال لشبكة واسعة من الموردين.
وفي الوقت نفسه فقد تم الإبقاء على عدد كبير من الشركات “الزومبي” نصف حية من خلال مدها بالقروض منخفضة الفائدة في السنوات الأخيرة. لكن هذا الركود الجديد يمكن أن يدفنها أخيرا. وقد بدأت البنوك تستعد بالفعل لعدوى التخلف عن سداد الديون التي قد تنتشر عبر النظام المالي. والفقاعات تنفجر في كل مكان، حيث بدأ المستثمرون يتراجعون عن المشاريع الأكثر خطورة، بحثًا عن الملاذات الآمنة.
أزمة عضوية
الرأسمالية ليست لعبة يويو. لا يمكن للاقتصاد أن ينزل ثم ببساطة يرتفع. هناك أوقات تحدث فيها مثل هذه الانكماشات، والتي تمثل طريقة التنفس الإيقاعي لـ “دورة الأعمال” الرأسمالية. لكن من الواضح أن هذه الأزمة – التي تأتي على خلفية الركود العميق لعام 2008 – لا تنتمي إلى تلك الانكماشات الدورية.
نحن، بالأحرى، في عصر انحطاط الرأسمالية، وأمام أزمة عضوية للرأسمالية: أزمة يقع فيها النظام في دوامة نازلة مفرغة. حيث يؤدي انخفاض التوظيف إلى انخفاض الطلب، الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الاستثمار، وبالتالي المزيد من الانخفاض في التوظيف، وهكذا دواليك.
وعلاوة على ذلك فإن الأزمة الحالية، وعلى عكس أزمة 2008-2009، أزمة عالمية بحق. خلال أزمة 2008- 2009 كانت الصين، كما وضح مارتن وولف بإيجاز في فاينانشيال تايمز، قادرة على تسجيل مستويات نمو قياسية على أساس تنفيذ برنامج ضخم للإنفاق العمومي؛ وهو ما أدى بدوره إلى انتعاش اقتصادات البلدان الرئيسية المصدرة للمواد الخام – مثل البرازيل وجنوب إفريقيا – والبلدان المنتجة للنفط.
لكن الآن، ونتيجة لذلك، صارت الصين غارقة في الديون. ومثلهم مثل نظرائهم في كل مكان، صار القادة في بكين يعانون من نفاذ الذخيرة الضرورية لمحاربة هذه الأزمة. وحتى مع انتهاء الحجر الصحي (مؤخرا)، فإن الاقتصاد الصيني ما يزال يواجه طريقا وعرا جدا. إذ من سيشتري أي صادرات صينية ما دام بقية العالم في حالة إغلاق؟
نفس المشكلة تواجه كل البلدان الأخرى. فحتى لو استأنفت الأعمال، كيف تأمل أمريكا أو ألمانيا في التعافي ما لم يكن لديهما سوق لبضائعهما؟
في ظل الرأسمالية مصير كل بلد مرتبط بمصير الآخر. وكما قال بنجامين فرانكلين بشكل صحيح: “يجب علينا أن نتحد معا، أو أننا بالتأكيد سنشنق كلنا منفصلين”.
الركود الحالي، إذن، ليس مجرد حلقة سريعة الزوال. بل إنه بالأحرى يمثل نقطة تحول أساسية في تاريخ العالم؛ في تطور وانحطاط الرأسمالية. وستدخل هذه الحقيقة الصعبة إلى أدمغة حتى أكثر الرأسماليين غباء، إن لم تكن قد دخلت بالفعل. وهي حقيقة ذات عواقب ثورية يجب علينا، نحن الماركسيون، أن ندركها كذلك.
التضخم، أم الانكماش، أم الفوضى؟
في سعيها لإنقاذ النظام، بدأت الطبقة الرأسمالية تتخلص من عقود، لا بل قرون، من أرثدوكسية السوق الحرة، وصار تدخل الدولة على رأس جدول الأعمال.
أصبحت الحكومات، في جميع أنحاء العالم، هي “المقرض والمقترض والمنفق والملاذ الأخير“، وتعمل على حماية البنوك والشركات الكبرى ودعم الاقتصاد بأكمله. ومرة أخرى صار يبدو أن “جميعنا كينزيون الآن”.
يتصاعد الدين الحكومي بشكل رهيب. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن إجمالي الديون العامة في البلدان الرأسمالية المتقدمة سيزيد هذا العام بمقدار 06 تريليون دولار، وهو ما يعني ارتفاعا من 105% من الناتج الإجمالي إلى 122%.
لكن الأوقات الصعبة تتطلب اتخاذ تدابير صعبة. ويقترح البعض أفكارا لو قيلت قبل أشهر فقط لكانت ستعتبر مجنونة. ومن بين تلك الاقتراحات أن يتم تمويل الديون الحكومية من طرف البنوك المركزية مباشرة.
عادة يباع الدين الوطني في السوق المالية على شكل سندات. وتحتاج الحكومات إلى إيجاد دائنين راغبين في الشراء. لكنها في هذه الأوقات العصيبة على استعداد لتخطي الوسطاء، والحصول على المال من البنك الاحتياطي الفيدرالي أو بنك إنجلترا، الخ، لتحريك السندات الحكومية بأنفسهم.
يحق للمرء أن يسأل: كيف يمكن تمويل هذا ؟ الجواب بعبارات واضحة هو: عن طريق طباعة النقود.
وقد أثار هذا، بشكل مفهوم، علامات استفهام حول خطر التضخم. في الواقع لم يكن هؤلاء البرجوازيون أنفسهم يفوتون أية فرصة لانتقاد البعبع في فنزويلا، حيث أدت محاولات تمويل الإنفاق العام، من خلال طبع أموال جديدة، إلى تضخم مفرط.
صحيح أنه في حالة ما كانت كل الأشياء الأخرى متساوية، لا بد أن يتسبب ضخ كميات كبيرة من النقد في الاقتصاد في التضخم. وكما أوضح ماركس فإن النقود هي في النهاية تمثيل للقيمة – قيمة السلع المتداولة. فإذا كان هناك المزيد من الأموال التي تلاحق نفس الكمية من السلع (أو أقل)، فسيكون هناك ارتفاع عام في الأسعار، أي التضخم.
لكن الآن، كما تم التأكيد عليه أعلاه، من الواضح أنه ليست جميع الأشياء الأخرى متساوية. هناك قوى تعويضية تلعب دورا بارزًا، وعلى الأخص الركود الهائل في الطلب الذي حدث بسبب الإغلاق العالمي. قد ينخفض العرض، لكن الطلب ينخفض بشكل أسرع. ويشكل هذا ضغطا قويا على الأسعار في اتجاه الأسفل.
أسعار النفط السلبية هي التعبير الأكثر حدة عن ذلك. وباستثناء بعض السلع الحيوية (مثل الغذاء)، تنخفض الأسعار بشكل عام، مع انكماش السوق واشتداد المنافسة.
ومن المنتظر أن تنهار الصناعات في جميع المجالات. سوف تسرع البطالة الجماهيرية السباق نحو المزيد من تخفيض الأجور وضرب ظروف العمل. وقد بدأت دوامة التراجع في الظهور بالفعل. وبالتالي فإن العديد من ممثلي الطبقة الرأسمالية الذين يتمتعون ببعد النظر يخشون الانكماش على المدى الطويل أكثر من خشيتهم من التضخم.
من المهم أيضا أن نتذكر أنه في هذا العصر، ليست البنوك المركزية هي من يحدد عرض النقود في الغالب. إنهم مسؤولون فقط عن تعيين كمية العرض “الأساسي”. بينما يأتي الجزء الأكبر من الأموال في الاقتصاد على شكل قروض، يتم إنشاؤها من قبل البنوك الخاصة استجابة لطلبات الشركات والأسر للحصول على القروض والرهون العقارية.
لكن مع انخفاض “الطلب الفعلي” -في شكل استثمارات واستهلاك- فإن الطلب على القروض يتناقص بسرعة أيضا. وبعبارة أخرى فإن الأموال التي ستخلقها الحكومات عبر البنوك المركزية هي محاولة عقيمة للتغلب على تراجع الأموال التي يخلقها القطاع المصرفي الخاص.
فائض الإنتاج
ينطوي التيسير الكمي على سيرورة مماثلة لعملية شراء السندات المقترحة حديثا من قبل البنوك المركزية. لكن بدلا من قيام البنوك المركزية بشراء السندات الحكومية مباشرة، يقومون في ظل التيسير الكمي بخلق أموال لشراء هذه الأصول من البنوك، وبالتالي تحرير رأس المال الذي يمكن استخدامه لإقراض الشركات في الاقتصاد الحقيقي. أو هكذا تقول النظرية. لكن في الواقع لم يصل نهائيا هذا النقد الإضافي إلى الاقتصاد الحقيقي، وهذا ما يفسر، بشكل عام، نقص التضخم في جميع أنحاء العالم خلال العقد الماضي.
وبدلا من ذلك، استولت البنوك على تلك الأموال الإضافية، واستخدمتها لزيادة الأرباح. وبسبب عدم وجود سبل مربحة للاستثمار في أي مكان، تم تضخيم فقاعات الأصول واكتظت أسواق الأسهم، مع انتشار المضاربات.
لقد أثبتت هذه التجربة الفاشلة أنه يمكنك، كما يقول المثل القديم، أن تقود الحصان إلى الماء، لكن لا يمكنك أن تجعله يشرب. يمكن للحكومات (عبر البنوك المركزية) طباعة كميات هائلة من الأموال، لكن لا يمكنها إجبار الرأسماليين على استثمارها.
إن الرأسمالية نظام إنتاج من أجل الربح. وبالتالي فإن الرأسماليين لن يستثمروا إلا إذا كان من المربح لهم القيام بذلك. لكن الاقتصاد العالمي يعرف الآن، ولأكثر من عقد من الزمان، وفرة هائلة في السلع واحتياطيات ضخمة من النقد الخامل.
وبعبارة أخرى فإن الاستثمار في المشاريع وصل مستويات منخفضة جدا، ليس بسبب نقص المال (“السيولة”)، بل بسبب أزمة النظام الرأسمالي: فائض الإنتاج. لن تؤدي الجائحة إلى التخفيف من الوضع، بل ستؤدي إلى تفاقم كل هذه التوترات القائمة.
ومع تراجع الإغلاق، يمكن لخطر التضخم أن يرفع رأسه في مناطق معينة. في الوقت الحالي، مع إغلاق المتاجر وتعليق النشاط الصناعي، ليس للأموال، التي يتم رميها في الاقتصاد، مكان تذهب إليه. سيتم ادّخار الكثير منها للمستقبل، عندما يتم إعادة فتح الأعمال. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة الإنفاق.
لكن مع استئناف الإنتاج بطريقة متفرقة وغير متساوية، وحيث سلاسل التوريد العالمية تحطمت، واحتمال ظهور النزعات الحمائية، فقد يصطدم هذا الطلب المتزايد بجدار العرض المقيد. الشيء الذي قد يترتب عنه تضخم في بعض القطاعات.
وبالمثل، إذا اتبعت الحكومات، في كل مكان، سياسة تمويل العجز بالاقتراض والسياسات التوسعية إلى أجل غير مسمى، فإن ذلك في نهاية المطاف سيؤدي أيضا إلى التضخم -بل وحتى التضخم المفرط- حيث يتعارض الطلب، الموسع بشكل مصطنع، مع حدود القوى الإنتاجية للرأسمالية.
من المستحيل أن نقول بالضبط كيف ستسير الأمور عمليا. النظرية الاقتصادية الماركسية ليست أداة للتخمين الاعتباطي، بل هي تحليل جدلي ومادي لهذا النظام الدينامي والمعقد والمتناقض الذي هو الرأسمالية.
الشيء الذي يمكننا قوله على وجه اليقين هو أن كل بقايا الاستقرار سوف تتبخر بسرعة. التقلب والاضطراب هما “الوضع الطبيعي الجديد” عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد العالمي. ستسود نوبات من التضخم فوق الصورة العامة للانحسار والانكماش. ستكون السمة الغالبة هي الفوضى الرأسمالية.
لا شيء مجاني
في حين أنهم جميعا سعداء، على المدى القريب، برمي الأموال في خضم الأزمة، فإن الرأسماليين الأكثر جدية يعرفون أيضا أنه ليس هناك من وجبة غداء مجانية. سيتعين في المستقبل غير البعيد سداد الديون الحكومية المتراكمة الآن، مع الفائدة. سوف يكون على أحد ما دفع ثمن تلك الأزمة.
تحدد صحيفة ايكونوميست، في مقال افتتاحي حديث، الخيارات التي تواجه الحكومات ذات الرافعة المالية العالية في جميع أنحاء العالم. وفي النهاية تخلص الصحيفة الليبرالية إلى أنه يجب معالجة مشكلة الديون بإحدى الطرق الثلاث: إما من خلال الضرائب؛ أو من خلال التضخم؛ أو بواسطة العجز.
وتم الاستشهاد بمثال الحرب العالمية الثانية، عندما خرجت بريطانيا منها مثقلة بديون تعادل أكثر من 270% من الناتج المحلي الإجمالي. في ذلك الوقت تم استخدام مجموعة من السياسات التضخمية وزيادة الضرائب لتقليص الديون إلى أقل من 50% من الناتج المحلي الإجمالي. كما ساعد النمو غير المسبوق في تحقيق ذلك، من خلال تقليل عبء الدين نسبة إلى حجم الاقتصاد الكلي.
يقترح المقال استعمال ترسانة اقتصادية مماثلة اليوم. لكن، وكما يفعل الليبراليون دائما، يتجنب كتّاب الصحيفة السؤال السياسي الذي يوجد في صميم هذا الاختيار أي: من سيدفع الثمن؟
تلك الاختيارات الثلاثة المقترحة، لا أحد منها “محايد”. ففي النهاية هناك مسألة طبقية يتوجب الإجابة عنها. الضرائب، على سبيل المثال، ليست أرقاما مجردة، إذ يجب أن تقع إما على كاهل الطبقة الرأسمالية أو كاهل الطبقة العاملة. لكن الخيار الأول يؤثر على الاستثمار في الأعمال، والثاني يؤثر على الاستهلاك.
وينطبق الشيء نفسه على مسألة التخلف عن السداد. إذ في آخر المطاف من يملك الدين الذي سيتم التخلف عن سداده؟ الجواب مرة أخرى هو إما الرأسماليون، الذين يمتلكون ديون الحكومة كجزء من سلة من الاستثمارات؛ أو العمال، على شكل أرصدة تقاعدية ومدخرات أخرى.
كذلك الحال بالنسبة للتضخم، الذي باعتراف إيكونوميست نفسها، “سيؤدي إلى إعادة توزيع تعسفي للثروة على حساب الفقراء”.
وفي الوقت نفسه يجب أن نؤكد أن التوقعات الاقتصادية لما بعد الجائحة ليست توقعات للنمو. لن يكون هناك تكرار لطفرة ما بعد الحرب [العالمية الثانية]، والتي نشأت عن تظافر سلسلة غير مسبوقة من العوامل لن تتكرر اليوم.
الواقع أن الديون -العامة والخاصة- كانت قد وصلت بالفعل إلى مستويات عالية جدا حتى قبل أزمة كوفيد 19. وبينما تسدد الأسر والشركات والحكومات هذه الديون، المتراكمة من الماضي، فإن ذلك سيستنزف الطلب في المستقبل.
وفي المقابل، كما قلنا أعلاه، يؤثر الطلب المنخفض على الأسعار، مما سيؤدي إلى انكماش محتمل. كما أن تناقص الطلب يعني نسبة نمو ضعيفة- إن وجدت أصلا. وسوف يؤدي كل هذا إلى زيادة القيمة الحقيقية للديون وأعبائها.
الصراع الطبقي
هذا المنظور الذي يلوح في الأفق سيأتي فوق موجة تسونامي من الهجمات على الطبقة العاملة. من المرجح أن يزداد اللجوء إلى الآلات بعد نهاية الجائحة، حيث تتطلع الشركات إلى تقليل اعتمادها على العمال، مما سيخلق مخاوف بشأن “السباق ضد الآلة”.
وستزداد المنافسة العالمية بين العمال، مع توسع سوق العمل العالمي على خلفية زيادة العمل عن بعد، وعقد الاجتماعات عبر تقنية الفيديو، وغيرها من تقنيات الاتصالات الجديدة في أماكن العمل.
وبدون زيادة معادلة في الأجور، سيشهد العمال انخفاضا حقيقيا في أجورهم نتيجة للتضخم. سيؤدي ذلك إلى موجة من الإضرابات والنضالات العمالية، حيث سيتطلع العمال إلى استعادة ما فقدوه.
وهذا الواقع -أي تصاعد الصراع الطبقي- هو المنظور المفقود في التقييمات الغامضة التي يقوم بها المحللون الليبراليون. وحتى صحفيو إيكونوميست المفصولون عن الواقع، يضطرون على مضض إلى استنتاج ما يلي: «بطريقة أو بأخرى، ستأتي الفواتير في نهاية المطاف. وعندما ستأتي قد لا تكون هناك طريقة غير مؤلمة لتسويتها».
نقول في أخر التحليل، إن المجتمع ينقسم بشكل أساسي إلى طبقات. وسيتعين إما على الطبقة الرأسمالية أو على الطبقة العاملة دفع ثمن هذه الأزمة. والنتيجة النهائية لن يتم تحديدها من خلال المعادلات الاقتصادية أو المخططات الفكرية، بل من خلال صراع القوى الحية.
إننا ندعوكم للانضمام إلينا في هذا الصراع، إلى جانب العمال والشباب، للنضال من أجل مستقبل اشتراكي.
آدم بوث
04 ماي 2020
عنوان ومصدر النص: