أدت جائحة فيروس كورونا إلى الإغلاقات وفرض القيود على الحركة ونقص الإمدادات الطبية والغذائية في جميع أنحاء العالم. لكن كل تلك الأشياء تعتبر هي الوضع العادي في قطاع غزة، حتى قبل الجائحة. قطاع غزة، الذي يرزح بالفعل تحت قيود ثقيلة وخصاص شديد، منذ بداية الحصار قبل 13 عاما، مجبر الآن على أن يواجه تهديد كوفيد 19.
وعلى الرغم من أن صحيفة جيروزاليم بوست وصفت القطاع بأنه “المكان الأكثر أمانا في العالم” بسبب عزلته، فإنه سجل، يوم الأحد [29 مارس]، أول تسع حالات مؤكدة. بدأ الفيروس في غزة عندما دخلها رجلان مصابان من مصر بعد زيارتهما لباكستان. ردا على ذلك قامت حكومة حماس بإغلاق المطاعم وقاعات الأفراح وأوقفت صلاة الجمعة في القطاع. ودخل حوالي 2000 من سكان غزة في الحجر الصحي الذاتي. وعلى بعد كيلومترات فقط، عبر الحدود العسكرية في إسرائيل، ارتفع عدد المرضى هذا الأسبوع إلى 4247 مع 15 وفاة. حكومة نتنياهو التي أربكها الوضع بشكل كامل فرضت إغلاقا تاما، وقررت معاقبة السفر غير الضروري بغرامات باهظة. أما في الضفة الغربية، حيث اعتاد السكان منذ فترة طويلة على حظر التجول والإغلاق القسري، تم إيقاف الحياة كليا من قبل السلطة الفلسطينية، بقيادة فتح، والحكومة الإسرائيلية منذ تأكيد أول حالة إصابة بكوفيد 19 في بيت لحم بداية هذا الشهر [مارس]. وقد سجلت المحافظة المحتلة بالفعل 99 حالة مؤكدة ووفاة امرأة مسنة. لكن لا فتح ولا حماس قادرتان على التعامل مع ما هو قادم. فمع ظروف الحياة البائسة أصلا والغياب شبه الكامل للرعاية الصحية، فإن غزة والضفة الغربية ستتضرران بشدة بالفيروس.
تدعي إسرائيل أنها قلقة من انتشار الفيروس في غزة. وعلى الرغم من النقص في أجهزة اختبار كوفيد 19 في إسرائيل، فقد التزمت إدارة نتنياهو بإرسال 200 من تلك الأجهزة إلى غزة. صرحت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (COGAT)، التي هي الهيئة العسكرية المكلفة بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، أن: «الفيروسات والأمراض ليس لها حدود، وبالتالي فإن منع انتشار فيروس كورونا في قطاع غزة [والضفة الغربية] مصلحة إسرائيلية رئيسية». لكن هذا الادعاء يتناقض مع الممارسة حيث هاجم الجيش الإسرائيلي مؤخرا الخيام الطبية التي أقيمت في غزة للتعامل مع تفشي المرض. لا شك في أن إسرائيل تأمل في محاصرة الوباء داخل حدود غزة، مما سيعرض ملايين الفلسطينيين للخطر الجسيم. وسيؤدي ذلك إلى اندلاع أزمة رهيبة خلال الأشهر المقبلة، وسيصطف طابور طويل من اللاجئين على الحدود الإسرائيلية بحثا عن المساعدة الطبية.
وفي الوقت نفسه تعمل الحكومة الاسرائيلية في الداخل على بذل جميع الجهود لضمان مرور الاقتصاد الإسرائيلي من أزمة كوفيد 19 بأقل قدر من الأضرار. سيفرض على 70.000 عامل عربي في إسرائيل أن يقيموا في أماكن عملهم ليواصلوا العمل في البناء والزراعة. تفضل الطبقة الحاكمة أن تعرض حياة هؤلاء العمال للخطر عوض رؤية الصناعة تتراجع. وهناك تقارير تفيد بأن نتائج بعض العمال الفلسطينيين في إسرائيل جاءت إيجابية، وبدلا من تقديم العلاج لهم، تم طردهم ببساطة إلى حدود الضفة الغربية.
غير صالحة للسكن أصلا
نظام الرعاية الصحية المعطوب في غزة تجاوز حدوده منذ فترة طويلة. فبعد خمس سنوات من بدء الحصار الإسرائيلي المصري، عام 2007، أصدرت الأمم المتحدة تقريرا توقعت فيه أن غزة ستصير غير صالحة للسكن بحلول عام 2020. في بداية العام كان أكثر من نصف الأدوية الأساسية قد انخفض إلى النصف أو اختفى بشكل كامل. لا يوجد سوى 2895 سرير مستشفى لأكثر من 02 مليون نسمة: هذا يعني 1,3 سرير لكل 1000 شخص، بينما كانت منظمة الصحة العالمية قد ذكرت أن هناك حاجة إلى ما لا يقل عن خمسة أسرة لكل 1000 شخص للتعامل مع تفشي كوفيد 19. وما زاد الطين بلة هو أن الحكومة لا تمتلك سوى 62 جهاز للتنفس الاصطناعي، من بينها 15 قيد الاستخدام بالفعل. وقالت منظمة الصحة العالمية إنهم سيحتاجون على الأقل إلى 100 جهاز آخر للتعامل مع تفشي المرض، لكنهم غير قادرين على توفيرها.
لكن على الرغم من ذلك لم تقدم منظمة الصحة العالمية من دعم سوى مستشفى ميداني يتألف من 38 سريرا. وأوضح مدير مكتب منظمة الصحة العالمية في غزة، عبد الناصر صبح، إنهم قادرون على معالجة الحالات المائة الأولى فقط في حالة تفشي المرض ببطء. وقد أقامت حماس 20 منشأة للحجر الصحي مخصصة قادرة على إيواء 1200 شخص. تفاقمت حدة الأزمة بسبب نقص الأطباء. وفي حين كان تقرير الأمم المتحدة لعام 2012 قد قال إن غزة ستحتاج إلى 1000 طبيب جديد بحلول عام 2020، فإنها فقدت 160 في السنوات الثلاث الأخيرة بسبب فرار آلاف الأشخاص من القطاع بحثا عن ظروف معيشية أفضل.
هذا الوضع ليس مصادفة بل هو نتيجة سنوات من الهجمات المدمرة التي شنتها الإمبريالية الإسرائيلية، والتي حطمت الظروف المعيشة في غزة وخلقت فجوة بين مستوى المعيشة بين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين يعيشون على الجانب الآخر من الحدود. يعيش الإسرائيليون في المتوسط عشر سنوات أطول من الفلسطينيين. ومع ظهور جائحة كوفيد 19 في الأفق، فقد خلقت هذه الظروف وضعا خطيرا للغاية للمنطقة بأكملها.
محاصرة في قفص
الابتعاد الاجتماعي من بين الطرق التي يتم بها إبطاء انتشار كوفيد 19. لكن هذا الإجراء شبه مستحيل في قطاع غزة، التي لديها واحدة من أعلى الكثافات السكانية في العالم، بوجود 6028 شخص في كل كيلومتر مربع. وفي الجهة الأخرى من السياج في إسرائيل، تصل الكثافة السكانية 500 شخص لكل كيلومتر مربع. المكان الوحيد الذي يسجل كثافة أعلى هو هونغ كونغ، حيث على الأقل توجد حرية حركة نسبية. أكبر المراكز السكانية هي مخيمات اللاجئين، التي تضم كثافة أعلى بشكل غير متناسب من المدن. ففي مخيم جباليا، يعيش 140.000 لاجئ في مساحة 1,4 كيلومتر مربع فقط. يحتوي المخيم على ثلاث عيادات ومستشفى واحد فقط. إن هذا المستوى من الكثافة السكانية، إلى جانب الافتقار التام إلى أي بنية أساسية حقيقية بسبب الحصار والاحتلال المستمرين من قبل إسرائيل، يعني أنه لا يوجد للفلسطينيين في غزة أي مخرج. كيف يمكنك أن تطبق العزل عندما تكون العائلات والجيران والأصدقاء وأبناء العم في نفس المنزل الصغير؟
الفقر المدقع منتشر في كل القطاع ولا توجد وظائف. بين عامي 2012 و 2020، قفزت البطالة الرسمية في غزة من 29% إلى 53%، مع 67% بين الشباب. حتى أبسط الضروريات، مثل المياه الصالحة للشرب، غير متوفرة في غزة. ووفقا للأمم المتحدة، فإن 97% من المياه المخزنة جوفيا غير صالحة للاستهلاك البشري. يتعارض هذا مع كل ما يلزم للتعامل مع الأزمة. تعتبر المعدات الطبية والأدوية والنظافة من المتطلبات الأساسية للتعامل مع أي مرض، ناهيك عن فيروس خبيث مثل كوفيد 19. لكن ما نراه في غزة هو العكس تماما. إن أي مرض سيجتاح السكان، وبسبب الحصار والاحتلال فإنهم سيتركون لمصيرهم. غالبا ما يوصف الوضع في غزة بأنه أزمة إنسانية، أي وضع مؤسف بدون حل أو سبب. ويتم تصوير أزمة كوفيد 19 بطريقة مماثلة. لكن هذه الظروف البربرية هي نتاج خالص للإمبريالية الإسرائيلية وحلفائها “الديمقراطيين” في الغرب. كما أن الفظائع التي سيتسبب فيها فيروس كورونا بين سكان غزة ستكون مسؤوليتهم أيضا.
الاحتلال الإسرائيلي
لقد تسببت سنوات من العدوان الإمبريالي الإسرائيلي، بدعم من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، في جعل غزة واحدة من أكثر المواقع عرضة للخطر على هذا الكوكب إذا حدث تفش خطير للوباء. لقد وقع عمال غزة بين مطرقة الإمبريالية وسندان الفصائل البرجوازية المتنافسة، مثل حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي فشلت جميعها في تقديم أي حلول.
لقد قيدت الدولة الإسرائيلية قدرة الشعب الفلسطيني على الحصول على الغذاء والكهرباء والإمدادات الطبية. وقامت بتقييد امكانية الحصول على المواد ذات الاستخدام المزدوج للمستشفيات ومعدات الصرف الصحي، مما سيضعف بشكل ملحوظ أي كفاح ضد كوفيد 19. وهذا ليس بجديد، لأن الحصار حال طيلة سنوات دون وصول المساعدات الإنسانية. حتى الأطباء الذين كانوا يعالجون جرحى احتجاجات العودة الأخيرة تعرضوا لإطلاق نار عشوائي من طرف الجيش، مثل طبيب كندي من مدينة لندن في مقاطعة أونتاريو. لقد أوقفت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق جميع عمليات الدخول إلى إسرائيل من غزة والضفة الغربية. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك، كما قال مسؤول كبير في وزارة الصحة الفلسطينية، يوم الأحد، لصحيفة إسرائيل هايوم، مخاوف كبيرة من أنه إذا انتشر الفيروس في غزة وانهار نظام الرعاية الصحية الهش أصلا، “سيحاول آلاف الفلسطينيين الوصول إلى الحدود الإسرائيلية”. لقد أدى الحصار إلى نزوح حتى عمال الصحة، مما جعل من توصية توفير ما بين 300 و400 طبيب للتعامل مع تفشي المرض حلما طوباويا. يمثل هذا أزمة إنسانية خطيرة، ويمكن أن يحاول مئات الآلاف من الفلسطينيين اليائسين التماس اللجوء والمساعدة الطبية في إسرائيل نفسها.
وفي الوقت نفسه لا يستطيع الفلسطينيون الاعتماد على قادتهم للتعامل مع الأزمة. يستخدم القادة البرجوازيون معاناة العمال في الصراع ضد خصومهم السياسيين. فالسلطة الفلسطينية، بقيادة فتح، تواصل معاقبة غزة ومنع وصول الإمدادات الطبية الأساسية إلى المرضى. في الواقع ليست فتح اليوم سوى عميل للإمبريالية الإسرائيلية، تعمل كحارس سجن ضد الشعب الفلسطيني. أما حماس، التي كانت على خلاف مع فتح، فقد بدأت الآن تدعوا إلى “الوحدة الفلسطينية”، ملمحة إلى نوع من التعاون مع فتح مقابل رفع العقوبات عن غزة. لكن هذه الوحدة بين جناحي البرجوازية الفلسطينية ليس لديها ما تقدمه للشعب الفلسطيني.
لقد عملت البورجوازية الفلسطينية لعقود جنبا إلى جنب مع الإمبريالية وباعت العمال مقابل جزء من ثمار استغلال الجماهير الفلسطينية. يعود هذا إلى اتفاقيات أوسلو، التي شكلت خيانة كاملة للانتفاضة. القيادة الفلسطينية، بسبب رفضها القطع مع الرأسمالية، دفعت الجماهير إلى طريق مسدود. وقد كانت في هذا مدعومة من قبل الحكام العرب الذين، على الرغم من كل حديثهم عن تحرير فلسطين، كانوا دائما متحدين مع الطبقة الحاكمة الإسرائيلية. ومن ثم فإن أوضاع الجماهير صارت أكثر سوءا. ومع انتشار كوفيد 19 ستتسارع هذه السيرورة.
وبينما دخلت السلطة الفلسطينية في حالة من الذعر، وأعلنت حالة الطوارئ وقامت بالقليل من الإجراءات، فقد أظهر العمال أنه بإمكانهم قيادة أنفسهم. ففي بيت لحم، التي تعتبر بؤرة كوفيد 19 في الضفة الغربية، نظم 3000 عامل صفوفهم في لجنة طوارئ. يمتلك العمال الفلسطينيون تقاليد ثورية عظيمة في القدرة على تنظيم أنفسهم في مجالس، يعود تاريخها إلى الانتفاضة الأولى عندما فشلت قيادتهم عن القيام بالمثل.
على تلك المجالس أن تتوجه بالدعوة للطبقة العاملة الإسرائيلية، التي تعاني بدورها من نقص تمويل قطاع الرعاية الصحية، على الرغم من الثروة الهائلة الموجودة في المجتمع. ومع تعمق الأزمة في إسرائيل سيزداد السخط الجماهيري تأججا. وهكذا، ستسنح الفرصة، عاجلا أم آجلا، أمام الجماهير الفلسطينية للتواصل مع المزاج المناهض للنظام في إسرائيل من أجل خلق جبهة عمالية موحدة ضد الطبقة السائدة الإسرائيلية.
لقد أدت الأزمة الصحية إلى رفع بعض الأشخاص مطلب الوحدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن ماذا يعنيه ذلك؟ هل يقصدون الوحدة بين الطبقة السائدة الإسرائيلية وبين الشعب الفلسطيني؟ ذلك شعار خاطئ! إن الوحدة الوحيدة الممكنة هي الوحدة بين العمال والفقراء في إسرائيل وفلسطين، الذين سيُطلب منهم دفع ثمن الأزمة الصحية التي تسبب فيها النظام الرأسمالي.
آدم زين الدين وبلال فرح
07 أبريل 2020
عنوان ومصدر النص بالإنجليزية: