بعد أكثر من 25 سنة بقليل على تأسيسه، صار الاتحاد الأوروبي يبدو وكأنه سينهار تحت وطأة تناقضاته الخاصة. أينما تنظر ترى أن الأحزاب الرئيسية تتعرض لضغوط متزايدة نتيجة لتفاقم الصراع الطبقي بسبب أزمة استمرت 10 سنوات. هذا يعني أن الطبقات السائدة في كل البلدان، الواحد منها تلو الآخر، لم تعد قادرة على الحكم بالطريقة القديمة.
في ألمانيا، أثارت سنوات التقشف والتقاسم غير المتساوي لثمار النمو الضعيف موجة رفض واسعة النطاق تجاه الأحزاب الرئيسية. يدفع هذا الوضع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU إلى استخدام لغة ديماغوجية أكثر فأكثر، ويجعله يبتعد أكثر فأكثر عن تمثيل الطبقة السائدة. وفي إيطاليا فقدت الطبقة السائدة بشكل كامل السيطرة على الحكومة، التي تمر بمرحلة تصادم مع الاتحاد الأوروبي بسبب مسألة الديون. وفي فرنسا، عرف ماكرون، الذي يعتبر “المنقذ” المفترض للديمقراطية الليبرالية، تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، ويبدو مشلولا في سعيه إلى تنفيذ سياسة التقشف التي تتطلبها الرأسمالية في البلاد. أما في بريطانيا، فقد فقدت الطبقة السائدة سيطرتها على حزبها التقليدي، وتجد نفسها مدفوعة في اتجاه خروج غير منظم من الاتحاد الأوروبي يتعارض كليا مع مصالحها. سيكون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لوحده أمرا عسيرا بما يكفي بالنسبة للاتحاد الأوربي، لكن هناك العديد من الأزمات الأخرى التي تحدث في وقت واحد، والتي يمكن لأي منها أن تكون القشة الأخيرة التي قد تحطم ظهر الاتحاد الأوروبي.
ألمانيا: من كونها “دعامة الاستقرار” إلى كونها عاملا لزعزعة الاستقرار
قبل عامين، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، كتبت صحيفة نيويورك تايمز أن أنجيلا ميركل: “برزت باعتبارها آخر مدافع قوي عن أوروبا والتحالف العابر للأطلسي”. ونقلت عن نائب مدير مركز الإصلاح الأوروبي، سايمون تيلفورد، قوله إنه: “من حسن الحظ أن ألمانيا تقودها الآن ميركل، لأن هناك فرصة لأن تفعل ما تحتاجه أوروبا”. لكن أنجيلا ميركل تحولت من “دعامة الاستقرار”، إلى أن أصبحت الآن عاملا آخر من عوامل زعزعة استقرار أوروبا، كما هو الحال في ألمانيا ككل.
في الفترة الأخيرة كان أداء الاقتصاد الألماني جيدا، ظاهريا على الأقل، وبرزت ألمانيا كمرساة راسخة في خضم الوضع العالمي المضطرب. كانت الحكومة تتوقع نموا اقتصاديا بنسبة 2,3% لعام 2018، كما كانت تسجل نسبة نمو بحوالي 2% منذ عام 2014. علاوة على ذلك، كانت ألمانيا، باعتبارها البلد الأقوى في الاتحاد الأوروبي، محمية بعض الشيء من الاضطرار إلى تنفيذ سياسات التقشف الوحشية التي شهدتها بعض البلدان الأخرى. تظهر نقابة “مؤتمر النقابات العمالية” (TUC) البريطانية، على سبيل المثال، أنه خلال الفترة ما بين 2007 و2015، ارتفعت الأجور الحقيقية في ألمانيا بنسبة 14%، بينما شهدت المملكة المتحدة انخفاضا في الأجور الحقيقية بأكثر من 10%.
ومع ذلك فبينما تصور هذه الأرقام صورة وردية للحياة في ألمانيا، فإن الواقع مختلف تماما. فقد تعرض العمال الألمان، كما أوضحنا في مكان آخر، لتقشف صارم قبل الأزمة الاقتصادية. كانت “أجندة 2010″، التي نفذتها حكومة جيرارد شرويدر -الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر- منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، قد تضمنت تخفيضات ضريبية للأثرياء إلى جانب تخفيضات في المعاشات التقاعدية والتعويض عن البطالة للبقية. وكان ذلك يعني أنه بحلول عام 2008، تم تخفيض حصة الأجور من الدخل القومي إلى 64,5%، وهو أدنى مستوى منذ 50 عاما. لقد تم تخفيض سعر العمالة، وهو ما أدى، إلى جانب الاستثمارات الكبيرة في الصناعة، إلى تحويل ألمانيا من “رجل أوروبا المريض” إلى اقتصاد جد تنافسي في السوق العالمية. لكن لم يلمس الجميع المكاسب الناتجة عن نمو الرأسمالية الألمانية، حيث أن نحو 40% من السكان اليوم لديهم قدرة شرائية ومستوى معيشي أدنى مما كان عليه الحال قبل 20 سنة مضت، وبلغ عدم المساواة في الثروة أعلى مستوى له منذ عام 1913، وخلال العام الماضي كان أكثر من 15 مليون شخص -أي حوالي خمس السكان- معرضون لخطر الفقر أو الاقصاء الاجتماعي.
هذا الضغط على مستويات المعيشة للطبقة العاملة الألمانية والطبقة الوسطى هو الذي يعبر الآن عن نفسه على شكل السخط تجاه الأحزاب السياسية الرئيسية. لقد أعطت الاستطلاعات التي أجراها المعهد الوطني للإحصاء / يوجوف (EnSA / YouGov) للائتلاف الرئيسي أقل من 40% من الأصوات. كما انخفض الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD) إلى حوالي 14%، ووضعته العديد من استطلاعات الرأي وراء حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف. ولوضع هذا في سياقه نشير إلى أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي قد حصل على 20,5% في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة، التي كانت في حد ذاتها أسوأ نتيجة يحصل عليها الحزب في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب. وفي الوقت نفسه، فإن الاتحاد (الائتلاف بين الاتحاد الاجتماعي المسيحي [CSU] والاتحاد الديمقراطي المسيحي [CDU]) تراجع إلى ما يزيد قليلا عن 25%. وهو ما يعتبر بدوره هبوطا حاد من الـ 33% التي كان الائتلاف قد حققها في الانتخابات الفيدرالية، والتي كانت في حد ذاتها أسوأ نتيجة له منذ عام 1949.
الاستقطاب في ألمانيا
ما نراه يحدث في ألمانيا هو نفس السيرورة التي تحدث في جميع أنحاء العالم، أي: الاستقطاب إلى اليسار وإلى اليمين، مما يؤدي إلى رفض واسع لكل ما يمت بصلة إلى “المؤسسات”، مما يجعل من الصعب للغاية بالنسبة للطبقة السائدة أن تحكم بالطريقة القديمة.
حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي [CDU] هو الممثل التقليدي للطبقة السائدة في ألمانيا. لكن الطبقة السائدة لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من المجتمع الألماني، ولذا فإنها تضطر إلى الاعتماد على فئات مختلفة، لا سيما الفئات المتوسطة (البرجوازية الصغيرة كما وصفها ماركس) والفئات المتخلفة من الطبقة العاملة. إلا أن مشكلتهم هي أن الأزمة الرأسمالية تجبر مختلف طبقات المجتمع على الصراع. تؤيد الطبقة السائدة الألمانية قبول اللاجئين إلى ألمانيا، ليس بسبب دواعي إنسانية، بل لأنها تزيد من توفير العمالة الرخيصة، وتخفف من حدة التوتر داخل الاتحاد الأوروبي. كما تؤيد المشاركة في الاتحاد الأوروبي، وذلك ليس لدواعي أممية، بل لأنه يوفر لها سوقا لتصدير بضائعها. لكن لسوء حظ الطبقة السائدة، وفي ظل غياب أي بديل حقيقي من جانب اليسار، فإن دعاية حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) التي تزعم أن الهجرة هي سبب سقوط مستويات المعيشة، تبدو وكأنها معقولة. فإذا أضفت إلى هذا حقيقة أن حزب البديل من أجل ألمانيا قد تحدث أيضا عن الدفاع عن “المواطن البسيط”، من خلال رفع الحد الأدنى للأجور وتخفيض الضرائب على العائلات التي لديها أطفال، لا يبقى من المدهش أن بعض العمال الذين يشتغلون في أعمال غير مستقرة قد تحولوا إلى مساندة هذا الحزب. وبالمثل فإن الفئات البرجوازية الصغيرة، التي كانت توفر قاعدة لحزب الديمقراطيين المسيحيين في الماضي، قد تقلصت صفوفها بسبب المنافسة المتزايدة في السوق العالمية. وفي هذا السياق، تمكن الموقف المعادي للاتحاد الأوروبي الذي يتبناه حزب البديل من أجل ألمانيا ورفضه لاتفاقية TTIP [اتفاقية الشراكة عبر الأطلسي للتجارة والاستثمار] من كسب الدعم.
شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا أجبرت حزب الديمقراطيين المسيحيين على التحول إلى اليمين من أجل الحفاظ على شعبيته، مما يجعله أقل قدرة على أداء دور الخادم المخلص للطبقة السائدة. وهذا ما يفسر بعض “الخطابات القاسية” التي أطلقتها ميركل وسيهوفر حول الهجرة خلال الأشهر القليلة الماضية. لكن تصعيد خطابهم المناهض للهجرة، في محاولة لاستعادة الناخبين الذين يتحولون إلى حزب البديل لأجل ألمانيا، قد أزعج بعض مؤيديهم السابقين، وكما قلنا سابقا، فقد خسر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي عدد من الناخبين لصالح حزب الخضر الليبرالي مثلما خسر لصالح حزب البديل لأجل ألمانيا. إن أحزاب الطبقة السائدة تخسر قاعدتها التقليدية، الأمر الذي فتح شروخا بين مختلف ممثليها.
يجب أن نفهم استقالات كل من أنجيلا ميركل وهورست سيهوفر في هذا السياق. في الوقت الحالي هناك ثلاثة من المرشحين الرئيسيين في السباق للحلول محل ميركل في منصب زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي: أنجريت كرامب- كارينباور وفريدريك ميرز وجينز سبان. أنجريت كرامب- كارينباور هي الأقرب سياسيا من ميركل. لقد دعمت سياسات الهجرة التي وضعتها ميركل، كما كانت هي التي نظمت الحملة الانتخابية للحزب في العام الماضي. أما فريدريك ميرز فكان قد غادر الحياة السياسية في عام 2009 بعد صراع مع ميركل. إنه من الجناح اليميني للحزب، يتبنى نظرة رجعية محافظة للمسائل الاجتماعية، لكنه أيضا ليبرالي متطرف عندما يتعلق الأمر بالمسائل الاقتصادية. هناك بعض التكهنات التي تقول بأنه قد يدفع في اتجاه اندماج أكبر للاتحاد الأوروبي. بينما جينز سبان هو وزير الصحة الحالي وكان ينتقد ميركل بشكل علني، حيث عارض إصلاحات منطقة اليورو.
من الواضح أن المتاعب التي يواجهها الحزب سوف تستمر أيا كان من سيحل محل ميركل. في الواقع لقد حرص جميع الزعماء المحتملين الثلاثة على الابتعاد بأنفسهم عن ميركل. وحتى أنجريت كرامب- كارينباور وصفت أداء ميركل في منصب المستشارة خلال الأشهر القليلة الماضية بأنه “شاحب”. لذلك قد نرى في المستقبل صراعا بين أنجيلا ميركل، التي قالت أنها ستبقى في منصب المستشار، وبين الزعيم الجديد لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، في سياق سعي مختلف أجنحة الطبقة السائدة لإيجاد قادة سياسيين للتعبير عن مصالحها.
المزيد من الاضطرابات في المستقبل
إضافة إلى ذلك فإن ضغوط المجتمع على الأحزاب الرئيسية من المرجح أن تزداد قوة. كان اقتصاد ألمانيا قويا نسبيا خلال السنوات القليلة الماضية بفعل قوة صادراتها الصناعية. لكن هذا القطاع هش بشكل خاص تجاه الحرب التجارية التي تختمر بين الولايات المتحدة والصين بسبب الدور الذي يلعبه هذان البلدان في سلاسل التزويد الخاصة بالصناعة. علاوة على ذلك فإن دونالد ترامب كان قد وجه اللوم لألمانيا، بالإضافة إلى الصين، بسبب الفائض التجاري الذي تحققه مع الولايات المتحدة. وقد دفعه ذلك إلى التهديد بفرض الرسوم الجمركية على السلع الألمانية، الشيء الذي سيضر بشكل كبير بصناعة السيارات الألمانية.
كل هذا الوضع المضطرب له تأثير كبير. وكان تقرير سنوي لمجلس الخبراء الاقتصاديين الألماني قد حذر من أنه من المرجح أن يتباطأ النمو إلى 1,6% هذا العام، مقابل 2,2% العام الماضي. وأشار إلى أن السبب في ذلك هو “الصراعات التجارية المشتعلة في جميع أنحاء العالم”. علاوة على ذلك عرف الاقتصاد الألماني في الربع المالي الأخير انخفاض الصادرات للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاث سنوات. وكان هذا الانكماش إلى حد كبير نتيجة لقيام كبريات شركات صناعة السيارات الألمانية بوقف إنتاج السيارات لضمان امتثالها لمعايير الانبعاثات الجديدة للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، وكما أوضح كبير الاقتصاديين في “كوميرزبانك”، يورج كريمر، لصحيفة “فاينانشال تايمز” فإنه: “حتى بدون هذا، فإن الاقتصاد الألماني لم يكن لينمو بسبب تراجع الطلب من الصين”. الشيء الواضح هو أن عدم اليقين حول ما يمكن أن تعرفه التجارة العالمية قد يؤدي إلى حدوث ركود كبير في ألمانيا ومنطقة اليورو ككل. وبالتالي فإن ما نشهده في نهاية المطاف هو أن الأزمة في المجتمع وانخفاض مستويات المعيشة للكثيرين قد أدت إلى فقدان الأحزاب الرئيسية في كل من اليسار واليمين لمصداقيتها.
أزمة الديون الإيطالية
ومثلما أدت الأزمة في ألمانيا إلى إضعاف قدرتها على التأثير على الأحداث في أوروبا ككل، فإن الحكومة الإيطالية تدخل الآن في مواجهة مع المفوضية الأوروبية. يدور الخلاف حول المستوى المسموح به للديون العمومية وأفضل طريقة للتعامل معها. إن إيطاليا تحتل المرتبة الثالثة في العالم من حيث حجم الدين العام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي والمرتبة الثانية في منطقة اليورو. وعلاوة على ذلك فهي ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، مما يعني أن حدوث اضطراب فيها يمثل تهديدا للاستقرار المالي في جميع أنحاء أوروبا.
من المؤكد أن ديون الدولة الإيطالية لا ترجع إلى إسراف الحكومات المتعاقبة، إذ أنه في الواقع تم استخدام جميع الديون الجديدة منذ عام 2002 لدفع الفائدة وليس للإنفاق. تشير صحيفة “فاينانشيال تايمز” إلى أن الحكومات الإيطالية حققت فائضا ماليا أساسيا بشكل مستمر منذ عام 1992. وهذا يعني أنه إذا استبعدت الأموال التي تدفعها الحكومة لخدمة ديونها، فإن الميزانية ستسجل فائضا. وبالتالي فإنه يتم اعتصار الطبقة العاملة الإيطالية لسداد الديون فقط.
إن السبب الأساسي للمشكلة التي تعرفها إيطاليا هو، كما أوضحنا سابقا، انخفاض مستوى الإنتاجية. وفي ظل ظروف الأزمة، حيث يحتد الصراع على السوق وتصير المنافسة أكثر شراسة، يصبح هذا الضعف مشكلة خطيرة. منذ تطبيق اليورو، ارتفعت تكاليف وحدة العمل في إيطاليا بنحو 20% مقارنة مع ألمانيا وبنسبة 10% مقارنة بمنطقة اليورو ككل. ويتفاقم هذا الضعف بسبب أن إيطاليا عضو في منطقة اليورو، مما يمنعها من تخفيض قيمة العملة، كما كانت تعمل في الماضي. كان من شأن تخفيض قيمة العملة أن يجعل الصادرات الإيطالية أرخص وبالتالي أكثر قدرة على المنافسة. تشير “فاينانشيال تايمز” كذلك إلى وجود نقص في التحديث الصناعي في البلاد، مع وجود عدد كبير من الشركات العائلية الصغيرة التي هي أقل إنتاجية من نظيراتها في أماكن أخرى”. وبالفعل فإن 95% من الشركات الإيطالية لديها أقل من 10 موظفين.
أفاد المعهد الوطني الإيطالي للإحصاء مؤخرا أن 17,5 مليون شخص يعيشون الآن تحت خط الفقر، وهو ما يعادل نحو ثلث مجموع السكان. ومن بين هؤلاء هناك 4,74 مليون شخص يصنفون بكونهم في “فقر مدقع”، مما يعني أنهم غير قادرين على شراء السلع والخدمات الأساسية. وقد ازداد هذا العدد بسرعة من 1,7 مليون في عام 2006. يبلغ معدل البطالة الآن 9,7%، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 3% تقريبا منذ عام 2008. وقد بلغت نسبة البطالة بين الشباب 31.6%. علاوة على ذلك لم تقدم الحكومات الإيطالية السابقة سوى القليل من المساعدات لصالح الشباب، حيث أن 4% فقط من الإنفاق الاجتماعي موجه لمن هم تحت سن الأربعين. وقد أجبر مزيج بطالة الشباب المرتفعة وضعف المساعدات الحكومية بعض العائلات على العيش على معاش فرد واحد فقط من أفرادها. وكانت رويترز، على سبيل المثال، قد أجرت مقابلة مع رجل تعيش كل عائلته على معاش تقاعدي قيمته 800 يورو في الشهر لإحدى أفراد الأسرة، والذي يستخدم لتغطية نفقات معيشة تلك السيدة المتقاعدة وابنها وحفيدها.
تصاعد الراديكالية
لقد أدت هذه الأوضاع إلى تزايد الراديكالية بين الجماهير، مما تسبب في انتشار واسع لانعدام الثقة في المؤسسات. أجرت صحيفة فاينانشيال تايمز مقابلة مع سيمون شيانتس، وهو شخص عاطل عن العمل من نابولي، والذي قال: “لقد آمنا بأشياء كثيرة لوقت طويل، وكنا دائما نتعرض للإحباط”. هذه الراديكالية هي ما يفسر الرفض الشديد تجاه الأحزاب الرئيسية في الانتخابات الاخيرة. فاز الحزب الديمقراطي بنسبة 18,76% من الأصوات، مقابل 25,43% في الانتخابات العامة عام 2013، في حين أن حركة الخمس نجوم، التي تشكلت في عام 2009 فقط، فازت بأكبر عدد من الأصوات بنسبة 32,68%. كما حققت رابطة الشمال اليمينية المتطرفة نتيجة جيدة حيث حصلت على 17,35% من الأصوات.
ليس من المستغرب أن يكون أداء هذين الحزبين جيدا، فقد شمل برنامج حركة الخمس نجوم دعوة إلى تطبيق “دخل المواطن” بما مقداره 780 يورو شهريا (وهو المبلغ الذي سيزيد دخل العائلة التي أجرت رويترز المقابلة معها بثلاثة أضعاف على الأقل)، ووضع حد لهشاشة الشغل وإلغاء السياسات التقشفية ضد نظام التقاعد التي طبقتها حكومة الحزب الديمقراطي. وبالإضافة إلى ذلك فإن خطابات ماتيو سالفيني ضد “المضاربين”، إلى جانب دعواته لفرض ضريبة تصاعدية، قد جذبت العديد من صغار المقاولين البرجوازيين المأزومين، وفي الوقت نفسه (مرة أخرى في غياب أي قيادة يسارية) اكتسبت المشاعر المعادية للمهاجرين بعض الجاذبية.
هناك آمال كبيرة بين الإيطاليين بأن الحزبين سيتمكنان من تنفيذ برامجهما. إن الحزبين الحاكمين محاصرين، فإذا اتضح أنهما يخونان برامجهما، فإن الدعم الذي حصلا عليه يمكن أن يتبدد بسهولة. لكن في ظل الرأسمالية من المستحيل تطبيق تلك البرامج. تخطط الحكومة لزيادة الإنفاق وخفض الضرائب، في حين أن الدين العام قد بلغ أصلا مستويات جد مرتفعة، والعالم على وشك الدخول في ركود جديد. لن يكون أحد مستعدا لإقراض الحكومة المال اللازم لتنفيذ ذلك.
من المرجح أن هذه الاعتبارات هي التي دفعت الحكومة إلى استنتاج أنها بحاجة إلى التوصل إلى نوع من التخدير: تقديم بعض الإصلاحات الضئيلة من أجل تهدئة قاعدتها دون أن تزيد نسبة العجز أكثر من اللازم. يدور الصراع حول الميزانية الإيطالية حول ما إذا كان من الممكن رفع العجز بـ 0,8% في العام المقبل أم لا. وهذا المبلغ ليس كافيا على الإطلاق لتغطية تكاليف “دخل المواطن” المقترح. لكن حتى هذه الزيادة المتواضعة في العجز كانت أكبر من أن تقبلها المفوضية الأوروبية. وقد أشار رئيس المفوضية، جان كلود يونكر، إلى أن ميزانية الحكومة الإيطالية غير مقبولة لأن “مستوى الدين العام مرتفع للغاية… ومشروع الموازنة لا يحترم تماما توصيات وزراء منطقة اليورو”.
بيع الديون
أثارت المواجهة مخاوف المستثمرين في الديون الإيطالية، الذين كانوا قلقين بالفعل من أن الحكومة الجديدة لن تنفذ سياسات تقشفية “معقولة”. ومنذ وصول الحكومة الجديدة إلى السلطة، في منتصف شهر ماي، بلغ صافي مبيعات الأصول الإيطالية من قبل المستثمرين الأجانب 17 مليار يورو شهريا. لقد أدى هذا إلى ارتفاع سعر الديون الإيطالية، حيث ارتفع الفارق بين السندات الإيطالية لأجل 10 سنوات وبين نظيراتها الألمانية إلى 3,15% في منتصف نوفمبر، مرتفعا من 1,3% في منتصف ماي. وهذا يعني أن الحكومة الإيطالية ستضطر لدفع فوائد أكثر بنسبة 3% على ديونها مقارنة بالحكومة الألمانية. وفي حين أن الحكومة لن تشعر بالتكاليف المتزايدة إلا عندما ستضطر إلى إصدار سندات جديدة لتمويل استرداد الديون المستحقة، فإن الزيادة في سعر الفائدة ستؤدي حتما إلى زيادة العجز. وبسبب حجم الدين الإيطالي، يمكن لهذا أن يصبح مشكلة بسرعة كبيرة ويؤدي إلى تخلف الدولة عن سداد التزاماتها، الأمر الذي سيمثل كارثة بالنسبة لمنطقة اليورو. وقد أدت المخاوف بشأن قدرة الحكومة الإيطالية على سداد ديونها إلى قيام وكالة تصنيف، واحدة على الأقل، هي وكالة موديز، بتخفيض تصنيفها الائتماني إلى درجة واحدة فوق نقطة “سيء”. سيكون تصنيف “سيء” حافزا لفرار الرساميل من الديون الإيطالية ومن شأنه أن يمنع البنك المركزي الأوروبي، الذي يستحوذ على حوالي 15% من إجمالي الدين الإيطالي، من شراء المزيد من السندات، وهذا بدوره يمكن أن يكون سببا في التخلف عن السداد.
بالإضافة إلى ذلك يتعرض البنك المركزي الأوروبي لضغوط من أجل زيادة أسعار الفائدة. يشعر العديد من المعلقين بالقلق من حقيقة أن أسعار الفائدة المساوية للصفر في الوقت الراهن، لا توفر أي مجال للمناورة في حالة اندلاع أزمة اقتصادية جديدة. علاوة على ذلك هناك قلق من أن بعض الاقتصادات تعاني من فرط الانتاج، مع مستويات منخفضة للغاية من البطالة وزيادة في الأجور، الشيء الذي يكون، في الأوقات العادية، علامات على ضرورة رفع أسعار الفائدة.
لكن قيام البنك المركزي الأوروبي بزيادة أسعار الفائدة مع ارتفاع عائدات السندات الحكومية قد يعني أن هذا الوضع سيتفكك بسرعة. يتوقع بنك جولدمان ساكس أن مدفوعات الفوائد الإيطالية سترتفع إلى 4,6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018. من المرجح أن يؤثر هذا الوضع على عقول مسؤولي البنك المركزي الأوروبي عندما سيقررون ما إذا كانوا سيزيدون أسعار الفائدة، مما يقلل من هامش المناورة عندهم.
يوضح الوضع في إيطاليا، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم، أنه في ظل ظروف الأزمة، إذا حاولت الطبقة الرأسمالية استعادة التوازن على الصعيد الاقتصادي، فإنه يمكن لذلك أن يدمر التوازن على الصعيد الاجتماعي أو السياسي. إن تخفيض مستويات معيشة الطبقة العاملة الإيطالية لأجل دفع الفوائد للبنوك أدى إلى ضرب شديد للاستقرار، وتسبب في فقدان الطبقة السائدة الإيطالية للسيطرة على الحكومة. تلخص صحيفة فاينانشال تايمز هذا الشعور السائد بين صفوف الطبقة السائدة عندما اشتكت من أنه “في عصر تهيمن عليه بشكل متزايد وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المزيفة، لم تعد البرلمانات كافية لحماية الأجيال الحالية والمستقبلية من السياسات غير المسؤولة والقصيرة الأجل المدفوعة باعتبارات انتخابية بدلا التفكير الاقتصادي والمالي الرصين”. إن ما يقولونه، من وجهة نظرهم الخاصة، هو أنه بسبب الصراع الطبقي المكثف، تبدأ جميع اليقينيات القديمة في الذوبان. لقد كانت هناك دائما “أخبار مزيفة”، لكن الجديد اليوم هو أن أكاذيب الطبقة السائدة قد أصبحت أقل إقناعا.
ايمانويل ماكرون المنقذ؟
في حين تعيش ألمانيا في خضم أزمة سياسية وإيطاليا معرضة لخطر التخلف عن سداد الديون، تطلعت الطبقات السائدة في أوروبا إلى رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، لأجل استلام زمام القيادة. في أبريل من العام الماضي فقط أطلقت الطبقة السائدة الفرنسية صيحات النصر بسبب فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية عام 2017 بنسبة 66% من الأصوات. كان ماكرون، الذي اعتبر نفسه الزعيم العظيم، “سيجعل العالم عظيما مرة أخرى” مع إصلاح شامل لفرنسا وأوروبا ككل. من المفترض أن “الشعبوية” قد هُزمت. ومع ذلك، فبعد مرور عام ونصف العام بقليل، انخفضت معدلات شعبيته إلى 29%، الشيء الذي اضطره، بحسب ما ورد في بعض التقارير، إلى أخذ عطلة للتعافي من انهيار عصبي.
في أوروبا كان ماكرون ينوي بالتأكيد محاربة قوى التفكك التي تمزق الاتحاد الأوروبي. لقد دعا إلى إنشاء صندوق مالي مشترك لمنطقة اليورو، سيتم تمويله من خلال مساهمات البلدان وضرائب جديدة. بعد ذلك يمكن استخدام هذه الأموال لتعزيز النمو وتحقيق الاستقرار في البلدان التي تعاني من الصدمات الاقتصادية. وبالإضافة إلى ذلك فإنه يدفع في اتجاه دعم مالي أكبر للبنوك المتعثرة. يبدو كل هذا جيدا جدا بالفعل، بالنظر إلى الوضع في إيطاليا. من الناحية النظرية يبدو أن فكرة إنشاء صندوق أموال أوروبي من أجل مساعدة الاقتصاد الإيطالي وتوفير الدعم للمصارف المتعثرة، ستكون مفيدة للغاية.
إلا أنه سيكون من المستحيل على ماكرون تحقيق هذه الإصلاحات. كان يأمل في البداية الاعتماد على أنجيلا ميركل لمساعدته، إذ أن الاقتصاد الألماني يعتمد على الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي، ولا يمكنه تحمل تكاليف تفككه. إن رحيل ميركل من رئاسة حزب الديمقراطيين المسيحيين والأزمة السياسية التي تلت ذلك يجعل هذا الأمر صعباً للغاية. صحيح أن فريدريك ميرز والخضر يؤيدان الاندماج في الاتحاد الأوروبي أكثر من ميركل، لكن الأزمة السياسية قد تجعل من المستحيل على أي شخص مساعدته في تحقيق هذه الإصلاحات. وهذا ما يفسر لماذا جاء الاتفاق الذي تمكنا من التوصل إليه أقل طموحا بكثير. فمع عدم ذكر أي أرقام تقرر ألا يتم استخدام ميزانية منطقة اليورو لتنفيذ تدابير لمواجهة التقلبات الدورية، بل ستخصص فقط لتعويض التخفيضات المحتملة في الإنفاق على البحث والتطوير التي قد يقوم بها بلد ما عند مواجهة الانكماش الاقتصادي. إن هذا في الواقع مجرد عملية لحفظ ماء وجه ماكرون.
كما يتوجب على ماكرون أيضا أن يسعى بشكل رئيسي إلى إقناع قادة مجموعة من دول أوروبا الشمالية، الذين ردوا عليه مؤخرا من خلال الدعوة إلى مزيد من المسؤولية الوطنية عن المالية العامة وتقليص الدعم من الاتحاد الأوروبي. وإحدى الطرق التي يمكنه من خلالها إقناع هذه المجموعة هي تسريع إصلاحاته الموعودة في الداخل. يبلغ عجز فرنسا 2,8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي زيادة من 2,6% في العام الماضي. إن التحفظ الذي أبدته بعض الدول تجاه اقتراحات ماكرون ينبع، في جزء منه، من رغبتها في تجنب عرقلة تطبيق سياسات تقشف “معقولة”. وبالتالي سيكون ماكرون أقل قدرة عن إقناع زعماء آخرين داخل أوروبا إذا ظهر أن فرنسا غير قادرة على التعامل مع عجزها الخاص.
هل يستطيع ماكرون تسريع تقدم إصلاحاته؟
في الواقع لقد بدأ ماكرون يتعرض بالفعل للهجوم من قاعدته بسبب عدم تحركه بالسرعة الكافية لتنفيذ إصلاحاته. وعلى سبيل المثال، دعاه رئيس أكبر اتحاد لأرباب العمل في فرنسا، جيوفروي رو دي بزيو، إلى “تسريع وتيرة” إصلاحاته. إلا أنه اعترف في نفس الآن بأن هذا قد لا يكون سهلا للغاية، وقال إنه “أصبح من الأصعب الآن تسريع [التغيير]، بالنظر إلى حالة الرأي العام واستطلاعات الرأي”. لقد تراجعت شعبية ماكرون إلى مستوى أدنى حتى من ذلك الذي سجله فرانسوا هولاند في هذه المرحلة من رئاسته، وما زال عليه أن يحاول إصلاح نظام التقاعد والرعاية الصحية والإدارة العامة المركزية والمحلية. لقد فاز ماكرون بالرئاسة دون الكثير من الدعم، حيث فاز بنسبة 24% من الأصوات في الجولة الأولى، وحتى هذه النسبة قد تراجعت الآن. وقد تعرض لعدد من الاستقالات الوزارية، بما في ذلك جيرار كولومب، الذي اتهمه بـ “العجرفة” وقال: “في قصور الجمهورية نفقد القدرة على الارتباط بالسكان والاستماع لهم”.
وعد ماكرون بأن إصلاحاته المؤلمة ستؤدي إلى انخفاض البطالة وزيادة النمو. ومع ذلك فإن معدل البطالة لم يتغير إلا بالكاد منذ أن وصل ماكرون إلى السلطة، كما أن الرقم الحالي يحجب الوضع الحقيقي. لقد حدث ارتفاع هائل في عدد الناس الذين لا يعملون سوى عدد قليل من الساعات كل أسبوع والذين ما يزالون بحاجة إلى المساعدة. لقد تضاعف عددهم تقريبا منذ عام 2008 إلى 2,2 مليون شخص. وبالإضافة إلى ذلك اضطر رئيس الوزراء إلى تخفيض توقعات النمو، الضعيفة أصلا، من 1,9% إلى 1,7% في غشت.
لكن إذا مضى ماكرون قدما في تطبيق إصلاحاته، فمن المحتمل أن يتسبب ذلك في حدوث انفجار اجتماعي ضخم. وقد شهدنا هذا الشهر بالفعل انطلاق حركة “السترات الصفراء” التي شارك فيها مئات الآلاف من المحتجين ضد مقترح زيادة الضريبة على البنزين، وهي الحركة التي تدعمها أغلبية كبيرة من الشعب.
عندما جاء ماكرون إلى السلطة بدا كما لو أن الطبقة السائدة الفرنسية في وضع قوي للغاية. لكن تحت السطح كان هناك نفس السخط الذي نشهده في أماكن أخرى في أوروبا. لم يكن انهيار الحزب الاشتراكي الفرنسي وحزب الجمهوريين، واستبدالهم بحزب إلى الأمام، علامة قوة بل علامة ضعف. ومع استمرار تراجع شعبية ماكرون صار هاك فراغ يجب ملؤه بطريقة أو بأخرى.
أزمة بريكست
وكما لو أن كل هذه المشاكل لم تكن كافية للاتحاد الأوروبي، فقد وجد نفسه مجبرا على التعامل أيضا مع خروج ثاني أكبر اقتصاد داخله. قال تروتسكي ذات مرة إن “الإمبرياليين البريطانيين … يفكرون بمقاييس القرون والقارات”. لكن اليوم لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول إن الطبقة السائدة البريطانية قد فقدت السيطرة على الوضع. يبدو أنها غير قادرة على التخطيط حتى لما سيحدث الأسبوع القادم، فبالأحرى القرن المقبل. يبدو أن انحطاط الرأسمالية البريطانية سيتم تسريعه بفعل الخروج الفوضوي من الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو أن هناك الكثير مما يمكن للطبقة السائدة القيام به حيال ذلك.
ليس بريكست نتيجة “أخبار مزيفة” أو تدخل الروس أو جيريمي كوربن. إنه نتيجة لعشر سنوات من التقشف وانهيار مستويات المعيشة، مما خلق استياء كبيرا في المجتمع. ومن غير المستغرب أن الطبقة السائدة وممثليها في الحكومة قد عملوا على أن تدفع الطبقة العاملة ثمن الأزمة الاقتصادية لعام 2008. ففي السنوات العشر التي مرت على الأزمة شهد العمال انخفاض دخلهم بمتوسط قدره 800 جنيه إسترليني في السنة. وبالإضافة إلى ذلك تشير تقارير الأمم المتحدة إلى وجود 14 مليون شخص يعيشون في الفقر و1,5 مليون شخص في مفقر مدقع، مما يعني أنهم غير قادرين حتى على شراء السلع الأساسية. وقد تسبب هذا في تنامي كراهية العديد من الناس ضد المؤسسات والوضع القائم.
هذا هو السياق الذي يمكننا من خلاله فهم التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. تظهر استطلاعات الرأي، في الواقع، أن أولئك الذين يُرجح أن يصوتوا لصالح “الخروج” هم الأشخاص الذين ينتمون للفئات الأكثر تضررا من التقشف. لهذا فقد صوت العديد من العمال لصالح خروج بريطانيا بسبب اشمئزازهم من الوضع القائم. لقد مثل بريكسيت، بالنسبة للكثيرين على الأقل، نوعا من التغيير.
لكن هذا الوضع هو كابوس للطبقة السائدة. الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لبريطانيا، حيث ذهبت 44% من صادرات السلع والخدمات إلى بلدان أخرى في هذا التكتل التجاري عام 2017. وعلاوة على ذلك فإن العديد من الشركات في المملكة المتحدة تعمل وفقا لطريقة الإنتاج “في الوقت المحدد”، مما يعني أن أي تأخير أو تكاليف مضافة في فحص البضائع التي تعبر الحدود ستضيف تكاليف كبيرة على إنتاج تلك السلع. لذا فإن الطبقة السائدة ككل ترغب في بذل كل ما في وسعها لضمان موافقة الاتحاد الأوروبي على خروج سلس بقدر الإمكان. هذا ما يفسر الاستقبال الفاتر الذي لاقته تيريزا ماي عندما أبلغت عن الصفقة في مؤتمر اتحاد الصناعة البريطاني في 19 نوفمبر. وفي حين أنه من المؤكد أن هناك بعض الرأسماليين الأفراد ممن يؤيدون بريكست، فإنه لا يمكن إنكار أن القسم الأكبر من الطبقة السائدة البريطانية كان يؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الطبقة السائدة صارت عاجزة
المشكلة بالنسبة للطبقة السائدة البريطانية هي أنها فقدت السيطرة على حزبها التقليدي، حزب المحافظين. لقد فقد الحزب قاعدته التقليدية بشكل تدريجي. ومثله مثل العديد من الأحزاب البرجوازية الأخرى حول العالم، حاول حزب المحافظين حل هذه المشكلة من خلال إثارة النزعة القومية العنصرية بين فئات معينة من الطبقة البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة. لكن ولسوء حظهم عليهم الآن أن يحصدوا ما زرعوا، إذ أن هناك بعض الفئات التي اقتنعت بهذا الخط، وتعمل على دفعه إلى نهايته المنطقية. ليست هناك في الواقع من طريقة للتحكم في الهجرة داخل الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي مغادرة الاتحاد.
يظهر انحطاط الطبقة السائدة البريطانية بطرق عديدة وأحدها هو انحطاط حزب المحافظين. لقد كان هذا الحزب في الماضي مثار حسد الطبقات السائدة في العالم بأسره، لكنه اليوم يتفكك بفعل عوامل نبذ داخلية. فمن جهة هناك نزعة قوية للغاية من جانب أولئك الذين يعتقدون فيما يبدو أن بريطانيا تستطيع فعليا استعادة وضعها كقوة عالمية كبرى، بدلا من كونها قوة من الدرجة الثالثة كما هي اليوم. والممثل المثالي لهذا الاتجاه، هو الزعيم المحبوب من قبل أعضاء الحزب، جاكوب ريس موغ. أما من جهة أخرى فبدلا من رجال الدولة الأرستقراطيين السابقين الذين كانوا يقودون حزب المحافظين في مصلحة الرأسمالية البريطانية، فقد صار الحزب تحت هيمنة قادة وصوليين ذوي رؤية قصيرة المدى. وكمثال على ذلك قام ديفيد كاميرون، في محاولة منه لاسترضاء الجناح اليميني للحزب، بمقامرة قصيرة النظر بتنظيم استفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي. وقد خسر بالطبع هذا الاستفتاء، وترك حزب المحافظين في صراع مفتوح مع نفسه.
في الأوقات العادية لم يكن هذا ليكون شيئا خطيرا، إذ عادة كان سيتم تنظيم انتخابات عامة. عادة ما كان يتم استدعاء قادة حزب العمال عند الحاجة لتشكيل الحكومات وخدمة مصالح الطبقة الحاكمة، وتشويه سمعتهم بأنفسهم ثم تمرير السلطة مرة أخرى إلى حزب المحافظين بمجرد ما يتمكن من استعادة قوته. لكن اليوم حتى حزب العمال بدوره قد تم الاستيلاء عليه. فقد دخل إليه مئات الآلاف من الأعضاء الجدد الراديكاليين من أجل محاربة التقشف. لذلك لم يعد من الممكن الوثوق بحزب العمال، ليس بسبب الزعيم، جيريمي كوربين، بل بسبب مئات الآلاف من العمال والشباب الراديكاليين الذين دخلوا الحزب وسيمارسون ضغوطا هائلة على الحكومة العمالية المستقبلية. يمكن لحكومة حزب العمال أن ترفع آمال أبناء الطبقة العاملة البريطانية، ولذا يجب تجنبها بأي ثمن.
ترغب غالبية الطبقة السائدة بشدة في تجنب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنها تملك قدرة محدودة للغاية للقيام بذلك. وكل طريق تسلكه يهدد بإيصالها إلى المزيد من الاضطرابات. ومن المرجح أن يؤدي تنظيم استفتاء آخر إلى تفاقم الاستقطاب العميق داخل المجتمع. وبالمثل فإن الاتفاق الذي أبرمته تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي، والذي أيده رئيس اتحاد الصناعات البريطانية CBI باعتباره “تقدما”، ليس من المؤكد أن يمر عبر البرلمان. لا تمتلك حكومة المحافظين الأغلبية إلا بفضل دعم الحزب الديمقراطي الوحدوي، الذي قال إن الاتفاق يكسر “أحد الاتفاقات الأساسية التي تجمع بيننا وبينهم”. يعتبر الحزب الديمقراطي الوحدوي، بشكل صحيح، أن الاتفاق سيؤدي إلى معاملة أيرلندا الشمالية بشكل مختلف عن بقية المملكة المتحدة، وبالتالي فإنه، بالنسبة لهم، سيؤدي إلى التراجع على طريق توحيد أيرلندا. وبالإضافة إلى ذلك، فعلى الرغم من الضغوط الهائلة من جانب الطبقة السائدة (إلى جانب الرشوة الصريحة)، فإن ماي لا يمكنها حتى الاعتماد على حزبها للتصويت على الصفقة.
وأخيرا فعلى الرغم من أن البليريين يمثلون بالتأكيد صوت الطبقة السائدة داخل حزب العمال، فإن ممارسة الضغط على هذا الفصيل من أجل التصويت لصالح الصفقة أمر محفوف بالمخاطر. من شأن ذلك أن يخلق قدرا كبيرا من السخط داخل الحزب، ومن المرجح أن يؤدي إلى المزيد من الراديكالية. لقد واجه العديد من البرلمانيين البليريين التصويت بعدم الثقة في فروعهم المحلية، وإذا ظهر أنهم يدعمون الحكومة فإن المزاج سيحتد ويمكن أن تحدث موجة من المعارضة أثناء التصويت. وهذا يعني أن الفروع المحلية ستصوت لمنع النواب الحاليين من الترشح باسم حزب العمال في الانتخابات المقبلة واستبدالهم بآخرين. قد ترغب الطبقة السائدة أيضا في بقاء البليريين داخل الحزب باعتبارهم طابورا خامسا مستعدين للانشقاق وإسقاط حكومة كوربن المستقبلية عند نقطة معينة. وعلى أي حال فليس من المؤكد أن يؤدي حتى ضغط الطبقة السائدة إلى إقناع البليريين بالتصويت لصالح الصفقة. إن هذه المجموعة، والقاعدة الضئيلة جدا التي تمتلكها في المجتمع، قد تعرضت لخلاف كبير بفعل مسألة الاستفتاء الثاني لفرض بقاء البلد داخل الاتحاد الأوروبي. ولهذا فإن الصفقة قد لا تكون كافية بالنسبة لهم.
من الصعب جدا التنبؤ بما سيحدث بالضبط في بريطانيا، لكن هناك بعض الأشياء الواضحة: لقد فقدت الطبقة السائدة، في الوقت الحالي على الأقل، السيطرة على الوضع وأصبح كلا الحزبين الرئيسيين على حافة الانقسام. وهذا وضع غير مسبوق بالنسبة لهذا البلد المعروف سابقا بحياته السياسية الراكدة.
الاتحاد الأوروبي في أزمة
قد يختلف شكل الأزمة داخل أوروبا من بلد إلى آخر، لكن المحتوى هو نفسه. ففي كل بلدان الاتحاد الأوروبي كانت الطبقة العاملة والشباب والفقراء هم الذين طلب منهم دفع ثمن الأزمة. تسبب ذلك في خفض مستويات المعيشة وأثار سخطا عارما، كما أجبر الناس على البحث بشكل حثيث عن حلول لمشاكلهم. الشيء الذي يعني التخلص من جميع اليقينيات القديمة.
يعني بريكست أن الاتحاد الأوروبي سيفقد ثاني أكبر اقتصاد له. لقد تسبب انحطاط حزب المحافظين في إجراء الاستفتاء، وكان ذاك القدر الهائل من الغضب الذي يغلي داخل المجتمع يعني أن العديد من أبناء الطبقة العاملة صوتوا “للخروج” من أجل توجيه صفعة للمؤسسات. وبغض النظر عن نوع الاتفاقية التي سيتم التوقيع عليها في النهاية، فمن المرجح أن نرى فرض بعض الحواجز أمام التجارة نتيجة لذلك التصويت. وبالنظر إلى حقيقة أن بريطانيا هي ثالث أكبر شريك تجاري لألمانيا، فإن ذلك سيزيد المشاكل التي تواجه اقتصاد منطقة اليورو الذي يتباطأ بالفعل.
وعلاوة على ذلك فإن هذا يقع قبل حدوث الركود الكبير التالي. فعلى كل حال من المفترض أن الاقتصاد يعرف حالة من التعافي! وقد دفعت المخاوف بشأن الركود القادم بالبعض إلى اقتراح زيادة أسعار الفائدة. غير أن هذا لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل في بعض الأماكن مثل إيطاليا، وقد يدفع ببلدان من منطقة اليورو إلى الركود. لكن من ناحية أخرى إذا لم يقم البنك المركزي الأوروبي بزيادة أسعار الفائدة، فلن يكون لديه أي آليات للتعامل مع الأزمة القادمة. سيعمل البنك المركزي الأوروبي على إنهاء برنامج التسهيل الكمي هذا الشهر، ومن المرجح ألا يحظى بفرصة لرفع أسعار الفائدة قبل حدوث الكساد القادم، الأمر الذي سيترك الاقتصاد الأوروبي في وضع خطر للغاية.
لا يستطيع القادة الأوروبيون السماح لإيطاليا بالسقوط في العجز، وهذا ما يفسر تعنتهم عندما يتعلق الأمر بالإنفاق الحكومي. كان إنقاذ اليونان صعبا، رغم أن دين الحكومة اليونانية لم يكن سوى 250 مليار يورو، أما دين إيطاليا فيبلغ 1,2 تريليون يورو. لكن إصرارهم على انضباط الميزانية لن يؤدي إلا إلى زيادة مزاج معاداة الاتحاد الأوروبي السائد أصلا في البلاد.
وفي الوقت الذي يواجه فيه ماكرون وميركل الأزمات داخل بلديهما، يبدو أنهما غير قادرين على القيام بأي إصلاحات في منطقة اليورو. تتعرض ميركل لضغوط داخل ألمانيا للتخلي عن دعمها لاقتصادات أوروبا الجنوبية، ومن المرجح أن تواجه الإصلاحات الجديدة أو برامج الإنقاذ مقاومة شرسة من تلك العناصر في ألمانيا. أما وضع ماكرون فهو أسوء، حيث يتعرض للضربات من اليمين واليسار، ويرزح تحت ضغط حركة جماهيرية. إن الرصيد السياسي للقادة الأوروبيين قد تبدد، وسوف يتوجب عليهم بذل مجهودات خرافية من أجل العثور على الدعم لأي تضحيات أخرى للحفاظ على الاتحاد الأوروبي موحدا.
لقد أوضح الماركسيون دائما أن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يستمر إلا إذا استمر الاقتصاد ينمو. لكن تحت وطأة الأزمة ستعاود التوترات القومية الظهور على السطح. وهذا هو ما نشاهده اليوم. لقد دفعت الأزمة المصالح الوطنية إلى الواجهة حيث أن الطبقات السائدة في كل بلد تدافع عن مصالحها الخاصة أولا. هذا ما يؤدي إلى صعود الحمائية على الصعيد العالمي، وكذلك إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.
جاك هالينسكي فيتزباتريك
03 دجنبر 2018
عنوان النص بالإنجليزية: