الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الشرق الأوسط / العراق / بين الانتفاضات و الخيانات: موجز لتاريخ اليسار العراقي

بين الانتفاضات و الخيانات: موجز لتاريخ اليسار العراقي

شكل احتلال العراق بالنسبة للإمبريالية الأمريكية، مصدرا لمشاكل لا تنتهي. إذ لم تسر الأمور بالشكل الذي أرادته. فقد ظهرت إلى الوجود حركة جماهيرية ضد “المحررين”. إن الأئمة هم من ينظمون الآن هذه الحركة داخل المنطقة الشيعية. وهذا راجع، في جزء منه، إلى كون صدام حسين قد سحق كل المجموعات المعارضة، عندما كان في السلطة. لكنه راجع أيضا لأخطاء قادة الحزب الشيوعي العراقي (ح ش ع).

إن أكثر ما يخف البرجوازية العالمية، هو عودة الثورات المعادية للاستعمار. فبعد أمريكا اللاتينية والجزائر (منطقة القبايل) وفلسطين، جاء الدور الآن على الشرق الأوسط. هذا هو السبب الذي يجعل وسائل الإعلام تعمل على حقن الجيل الجديد بالأكاذيب حول تاريخ العراق. فخلال بث صور تدمير تمثال صدام حسين، في بغداد، أعلن مقدم أخبار القناة التلفزية الإسبانية تيلي 5 Telé: «لقد قام الديكتاتور بقلب النظام الملكي سنة 1958». إن هذه ليست سوى أكاذيب تهدف إلى إخفاء الطابع الجماهيري للحركات التحررية في البلدان المستعمرة، لا سواء في الماضي أو في الحاضر.

أصول الحزب الشيوعي العراقي:

تم تأسيس (ح ش ع) سنة 1935، عبر توحيد عدة مجموعات يسارية ومعادية للإمبريالية داخل العراق. كان العراق قد أصبح من الناحية الرسمية، بلدا مستقلا منذ 1932، لكنه استمر في الواقع بلدا خاضعا لسيطرة الإمبريالية البريطانية. إن القوات البريطانية كانت قد قامت سنة 1920 بسحق تمرد شعبي، مخلفة عشرة آلاف قتيل مرميين في الشوارع (حسب لورنس Lawrence).

عرفت البلاد خلال سنوات الثلاثينيات، بداية تطور صناعي. خاصة في قطاع البترول والنقل. آنذاك كانت الطبقة العاملة لا تزال قليلة الأهمية. سنة 1940، كان يشتغل في حقول النفط 13 ألف عامل، و11 ألفا في شركة السكك الحديدية وخمسة آلاف في منطقة الميناء قرب البصرة. ومما يحسب لـ(ح ش ع) الفتي آنذاك، هو قدرته على الانغراس بسرعة داخل هذه الطبقة العاملة الناشئة. ليصير منذ تلك الأثناء، المنظمة الرئيسية للطبقة العاملة العراقية.

لكن الحزب الشيوعي العراقي لم يكن بمنأى عن الانحطاط السياسي الذي أصاب الأممية الثالثة. ولقد كان التغير الذي حصل في توجهات سياسة موسكو الخارجية، سنة 1941، بعد بداية الاجتياح النازي للاتحاد السوفياتي، يعني أن جميع فروع الأممية الشيوعية، يجب عليها، بأمر من ستالين شخصيا، أن تقف إلى جانب الحلفاء. مما جعل (ح ش ع) يتبنى سياسة مساعدة القوات البريطانية. حيث يمكننا أن نقرأ في مقال صدر في صحيفة الحزب، ماي 1942 ما يلي: «أن حزبنا يعتبر الجيش البريطاني، الذي يحارب حاليا النازيين، جيشا محررا. . . إننا نقف إلى جانب بريطانيا، ويتوجب علينا بالتالي أن نقدم إليهم مساعدتنا، بقدر ما نستطيع.» هكذا عمل (ح ش ع) على تقديم دعمه للنظام الملكي وطبقة الملاكين العقاريين الكبار، الذين يحكمون البلد.

لقد اختفت من برنامج الحزب آنذاك جميع الشعارات الجذرية، من قبيل الدعوة إلى مصادرة ممتلكات الرأسماليين الأجانب وإقامة الجمهورية الديموقراطية، ولم يكن ممكنا حتى طرح الفدرالية العربية المتحدة واختفى طبعا منظور بناء الاشتراكية من دعاية الحزب.

صارت النظرية الستالينية حول “المرحلتين” منذ تلك الفترة بمثابة حجرة الزاوية في استراتيجية (ح ش ع): حيث المرحلة الأولى هي مرحلة “التحرر القومي” و”النضال من أجل الحقوق الديموقراطية” وفيما بعد المرحلة الاشتراكية. وقد دفعت هذه “النظرية” الحزب إلى عملية بحث يائسة لإيجاد قسم “تقدمي” داخل الطبقة السائدة، بكل ما لهذا المسعى من نتائج مأساوية.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، غير (ح ش ع) سياسته وبدأ ينتقد الجيش البريطاني والنظام الملكي. ولقد كان هذا انعكاسا للتجذر المتزايد بين صفوف الجماهير. إن هذه المنعطفات المفاجئة هي واحدة من مميزات (ح ش ع) طيلة تاريخه.

خلال يناير 1948 حدثت أكبر انتفاضة جماهيرية عرفها النظام الملكي العراقي. وقد عرفت هذه الحركة باسم الوثبة. إن الطلبة هم من كانوا السبب في هذه الحركة، التي امتدت فيما بعد إلى العمال والفلاحين الذين عملوا على احتلال الأراضي في أغلبية جهات الوطن. لقد نظمت العديد من المظاهرات الكبيرة، التي خرج فيها عشرات الآلاف إلى الشوارع. يوم 27 يناير أطلق البوليس النار على المتظاهرين، مخلفا قتلى ما بين 300 و400 شخص لكن هذا لم يوقف المظاهرة. مما دفع الوزير الأول إلى الفرار نحو بريطانيا، وتم تشكيل حكومة جديدة.

خلال شهر ماي، أدت موجة جديدة من القمع إلى وضع حد للاحتجاجات، وتم إعلان الأحكام العرفية. لكن الضربة الأشد قسوة التي وجهت إلى (ح ش ع) كانت هي قرار الاتحاد السوفياتي الاعتراف بدولة إسرائيل الجديدة ودعمها، في يوليوز/تموز 1948.

لقد كان لدعم موسكو لإسرائيل تأثير هائل على جميع الأحزاب الشيوعية في الشرق الأوسط. وفي العراق عمل العديد من المناضلين الرافضين لهذا الموقف، على مغادرة الحزب، الذي انخفض عدد أعضائه، من 4000 عضو في بداية 1948 إلى بضع مئات فقط. وطال القمع قيادة الحزب، وأعدم أمينه العام في أكبر ساحة في بغداد.

إن سياسة (ح ش ع) لم تكن أفضل من سياسة قادة الحزب الشيوعي السوري الذين دمجوا الحزب بحركة التحرر الوطني لكنهم رغم ذلك اخضعوا النضال الطبقي لمصلحة النضال من أجل الاستقلال القومي. إذ لم يفهموا أن هذين النضالين هما مرتبطان بروابط لا تنفصم. فالبرجوازية القومية تابعة للإمبريالية إلى درجة أنه فقط ثورة اشتراكية هي الوحيدة القادرة على تحقيق استقلال وطني حقيقي. كما أن الرأسماليين كانوا مرتبطين بقوة بالملاكين العقاريين، مما يجعل إمكانية تحقيق إصلاح زراعي فعلي رهين بمصادرة أملاك الرأسماليين والأبناك.

بعد فترة قصيرة من الزمن (من 1953 إلى 1955) سقطت قيادة (ح ش ع) تحت تأثير الثورة الصينية إلى درجة الإعلان بأن “أخذ السلطة السياسية من طرف البروليتاريا” صارت “مهمة عاجلة”، لكنها سرعان ما تفاجأت بالتحولات التي حدثت في مصر، بوصول عبد الناصر إلى السلطة. لتبدأ في الحديث عمّا اسمي “حكومة وطنية”.

ثورة 1958

إن تاريخ العقود الأخيرة في العراق يشبه إلى حد كبير مثيله في سوريا ومصر. فلقد شكلت الحركة في العراق جزءا من الحركات الثورية التي اجتاحت، طيلة سنوات الخمسينيات والستينيات البلدان المستعمرة سابقا، إذ أسقطت النظام الملكي العراقي، في 14 يوليوز/تموز 1958، بواسطة انقلاب عسكري نظمه ضباط متعاطفون مع النظام الناصري في مصر. وكان على رأسهم العقيد عبد السلام عارف والجنرال عبد الكريم قاسم. خلال نفس اليوم اجتاحت مظاهرة شعبية عارمة بغداد، شارك فيها ما لا يقل عن 100 ألف متظاهر خرجوا إلى الشوارع لكنس آخر ما تبقى من النظام السابق. وتم إعدام الأسرة الملكية.

لقد كانت فكرة هؤلاء القوميين العروبيين –”الضباط الأحرار”- تتمثل في اقتفاء أثر النموذج الناصري في مصر. هذا النموذج الذي انبنى أساسا على تدخل الدولة في الاقتصاد، بهدف خلق برجوازية وطنية قوية. لقد استفاد عارف وقاسم من المشاعر المعادية للإمبريالية والثورية السائدة بين أغلب الشباب والعمال العراقيين. كما سبق لنا أن أشرنا، كان العراق إلى حدود يوليوز/تموز 1958، خاضعا لحكم ملكية فيودالية موالية للإمبريالية: كان 80% من الساكنة فلاحون أميون، و56% يعانون من سوء التغذية. وكانت 49 عائلة فقط تمتلك 17% من الأراضي، وترتكز في بقائها في السلطة على دعم الرأسماليين الغربيين.

دفعت طيلة الأيام العاصفة لشهر غشت 1958 أدى الضغط الشعبي، بعارف إلى تبني لهجة ثورية، من قبيل الدعوة إلى تأسيس “جمهورية شعبية واشتراكية”. وتم الترخيص لجميع النقابات والأحزاب السياسية.

في خضم اندفاعة انقلاب 1958 تم تطبيق إصلاح زراعي، لكنه لم يسر بشكل جيد. إذ لم يتعامل مع مسألة الأرض إلا بطريقة سطحية: فلم تقدم للفلاحين قروض بفوائد منخفضة، لتمكينهم من اقتناء الآلات التي يحتاجونها. كما لم تكن مسألة تجميع الأراضي الزراعية مطروحة على جدول الأعمال، ليتقاطر الفلاحون المفقّرون على المدن بحثا عن منصب شغل. ولقد اضطرت الحكومة الجديدة، تحت الضغط الجماهيري، إلى القيام بإصلاح النظام التعليمي وقطاع الصحة والسكن. لكن حتى هنا، كانت الإجراءات المتخذة ضد امتيازات الرأسماليين، ضئيلة التأثير. إذ تركت الشركة البترولية العراقية (IPC) على سبيل المثال، في يد أربع شركات ذات أصول بريطانية، فرنسية، هولندية وأمريكية.

ما بين سنة 1961 و1964، بدا الأكراد – الذين كانوا منظمين أساسا داخل (ح ش ع) – يطالبون بالحكم الذاتي واقتسام السيطرة على نفط الشمال. لكن قاسم رفض. لو تمت الدعوة في العراق آنذاك بوضوح إلى وضع الصناعة النفطية تحت رقابة العمال وإعطاء الأرض للفلاحين، وضمان حق تقرير المصير للأكراد وبناء فدرالية اشتراكية في الشرق الأوسط، كان من الممكن للعراق أن يشكل الشرارة لحركة ضد الرأسماليين وكبار الملاكين العقاريين، في كل المنطقة. الشيء الذي كان سيشكل بداية ثورة اشتراكية في كل العالم العربي.

لم يكن (ح ش ع) عضوا في حكومة “الضباط الأحرار”. لكن قادته أرادوا الالتحاق بها. لقد أعلن عامر عبد الله (الذي كان المنظر الرئيسي للحزب إلى حدود 1961) أن «حزبنا يساند المصالح الاقتصادية للبرجوازية الوطنية باعتبار ذلك شرطا جوهريا لتطور دولة ديموقراطية برجوازية. إن مهمة الثورة تتمثل في تحقيق إصلاحات اجتماعية واقتصادية من داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية.».

وفي بحثه اليائس عمّا اسمي “برجوازية وطنية منتجة” تخلى الحزب حتى عن مطلب الفدرالية مع سوريا ومصر! مما خلق وضعا غريبا كان فيه الحزب “الشيوعي” العراقي يتموقع على يمين العروبيين من أمثال عبد الناصر! في نفس الوقت، وفيما يتعلق بالسياسة الداخلية، انتقد الحزب محدودية الإصلاح الزراعي ودافع بحزم عن حقوق العمال. على الرغم من أن الحزب تعرض طيلة سنوات، لأقصى ظروف القمع إلا أنه ظل قادرا على الاستمرار كقوة جماهيرية. في سنة 1959 كان مناضلو الحزب يصلون إلى 25 ألفا، وحسب صحفيين أجانب كان الحزب “يسيطر على شوارع بغداد”. وفي أكثر من 3500 “جماعة قروية” كانت 60% منها تحت سيطرة الحزب. خلال ربيع 1959 وصل عدد الشباب المنخرطين في صفوفه إلى 84 ألفا.

في ماي 1959، تظاهر مليون شخص في شوارع بغداد، تحت راية (ح ش ع). ويصف آلان دولس Allen Dulles رئيس CIA آنذاك، الوضع في العراق قائلا “إنه الوضع الأكثر خطورة في العالم حاليا”. لقد كان بإمكان الحزب الشيوعي إسقاط النظام بسهولة نسبية، لكن عندما أطلق هذا الأخير موجة من القمع، استسلمت القيادة. وأوقف القادة كل مظاهر الانتقاد نحو الحكومة. وأعلنوا أن الإصلاح الزراعي قد صار أخيرا كافيا.

لقد كان هذا منعطفا حاسما في تاريخ (ح ش ع). فاستعداده لعقد مساومة مع النظام لم تمكنه من تفادي المواجهة النهائية، ليتم دحره خلال أربع سنوات فقط. خلال هذه السنوات الأربع، سببت سياسة المساومات التي كانت القيادة تقوم بها ورفضها قيادة النضال، في إضعاف الحزب وجعله يفقد قاعدته الشعبية.

مئات الشيوعيين اعتقلوا وتم إعدامهم، وصودرت الصحافة الشيوعية. بهذه الطريقة شكر قاسم الحزب على تعاونه الطبقي! سنة 1960 لم تعد منظمة الشبيبة التي يسيطر عليها الحزب، تضم سوى 20 ألف عضو. الشيء غير المعقول هو أن قيادة الحزب واصلت على الرغم من كل هذا دعمها لنظام قاسم! فعلى سبيل المثال عندما خرج قاسم من المستشفى بعد نجاته من محاولة اغتياله، نظم الحزب الشيوعي تجمعا لاستقباله.

في فبراير 1963، عشية انقلاب عارف، المدعوم من طرف حزب البعث، كان (ح ش ع) قد صار يضم فقط 8000 عضو، 5000 منهم داخل العاصمة. لقد حاول الشيوعيون تنظيم المقاومة لكن قاسم رفض تسليح الشعب. كان القمع آنذاك وحشيا. إذ تم اعتقال الآلاف من الشيوعيين. وحدثت عدة انشقاقات داخل صفوف الحزب وتدمرت هياكله الوطنية.

المراحل المختلفة لتطور البونابرتية العراقية

لقد حاول البعثيون إبان وصولهم إلى السلطة، إضفاء الشرعية على أنفسهم أمام الجماهير، فأعلنوا كونهم “اشتراكيين”. وسنة 1964 كان النظام مجبرا على توقيع هدنة مع الشعب الكردي، وتأميم بعض القطاعات الصناعية، وكل النظام البنكي والتأمينات. لكن تم التراجع عن بعض تلك الإجراءات سنتان فقط بعد ذلك. ما بين سنة 1963 و1968، صار تاريخ العراق عبارة عن سلسلة من الانقلابات، كادت معها البرجوازية (الضعيفة أصلا) أن تختفي.

لكن على الرغم من كل هذا، واصل (ح ش ع) سياسته في البحث عن “جناح تقدمي” داخل الدولة العسكرية. مضيعا وقته في القفز من هذه الجهة إلى تلك، بطريقة فجائية. ولقد علق قادته أملهم على عروبية الحزب البعثي. أدت هذه السياسة في الأخير، سنة 1967، إلى حدوث انشقاق ماوي، اختار مناضلوه المشكلون من بضع مئات، تنظيم حرب العصابات.

لقد كان محكوما على المحاولات اليائسة، التي قام بها قادة (ح ش ع) لإيجاد “جناح تقدمي” داخل صفوف البرجوازية الوطنية، بالفشل. إذ كيف يمكن لبلد متخلف كالعراق أن يحارب الفقر ويؤسس ديموقراطية ثابتة على أسس رأسمالية، في الوقت الذي كانت الإمبريالية تعتبره ملكية لها؟ إن الطبقة الرأسمالية العراقية، ظهرت إلى الوجود متأخرة جدا، مما يمنعها من لعب أي دور مستقل، ومن أن تدخل أية إصلاحات من شأنها تمكينها من أسس صلبة. ليس ممكنا للعراق أن يتقدم إلا عبر ثورة اشتراكية، تصادر أملاك الرأسماليين المتحكمين في الصناعات الرئيسية، وتطبيق خطة إنتاج اشتراكية وديموقراطية. بالإضافة إلى هذا فإنه وبالنظر إلى هيمنة الإمبريالية على السوق العالمية، كانت الثورة الاشتراكية في العراق ستكون الخطوة الأولى في النضال من أجل بناء الاشتراكية في كل المنطقة. إن منظورا كهذا كان يصيب البرجوازية العراقية الضعيفة وممثليها في السلطة، بالرعب.

ما بين 1968 و1974 وقعت حكومة البكر(من عصابة البعث في تكريت) اتفاق سلام مع الأكراد وعملت على تأميم الصناعة النفطية، إذ منع على الأجانب أي نوع من الملكية، وقد كان لهذه الإجراءات بعض التأثير وتحسنت الظروف المعيشية للعمال في بداية السبعينيات. هذه هي المرحلة التي اتجهت خلالها الحكومة نحو الاتحاد السوفيتي باحثة عن المساعدة لتطوير الصناعة البترولية وتدعيم البرجوازية الوطنية.

عمل قادة (ح ش ع)، سيرا على هدي توجيهات موسكو، على إقامة تحالف مع حزب البعث وبدأوا يبحثون عن “طريق لا رأسمالي للتطور”. لقد صار صدام حسين يوصف بكونه “بطل التحرير الوطني” الذي كان الحزب الشيوعي ينتظره منذ القديم. لقد أجبر مجرى الأحداث، النظام على التخفي وراء قناع يساري. وهكذا قبل النظام، لفترة من الزمن، بوجود الحزب الشيوعي ووزراء أكراد داخل الحكومة. لكن شهر العسل هذا كان قصيرا جدا. إذ استعمل البعثيون دعم القادة الشيوعيين خدمة لمصالحهم الخاصة. فبفضل الغطاء اليساري الذي وفره (ح ش ع) صار بإمكان النظام تطبيق أول إجراءات التراجع عن الإصلاحات الاقتصادية، ويقوم منذ الأسابيع الأولى من سنة 1978، بعد إحساسه بنوع من القوة، بإطلاق موجة قمع جديدة ضد الشيوعيين.

من أين أتى صدام ؟

بسبب أزمة 1973 في الشرق الأوسط، وهزيمة الولايات المتحدة في الفيتنام، والانهيار الاقتصادي العالمي سنة 1974/1975، صارت الإمبريالية عاجزة عن التدخل في العراق. إن ارتفاع أسعار البترول الذي حصل آنذاك، كانت له انعكاسات كبيرة على البلد. فخلال العشرين سنة السابقة، تضاعفت أسعار البترول بشكل متواصل، لكنها لم تصل إلا إلى المبلغ المتواضع 572 مليون دولار. لكنه مع الارتفاع الذي عرفته هذه الأسعار أواخر السبعينيات ارتفعت المداخيل بسرعة، لتصل إلى 26,5 مليار دولار سنة 1980.

ما بين سنة 1975 و1978 انخرطت الحكومة في برنامج لخوصصة الصناعة الكبيرة، بهدف تقوية القطاع الخاص، الذي تضاعف حجمه ثلاث مرات. وسنة 1980 صار العراق يضم 700 مليونير. وتحولت الدولة العراقية إلى بقرة حلوب لدى العائلات الغنية. وصارت جماعة صدام فاحشة الثراء. إذ امتلكت أراضي شاسعة وعددا كبيرا من شركات صناعة النسيج. وفي الوقت الذي كانت الدولة تشجع فيه، المرابين والنصابين، تعرضت الطبقة العاملة للاضطهاد الشديد: إذ منعت حرية التعبير والنشاط النقابي والأحزاب السياسية. وتحولت كردستان إلى مستعمرة داخلية للعراق.

سنة 1979، خلف صدام حسين، البكر في رئاسة العراق. وكانت إحدى أولى إجراءاته تنقيل مليون كردي بالقوة في إطار “مشروع التعريب”. مما أدى إلى ثورة الأكراد التي لم يتمكن صدام من إخمادها إلا بمساعدة الولايات المتحدة وبفضل 150الف جندي تركي أرسلهم الناتو ومصر والسودان واليمن أيضا.

في نفس الوقت، دفع خوف لأنظمة الديكتاتورية في الكويت والسعودية، من إمكانية عبور الأصولية الإسلامية حدود إيران والتأثير على سكانهم الفقراء، إلى قيامهم بتقديم قرض للعراق، يقدر بـ60 مليار دولار. كما قام الاتحاد السوفياتي بدوره بالرفع من قيمة دعمه له.

لكن وعلى الرغم من كل هذا، فقد النظام سيطرته على كردستان لمدة خمس سنوات. ودون دعم خارجي لم يكن صدام ليستمر في السلطة. لكنه لم يسقط وقرر توجيه الانتباه عن المشاكل الداخلية عبر اجتياح إيران. وبعمله هذا تلقى الدعم السخي من طرف القوى الإمبريالية.

في إيران كانت ثورة 1979 قد أسقطت نظام الشاه الملكي الموالي للإمبريالية. لكن ومع الأسف، ونظرا لغياب قيادة ثورية وبسب سياسة حزب توده Tudeh (الحزب الشيوعي الإيراني) تم تحويل مسار الثورة، لتسقط السلطة السياسية في يد الملالي الأصوليين. بعد الثورة عملت البرجوازية المحلية والمؤسسة الدينية على تدمير المنظمات العمالية، بدءً من توده، كل هذا تم بتواطؤ صامت من موسكو.

لكن الإمبريالية كانت تريد السير أبعد في طريق مسح أي أاثر للثورة من ذاكرة الإيرانيين. إذ على الرغم من أن النظام الأصولي السائد في إيران، كان قد قدم خدمة للإمبريالية الغربية بسحقه لمنظمات الحركة العمالية الإيرانية، فإن القوى الرأسمالية الرئيسية لم تول ثقتها لهذا النظام الذي لم تكن مصالحها متوافقة مع مصالحه. لقد كان هذا النظام الأصولي يخيفهم، وهذا ما يفسر لماذا عملوا على دعم صدام منذ بداية الحرب. لقد استمرت هذه الحرب تسع سنوات، دون أن يكون هنالك منتصر وخلفت عراقا ينوء تحت وطأة دين خارجي يساوي 80 مليار دولار ومليون قتيل.

إن مرحلة السلام التي تلت، فضحت هول التكلفة الاقتصادية لهذه الحرب، ووجد صدام نفسه في مواجهة انهيار سعر البترول. لقد كان العراق يخسر 10 ملايين دولار يوميا. والتضخم يتسارع بوتيرة مرتفعة. والفقر صار معمما. وبدأت المؤامرات والصراعات تتزايد. ليقوم صدام حسين مرة أخرى بالبحث عن عامل خارجي يوجه نحوه الأنظار عن المشاكل الداخلية. هذا هو السبب الذي جعل قوات صدام تجتاح الكويت سنة 1990. لكن ضعف ثم انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقي، وفر الظروف الملائمة لانطلاق هجوم إمبريالي على الصعيد العالمي، شكل الاستيلاء على بترول العراق أحد أهدافه.

الوضع الحالي

بساكنة يتمركز 70% منها في المدن وبطبقة عاملة تمتلك تقاليد ثورية تعود إلى سنوات العشرينات، يبقى العراق هو المكان حيث يوجد اكبر جزء من القوى الضرورية لقيادة النضال ضد الإمبريالية ومن اجل اشتراكية في الشرق الأوسط. لكن (ح ش ع) لم يستعد قوته بعد من القمع الذي طاله سنة 1979 ومنذ عشر سنوات تمركزت هياكله المنظمة بشكل شبه كلي في المناطق الكردية المستقلة في الشمال.

لم يكن هنالك نقاش حقيقي داخل الحزب حول أخطاء الماضي. إنه يعارض الحرب الأمريكية على العراق كما يعارض نضام صدام حسين لكن هذا مع الأسف لا يعني انه يقف موقفا طبقيا. فقادته يطالبون بتمكين الأمم المتحدة من لعب دور أكثر أهمية. وكما يمكننا أن نقرأ في أحد بيانات الحزب الأخيرة: «حتى نتمكن من أقامت حكومة ائتلافية ديموقراطية انتقالية، يجب أولا أن ينتهي احتلال بلادنا. ويجب أن تصير السلطة في يد إدارة مؤقتة للأمم المتحدة [. . . ] التي ستكون مهمتها الأولى والرئيسية، تنظيم مؤتمر وطني يتمثل فيه ممثلو مختلف قوى الشعب العراقي، وأحزابه السياسية وكذلك باقي العناصر المكونة الأخرى، ورئاسة هذا المؤتمر، الذي سيكون الهدف منه إيجاد اتفاق يمكن من تشكيل الحكومة الائتلافية وتوجيهها.» (www.iraqcp.org، 20/04/2003).

على الرغم من ضعف مواقف قادة (ح ش ع)، فإن الحاجة إلى حزب عمالي في العراق، هي الآن أكثر ملحاحية من أي وقت مضى. إن صحيفة الحزب، طريق الشعب، كانت أول صحيفة جديدة تظهر في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين.

لقد أصيبت الطبقة العاملة العراقية في الصميم بفعل الحصار والقصف الإمبريالي، لكنها سوف تنهض من جديد. لا شك في هذا. فلديها تاريخ مجيد وسوف تستعيد تقاليدها. بينما الستالينية اليوم هي أكثر ضعفا من الماضي كما أن فكرة وجود برجوازية وطنية “تقدمية” قد تعرضت غير ما مرة لامتحان اثبت خطأها. أما حزب البعث فقد تفكك بشكل كبير ولا يمكنه أن يلعب الدور الذي كان له في الماضي. لكن مع الأسف، وبسبب ضعف حركة العمال العراقية (لا سواء سياسيا أو نقابيا) سقطت قيادة الحركة المعادية للإمبريالية اليوم في يد الأئمة، على الأقل عند الشيعة. لكن هذا لن يستمر طويلا. فالطبقة العاملة والشبيبة العراقية سيتعلمون من خلال تجربتهم (كما نرى ذلك في إيران) فالأصولية الإسلامية لا تقدم أي حل.

وهكذا، يمكن خلال السنوات المقبلة، للـ (ح ش ع) أن يلعب دورا مهما في تنظيم الشبيبة والعمال العراقيين. آنذاك لا يجب على الحركة أن تتوه عن المهام المطروحة عليها: أي مهام التحويل الاشتراكي للبلد ولمجمل الشرق الأوسط.

فيليكس زوربا وروبيرتو سارتي
29 أبريل 2003

إشارة: لقد كان كتاب ياريو سالوشي (Llario Sallucci) العمال والفلاحون في العراق: طريق الحركة الشيوعية (Operai e contadini in Iraq: il percorso del movimento comunista)، مصدرا مهما للمعلومات في صياغة هذا المقال.

مترجم عن النص الإنجليزي:

Uprisings and betrayals: a brief history of the left in Iraq

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *